دلائل
النبوة للبيهقي محققا جُمَّاعُ أَبْوَابِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ [
(1) ] وَهِيَ الْأَحْزَابُ
بَابُ التَّارِيخِ لِغَزْوَةِ الْخَنْدَقِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، [قَالَ] [ (2) ] أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الشَّعْرَانِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ (ح) .
__________
[ (1) ] أنظر في غزوة الخندق، وفي غزوة الأحزاب:
- طبقات ابن سعد (2: 65) .
- سيرة ابن هشام (3: 168) .
- أنساب الأشراف (1: 165) .
- تاريخ الطبري (2: 564) .
- صحيح البخاري (5: 107) .
- صحيح مسلم بشرح النووي (12: 145) .
- ابن حزم ص (184) .
- عيون الأثر (2: 76) .
- البداية والنهاية (4: 92) .
- النويري (17: 166) .
- السيرة الحلبية (2: 401) .
- السيرة الشامية (4: 512) .
[ (2) ] في (ح) بدون قال، وكذا في سائر الخبر.
(3/392)
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله ابن
عَتَّابٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ، فِي مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ اثنتين، ثم قاتل يوم
أحد في شوال سَنَةَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ
يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ فِي شوال سنة أربع [ (3) ] .
__________
[ (3) ] قال الحافظ ابن كثير:
وقد كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير
واحد من العلماء سلفا وخلفا وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قَالَ:
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الأحزاب فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وكذلك قال
الامام مالك بن أنس فيما رواه أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ موسى بن داود
عنه. قال البيهقي: ولا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لأن مرادهم
أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما
انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين الى بدر العام القابل، فذهب النبي صلّى
اللَّه عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع ورجع أبو سفيان بقريش
لجدب ذلك العام فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتح الخندق في
شوال من سنة خمس والله أعلم. وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنة
ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث الا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ
من محرم الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من
ربيع الأول الى آخرها كما في البيهقي. وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي وقد
صرح بأن بدرا في الأولى، وأحدا في ثنتين، ويدر الموعد في شعبان سنة ثلاث،
والخندق في شوال سنة أربع. وهذا مخالف الجمهور فإن المشهور أن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة وعن مالك من
ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة والله أعلم. والصحيح الجمهور
أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله
أعلم فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله عن نافع عن
ابن عمر أنه قال: على رسول الله صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن
أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم أحد وأنا ابن خمس عشرة فأجازني،
فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض عليه يوم أحد في أول
الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة. قلت: ويحتمل أنه لما
عرض عليه في يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها
الغلمان يبقى على هذا زيادة عليها. ولهذا لما بلّغ نافع عمر بن عبد العزيز
هذا الحديث قال: ان هذا بين الصغير والكبير.
ثم كتب به الى الآفاق واعتمد على ذلك جمهور العلماء والله أعلم.
(3/393)
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عُلَاثَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ،
فَذَكَرَهُ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَا: وَقَدْ قَالَا فِي قِصَّةِ
الْخَنْدَقِ إِنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ.
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا [ (4) ] عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا [ (5) ] اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، قَالَ: ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ مِنَ
وَقْعَةِ بَدْرٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَحْزَابِ وَهِيَ بَعْدَ
وَقْعَةِ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ خَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْمَدِينَةِ، وَرَئِيسُ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، ثُمَّ سَارَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُرَيْظَةَ
فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سعد ابن مُعَاذٍ.
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا [ (6) ] أَحْمَدُ
بْنُ الْخَلِيلِ الْبَغْدَادِيُّ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ
فِي ذِكْرِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
وَاقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ
لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَوَاقَعَ يَوْمَ أَحُدٍ مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ فِي شَوَّالٍ، قَالَ: وَوَاقَعَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَكَانَ
بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَتِهِ،
وَأَصْحَابُ النبي صلى اللَّه عليه وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِيمَا بَلَغَنَا
أَلْفٌ، وَالْمُشْرِكُونَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ
ذَلِكَ، وَذَكَرَ لَنَا
أنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَنْ
يَغْزُوكُمُ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ الْيَوْمِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
العباس: محمد بن
__________
[ (4) ] (ح) : «حدثنا» .
[ (5) ] (ح) : «حدثني» .
[ (6) ] في (ح) : «حدثني» .
(3/394)
يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ
خَمْسٍ [ (7) ] .
قُلْتُ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ لِسَنَةٍ
وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ
قَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ لِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ
مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِ سِنِينَ
وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَمَنْ قَالَ سَنَةَ أَرْبَعٍ:
أَرَادَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الْخَمْسِ، وَمَنْ
قَالَ: سَنَةَ خَمْسٍ أَرَادَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي السَّنَةِ
الْخَامِسَةِ وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْبَرَنَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ
بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَفَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ،
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ
فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
فَأَجَازَنِي [ (8) ] .
فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ [ (9) ] ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَعُمَرُ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ
إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى
عُمَّالِهِ أَنِ افْرِضُوا لِابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمَا كَانَ سِوَى
ذَلِكَ، فَأَلْحِقُوهُ بِالْعِيَالِ.
__________
[ (7) ] الخبر في سيرة ابن هشام (3: 168) .
[ (8) ] في هامش (ح) : «وَكَانَ قَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَزَادَ عَلَيْهَا عَامَ الْخَنْدَقِ، فَأَجَازَهُ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ»
.
[ (9) ] القائل هنا نافع، وهو راوي الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمر.
(3/395)
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ
عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ [ (10) ] .
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ قَدْ طَعَنَ في الرابعة عَشْرَةَ
يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُجِزْهُ فِي الْقِتَالِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ
وَكَانَ قَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَزَادَ عَلَيْهَا عَامَ
الْخَنْدَقِ، فَأَجَازَهُ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ نَقَلَ
الْخَمْسَ عَشْرَةَ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا دُونَ الزِّيَادَةِ،
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ
الصَّحِيحَةِ، وَحُمِلَ قول موسى بن عقبة عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ أَبَا
سُفْيَانَ حِينَ خَرَجَ لِمَوْعِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه
وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ ثُمَّ انْصَرَفَ، خَرَجَ مُعِدًّا لِلْقِتَالِ
عَامَئِذٍ فِي شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أُحُدٍ،
وَذَلِكَ يُخَالِفُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ بَيْنَ
بَدْرٍ الْآخِرَةِ وَالْخَنْدَقِ، فَقَدْ رُوِّينَا قَبْلَ هَذَا عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي تَارِيخِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه
وسلم لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ، وَالْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَرُوِّينَا عَنْهُ
فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ أَنَّهُ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي
آخِرِ السَّنَتَيْنِ يَعْنِي مِنْ أُحُدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي أُحُدٍ إِنَّهُ
كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي أُحُدٍ سَنَةَ
ثَلَاثٍ مَحْمُولًا عَلَى الدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ كَمَالِهَا،
وَقَوْلُهُ: فِي بَدْرٍ الْآخِرَةِ وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى اللَّه
عليه وسلم لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَيْ بَعْدَ تَمَامِ
ثَلَاثِ سِنِينَ وَدُخُولِ الرَّابِعَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْخَنْدَقِ:
سَنَةَ أَرْبَعٍ أَيْ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعِ سِنِينَ وَالدُّخُولِ فِي
الْخَامِسَةِ.
هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُبْتَدَأَ التَّارِيخِ وَقَعَ مِنْ
وَقْتِ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ،
وَقَدِ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوَارِيخِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
فَلَمْ يَعُدُّوا مَا بَقِيَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا عَدُّوا
مُبْتَدَأَ التَّارِيخِ مِنَ المحرم
__________
[ (10) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، (29) باب غزوة الخندق.
وأخرجه الترمذي في: 13- كتاب الأحكام (24) بَابُ مَا جَاءَ فِي حدّ بلوغ
الرجل والمرأة، الحديث (1361) ، ص (3: 632- 633) ، وقال أبو عيسى: «هذا
حديث حسن صحيح، والعمل به عند أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، وابن
المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يرون أن الغلام إذا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً فحكمه حكم الرجال، وإن احتلم قبل خمس عشرة سنة فحكمه حكم
الرجال» .
(3/396)
مِنَ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، فَتَكُونُ
غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَأُحُدٌ فِي الثَّانِيَةِ،
وَغَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالْخَنْدَقُ فِي
الرَّابِعَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ [قَالَ] [ (11)
] أَخْبَرَنَا عبد الله بن جعفر ابن دُرُسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ شَهْرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْمَوْسِمِ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَوَّلُ
سَنَةٍ أُرِّخَتْ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ
لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ،
ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
لِمَوْعِدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ
مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ يُرِيدُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ، ثُمَّ كَانَتْ
عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، ثُمَّ كَانَتْ
غَزْوَةُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ،
وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ سَنَةَ ثَمَانٍ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ،
وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ سَنَةَ عَشْرٍ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، ثُمَّ صَدَرَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا
بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ
إِلَيْهِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ صَلَوَاتُ
اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ قَالَ:
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ قَالَ:
سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ بَدْرٍ لِسَنَةٍ وَنِصْفٍ
مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم الْمَدِينَةَ
وَأُحُدٌ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ، وَالْخَنْدَقُ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَبَنِي
الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَخَيْبَرُ سَنَةَ سِتٍّ، وَالْحُدَيْبِيَةُ
فِي سَنَةِ خَيْبَرَ، وَالْفَتْحُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَقُرَيْظَةُ فِي
سنة الخندق.
__________
[ (11) ] ليست في (ح) ، وكذا في سائر الخبر.
(3/397)
بَابُ سِيَاقِ قِصَّةِ الْخَنْدَقِ مِنْ
مَغَازِي مُوسَى ابن عُقْبَةَ [ (1) ] رَحِمَهُ اللهُ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، [قَالَ:] [ (2) ] أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الشَّعْرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا [ (3) ] مُحَمَّدُ بْنُ
فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (ح) .
وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ،
وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ بْنِ عَتَّابٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَقُرَيْشٌ
وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَعَهُمْ حُيَيُّ بْنُ
أَخْطَبَ، وَاسْتَمَدُّوا عيينة ابن [حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ] [ (4) ]
بَدْرٍ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ غَطَفَانَ وَبَنُو أَبِي
الْحُقَيْقِ كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ سَعَى فِي
غَطَفَانَ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ نِصْفَ ثَمَرِ
__________
[ (1) ] اختصرها ابن عبد البر في «الدرر في اختصار المغازي والسير» ص (169-
177) .
[ (2) ] ليست في (ح) .
[ (3) ] في (ح) : «حدثني» .
[ (4) ] الزيادة من الدرر ص (169) .
(3/398)
خَيْبَرَ، فَزَعَمُوا أَنَّ الْحَارِثَ
بْنَ عَوْفٍ أَخَا بَنِي مُرَّةَ، قَالَ: لِعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ،
وَغَطَفَانَ: يَا قَوْمِ أَطِيعُونِي وَدَعُوا قِتَالَ هَذَا الرَّجُلِ
وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ مِنَ الْعَرَبِ، فَغَلَبَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ وَقَطَعَ أَعْنَاقَهُمُ الطَّمَعُ، فَانْقَادُوا
لِأَمْرِ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبُوا إِلَى حُلَفَائِهِمْ مِنْ أَسَدٍ
فَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ فِيمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَهُمَا
حَلِيفَانِ: أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَكَتَبَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رِجَالٍ مِنْ
بَنِي سُلَيْمٍ أَشْرَافٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ فَأَقْبَلَ
أَبُو الْأَعْوَرِ فِيمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَدَدًا
لِقُرَيْشٍ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي آخِرِ السَّنَتَيْنِ فِيمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وأَبُو الْأَعْوَرِ فِيمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ، فِي جَمَعٍ
عَظِيمٍ، فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللهُ الْأَحْزَابَ.
فَلَمَّا بَلَغَ خُرُوجُهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ فِي
حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فَوَضَعَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي العمل معهم، فعلموا
مُسْتَعْجِلِينَ يُبَادِرُونَ قُدُومَ الْعَدُوِّ، وَرَأَى الْمُسْلِمُونَ
إِنَّمَا بَطَشَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ
فِي الْعَمَلِ لِيَكُونَ أَجَدَّ لَهُمْ وَأَقْوَى لَهُمْ بِإِذْنِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَضْحَكُ مِنْ صَاحِبِهِ إِذَا رَأَى
مِنْهُ فَتْرَةً، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ لَا
يَغْضَبِ الْيَوْمَ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ ارْتُجِزَ بِهِ مَا لَمْ يَقُلْ
قَوْلَ كَعْبٍ أَوْ حَسَّانَ فَإِنَّهُمَا يَجِدَانِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا
كَثِيرًا وَنَهَاهُمَا [ (5) ] أَنْ يَقُولَا شَيْئًا يُحْفِظَانِ بِهِ [
(6) ] أَحَدًا فَذَكَرُوا أَنَّهُ عَرَضَ لَهُمْ حَجَرٌ فِي مَحْفَرِهِمْ،
فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِعْوَلًا مِنْ
أَحَدِهِمْ فَضَرَبَهُ بِهِ ثَلَاثًا فَكُسِرَ الْحَجَرُ فِي الثَّالِثَةِ،
فَزَعَمُوا أَنَّ سَلْمَانَ الْخَيْرَ الْفَارِسِيَّ أَبْصَرَ عِنْدَ كُلِّ
ضَرْبَةٍ بُرْقَةً ذَهَبَتْ فِي ثَلَاثِ وُجُوهٍ كُلَّ مَرَّةٍ يُتْبِعُهَا
سَلْمَانُ بَصَرَهُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَلْمَانُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَهَيْئَةِ الْبَرْقِ أَوْ
مَوْجِ الْمَاءِ عَنْ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَتْ
إِحْدَاهُنَّ نَحْو الْمَشْرِقِ، وَالْأُخْرَى نَحْوَ الشام، والأخرى نحو
اليمين، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ
رَأَيْتَ ذلك يا
__________
[ (5) ] في (ص) : «ونهاهم» .
[ (6) ] في (ص) : «يخفضان» .
(3/399)
سَلْمَانُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ رَأَيْتُ
ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم
فَإِنَّهُ أُبِيضَ لِي فِي إِحْدَاهِنَّ مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَدَائِنُ
مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَفِي الْأُخْرَى مَدِينَةُ الرُّومِ، وَالشَّامِ
وَفِي الْأُخْرَى مَدِينَةُ الْيَمَنِ وَقُصُورُهَا، وَالَّذِي رَأَيْتَ
النَّصْرُ يَبْلُغُهُنَّ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَكَانَ سَلْمَانُ يَذْكُرُ
ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ رَجُلًا قَوِيًّا فَلَمَّا وَكَّلَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم بِكُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْخَنْدَقِ، قَالَ
الْمُهَاجِرُونَ: يَا سَلْمَانُ احْفُرْ مَعَنَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ: لَا أَحَدَ أَحَقُّ بِهِ مِنَّا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا
سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» [ (7) ] .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَتَلَ الْأَسْوَدَ
الْعَنْسِيَّ كَذَّابَ صَنْعَاءَ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ وَقَدِمَ
قَادِمُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
أَسْلَمُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ نَحْنُ؟ قَالَ: أَنْتُمْ
إِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وَمِنَّا، فَلَمَّا قَضَوْا حَفْرَ
خَنْدَقِهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَهُوَ عَامُ
الْأَحْزَابِ.
وَعَامُ الْخَنْدَقِ أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حرب ومن معه مِنْ
مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَنَزَلُوا
بِأَعْلَى [ (8) ] وَادِي قَنَاةَ مِنْ تِلْقَاءِ الْغَابَةِ، وَغَلَّقَتْ
بَنُو قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ، وَتَأَشَّمُوا بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ،
وَقَالُوا: لَا تَكُونُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّكُمْ
لَا تَدْرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّبْرَةُ، وَقَدْ أَهْلَكَ حُيَيُّ
قَوْمَهُ فَاحْذَرُوهُ، وَأَقْبَلَ حُيَيُّ حَتَّى أَتَى بَابَ حِصْنِهِمْ،
وَهُوَ مُغْلَقٌ عَلَيْهِمْ وَسَيِّدُ اليهود يومئذ كعب ابن أسد فَقَالَ
حُيَيُّ: أَثَمَّ كَعْبٌ؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: لَيْسَ هَا هُنَا، خَرَجَ
لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ فَقَالَ حُيَيُّ: بَلْ هُوَ عِنْدَكِ مَكَثَ عَلَى
جَشِيشَتِهِ [ (9) ] يَأْكُلُ مِنْهَا فَكَرِهَ أَنْ
__________
[ (7) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 598) ، وقال الذهبي: «سنده ضعيف» .
[ (8) ] رسمت في (أ) : «بأعلا» .
[ (9) ] (الجشيشة) : طعام يصنع من الجشيش، وهو البر يطحن غليظا.
