دلائل
النبوة للبيهقي محققا بَابُ مَا جَاءَ فِي شَفَقَةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ، وَتَوْصِيَتِهِ أَبَا طَالِبٍ بِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ لِمَا
كَانَ يَرَى مِنْ آيَاتِهِ، وَيَسْمَعُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَغَيْرِهِمْ
فِيمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ نَظِيفٍ
الْفَرَّاءُ الْمِصْرِيُّ، بِمَكَّةَ- حَرَسَهَا اللهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ: مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَرُوفِ بْنِ
كَامِلٍ الْمَدِينِيُّ، إِمْلَاءً، بِمِصْرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبَانُ
بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ (ح) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ نَظِيفٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ: أَحْمَدُ بْنُ محمود ابن أَحْمَدَ الشَّمْعِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ، إِمْلَاءً بِمِصْرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: أحمد [ (1) ] ابن يُونُسَ بْنِ مُوسَى السَّامِيُّ
الْبَصْرِيُّ، إِمْلَاءً مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
عَوْنٍ- وَاللَّفْظُ لَهُ- وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هند، عَنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- هُوَ الْهَاشِمِيُّ- عَنْ كِنْدِيرِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَيْتُ
رَجُلًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدَا ... يَا رَبِّ رُدَّهْ
وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ
هَاشِمٍ، بَعَثَ بِابْنٍ لَهُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ وَلَمْ يَبْعَثْهُ
فِي حَاجَةٍ قَطُّ إِلَّا نَجَحَ فِيهَا، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ. قَالَ:
فلم
__________
[ (1) ] في (ص) و (م) : «محمد» .
(2/20)
يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ، صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَالْإِبِلُ فَاعْتَنَقَهُ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ جَزِعْتُ عَلَيْكَ جَزَعًا
لَمْ أَجْزَعْهُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ، وَاللهِ لَا بَعَثْتُكَ فِي حَاجَةٍ
أَبَدًا، وَلَا تُفَارِقْنِي بَعْدَ [ (2) ] هَذَا أَبَدًا [ (3) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ: قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
صَالِحٍ: خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَرَابِيسِيُّ، بِبُخَارَى، إِمْلَاءً،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
الْمُفَسِّرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عِيسَى الفنجار، قَالَ:
حَدَّثَنَا خَارِجَةُ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، قَالَ: خَرَجَ حَيْدَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مُعْتَمِرًا، فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ عَلَيْهِ
مُمَصَّرَتَانِ، وَهُوَ يَطُوفُ بالبيت وهو يقول:
رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدَا ... رُدَّهْ عَلَيَّ واصْطَنِعْ
عِنْدِي يَدَا
قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَابْنُ سَيِّدِهَا، هَذَا
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قُلْتُ: فَمَا
مُحَمَّدٌ هَذَا مِنْهُ؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ ابْنٍ لَهُ، وَهُوَ أَحَبُّ
النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَهُ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا ضَلَّ مِنْهَا بَعَثَ
فِيهَا بَنِيهِ يَطْلُبُونَهَا، وَإِذَا [ (4) ] أَعْيَا بَنُوهُ بَعَثَ
ابْنَ ابْنِهِ، وَقَدْ بَعَثَهُ فِي ضَالَّةٍ أَعْيَا عَنْهَا بَنُوهُ،
وَقَدِ احتبس عنه.
فو الله مَا بَرِحْتُ الْبَلَدَ [ (5) ] حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ وَجَاءَ
بِالْإِبِلِ.
وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عن
__________
[ (2) ] في (ص) و (م) : «بعدها» .
[ (3) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك (2: 603- 604) ، وقال: «هذا حديث صحيح
على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي، والخبر في طبقات ابن سعد (1:
111) ، كما ذكره ابو حاتم الرازي (3: 2: 173) .
[ (4) ] في (م) : «فإذا» .
[ (5) ] ليست في (ح) .
