تاريخ ابن خلدون
الفصل الثاني
والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها
هذه الصّناعة يزعم أصحابها أنّهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر
قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولّدات العنصرية
مفردة ومجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالّة على ما سيحدث
من نوع من أنواع الكائنات الكلّيّة والشّخصيّة. فالمتقدّمون منهم يرون
أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتّجربة وهو أمر تقصّر الأعمار
كلّها لو اجتمعت عن تحصيله إذ التّجربة إنّما تحصل في المرّات
المتعدّدة بالتّكرار ليحصل عنها العلم أو الظّنّ.
وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزّمن فيحتاج تكرّره إلى آماد وأحقاب
متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. وربّما ذهب ضعفاء
منهم إلى أنّ معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي وهو رأي فائل
وقد كفونا مؤنة إبطاله. ومن أوضح الأدلّة فيه أن تعلم أنّ الأنبياء
عليهم الصّلاة والسّلام أبعد النّاس عن الصّنائع وأنّهم لا يتعرّضون
للإخبار عن الغيب إلّا أن يكون عن الله فكيف يدّعون استنباطه بالصّناعة
ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. وأمّا بطليمس ومن تبعه من المتأخّرين
فيرون أنّ دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعيّة من قبل مزاج يحصل
للكواكب في الكائنات العنصريّة قال لأنّ فعل النّيّرين وأثرهما في
العنصريّات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشّمس في تبدّل الفصول
وأمزجتها ونضج الثّمار والزّرع وغير ذلك وفعل القمر في الرّطوبات
والماء وإنضاج الموادّ المتعفّنة وفواكه القناء [1] وسائر أفعاله. ثمّ
قال: ولنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التّقليد لمن نقل ذلك
عنه من أئمّة الصّناعة إلّا أنّه غير مقنع للنّفس والثّانية الحدس
والتّجربة بقياس كلّ واحد منها إلى النّيّر
__________
[1] فواكه القناء: فواكه الأشجار المغروسة في الحفر.
(1/714)
الأعظم الّذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة
ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوّته ومزاجه فتعرف
موافقته له في الطّبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادّته. ثمّ إذا عرفنا
قواها مفردة عرفناها مركّبة وذلك عند تناظرها بأشكال التّثليث
والتّربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى
النّيّر الأعظم. وإذا عرفنا قوى الكواكب كلّها فهي مؤثرة في الهواء
وذلك ظاهر.
والمزاج الّذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولّدات وتتخلّق به
النّطف والبزر فتصير حالا للبدن المتكوّن عنها وللنّفس المتعلّقة به
الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النّفس والبدن من الأحوال
لأنّ كيفيّات البزرة والنّطفة كيفيّات لما يتولّد عنهما وينشأ منهما.
قال: وهو مع ذلك ظنّي وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضا من القضاء
الإلهيّ يعني القدر إنّما هو من جملة الأسباب الطّبيعيّة للكائن
والقضاء الإلهيّ سابق على كلّ شيء. هذا محصّل كلام بطليمس وأصحابه وهو
منصوص في كتابه الأربع وغيره. ومنه يتبيّن ضعف مدرك هذه الصّناعة وذلك
أنّ العلم الكائن أو الظّنّ به إنّما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من
الفاعل والقابل والصّورة والغاية على ما يتبيّن في موضعه. والقوى
النّجوميّة على ما قرّروه إنّما هي فاعلة فقط والجزء العنصريّ هو
القابل ثمّ إنّ القوى النّجوميّة ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى
أخرى فاعلة معها في الجزء المادّيّ مثل قوّة التّوليد للأب والنّوع
الّتي في النّطفة وقوى الخاصّة الّتي تميّز بها صنف من النّوع وغير
ذلك. فالقوى النّجوميّة إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنّما هي فاعل
واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثمّ إنّه يشترط مع العلم بقوى
النّجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظّنّ بوقوع
الكائن. والحدس والتّخمين قوى للنّاظر في فكره وليس من علل الكائن ولا
من أصول الصّناعة فإذا فقد هذا الحدس والتّخمين رجعت أدراجها عن الظّنّ
إلى الشّكّ. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجوميّة على سداده ولم تعترضه
آفة وهذا معوز
(1/715)
لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها
لتتعرّف به أوضاعها ولما أنّ اختصاص كلّ كوكب بقوّة لا دليل عليه.
ومدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشّمس مدرك
ضعيف لأنّ قوّة الشّمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها
فقلّ أن يشعر بالزّيادة فيها أو النّقصان منها عند المقارنة كما قال
وهذه كلّها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه
الصّناعة. ثمّ إنّ تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبيّن في باب
التّوحيد أنّ لا فاعل إلّا الله بطريق استدلاليّ كما رأيته واحتجّ له
أهل علم الكلام بما هو غنيّ عن البيان من أنّ إسناد الأسباب إلى
المسبّبات مجهول الكيفيّة والعقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ
الرّأي من التّأثير فلعلّ استنادها على غير صورة التّأثير المتعارف.
والقدرة الإلهيّة رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علوّا وسفلا
سيّما والشّرع يردّ الحوادث كلّها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ ممّا سوى
ذلك. والنّبوءات أيضا منكرة لشأن النّجوم وتأثيراتها. واستقراء
الشّرعيّات شاهد بذلك في مثل قوله: إنّ الشّمس والقمر لا يخسفان لموت
أحد ولا لحياته وفي قوله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. فأمّا من قال
مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأمّا من قال مطرنا
بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصّحيح. فقد بان لك بطلان
هذه الصّناعة من طريق الشّرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما
لها من المضارّ في العمران الإنسانيّ بما تبعث من عقائد العوامّ من
الفساد إذا اتّفق الصّدق من أحكامها في بعض الأحايين اتّفاقا لا يرجع
إلى تعليل ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظنّ اطراد الصّدق في
سائر أحكامها وليس كذلك. فيقع في ردّ الأشياء إلى غير خالقها. ثمّ ما
ينشأ عنها كثيرا في الدّول من توقّع القواطع وما يبعث عليه ذلك
التّوقّع من تطاول الأعداء والمتربّصين بالدّولة إلى الفتك والثّورة.
وقد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصّناعة على جميع أهل
(1/716)
العمران لما ينشأ عنها من المضارّ في
الدّين والدّول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّا للبشر بمقتضى
مداركهم وعلومهم. فالخير والشّرّ طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن
نزعهما وإنّما يتعلّق التّكليف بأسباب حصولهما فيتعيّن السّعي في
اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشّرّ والمضارّ. هذا هو الواجب على
من عرف مفاسد هذا العلم ومضارّه. وليعلم من ذلك أنّها وإن كانت صحيحة
في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملّة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن
نظر فيها ناظر وظنّ الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإنّ
الشّريعة لمّا حظرت النّظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها
والتّحليق لتعليمها وصار المولع بها من النّاس وهم الأقلّ وأقلّ من
الأقلّ إنّما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستّرا عن النّاس
وتحت ربقة الجمهور مع تشعّب الصّناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم
فكيف يحصل منها على طائل؟ ونحن نجد الفقه الّذي عمّ نفعه دينا ودنيا
وسهلت مآخذه من الكتاب والسّنّة وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه ثمّ
بعد التّحقيق والتّجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعدّدها إنّما
يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال. فكيف يعلم مهجور
للشّريعة مضروب دونه سدّ الخطر والتّحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ
محتاج بعد الممارسة والتحصيل لاصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين
يكتنفان به من النّاظر فأين التّحصيل والحذق فيه مع هذه كلّها. ومدّعى
ذلك من النّاس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنّ بين
أهل الملّة وقلّة حملته فاعتبر ذلك يتبيّن لك صحّة ما ذهبنا إليه.
والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. وممّا وقع في هذا المعنى
لبعض أصحابنا من أهل العصر عند ما غلب العرب عساكر السّلطان أبي الحسن
وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك
أبو القاسم الرّوحيّ من شعراء أهل تونس:
(1/717)
أستغفر الله كلّ حين ... قد ذهب العيش
والهناء
أصبح في تونس وأمسى ... والصّبح للَّه والمساء
الخوف والجوع والمنايا ... يحدثها الهرج والوباء
والنّاس في مرية وحرب ... وما عسى ينفع المراء
فأحمديّ يرى عليّا ... حلّ به الهلك والتّواء
وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صبا رخاء
والله من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبديه ما يشاء
يا راصد الخنّس الجواري ... ما فعلت هذه السّماء
مطلتمونا وقد زعمتم ... أنّكم اليوم أملياء
مرّ خميس على خميس ... وجاء سبت وأربعاء
ونصف شهر وعشر ثان ... وثالث ضمّه القضاء
ولا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء
إنّا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء
رضيت باللَّه لي إلها ... حسبكم البدر أو ذكاء
ما هذه الأنجم السّواري ... إلّا عباديد أو إماء
يقضى عليها وليس تقضي ... وما لها في الورى اقتضاء
ضلّت عقول ترى قديما ... ما شأنه الجرم والفناء
وحكمت في الوجود طبعا ... يحدثه الماء والهواء
لم تر حلوا إزاء مرّ ... تغذوهم تربة وماء
الله ربّي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء
ولا الهيولى الّتي تنادي ... ما لي عن صورة عراء
ولا وجود ولا، انعدام ... ولا ثبوت ولا انتفاء
والكسب لم أدر فيه إلّا ... ما جلب البيع والشّراء
(1/718)
وإنّما مذهبي وديني ... ما كان للنّاس
أولياء
إذ لا فصول ولا أصول ... ولا جدال ولا رياء
ما تبع الصّدر واقتفينا ... يا حبّذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلمون منهم ... ولم يكن ذلك الهذاء
يا أشعريّ الزّمان إنّي ... أشعرني الصّيف والشّتاء
لم أجز بالشّرّ غير شرّ ... والخير عن مثله جزاء
وإنّني إن أكن مطيعا ... فلست أعصى ولي رجاء
وإنّني تحت حكم بار ... أطاعه العرش والثّراء
ليس انتصار بكم ولكن ... أتاحه الحكم والقضاء
لو حدّث الأشعريّ عمّن ... له إلى رأيه انتماء
لقال أخبرهم بأنّي ... ممّا يقولونه براء
الفصل الثالث والثلاثون في انكار ثمرة
الكيميا واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها
اعلم أنّ كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه
الصّنائع ويرون أنّها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأنّ اقتناء المال منها
أيسر وأسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاقّ ومعاناة
الصّعاب وعسف الحكّام وخسارة الأموال في النّفقات زيادة على النّيل من
غرضه والعطب آخرا إذا ظهر على خيبة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.
وإنّما أطمعهم في ذلك رؤية أنّ المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض
للمادّة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضّة ذهبا والنّحاس
والقصدير فضّة ويحسبون أنّها من ممكنات عالم
(1/719)
الطّبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة
لاختلاف مذاهبهم في التّدبير وصورته وفي المادّة الموضوعة عندهم للعلاج
المسمّاة عندهم بالحجر المكرّم هل هي العذرة أو الدّم أو الشّعر أو
البيض أو كذا أو كذا ممّا سوى ذلك. وجملة التّدبير عندهم بعد تعيّن
المادّة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء
وبعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثّر
في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثمّ تجفّف بالشّمس من بعد السّقي أو
تطبخ بالنّار أو تصعّد أو تكلّس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي
بذلك كلّه من علاجها وتمّ تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك
كلّه تراب أو مائع يسمّونه الإكسير ويزعمون أنّه إذا ألقي على الفضّة
المحماة بالنّار عادت ذهبا أو النّحاس المحمي بالنّار عاد فضّة على ما
قصد به في عمله. ويزعم المحقّقون منهم أنّ ذلك الإكسير مادّة مركّبة من
العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاصّ والتّدبير مزاج ذو قوى
طبيعيّة تصرف ما حصلت فيه إليها وتقلبه إلى صورتها ومزاجها وتبثّ فيه
ما حصل فيها من الكيفيّات والقوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها
وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة
ويستحيل سريعا إلى الغذاء. وكذا إكسير الذّهب والفضّة فيما يحصل فيه من
المعادن يصرفه إليهما ويقلبه إلى صورتهما. هذا محصّل زعمهم على الجملة
فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرّزق والمعاش فيه ويتناقلون
أحكامه وقواعده من كتب لأئمّة الصّناعة من قبلهم يتداولونها بينهم
ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمّى.
كتآليف جابر بن حيّان في رسائله السّبعين ومسلمة المجريطيّ في كتابه
رتبة الحكيم والطّغرائيّ والمغيربيّ في قصائده العريقة في إجادة النّظم
وأمثالها ولا يحلون من بعد هذا كلّه بطائل منها. ففاوضت يوما شيخنا أبا
البركات التّلفيقيّ [1] كبير مشيخة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: التلفيقي.