(3/400)
أُصِيبَ مَعَهُ مِنَ الْعَشَاءِ، فَقَالَ
كَعْبٌ: ائْذَنُوا لَهُ فإنه مشئوم وَاللهِ مَا طُرِفْنَا بِخَيْرٍ،
فَدَخَلَ حُيَيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُكَ وَاللهِ بِعِزِّ الدَّهْرِ
إِنْ لَمْ تَتْرُكْهُ عَلَيَّ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ [وَسَادَتِهَا
وَقَادَتِهَا] [ (10) ] وَسُقْتُ إِلَيْكَ الْحَلِيفَيْنِ: أَسَدٌ
وَغَطَفَانُ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا
جِئْتَ بِهِ كَمَثَلِ سَحَابَةٍ أَفْرَغَتْ مَا فِيهَا ثُمَّ انْطَلَقَتْ،
وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ دَعْنَا عَلَى عَهْدِنَا لِهَذَا الرَّجُلِ فَإِنِّي
لَمْ أَرَ [ (11) ] رَجُلًا أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ مُحَمَّدٍ
وَأَصْحَابِهِ وَاللهِ مَا أَكْرَهَنَا عَلَى دِينٍ وَلَا غَصَبَنَا مَالًا
وَلَا نَنْقِمُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَعَمَلِكَ شَيْئًا، وَأَنْتَ تَدْعُو إِلَى
الْهَلَكَةِ، فَنُذَكِّرُكَ اللهَ إِلَّا مَا أَعْفَيْتَنَا مِنْ نَفْسِكَ،
فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَفْعَلُ وَلَا يَخْتَبِزُهَا مُحَمَّدٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَلَا نَفْتَرِقُ نَحْنُ وَهَذِهِ الْجُمُوعُ حَتَّى
نَهْلَكَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الْقُرَظِيُّ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ
إِنَّكُمْ قَدْ حَالَفْتُمْ مُحَمَّدًا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتُمْ أَنْ لَا
تَخُونُوهُ وَلَا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَأَنْ تَنْصُرُوهُ عَلَى
مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، فَأَوْفُوا عَلَى مَا عَاهَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ،
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ
وَاعْتَزِلُوهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حُيَيُّ حَتَّى شَامَهُمْ،
فَاجْتَمَعَ ملأهم فِي الْغَدِ عَلَى أَمْرِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنَّ
بَنِيَ شَعْيَةَ أَسَدًا وَأُسَيْدًا وَثَعْلَبَةَ خَرَجُوا إِلَى رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَعَمُوا وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَا
حُيَيُّ انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَإِنَّا لَا نَأْمَنُهُمْ، فَإِنْ
أَعْطَوْنَا مِنْ أَشْرَافِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ مَعَهُمْ رَهْنًا
فَكَانُوا عِنْدَنَا فَإِذَا نَهَضُوا لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ
خَرَجْنَا نَحْنُ فَرَكِبْنَا أَكْتَافَهُمْ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ
فَاشْدُدِ الْعَقْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَذَهَبَ حُيَيٌّ إِلَى
قُرَيْشٍ فَعَاقَدُوهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ السَّبْعِينَ
وَمَزَّقُوا صَحِيفَةَ الْقَضِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ، وَنَبَذُوا إِلَى رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْبِ وَتَحَصَّنُوا،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَبَّأَ
أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَقَدْ جَعَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي مِثْلِ
الْحِصْنِ بَيْنَ كَتَائِبِهِمْ فَحَاصَرُوُهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ
لَيْلَةً وَأَخَذُوا بِكُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى مَا يَدْرِي الرَّجُلُ
أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا وَوَجَّهُوا نحو منزل
__________
[ (10) ] الزيادة من الدّرر.
[ (11) ] في (أ) رسمت: «لم أُرِيَ» !
(3/401)
رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَتِيبَةً غَلِيظَةً يُقَاتِلُونَهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا
حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَاةُ الْعَصْرِ دَنَتِ الْكَتِيبَةُ، فَلَمْ يقدر
النبي صلى اللَّه عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَهُ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَاةَ عَلَى نَحْوِ مَا أَرَادُوا
فَانْكَفَأَتِ الْكَتِيبَةُ مَعَ اللَّيْلِ، فَزَعَمُوا
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «شَغَلُونَا
عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللهُ بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا» [
(12) ] .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ فُلَيْحٍ: بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا،
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللَّه عليه وسلم
وَأَصْحَابِهِ نَافَقَ نَاسٌ كَثِيرٌ وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ،
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ
النَّاسُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْكَرْبِ، جَعَلَ يُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُفْرَجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ
الشِّدَّةِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
آمِنًا، وَأَنْ يَدْفَعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيَّ مَفَاتِيحَ
الْكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وِلَتُنْفِقُنَّ
كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وجل.
وقال رَجُلٌ مِمَّنْ مَعَهُ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ
مُحَمَّدٍ يَعِدُنَا أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَأَنْ نَقْسِمَ
كُنُوزَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَنَحْنُ هَاهُنَا لَا يَأْمَنُ أَحَدُنَا أَنْ
يَذْهَبَ الْغَائِطَ، وَاللهِ لَمَا يَعِدُنَا إِلَّا غُرُورًا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ مَعَهُ: ائْذَنْ لَنَا فَإِنَّ بُيُوتَنَا
عَوْرَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا.
__________
[ (12) ] أخرجه البخاري في: 56- كتاب الجهاد، (98) باب الدعاء على المشركين
بالهزيمة والزلزلة، الحديث (2931) ، فتح الباري (6: 105) عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُوسَى، عن عيسى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ، عَنْ عِبِيدَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ، وأعاده في: 64- كتاب المغازي (19) باب غزوة الخندق، الحديث (4111)
، فتح الباري (7: 405) .
وأخرجه مسلم في: 5- كتاب المساجد، (35) باب التغليظ في تفويت صلاة العصر،
الحديث (202) عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، ص (436) ، والحديث (206) ،
عن عون بن سلّام اللوفي، ص (437) ، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1: 79،
81) .
(3/402)
وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَخَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ،
وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وخوّان بْنَ
جُبَيْرٍ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُكَلِّمُوهُمْ وَيُنَاشِدُوهُمْ فِي
حِلْفِهِمْ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَابَ حِصْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ
اسْتَفْتَحُوا، فَفُتِحَ لَهُمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى
الْمُوَادَعَةِ وَتَجْدِيدِ الْحِلْفِ، فَقَالُوا: الْآنَ وَقَدْ كَسَرُوا
جَنَاحَنَا، يُرِيدُونَ بِجَنَاحِهِمُ الْمَكْسُورَةِ بَنِي النَّضِيرِ،
ثُمَّ أَخْرَجُوهُمْ وَشَتَمُوا النَّبِيَّ صلى اللَّه عليه وسلم شَتْمًا،
فَجَعَلَ سَعْدُ بْنُ عبادة يشاتمهم، فأغضبوه، فقال سعد ابن مُعَاذٍ
لِسَعْدِ بْنُ عُبَادَةَ: إِنَّا وَاللهِ مَا جِئْنَا لِهَذَا، وَلَمَا
بَيْنَنَا أَكْثَرُ مِنَ الْمُشَاتَمَةِ، ثُمَّ نَادَاهُمْ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا خَائِفٌ عَلَيْكُمْ مِثْلَ
يَوْمِ بَنِي النَّضِيرِ، أَوْ أَمَرَّ مِنْهُ، فَقَالُوا: أَكَلْتَ أَيْرَ
أَبِيكَ،، فَقَالَ: غَيْرُ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ كَانَ أَجْمَلَ وَأَحْسَنَ
مِنْهُ،
فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَهُمْ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي وجُوهِهِمُ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: مَا
وَرَاءَكُمْ؟ فَقَالُوا: أَتَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخَابِثِ خَلْقِ اللهِ
وَأَعْدَاهُ لِلَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ [ (13) ] وَلِرَسُولِهِ صلى اللَّه
عليه وسلم، وَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتْمَانِ خَبَرِهِمْ.
وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
أَصْحَابِهِ، وَهُمْ فِي بَلَاءٍ شَدِيدٍ يَخَافُونَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ
أُحُدٍ، فَقَالُوا: حِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُقْبِلًا: مَا وَرَاءَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: خَيْرٌ فَأَبْشِرُوا، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ فَاضْطَجَعَ
وَمَكَثَ طَوِيلًا وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَالْخَوْفُ حِينَ
رَأَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضْطَجَعَ
وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ خَيْرٌ، ثُمَّ
إِنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا بِفَتْحِ اللهِ وَنَصْرِهِ،
فَلَمَّا أَصْبَحُوا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَكَانَ
بَيْنَهُمْ رَمْيُ النَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، قَالَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «اللهم
__________
[ (13) ] من (ح) .
(3/403)
إِنِّي أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ،
اللهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ» .
وَأَقْبَلَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمَخْزُومِيُّ وَهُوَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ لِيُقْحِمَهُ الْخَنْدَقَ، فَقَتَلَهُ
اللهُ وَكَبَتَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَظُمَ فِي صُدُورِهِمْ
وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا نُعْطِيكُمُ
الدِّيَةَ عَلَى أَنْ تَدْفَعُوهُ إِلَيْنَا فَنَدْفِنَهُ، فَرَدَّ
إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَبِيثٌ
خَبِيثُ الدِّيَةِ، فَلَعَنَهُ اللهُ وَلَعَنَ دِيَتَهُ، فَلَا أَرَبَ
لَنَا بِدِيَتِهِ وَلَسْنَا مَانِعِيكُمْ أَنْ تَدْفِنُوهُ، وَرُمِيَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَمْيَةً فَقَطَعَتْ مِنْهُ الْأَكْحَلِ مِنْ
عَضُدِهِ، وَرَمَاهُ زَعَمُوا حَيَّانُ بْنُ قَيْسٍ أَخُو بَنِي عَامِرِ
بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي الْعَرِقَةِ وَيَقُولُ آخَرُونَ: أَبُو
أُسَامَةَ الْجُشَمِيُّ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: رَبِّ اشْفِنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ
الممات فرقاء الْكَلْمُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدِ انْفَجَرَ، وَصَبَرَ أَهْلُ
الْإِيمَانِ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ كَثْرَةِ الْأَحْزَابِ وَشِدَّةِ
أَمْرِهِمْ وَزَادَهُمْ يَقِينًا لِمَوْعِدِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
الَّذِي وَعَدَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ إِنَّ
أَبَا سُفْيَانَ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ قَدْ طَالَ
ثَوَاؤُنَا هَاهُنَا وَأَجْدَبَ مَنْ حَوْلَنَا فَمَا نَجِدُ رَعْيًا
لِلظَّهْرِ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ
فَيَقْضِيَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَمَاذَا تَرَوْنَ؟ وَبَعَثَتْ
بِذَلِكَ غَطَفَانُ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ مَا رَأَيْتُمْ
فَإِذَا شِئْتُمْ فَانْهَضُوا فَإِنَّا لَا نَحْبِسُكُمْ إِذَا بَعَثْتُمْ
بِالرَّهْنِ إِلَيْنَا.
وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ
يُذِيعُ الْأَحَادِيثَ، وَقَدْ سَمِعَ الَّذِي أَرْسَلَتْ بِهِ قُرَيْشٌ
وَغَطَفَانُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالَّذِي رَجَعُوا إِلَيْهِمْ،
فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ
إِلَيْهِ وَذَلِكَ عِشَاءً فَأَقْبَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى
دَخَلَ على رسول الله صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَّةً لَهُ
تُرْكِيَّةً وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَرَاءَكَ؟
قال: انه والله مالك طَاقَةٌ بِالْقَوْمِ وَقَدْ تَحَزَّبُوا عَلَيْكَ
وَهُمْ مُعَاجِلُوكَ، وَقَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّهُ قَدْ
طَالَ ثَوَاؤُنَا وَأَجْدَبَ مَا حَوْلَنَا، وَقَدْ أَحْبَبْنَا أَنْ
نُعَاجِلَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَتْ
إِلَيْهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ: أَنْ نِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ فَإِذَا
شِئْتُمْ، فَابْعَثُوا بِالرَّهْنِ ثُمَّ لَا يَحْبِسُكُمْ إِلَّا
أَنْفُسُكُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
إِنِّي
(3/404)
مُسِرٌّ إِلَيْكَ شَيْئًا فَلَا
تَذْكُرْهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ
يَدْعُونَنِي إِلَى الصُّلْحِ وَأَرُدُّ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى دُورِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ.
فَخَرَجَ نُعَيْمٌ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى غَطَفَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم:
إِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَصْنَعَ لَنَا،
فَأَتَى نُعَيْمٌ غَطَفَانَ فَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ وَإِنِّي قَدِ
اطَّلَعْتُ عَلَى غَدْرِ يَهُودَ، تَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا [صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وسلم] لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ وَإِنِّي سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ
أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ
إِخْوَانَهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَيَدْفَعُونَ إِلَيْهِ الرَّهْنَ، ثُمَّ خَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ
الْأَشْجَعِيُّ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَقُرَيْشًا،
فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى غَدْرِ يَهُودَ إِنِّي
سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يُحَدِّثُ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ صَالَحُوهُ عَلَى
أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ إِخْوَانَهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى
دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ الرَّهْنَ
وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ وَيُعِيدُونَ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ.
فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَشِيرُوا
عَلَيَّ، وَقَدْ مَلُّوا مُقَامَهُمْ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْبِلَادُ،
فَقَالُوا: نَرَى أَنْ نَرْجِعَ وَلَا نُقِيمَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَلَى
مَا حَدَّثَكَ نُعَيْمٌ وَاللهِ مَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ وَإِنَّ الْقَوْمَ
لَغُدُرٌ.
وَقَالَتِ الرَّهْنُ حِينَ سَمِعُوا الْحَدِيثَ: وَاللهِ لَا نَأْمَنُهُمْ
عَلَى أَنْفُسِنَا، وَلَا نَدْخُلُ حِصْنَهُمْ أَبَدًا.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَنْ نَعْجَلَ حَتَّى نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
فَنَتَبَيَّنَ مَا عِنْدَهُمْ.
فَبَعَثَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَيْهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ،
وَفَوَارِسَ وَذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَأَتَوْهُمْ فَكَلَّمُوهُمْ،
فَقَالُوا: إِنَّا مُقَاتِلُونَ غَدًا فَاخْرُجُوا إِلَيْنَا، قَالُوا:
إِنَّ غَدًا السَّبْتُ وَإِنَّا لَا نُقَاتِلُ فِيهِ أَبَدًا، فَقَالَ
عِكْرِمَةُ: إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ الْإِقَامَةَ هَلَكَ الظَّهْرُ
وَالْكُرَاعُ وَلَا نَجِدُ رَعْيًا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَا
نَعْمَلُ يَوْمَ السَّبْتِ عَمَلًا بِالْقِتَالِ، وَلَكِنِ امْكُثُوا إِلَى
يَوْمِ الْأَحَدِ، وَابْعَثُوا إِلَيْنَا بِالرَّهْنِ، فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ
وَقَدْ يَئِسَ مِنْ نَصْرِهِمْ.
(3/405)
وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ وَالْحَصْرُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَشَغَلَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ فَلَا يَسْتَرِيحُونَ لَيْلًا
وَلَا نَهَارًا، وَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم أَنْ
يَبْعَثَ رَجُلًا فَيَخْرُجَ مِنَ الْخَنْدَقِ فَيَعْلَمَ مَا خَبَرُ
الْقَوْمِ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا
مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ هَلْ أَنْتَ مُطَّلِعٌ الْقَوْمَ؟ فَاعْتَلَّ
فَتَرَكَهُ، وَأَتَى آخَرَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ
الْيَمَانِ يَسْمَعُ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا بِهِ مِنَ
الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ أَنَا
حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، قَالَ: إِيَّاكَ أُرِيدُ أَسَمِعْتَ حَدِيثِي
مُنْذُ اللَّيْلَةِ وَمَسْأَلَتِي الرِّجَالَ لِأَبْعَثَهُمْ
فَيَتَخَبَّرُونَ لَنَا خَبَرَ الْقَوْمِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَبِأُذُنَيَّ، قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ
تَقُومَ حِينَ سَمِعْتَ كَلَامِي؟ قَالَ: الضُّرُّ وَالْجُوعُ، فَلَمَّا
ذَكَرَ الْجُوعَ ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عليه وسلم فَقَالَ:
قُمْ حَفِظَكَ اللهُ مِنْ أَمَامِكَ وَمِنْ خَلْفِكَ وَمِنْ فَوْقِكَ
وَمِنْ تَحْتِكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ حَتَّى تَرْجِعَ
إِلَيْنَا، فَقَامَ حُذَيْفَةُ مُسْتَبْشِرًا بِدُعَاءِ رَسُولِ الله صلى
الله عليه وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ احْتُمِلَ احْتِمَالًا، فَمَا شَقَّ مِنْ
جُوعٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا دَرَى شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ
مِنَ الْبَلَاءِ،
فَانْطَلَقَ حَتَّى أَجَازَ الْخَنْدَقَ مِنْ أَعْلَاهُ فَجَلَسَ بَيْنَ
ظَهْرَيِ الْمُشْرِكِينَ فَوَجَدَ أَبَا سُفْيَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ
يُوقِدُوا النِّيرَانَ، وَقَالَ: لِيَعْلَمَ كُلُّ امْرِئٍ مَنْ جَلِيسُهُ،
فَقَبَضَ حُذَيْفَةُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ: مَنْ
أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فلان، وَقَبَضَ يَدَ رَجُلٍ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانٌ، وَبَدَرَهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ خَشْيَةَ
أَنْ يَفْطِنُوا لَهُ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَذِنَ بِالرَّحِيلِ، فَارْتَحَلُوا
وَحَمَلُوا الْأَثْقَالَ فَانْطَلَقَتْ، وَوَقَفَتِ الْخَيْلُ سَاعَةً مِنَ
اللَّيْلِ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ الصِّيَاحَ
وَالْإِرْصَاءَ مِنْ قِبَلِ قُرَيْشٍ فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ، فَأَتَاهُمُ
الْخَبَرُ بِرَحِيلِهِمْ فَانْقَشَعُوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ
كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ رَحِيلِهِمْ قَدْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ
بِالرِّيحِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ لَهُمْ
بَيْتًا يَقُومُ، وَلَا رُمْحًا، حَتَّى مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مَنْزِلٌ
أَشَدَّ عَلَيْهِمْ وَلَا أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ ذَلِكَ،
فَأَقْشَعُوا وَالرِّيحُ أَشَدُّ مَا كَانَتْ مَعَهَا جُنُودُ اللهِ لَا
تُرَى كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(3/406)
وَرَجَعَ حُذَيْفَةُ بِبَيَانِ خَبَرِ
الْقَوْمِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابُهُ
فَقَتَلُوا كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا يُصَلِّي
حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُ وسمع التكبير ولما دنى [ (14) ] حُذَيْفَةُ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَدْنُوَ
حَتَّى أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِرِجْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ،
فَثَنَا ثَوْبَهُ حَتَّى دَفِئَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقَوْمِ، فَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ فَتَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَأَقَرَّ
أَعْيُنَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ شَدِيدًا بَلَاؤُهُمْ مِمَّا
لَقُوا مِنْ مُحَاصَرَةِ الْعَدُوِّ وَكَانُوا حَاصَرُوهُمْ فِي شِتَاءٍ
شَدِيدٍ فَرَجَعُوا مَجْهُودِينَ فَوَضَعُوا السِّلَاحَ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُلَاثَةَ مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا
أَبِي قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَ مُوسَى بن عقبة
[ (15) ] ولما ذكروا فِي مَغَازِيهِمَا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَوَاهِدُ
فِي الْأَحَادِيثِ الْمَوْصُولَةِ وَفِي مَغَازِي مُحَمَّدِ بن إسحاق بن
يسار، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى مُفَرَّقَهً فِي
أَبْوَابٍ.
