دلائل
النبوة للبيهقي محققا بَابُ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى
الْحَبَشَةَ ثُمَّ الثَّانِيَةِ وَمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ
وَتَصْدِيقِ النَّجَاشِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ [مِنَ الْقُسُسِ] [ (1) ]
وَالرُّهْبَانِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ،
قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي كِتَابِ
الْمَغَازِي، قَالَ: «ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا، ائْتَمَرَتْ رَوِيَّتَهُمْ [
(2) ] وَاشْتَدَّ مَكْرُهُمْ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
الله عليه وآله وَسَلَّمَ، أَوْ إِخْرَاجِهِ حِينَ رَأَوْا أَصْحَابَهُ
يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَعَرَضُوا عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُعْطُوهُمْ
دِيَتَهُ وَيَقْتُلُوهُ، فَأَبَى ذَلِكَ قَوْمُهُ وَمَنَعَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ رَسُولَهُ بِحَمِيَّةِ رَهْطِهِ، وَاشْتَدُّوا عَلَى مَنِ
اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِ اللهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ
وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةً شَدِيدَةً وَزِلْزَالًا شَدِيدًا
فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَ اللهُ وَمِنْهُمْ مَنِ افْتُتِنَ، فَلَمَّا فُعِلَ
بِالْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ [ (3) ] أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الشِّعْبَ مَعَ بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ بِالْخُرُوجِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
وَكَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكٌ يقال له النجاشي [ (4) ]
__________
[ (1) ] في (هـ) : «ومن تبعه من القسيسين» ، وفي (ص) : «ومن معه من
القسيسين» .
[ (2) ] في (ص) و (هـ) : «اختمرت رؤوسهم» .
[ (3) ] في (ص) و (هـ) : «فما فعل ذلك بالمسلمين» .
[ (4) ] النجاشي: واسمه اصحمة ملك الحبشة، معدود في الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ- وكان ممن حسن
(2/285)
لَا يُظْلَمُ بِأَرْضِهِ أَحَدٌ [ (5) ] ،
وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ خَيْرًا، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا
عَامَّتُهُمْ حِينَ قُهِرُوا وَخَافُوا الْفِتْنَةَ، وَمَكَثَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَلَمْ يَبْرَحْ، وَذَلِكَ قَبْلَ
خُرُوجِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ
الَّذِينَ خَرَجُوا الْمَرَّةَ الْأُولَى قَبْلَ خُرُوجِ جَعْفَرِ
وَأَصْحَابِهِ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ [عَزَّ وَجَلَّ] [ (6) ] عَلَيْهِ
سُورَةَ النَّجْمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ هَذَا
الرَّجُلُ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ أَقْرَرْنَاهُ [ (7) ]
وَأَصْحَابَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَنْ خَالَفَ دِينَهُ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمِثْلِ مَا يَذْكُرُ بِهِ آلِهَتَنَا مِنَ
الشَّتْمِ وَالشَّرِّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ مَا نَالَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ
أَذَاهُمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَأَحْزَنَتْهُ [ (8) ] ضَلَالَتُهُمْ وَكَانَ
يَتَمَنَّى هُدَاهُمْ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَةَ
النَّجْمِ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [ (9) ] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عِنْدَهَا كَلِمَاتٍ
حِينَ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ آخِرَ الطَّوَاغِيتِ فَقَالَ:
«وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَهِيَ
الَّتِي تُرْتَجَى» وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَجْعَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ،
فَوَقَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ بِمَكَّةَ،
وَزَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ وَتَبَاشَرُوا بِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ رَجَعَ إِلَى دِينِهِ [ (10) ] الْأَوَّلِ وَدِينِ
قَوْمِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ
آخِرَ النَّجْمِ سَجَدَ، وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ
مُشْرِكٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَكَانَ شَيْخًا
كَبِيرًا رَفَعَ مِلْءَ كَفَّيْهِ تُرَابًا فَسَجَدَ [ (11) ] عَلَيْهِ،
فَعَجِبَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِي السُّجُودِ
بِسُجُودِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم: فأما
__________
[ () ] إسلامه ولم يهاجر ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، صحابي من وجه، وقد
توفي فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلّم فصلى عليه بالناس
صلاة الغائب، وأصحمة بالعربية يعني: عطية.
[ (5) ] في (ص) : «أحد بأرضه» .
[ (6) ] الزيادة من (ص) و (هـ) .
[ (7) ] في (ص) و (هـ) : «قرّرناه» .
[ (8) ] في (ح) : «وأحزنه» .
[ (9) ] الآيتان الكريمتان (19- 20) من سورة النجم.
[ (10) ] في (ص) و (هـ) : «ديننا» .
[ (11) ] في (ص) : «وسجد» .
(2/286)
الْمُسْلِمُونَ فَعَجِبُوا لِسُجُودِ
الْمُشْرِكِينَ مَعَهُمْ عَلَى غَيْرِ إِيمَانٍ وَلَا يَقِينٍ، وَلَمْ
يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ سَمِعُوا الَّذِي أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى
أَلْسِنَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاطْمَأَنَّتْ
أَنْفُسُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ لِمَا أُلْقِيَ فِي أُمْنِيَّةِ النَّبِيِّ [ (12) ] صَلَّى
اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَدْ قَرَأَهَا فِي
السَّجْدَةَ، فَسَجَدُوا لِتَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ، وَفَشَتْ تِلْكَ
الْكَلِمَةُ فِي النَّاسِ وَأَظْهَرَهَا الشَّيْطَانُ حَتَّى بَلَغَتْ
أَرْضَ الْحَبَشَةِ، وَمَرَّ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ، وَحُدِّثُوا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ
أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ وَصَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ، وَبَلَغَهُمْ سُجُودُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَلَى
التُّرَابِ عَلَى كَفَّيْهِ، وَحُدِّثُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ
آمَنُوا بِمَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا وَقَدْ نَسْخَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللهُ آيَاتِهِ وَحَفِظَهَا
مِنَ الْبَاطِلِ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ
بَعِيدٍ [ (13) ] .
__________
[ (12) ] في (ص) و (هـ) : «رسول الله» .
[ (13) ] سورة الحج آيتا (52- 53) ، وقصة الغرانيق هذه لها طرق كثيرة،
ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل،
وكذا من لا يحتج به لاعتقاد بعضها بعضا.
روى (الأول) : الطبري، وابن المنذر، وابن ابي حاتم، والمقدسي في صحيحه كلهم
عن سعيد ابن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- (والثاني) : رواه ابن جرير
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحارث بن هشام.
(الثالث: رواه ابن جرير عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ.
قَالَ السهيلي: «واهل الحديث يدفعون هذا الحديث بالحجة» ثم أضاف: «والحديث
غير مقطوع بصحته» .
وقال القاضي عبد الجبار في «تنزيه القرآن عن المطاعن» ص (243) : «فإن قيل:
فما المراد بقوله: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ» وكيف يصح ذلك على الأنبياء؟.
وجوابنا ان المراد: إذا تلى يلحقه السهو في قراءته وذلك معروف في اللغة،
فلذلك قال بعده:
(2/287)
__________
[ () ] «فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته» ولو كان المراد
غير ما ذكرناه من التلاوة لم يصح ذلك.
أما ما يرويه الحشوية من أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر في قراءته
أصنامهم، وقال: «إن الغرانيق العلى شفاعتهن ترتجى» حتى فرح الكفار فلا أصل
له، ومثل ذلك لا يكون إلا من دسائس الملحدة» .
