دلائل
النبوة للبيهقي محققا فصل في قبول الأخبار
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ:
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ:
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ:
[] د وضع اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم، من دينه وفرضه وكتابه
الموضع الذي أبان جلّ ثناؤه [] جعله علما لدينه، بما افترض من طاعته وحرّم
من معصيته، وأبان من فضيلته بما قرن بين [ (49) ] الإيمان برسوله مع
الإيمان به، فقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (50) ] وقال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (51) ]
فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله.
قال الشافعي: «أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ
«مُجَاهِدٍ» فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [ (52)
] قَالَ: «لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ: أَشْهَدُ أَنْ
__________
[ (49) ] كذا في الأصل (ح) والعبارة في الرسالة للشافعي، صفحة (73) : «بما
قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به» .
[ (50) ] الآية الكريمة (158) من سورة الأعراف.
[ (51) ] الآية الكريمة (63) من سورة النور.
[ (52) ] الآية الكريمة (4) من سورة الشرح.
(1/20)
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» [ (53) ] .
قال الشافعي: وفرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله فقال في كتابه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ [ (54) ] مع آي سواها ذكر فيهنّ الكتاب والحكمة [ (55) ] .
قال الشافعي: فذكر الله الكتاب وهو: القرآن، وذكر الحكمة: فسمعت من أرضى من
أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ [ (56) ] .
وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [
(57) ] فقال بعض أهل العلم:
أولوا الأمر: أمراء سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني اختلفتم في شيء.
يعني- والله أعلم- هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ يعني- والله أعلم- إلى ما قاله الله والرسول.
ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم طاعته، فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ (58) ] .
__________
[ (53) ] الأثر في «الرسالة» للشافعي ص (16) ، ورواه الطبري في التفسير
(30: 150- 151)
[ (54) ] الآية الكريمة (164) من سورة آل عمران.
[ (55) ] مقتطفات من كتاب «الرسالة» للشافعي ص (76- 78) .
[ (56) ] الرسالة، صفحة (78) .
[ (57) ] الآية الكريمة (59) من سورة النساء.
[ (58) ] الآية الكريمة (65) من سورة النساء، والأثر ذكره الشافعي في
«الرسالة» صفحة (82) ، وقال:
«نزلت هذه الآية فيما بلغنا- والله أعلم- في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضى
النبي بها للزّبير» والحديث مطول معروف في كتب السنة.
(1/21)
واحتجّ أيضا في فرض اتّباع أمره بقوله
عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [ (59) ] .
وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[ (60) ] وغيرها من الآيات التي دلّت على اتباع أمره، ولزوم طاعته.
قال الشافعيّ: وكان فرضه- جل ثناؤه- على من عاين رسول الله صلى الله عليه
وسلّم، ومن بعده إلى يوم القيامة- واحدا، من أنّ على كلّ طاعته ولم يكن أحد
غاب عن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلم أَمَرَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا بالخبر عنه.
والخبر عنه خبران:
خبر عامة، عن عامة، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم بجمل ما فرض
الله سبحانه على العباد أن يأتوا به بألسنتهم وأفعالهم، ويؤتوه من أنفسهم
وأموالهم. وهذا ما لا يسع جهله وما يكاد أهل العلم والعوام أن يستووا فيه،
لأن كلا كلّفه، كعدد الصلاة وصوم شهر رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش، وأن
لله عليهم حقّا في أموالهم. وما كان في معنى هذا.
وخبر خاصة في خاص الأحكام لم يأت أكثره كما جاء الأول لم يكلّفه العامة،
وكلّف علم ذلك من فيه الكفاية للقيام به دون العامة. وهذا مثل ما يكون منهم
في الصلاة من سهو يجب به سجود أو لا يجب، وما يفسد الحج أو لا يفسده، وما
تجب به الفدية وما لا تجب مما يفعله وغير ذلك. وهو الذي على العلماء فيه
عندنا قبول خبر الصادق على صدقه، لا يسعهم ردّه بفرض الله طاعة نبيّه.
__________
[ (59) ] الآية الكريمة (63) من سورة النور، والأثر ذكره الشافعي في
«الرسالة» صفحة (83- 84) .