__________
[ (14) ] في (أ) رسمت: «دنا» .
[ (15) ] فقرات من سياق غزوة الأحزاب عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ في البداية
والنهاية، وسردها ابن عبد البر مختصرة في الدرر.
(3/407)
بَابُ تَحْزِيبِ الْأَحْزَابِ وَحَفْرِ
رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ
بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعُثْمَانَ بْنِ
يَهُوذَا، أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ
قَوْمِهِ، قَالُوا: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأحْزَابَ نَفَرًا مِنْ
بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ
وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عَمَّارٍ،
وَمِنْ بَنِي وَائِلٍ حَيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَوْسِ اللهِ، وَحْوَحُ
بْنُ عَمْرٍو، وَرِجَالٌ مِنْهُمْ لَا أَحْفَظُهُمْ، وَخَرَجُوا حَتَّى
قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رسول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَشِطُوا لِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا
سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ [ (1) ] ، فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ:
أَنْتُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمِ
بما اختلف فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، فَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟
فَقَالُوا: بَلْ، دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِيهِمْ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، إِلَى
قَوْلِهِ: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (أ) : «عليه» .
[ (2) ] الآيات الكريمات (51- 54) من سورة النساء.
(3/408)
وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حَسَدًا
لِلْعَرَبِ أَنْ جَعَلَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ
أَجَابُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجُوا حَتَّى
جَاءُوا غَطَفَانَ فَاسْتَصْرَخُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى أَنْ يُجَاهِدُوهُ مَعَهُمْ،
وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا تَابَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَوَاعَدُوهُمْ
[ (3) ] .
فَلَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ نَزَلُوا بِجَمْعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ
بِئْرٌ بِالْمَدِينَةِ، قَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،
وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ مَعَهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ
عَوْفٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَقْمَيْنِ إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، فَلَمَّا
نَزَلُوا بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَقَدْ كَانَ جَاءَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ بِمَا أَجْمَعَتْ [ (4) ] لَهُ
قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، فَضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ
فِيهِ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَجْرِ، وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ
فِيهِ فَدَأَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم وَدَأَبُوا،
وَأَبْطَأَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَنِ
الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ: رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
وَجَعَلُوا يُوَرُّونَ [ (5) ] بِالضَّعِيفِ مِنَ الْعَمَلِ،
فَيَتَسَلَّلُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِذْنٍ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَابَتِ الْنَائِبَةُ مِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا
بُدَّ مِنْهَا يَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ
وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي اللُّحُوقِ بِحَاجَتِهِ فَيَأْذَنُ لَهُ، فَإِذَا
قَضَى حَاجَتَهُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ رَغْبَةً فِي
الْخَيْرِ وَاحْتِسَابًا لَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
أُولَئِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ [ (6) ] .
فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ حَتَّى أَحْكَمُوهُ وَارْتُجِزَ فِيهِ
بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُقَالُ لَهُ جُعَيْلٌ فَسَمَّاهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم عمرا، فقالوا:
__________
[ (3) ] سيرة ابن هشام (3: 169) ، ونقله الحافظ ابن كثير مختصرا في التاريخ
(4: 94- 95) .
[ (4) ] في (ح) : «جمعت» .
[ (5) ] (يورّون) يستترون.
[ (6) ] الآيات (62- 64) من سورة النور.
(3/409)
سَمَّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرَا ...
وَكَانَ لِلْبَائْسِ يَوْمًا ظَهْرَا [ (7) ]
فَإِذَا مَرُّوا بِعَمْرٍو قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَمْرًا، وَإِذَا قَالُوا ظَهْرًا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرًا [ (8) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ [قَالَ] [ (9) ] : حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ
وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَيْدِيهِمْ،
فَقَالَ:
اللهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ للأنصار
والمهاجرة
فأجابوه:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا
أَبَدَا [ (10) ]
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ
شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ
وَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ فِي
غَدَاةٍ بَارِدَةٍ ولم يكن
__________
[ (7) ] البائس: الفقير، والظهر: القوة والمعونة، والضمير المستتر في
«سماه» وفي «كان» راجع إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم للبائس الفقير أكبر عون.
[ (8) ] هذه الأخبار في سيرة ابن هشام (3: 170- 171) ، وفي البداية
والنهاية (4: 95) .
[ (9) ] ليست في (ح) ، وكذا في سائر الخبر.
[ (10) ] أنظر الحاشية التالية.
(3/410)
لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ،
فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: -
اللهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ
وَالْمُهَاجِرَهْ
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا
أَبَدَا.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَوْجُهٍ عَنْ حُمَيْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ
أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ
[ (11) ] .
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
السُّلَمِيُّ إِمْلَاءً، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي
ابْنَ نُجَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَصْحَابَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُونَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْإِسْلَامِ [ (12) ] .
وَقَالَ حُمَيْدٌ: عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا. وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
اللهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ
وَالْمُهَاجِرَهْ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ.
أَخْبَرَنَا أبو عبد اللَّه الْحَافِظُ، [قَالَ] [ (13) ] : أَخْبَرَنَا
أَبُو عمرو بن أبي
__________
[ (11) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي (29) باب غزوة الخندق، الحديث
(4099) ، فتح الباري (7: 392) .
[ (12) ] أخرجه مسلم في: 32- كتاب الجهاد والسير، (44) باب غزوة الأحزاب،
الحديث (130) ، ص (1432) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عن بهز، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.
[ (13) ] ليست في (ح) .
(3/411)
جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
يَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ
عَلَى مُتُونِهِمْ، ويقولون:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَا بَقِينَا
أَبَدَا.
قَالَ وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ
يُحَيِّيهِمْ:
اللهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ. فَبَارِكْ فِي الْأَنْصَارِ
والمهاجرة قال: ويؤتون بمليء [ (14) ] جفنتين شعيرا يضع لَهُمْ بِإِهَالَةٍ
سَنِخَةٍ [ (15) ] ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ [ (16) ] وَلَهَا رِيحٌ
مُنْكَرَةٌ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ [ (17) ] ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ،
عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ
سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ، وَهُمْ يَحْفِرُونَ
وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اللهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عن قتيبة [ (18) ] .
__________
[ (14) ] في (أ) رسمت: بملإ.
[ (15) ] (الإهالة) الزيت والشحم، (السنخة) المتغيرة الريح والطعم.
[ (16) ] (بشعة في الحلق) : كريهة الطعم.
[ (17) ] رواه البخاري في: 64- كتاب المغازي، (29) باب غزوة الخندق، الحديث
(4100) ، فتح الباري (7: 392) .
[ (18) ] أخرجه البخاري في الموضع السابق، الحديث رقم (4098) ، فتح الباري
(7: 392) .
(3/412)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ،
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ [ (19) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه الْأَدِيبُ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو خَلِيفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ
يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ
مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ
بَطْنِهِ، وهو يقول:
اللهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهتدينا ... لا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ
لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلِي قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذْ أَرَادُوا فِتْنَةً
أَبَيْنَا
رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: [أَبَيْنَا، أَبَيْنَا] [ (20) ] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ [ (21) ]
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ أَوْجُهٍ عَنْ شُعْبَةَ [ (22) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ [قَالَ]
: [ (23) ] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ
قَالَ: حدثنا أبو
__________
[ (19) ] مسلم عن القعنبي، في: 32- كتاب الجهاد والسير، (44) باب غزوة
الأحزاب، الحديث (126) ، ص (1431) .
[ (20) ] الزيادة من صحيح البخاري.
[ (21) ] البخاري عن أبي الوليد في: 56- كتاب الجهاد، (34) باب حفر الخندق،
الحديث (2836) ، فتح الباري (6: 46) .
[ (22) ] البخاري عن حفص بن عمر، عن شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن
البراء- فتح الباري (6:
46) ، البخاري عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عن شعبة، ... في 64: كتاب
المغازي (29) باب غزوة الخندق، الحديث (4104) ، فتح الباري (7: 399) .
مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المثنى، وابن بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جعفر، عن شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن البراء، في:
32- كتاب الجهاد والسير، (44) باب غزوة الأحزاب، الحديث (125) ، ص (1430) .
[ (23) ] ليست في (ح) ، وكذا في سائر الخبر.
(3/413)
الْأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ، حَتَّى
وَارَى التُّرَابُ شَعْرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ، وَهُوَ
يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّه بْنِ رَوَاحَةَ فَذَكَرَ الْأَبْيَاتَ
بِمِثْلِ رِوَايَةِ شُعْبَةَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً
أَبَيْنَا
يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ مُسَدَّدٍ [ (24) ] .
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ
بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ
سَلْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي
الْخَنْدَقِ وَقَالَ:
بِسْمِ اللَّه وَبِهِ هُدِينَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا.
فَأَحَبُّ رَبًّا وأحبّ دينا [ (25) ] .
__________
[ (24) ] البخاري عن مسدد، في: 56- كتاب الجهاد، (161) باب الرجز في الحرب،
الحديث (3034) ، فتح الباري (6: 160) .
[ (25) ] نقله الصالحي في السيرة الشامية (4: 517) ، وجاء في آخره:
«يا حبّذا ربا وحبّ دِينَا» .
(3/414)
بَابُ مَا ظَهَرَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ
مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَآثَارِ الصِّدْقِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: [ (1) ] حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَكَانَ فِي الْحَفْرِ بِالْخَنْدَقِ أَحَادِيثُ
بَلَغَتْنِي فِيهَا عِبْرَةٌ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، وَعَايَنَ ذَلِكَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ.
وَكَانَ مِمَّا بَلَغَنِي أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّه كَانَ
يُحَدِّثُ أَنَّهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ [
(2) ] فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَدَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَفَلَ فِيهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ
اللَّه أَنْ يَدْعُوَ، ثُمَّ نَضَحَ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ
الْكُدْيَةِ، وَقَالَ مَنْ حَضَرَهَا: فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ
لَانْهَالَتْ حَتَّى عَادَتْ كَالْكَثِبِ مَا تَرُدُّ فَأْسًا وَلَا
مِسْحَاةً [ (3) ] .
أَخْبَرَنَا أبو عبد اللَّه الْحَافِظُ، وأَبُو بَكْرٍ: أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَاضِي، قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابن عبد الجبار،
__________
[ (1) ] في (ح) بدون (قال) ، وكذا في سائر الخبر.
[ (2) ] الكدية: الصخرة العظيمة.
[ (3) ] الخبر في سيرة ابن هشام (3: 171- 172) .
(3/415)
قَالَ: [ (4) ] حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا [ (5) ] أَيْمَنُ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّه يَقُولُ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ
فَعَرَضَتْ فِيهِ كَذَّانَةٌ وَهِيَ الْجَبَلُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ
اللَّه إِنَّ كَذَّانَةً قَدْ عَرَضَتْ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وسلم: رُشُّوا عَلَيْهَا، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهَا وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ
بِحَجَرٍ مِنَ الْجُوعِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ فَسَمَّى
ثَلَاثًا ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ [ (6) ] فَقُلْتُ لَهُ:
ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه إِلَى الْمَنْزِلِ.
فَفَعَلَ [ (7) ] ، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ [ (8) ] : هَلْ عِنْدَكِ مِنْ
شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: عِنْدِي صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٍ [ (9) ] ،
فَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ وَعَجَنَتْهُ، وَذَكَّتِ الْعَنَاقَ، وَسَلَخَتْهَا،
وَخَلَّيْتُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم [ (10) ] ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ
سَاعَةً، ثُمَّ قُلْتُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه فَفَعَلَ،
فَأَتَيْتُ الْمَرْأَةَ فَإِذَا الْعَجِينُ وَاللَّحْمُ قَدْ أَمْكَنَا،
فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُلْتُ: إِنَّ عِنْدِي طُعَيِّمًا [ (11) ] لَنَا، فَقُمْ يَا رَسُولَ
اللَّه أَنْتَ وَرَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَقَالَ: وَكَمْ هُوَ؟
فَقُلْتُ: صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَعَنَاقٌ، فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ
جَمِيعًا: قُومُوا إِلَى جَابِرٍ! فَقَامُوا، فَلَقِيتُ مِنَ الْحَيَاءِ
مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّه، فَقُلْتُ: جَاءَ بِالْخَلْقِ عَلَى
صَاعِ شَعِيرٍ وَعَنَاقٍ! فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَتِي أَقُولُ:
افْتَضَحْتُ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالجند
__________
[ (4) ] ليست في (ح) .
[ (5) ] في (ح) : «حدثني» .
[ (6) ] أي رملا سائلا.
[ (7) ] من هنا وحتى نهاية الباب سقط من نسخة (أ) .
[ (8) ] في البخاري «فقلت لامرأتي» ، وقال الحافظ بن حجر: «هي سهيلة بنت
مسعود الأنصارية» .
[ (9) ] (العناق) : الأنثى من المعز.
[ (10) ] في الصحيح: «ثم جئت النبي صلى اللَّه عليه وسلم والعجين قد انكسر،
والبرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج» .
[ (11) ] للمبالغة في تصغيره.
(3/416)
أَجْمَعِينَ، فَقَالَتْ: هَلْ كَانَ
سَأَلَكَ كَمْ طَعَامُكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتِ: اللَّه وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَدْ أَخْبَرْنَاهُ مَا عِنْدَنَا فَكَشَفَتْ عَنِّي غَمًّا
شَدِيدًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: خُذِي وَدَعِينِي مِنَ اللَّحْمِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّه عليه وسلم يَثْرُدُ، وَيَغْرِفُ اللَّحْمَ، ثُمَّ يُخَمِّرُ هَذَا،
وَيُخَمِّرُ هَذَا، فَمَا زَالَ يُقَرِّبُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى شَبِعُوا
أَجْمَعِينَ، وَيَعُودُ التَّنُّورُ وَالْقِدْرُ أَمْلَأَ مَا كَانَا،
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلِي
وَأَهْدِي.
فَلَمْ نَزَلْ نَأْكُلُ وَنُهْدِي يَوْمَنَا أَجْمَعَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ
عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ [ (12) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حُدِّثْتُ
عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْخَنْدَقِ
[فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ] [ (13) ] ، فَعَطَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنِّي، فَلَمَّا رَآنِي
أَضْرِبُ، وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ
مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً فَلَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ
بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةٌ
أُخْرَى ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةٌ أُخْرَى،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا هَذَا الَّذِي
رَأَيْتُ يَلْمَعُ تَحْتَ الْمِعْوَلِ، وَأَنْتَ تَضْرِبُ بِهِ؟ فَقَالَ:
أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ:
أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ- فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا
الْيَمَنَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فإن
__________
[ (12) ] البخاري عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى في: 64- كتاب المغازي (29)
باب غزوة الخندق، فتح الباري (7: 395) ، ورواية المصنف هنا فيها اختلاف
لفظي يسير.
[ (13) ] من سيرة ابن هشام (3: 173) .
(3/417)
اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ- فَتَحَ عَلَيَّ
بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَإِنَّ اللَّه
فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ [ (14) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَزَمَنِ عُثْمَانَ،
وَمَا بَعْدَهُ: افْتَتِحُوا مَا بَدَا لَكُمْ فو الذي نَفْسُ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، ما افتتحهم مِنْ مَدِينَةٍ وَلَا تَفْتَتِحُونَهَا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ- وَقَدْ أَعْطَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِحَهَا» [ (15) ] .
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارَ
مِنْ قِصَّةِ سَلْمَانَ قَدْ ذكرنا معناه منقول عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَبِي
الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ- رَحِمَهُ اللَّه-
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَلَّوْنَ المقري بِبَغْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّه ابن عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه
وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ عَامَ الْأَحْزَابِ مِنْ أُجُمِ السَّمُرِ طَرَفِ
بَنِي حَارِثَةَ حِينَ بَلَغَ الْمِدَادَ، ثُمَّ قَطَعَ أَرْبَعِينَ
ذِرَاعًا بَيْنَ كُلِّ عَشَرَةٍ، فَاخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا قَوِيًّا،
فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْمُهَاجِرُونَ:
سَلْمَانُ مِنَّا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: سَلْمَانُ مِنَّا
أَهْلَ الْبَيْتِ [ (16) ] .