وحديث الغرانيق هذا متهافت من عدة وجوه وأحسن ما جاء في ردها ما كتبه
الأستاذ الكبير:
محمد حسين هيكل في كتاب «حياة محمد» صلّى الله عليه وآله وسلّم ص (177-
182) وكنت أريد كتابة فحواها إلا اني رأيت ان اضيفها هنا لاهميتها:
هذه الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق، هي حجج واهية لا تقوم
امام التمحيص، ونبدأ بدفع حجة المستشرق موير، فالمسلمون الذين عادوا من
الحبشة إنما دفعهم الى العود الى مكة سببان: أولهما ان عمر بن الخطاب اسلم
بعد هجرتهم بقليل. وقد دخل عمر في دين الله بالحميّة التي كان يحاربه من
قبل بها، لم يخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رؤوس الملأ ويقاتلهم
في سبيله. ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسللهم إلى شعاب مكة يقيمون الصلاة
بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى
المسلمون معه. هنالك أيقنت قريش ان ما تنال به محمدا وأصحابه من الأذى يوشك
ان يثير حربا اهلية لا يعرف احد مداها ولا على من تدور دائرتها. فقد اسلم
من قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أيّ واحد منهم قبيلته وإن كانت على
غير دينه. فلا مفرّ إذا من الالتجاء في محاربة محمد إلى وسيلة لا يترتب
عليها هذا الخطر. وإلى ان تتفق قريش على هذه الوسيلة. هادنت المسلمين فلم
تنل أحدا منهم بأذى وهذا هو ما اتصل بالمهاجرين الى الحبشة، ودعاهم الى
التفكير في العود إلى مكة.
وربما تردّدوا في هذا العود لو لم يكن السبب الثاني الذي ثبّت عزمهم، ذلك
ان الحبشة شبّت بها يومئذ ثورة على النجاشي، كان دينه وكان ما أبدى من عطف
على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت اليه. ولقد أبدى المسلمون احسن
الأماني ان ينصر الله النجاشي على خصومه، لكنهم لم يكونوا ليشاركوا في هذه
الثورة وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل. أما وقد
ترامت إليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان
يصيبهم من الأذى، فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم وان يلحقوا
بأهليهم، وهذا ما فعلوه كلهم او بعضهم. على أنهم ما كادوا يبلغون مكة حتى
كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه، واتّفقت عشائرها وكتبوا كتابا
تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة، فلا ينكحوا إليهم ولا
ينكحوهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم، وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان
(2/288)
__________
[ () ] بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع
اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المزة عنتا من قريش إذ حاولت ان تمنعهم من
الهجرة.
ليس الصلح الذي يشير إليه المستشرق موير، هو إذا الذي دعا المسلمين إلى
العودة من بلاد الحبشة، إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر
وحماسته في تأييد دين الله.
فتأييد حديث الغرانيق إذا بحجة الصلح تأييد غير ناهض.
أمّا احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالآيات: وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ ووَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا
نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ...
فهو احتجاج أشدّ تهافتا من حجة السير موير ويكفي أن نذكر من الآيات الأولى
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلًا لنرى أنه إن كان الشيطان قد ألقى في أمنية الرسول حتى لقد
كان يركن إليهم شيئا قليلا فقد ثبّته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه
الله ضعف الحياة وضعف الممات. وإذا فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب.
فقصة الغرانيق تجري بأن محمدا ركن الى قريش بالفعل. وان قريشا فتنته بالفعل
فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبّته فلم يفعل. فإذا
ذكرت كذلك أن كتب التفسير واسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعا غير مسألة
الغرانيق، رأيت ان الاحتجاج بها في مسألة تتنافى في عصمة الرسل في تبليغ
رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.
أما الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... فلا صلة لها
بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها ان الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله
فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم
حكيم.
وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها. وأول ما يدل
على ذلك تعدّد الروايات فيها، فقد رويت، كما سبق القول. على انها: تلك
الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن
شفاعتهم ترتجى» . وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى» دون ذكر الغرانقة او
الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا» وفي رواية خامسة:
«وإنهن لهن الغرانيق العلا. وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى» وقد وردت في بعض
كتب الحديث روايات اخرى غير هذه الروايات الخمس. وهذا التعدّد في الروايات
يدلّ على أن الحديث موضوع، وانه من وضع الزنادقة. كما قال ابن إسحاق، وان
الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.
ودليل آخر أقوى واقطع، ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق.
فالسياق يجري بقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى،
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ
هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ
اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.
(2/289)
__________
[ () ] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
وهذا السياق صريح في أن اللّات والعزّى أسماء سمّاها المشركون هم وآباؤهم
ما أنزل الله بها من سلطان. فكيف يحتمل ان يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم
اللّات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهنّ
ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء
سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» إن في هذا السياق من
الفساد والاضطراب والتناقض، ومن مدح اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى
وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلّم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا
تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدّقه
من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقي.
وحجة اخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفندّ قصة الغرانيق.
تلك أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم،
ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق
والغرنيق على أنه اسم لطائر مائي أسود او أبيض، والشابّ الأبيض الجميل. ولا
شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة، أو وصفها عند العرب.
بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد
نفسه، فهو منذ طفولته وصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط حتى سمى الأمين
ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس
جميعا، حتى لقد سأل قريشا يوما بعد بعثه: «أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بسفح
هذا الجبل أكنتم تصدّقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متّهم وما
جرّبنا عليك كذبا قط» . فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة
أظفاره إلى كهولته كيف يصدّق إنسان أنه يقول على ربّه ما لم يقل، ويخشى
الناس والله أحق ان يخشاه! هذا امر مستحيل، يدرك استحالته الذين درسوا هذه
النفوس القويّة الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجى فيه لأي
اعتبار. وكيف ترى يقول محمد: لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله
على أن يترك هذا الأمر او يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح
إليه، ويقوله لينقض به أساس الدّين الذي بعثه الله به هدّى وبشرى للعالمين!
ومتى رجع إلى قريش يمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه. وبعد ان
احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل،
وبعد ان أعزّ الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد ان بدأ المسلمون يصبحون قوّة
بمكة، ويمتدّ خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة وإلى مختلف نواحي
العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها
بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدا ما كاد يسمع كلام قريش إذ
جعل لآلهتهم نصيبا في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه، وحتى رجع إلى الله تائبا
أوّل ما أمسى
(2/290)
فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
قَضَاءَهُ وَبَرَّأَهُ مِنْ سَجْعِ الشَّيْطَانِ، انْقَلَبَ الْمُشْرِكُونَ
بِضَلَالَتِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاشْتَدُّوا
عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ فِيمَنْ رَجَعَ
فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ حَتَّى بَلَغَهُمْ شِدَّةُ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِجِوَارٍ فَأَجَارَ الوليد
ابن الْمُغِيرَةِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ
الَّذِي يَلْقَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَعُذِّبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالنَّارِ
وَالسِّيَاطِ وَعُثْمَانُ مُعَافًى لَا يُعْرَضُ لَهُ، اسْتَحَبَّ
الْبَلَاءَ عَلَى الْعَافِيَةِ فَقَالَ أَمَّا مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَذِمَّتِهِ وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ
الَّتِي اخْتَارَ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ
مُبْتَلًى وَمَنْ دَخَلَ فيه
__________
[ () ] ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا السّتر أحرى ان يفضحها. فما دام
الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحي
لساعته! وما كان أحراه ان يجري الوحي الصواب على لسانه؟ وإذا فلا أصل
لمسألة الغرانيق إلا الوضع والاختراع. قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم
بالكيد للإسلام بعد انقضاء الصدر الأول.
وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين انهم عرضوا للافتراء في أمّ مسائل الإسلام
جميعا: في التوحيد! في المسألة التي بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة
الاولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت
عليه قريش ان يعطوه ما يشاء من المال او يجعلوه ملكا عليهم. وعرضوا ذلك
عليه حين لم يكن قد اتّبعه من أهل مكة إلا عدد يسير. وما كان أذى قريش
لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة امره ربه ان يبلغها للناس. فاختيار المفترين
لهذه المسألة التي كانت صلابة محمد فيها غاية ما عرف عنه من الصلابة، يدلّ
على جرأة غير معقولة، ويدلّ في الوقت نفسه على أن الذين مالوا إلى تصديقهم
قد خدعوا فيما لا يجوز أن يخدع فيه احد.
لا أصل إذا لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولا صلة البتة بينها وبين عودة
المسلمين من الحبشة، إنما عادوا، كما قدّمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الإسلام
بمثل الحميّة التي كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرّت قريش لمهادنة
المسلمين. وعادوا حين شبّت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبّتها. فلما علمت
قريش بعودتهم ازدادت مخاوفها أن يعظم امر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد
انتهت بوضع الصحيفة التي قرّروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بني هاشم ولا
يبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم ان يقتلوا محمدا إن
استطاعوا.
(2/291)
فَهُوَ خَائِفٌ وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي
عَهْدِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ مُعَافًى،
فَعَهِدَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ يَا عَمِّ قَدْ
أَجَرْتَنِي وَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِيَ إِلَى
عَشِيرَتِكَ فَتَبْرَأَ مِنِّي بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقَالَ
الْوَلِيدُ: يَا ابْنَ أَخِي لَعَلَّ أَحَدًا مِنْ قَوْمِكَ آذَاكَ أَوْ
شَتَمَكَ وَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي فَأَكْفِيكَ ذَاكَ، قَالَ: لَا وَاللهِ مَا
اعْتَرَضَ لِي أَحَدٌ وَلَا آذَانِي، فَلَمَّا أَبَى إِلَّا أَنْ يَبْرَأَ
مِنْهُ الْوَلِيدُ، أَخْرَجَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقُرَيْشٌ فِيهِ
كَأَحْفَلِ مَا كَانُوا، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ يُنْشِدُهُمْ
فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِيَدِ عُثْمَانَ فَأَتَى بِهِ قُرَيْشًا فَقَالَ
إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ
جِوَارِهِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ، أَنَا وَاللهِ أَكْرَهْتُهُ عَلَى
ذَلِكَ وَهُوَ مني بريء ثم جلسنا مَعَ الْقَوْمِ وَلَبِيدٌ يُنْشِدُهُمْ
فقال لبيد:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
فَقَالَ عُثْمَانُ صَدَقْتَ، ثُمَّ أَتَمَّ لَبِيدٌ الْبَيْتَ فَقَالَ:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
فَقَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ [ (14) ] ، فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ وَلَمْ
يَدْرُوا مَا أَرَادَ بِكَلِمَتِهِ ثُمَّ أَعَادُوهَا [ (15) ]
الثَّانِيَةَ وَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ عُثْمَانُ حِينَ أَعَادَهَا
مِثْلَ كَلِمَتَيْهِ الأولتين صَدَّقَهُ مَرَّةً وَكَذَّبَهُ مَرَّةً [
(16) ] وَإِذَا ذَكَرَ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ صَدَّقَهُ وَإِذَا ذَكَرَ
كُلُّ نُعَيْمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ كَذَّبَهُ، لِأَنَّ نَعِيمَ
الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ، فَنَزَلَ عِنْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
فَلَطَمَ عَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
فَاخْضَرَّتْ. فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ
كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَانِعَةٍ مَمْنُوعَةٍ [ (17) ] فَخَرَجْتَ مِنْهَا
وكنت عن الذي
__________
[ (14) ] في السيرة لابن هشام: «كذبت، نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ» .
[ (15) ] في (ص) : «أعادوا الثانية» ، وفي (ح) : «أعادها» .
[ (16) ] في (ح) : «أخرى» .
[ (17) ] في (هـ) : «في ذمة مانعة، ومنعة ممنوعة» . وفي (ص) : «في ذمة
ومنعة ممنوعة» .
(2/292)
لَقِيتَ غَنِيًّا. فَقَالَ عُثْمَانُ: بَلْ
كُنْتُ إِلَى الَّذِي لَقِيتُ مِنْكُمْ فَقِيرًا، وَعَيْنِيَ الَّتِي لَمْ
تُلْطَمْ إِلَى مِثْلِ مَا لَقِيَتْ صَاحِبَتُهَا فَقِيرَةٌ، وَلِيَ
فِيمَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكُمْ أُسْوَةٌ [ (18) ] ، فَقَالَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: إِنْ شِئْتَ أَجَرْتُكَ الثَّانِيَةَ،
فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: لَا أَرَبَ لِي فِي جِوَارِكَ [ (19) ]
.
وَخَرَجَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي رَهْطٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ذَلِكَ فِرَارًا [ (20) ] بِدِينِهِمْ أَنْ
يُفْتَنُوا عَنْهُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو
بْنَ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ،
وَأَمَرُوهُمَا أَنْ يُسْرِعَا السَّيْرَ، فَفَعَلَا وَأَهْدَوْا
لِلنَّجَاشِيِّ فَرَسًا، وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ، وَأَهْدَوْا لِعُظَمَاءِ
الْحَبَشَةِ هَدَايَا، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ قَبِلَ
هَدَايَاهُمْ، وَأَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ
عَمْرٌو: إِنَّ بِأَرْضِكَ رِجَالًا مِنَّا سُفَهَاءَ لَيْسُوا عَلَى
دِينِكُمْ وَلَا عَلَى دِينِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَتْ
عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ لِلنَّجَاشِيِّ: أَجَلْ فَادْفَعْهُمْ إِلَيْهِمْ،
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ:
لَا وَاللهِ، لَا أَدْفَعُهُمْ إِلَيْهِمْ حَتَّى أُكَلِّمَهُمْ وَأَعْلَمَ
عَلَى أَيِّ شَيْءٍ هُمْ. فَقَالَ عمرو ابن الْعَاصِ: هُمْ أَصْحَابُ
الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِينَا وَسَنُخْبِرُكَ بِمَا نَعْرِفُ مِنْ
سَفَهِهِمْ وَخِلَافِهِمُ الْحَقَّ أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى
ابْنُ اللهِ، وَلَا يَسْجُدُونَ لَكَ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْكَ كَمَا
يَفْعَلُ مَنْ أَتَاكَ فِي سُلْطَانِكَ.
فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَجْلَسَ
النَّجَاشِيُّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى سَرِيرِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ
جَعْفَرٌ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَحَيَّوْهُ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ عَمْرٌو
وَعُمَارَةُ: أَلَمْ نُخْبِرْكَ خَبَرَ الْقَوْمِ وَالَّذِي يُرَادُ بِكَ؟
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أَلَا تُحَدِّثُونِي أَيُّهَا الرَّهْطُ! مَا
لَكُمْ لَا تُحَيُّونِي كَمَا يُحَيِّينِي مَنْ أَتَانِي مِنْ قَوْمِكُمْ
وَأَهْلِ بلادكم
__________
[ (18) ] في السيرة لابن هشام بعده: «وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر
يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ» .
[ (19) ] الخبر في سيرة ابن هشام (1: 391- 392) .
[ (20) ] في (ص) : «فارّين» .
