تاريخ ابن خلدون

الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات
الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية
وذلك أنّا قرّرنا في الفصل الأوّل أنّ المغالبة والممانعة إنّما تكون بالعصبيّة لما فيها من النّعرة والتّذامر [1] واستماتة كلّ واحد منهم دون صاحبه. ثمّ إنّ الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدّنيويّة والشّهوات البدنيّة والملاذّ النّفسانيّة فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة كما ذكرناه آنفا وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أوّل الدّولة إنّما يدركون أصحاب الدّولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التّسليم لهم والاستغناء عن العصبيّة في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوّله وما لقي أوّلهم من المتاعب دونه
__________
[1] تذامر القوم: حضّ بعضهم بعضا على القتال.

(1/193)


وخصوصا أهل الأندلس في نسيان هذه العصبيّة وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوّة العصبيّة بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب والله قادر على ما يشاء وهو بكلّ شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية
والسّبب في ذلك أنّ الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتّسليم وقاتل النّاس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانيّة فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأنّ طاعتها كتاب من الله لا يبدّل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانيّة كأنّه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إمّا بالموالي والمصطنعين الّذين نشئوا في ظلّ العصبيّة وغيرها وإمّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العبّاس فإنّ عصبيّة العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنّما كان بالموالي من العجم والتّرك والدّيلم والسّلجوقيّة وغيرهم ثمّ تغلّب العجم الأولياء على النّواحي وتقلّص ظلّ الدّولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتّى زحف إليها الدّيلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وملك السّلجوقيّة من بعدهم فصاروا في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وزحف آخر التّتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدّولة وكذا صنهاجة

(1/194)


بالمغرب فسدت عصبيّتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرّت لهم الدّولة متقلّصة الظّلّ بالمهديّة وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربّما انتزى [1] بتلك الثّغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسّلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتّى تأذّن الله بانقراض الدّولة وجاء الموحّدون بقوّة قويّة من العصبيّة في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة وانتزى كلّ واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدّولة العبّاسيّة فتلقّبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممّن ينقض ذلك عليهم أو يغيّره لأنّ الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمرّ لهم ذلك كما قال ابن شرف.
ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطّراء [2] على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبيّة العرب واستبدّ بن أبي عامر على الدّولة فكان لهم دول عظيمة استبدّت كلّ واحدة منها بجانب من الأندلس وحظّ كبير من الملك على نسبة الدّولة الّتي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة يكون تمهيد الدّولة وحمايتها من أوّلها وقد ظنّ الطّرطوشيّ أنّ حامية الدّول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الّذي
__________
[1] بمعنى توثب، والأصح تنزى.
[2] بمعنى الذين أتوا من أماكن اخرى.

(1/195)


سمّاه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدّول العامّة في أوّلها وإنّما هو مخصوص بالدّول الأخيرة بعد التّمهيد واستقرار الملك في النّصاب واستحكام الصّبغة لأهله فالرّجل إنّما أدرك الدّولة عند هرمها وخلق جدّتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصّنائع ثمّ إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنّه إنّما أدرك دول الطّوائف وذلك عند اختلال بني أميّة وانقراض عصبيّتها من العرب واستبداد كلّ أمير بقطرة وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفّر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبيّة شيء لاستيلاء التّرف على العرب منذ ثلاثمائة من السّنين وهلاكهم ولم ير إلّا سلطانا مستبدّا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدّولة وبقيّة العصبيّة فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطّرطوشيّ القول في ذلك ولم يتفطّن لكيفيّة الأمر منذ أوّل الدّولة وإنّه لا يتمّ إلّا لأهل العصبيّة فتفطّن أنت له وافهم سرّ الله فيه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية
وذلك أنّه إذا كان لعصبيّة غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقرّ ملكه ومنبت عزّه اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله الأمر من يد أعياصه [1] وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر ولا
__________
[1] اعياص: ج عيص، الأصل بمعنى أنهم يرجون انتقال الملك إليه من أصوله أي من آبائه وأجداده.

(1/196)


يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليما لعصبيّته وانقيادا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانيّة استقرّت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديّين بإفريقيّة ومصر لمّا انتبذ الطّالبيّون من المشرق إلى القاصية وابتعدوا عن مقرّ الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العبّاس بعد أن استحكمت الصّبغة لبني عبد مناف لبني أميّة أوّلا ثمّ لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرّة بعد أخرى فأوربّة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوّارة للعبيديّين فشيّدوا دولتهم ومهّدوا بعصائبهم أمرهم واقتطعوا من ممالك العبّاسيّين المغرب كلّه ثمّ إفريقية ولم يزل ظلّ الدّولة يتقلّص وظلّ العبيديّين يمتدّ إلى أن ملكوا مصر والشّام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلاميّة شقّ الأبلمة وهؤلاء البرابرة القائمون بالدّولة مع ذلك كلّهم مسلّمون للعبيديّين أمرهم مذعنون لملكهم وإنّما كانوا يتنافسون في الرّتبة عندهم خاصّة تسليما لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41.