__________
[ (14) ] رواه ابن هشام في السيرة (3: 173) .
[ (15) ] سيرة ابن هشام (3: 173) .
[ (16) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 598) ، وقال الذهبي: «سنده ضعيف»
.
قلت: في سنده: كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المزني
المدني، قال ابن معين: «ليس بشيء» ، وقال الشافعي وأبو داود: «ركن من أركان
الكذب» ، وضرب أحمد على حديثه.
وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن حبان: «له عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ- نسخة موضوعة» ميزان الاعتدال (3: 407) .
(3/418)
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ [ (17) ] : فكنت
أَنَا، وَسَلْمَانُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ
مُقَرِّنٍ، وَسِتَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أربعين ذراعا فحضرنا حَتَّى
إِذَا بَلَغْنَا الثُّدِيَّ أَخْرَجَ اللَّه مِنْ بَطْنِ الْخَنْدَقِ
صَخْرَةً بَيْضَاءَ مُدَوَّرَةً، فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا، وَشَقَّتْ
عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا سَلْمَانُ! ارْقَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ خَبَرَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ،
فَإِنَّا إِنْ نَعْدِلْ عَنْهَا فَإِنَّ الْمَعْدَلَ قَرِيبٌ، وَإِمَّا
أَنْ يَأْمُرَنَا فِيهَا بِأَمْرِهِ فَإِنَّا لَا نُحِبُّ أَنْ نُجَاوِزَ
خَطَّهُ، فَرَقِيَ سَلْمَانُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ضَارِبٌ عَلَيْهِ قُبَّةً تُرْكِيَّةً،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا خَرَجَتْ
صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ مِنَ الْخَنْدَقِ مروه فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا،
وَشَقَّتْ عَلَيْنَا حَتَّى مَا يَحِيكُ فِيهَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ،
فَمُرْنَا فِيهَا بِأَمْرِكَ، فَإِنَّا لَا نُحِبُّ أَنْ نُجَاوِزَ
خَطَّكَ، فَهَبَطَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
سَلْمَانَ فِي الْخَنْدَقِ، وَرَقِينَا عَنِ الشِّقَّةِ فِي شِقَّةِ
الْخَنْدَقِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلم الْمِعْوَلَ
مِنْ سَلْمَانَ فَضَرَبَ الصَّخْرَةَ ضَرْبَةً صَدَعَهَا، وَبَرَقَتْ
مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا- يَعْنِي لَابَتَيِ
الْمَدِينَةِ، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ،
فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةَ
فَتْحٍ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثَّانِيَةَ، فَصَدَعَهَا وَبَرَقَ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ لَهَا مَا
بَيْنَ لَابَتَيْهَا حتى لكأنّ مصاحبا فِي جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ،
فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَكْبِيرَةَ
فَتْحٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثَّالِثَةَ، فَكَسَرَهَا، وَبَرْقَ مِنْهَا بَرْقَةٌ أَضَاءَ مَا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا، حَتَّى لَكَأَنَّ مِصْبَاحًا فِي جَوْفِ بَيْتٍ مُظْلِمٍ،
فَكَبَّرَ رسول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَةَ فَتْحٍ،
فكبرّ الْمُسْلِمُونَ.
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ سَلْمَانَ فَرَقِيَ
فَقَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رسول اللَّه! لقد
__________
[ (17) ] هو عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني، ذكر ابن سعد أنه شهد غزوة
الأبواء، ويقال: أول مشاهد الخندق، ومات في ولاية معاوية الإصابة (3: 9) .
(3/419)
رَأَيْتُ شَيْئًا مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ،
فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إِلَى الْقَوْمِ،
فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا يَقُولُ سَلْمَانُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا
رَسُولَ اللَّه بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا، قَدْ رَأَيْنَاكَ تَضْرِبُ،
فَخَرَجَ بَرْقٌ كَالْمَوْجِ فَرَأَيْنَاكَ تُكَبِّرُ، وَلَا نَرَى شَيْئًا
غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَدَقْتُمْ، ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الْأُولَى،
فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قصور الحيرة، ومدائن
كِسْرَى، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ
أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا.
ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّانِيَةَ، فَبَرَقَ الَّذِي رَأَيْتُمْ
أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ الْحُمْرِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ كَأَنَّهَا
أَنْيَابُ الْكِلَابِ، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-
أَنَّ أمتي ظاهرة عليها.
ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِيَ الثَّالِثَةَ فَبَرَقَ مِنْهَا الَّذِي
رَأَيْتُمْ، أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ
الْكِلَابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ أُمَّتِي
ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا، يَبْلُغُهُمُ النَّصْرُ، وَأَبْشِرُوا
يَبْلُغُهُمُ النَّصْرُ، وَأَبْشِرُوا يَبْلُغُهُمُ النَّصْرُ.
فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ للَّه مَوْعَودٌ
صَادِقٌ بِأَنَّ اللَّه وَعَدَنَا النَّصْرَ بَعْدَ الْحَصْرِ، فَطَلَعْتِ
الْأَحْزَابُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً
وَتَسْلِيماً [ (18) ] .
وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَّا تَعْجَبُونَ: يُحَدِّثُكُمْ
وَيُمَنِّيكُمْ، وَيَعِدُكُمْ بِالْبَاطِلِ، يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ بَصُرَ
مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ، وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا
تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، وَلَا
تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبْرُزُوا!! وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ: وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ (19) ] .
__________
[ (18) ] سورة الأحزاب [22] .
[ (19) ] سورة الأحزاب [12] .
(3/420)
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
هَوْذَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ [ (20) ]
الزَّهْرَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ حِينَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَ لَنَا فِي
بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا
الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عليه وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ:
بِسْمِ اللَّه، وَضَرَبَ ضَرْبَةً، فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ: اللَّه
أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، واللَّه إني لا بصر قُصُورَهَا
الْحُمْرَ إِنْ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، فَقَطَعَ ثُلُثًا
آخَرَ، فَقَالَ: اللَّه أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، واللَّه
إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ، ثُمَّ ضَرَبَ
الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّه، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ،
فَقَالَ: اللَّه أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، واللَّه إِنِّي
لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ [ (21) ] .
__________
[ (20) ] هو ميمون مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سمرة، قال ابن معين: لا
شيء، وضعفه العقيلي. الميزان (4: 235) .
[ (21) ] أخرجه النسائي في السير في (السنن الكبرى) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الأعلى، عن معتمر، عن عوف، عن ميمون، عن البراء ... تحفة الأشراف
بمعرفة الأطراف (2: 65) .
(3/421)
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللهم يسر يا كريم
بَابُ مَا ظَهَرَ فِي الطَّعَامِ الَّذِي دُعِيَ إِلَيْهِ أَيَّامَ
الْخَنْدَقِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَآثَارِ النُّبُوَّةِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ
الْعَلَوِيُّ [- رَحِمَهُ اللَّه-] أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الشَّرْقِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه
بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه،
قَالَ: لَمَّا حَفَرَ النَّبِيُّ [- صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-]
وَأَصْحَابُهُ الْخَنْدَقَ أَصَابَ النَّبِيَّ [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] وَالْمُسْلِمِينَ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَمَكَثُوا ثَلَاثًا لَا
يَجِدُونَ طَعَامًا، حَتَّى رَبَطَ النبي [صلى اللَّه عليه وَسَلَّمَ]
عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنَ الْجُوعِ [ (1) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه الْأَدِيبُ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى،
حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ (ح) .
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَأَخْبَرَنِي الْحَسَنُ هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، حَدِّثْنِي
بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلم أرويه
__________
[ (1) ] رواه الإمام أحمد عن وكيع، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ،
عَنْ أَبِيهِ أيمن الحبشي مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ جابر بقصة الكدية،
وربط الحجر على بطنه الكريم، ونقله الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»
(4: 97) .
(3/422)
عَنْكَ، فَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم] [ (2) ] يَوْمَ الْخَنْدَقِ،
نَحْفِرُ فِيهِ، فَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ شَيْئًا،
وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ [ (3) ]
فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
فَقُلْتُ: هَذِهِ كُدْيَةٌ قَدْ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَرَشَشْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه
وَسَلَّمَ] وَبَطْنُهُ مَعْصُوبَةٌ بِحَجَرٍ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ
الْمِسْحَاةَ، ثُمَّ سَمَّى ثَلَاثًا، ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا [
(4) ] أَهْيَلَ! فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! ائْذَنْ لِي
[قَالَ فَأَذِنَ لِي] [ (5) ] . فَجِئْتُ امْرَأَتِي، فَقُلْتُ:
ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مِنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا صَبْرَ عَلَيْهِ، فَمَا عِنْدَكِ؟
قَالَتْ: عِنْدِي صَاعٌ [ (6) ] مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٌ. [ (7) ] . قَالَ:
فَطَحَنَّا الشَّعِيرَ، وَذَبَحْنَا الْعَنَاقَ، وَأَصْلَحْنَاهَا،
وَجَعَلْنَاهَا فِي الْبُرْمَةِ [ (8) ] ، وَعَجَنْتُ الشَّعِيرَ، ثُمَّ
رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وسلم] فلبث سَاعَةً
ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَأَذِنَ لِي فَجِئْتُ، فَإِذَا
الْعَجِينُ قَدْ أَمْكَنَ، فَأَمَرْتُهَا بِالْخُبْزِ، وَجَعَلْتُ
الْقِدْرَ عَلَى الْأَثَافِيِّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّه [صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ عِنْدَنَا
طُعَيِّمًا [ (9) ] لَنَا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ مَعِي أَنْتَ
وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مَعَكَ فَعَلْتَ، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ وَكَمْ هُوَ؟
قُلْتُ: صاع من شعير وعناق.
قَالَ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَقُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْبُرْمَةَ مِنَ
الْأَثَافِيِّ، وَلَا تُخْرِجِ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ،
ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: قُومُوا إِلَى بَيْتِ جابر.
__________
[ (2) ] ليست في (ص) .
[ (3) ] (الكدية) الأرض الصلبة.
[ (4) ] (الكثيب) : المجتمع من الرمل.
[ (5) ] الزيادة من (ص) .
[ (6) ] (الصاع) : مكيال، وهو خمسة أرطال وثلث.
[ (7) ] (العناق) : الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول.
[ (8) ] (البرمة) : القدر من الحجر، والجمع: برم.
[ (9) ] (طعيّم) : بتشديد التحتية على طريق المبالغة في تحقيره.
(3/423)
قَالَ فَاسْتَحَيْتُ [حَيَاءً] [ (10) ]
حَتَّى لَا يَعْلَمَهُ إِلَّا اللَّه، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: ثَكِلَتْكِ
أُمُّكِ، وَقَدْ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
وَأَصْحَابُهُ أَجْمَعُونَ، فَقَالَتْ: أَكَانَ رَسُولِ اللَّه [صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] سَأَلَكَ عَنِ الطَّعَامِ؟ قُلْتُ نَعَمْ.
قَالَتِ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ
عِنْدَكَ، فَذَهَبَ عَنِّي بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ قُلْتُ: لَقَدْ
صَدَقْتِ. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم] فَدَخَلَ
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ لَا تَضَاغَطُوا [ (11) ] ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَى
التَّنُّورِ وَعَلَى الْبُرْمَةِ، فَجَعَلْنَا نَأْخُذُ مِنَ التَّنُّورِ
الْخُبْزَ، وَنَأْخُذُ اللَّحْمَ مِنَ الْبُرْمَةِ، فَنَثْرُدُ وَنَغْرِفُ،
وَنُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وسلم]
: لِيَجْلِسْ عَلَى الصَّحْفَةِ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ، فَلَمَّا
أَكَلُوا كَشَفْنَا التَّنُّورَ وَالْبُرْمَةَ، فَإِذَا هُمَا قَدْ عَادَا
إِلَى أَمْلَأِ مَا كَانَا فَنَثْرُدُ وَنَغْرِفُ وَنُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ،
فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّمَا فَتَحْنَا التَّنُّورَ وَكَشَفْنَا
عَنِ البرمة، وجدناهما أملاء مَا كَانَا حَتَّى شَبِعَ الْمُسْلِمُونَ،
مِنْهَا وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ
أَصَابَتْهُمْ مَخْمَصَةٌ [ (12) ] فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا. فَلَمْ نَزَلْ
يَوْمَنَا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ.
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أنهم كانوا ثمان مائة، أَوْ ثَلَاثَمِائَةٍ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ
عَبْدِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْعَدَدَ فِي آخِرِهِ [
(13) ] .
أَخْبَرَنَا أبو عبد اللَّه الْحَافِظُ، وأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَاضِي، قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جابر بن
__________
[ (10) ] الزيادة من (ص) فقط.
[ (11) ] (لا تضاغطوا) لا تزدحموا.
[ (12) ] (المخمصة) : الجوع.
[ (13) ] البخاري عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى في: 64- كتاب المغازي (29)
باب غزوة الخندق، الحديث (4101) ، فتح الباري (17: 395) .
(3/424)
عَبْدِ اللَّه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ،
نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] أَخَذَ حَجَرًا فَجَعَلَهُ بَيْنَ بَطْنِهِ وَإِزَارِهِ،
يُقِيمُ بَطْنَهُ مِنَ الْجُوعِ.
فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه ائْذَنْ لِي فَإِنَّ
لِي حَاجَةً فِي أَهْلِي، فَأَتَيْتُ الْمَرْأَةَ فَقُلْتُ: قَدْ رَأَيْتُ
مِنْ رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَمْرًا غَاظَنِي،
فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ: هَذِهِ الْعَنَاقُ فَاذْبَحْهَا،
وَهَذَا صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ فَاطْحَنْهُ، فَطَحَنْتُهُ وَذَبَحْتُ
الْعَنَاقَ، وَقُلْتُ اطْبُخِي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّه [صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَاسْتَتْبَعْتُهُ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي قَدْ ذَبَحْتُ عَنَاقًا، وَطَحَنْتُ
صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَنَادَى رَسُولُ اللَّه [صلى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فِي الْقَوْمِ: أَلَا أَجِيبُوا جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّه. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَقُلْتُ قَدِ
افْتَضَحْتُ، جَاءَكِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْ مَعَهُ فَقَالَتْ بَلَّغْتَهُ وَبَيَّنْتَ لَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَتْ: فَارْجِعْ إِلَيْهِ فَبَيِّنْ لَهُ. فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّه إِنَّمَا هِيَ عَنَاقٌ، وَصَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ:
فَارْجِعْ. وَلَا تُحَرِّكَنَّ شَيْئًا مِنَ التَّنُّورِ، وَلَا من القدر
حتى أتاها، وَاسْتَعِرْ صِحَافًا.
فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَدَعَا
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْقِدْرِ، وَالتَّنُّورِ، ثُمَّ قَالَ:
اخْرُجِي وَاثْرُدِي، ثُمَّ أَقْعَدَهُمْ عَشَرَةً عَشَرَةً،
فَأَدْخَلَهُمْ فَأَكَلُوا. وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ. وَأَكَلْنَا
وَأَهْدَيْنَا لِجِيرَانِنَا، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ذَهَبَ ذَلِكَ [ (14) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح) .
قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ- وَاللَّفْظُ
لَهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ [حَدَّثَنَا] [ (15) ] عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدَ
بْنَ مِينَا، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبد
__________
[ (14) ] المستدرك (3: 31) ، البداية والنهاية (4: 97) .
[ (15) ] ساقطة من (أ) فقط.
(3/425)
اللَّه يَقُولُ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ
رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وسلم] خَمَصًا شَدِيدًا
قَالَ:
[فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ
اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] خَمَصًا شَدِيدًا] [ (16) ]
فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا
بَهِيمَةٌ دَاجِنٌ، قَالَ: فَذَبَحْتُهَا.
وَطَبَخَتْ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا،
ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ]
فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] وَمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّه قَدْ ذَبَحْنَا بَهِيمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ
كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، قَالَ: فَصَاحَ
رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وسلم] يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ
جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا [ (17) ] فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ [ (18) ] .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : لَا
تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ، حَتَّى أَجِيءَ.
قَالَ: فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّه [صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي- فَقَالَتْ: بِكَ
وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَهُ
عَجِينًا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، يَعْنِي ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا
فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ
مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ.
فَأُقْسِمُ بِاللهِ لأكلوا حتى تركوا واتحفزوا أَوْ قَالَ: انْحَرَفُوا.
وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ. وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ
كَمَا هُوَ [ (19) ] .
حَدِيثُ الدُّورِيِّ مُخْتَصَرٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [ (20) ] فِي
الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ.
__________
[ (16) ] ما بين الحاصرتين ساقطة من (ح) .
[ (17) ] (السّور) بضم السين المهملة وسكون الواو بغير همز، وهو هنا الصنيع
بالفارسية كما جزم به البخاري.
[ (18) ] (حي هلا) : كلمة استدعاء فيها حث، أي: هلموا مسرعين.
[ (19) ] بهذا السياق والإسناد أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 31) ، وقال:
«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» .
[ (20) ] أخرجه البخاري في: 56- كتاب الجهاد باب من تكلم الفارسية، وفي
المغازي، (29) باب غزوة الخندق كلاهما عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ.
(3/426)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ
الشَّاعِرِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ [ (21) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
مِينَا، عَنِ ابنة بشير بن سعيد. قَالَتْ: بَعَثَتْنِي أُمِّي بِتَمْرٍ فِي
طَرَفِ ثَوْبِي إِلَى أَبِي وَخَالِي وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ،
فَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه [صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ] ،
فَنَادَانِي، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخَذَ التَّمْرَ. مِنِّي فِي كَفَّيْهِ،
وَبَسَطَ ثَوْبًا فَنَثَرَهُ عَلَيْهِ، فَتَسَاقَطَ فِي جَوَانِبِهِ، ثُمَّ
أَمَرَ بِأَهْلِ الْخَنْدَقِ فَاجْتَمَعُوا، وَأَكَلُوا مِنْهُ. حَتَّى
صَدَرُوا عنه [ (22) ] .