(2/21)
محمد بن إسحاق بن يَسَارٍ، قَالَ:
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، مَعَ جَدِّهِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ:
كَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، جَدِّ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ، فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ لَا يَجْلِسُ
عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالًا لَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ،
صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، يَأْتِي حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ،
فَيَذْهَبَ أَعْمَامُهُ يُؤَخِّرُونَهُ، فَيَقُولُ جَدُّهُ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ: دَعُوا ابْنِي.
فَيَمْسَحُ عَلَى ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: إِنَّ لِبُنَيَّ هَذَا لَشَأْنًا.
فَتُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَرَسُولُ اللهِ [ (6) ] ، صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ، ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِ
سِنِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِيمَا يَزْعُمُونَ
يُوصِي أَبَا طَالِبٍ بِرَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ،
وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ وَأَبَا طَالِبٍ لِأُمٍّ. فَقَالَ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فِيمَا يُوصِيهِ بِهِ، وَاسْمُ أَبِي
طَالِبٍ عَبْدُ مناف:
أُوصِيكَ يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي ... بِمُوحَدٍ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ
فَارَقَهُ وَهُوَ ضَجِيعُ الْمَهْدِ ... فَكُنْتُ كَالْأُمِّ لَهُ فِي
الْوَجْدِ
وَذَكَرَ أَبْيَاتًا أُخَرَ، وَقَالَ فِيهِنَّ:
بَلْ أَحْمَدُ رَجَوْتُهُ [ (7) ] لِلرُّشْدِ ... قَدْ عَلِمَتْ عَلَّامُ
أَهْلُ الْعَهْدِ
أَنَّ الْفَتَى سَيِّدُ أَهْلِ نَجْدِ ... يَعْلُو عَلَى ذِي الْبَدَنِ
الْأَشَدِّ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَوْصَيْتُ مَنْ كَنَّيْتُهُ بِطَالِبِ ... عَبْدَ مَنَافٍ وَهْوَ ذُو
تَجَارِبِ
بِابْنِ الَّذِي قَدْ غَابَ غَيْرَ آئب
__________
[ (6) ] في (م) : «والنبي» .
[ (7) ] في (م) و (ص) و (ح) : «وجدته» .
(2/22)
وَذَكَرَ أَبْيَاتًا أُخَرَ، وَقَالَ
فِيهِنَّ:
فَلَسْتُ بِالْآيِسِ غَيْرِ الرَّاغِبِ ... بِأَنْ يُحِقَّ اللهُ قَوْلَ
الرَّاهِبِ [ (8) ]
فِيهِ وَأَنْ يَفْضُلُ آلَ غَالِبِ ... إِنِّي سَمِعْتُ أَعْجَبَ
الْعَجَائِبِ
مِنْ كُلِّ حَبْرٍ عَالِمٍ وَكَاتِبِ ... هَذَا الَّذِي يُقْتَادُ
كَالْجَنَائِبِ
مَنْ حَلَّ بِالْأَبْطَحِ وَالْأَخَاشِبِ ... أيضا ومن تاب إِلَى
الْمَثَاوِبِ
مِنْ سَاكِنٍ لِلْحَرْمِ أَوْ مُجَانِبِ
__________
[ (8) ] في (ح) : «الرايب» .
(2/23)
بَابُ مَا جَاءَ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ
صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، مَعَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ أَرَادَ
الْخُرُوجَ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَرُؤْيَةِ بَحِيرَى [ (1) ]
الرَّاهِبِ مِنْ صِفَتِهِ وَآيَاتِهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ
هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ فِي كُتُبِهِمْ، [صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ] [ (2) ]
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ: طَلْحَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الصَّقْرِ
الْبَغْدَادِيُّ، بِهَا، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ: أَحْمَدُ
بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى الْآدَمِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ. ح. وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الله الحافظ، وأبو
بكر: أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي
عَمْرٍو، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا قُرَادٌ، أَبُو نُوحٍ، [قَالَ] [ (3) ] : أَخْبَرَنَا يُونُسُ
بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي
مُوسَى، قَالَ:
خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ،
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاخٍ، مِنْ قُرَيْشٍ.
فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ.
وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا
يَلْتَفِتُ. قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ
يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ، وَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، [هَذَا يَبْعَثُهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] [
(4) ] . فَقَالَ لَهُ
__________
[ (1) ] في (م) : «بحيرا» ، وفي (ص) : «بحيرا» .
[ (2) ] لم ترد في (م) و (ص) .
[ (3) ] ليست في (م) .
[ (4) ] في (ص) و (م) : «هذا ابتعثه الله- عز وجل- رحمة «للعالمين» .
(2/24)
أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَمُرَّ
بِشَجَرَةٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدَانِ [ (5) ]
إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ، خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فِي أَسْفَلَ
مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلُ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ
[لَهُمْ] [ (6) ] طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي
رِعْيَةِ الْإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ
غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيْهِ، عَلَيْهِ غَمَامَةٌ
تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى
فَيْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا
يَذْهَبُوا [ (7) ] بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ
عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَقَتَلُوهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِتِسْعَةٍ-
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصَمِّ بِسَبْعَةِ- نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ
الرُّومِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا
إِلَى هَذَا النَّبِيِّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ
طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَإِنَّا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ
فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا. فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ خَلَّفْتُمْ
خَلْفَكُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟
قَالُوا: لَا. إِنَّا أُخْبِرْنَا خَبَرَ طَرِيقِكَ هَذَا: قَالَ:
أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَقْضِيَهُ
هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:
فَتَابَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟
فَقَالُوا [ (8) ] : أَبُو طَالِبٍ. فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى
رَدَّهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِلَالًا،
وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ والزيت [ (9) ] .
__________
[ (5) ] في (هـ) : «يسجدان» ، وفي (ص) و (م) : «يسجدن» .
[ (6) ] في (هـ) و (ح) : «فصنع له» .
[ (7) ] في (م) : «ألا يذهبوا» .
[ (8) ] في (م) : «قالوا» .
[ (9) ] أخرجه الترمذي في «جامعه» ، في: 50- كتاب المناقب (3) بَابُ مَا
جَاءَ فِي بدء نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم، الحديث
(3620) ، صفحة (5: 590- 591) ، وقال ابو عيسى: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه
إلا من هذا الوجه» .
(2/25)
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سَمِعْتُ
الْعَبَّاسَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَخْلُوقٌ يُحَدِّثُ بِهِ
غَيْرَ قُرَادٍ [ (10) ] . وَسَمِعَ هَذَا أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
مِنْ قُرَادٍ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا مَوْصُولًا. فَأَمَّا
الْقِصَّةُ فَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي مَشْهُورَةٌ [ (11) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
__________
[ () ] وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2: 615- 617) ، وقال: «هذا حديث صحيح
على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، وقال الذهبي «أظنه موضوعا، فبعضه باطل» .
ونقله ابن كثير في «البداية والنهاية» (2: 285- 286) ، عن المصنف، وعن
الحاكم، والترمذي، وابن عساكر، وعقب عليه بقوله: «فيه من الغرائب: انه من
مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الاشعري إنما قدم في سنة خيبر- سَنَةِ سَبْعٍ
مِنَ الْهِجْرَةِ- ولا يلتفت الى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة
إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل، فإن هذه القصة
كانت، وَلِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم، من العمر ثنتا عشرة
سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيكون أبلغ،
أو من بعض كبار الصحابة، أو كان مشهورا مذكورا أخذ من طريق الاستفاضة،
وفيه: ان الضمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا» . أ. هـ.
[ (10) ] هو: عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي، ابو نوح المعروف بقراد: روى
عنه: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، واخرج له البخاري، والاربعة
سوى ابن ماجة، ووثقه: علي بن المديني، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة، وابن
سعد، وابن حبان، وقال: «كان يخطئ» ، وروى له الدارقطني في غرائب مالك،
وقال: اخطأ فيه قراد، وقال الخليلي: «قراد: قديم، روى عنه الأئمة، ينفرد
بحديث عن الليث لا يتابع عليه» ، وقال الدارقطني «ثقة، وله افراد» ، تهذيب
التهذيب (6: 247- 249) .