[ (60) ] الآية الكريمة (7) من سورة الحشر.
(1/22)
قال الشيخ الإمام، رحمه الله، ونوّر قبره:
ولولا ثبوت الحجة بالخبر- لما
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خطبة- بعد تعليم
من شهد أمر دينهم-: أَلَا فَلْيبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغائب، فربّ
مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ [ (61) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ محمد،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قال: أخبرنا- هُرَيْمُ بْنُ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم: «نضّر الله امرأ سمع منا
حديثا فأدّاه كما سمعه، وربّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» [ (62) ] .
قال الشافعي: فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى استماع مقالته
وأدائها امرءا يؤدّيها- والإمرء [ (63) ] واحد- دلّ على أنه لا يأمر أن
يؤدّى عنه إلّا ما تقوم الحجة به
__________
[ (61) ] الحديث أخرجه البخاري في: 3- كتاب العلم (9) بَابُ قَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامع،
فتح الباري (1: 157- 158) ، ومسلّم في: 28- كتاب القسامة، (9) باب تحريم
الدماء والأعراض والأموال، حديث (29) ، صفحة (1305- 1306) ، والإمام أحمد
في «مسنده» (5: 4) ، وابن ماجة في المقدمة حديث رقم (233) ، صفحة (1: 85) .
[ (62) ] أخرجه الترمذي في كتاب العلم، ح (2657) ، صفحة (5: 34) ، من طريق
شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة (18) باب
من بلغ علما، ح (232) ، ص (1: 85) ، من طريق شعبة، عن سماك وأخرجه الدارمي
في المقدمة من طريق إسرائيل، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زبيد اليامي،
عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أبي الدرداء (1: 66) ، وأخرجه الإمام أحمد في
«مسنده» (1:
427) ، وابن حبان في «صحيحه» . حديث رقم (66) ، ص (1: 163) من تحقيقنا،
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان
العلم (1: 40) ، ورواه أبو داود في كتاب العلم باختلاف يسير، من طريق شعبة،
ح (3660) ، صفحة (3: 323) .
[ (63) ] يعني: فلما أمر عبدا أن يؤدي ما سمع، والخطاب للفرد، وهو الواحد.
(1/23)
على من أدّى إليه [ (64) ] .
وأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، فِي آخَرِينَ، قَالُوا:
أَخْبَرَنَا أبو العباس، حدثنا الربيع، حدثنا الشافعي، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قال: أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله
بن أبي رافع يخبر عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ
مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا
أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، يقول: لا أدري، مَا وَجَدْنَا فِي
كِتَابِ الله اتبعناه» [ (65) ] .
قال سفيان: وأخبرني ابن المنكدر مرسلا، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عليه
وسلّم.
قال الشيخ: وروينا في حديث المقدام بن معد يكرب: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلّم، حرّم أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي [ (66) ] وغيره
[ (67) ] . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: يوشك أن
يقعد الرجل منكم على أريكته يحدّث بحديثي فيقول: بيني
__________
[ (64) ] العبارة في «الرسالة» صفحة (402- 403) وتتمتها: «لأنه إنما يؤدي
عنه حلال وحرام يجتنب، وحدّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا،
ودلّ على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حافظا، ولا يكون فيه فقيها»
.
[ (65) ] الأثر في «الرسالة» للشافعي صفحة (403- 404) ، وأخرجه أبو داود في
كتاب السنة، (باب) في لزوم السنة، ح (4605) ، ص (4: 200) عن الإمام
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الفضيلي كليما عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، حديث (13) ، صفحة
(1: 94) من تحقيقنا، وابن ماجة في المقدمة ح (13) ، صفحة (1: 6) ، والترمذي
في كتاب العلم (5: 37) ، والإمام أحمد في «مسنده» (6: 8) مختصرا، والحاكم
في «المستدرك» (1: 108- 109) .
[ (66) ] في الأصل (ح) : «حمار الأهلي» .
[ (67) ] الحديث أخرجه أبو داود في الأطعمة، من حديث المقدام بن بلفظ: «ألا
لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد..»