(2/293)
وَآخَرُونَ؟ [وَأَخْبِرُونِي] [ (21) ]
مَاذَا تَقُولُونَ في عيسى بن مَرْيَمَ؟ وَمَا دِينُكُمْ:
أَنَصَارَى أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَيَهُودُ أَنْتُمْ؟ قَالُوا:
لَا، قَالَ: فَعَلَى دِينِ قَوْمِكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَا
دِينُكُمْ؟ قَالُوا: الْإِسْلَامُ. قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟
قَالُوا: نَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ [ (22) ] وَلَا
نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
قَالَ: مَنْ جَاءَكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: جَاءَنَا بِهِ رَجُلٌ مِنْ
أَنْفُسِنَا قَدْ عَرَفْنَا وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، بَعَثَهُ [ (23) ] اللهُ
إِلَيْنَا كَمَا بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا، فَأَمَرَنَا
بِالْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَنَهَانَا
أَنْ نَعْبُدَ الْأَوْثَانَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا
نُشْرِكُ بِهِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَعَرَّفَنَا كَلَامَ اللهِ تَعَالَى،
وَعَلَّمَنَا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَلَمَّا
فَعَلْنَا ذَلِكَ عَادَانَا قَوْمُنَا وَعَادَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليه وآله وَسَلَّمَ الصَّادِقَ، وَكَذَّبُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ،
وَأَرَادُونَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَفَرَرْنَا إِلَيْكَ
بِدِينِنَا وَدِمَائِنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَلَوْ أَقَرُّونَا
اسْتَقْرَرْنَا.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: وَاللهِ إِنْ خَرَجَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنَ
الْمِشْكَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [
(24) ] قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَمَّا التَّحِيَّةُ فَإِنَّ رَسُولَنَا
أَخْبَرَنَا أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ وَأَمَرَنَا
بِذَلِكَ فَحَيَّيْنَاكَ بِالَّذِي يُحَيِّي [بِهِ] [ (25) ] بَعْضُنَا
بَعْضًا.
وَأَمَّا عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ عَبْدُ اللهِ
وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ،
وَابْنُ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ فَخَفَّضَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى
الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا وَقَالَ: وَاللهِ مَا زَادَ ابْنُ
مَرْيَمَ عَلَى هَذَا وَزْنَ هذا العود.
__________
[ (21) ] الزيادة من (ص) .
[ (22) ] الزيادة في (ح) فقط.
[ (23) ] في (ص) : «فبعثه» .
[ (24) ] في (ح) «موسى» وكذا في البداية والنهاية (3: 73) ، واثبتّ ما في
(ص) .
[ (25) ] زيادة من (ح) .
(2/294)
فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: وَاللهِ
لَئِنْ سَمِعَتْ هَذَا الْحَبَشَةُ لَتَخْلَعَنَّكَ. فَقَالَ
النَّجَاشِيُّ: وَاللهِ لَا أَقُولُ فِي عِيسَى غَيْرَ هَذَا أَبَدًا،
وَمَا أَطَاعَ اللهُ [عَزَّ وَجَلَّ] [ (26) ] النَّاسَ فِيَّ حِينَ رَدَّ
إِلَيَّ مُلْكِي، فَأَنَا أُطِيعُ النَّاسَ فِي دِينِ اللهِ، مَعَاذَ اللهِ
مِنْ ذَلِكَ [ (27) ] .
وَكَانَ أَبُو النَّجَاشِيِّ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، فَمَاتَ وَالنَّجَاشِيُّ
غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ: أَنْ إِلَيْكَ مُلْكُ قَوْمِي
حَتَّى يَبْلُغَ ابْنِي، فَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْمُلْكُ، فَرَغِبَ
أَخُوهُ فِي الْمُلْكِ فَبَاعَ النَّجَاشِيَّ مِنْ بَعْضِ التُّجَّارِ،
فَقَالَ لِلْتَاجِرِ: دَعْهُ حَتَّى إِذَا أَرَدْتَ الْخُرُوجَ فَآذِنِّي
فَأَدْفَعَهُ إِلَيْكَ فَآذَنَهُ التَّاجِرُ بِخُرُوجِهِ فَأَرْسَلَ
بِالنَّجَاشِيِّ حَتَّى أَوْقَفَهُ عِنْدَ السَّفِينَةِ وَلَا يَدْرِي
النَّجَاشِيُّ مَا يُرَادُ بِهِ، فَأَخَذَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّهُ
الَّذِي بَاعَهُ صَعْقًا فَمَاتَ [ (28) ] ، فَجَاءَتِ الْحَبَشَةُ
بِالتَّاجِ فَجَعَلُوهُ عَلَى رَأْسِ النَّجَاشِيِّ، وَمَلَّكُوهُ.
فَلِذَلِكَ قَالَ النَّجَاشِيُّ: وَاللهِ مَا أَطَاعَ اللهُ النَّاسَ فِيَّ
حِينَ رَدَّ [اللهُ] [ (29) ] عَلَيَّ مُلْكِي وَزَعَمُوا أَنَّ التَّاجِرَ
الَّذِي كَانَ ابْتَاعَهُ قَالَ: مَا لِي بُدٌّ مِنْ غُلَامِيَ الَّذِي
ابْتَعْتُ أَوْ مَالِي، قَالَ النَّجَاشِيُّ: صَدَقْتَ، فَادْفَعُوا
إِلَيْهِ مَالَهُ [ (30) ] .
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ حِينَ كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ بِمَا كَلَّمَهُ وَحِينَ
أَبَى أَنْ يدفعهم إلى
__________
[ (26) ] زيادة من (ص) .
[ (27) ] هذه رواية ام سلمة للحديث وهي في سيرة ابن هشام (1: 362) عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حارث بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ سلمة، وأخرجه احمد
في «مسنده» . (1: 201) و (5: 290) ، والهيثمي في «مجمع الزوائد» (6: 24-
27) ، وقال:
«رواه احمد، ورجاله رجال الصحيح» ، ونقله الحافظ ابن كثير في «البداية
والنهاية» (3: 72) .
[ (28) ] في (ح) : «قعصا» وكذا في (ص) ، والأوكد انها صعقا، حيث انه اصابته
صاعقة فقتلته.
[ (29) ] من (ص) .
[ (30) ] رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. البداية والنهاية (3: 76) ،
وقال: وسياق ابن إسحاق أحسن وأبسط.
(2/295)
عَمْرٍو: أَرْجِعُوا إِلَى هَذَا
هَدِيَّتَهُ- يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- وَاللهِ لَوْ رَشَوْنِي فِي
هَذَا دَبْرَ ذَهَبٍ وَالدَّبْرُ فِي لِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ- مَا
قَبِلْتُهُ.
وَقَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: امْكُثُوا فَإِنَّكُمْ سُيُومٌ
وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ، قَدْ مَنَعَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَرَ
لَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى
هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ نَظْرَةً تُؤْذِيهِمْ فَقَدْ رَغِمَ أَيْ فَقَدْ
عَصَانِي [ (31) ] .
وَكَانَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَلْقَى الْعَدَاوَةَ بَيْنَ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ فِي مَسِيرِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَا إِلَى
النَّجَاشِيِّ، ثُمَّ اصْطَلَحَا حِينَ قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ
لِيُدْرِكَا حَاجَتَهُمَا الَّتِي خَرَجَا إِلَيْهَا مِنْ طَلَبِ
الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أَخْطَأَهُمَا ذَلِكَ رَجَعَا إِلَى أَشَدِّ مَا
كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَسُوءِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَمَكَرَ
عَمْرٌو بِعُمَارَةَ، فَقَالَ:
يَا عُمَارَةُ! إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ
النَّجَاشِيِّ فَتَحَدَّثْ عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فَإِنَّ
ذَلِكَ عَوْنٌ لَنَا فِي حَاجَتِنَا، فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دَخَلَ
عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا انْطَلَقَ عَمْرٌو إِلَى
النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبِي هَذَا صَاحِبُ نِسَاءٍ،
وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَهْلَكَ فَاعْلَمْ عِلْمَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ
النَّجَاشِيُّ فَإِذَا عُمَارَةُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ
فَنُفِخَ فِي إِحْلِيلِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي جَزِيرَةٍ مِنَ الْبَحْرِ
فَجُنَّ وَاسْتَوحَشَ مَعَ الْوَحْشِ، وَرَجَعَ عَمْرٌو إِلَى مَكَّةَ قَدْ
أَهْلَكَ اللهُ صَاحِبَهُ وَخَيَّبَ مَسِيرَهُ وَمَنْعَهُ حَاجَتَهُ [ (32)
] .