__________
[ (21) ] وأخرجه مسلم في: 36- كتاب الأشربة، (20) باب باب جواز استتباعه
غيره، إلى دار من يثق برضاه بذلك، الحديث (141) عَنْ حَجَّاجِ بْنِ
الشَّاعِرِ. ص (1610) .
[ (22) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (3: 172) ، ونقله الحافظ ابن كثير
في «البداية والنهاية» (4:
96) .
(3/427)
بَابُ مَجِيءِ الْأَحْزَابِ وَنَقْضِ بَنِي
قُرَيْظَةَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه (صلى اللَّه عليه
وسلم) مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّه الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عن ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ
الْأَوَّلِ- يُرِيدُ إِسْنَادَهُ الَّذِي ذُكِرَ في تخريب الْأَحْزَابِ-
قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْمُشْرِكُونَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ عَسْكَرَهُ بَيْنَ الْخَنْدَقِ،
وَسَلْعٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ
أَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَهْلِ
تِهَامَةَ، وَغَطَفَانَ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى
نَزَلُوا بَابَ نُعْمَانَ إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى سَلْعٍ
وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ.
وَأَمَرَ بِالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الْآطَامِ، وَخَرَجَ
حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ صَاحِبَ عَقْدِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَهْدِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ كَعْبٌ أَغْلَقَ
حِصْنَهُ دُونَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ. افْتَحْ لِي، حَتَّى
أَدْخُلَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ. إِنَّكَ امرؤ مشؤوم،
وَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي بِكَ، وَلَا بِمَا جِئْتَنِي بِهِ، إِنِّي لَمْ
أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا، وَوَفَاءً. وَقَدْ وَادَعَنِي
وَوَادَعْتُهُ. فَدَعْنِي وَارْجِعْ عَنِّي.
فَلَا حَاجَةَ لِي بِكَ. فَقَالَ: واللَّه إِنْ غَلَقْتَ دُونِي إِلَّا
عَنْ جَشِيشَتِكَ [ (1) ] أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا، فَأَحْفَظَهُ
فَفَتَحَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قال:
__________
[ (1) ] (الجشيشة) : طعام يصنع من البر الخشن، وقد تقدمت.
(3/428)
وَيْحَكَ يَا كَعْبُ. جِئْتُكَ بِعِزِّ
الدَّهْرِ، بِقُرَيْشٍ مَعَهَا قَادَتُهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهَا بِرُومَةَ،
وَجِئْتُكَ بِغَطَفَانَ، عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، حَتَّى
أَنْزَلْتُهَا إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ. جِئْتُكَ بِبَحْرٍ طَامٍ [ (2) ] لَا
يَرُدُّهُ شَيْءٌ.
فَقَالَ: جِئْتَنِي واللَّه بِالذُّلِ، وَبِجَهَامٍ [ (3) ] . قَدْ هَرَاقَ
[ (4) ] مَاؤُهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيْلَكَ! فَدَعْنِي وَمَا أَنَا
عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي بِكَ، وَلَا بِمَا تَدْعُونِي
إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ يَفْتِلُهُ فِي
الذِّرْوَةِ، وَالْغَارِبِ [ (5) ] حَتَّى أَطَاعَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ
حُيَيٌّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ
قَبْلَ أَنْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا لَأَدْخُلَنَّ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ
حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ، فَنَقَضَ كَعْبٌ الْعَهْدَ، وَأَظْهَرَ
الْبَرَاءَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمِمَّا كَانَ [ (6) ] بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ [ (7) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَبَرُ كَعْبٍ، وَنَقْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ، بَعَثَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ،
وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَهُوَ سَيِّدُ
الْأَوْسِ، وَكَانَ مَعَهُمَا فِيمَا يَذْكُرُونَ. وَهُوَ تَبَعٌ لَهُمَا-
خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَةَ. فَقَالَ، ائْتُوا
[ (8) ] هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَانْظُرُوا، فَإِنْ كَانُوا عَلَى
الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَأَعْلِنُوهُ. وَإِنْ كَانُوا
عَلَى مَا بَلَغَنَا عَنْهُمْ، فَالْحَنُوا لِي عَنْهُمْ لَحْنًا
أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا [ (9) ] فِي أَعْضَادِ الْمُسْلِمِينَ،
__________
[ (2) ] (البحر الطامي) : المرتفع الكثير الماء، أراد أن يشبه عدد القوم في
كثرته بالبحر لأنه يغطي جوانبه كلها.
[ (3) ] الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
[ (4) ] (هراق) : صبّ، يريد أنه خال من المطر.
[ (5) ] (يَفْتِلُهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ) أي لم يزل يخادعه كما
يخادع البعير إذا كان نافرا.
[ (6) ] في (أ) و (ص) : «وما» ، وأثبتنا ما في (ح) وهو موافق لسيرة ابن
هشام.
[ (7) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (3: 173- 175) .
[ (8) ] في سيرة ابن هشام «انطلقوا» .
[ (9) ] (فتّ في عضده) إذا ضعفه ووهنه.
(3/429)
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ
وَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ، وَقَعُوا بِرَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا:
لَا عَقْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَلَا عَهْدَ فَبَادَأَهُمْ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ، وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حَدٌّ بِالْمُشَاتَمَةِ. فَقَالَ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ: دَعْهُمْ عَنْكَ. فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى [
(10) ] مِنَ الْمُشَاتَمَةِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَةُ.
يُرِيدُونَ مَا فَعَلَ عَضَلٌ وَالْقَارَةُ، بِخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّه
أَكْبَرُ. أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ [ (11) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى
عُيَيْنَةَ بْنِ حصن والحارث بن عوف، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ.
فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا وَمَنْ
مَعَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الصُّلْحُ، حَتَّى كَتَبُوا
الْكِتَابَ، وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ، وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ إِلَّا
الْمُرَاوَضَةُ، وَفِي ذَلِكَ فَفَعَلَا [ (12) ] .
فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَفْعَلَ، بَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،
وَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ
اللَّه أَمْرٌ تَحُتُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَوْ شَيْءٌ أَمَرَكَ اللَّه بِهِ
لَا بُدَّ لَنَا مِنْ عَمِلٍ بِهِ، أَمْ شَيْءٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ فَقَالَ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم: لَا بَلْ لَكُمْ، واللَّه مَا أَصْنَعُ
ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ
وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ [ (13) ] مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ
أَكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ
اللَّه قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاللهِ،
وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّه وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ
لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إِلَّا قِرًى، أَوْ
شِرَاءً فَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّه بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَانَا لَهُ،
وَأَعَزَّنَا بِكَ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مالنا
__________
[ (10) ] في (ص) رسمت: «أربا» ، والمعنى: أكثر وأعظم.
[ (11) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (3: 175- 176) .
[ (12) ] رواه ابن هشام في السيرة (3: 176- 177) .
[ (13) ] (كالبوكم) : اشتدوا عليكم، والأصد فيه: الكلب، وهو السعار.
(3/430)
بهذا حاجة. فو الله لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا
السَّيْفَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم: فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ
الصَّحِيفَةَ، فَمَحَاهَا، ثُمَّ قَالَ:
لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا. فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَدُوُّهُمْ مُحَاصِرُوهُمْ
[ (14) ] .
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ
الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ. قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟
قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا- فَقَالُ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم:
إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ [ (15)
] .
__________
[ (14) ] سيرة ابن هشام (3: 177) ، ونقله ابن كثير في التاريخ (4: 104-
105) .
[ (15) ] الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ في المغازي، (باب)
غزوة الخندق، فتح الباري (7: 406) .
(3/431)
بَابُ مَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مُحَاصَرَةِ الْمُشْرِكِينَ
إِيَّاهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ،
وَالشِّدَّةِ حَتَّى أَظْهَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
مِنَ الرَّيْبِ وَالْخِيَانَةِ، وَحَتَّى شَغَلَ الْمُسْلِمِينَ
قِتَالُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ
مِنْهُمْ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، وَقَوْلِ رسول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] : الْحَرْبُ خَدْعَةٌ [ (1) ] وَإِرْسَالِ اللهِ تَعَالَى عَلَى
الْمُشْرِكِينَ الرِّيحَ وَالْجُنُودَ، حَتَّى رَجَعُوا خَائِبِينَ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبِسْطَامِيُّ،
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ: أَحْمَدُ بن
__________
[ (1) ] : (1) كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم أفصح العرب، فكان
يقول القول دون تصنع ولا تقليد، ولا يتكلف المعنى او يقصد التزيين، وكلامه
صلى الله عليه وسلم نتاج الحكمة، وغاية العقل، ومنتهى البلاغة.
وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أفصح القبائل وأخلصها منطقا، فَقَالَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: «أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في
بني سعد» .
وهذه العبارة «الحرب خدعة» هي من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ومن
أحاديثه التي ذهبت أمثالا، وكان لها تأثير كبير في اللغة.
ومن أمثالها من جوامع الكلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حمي الوطيس» .
وقوله:
«مات حتف أنفه» .
«إنما الأعمال بالنيات» .
«الدين النصيحة» .
«الصبر عند الصدمة الأولى» .
«آفة العلم النسيان» .
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وأمثالها كثير....
وهذه الأقوال الفرائد جرت منه صلّى الله عليه وسلم مجرى غيرها مما قذفه
الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، وهي قوة فطرية، تتميز بالإلهام عن
سائر العرب، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة.
(3/432)
إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ-
أَخْبَرَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ، وَابْنُ نَاجِيَةَ، قَالَا:
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجل: إِذْ جاؤُكُمْ
مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ،
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [ (2) ] قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
عَنْ عَبْدَةَ [ (3) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
وَجُنُوداً. لَمْ تَرَوْها [ (4) ] قَالَ: قَوْمُ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ
الْأَحْزَابِ.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ. وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [ (5) ] .
قَالَ: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ [ (6) ] ، قَالُوا: بُيُوتُنَا مَخْلِيَّةٌ [
(7) ] ، نَخْشَى عَلَيْهَا السَّرِقَةَ.
قَوْلُهُ: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ [ (8) ] . إِلَى آخِرِ
الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ أَنَّ
__________
[ (2) ] الآية الكريمة (10) من سورة الأحزاب.
[ (3) ] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي المغازي (29) باب غزوة الخندق، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شيبة، ومسلم أخرجه عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة،
في كتاب التفسير، الحديث (12) ، صحيح مسلم (4: 2316) .
[ (4) ] [الآية 9- سورة الأحزاب] .
[ (5) ] [الأحزاب- 13] .
[ (6) ] هم بنو حارثة بن الحارث، في قول ابن عباس، وقال يَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ: قَالَ ذلك أَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ عَلَى مَلَأٍ مِنْ قَوْمِهِ.
تفسير القرطبي (14: 148) .
[ (7) ] (فحلية) : ليست بحصينة، وهي مما يلي العدو، قال الجوهري: العورة كل
خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب.
[ (8) ] [الأحزاب- 22] .
(3/433)
الله عز وجل قَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [ (9) ] ،
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْبَلَاءُ حَيْثُ رَابَطُوا الْأَحْزَابُ فِي
الْخَنْدَقِ وَتَأَوَّلَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا
إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [ (10) ] .
__________
[ (9) ] [البقرة- 214] .
[ (10) ] قال القرطبي (14: 157) .
فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق قَالُوا: «هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ» ، قاله قتادة.
وقول ثان رواه كثير بن عبد الله بن عمرو الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَامَ ذكرت الأحزاب فقال: «أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّ أمتي ظاهرة عليها- يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى- فأبشروا
بالنصر» فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: الْحَمْدُ لله، موعد
صادق، إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر. فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون: «هذا ما
وعدنا الله ورسوله» ذكره الماوردي.
و «ما وعدنا» إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة. وان جعلتها مصدرا لم
تحتج الى عائد وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً قال الفراء: وما
زادهم النظر الى الأحزاب. وقال علي بن سليمان: «رأى» يدل على الرؤية،
وتأنيث الرؤية، غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب
وتسليما للقضاء، قاله الحسن. ولو قال: ما زادوهم لجاز.
ولما اشتدّ الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق، قام عليه السلام،
على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي، وتوقع ما وعده الله من
النصر وقال: «من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة» فلم يجبه احد. وقال ثانيا
وثالثا فلم يجبه احد، فنظر الى جانبه وقال: «من هذا» ؟ فقال حذيفة. فقال:
«ألم تسمع كلامي منذ الليلة» قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، منعني أن أجيبك
الضّرّ والقرّ، قال: «انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني
بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه
إليّ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني» . فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يده يقول:
«يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي
وحال أصحابي» . فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك»
فخر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو
يقول: «شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي» . وأخبره جبريل أن الله تعالى
مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك. قال
(3/434)
وأخبرنا أَبُو عَبْدِ اللهِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ حكيم الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْمُوَجِّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ. وَزُلْزِلُوا قال:
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ الآية [
(11) ] .
أخبرنا أبو عبد الله الْحَافِظُ، وأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْقَاضِي، قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حدثنا يونس ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ (ح) ويَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، وَعُثْمَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ يَهُوذَا- أَحَدِ بَنِي
قُرَيْظَةَ- عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ: قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ
قُشَيْرٍ- أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- وَكَأَنَّ مُحَمَّدًا يَرَى
أَنْ نَأْكُلَ مِنْ كُنُوزِ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَأَحَدُنَا لَا يَأْمَنُ
أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ. وَحَتَّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قيظيّ على
ملاء مِنْ قَوْمِهِ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.
وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، ائذن لنا، فنرجع
__________
[ (-) ]
حذيفة: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما
تركت لهم نارا إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصباء.
وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش: النجاء النجاء! وفعل كذلك عيينة
بن حصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس. وتفرقت الأحزاب، وَأَصْبَحَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم فعاد الى المدينة وبه من الشّعب ما
شاء الله، فجاءته فاطمة بغسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال: «وضعت
السلاح ولم تضعه أهل السماء، ما زلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء- ثم قال-
انْهَضْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» . وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا زلت اسمع
قعقعة السلاح حتى جاوزت الرّوحاء.
[ (11) ] راجع (8) و (9) و (10) . وقد تقدموا.
(3/435)
إِلَى نِسَائِنَا. وَأَبْنَائِنَا،
وَذَرَارِيِّنَا فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَّغَ عَنْهُمْ، مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ
الْبَلَاءِ يَذْكُرُ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَكِفَايَتَهُ إِيَّاهُمْ
بَعْدَ سُوءِ الظَّنِّ مِنْهُمْ، وَمَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ
النِّفَاقِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [ (12) ] أَيْ مِنْ فَوْقِكُمْ
فَأَرْسَلَ اللهُ [ (13) ] عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.
فَكَانَتِ الْجُنُودُ قُرَيْشًا، وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ،
وَكَانَتِ الْجُنُودُ الَّتِي أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرِّيحِ
الْمَلَائِكَةَ: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
إلى قوله: الظُّنُونَا فَالَّذِينَ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ بَنُو
قُرَيْظَةَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانَ.
«هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً إِلَى
قَوْلِهِ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً لِقَوْلِ
مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَأَصْحَابِهِ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَا أَهْلَ
يَثْرِبَ إِلَى قَوْلِهِ:
إِلَّا فِراراً لِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ- عَلَى
ذَلِكَ- مِنْ قَوْمِهِ [ (14) ] .
فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ
بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْبَلَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ إِلَّا الْحِصَارُ
وَالرِّمِّيَّا بِالنَّبْلِ، زَادَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي رِوَايَتِهِ
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ: إِلَّا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ
قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ عمرو ابن عَبْدِ وُدٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي
جَهْلٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ،
تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَى خُيُولِهِمْ، حَتَّى مَرُّوا
عَلَى مَنَازِلِ بَنِي كِنَانَةَ، وَقَفُوا، فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا
لِلْحَرْبِ يَا بَنِي كِنَانَةَ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنِ الْفُرْسَانُ
الْيَوْمَ، ثُمَّ أَقْبَلُوا تَعِيقُ [ (15) ] بِهِمْ خَيْلُهُمْ، حَتَّى
وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، فَقَالُوا: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ،
مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا.
__________
[ (12) ] [الأحزاب- 9] .
[ (13) ] هكذا بالنسخ المخطوطة، وفي التلاوة: «فأرسلنا» كما في حاشية (أ) و
(ح) .
[ (14) ] ذكره ابن هشام في السيرة (3: 198- 199) .
[ (15) ] (تعنق) : تسرع.
(3/436)
ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ
الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا، فَضَرَبُوا خُيُولَهُمْ فَاقْتَحَمُوا، فَجَالَتْ
فِي سَبْخَةٍ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمُ
الثَّغْرَةَ الَّتِي مِنْهَا اقْتَحَمُوا، فَأَقْبَلَتِ الْفَوَارِسُ
تُعْنِقُ نَحْوَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَارِسَ قُرَيْشٍ،
وَكَانَ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى ارْتُثَّ [ (16) ] ،
وَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، فَلَمَّا كَانَ
الْخَنْدَقُ خَرَجَ مُعْلَمًا [ (17) ] لِيُرَى مَشْهَدُهُ فَلَمَّا وَقَفَ
هُوَ وَخَيْلُهُ،
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا عَمْرُو قَدْ كُنْتَ تُعَاهِدُ
اللهَ لِقُرَيْشٍ، أَلَّا يَدْعُو رَجُلٌ إِلَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا
قَبِلْتَ مِنْهُ إِحْدَاهُمَا.