(1/24)
وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا
استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرّمناه، وإن ما حرّم رسول الله صلى الله
عليه وسلّم كما حرّم الله عزّ وجلّ» [ (68) ] .
وهذا خبر مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يكون
بعده من ردّ المبتدعة حديثه فوجد تصديقه فيما بعده:
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ حَدَّثَنَا محمد بن عالية
الأنصاري، قال: حدثني صرد بن أبي المنازل، قال: سمعت شبيب بن أبي فضالة
المالكي، قال:
لما بني هذا المسجد- مسجد الجامع- إذا «عمران بن حصين» جالس، فذكروا عند
عمران الشفاعة، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يا أبا النّجيد، إنكم
لتحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلا في القرآن؟ قال: فغضب عمران وقال لرجل:
قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت صلاة العشاء أربعا، ووجدت المغرب
ثلاثا، والغداة ركعتين، والظهر أربعا، والعصر أربعا؟! قال: لا، قال: فعمّن
أخذتم هذا الشأن؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذنا عن نبي الله، صلى الله عليه
وسلّم، ووجدتم في كل أربعين درهما درهما، وفي كل كذا شاة، وفي كل كذا بعيرا
كذا؟ أوجدتم في القرآن هذا؟ قال: لا. قال: فعمّن أخذتم هذا؟ أخذناه عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم وأخذتموه عنا.
وقال: وجدتم في القرآن: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ (69) ]
أوجدتم:
فطوفوا سبعا، واركعوا ركعتين من خلف المقام؟ أوجدتم هذا في القرآن؟
فعمّن أخذتموه؟ ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله
عليه وسلّم، وأخذتموه عنا؟ قالوا: بلى.
__________
[ (68) ] الحديث مضى بالهامش (65) .
[ (69) ] الآية الكريمة (29) من سورة الحج.
(1/25)
قال: أوجدتم في القرآن لَا جَلَبَ وَلَا
جَنَبَ ولا شغار في الإسلام؟
أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا،
قال عمران: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ ولا شغار في الإسلام» [ (70)
] .
قال: سمعتم الله تعالى قال في كتابه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ (71) ] قال عمران: فقد أخذنا عن نبي
الله، صلى الله عليه وسلّم أشياء ليس لكم بها علم.
قال: ثم ذكر الشفاعة، فقال: هل سمعتم الله تعالى يقول لأقوام: ما
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [ (72) ] قال شبيب: فأنا سمعت عمران يقول: الشفاعة
نافعة دون ما تسمعون.
__________
[ (70) ] الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، (باب) في الجلب على الخيل
في السباق، ح (2581) ، ص (3: 30) ، وأخرجه الترمذي في: 9- كتاب النكاح،
(30) بَابُ مَا جَاءَ فِي النهي عن نكاح الشعار، ح (1123) ، ص (3: 422) ،
والنسائي في كتاب النكاح، (باب) في الشعار، وفي كتاب الخيل، والإمام أحمد
في «مسنده» (2: 59، 180، 215) ، (3:
162) ، (4: 429، 439، 443) .
و (الجلب) : بمعنى الجلبة، وهي التّصويت، و (الجنب) : مصدر جنب الفرس، إذا
اتخذه جنيبة، والمعنى فيما في السباق ان يتبع فرسه رجلا يجلب عليه ويزجره،
وأن يجنب إلى فرسه فرسا عريا، فإذا شارف الغاية انتقل إليها، لأنه أودع
فسبق عليه.
وقيل: «الجلب» في الصدقة، أن يجلبوا إلى المصدّق أنعامهم في موضع ينزله،
فنهي عنه إيجابا لتصديقها في أفنيتهم. الفائق (1: 224) .
أما (الشغار) فهو ان يزوج الرجل ابنته، على ان يزوجه الآخر ابنته او أخته،
ولا صداق بينهما، وهو نكاح معروف في الجاهلية.
[ (71) ] الآية الكريمة (7) من سورة الحشر.
[ (72) ] الآيات (42- 48) من سورة المدثر.