[ (11) ] خبر بحيرا في سيرة ابن هشام (1: 203) . ودلائل النبوة لأبي نعيم
(125) ، والوفا (1: 131) .
والاكتفا (1: 191) ، وشرح المواهب (1: 190) ، والخصائص الكبرى (1: 85) .
(2/26)
وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي
[يَلِي] [ (12) ] أَمْرَ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ،
بَعْدَ جَدِّهِ، كَانَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ
خَرَجَ فِي رَكْبٍ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَهَيَّأَ
لِلرَّحِيلِ وَأَجْمَعَ السَّيْرَ ضَبَّ بِهِ [ (13) ] رَسُولُ اللهِ،
صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ، وَقَالَ:
يَا عَمِّ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ لَا أَبَ لِي وَلَا أُمَّ لِي؟! فَرَقَّ
لَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: وَاللهِ لَأَخْرُجَنَّ بِهِ مَعِي، وَلَا
يُفَارِقُنِي وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا،
أَوْ كَمَا قَالَ:
قَالَ: فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى مِنْ
أَرْضِ الشَّامِ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ: بَحِيرَاءُ فِي صَوْمَعَةٍ
لَهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ
الصَّوْمَعَةِ قَطُّ رَاهِبٌ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهِ،
فِيمَا يَزْعُمُونَ، يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَلَمَّا
نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَاءَ، وَكَانُوا كَثِيرًا مِمَّا
يَمُرُّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ،
حَتَّى إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ، نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ
صَوْمَعَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ فِيمَا
يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ فِي الرَّكْبِ
حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٌ بَيْضَاءُ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ أَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ،
فَنَظَرَ إِلَى الْغَمَامَةِ حَتَّى أَظَلَّتِ الشَّجَرَةَ وشَمَّرَتْ [
(14) ] أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ، حَتَّى اسْتَظَلَّ تَحْتَهَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ
بَحِيرَاءُ، نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطَّعَامِ
فَصُنِعَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ صَنَعْتُ لَكُمْ
طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرُوا
كُلُّكُمْ، صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ، وَحُرُّكُمْ وعَبْدُكُمْ. فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ [ (15) ] يَا بَحِيرَاءُ، إِنَّ لَكَ الْيَوْمَ
لَشَأْنًا مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا فِيمَا مَضَى وَقَدْ كُنَّا نَمُرُّ
بِكَ كَثِيرًا فَمَا شَأْنُكَ الْيَوْمَ؟ [ (16) ] فَقَالَ لَهُ
بَحِيرَاءُ.
__________
[ (12) ] «يلي» سقطت من (م) ، وفي (ح) : «ولي» .
[ (13) ] ضب به: تعلق وتشبث، ورويت: صبّ به: أي مال اليه ورقّ عليه، ويروى:
وضبث به: أي امسك.
[ (14) ] في (هـ) : «تهصّرت» .
[ (15) ] في (ح) : «فقال له الرجل منهم» .
[ (16) ] كذا في (م) ، وفي (هـ) : «فما شأنك؟» .
(2/27)
صَدَقْتَ، قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ،
وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ
لَكُمْ طَعَامًا تَأْكُلُونَ مِنْهُ كُلُّكُمْ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ
وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ [مِنْ] [ (17)
] بَيْنِ الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ. فَلَمَّا نَظَرَ بَحِيرَاءُ فِي الْقَوْمِ وَلَمْ يَرَ
الصِّفَةَ الَّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا مَعَاشِرَ
قُرَيْشٍ [ (18) ] ، لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي هَذَا.