فَقَالَ عَمْرٌو: أَجَلْ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى
اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي
ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى الْبِرَازِ، قَالَ لَهُ:
يَا بن أخي لم؟ فو الله مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَكِنِّي وَاللهِ لَأُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَحَمِيَ
عَمْرٌو، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَجَاءَ
إِلَى عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا، وَتَجَاوَلَا، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، وَخَرَجَتْ
خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً هَارِبَةً، حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ [
(18) ] .
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ خُرُوجَهُمْ، وَدُعَاءَ عَمْرٍو إِلَى الْبِرَازِ
عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي الْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَقَالَ:
وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ
الْمَخْزُومِيُّ، وَاسْمُ أَبِي وَهْبٍ جَعْدَةُ، وَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ يَسْأَلُ الْمُبَارَزَةَ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً، فَشَقَّهُ باثنتين، حَتَّى فَلَّ فِي سَيْفَهِ
فَلًّا، فَانْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي امْرُؤٌ أَحْمِي وَأَحْتَمِي ... عَنِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى
الْأُمِّي [ (19) ]
__________
[ (16) ] (ارتث) : حمل جريحا من المعركة.
[ (17) ] (معلما) : «هو الذي يجعل لنفسه علاما وشعارا يعرف بهما» .
[ (18) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (3: 178- 179) ، ونقله ابن كثير في
التاريخ (4: 105) .
[ (19) ] البداية والنهاية (4: 107) عن ابن إسحاق.
(3/437)
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ عَلِيًّا طَعَنَهُ تَرْقُوَتَهُ، حَتَّى
أَخْرَجَهَا مِنْ مَرَاقِّهِ، فَمَاتَ فِي الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ
الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَشْتَرُونَ جِيفَتَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ لَكُمْ. لَا نَأْكُلُ ثَمَنَ الْمَوْتَى.
قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَنَادَى، مَنْ يُبَارِزُ
فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ،
أَظُنُّهُ عَمْرًا فَقَالَ: أَنَا لَهَا يَا نَبِيَّ اللهِ. فَقَالَ:
إِنَّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ، وَنَادَى عَمْرٌو، أَلَا رَجُلٌ وَهُوَ
يُؤَنِّبُهُمْ وَيَقُولُ أَيْنَ جَنَّتُكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ
مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا. أَفَلَا تُبْرِزُونَ إِلَيَّ رَجُلًا؟
فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: [أَنَا] [ (20) ] يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ:
اجْلِسْ، ثُمَّ نَادَى الثالثة، فقال:
وَلَقَدْ بُحِحْتُ مِنَ النِّدَاءِ ... بِجَمْعِكُمْ: هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفَتُ إِذْ جَبُنَ الْمُشَجَّعُ ... مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَلِذَاكَ إِنِّي لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرِّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيٌّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا، فَقَالَ: إِنَّهُ
عَمْرٌو. قَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى إِلَيْهِ. حَتَّى أَتَاهُ وهو يقول:
لا تعجلنّ فقد أتاك ... مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرُ عَاجِزْ
ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... وَالصِّدْقُ مَنْجَى [ (21) ] كُلِّ فَائِزْ
إِنِّي لأرجو أن أقيم ... عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضربة نجلاء ... يبقى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَنْ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا عَلِيٌّ. قَالَ: ابْنُ
عَبْدِ مناف فقال:
__________
[ (20) ] سقطت من (أ) .
[ (21) ] في (ح) رسمت: «منجا» .
(3/438)
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ:
غَيْرُكَ يَا بن أَخِي وَمِنْ أَعْمَامِكَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ،
فَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُهَرِيقَ دَمَكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ) : لَكِنِّي وَاللهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ أُهَرِيقَ دَمَكَ، فَغَضِبَ،
فَنَزَلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ
نَحْوَ عَلِيٍّ مُغْضَبًا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)
بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ وَعَمْرٌو فِي الدَّرَقَةِ فَقَدَّهَا، وَأَثْبَتَ
فِيهَا السَّيْفَ، وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، وَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى
حَبْلِ الْعَاتِقِ فَسَقَطَ، وَثَارَ الْعَجَاجُ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى الله عليه وسلم التَّكْبِيرَ، فَعَرَفَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ
قَتَلَهُ، فَتَمَّ عَلِيٌّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) يَقُولُ:
أَعَلَيَّ تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا ... عَنِّي وَعَنْهُمْ
أَخَّرُوا أَصْحَابِي
الْيَوْمَ يَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي ... وَمُصَمِّمٌ فِي
الرَّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
فَذَكَرَ أَبْيَاتًا آخِرِهُنَّ:
عَبَدَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ عَقْلِهِ ... وَعَبَدْتُ رَبَّ
مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) : هَلَّا اسْتَلَبْتَهُ دِرْعَهُ،
فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا. فَقَالَ: ضَرَبْتُهُ
فَاتَّقَانِي بِسَوَادِهِ، فَاسْتَحْيَيْتُ ابْنَ عَمِّي أَنْ
أَسْتَلِبَهُ، وَخَرَجَتْ خُيُولُهُ مُنْهَزِمَةً حَتَّى اقْتَحَمَتْ [
(22) ] مِنَ الْخَنْدَقِ [ (23) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ (رَحِمَهُ
اللهُ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ
الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا
مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: جُعِلْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسَاءِ والصبيان
في الأطم،
__________
[ (22) ] في (ص) و (ح) : «أقحمت» .
[ (23) ] عن المصنف نقله الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (4: 106-
107) .
(3/439)
يَعْنِي حِصْنًا، وَمَعِي عُمَرُ بْنُ
أَبِي سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُطَأْطِئُ لِي فَأَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِهِ،
فَأَنْظُرُ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يَقْتَتِلُونَ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ،
فَيَصْعَدُ فَوْقَ ظَهْرِي فَيَنْظُرُ.
قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى أَبِي وَهُوَ يَحْمِلُ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً
هَاهُنَا، فَمَا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا أَتَاهُ، فَلَمَّا أَمْسَى
جَاءَنَا إِلَى الْأُطُمِ قُلْتُ: يَا أَبَةِ! رَأَيْتُكَ الْيَوْمَ، وَمَا
تَصْنَعُ.
قَالَ: وَرَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ أَمَا إنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ لي أبويه. قال:
فِدًا لَكَ أَبِي وَأُمِّي [ (24) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا
حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ.
(ح) وأَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ
بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ،
قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ ابن سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَانَ: عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ
مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُتِلَ
يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
الله عليه وسلم أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ، وَنُعْطِيهِمُ اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خَيْرَ فِي
جَسَدِهِ، وَلَا فِي ثَمَنِهِ [ (25) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، وأَبُو بَكْرٍ: أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَهَا فِي الْحِصْنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ خَرَجُوا إِلَى الْخَنْدَقِ رَفَعُوا
الذراري
__________
[ (24) ] البداية والنهاية (4: 107- 108) عن المصنف.
[ (25) ] أخرجه الترمذي مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وقال: «غريب»
.
(3/440)
وَالنِّسَاءَ فِي الْحُصُونِ، مَخَافَةَ
الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَرَّ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
وَعَلَيْهِ دِرْعٌ لَهُ مُقَلَّصَةٌ [ (26) ] قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا
ذِرَاعُهُ، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ تَوَقَّدُ [ (27) ] ، وهو يقول:
لَبِّثْ قَلِيلًا فَيَشْهَدِ الْهَيْجَا حَمَلْ ... لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ
إِذَا حَانَ الْأَجَلْ [ (28) ]
فَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: الْحَقْ يَا بُنَيَّ، فَقَدْ وَاللهِ أَخَّرْتَ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أُمَّ سَعْدٍ لَوَدِدْتُ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ
كَانَتْ أَسْبَغَ [ (29) ] مِمَّا هِيَ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ
السَّهْمُ مِنْهُ.
زَادَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَرَمَاهُ
فِيمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ حَبَّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ
الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ، فَقَطَعَ مِنْ سَعْدٍ الْأَكْحَلَ [ (30) ] .
فَلَمَّا أَصَابَهُ، قَالَ: خُذْهَا مِنِّي، وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ،
وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ فَقَالَ [ (31) ] سَعْدٌ:
عَرَّقَ اللهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ. اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ
مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شيئا
__________
[ (26) ] (مقلصة) : «قصيرة» .
[ (27) ] يرفل بها: يريد يمشي بها متبخترا، وهذا بعض الروايات في هذه
الكلمة. ويروي «يرقد بها» بتشديد الدال المهملة، ويروي «يرمد بها» بالميم
وآخره دال مشددة،.
[ (28) ] لبث: فعل امر من التلبيث، وهو المكث والانتظار والاستهمال، وحمل-
بالحاء المهملة- اسم رجل. والرجز قديم تمثل به سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ
الله عنه هنا، وقد وقع في كثير من أصول الكتاب وفي تاريخ ابن كثير جمل
بالجيم وهو تصحيف، والهيجاء: الحرب وأصله ممدود فقصره حين اضطر، وحان: جاء
حينه ووقته.
[ (29) ] أسبغ: أكمل واضفى، والدرع السابغة: الكاملة الضافية التي تملأ
مكانها وتسر صاحبها.
[ (30) ] الأكحل: عرق في الدراع.
[ (31) ] تقابل اللوحة 142 من نسخة (ح) ، وهنا سماعات في حاشية النسخة. وقد
سبق ان ذكرناها في تقدمتنا للكتاب في السفر الأول.
(3/441)
فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ
أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ،
وَكَذَّبُوهُ، وَأَخْرَجُوهُ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ، فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، ولا تمتني تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ [ (32) ] .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَصَابَ سَعْدًا
يَوْمَئِذٍ بِالسَّهْمِ إِلَّا أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيُّ [ (33) ] ،
حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا ذَكَرَهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ [ (34) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الله الحافظ، وأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حدثنا يونس ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فِي فَارِعٍ حِصْنُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ مَعَنَا فِيهِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حَيْثُ
خَنْدَقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَمَرَّ بِنَا
رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يَطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ
بَنُو قُرَيْظَةَ، وَقَطَعَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ
عَنَّا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، وَالْمُسْلِمُونَ فِي
نُحُورِ عَدُوِّهِمْ، لا يستطيعون أن
__________
[ (32) ] الخبر رواه ابن هشام في السيرة (3: 180- 181) .
[ (33) ] في (أ) : «الجوشمي» .
[ (34) ] الخبر في سيرة ابن هشام (3: 181) ، والشعر هو:
أعكرم هلّا لمتني إذ تقول لي ... فداك بآطام المدينة خالد
ألست الّذي ألزمت سعدا مرشّة ... لها بين أثناء المرافق عاند
قضى نحبه منها سعيد فأعولت ... عليه مع الشّمط العذارى النّواهد
وأنت الّذي دافعت عنه وقد دعا ... عبيدة جمعا منهم إذ يكابد
على حين ما هم جائز عن طريقه ... وآخر مرعوب عن القصد عامد
ونقله ابن كثير في «البداية والنهاية» (4: 108) .
(3/442)
ينصرفوا إلينا عنهم. إذ أَتَانَا آتٍ،
فَقُلْتُ لِحَسَّانَ إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ كَمَا
تَرَى، وَلَا آمَنُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَتِنَا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ
يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ عَنَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ. فَقَالَ:
يَغْفِرُ اللهُ لَكِ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللهِ لَقَدْ
عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا. قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَلَمَّا قَالَ
ذَلِكَ، احْتَجَزْتُ [ (35) ] عَمُودًا [ (36) ] ، ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ
الْحِصْنِ إِلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، ثُمَّ
رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ. فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ انْزِلْ فَاسْتَلِبْهُ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَسْتَلِبَهُ إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ،
فَقَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَةٍ يَا بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
[ (37) ] .
قَالَ: وحَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ،
وَزَادَ فِيهِ، قَالَ: هِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ:
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) .
وأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّوذْبَارِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عمر ابن شَوْذَبٍ الْمُقْرِئُ الْوَاسِطِيُّ
بِهَا، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ
جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ،
عَنْ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَاعِدًا عَلَى فُرْضَةٍ
مِنْ فُرَضِ
__________
[ (35) ] (احتجزت) : «شددت وسطي» .
[ (36) ] من أعمدة البيت التي يقام عليها.
[ (37) ] الخبر في سيرة ابن هشام (3: 182- 183) ، وقد نقله الحافظ ابن كثير
في التاريخ (4:
108- 109) وأنكر ابو ذر شارح السيرة هذا الخبر، واستبعد ان يكون حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ مِنْ الجبن بهذه المنزلة.
(3/443)
الْخَنْدَقِ [ (38) ] ، فَقَالَ:
شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. مَلَأَ
اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا. أَوْ بُطُونَهُمْ. لَفْظُ حَدِيثِ
الرُّوذْبَارِيِّ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ
[ (39) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عبدان،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ
بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بكر، حدثنا هشام ابن
أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) يَوْمَ الْخَنْدَقِ بعد ما
غَرَبَتِ الشَّمْسُ، جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ
الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم مَا صَلَّيْتُهَا [ (40) ] بَعْدُ. قَالَ: فَنَزَلْتُ مَعَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم- أَحْسَبُهُ قَالَ- إِلَى بُطْحَانَ [
(41) ] ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا فصلى العصر بعد ما
غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ الدستوائي [ (42) ] .
__________
[ (38) ] (فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ) هي المدخل من مداخله، والمنفذ
إليه.
[ (39) ] أخرجه مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وزهير
بْنِ حَرْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ وكيع، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ الإمام علي، وعن عبيد الله بن معاذ (واللفظ
له) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُعْبَةَ ... في: 5- كتاب المساجد (36) باب الدليل
لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، الحديث (204) ، ص (1: 437) .
[ (40) ] وفي مسلم: «فو الله! أن صليتها» والمعنى واحد، وانما حلف النبي
صلى الله عليه وسلم تطييبا لقلب عمر- رضي الله عنه- فإنه شق عليه تأخير
العصر إلى قريب من المغرب، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصلها
بعد، ليكون لعمر به أسوة، ولا يشق عليه ما جرى.
[ (41) ] (بطحان) ، واد بالمدينة.
[ (42) ] البخاري: في 9- كتاب مواقيت الصلاة، (36) باب من صلى بالناس جماعة
بعد ذهاب الوقت، ومسلم في: 5- كتاب المساجد ومواضع الصلاة (36) باب الدليل
لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، الحديث (209) ، ص (1: 438) .
(3/444)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ،
حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، عَنِ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، حَتَّى كُفِينَا ذَلِكَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.. [ (43) ] فَقَامَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ، ثُمَّ
صَلَّى الظُّهْرَ، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ،
فَصَلَّى الْعَصْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ
الْمَغْرِبَ، فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ
أَقَامَ الْعِشَاءَ، فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [ (44) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ:
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّاسُ
عَلَى خَوْفِهِمْ، أَتَى نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ:
جَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ
أَسْلَمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِي أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي، فَمُرْنِي أَمْرَكَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا
أَنْتَ فِينَا رجل
__________
[ (43) ] [الأحزاب- 25] .
[ (44) ] [البقرة- 239] ، وقد أخرج النسائي في سننه هذا الحديث بخلاف عما
أورده المصنف، وبإسناده، في كتاب الصلاة، باب الأذان للغائب من الصلاة (2:
17) عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أبي سعيد عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ شغلنا المشركون يوم
الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ في
القتال ما نزل فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِلَالًا فأقام لصلاة الظهر فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا
لوقتها ثم أقام للعصر فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا في وقتها ثم أذن
للمغرب فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا في وقتها.
(3/445)
وَاحِدٌ. فَخَذِّلْ [ (45) ] عَنَّا مَا
اسْتَطَعْتَ. فَإِنَّمَا الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» ،
فَانْطَلَقَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْظَةَ- وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ- إِنِّي لَكُمْ نَدِيمٌ وَصَدِيقٌ، قَدْ عَرَفْتُمْ
ذَلِكَ. فَقَالُوا: صَدَقْتَ. فَقَالَ:
تَعْلَمُونَ وَاللهِ مَا أَنْتُمْ وَقُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ مِنْ مُحَمَّدٍ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّ الْبَلَدَ لَبَلَدُكُمْ، وَبِهِ
أَمْوَالُكُمْ، وَأَبْنَاؤُكُمْ، وَنِسَاؤُكُمْ، وَإِنَّ قُرَيْشًا
وَغَطَفَانَ بِلَادُهُمْ غَيْرُهَا، وَإِنَّمَا جَاءُوا حَتَّى نَزَلُوا
مَعَكُمْ، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ رَأَوْا غَيْرَ
ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ
وَأَبْنَائِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ، فَلَا طَاقَةَ
لَكُمْ بِهِ، وَإِنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، حَتَّى
تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، تَسْتَوْثِقُونَ بِهِ
مِنْهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا مُحَمَّدًا. فَقَالُوا
لَهُ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِرَأْيٍ وَنُصْحٍ.
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَأَشْرَافَ قُرَيْشٍ
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ وذي إِيَّاكُمْ،
وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا وَدِينَهُ، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِنَصِيحَةٍ،
فَاكْتُمُوا عَلَيَّ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ. مَا أَنْتَ عِنْدَنَا
بِمُتَّهَمٍ. فَقَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ يَهُودَ،
قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ.
فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَلَا يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ
الْقَوْمِ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَنَدْفَعَهُمْ إِلَيْكَ فَتَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تُخْرِجَهُمْ مِنْ
بِلَادِكَ؟ فَقَالَ:
بَلَى! فَإِنْ بَعَثُوا إِلَيْكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ نَفَرًا مِنْ
رِجَالِكُمْ فَلَا تُعْطُوهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا وَاحْذَرُوا ثُمَّ جَاءَ
غَطَفَانَ. فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي رَجُلٌ
مِنْكُمْ:
قَالُوا: صَدَقْتَ. فَقَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ
قُرَيْشٍ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ، وَذَلِكَ يَوْمُ السَّبْتِ فِي
شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وكان ممّا
__________
[ (45) ] (خذل عنا) يريد: ادخل بين القوم حتى يخذل بعضهم بعضا فلا يقومون
لنا، ولا يستمرون على حربنا.
(3/446)
صَنَعَ اللهُ بِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم، بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ
عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ يَقُولُ لَكُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّ الْكُرَاعَ
وَالْخُفَّ [ (46) ] قَدْ هَلَكَا، وَإِنَّا لسان بِدَارِ مُقَامٍ،
فَاخْرُجُوا إِلَى مُحَمَّدٍ نُنَاجِزْهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ: إِنَّ
الْيَوْمَ السَّبْتُ وَهُوَ يَوْمٌ لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَلَسْنَا
مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ، حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا
مِنْ رِجَالِكُمْ نَسْتَوْثِقُ بِهِمْ. لَا تَذْهَبُوا وَتَدَعُونَا حَتَّى
نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ وَاللهِ حَذَّرَنَا
هَذَا نُعَيْمٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ إِنَّا لَا
نُعْطِيكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا،
فَتُقَاتِلُونَ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْعُدُوا. فَقَالَتْ يَهُودُ: هَذَا
وَاللهِ الَّذِي قَالَ نُعَيْمٌ وَاللهِ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ أَلَّا
يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فُرْصَةً، انْتَهَزُوهَا، وَإِلَّا
مَضَوْا فَذَهَبُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الرَّجُلِ فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّا وَاللهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ،
حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَا أَنْ يَفْعَلَ، فَبَعَثَ اللهُ
الرِّيحَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، وَغَطَفَانَ، وَجُنُودِهِ
الَّتِي بَعَثَ، فَخَذَلَهُمُ اللهُ [ (47) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ وأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْقَاضِي. قَالَا:
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حدثنا يونس ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا نَمُومًا، فَدَعَاهُ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: إِنَّ يَهُودَ قَدْ بَعَثَتْ
إِلَيَّ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكَ عَنَّا أَنْ تَأْخُذَ رِجَالًا رَهْنًا مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنَدْفَعَهُمْ إِلَيْكَ،
فَتَقْتُلَهُمْ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ ذَلِكَ. فَلَمَّا وَلَّى نُعَيْمٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْحَرْبُ
خَدْعَةٌ [ (48) ] .
__________
[ (46) ] (الكراع) الخيل، (والخف) الإبل.
[ (47) ] أخرجه ابن هشام في السيرة (3: 183- 185) .
[ (48) ] البخاري في الجهاد (157) باب الحرب خدعة، ومسلم في الجهاد، الحديث
(18) ، ص (1362) منفردا دون قصة نعيم.
(3/447)
أخبرنا أبو محمد عبد اللهِ بْنُ يُوسُفَ
الْأَصْبَهَانِيُّ إِمْلَاءً أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرْتُ بِالصَّبَا [ (49)
] ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ [ (50) ] .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ [ (51) ] .
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ (52) ] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:.. فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً.. [ (53) ]
قَالَ: يَعْنِي رِيحَ الصَّبَا أُرْسِلَتْ عَلَى أَحْزَابِ يَوْمِ
الْخَنْدَقِ [ (54) ] ، حَتَّى كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهَا،
وَنَزَعَتْ فَسَاطِيطَهُمْ حَتَّى أَظْعَنَتْهُمْ، وَجُنُودًا لَمْ تروها.
يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ: قَالَ وَلَمْ تقاتل الملائكة يومئذ.
__________
[ (49) ] (الصّبا) الريح ومستوى هبوبها من مطلع الشمس.
[ (50) ] (الدبور) الريح التي تقابل الصبا، فتهب من الغرب.
[ (51) ] أخرجه مسلم في: 9- كتاب الاستسقاء (4) باب في ريح الصبا والدبور،
الحديث (17) مكرر، ص (617) .
[ (52) ] البخاري في 15- كتاب الاستسقاء (26) بَابُ قَوْلَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليه وسلم: نصرت بالصبا» ، ومسلم في:
9- كتاب صلاة الاستسقاء، الحديث (17) ، ص (617) .
[ (53) ] [الأحزاب- 9] .
[ (54) ] قول مجاهد نقله القرطبي في التفسير (14: 143) .
(3/448)
بَابُ إِرْسَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسلم حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
إِلَى عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا ظَهْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ
النُّبُوَّةِ بِوُقُوفِهِ لَيْلَتَئِذٍ عَلَى مَا أُرْسِلَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ مِنَ الرِّيحِ، وَالْجُنُودِ، وَتَصْدِيقِ اللهِ
سُبْحَانَهُ قَوْلَ نَبِيِّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم] فِيمَا وَعَدَ
حُذَيْفَةَ مِنْ حِفْظِ اللهِ إِيَّاهُ عَنِ الْأَسْرِ وَالْبَرْدِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدُوسٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ
الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ:
قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ
أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلْتُ مَعَهُ،
وَأَبْلَيْتُ [ (1) ] ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ
ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ [ (2)
] ، وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي [ (3) ] بِخَبَرِ الْقَوْمِ، يَكُونُ مَعِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ [ (4) ] » . [فَسَكَتْنَا] [ (5) ] فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا
أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ،
يَا حُذَيْفَةُ! قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا
إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ.
فَقَالَ: [اذْهَبْ] فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عليّ
[ (6) ] ، قال: فمضيت
__________
[ (1) ] (وأبليت) أي: بالغت في نصرته، وكأنه أراد الزيادة على نصرة
الصحابة.
[ (2) ] في الصحيح: «وأخذتنا ريح شديدة ... » (والقر) : البرد.
[ (3) ] في الصحيح: «يأتيني» .
[ (4) ] في الصحيح: «جعله الله معي يوم القيامة» .
[ (5) ] الزيادة من صحيح مسلم.
[ (6) ] (لا تذعرهم عليّ) المراد: لا تحركهم عليك، فإنهم إن أخذوك كان ضررا
عليّ لأنك رسولي وصاحبي.
(3/449)
كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ [ (7) ]
حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي [ (8) ] ظَهْرَهُ
بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمِي فِي كَبِدِ قَوْسِي [ (9) ] ، وَأَرَدْتُ
أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ،
قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي [مِثْلِ] الْحَمَّامِ،
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغْتُ وَقُرِرْتُ [ (10) ] ، فَأَخْبَرْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ الله
صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي
فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ [ (11) ] ، فَلَمَّا أَنْ
أَصْبَحْتُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ
يَا نَوْمَانُ [ (12) ] .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي الصَّحِيحِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ [ (13) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللهِ
الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ،
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُوسَى
بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ: أَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ لَيْلَةَ
الْأَحْزَابِ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأَتَى
[ (14) ] رَسُولُ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جاثي مِنَ
الْبَرْدِ، قَالَ: يَا ابن اليمان
__________
[ (7) ] (كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ) أي انه لم يجد من البرد الذي
يجده الناس، ولا من تلك الريح الشديدة شيئا، بل عافاه الله، ببركة إجابته
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم فيما وجهه إليه.
[ (8) ] (يصلي ظهره) يدفئه.
[ (9) ] (كبد القوس) : مقبضها.
[ (10) ] (قررت) بردت.
[ (11) ] في صحيح مسلم: «حتى أصبحت» .
[ (12) ] (يا نومان) يا كثير النوم.
[ (13) ] أخرجه مسلم في: 32- كتاب الجهاد والسير، (36) باب غزوة الأحزاب،
الحديث (99) ، ص (1414) عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، وإسحاق بن إبراهيم
كلاهما عن جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ ...
[ (14) ] في «المستدرك» «فأتاني» .
(3/450)
قُمْ، فَانْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ
الْأَحْزَابِ، فَانْظُرْ إِلَى حَالِهِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ!
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ إِلَيْكَ إِلَّا حَيَاءً مِنْكَ،
مِنَ الْبَرْدِ، قَالَ: فَانْطَلِقْ يَا ابْنَ الْيَمَانِ فَلَا بَأْسَ
عَلَيْكَ، مِنْ حرّ ولا بد حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ
إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَوَجَدْتُ أَبَا سُفْيَانَ يُوقِدُ النَّارَ فِي
عُصْبَةٍ حَوْلَهُ، قَدْ تَفَرَّقَ الْأَحْزَابُ عَنْهُ، قَالَ حَتَّى
إِذَا جَلَسْتُ فِيهِمْ، قَالَ فَحَسَّ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ دَخَلَ
فِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ
جَلِيسِهِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الَّذِي عَنْ يَمِينِي فَأَخَذْتُ
بِيَدِهِ، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الَّذِي عَنْ يَسَارِي فَأَخَذْتُ
بِيَدِهِ، فَكُنْتُ فِيهِمْ هُنَيَّةً، ثُمَّ قُمْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي،
فَأَوْمَأَ، إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ ادْنُ فَدَنَوْتُ، ثُمَّ أَوْمَأَ
إِلَيَّ أَيْضًا: ادْنُ، فَدَنَوْتُ، حَتَّى أَسْبَلَ عَلَيَّ مِنَ
الثَّوْبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
صَلَاتِهِ، قَالَ ابْنَ الْيَمَانِ اقْعُدْ مَا الْخَبَرُ، قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللهِ، تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَبْقَ،
إِلَّا فِي عُصْبَةٍ يُوقِدُ النَّارَ. قَدْ صَبَّ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ
الْبَرْدِ مِثْلَ الَّذِي صَبَّ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْجُو مِنَ اللهِ
مَا لَا يَرْجُو [ (15) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمٍ الدَّارَبُرْدِيُّ بِمَرْوَ، قَالَ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عُبَيْدٍ أَبِي قُدَامَةَ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ
أَخِي [ (16) ] حُذَيْفَةَ، قَالَ: ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ:
أَمَا وَاللهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا،
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ
الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قُعُودٌ: أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودِ أَسْفَلَ مِنَّا،
نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا،، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ قَطُّ
__________
[ (15) ] أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 31) ، وقال: «هذا حديث صحيح
الإسناد، ولم يخرجاه» ، وقال الذهبي: «صحيح» .
[ (16) ] في (ص) : «أبي» وهو تحريف.
(3/451)
أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا فِي
أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ وَهِيَ ظُلْمَةٌ، مَا يَرَى
أَحَدٌ مِنَّا إِصْبَعَهُ فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النبي
صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا
هِيَ بِعَوْرَةٍ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ
لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ، فَيَتَسَلَّلُونَ وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ
وَنَحْوُ ذَلِكَ، إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا، رَجُلًا حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ، وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ
مِنَ الْعَدُوِّ، وَلَا مِنَ الْبَرْدِ، إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا
يُجَاوِزُ رُكْبَتَيَّ، قَالَ: فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثٍ عَلَى
رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ، فَقَالَ:
حُذَيْفَةُ! قَالَ:
فَتَقَاصَرْتُ بِالْأَرْضِ، فَقُلْتُ، بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ كَرَاهِيَةَ
أَنْ أَقُومَ، قَالَ: قُمْ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَائِنٌ فِي القوم
خير، فَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، قَالَ وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ
فَزَعًا وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا، فَخَرَجْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ
خَلْفَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ، ومن تحته،
قال: فو الله مَا خَلَقَ اللهُ فَزَعًا، وَلَا قُرًّا، فِي جَوْفِي إِلَّا
خَرَجَ مِنْ جَوْفِي فَمَا أَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ فَلَمَّا
وَلَّيْتُ، قَالَ يَا حُذَيْفَةُ لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا
حَتَّى تَأْتِيَنِي،
فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ، نَظَرْتُ فِي
ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تَوَقَّدُ وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ، يَقُولُ
بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ، وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ،
الرَّحِيلَ، وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ،
فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ فَأَضَعُهُ عَلَى
كَبِدِ قَوْسِي، لِأَرْمِيَهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ، قَوْلَ
رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا
حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي فِي كِنَانَتِي،
ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْمُعَسْكَرَ، فَإِذَا
أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ، يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ
الرَّحِيلَ، الرَّحِيلَ، لَا مُقَامَ لَكُمْ، وَإِذَا الرِّيحُ فِي
عَسْكَرِهِمْ، مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، فو الله إِنِّي
لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ، وَفَرَسَتْهُمُ، الرِّيحُ
تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْتَصَفَ بِيَ الطَّرِيقُ، أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
مُعْتَمِّينَ، فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ، أَنَّ اللهَ كَفَاهُ
الْقَوْمَ، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ في شملة يصلي، فو الله مَا عَدَا أَنْ
رَجَعْتُ رَاجَعَنِي الْقُرُّ، وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ [ (17) ] ،
فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم
__________
[ (17) ] (أقرقف) أرعد من البرد.
(3/452)
بِيَدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي فَدَنَوْتُ
مِنْهُ، فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ
خَبَرَ الْقَوْمِ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي تَرَكْتُهُمْ يَتَرَحَّلُونَ،
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ... [ (18) ] الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا، أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّيْسَابُورِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، قَالَ، حَدَّثَنَا
وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ أُؤْسَرَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُؤْسَرَ فَقُلْتُ
مُرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ بِمَا شِئْتَ: فَقَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسلم اذْهَبْ حَتَّى تَدْخُلَ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ فَأْتِ قُرَيْشًا
فَقُلْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّمَا يُرِيدُ النَّاسُ إِذَا كَانَ
غَدًا أَنْ يَقُولُوا: أَيْنَ قُرَيْشٌ أَيْنَ قَادَةُ الناس؟ أين رؤوس
الناس، فيقدمونكم فَتَصْلَوَا الْقِتَالَ فَيَكُونُ الْقَتْلُ فِيكُمْ،
ثُمَّ ائْتِ بَنِي كِنَانَةَ فَقُلْ يَا مَعْشَرَ بَنِي كِنَانَةَ إِنَّمَا
يُرِيدُ النَّاسُ إِذَا كَانَ غَدًا أَنْ يَقُولُوا: أَيْنَ بَنُو
كِنَانَةَ؟ أَيْنَ رُمَاةُ الْحَدَقِ؟ فيعدّمونكم فَتَصْلَوَا الْقِتَالَ،
فَيَكُونُ الْقَتْلُ فِيكُمْ، ثُمَّ ائْتِ قَيْسًا، فَقُلْ: يَا مَعْشَرَ
قَيْسٍ إِنَّمَا يُرِيدُ النَّاسُ إِذَا كَانَ غَدًا أَنْ يَقُولُوا:
أَيْنَ قَيْسٌ؟ أَيْنَ أَحْلَاسُ الخيل أين الفرسان؟
فيقدمونكم فَتَصْلَوَا الْقِتَالَ، فَيَكُونُ الْقَتْلُ فِيكُمْ، وَقَالَ
لِي: لَا تُحْدِثُ فِي سِلَاحِكَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي فَتَرَانِي،
فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ فَجَعَلْتُ
أَصْطَلِي مَعَهُمْ عَلَى نِيرَانِهِمْ، وَجَعَلْتُ أَبُثُّ ذَلِكَ
الْحَدِيثَ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ الله صلى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ وِجَاهَ السَّحَرِ قَامَ أَبُو سُفْيَانَ
فَدَعَا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَأَشْرَكَ، ثُمَّ قال لينظر رجل مُحَمَّدُ
بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ
خَالِدٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ سَرِيعٍ،
قَالَ: كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا
طَوِيلًا وَذَكَرَ فِيهِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم
بِالْحِفْظِ وَذَكَرَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ نَادَى: يَا عَامِرُ
إِنَّ الرِّيحَ قَاتِلَتِي وَأَنَا عَلَى ظَهْرٍ، وَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ
شَدِيدَةٌ، وَصَاحَ أَصْحَابُهُ،
__________
[ (18) ] الآية الكريمة (9) من سورة الأحزاب، والخبر نقله الحافظ ابن كثير
في «البداية والنهاية» (4:
114- 115) عن دلائل النبوة للبيهقي.