(1/26)
قال الشيخ: والحديث الذي روي في عرض الحديث
على القرآن باطل [ (73) ] لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في
القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن.
والحجج في تثبيت الخبر الواحد كثيرة، وهي في كتبي المبسوطة مدونة.
وفيما احتجّ به الشافعي في تثبيته ما انتشر واشتهر من بُعِثَ رَسُولُ
اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلّم عمّاله واحدا واحدا، ورسله واحدا واحدا،
وإنما بعث عماله ليخبروا الناس بما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب الله عليهم، ويعطوهم ما لهم، ويقيموا
عليهم الحدود، وينفذوا فيهم الأحكام.
ولو لم تقم الحجة عليهم بهم- إذ كانوا من كل ناحية وجّهوهم إليها، أهل صدق
عندهم- ما بعثهم إن شاء الله.
وساق الكلام في بعث أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عنه، واليا على الحج، وبعث
علي، رضي الله عنه، بأوّل سورة براءة، وبعث مُعَاذٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
إِلَى اليمن.
وبسط الكلام فيه [ (74) ] ، ثم قال:
__________
[ (73) ] يقصد بذلك الحديث الموضوع:
«ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم
أقله» . أخرجه الدارقطني في الأفراد، والعقيلي في «الضعفاء» ، وقال
الدارقطني: تفرد به أشعث بن براز،
وهو شديد الضعف، والحديث منكر جدا استنكره العقيلي، وقال: «ليس له إسناد
يصح» .
ووردت في هذا المعنى ألفاظ كثيرة كلها موضوع، أو بالغ الغاية في الضعف،
وقال في تذكرة الموضوعات عن الخطابي أنه قال: «وضعته الزنادقة، ونقل
العجلوني في كشف الخفا (1: 86) عن الصغاني انه قال: «هو موضوع» .
[ (74) ] الرسالة للشافعي (401) .
(1/27)
فإن زعم- يعني من ردّ الحديث- أن «من جاءه
معاذ» وأمراء سراياه محجوج بخبرهم، فقد زعم أنّ الحجة تقوم بخبر الواحد.
وإن زعم أن لم تقم عليهم الحجة فقد أعظم القول.
وإن قال: لم يكن هذا أنكر خبر العامة عمن وصفت، وصار إلى طرح خبر الخاصة
والعامة.
(1/28)
فصل فيمن يقبل خبره
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ [ (75) ] ، رَحِمَهُ الله:
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها:
أن يكون من حدّث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدّث
به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ.
وأن يكون ممن يؤدّي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدّث به على المعنى، لأنه
إذا حدّث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه- لم يدر لعلّه يحيل
الحلال إلى الحرام، وإذا أدّاه [ (76) ] بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالته
الحديث.
حافظا إن حدّث [به] [ (77) ] من حفظه، حافظا لكتابه إن حدّث من كتابه، إذا
شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم.
__________
[ (75) ] قاله الشافعي في «الرسالة» ص (370) وما بعدها.
[ (76) ] في الأصل (ح) أدى، وأثبت ما في «الرسالة» ص (371) ، وهو الأجود.
[ (77) ] الزيادة من «الرسالة» ص (371) ، حيث أورد الخبر.
(1/29)
بريّا من أن يكون مدلّسا: يحدّث عمن لقي ما
لم يسمع منه، أو يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مِمَّا يحدّث الثقات خلافه.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدّثه حتى ينتهى بالحديث موصولا إِلَى النَّبِيِّ،
صَلَّى اللهُ عليه وسلّم، أو إلى من انتهي به إليه دونه، لانّ كلّ واحد
منهم مثبت لمن حدّثه، ومثبت على من حدّث عنه.
قال [ (78) ] : ومن كثر غلطه من المحدّثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح- لم
يقبل حديثه. كما يكون من أكثر الغلط في الشهادات لم تقبل شهادته.
قال الشيخ: وأسامى من وجدت فيه هذه الشرائط، ومن قصّر عنهم ومن رمي بالكذب
في الحديث، واتهم بالوضع- مكتوبة في التواريخ، معلومة عند أهل العلم بها.