فَقَالُوا لَهُ [ (19) ] : يَا بَحِيرَى [ (20) ] ، مَا تَخَلَّفَ عَنْكَ
أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إِلَّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُ
الْقَوْمِ سِنًّا، تَخَلَّفَ فِي رِحَالِهِمْ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا،
ادْعُوهُ فَلْيَحْضُرَ هَذَا الطَّعَامَ مَعَكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ:
وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، إِنْ هَذَا لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلَّفَ ابْنُ
عَبْدِ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الطَّعَامِ مِنْ بَيْنِنَا.
قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى
أَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ.
فَلَمَّا رَآهُ بَحِيرَاءُ جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ
إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ فِي
صِفَتِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنَ الطَّعَامِ وَتَفَرَّقُوا،
قَامَ بَحِيرَاءُ فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ، أَسْأَلُكُ بِاللَّاتِ
وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ. وَإِنَّمَا
قَالَ لَهُ بَحِيرَاءُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ
بِهِمَا. وزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: لَا تَسَلْنِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى شَيْئًا، فو
الله مَا أَبْغَضْتُ بُغْضَهُمَا شَيْئًا قَطُّ. فَقَالَ لَهُ بَحِيرَاءُ:
فبالله إلا ما أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: سَلْنِي
عَمَّا بَدَا لكَ. فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حاله في
نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ، يُخْبِرُهُ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ
بَحِيرَاءَ مِنْ صِفَتِهِ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ
النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ، مِنْ صِفَتِهِ الَّتِي
عِنْدَهُ.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ أَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طالب، فَقَالَ
لَهُ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: ابْنِي. فَقَالَ لَهُ
بَحِيرَاءُ: مَا هُوَ بِابْنِكَ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ
يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا. قَالَ. فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي. قال: فما
__________
[ (17) ] الزيادة من (هـ) .
[ (18) ] في (م) و (ص) : «يا معاشر» .
[ (19) ] في (م) و (ص) : «قالوا له» .
[ (20) ] في (م) رسمت: «بحيرا» .
(2/28)
فَعَلَ أَبُوهُ؟ قَالَ: مَاتَ، وَأُمُّهُ
حُبْلَى بِهِ. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إِلَى
بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عليه اليهود، فو الله لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا
مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ
أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إِلَى بِلَادِهِ. فَخَرَجَ بِهِ
عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ
مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ. فَزَعَمُوا فِيمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ:
أَنَّ زُبَيْرًا وَثَمَّامًا وَدَرِيسًا [ (21) ] ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ، قَدْ كَانُوا رَأَوْا مِنْ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ، فِي ذَلِكَ السَّفَرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ
عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَشْيَاءَ، فَأَرَادُوهُ فَرَدَّهُمْ عَنْهُ
بَحِيرَاءُ، وَذَكَّرَهُمُ اللهَ، وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ
ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَجْمَعُوا بِمَا أَرَادُوا لَمْ
يَخْلُصُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ وَصَدَّقُوهُ بِمَا
قَالَ، فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ
شِعْرًا يَذْكُرُ مَسِيرَهُ بِرَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ، وَمَا أَرَادَ مِنْهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ، وَمَا قَالَ لَهُمْ
فِيهِ بَحِيرَاءُ [ (22) ] .
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَلَاثَ قَصَائِدَ مِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ.
__________
[ (21) ] في (م) : «زبيرا وتماما» ، وفي (ح) : «زبير وثمام» .
[ (22) ] ينسب هذا الشعر الى ابي طالب، وهو ظاهر الركاكة مما يدل على وضعه،
ومنه:
إنّ ابن آمنة الأمين محمدا ... عندي بمثل منازل الأولاد
لمّا تعلّق بالزّمام رحمته ... والعيس قد قلّصن بالأزواد
فارفضّى من عينيّ دمع ذارف ... مثل الجمان مفرّق الأفراد
راعيت منه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسّير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طيّة المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثا صادقا ... عنه وردّ معاشر الحسّاد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمامة ثاغري الأكباد
ساروا لفتك محمد فنهاهم ... عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيراء بحير فانثنى ... في القوم بعد تجادل وتعاد
ونهى دريسا فانتهى لمّا نهى ... عن قول حبر ناطق بسداد
(2/29)
|