(3/453)
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ
أَمَرَهُمْ فَتَحَمَّلُوا، وَلَقَدْ تَحَمَّلُوا وَإِنَّ الرِّيحَ
لَتَغْلِبُهُمْ عَلَى بَعْضِ أَمْتِعَتِهِمْ، فَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ
مَرْثَدٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْكَاهِلِيِّ، قَالَ: قَدْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ
إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ حُذَيْفَةُ مَرَّ بِخَيْلٍ عَلَى طَرِيقِهِ بَيْنَ
النَّبِيِّ، صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجَ
لَهُ فَارِسَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَا ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكَ
فَأَخْبِرْهُ أَنَّ اللهَ قَدْ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ بِالْجُنُودِ
وَالرِّيحِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
وَجُنُوداً لَمْ يَرَوْهَا [ (19) ] هَكَذَا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ فِيمَا أَدَّى مِنَ الْحَدِيثِ بِالْيَاءِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الله الحافظ، حدثنا الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ- مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لحذيفة:
يا حذيفة نشكوا إِلَى اللهِ صُحْبَتَكُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه
وَسَلَّمَ وَأَنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ وَلَمْ نُدْرِكْهُ وَرَأَيْتُمُوهُ
وَلَمْ نَرَهُ فقال حذيفة ونحن نشكوا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
إِيمَانَكُمْ بِهِ، وَلَمْ تَرَوْهُ وَاللهِ مَا نَدْرِي يَا ابْنَ أَخِي
لَوْ أَدْرَكْتَهُ كَيْفَ كُنْتَ تَكُونُ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْخَنْدَقِ فِي لَيْلَةٍ
بَارِدَةٍ مَطِيرَةٍ، وَقَدْ نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ
بِالْعَرْصَةِ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم من رجل
يذهب فيعلم لنا عِلْمَ الْقَوْمِ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ
مَنْ رَجُلٌ يَذْهَبُ فَيَعْلَمُ لَنَا عِلْمَ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ
رَفِيقَ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فو الله مَا قَامَ مِنَّا
أَحَدٌ، فَقَالَ مَنْ رَجُلٌ يَذْهَبُ فَيَعْلَمُ لَنَا عِلْمَ الْقَوْمِ
جَعَلَهُ اللهُ رَفِيقِي يَوْمَ القيامة، فو الله مَا قَامَ مِنَّا أَحَدٌ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْعَثْ حُذَيْفَةَ، فَقُلْتُ
دُونَكَ واللهِ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَا حُذَيْفَةُ فَقُلْتُ لَبَّيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ: هَلْ
أَنْتَ ذَاهِبٌ فَقُلْتُ وَاللهِ مَا بِي أَنْ أقتل مَنْ جَلِيسُهُ وَمَعِي
رَجُلٌ مِنْهُمْ يَصْطَلِي عَلَى النَّارِ،
فَوَثَبْتُ عَلَيْهِ، فَآخُذُ بِيَدِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَأْخُذَنِي،
فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ، قَالَ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَقُلْتُ
أَوْلَى، فَلَمَّا دَنَا [ (20) ] الصُّبْحُ نَادَى: أَيْنَ قُرَيْشٌ؟
أَيْنَ رؤوس الناس؟
__________
[ (19) ] [الأحزاب- 9] .
[ (20) ] رسمت في (أ) : «دنى» .
(3/454)
فَقَالُوا: أَيْهَاتَ هَذَا الَّذِي
أُتِينَا بِهِ الْبَارِحَةَ أَيْنَ بَنُو كِنَانَةَ، وَأَيْنَ الرُّمَاةُ؟
فَقَالُوا:
أَيْهَاتَ هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ الْبَارِحَةَ، أَيْنَ قَيْسٌ،
أَيْنَ أَحْلَاسُ الْخَيْلِ، أَيْنَ الْفُرْسَانُ؟
فَقَالُوا: أَيْهَاتَ هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ الْبَارِحَةَ،
فَتَخَاذَلُوا، وَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الرِّيحَ، فَمَا تَرَكَتْ
لَهُمْ بِنَاءً إِلَّا هَدَّمَتْهُ، وَلَا إِنَاءً إِلَّا أَكْفَأَتْهُ،
حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ وَثَبَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ
مَعْقُولٍ، فَجَعَلَ يَسْتَحِثُّهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ،
وَلَوْلَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سِلَاحِي لَرَمَيْتُهُ أَدْنَى مِنْ تِلْكَ، فَجِئْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم فَجَعَلْتُ أُخْبِرُهُ عَنْ أَبِي
سُفْيَانَ، فَجَعَلَ يَضْحَكُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى جَعَلْتُ
أَنْظُرُ إِلَى أَنْيَابِهِ [ (21) ] .
__________
[ (21) ] أخرجه أيضا ابو نعيم في الدلائل (433) ، وابن عساكر، وابن إسحاق،
وذكره ابن هشام في السيرة (3: 186- 187) ، وابن مردويه، وعن هؤلاء نقله
الصالحي في السيرة الشامية (4:
547- 549) .
(3/455)
بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه
وسلم على الْأَحْزَابِ، وَإِجَابَةِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- إِيَّاهُ فِيمَا
دَعَاهُ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاتِي السَّبِيعِيُّ
بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ، بْنِ أَبِي غَرَزَةَ،
حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: دَعَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ:
اللهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ،
اللهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ [ (1) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَدِيبُ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ،
وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ قتيبة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] البخاري في: 64- كتاب المغازي (29) باب غزوة الأحزاب، فتح الباري
(7: 406) .
ومسلم في: 32- كتاب الجهاد والسير، (7) باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء
العدو، والحديث (21) ص (1363) .
[ (2) ] أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، (29) باب غزوة الأحزاب،
الحديث (4114) ، فتح الباري (7: 406) .
(3/456)
بَابُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَهَابِ الْأَحْزَابِ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا
يَغْزُونَا فَكَانَ كَمَا قَالَ
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ بِبَغْدَادَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الطَّائِيُّ
قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ
الْحَفَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دُرُسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبُو يُوسُفَ: يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
وقبيصة، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: [الْآنَ] [ (1) ] نَغْزُوهُمْ
وَلَا يَغْزُونَا.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ [ (2) ] .
أَخْبَرَنَا [ (3) ] أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو
الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ،
قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: قال
__________
[ (1) ] من (ح) و (ص) ، وليست في (أ) .
[ (2) ] صحيح البخاري (5: 48) .
[ (3) ] (ص) : «حَدَّثَنَا» .
(3/457)
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ أُجْلِيَ عَنْهُ الْأَحْزَابُ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا
يَغْزُونَا [نَحْنُ] نَسِيرُ إِلَيْهِمْ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ
آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ [ (4) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنِ الْخَنْدَقِ، قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا: لَنْ
تَغْزُوكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُوهُمْ.
فلم تغزوهم قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ هُوَ يَغْزُوهُمْ حَتَّى فَتَحَ
اللهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ [ (5) ] .
***
__________
[ (4) ] صحيح البخاري (5: 48) .
[ (5) ] سيرة ابن هشام (3: 206) .
(3/458)
بَابُ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً [ (1) ] وَتَزَوُّجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِينِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ خَلَفِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ.
(ح) وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
بَالَوَيْهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ،
قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا
شَبَابَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً، قَالَ: كَانَتِ الْمَوَدَّةُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُمْ
تَزْوِيجَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي
سُفْيَانَ [ (2) ] ، فَصَارَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارَ مُعَاوِيَةُ
خَالَ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَا فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، وَذَهَبَ
عُلَمَاؤُنَا إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يَتَعَدَّى أَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُنَّ يَصِرْنَ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا يَتَعَدَّى هَذَا التحريم إلى
إخوتهن، ولا إِلَى أَخَوَاتِهِنَّ، وَلَا إِلَى بناتهن، والله أعلم.
__________
[ (1) ] [الممتحنة- 7] .
[ (2) ] تفسير القرطبي (18: 58) ، والبداية والنهاية (4: 143) .
(3/459)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ [ (3) ] ، أَنَّهَا
كَانَتْ عِنْدَ عُبَيْدِ اللهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَانَ رَحَلَ إِلَى
النَّجَاشِيِّ، فَمَاتَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلم
تَزَوَّجَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ، وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، زَوَّجَهَا
إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَمَهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَبَعَثَ
بِهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ، وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَمَا بَعَثَ
إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ، فَكَانَ مُهُورُ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ مِائَةٍ [
(4) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن جعفر.
قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو
بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، قَالَ: وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ: عُبَيْدُ اللهِ
بْنُ جَحْشٍ، مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ نَصْرَانِيًّا وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ، بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْمُهَا
رَمْلَةُ: فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم،
أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ،
وأُمَّ حَبِيبَةَ أُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، أُخْتُ
عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، عَمَّةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ [ (5) ] .
قَالَ: وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ عيسى بن
__________
[ (3) ] واسمها: رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقيل: اسمها: هند،
والمشهور: رملة، وهو الصحيح عند جمهور اهل العلم بالنسب والسير، والحديث
والخبر.
ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاما، تزوجها عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشِ بن
رتاب بن يعمر الأسدي، فأسلما، ثم هاجرا إلى الحبشة، ولما ارتد زوجها عن
الإسلام، وتنصرّ فارقها، وثبتها الله.
الإصابة (4: 305- 306) .
[ (4) ] نقله الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (4: 143) عن المصنف.
[ (5) ] قال ابن كثير: «أما قول عروة ان عثمان زوّجها مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى الله عليه وسلم، فغريب، لأن عثمان كان قد رجع إلى مكة، قبل ذلك،
ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وصحبته زوجته رقية» «البداية والنهاية»
(4:
143) .
(3/460)
يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الَّذِيَ وَلِيَ نِكَاحَهَا ابْنُ عَمِّهَا:
خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ [ (6) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَزَوَّجَهُ
أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَسَاقَ عَنْهُ أَرْبَعَ مِائَةِ
دِينَارٍ [ (7) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْحَارِثِ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ
الْأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
حَسَنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ،
قَالَتْ:
مَا شَعَرْتُ وَأَنَا فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَّا بِرَسُولِ
النَّجَاشِيِّ، جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: أَبْرَهَةُ، كَانَتْ تَقُومُ
عَلَى ثِيَابِهِ وَدُهْنِهِ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ، فَأَذِنْتُ لَهَا.
فَقَالَتْ: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَكِهِ، فَقُلْتُ:
بَشَّرَكِ اللهُ بِخَيْرٍ، وَقَالَتْ: يَقُولُ لَكِ الْمَلِكُ: وَكِّلِي
مَنْ يُزَوِّجُكِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ،
فَوَكَّلْتُهُ. وَأَعْطَيْتُ أَبْرَهَةَ سِوَارَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ،
وَخَدَمَتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، كَانَتَا عَلَيَّ، وَخَوَاتِمَ مِنْ فِضَّةٍ،
كَانَتْ فِي كُلِّ إِصْبَعِ رِجْلَيَّ سُرُورًا بِمَا بَشَّرَتْنِي بِهِ،
فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ، أَمَرَ النَّجَاشِيُّ جَعْفَرَ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ هناك من المسلمين يخصرون، وَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ،
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ
الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده
__________
[ (6) ] سيرة ابن هشام (4: 253) ، والبداية والنهاية (4: 143) .
[ (7) ] ذكره ابن هشام في السيرة (4: 253) ، وقال ابن كثير في التاريخ (4:
143) : «وهو الصحيح» .
(3/461)
وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ
بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهُ
أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا
إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أصدقتها
أربع مائة دِينَارٍ، ثُمَّ سَكَبَ الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ،
فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ
وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم وَزَوَّجْتُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ
بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَبَارَكَ اللهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَفَعَ النَّجَاشِيُّ الدَّنَانِيرَ إِلَى خَالِدِ
بْنِ سَعِيدٍ فَقَبَضَهَا، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَقُومُوا، فَقَالَ:
اجْلِسُوا فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ. إِذَا تَزَوَّجُوا أَنْ
يُؤْكَلَ طَعَامٌ عَلَى التَّزْوِيجِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ، فَأَكَلُوا،
ثُمَّ تَفَرَّقُوا [ (8) ] .
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ مَنْدَهْ أَنَّ النَّجَاشِيَّ زَوَّجَهَا
إِيَّاهُ سَنَةَ. سِتٍّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ
تَزَوَّجَ بِأُمِّ سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ إِلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَ
بِأُمِّ حبيبة قبل أن تزوج بِأُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ.
__________
[ (8) ] نقله ابن كثير في «البداية والنهاية» (4: 143- 144) .
(3/462)
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَزَوُّجِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي
أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
مَخْزُومٍ، وَمَا ظَهَرَ فِي دُعَائِهِ لَهَا مِنَ الِاسْتِجَابَةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمَّ سَلَمَةَ: هِنْدَ بِنْتَ أَبِي
أُمَيَّةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَبْدِ اللهِ بْنِ
عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
مَخْزُومٍ، هَاجَرَا جَمِيعًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَا
الْمَدِينَةَ، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ بِأُحُدٍ، فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ
[ (1) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ. قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ فِي شَوَّالٍ، وَجَمَعَهَا
إِلَيْهِ فِي شَوَّالٍ.
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ. قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ
أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
__________
[ (1) ] الخبر في سيرة ابن هشام (4: 252) .
(3/463)
جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ
أَبِي ثَابِتٍ، أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي
عَمْرٍو، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا بَكْرِ
ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يُخْبِرُ أَنَّ
أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم أَخْبَرَتْهُ
أَنَّهَا لَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ أَخْبَرَتْهُمْ أَنَّهَا ابْنَةُ
أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَكَذَّبُوهَا، وَيَقُولُونَ مَا
أَكْذَبَ الغرائب، حَتَّى أَنْشَأَ نَاسٌ مِنْهُمْ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا
تَكْتُبِينَ إِلَى أَهْلِكِ، فَكَتَبْتُ مَعَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَصَدَّقُوهَا فَازْدَادَتْ عَلَيْهِمْ كَرَامَةً، قَالَتْ:
فَلَمَّا وَضَعْتُ زَيْنَبَ جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَطَبَنِي فَقُلْتُ مَا مِثْلِي تُنْكَحُ، أَمَّا أَنَا فَلَا
وَلَدَ فِيَّ وَأَنَا غَيورٌ ذَاتُ عِيَالٍ. فَقَالَ: أَنَا أَكْبَرُ
مِنْكِ وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَيُذْهِبُهَا اللهُ، وَأَمَّا الْعِيَالُ
فَإِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَتَزَوَّجَهَا، فَجَعَلَ يَأْتِيهَا،
فَيَقُولُ: كَيْفَ زُنَابُ أَيْنَ زُنَابُ، فَجَاءَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ
فَاخْتَلَجَهَا، فَقَالَ: هَذِهِ تَمْنَعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم وكانت تُرْضِعُهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ زُنَابُ فَقَالَتْ قُرَيْبَةُ بِنْتُ
أَبِي أُمَيَّةَ، وَوَافَقَتْهَا عند ما أَخَذَهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ،
فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي آتِيكُمُ اللَّيْلَةَ، قَالَتْ فَوَضَعْتُ ثِفَالِي، وَأَخْرَجْتُ
حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، وَكَانَتْ فِي جِرَابٍ، وَأَخْرَجْتُ شَحْمًا
فَعَصَرْتُهُ، فَبَاتَ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَالَ حِينَ أَصْبَحَ إِنَّ لَكِ
عَلَى أَهْلِكِ كَرَامَةً، فَإِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ أُسَبِّعْ
أُسَبِّعْ لِنِسَائِي [ (2) ] .
وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَهَا أَمَّا مَا
ذَكَرْتِ مِنْ غَيْرَتِكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللهَ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكِ،
قَالَتْ: فَكَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُنَّ، لَا
تَجِدُ مَا يَجِدْنَ من الغيرة [ (3) ] .
__________
[ (2) ] رواه الترمذي، والنسائي مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، ونقله ابن
كثير في التاريخ (4: 91) .
[ (3) ] أخرجه النسائي في النكاح عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ.
(3/464)
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَزْوِيجِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ أُمِّ سَلَمَةَ: زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أُخْتَ عَبْدِ
اللهِ بْنِ جَحْشٍ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ،
وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ:
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، زَوَّجَهُ اللهُ إِيَّاهَا فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا وَلَدًا وَهِيَ
أُمُّ الْحَكَمِ [ (1) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ الْحَافِظُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ يَشْكُو زَيْنَبَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: اتَّقِ اللهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، قَالَ
أَنَسٌ: فَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَاتِمًا
شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، فَكَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ رسول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ،
وَزَوَّجَنِي اللهُ مِنْ فوق سبع سموات.
__________
[ (1) ] سيرة ابن هشام (4: 252) .
(3/465)
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ،
عَنْ أَحْمَدَ [ (2) ] ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ [ (3) ] .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا، أَبُو
عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ الْعَدْلُ: قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا،
عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو إِلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ
جَحْشٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ أَهْلَكَ، فَنَزَلَتْ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ [ (4) ] .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ عَنْ، يَعْلَى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادٍ مُخْتَصَرًا [ (5)
] .
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدِ
بْنُ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْأَحْمَسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زيد ابن جُدْعَانَ. قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: مَا
يَقُولُ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ
مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ
اللهَ أَعْلَمَ نبيه صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ
مِنْ أَزْوَاجِهِ [ (6) ] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ.
قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا،
يَقُولُ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ أَنْكَحَنِي اللهُ
مِنَ السَّمَاءِ، وفيها نزلت آية
__________
[ (2) ] غير منسوب، وقيل إنه ابن سيار المروزي.
[ (3) ] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (باب) وكان عرشه على الماء، فتح
الباري (13: 402) .
[ (4) ] [الأحزاب- 37] .
[ (5) ] في: 65- كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب (6) باب «وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه» . فتح الباري
(8: 523) .
[ (6) ] البداية والنهاية (4: 145) .
(3/466)
الْحِجَابِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [ (7) ] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ
عِيسَى [ (8) ] .
قُلْتُ: وَتَزَوُّجُهُ بِزَيْنَبَ كَانَ بَعْدَ قُرَيْظَةَ لَكِنِّي
أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا حَيْثُ ذَكَرْنَا نِكَاحَ أُمِّ
سَلَمَةَ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ، وَزَعَمَ ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّهُ
تَزَوَّجَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، سَنَةَ ثَلَاثٍ كَذَا رَأَيْتُهُ فِي
كِتَابِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَشْبَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ [ (9) ] .
__________
[ (7) ] [الأحزاب- 53] .
[ (8) ] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التوحيد، فتح الباري (13: 403) .
[ (9) ] في نسخة (ح) عند اللوحة 153 سماعات في الحاشية، وقد سبق ان نوّهنا
عنها في تقدمتنا للسفر الأول.
(3/467)
|