قال الشافعي: ولا يستدلّ على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه
إلا في الخاصّ القليل من الحديث.
وهذا الذي استثناه الشافعي لا يقف عليه إلا الحذّاق من أهل الحفظ، فقد يزلّ
الصّدوق فيما يكتبه فيدخل له حديث في حديث، فيصير حديث روي بإسناد ضعيف
مركّبا على إسناد صحيح.
وقد يزلّ القلم، ويخطئ السمع ويخون الحفظ، فيروي الشاذ من الحديث عن غير
قصد، فيعرفه أهل الصنعة الذين قيّضهم الله تعالى لحفظ سنن رسول الله صلى
الله عليه وسلّم، على عباده بكثرة سماعه وطول مجالسته أهل العلم به
ومذاكرته إياهم.
__________
[ (78) ] القائل هو الشافعي في «الرسالة» ص (382) .
(1/30)
وهو كَمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي دعلج بن أحمد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الأبّار، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الترمذي، حَدَّثَنَا
«نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ» قال: قلت «لعبد الرحمن بن مهدي» [ (79) ] : كيف
تعرف صحيح الحديث من خطائه؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون.
وأَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ: أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِينِيُّ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن جنيد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ البخاري، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عبد الله [ (80) ] ،
يقول:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى «عَبْدِ الرحمن بن مهدي» فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ،
إنك تقول للشيء هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعمّ تقول ذلك؟.
قال عبد الرحمن: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال. هذا جيد وهذا
ستّوق وهذا بهرج، أكنت تسأل عمّ ذلك؟ أو كنت تسلّم للأمر؟
قال: بل كنت أسلّم الأمر إليه. قال: فهذا كذلك، لطول المجالسة، أو
المناظرة، والخبرة [ (81) ] .
وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ مَنْصُورٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمرو بْنِ الْعَلَاءِ
الْجُرْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا «يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ» ، قال:
لولا الجهابذة لكثرت السّتّوقة والزّيوف في رواية الشريعة، فمتى أحببت
فهلمّ ما سمعت حتى أعزل لك منه نقد بيت المال، أما تحفظ قول شريح: إنّ
للأثر جهابذة كجهابذة الورق.
__________
[ (79) ] عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (135- 198) الحافظ الإمام
العلم، قال عنه الشافعي «لا أعرف له نظيرا في الدنيا» .
[ (80) ] هو الإمام الثبت الحافظ «علي بن عبد الله المديني» شيخ البخاري
(161- 234) ، وانظر ترجمته في كتاب «علل الحديث ومعرفة الرجال» من تحقيقنا.
[ (81) ] معرفة علوم الحديث للحاكم ص (113) .
(1/31)
فصل
ومما يجب معرفته في هذا الباب أن تعلم: أنّ الأخبار الخاصة المروية على
ثلاثة أنواع:
نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون مرويّا من أوجه كثيرة، وطرق شتى حتى دخل في حد الاشتهار،
وبعد من توهّم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه.
فهذا (الضرب من الحديث) يحصل به العلم المكتسب، وذلك مثل الأحاديث التي
رويت في القدر، والرؤية، والحوض، وعذاب القبر، وبعض ما روى في المعجزات،
والفضائل، والأحكام، فقد روي بعض أحاديثها من أوجه كثيرة.
(والضرب الثاني) : أن يكون مرويا من جهة الآحاد، ويكون مستعملا في الدعوات،
والترغيب والترهيب، وفي الأحكام كما يكون شهادة الشاهدين مستعملة في
الأحكام عند الحكّام، وإن كان يجوز عليها وعلى المخبر الخطأ والنسيان،
لورود نصّ الكتاب بقبول شهادة الشاهدين إذا كانا عدلين، وورود السّنة بقبول
خبر الواحد إذا كان عدلا مستجمعا لشرائط القبول فيما يوجب العمل.