وَقَدْ رُوِّينَا قِصَّةَ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّتِهِ» عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بن يَسَارٍ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قِصَّةَ عُثْمَانَ بْنِ
مَظْعُونٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ سَمَاعًا مِنْهُ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْبَرَنَاهُ
أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَصَمَّ
حَدَّثَهُمْ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عبد
__________
[ (31) ] سيرة ابن هشام (1: 360- 361) .
[ (32) ] مجمع الزوائد (6: 31) وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» .
(2/296)
الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ الْقِصَّتَيْنِ، بِمَعْنَى
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْهِجْرَةِ فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ
فِي أَحَادِيثَ مَوْصُولَةٍ.
أَمَا الْهِجْرَةُ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ فَفِيهَا:
أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دُرُسْتَوَيْهِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ
عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْخَفَّافُ
قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زِيَادِ الْبُرْجُمِيُّ إِمَامُ
مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ:
«إِنَّ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِهِ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ [وَسَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ
سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَعْنِي أَنَسًا يَقُولُ خَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ ومَعَهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ] [ (33) ] إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَبْطَأَ خَبَرُهُمْ عَلَى
رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ [ (34) ] ، فَقَدِمَتِ
امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ رَأَيْتُ
خَتَنَكَ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، قَالَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِيهِمَا،
قَالَتْ: رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَى حِمَارٍ مِنْ هَذِهِ
الدَّبَّانةِ، وَهُوَ يَسُوقُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ صَحِبَهُمَا اللهُ إِنَّ عُثْمَانَ لَأَوَّلُ مَنْ
هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ» [ (35) ] وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ
اللهِ الْحَافِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ
إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيُّ بِبَغْدَادَ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
جَعْفَرٍ عَنِ الزِّبْرِقَانَ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى،
فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ عَالِيًا.
وَأَمَّا الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهِيَ فِيمَا زَعَمَ
الْوَاقِدِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ فَفِيمَا حَدَّثَنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ- رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ
بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ
__________
[ (33) ] الزيادة من (ص) ، ومكانها في (ح) : ومَعَهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم» .
[ (34) ] في (ح) : «فأبطأ علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خبرهم» .
[ (35) ] ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9: 80- 81) وقال: «رواه
الطبراني، وفيه عثمان بن خالد العثماني وهو متروك» .
(2/297)
ابن حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَدِيجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ [عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ] [ (36) ] ، عَنْ عَبْدِ
اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
«بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى
النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا جَعْفَرُ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عُمَارَةَ
وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَبَعَثُوا مَعَهُ بِهِدِيَّةٍ إِلَى
النَّجَاشِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ سَجَدَا لَهُ وَبَعَثَا إِلَيْهِ
بِالْهَدِيَّةِ، وَقَالَا:
إِنَّ نَاسًا مِنْ قَوْمِنَا [ (37) ] رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا وَقَدْ
نَزَلُوا بِأَرْضِكَ قَالَ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَا هُمْ فِي أَرْضِكَ
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ النَّجَاشِيُّ فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيبُكُمُ
الْيَوْمَ، فَاتَّبَعُوهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّجَاشِيِّ فَلَمْ
يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ لَمْ تَسْجُدُوا لِلْمَلِكِ،
فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا نَبِيَّهُ
فَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ إِلَّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى قَالَ فَمَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى
وَأُمِّهِ قَالُوا نَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ رُوحُ
اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ [الْبَتُولِ] [ (38) ]
الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ، فَتَنَاوَلَ
النَّجَاشِيُّ عُودًا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ
وَالرُّهْبَانَ مَا تَزِيدُونَ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا تَزِنُ
هَذِهِ فَمَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَنَا
أَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَحْمِلُ
نَعْلَيْهِ، أَوْ قَالَ: أَخْدُمُهُ، فَانْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ
أَرْضِي- فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَبَادَرَ فَشَهِدَ بَدْرًا» [ (39) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَا:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ
عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: «خرج
عبد الله ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ في البحر وكان
__________
[ (36) ] سقطت من (ح) .
[ (37) ] في (ص) : «قريشا» ، وفي «البداية والنهاية» «بني عمنا» .
[ (38) ] ليست في (ص) .
[ (39) ] «البداية والنهاية» (3: 69) .
(2/298)
بِهَا سُوقٌ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ،
فَانْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ وَحْدَهُ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُ مَنْزِلِهِ: إِنِّي أَرَاكَ تَنْطَلِقُ وَحْدَكَ وَإِنِّي
أُحَذِّرُكَ رَجُلًا بَلَغَ مِنْ شَرِّهِ لَا يَلْقَى غَرِيبًا إِلَّا
ضَرَبَهُ أَوْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ مَا مَعَهُ.
قَالَ: ثُمَّ وَصَفَ لِي صِفَةَ الرَّجُلِ فَلَمَّا جِئْتُ السُّوقَ
عَرَفْتُهُ بِالصِّفَةِ فَجَعَلْتُ أَسْتَخْفِي مِنْهُ بِالنَّاسِ لَا
يَأْخُذُ طَرِيقًا إِلَّا أَخَذْتُ غَيْرَهُ حَتَّى بِعْتُ مَا مَعِي
بِدِينَارَيْنِ ثُمَّ إِنِّي غَفَلْتُ غَفْلَةً فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا
وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي قَدْ أَخَذَ بِيَدِي فَجَعَلَ.
يَسْأَلُنِي مَا مَعَكَ قَالَ قُلْتُ لَهُ أَتَجْعَلُ لِي إِنْ يُخَلِّي
سَبِيلِي أُعْطِكَ مَا مَعِي قَالَ وَكَمْ مَعَكَ قُلْتُ دِينَارَانِ
قَالَ: زِدْنِي، قُلْتُ: مَا بِعْتُ إِلَّا بِهِمَا، قَالَ: زِدْنِي،
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ إِذْ بَصُرَ بِهِ رَجُلَانِ وَهُمَا عَلَى تَلٍّ
فَانْحَطَّا نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا خَلَّى سَبِيلِي وَهَرَبَ،
فَجَعَلْتُ أُنَادَيهَ هَاكَ الدِّينَارَيْنِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي
فيهما واتبعاه وَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي» .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ
قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ سَلَّامٍ ح وأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
الْخَالِقِ بْنُ عَلِيِّ ابن عَبْدِ الْخَالِقِ الْمُؤَذِّنُ قَالَ
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ [ (40) ] ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ: الْحَسَنُ بْنُ سَلَّامٍ السَّوَّاقُ سَنَةَ
خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ «أَمَرَنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَالَ: فَقَدِمْنَا
فَبُعِثَ إِلَيْنَا قَالَ لَنَا جَعْفَرٌ لَا يَتَكَلَّمْ [ (41) ]
مِنْكُمْ أَحَدٌ أَنَا خَطِيبُكُمُ اليوم.