(1/32)
وأما في (المعجزات وفي فضائل واحد من
الصحابة) ، وقد رويت فيهما أخبار آحاد في ذكر أسبابها إلا أنها مجتمعة في
إثبات معنى واحد وهو ظهور المعجزات على شخص واحد، وإثبات فضيلة شخص واحد،
فيحصل بمجموعها العلم المكتسب. بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في
المعجزات والآيات التي ظهرت على سيدنا الْمُصْطَفَى، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسلم- دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري فثبت بذلك خروج رجل من
العرب يقال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ادّعى أنه رسول رب
العالمين، وظهرت عليه الآيات وأورد على الناس من المعجزات التي باين بها من
سواه بما آمن عليه من أنعم الله عليه بالهداية، مع ما بقي في أمته من
القرآن المعجز.
وهذا كما أنّ أسباب ما اشتهر بها «حاتم طي» بالسّخاوة إنما علمت بأخبار
الآحاد، غير أنها إذا جمعت أثبتت معنى واحدا هو السّخاوة، فدخلت في حد
التواتر في إثبات سخاوة حاتم. وبالله التوفيق.
وأما النوع الثاني من الأخبار، فهي أحاديث اتفق أهل العلم بالحديث على ضعف
مخرجها.
وهذا النوع على ضربين:
(ضرب) رواه من كان معروفا بوضع الحديث والكذب فيه.
فهذا الضرب لا يكون مستعملا في شيء من أمور الدين إلا على وجه التّليين.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ: الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الرُّوذْبَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ: مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ مَحْمَوَيْهِ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إياس: حَدَّثَنَا
شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ
(1/33)
الرحمن بن أبي يعلى، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: «من روى عنّي حديثا وهو
يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» [ (82) ] .
قال: وحَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عن ميمون بن
أبي شبيب، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم. فذكر مثله.
وضرب لا يكون روايه متهما بالوضع، غير أنه عرف بسوء الحفظ وكثرة الغلط، في
رواياته، أو يكون مجهولا لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب
القبول.
فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملا في الأحكام، كما لا تكون شهادة من
هذه صفته مقبولة عند الحكّام. وقد يستعمل في الدعوات والترغيب والترهيب،
والتفسير والمغازي فيما لا يتعلق به حكم.
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ الحافظ، يقول: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا:
يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ، يَقُولُ: سمعت أبا الْحَسَنِ:
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ يقول: كان أبي
يحكي عَنْ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مهدي» أنه قال:
إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال، تساهلنا في الأسانيد،
وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام، تشدّدنا في
الأسانيد وانتقدنا الرجال.
__________
[ (82) ] الحديث أخرجه الترمذي في كتاب العلم (بَابُ) مَا جَاءَ فِيمَنْ
روى حديثا وهو يرى أنه كذب (5:
36) ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وقال أبو عيسى: «وفي الباب عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب، وسمرة، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة (5) باب من
حدّث عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا وهو يرى
أنه كذب (1: 14) ، عن علي، وعن سمرة، وعن المغيرة، وأخرجه ابن حبان في
«صحيحه» في:
1- كتاب الاعتصام بالسنة/ الحديث (29) عن سمرة، (1: 111) من تحقيقنا.
(1/34)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَحْبُوبِيُّ- بِمَرْوَ- أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ، قَالَ: سمعت
أبا قدامة، يقول: قال (يحي بن سعيد- يعني القطّان) :
تساهلوا في التفسير عن قوم لا يوثّقونهم في الحديث.
ثم ذكر لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ [ (83) ] . وجويبر بن سعيد [ (84) ] ،
والضحّاك [ (85) ] ،
__________
[ (83) ] لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ بن زنيم القرشي: صدوق، اختلط أخيرا،
ولم يتميز حديثه فترك. من السادسة.
ذكره البخاري في تاريخه الكبير ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
وقال ابن عدي: «له أحاديث صالحة، وقد روى عنه شعبة والثوري، ومع الضعف الذي
فيه يكتب حديثه» .
وقال يحيى بن معين: «ليس حديثه بذاك، ضعيف» .
وقال أبو حاتم وأبو زرعة: «مضطرب الحديث» ، وكذا قال الإمام أحمد، وضعفه
العقيلي، وجرحه ابن حبان بعد اختلاطه.
«طبقات ابن سعد» (6: 349) ، «التاريخ الكبير» (4: 1: 246) ، «الجرح
والتعديل» (3: 2: 177) ، المجروحين (2: 231) ، «الميزان» (3: 420) ،
«المغني في الضعفاء» (2: 536) ، «التهذيب» (8: 465) ، «التقريب» (2: 138) .
[ (84) ] جويبر بن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي: قال ابن معين: «ليس
بشيء» وقال الدوري:
«ضعيف» ، وقال علي بن المديني: «أكثر جويبر على الضحاك، روى عنه أشياء
مناكير» وقال النسائي، والدارقطني «متروك» ، وقال ابن عدي: «الضعف على
حديثه ورواياته بين» .
قال يحيى بن سعيد القطان: «تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في
الحديث، ثم ذكر الضحاك، وجويبرا، ومحمد بن السائب الكلبي، وقال: هؤلاء لا
يحمل حديثهم ... » .
له ترجمة في تاريخ ابن معين (2: 89) ، «التاريخ الكبير» (1: 2: 256) ،
الجرح والتعديل (1: 1: 240) ، المجروحين (1: 217) ، الميزان (1: 427) ،
تهذيب التهذيب (2: 123- 124) .
[ (85) ] هو الضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي الخراساني: اتفقت المصادر على
أنه لم يرو عن الصحابة، وقد وثقه العجلي، وابن حبان والدارقطني.
«تاريخ ابن معين» (2: 272) ، «التاريخ الكبير» (2: 2: 333) ، «الجرح
والتعديل» (2: 1: 458) ، «الميزان» (2: 325) . التهذيب (4: 453) .
(1/35)
محمد بن السائب [ (86) ]- يعني الكلبي،
وقال: هؤلاء يحمد حديثهم ويكتب
__________
[ (86) ] هو مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، أحد المفسرين الذين
يرجع تفسيرهم إلى تفسير ابن عباس، وترجع شهرته إلى كونه مؤرخا ونسّابة،
وكان ذا ميول شيعية، أما روايته فكثيرا ما توصف بأنها ضعيفة.
ذكره ابن معين في تاريخه، وقال: ليس بشيء، وذكره العقيلي في «الضعفاء
الكبير» ، وأفاض ابن حبان في جرحه، وقال: «كان سبئيا من أصحاب عبد الله بن
سبأ من أولئك الذين يقولون: إن عليّا لم يمت وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام
الساعة فيملؤها عدلا كما ملئت جورا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين
فيها» .
ونقل ابن حبان قوله: «كان جبريل يملي الوحي على النبي صلّى الله عليه
وسلّم، فلما دخل النبي الخلاء جعل يملي على عليّ!!!!! وكان يقول: حفظت
القرآن في سبعة أيام.
وقال حماد بن سلمة عنه: «كان والله غير ثقة» .
وقال ابن حبان: «الكلبي هذا مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن
يحتاج إلى الإغراق في وصفه.
يروى عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع
منه شيئا ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فجعل لما احتيج
إليه تخرج له الأرض أفلاذ كبدها. لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به
والله جل وعلا ولّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم تفسير كلامه وبيان ما أنزل
إليه لخلقه حيث قال: «وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم» .
ومن أمحل المحال أن يأمر الله جل وعلا النبي المصطفى أن يبيّن لخلقه مراده
حيث جعله موضع الأمانة عن كلامه ويفسر لهم حتى يفهموا مراد الله جل وعلا من
الآي التي أنزلها الله عليه، ثم لا يفعل ذلك رسول رب العالمين وسيد
المرسلين. بل أبان عن مراد الله جل وعلا في الآي وفسّر لأمته ما يهم الحاجة
إليه، وهو سننه صلّى الله عليه وسلّم، فمن تتبّع السنن حفظها وأحكمها فقد
عرف تفسير كلام الله جل وعلا وأغناه الله تعالى عن الكلبي وذويه. وما لم
يبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمته معاني الآي التي أنزلت عليه مع
أمر الله جل وعلا له بذلك وجاز له ذلك كان لمن بعده من أمته أجوز، وترك
التفسير لما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرى. وعن أعظم الدليل
على أن الله جل وعلا لم يرد بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ.