__________
[ (40) ] في (ص) : «خنب» .
[ (41) ] في (ص) : «لا يتكلمن» .
(2/299)
قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ
وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ فَزَبَرَنَا مَنْ عِنْدَهُ مِنَ
الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ اسْجُدُوا لِلْمَلِكِ فَقَالَ جَعْفَرٌ لَا
نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ قَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ:
وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟ قَالَ: لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ:
وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا
رَسُولَهُ، وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،
وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
فَأَعْجَبَ النَّجَاشِيَّ قَوْلُهُ قَالَ فَمَا يَقُولُ صَاحِبُكَ فِي
ابْنِ مَرْيَمَ، قَالَ: يَقُولُ فِيهِ هُوَ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ
أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي لَمْ يَقْرَبْهَا بَشَرٌ،
فَتَنَاوَلَ النَّجَاشِيُّ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ: مَا يَزِيدُ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا
تَقُولُونَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ مَا تَزِنُ هَذِهِ. مَرْحَبًا بِكُمْ
وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ
وَإِنَّهُ بَشَّرَ بِهِ عيسى بن مَرْيَمَ، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ
الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْهِ امْكُثُوا فِي أَرْضِي
مَا شِئْتُمْ وَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكِسْوَةٍ» .
قُلْتُ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ [ (42) ] وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
أَبَا مُوسَى كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي
بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّهُ بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُمْ بِالْيَمَنِ فَخَرَجُوا
مُهَاجِرِينَ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فِي سَفِينَةٍ فَأَلْقَتْهُمْ
سَفِينَتُهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقُوا جَعْفَرَ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَأَمَرَهُمْ جَعْفَرٌ
بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ زَمَنَ خَيْبَرَ» .
فَأَبُو مُوسَى شَهِدَ مَا جَرَى بَيْنَ جَعْفَرٍ وَبَيْنَ النَّجَاشِيِّ،
فَأَخْبَرَ عَنْهُ وَلَعَلَّ الرَّاوِي وَهِمَ فِي قَوْلِهِ أَمَرَنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ نَنْطَلِقَ وَاللهُ
أعلم.
__________
[ (42) ] وأخرجه أبو نعيم في الدلائل، ونقله الحافظ ابن كثير في «البداية
والنهاية» (3: 70) .
(2/300)
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
بْنِ يَسَارَ بِإِسْنَادِهِ قِصَّةً طَوِيلَةً فِي هَذِهِ الْهِجْرَةِ.
وَهِيَ فِيمَا
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الله الحافظ وأبو بكر أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْقَاضِي وأبو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى
الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ «لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا
مَكَّةُ وَأُوذِيَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ،
وَفُتِنُوا وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي
دِينِهِمْ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَا
يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله
عليه وآله وَسَلَّمَ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا
يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ مِمَّا يَنَالُ أَصْحَابُهُ،
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: إِنَّ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا
بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا
أَنْتُمْ فِيهِ، فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّى اجْتَمَعْنَا
بِهَا فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ وَإِلَى خَيْرِ جَارٍ آمَنَّا عَلَى
دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ مِنْهُ ظُلْمًا.
فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أَصَبْنَا دَارًا وَأَمْنًا
اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ فِينَا فَيُخْرِجُنَا مِنْ
بِلَادِهِ، وَلِيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بن العاص
وَعَبْدُ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَجَمَعُوا لَهُ هَدَايَا
وَلِبَطَارِقَتِهِ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا هَيَّئُوا
لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، قَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ
بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قبل تَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، ثُمَّ ادْفَعُوا
هَدَايَاهُ وَإِنِ اسْتَطَعْتُمَا أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ
يُكَلِّمَكُمْ فَافْعَلُوا.
فَقَدِمَا عَلَيْنَا فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ إِلَّا
قَدَّمُوا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ وَكَلَّمُوهُ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا
قَدِمْنَا عَلَى هَذَا الْمَلِكِ فِي سُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِنَا
فَارَقُوا أَقْوَامَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ
فَبَعَثَنَا قَوْمُهُمْ لِيَرُدَّهُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا نَحْنُ
كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ فَقَالُوا نَفْعَلُ
ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ مَا
يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الْأُدْمُ فَلَمَّا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ
هَدَايَاهُ قَالُوا لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ فِتْيَةً مِنْ
(2/301)
سُفَهَائِنَا [ (43) ] فَارَقُوا دِينَ
قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ
لَا نعرفه وقد لجأوا إِلَى بِلَادِكَ، فَبَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ
عَشَائِرُهُمْ آبَاؤُهُمْ وَأَعْمَامُهُمْ وَقَوْمُهُمْ لِتَرُدَّهُمْ
عَلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَاهُمْ [ (44) ] عَيْنًا فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ
صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ لَوْ رَدَدْتَهُمْ عَلَيْهِمْ كَانُوا
أَعْلَاهُمْ عَيْنًا [ (45) ] . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ
فَتَمْنَعَهُمْ بِذَلِكَ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ لَا لعمر اللهِ لَا
أَرُدُّهُمْ إِلَيْهِمْ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأُكَلِّمَهُمْ وَأَنْظُرَ ما
أمرهم. قوم لجأوا إِلَى بِلَادِي وَاخْتَارُوا جِوَارِي عَلَى جِوَارِ
غَيْرِي، فَإِنْ كَانُوا كَمَا تَقُولُونَ رَدَدْتُهُمْ عَلَيْهِمْ وَإِنْ
كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ، وَلَمْ أُخَلِّ مَا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ أُنْعِمْهُمْ عَيْنًا.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّجَاشِيُّ فَجَمَعَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
أَبْغَضَ إِلَى عمرو بن العاص وَعَبْدُ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ
أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ،
اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ مَاذَا تَقُولُونَ فَقَالُوا وَمَاذَا نَقُولُ
نَقُولُ وَاللهِ مَا نَعْرِفُ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا
وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ كَائِنٌ
فِي ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي
يكَلِّمُهُ مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ
النَّجَاشِيُّ مَا هَذَا [الدِّينُ] [ (46) ] الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ
فَارَقْتُمْ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي يَهُودِيَّةٍ وَلَا
نَصْرَانِيَّةٍ فَمَا هَذَا الدِّينُ؟ فَقَالَ جَعْفَرٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ
كُنَّا قَوْمًا عَلَى الشِّرْكِ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَنَأْكُلُ
الْمَيْتَةُ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَنَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ بَعْضُنَا
مِنْ بَعْضٍ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا لَا نُحِلُّ شَيْئًا وَلَا
نُحَرِّمُهُ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ
وَفَاءَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَدَعَانَا إِلَى أَنْ نَعْبُدَ اللهَ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَصِلَ الرَّحِمَ، وَنُحْسِنَ الْجِوَارَ،
وَنُصَلِّيَ لِلَّهِ، وَنَصُومَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدَ غَيْرَهُ.
__________
[ (43) ] في (ص) : «منا سفهاء» .
[ (44) ] في (ص) : «أعلا بها» .
[ (45) ] في (ص) : «كانوا هم أعلى بهم عينا» .
[ (46) ] ليست في (ص) .
(2/302)
قَالَ فَقَالَ: فَهَلْ مَعَكَ شَيْءٌ
مِمَّا جَاءَ بِهِ وَقَدْ دَعَا أَسَاقِفَتَهُ فَأَمَرَهُمْ فَنَشَرُوا
الْمَصَاحِفَ حَوْلَهُ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ فَقَالَ هَلُمَّ
فَاتْلُ عَلَيَّ مَا جَاءَ بِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص،
فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ وَبَكَتْ
أَسَاقِفَتُهُ، حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا
الْكَلَامَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا عِيسَى،
انْطَلِقُوا رَاشِدِينَ لَا وَاللهِ لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكُمْ وَلَا
أُنْعِمُكُمْ عَيْنًا.
فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَ أَبْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا عَبْدَ
اللهِ بْنَ أَبِي ربيعة فقال عمرو ابن الْعَاصِ: وَاللهِ لَآتِيَنَّهُ
غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ فَلَأُخْبِرَنَّهُ [ (47) ]
أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ عِيسَى بن مَرْيَمَ
عَبْدٌ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبِيعَةَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُمْ
وَإِنْ كَانُوا خَالَفُونَا فَإِنَّ لهم رحما ولهم حقا فَقَالَ وَاللهِ
لَأَفْعَلَنَّ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ
إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلْهُمْ عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا
فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ لَهُ فِي عِيسَى إِنْ هُوَ
سَأَلَكُمْ عَنْهُ فَقَالَ نَقُولُ وَاللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى
فِيهِ وَالَّذِي أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ أَنْ نَقُولَ فِيهِ.
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ فَقَالَ مَاذَا تَقُولُونَ
فِي عيسى بن مَرْيَمَ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَقُولُ عَبْدُ اللهِ
وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَدَلَّى النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ
وَأَخَذَ عُوَيْدًا بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ فَقَالَ مَا عَدَا عِيسَى بن
مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا العويد، فتناحرت بَطَارِقَتُهُ، فَقَالَ: وَإِنْ
تَنَاخَرْتُمْ وَاللهِ. اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ فِي أَرْضِي
وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ. مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ
غَرِمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ ثَلَاثًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي
دَبْرًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِمُ
الذَّهَبُ فو الله مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ
عَلَيَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ
النَّاسَ فِيهِ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي
بِهَا
__________
[ (47) ] في (ص) : «ولأخبرنه» .
(2/303)
فَاخْرُجَا [ (48) ] مِنْ بِلَادِي،
فَرَجَعَا مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ.
فَأَقَمْنَا مَعَ خَيْرِ جَارٍ وَفِي خَيْرِ دَارٍ فَلَمْ يَنْشِبْ أَنْ
خَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ فو الله
مَا عَلِمْنَا حُزْنًا حَزِنَّا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ فَرَقًا مِنْ
أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ فَيَأْتِيَ مَلِكٌ لَا يَعْرِفُ
مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، فَجَعَلْنَا نَدْعُو اللهَ
[وَنَسْتَنْصِرَهُ] [ (49) ] لِلنَّجَاشِيِّ فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَائِرًا،
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ فَيَحْضُرَ الْوَقْعَةَ حَتَّى
يَنْظُرَ مَا يَكُونُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ- وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ
سِنًّا- أَنَا فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ
خَرَجَ يَسْبَحُ عَلَيْهَا فِي النِّيلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ شِقِّهِ
الْآخَرِ إِلَى حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ فَحَضَرَ الْوَقْعَةَ فَهَزَمَ
اللهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَقَتَلَهُ، وَظَهَرَ النَّجَاشِيُّ عَلَيْهِ،
فَجَاءَنَا الزُّبَيْرُ فَجَعَلَ يُلَيِّحُ إِلَيْنَا بِرِدَائِهِ
وَيَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا فَقَدْ أظهر الله النجاشي، فو الله مَا
عَلِمْنَا فَرَحَنَا بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَنَا بِظُهُورِ النَّجَاشِيِّ [
(50) ] .
ثُمَّ أَقَمْنَا عِنْدَهُ حَتَّى خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَّا رَاجِعًا إِلَى
مَكَّةَ وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ» .
قَالَ الزُّهْرِيُّ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثَ عُرْوَةَ بْنَ
الزُّبَيْرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: هَلْ تَدْرِي مَا
قَوْلُهُ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي
فآخذ الرشوة فيه، ولا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعُ النَّاسَ فِيهِ؟
قَالَ فَقَالَ لَا إِنَّمَا حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.، فَقَالَ عُرْوَةُ:
فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ
وَكَانَ لَهُ أَخٌ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَلَمْ يَكُنْ
لِأَبِي النَّجَاشِيِّ وَلَدٌ غَيْرُ النَّجَاشِيِّ، فَأَدَارَتِ
الْحَبَشَةُ رَأْيَهَا بَيْنَهَا فَقَالُوا: إِنَّا إِنْ قَتَلْنَا أَبَا
النَّجَاشِيِّ، وَمَلَّكَنَا أَخَاهُ فَإِنَّ لَهُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلًا
مِنْ صُلْبِهِ فَتَوَارَثُوا الْمُلْكَ لَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمْ
دَهْرًا طَوِيلًا لَا يَكُونُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ، وملكوا
__________
[ (48) ] في (ص) : «واخرجا» .
[ (49) ] الزيادة من (ص) .
[ (50) ] الخبر بطوله في سيرة ابن هشام (1: 357- 361) . والبداية والنهاية
(3: 72- 75) .
(2/304)
أَخَاهُ، فَدَخَلَ النَّجَاشِيُّ لِعَمِّهِ
حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَلَا يُدَبِّرُ أَمْرَهُ غَيْرُهُ وَكَانَ
لَبِيبًا فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْ عَمِّهِ قَالُوا
لَقَدْ غَلَبَ هَذَا الْغُلَامُ أَمْرَ عَمِّهِ، فَمَا نَأْمَنُ أَنْ
يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا وَقَدْ عَرَفَ أَنَّا قَدْ قَتَلْنَا أَبَاهُ فَإِنْ
فَعَلَ لَمْ يَدَعْ مِنَّا شَرِيفًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَكَلَّمُوهُ فِيهِ
فَلْنَقْتُلْهُ، أَوْ نُخْرِجْهُ مِنْ بِلَادِنَا فَمَشُوا إِلَى عَمِّهِ
فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا مَكَانَ هَذَا الْفَتَى مِنْكَ وَقَدْ عَرَفْتَ
أَنَّا قَدْ قَتَلْنَا أَبَاهُ وَجَعَلْنَاكَ مَكَانَهُ وَإِنَّا لَا
نَأْمَنُ أَنْ تُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا فَيَقْتُلَنَا، فَإِمَّا أَنْ
نَقْتُلَهُ وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بِلَادِنَا! قَالَ: فَقَالَ
وَيْحَكُمْ قَتَلْتُمْ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ، بَلْ
أُخْرِجَهُ مِنْ بِلَادِكُمْ.
فَخَرَجُوا بِهِ فَوَقَفُوهُ بِالسُّوقِ فَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ مِنَ
التُّجَّارِ فَقَذَفَهُ فِي سفينة بستمئة دِرْهَمٍ أَوْ بِسَبْعِمِائَةِ
دِرْهَمٍ.. فَانْطَلَقَ بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ
مِنْ سَحَابِ الْخَرِيفِ فَجَعَلَ عَمُّهُ يَتَمَطَّرُ تَحْتَهَا
فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَفَزِعُوا إِلَى وَلَدِهِ فَإِذَا
هُمْ مُحَمَّقِينَ [ (51) ] لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ. فَمَرَجَ [
(52) ] عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
تَعْلَمُونَ وَاللهِ إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُصْلِحُ أَمْرَكُمْ
غَيْرُهُ للّذي يعتم بِالْغَدَاةِ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ
الْحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ.
فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَدْرَكُوهُ فَرَدُّوهُ فَعَقَدُوا
عَلَيْهِ تَاجَهُ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَمَلَّكُوهُ، فَقَالَ
التَّاجِرُ: رُدُّوا عَلَيَّ مَالِي كَمَا أَخَذْتُمْ مِنِّي غُلَامِي،
فَقَالُوا لَا نُعْطِيكَ فَقَالَ إِذًا [وَاللهِ] [ (53) ] أُكَلِّمَهُ
فَقَالُوا وَإِنْ. فَمَشَى إِلَيْهِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ أَيُّهَا
الْمَلِكُ إِنِّي ابْتَعْتُ غُلَامًا فَقَبَضُوا مِنِّي الَّذِي
بَاعُونِيهِ ثَمَنَهُ ثُمَّ عَدَمُوا عَلَى غُلَامِي فَنَزَعُوهُ مِنْ
يَدِي وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ مَالِي فَكَانَ أَوَّلُ مَا خُبِرَ مِنْ
صَلَابَةِ حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ قال لتردّنّ عليه ما له أَوْ
لَيَجْعَلَنَّ غُلَامُهُ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَلْيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ
شَاءَ فَقَالُوا بَلْ نُعْطِيهِ مَالَهُ
__________
[ (51) ] «محمق» : الذي يلد الحمقى.
[ (52) ] (مرج) : قلق واضطرب.
[ (53) ] من (ح) .
(2/305)
فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَلِذَلِكَ يَقُولُ
مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ فَآخُذُ الرِّشْوَةَ مِنْهُ حَيْثُ [
(54) ] رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعُهُمْ
فِيهِ» [ (55) ] .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سعيد بن أَبِي
عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حدثنا يونس
ابْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ
يُكَلِّمُ النَّجَاشِيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ [بْنُ بُكَيْرٍ] [ (56) ]
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: «ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ
قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مِنَ
الْحَبَشَةِ فَوَجَدُوهُ فِي الْمَجْلِسِ فَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ،
وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا
فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله
وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه
وآله وَسَلَّمَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ،
فَلَمَّا سَمِعُوا فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ ثُمَّ اسْتَجَابُوا
لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ
لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ
اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا:
خَيَّبَكُمُ اللهُ مِنْ رَكْبٍ: بَعَثَكُمْ مَنْ وراكم مِنْ أَهْلِ
دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ، فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ فَلَمْ
نَطْمَئِنْ مَجَالِسَكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ
وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ
مِنْكُمْ أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُمْ، فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا
نُجَاهِلُكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا نَأْلُوا
أَنْفُسَنَا خَيْرًا.
فَيُقَالُ إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ» وَاللهُ
أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. وَيُقَالُ وَاللهُ أَعْلَمُ إِنَّ فِيهِمْ
نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
__________
[ (54) ] في (ص) : «حين» .
[ (55) ] سيرة ابن هشام (1: 362- 363) ، والبداية والنهاية (3: 75- 76) .
[ (56) ] من (ص) .
(2/306)
إِلَى قَوْلِهِ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ
[ (57) ] .
أَنْبَأَنَا الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الطُّوسِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي
هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ، قَالَ: «قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَامَ يَخْدُمُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ
نَحْنُ نَكْفِيكَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ» .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ
الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ
[قَالَ] [ (58) ] حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ
قَالَ «قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه
وآله وَسَلَّمَ فَقَامَ يَخْدُمُهُمْ فَقَالَ أَصْحَابُهُ نَحْنُ نَكْفِيكَ
يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ» تَفَرَّدَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ
عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو
عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا
عَمْرٌو قَالَ «لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ أَرْضِ
الْحَبَشَةِ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا مَا
شأنه ماله لَا يَخْرُجُ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ أَصْحَمَةَ يَزْعُمُ أَنَّ
صاحبكم نبي» .
__________
[ (57) ] الآية الكريمة (55) من سورة القصص، والخبر نقله ابن كثير (3: 82)
عن المصنف.
[ (58) ] الزيادة من (ص) .
(2/307)
بَابُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بن بكير عن ابن إِسْحَاقَ
قَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله
وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا
كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ
عَظِيمِ الْحَبَشَةِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَأَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللهِ [ (59) ] فَإِنِّي أَنَا
رَسُولُهُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ،
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ (60) ] . فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ
النَّصَارَى مِنْ قَوْمِكَ [ (61) ] .
__________
[ (59) ] في (ص) : «الإسلام» .
[ (60) ] [آل عمران- 64] .
[ (61) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2: 623) ، ونقله الحافظ ابن كثير في
«البداية والنهاية» (3:
82) عن المصنف، وقال: «هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة، وفي ذكره
هاهنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو الى النجاشي صاحب جعفر
وأصحابه، وذلك حين كتب الى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله قبيل الفتح كما كتب
إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى
صاحب مصر، وإلى النجاشي، قال الزهري: كانت كتب النبي صلى الله عليه وآله
وسلّم إليهم واحدة، يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهي من سورة آل
عمران، وهي مدنية
(2/308)
وَفِي كِتَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظِ فِي الْجُزْءِ الَّذِي أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْفَقِيهُ،
بِمَرْوَ، قال: حدثنا حماد ابن أَحْمَدَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ محمد ابن
إِسْحَاقَ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي
شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ
كِتَابًا: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ سَلَامٌ
عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ
الْمُؤْمِنَ الْمُهَيْمِنَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رُوحُ
اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ
الْحَصِينَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ
كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَهُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ
تَتَّبِعَنِي وَتُؤْمِنَ بِي وَبِالَّذِي جَاءَنِي فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ،
وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا جَاءُوكَ فَاقْرِهِمْ وَدَعِ التَّجَبُّرَ فَإِنِّي
أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللهِ وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ
فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» .
وَكَتَبَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللهِ مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأَصْحِمِ بْنِ أَبْجَرَ سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا
نَبِيَّ اللهِ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الَّذِي هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَلَغَنِي
كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى فَوَرَبِّ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ عِيسَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ،
وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بَعَثْتَ بِهِ إِلَيْنَا وَقَدْ قَرَيْنَا ابْنَ
عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ صَادِقًا
مُصَدَّقًا وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ [ (62) ] ابْنَ عَمِّكَ
وَأَسْلَمَتُ على يديه لله
__________
[ () ] بلا خلاف، ... فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الاول، وقوله فيه: إلى
النجاشي الأصحم، لعل الأصحم مقحم فيه من الراوي بحسب ما فهم، والله اعلم.
وانسب من هذا هاهنا ما ذكره البيهقي ايضا عن الحاكم ... وهي الرواية
التالية، أنه أرسل الكتاب مع ابن عمه جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
[ (62) ] في (ص) : «تابعتك، وتابعت ابن عمك» .
(2/309)
رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ بَعَثْتُ
إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ بِأَرِيحَا بْنِ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ
فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ
يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ» [ (63) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ قَالَ كَانَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ مَصْحَمَةَ، وَهُوَ
بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ، وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ
كَقَوْلِكَ كِسْرَى هِرَقْلَ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَصْحَمَةُ
وَالَّذِي رُوِّينَا عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ
أَصْحَمُ أَصَحُّ فَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ «أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النجاشي»
[ (64) ] .
__________
[ (63) ] البداية والنهاية (3: 83- 84) .
[ (64) ] من حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله أخرجه البخاري في كتاب
الجنائز. باب التكبير عن الجنائز أربعا، وفي كتاب المناقب، باب موت
النجاشي، والنسائي (4: 69) في الجنائز، باب الصفوف على الجنازة ولفظ
البخاري: «مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فقوموا فصلوا على أخيكم اصحمة» .
وفي الباب روايات مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وعمران بن حصين، وحذيفة
بن أسيد، ومجمع بن حَارِثَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عمر، وجرير بن عبد الله.
(2/310)
|