القرآن كله أن النبي عليه الصلاة والسلام ترك من الكتاب متشابها من الآي
وآيات ليس فيها أحكام فلم يبيّن كيفيتها لأمته فلما فعل رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم دل ذلك على أن المراد من قوله «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» كان بعض القرآن لا الكل.
(1/36)
التفسير عنهم.
قال الشيخ: وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم، لأن ما فسروا به ألفاظه
تشهد لهم به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط.
أخبرنا أبو عبد الله الْحَافِظُ، وأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ: سمعت
العباس بن محمد يقول: سمعت «أحمد ابن حنبل» وسئل وهو على باب أبي
النَّضْرِ: هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، فقيل لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ،
ما تقول في «موسى بن عبيدة» وفي «محمد بن إسحاق» ؟
قال: «أما موسى بن عبيدة» [ (87) ] فلم يكن به بأس، ولكنه حدّث أحاديث
مناكير عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم.
وأما «محمد بن إسحاق» [ (88) ] فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث- كأنه
__________
[ () ] ترجمته في تاريخ ابن معين (2: 517) ، «التاريخ الكبير» (1: 1: 101)
، «الجرح والتعديل» (3: 1: 270) ، «المجروحين» (2: 253- 256) ، «ميزان
الاعتدال» (3:
556) ، «تهذيب التهذيب» (9: 178- 181) . الفهرست (95) ، الوافي بالوفيات
(3:
83) ، طبقات المفسرين (2: 144) ، شذرات الذهب (1: 217) .
[ (87) ] موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي، أبو عبد العزيز المدني: قال
البخاري: «وقال أحمد: منكر الحديث جدا» ، وقال ابن معين: «إنما ضعف حديثه
لأنه روى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دينار مناكير» ، وقال مرة: «ليس بشيء» .
وقال أبو زرعة: «ليس بقوي الحديث» وقال أبو حاتم «منكر الحديث» . وضعفه
النسائي، وابن حبان. «التهذيب» (10: 356- 360) .
[ (88) ] هو أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بن إسحق بن يسار (80- 151) ولد
بالمدينة وانتقل إلى الاسكندرية حيث حضر دروس يزيد بن أبي حبيب في علم
الحديث، وعاد بعد سنوات إلى مسقط رأسه حيث التقى بالمحدث سفيان بن عيينة،
ثم هاجر إلى بغداد.
صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر.
(1/37)
يعني المغازي ونحوها- فأما إذا جاءك الحلال
والحرام أردنا قوما هكذا، وقبض أبو الفضل- يعني العباس- أصابع يده الأربع
من كل يد ولم يضم الإبهام.
وأما النوع الثالث، من الأحاديث فهو حديث قد اختلف أهل العلم بالحديث في
ثبوته: فمنهم من يضعفه بجرح ظهر له من بعض رواته خفى ذلك عن غيره، أو لم
يقف من حاله على ما يوجب قبول خبره، وقد وقف عليه غيره، أو المعنى الذي
يجرحه به لا يراه غيره جرحا، أو وقف على انقطاعه أو انقطاع بعض ألفاظه، أو
إدراج بعض رواته قول رواته في متنه. أو دخول إسناد حديث في حديث خفى ذلك
على غيره.
فهذا الذي يجب على أهل العلم بالحديث بعدهم أن ينظروا في اختلافهم،
ويجتهدوا في معرفة [ (89) ] معانيهم في القبول والردّ، ثم يختاروا من
أقاويلهم أصحّها. وبالله التوفيق.
__________
[ () ] ترجمته في «طبقات ابن سعد» (7: 321) ، طبقات خليفة (271) ، «التاريخ
الكبير» (1: 1: 40) ، «تاريخ بغداد» (1: 214) ، «الجرح والتعديل» (4: 2:
191) ، «ميزان الاعتدال» (3: 468) ، «طبقات الحفاظ» (75- 76) ، «تهذيب
التهذيب» (9:
38- 40) .
[ (89) ] في الأصل (ح) : معروفة.
(1/38)
|