(1/720)
الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض
التّآليف فيها فتصفّحه طويلا ثمّ ردّه إليّ وقال لي وأنا الضّامن له أن
لا يعود إلى بيته إلّا بالخيبة. ثمّ منهم من يقتصر في ذلك على الدّلسة
فقط. إمّا الظّاهرة كتمويه الفضّة بالذّهب أو النّحاس بالفضّة أو
خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفيّة كإلقاء الشّبه بين
المعادن بالصّناعة مثل تبييض النّحاس وتلبيسه بالزّوق المصعّد فيجيء
جسما معدنيّا شبيها بالفضّة ويخفى إلّا على النّقّاد المهرة فيقدّر
أصحاب هذه الدّلس مع دلستهم [1] هذه سكّة يسربونها في النّاس ويطبعونها
بطابع السّلطان تمويها على الجمهور بالخلاص. وهؤلاء أخسّ النّاس حرفة
وأسوأهم عاقبة لتلبّسهم بسرقة أموال النّاس فإنّ صاحب هذه الدّلسة
إنّما هو يدفع نحاسا في الفضّة وفضّة في الذّهب ليستخلصها لنفسه فهو
سارق أو شرّ من السّارق. ومعظم هذا الصّنف لدينا بالمغرب من طلبة
البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار يأوون إلى مساجد
البادية ويموّهون على الأغنياء منهم بأنّ بأيديهم صناعة الذّهب والفضّة
والنّفوس مولعة بحبّهما والاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش.
ثمّ يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرّقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة
فيفرّون إلى موضع آخر ويستجدّون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدّنيا
بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم وهذا الصّنف لا
كلام معهم لأنّهم بلغوا الغاية في الجهل والرّداءة والاحتراف بالسّرقة
ولا حاسم لعلّتهم إلّا اشتداد الحكّام عليهم وتناولهم من حيث كانوا
وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأنّ فيه إفسادا للسّكّة الّتي تعمّ
بها البلوى وهي متموّل النّاس كافّة. والسّلطان مكلّف بإصلاحها
والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأمّا من انتحل هذه الصّناعة
ولم يرض بحال الدّلسة بل استنكف عنها ونزّه نفسه عن إفساد سكّة
المسلمين ونقودهم وإنّما يطلب إحالة الفضّة للذّهب والرّصاص والنّحاس
والقصدير إلى
__________
[1] الدلس: (بفتح الدال وسكون اللام) الخديعة والدلسة بضم الدال الظلمة
(لسان العرب) .
(1/721)
الفضّة بذلك النّحو من العلاج وبالإكسير
الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلّم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنّا لا
نعلم أنّ أحدا من أهل العالم تمّ له هذا الغرض أو حصل منه على بغية
إنّما تذهب أعمارهم في التّدبير والفهر [1] والصّلابة والتّصعيد
والتّكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في
ذلك حكايات وقعت لغيرهم ممّن تمّ له الغرض منها أو وقف على الوصول
يقنعون باستماعها والمفاوضات فيها ولا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين
المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلّفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك
بالمعاينة أنكروه وقالوا إنّما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كلّ عصر
وجيل واعلم أنّ انتحال هذه الصّنعة قديم في العالم وقد تكلّم النّاس
فيها من المتقدّمين والمتأخّرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثمّ نتلوه بما
يظهر فيها من التّحقيق الّذي عليه الأمر في نفسه فنقول إنّ مبنى الكلام
في هذه الصّناعة عند الحكماء على حال المعادن السّبعة المتطرّقة وهي
الذّهب والفضّة والرّصاص والقصدير والنّحاس والحديد والخارصين هل هي
مختلفات بالفصول وكلّها أنواع قائمة بأنفسها أو إنّها مختلفة بخواصّ من
الكيفيّات وهي كلّها أصناف لنوع واحد؟ فالّذي ذهب إليه أبو النّصر
الفارابيّ وتابعه عليه حكماء الأندلس أنّها نوع واحد وأنّ اختلافها
إنّما هو بالكيفيّات من الرّطوبة واليبوسة واللّين والصّلابة والألوان
من الصّفرة والبياض والسّواد وهي كلّها أصناف لذلك النّوع الواحد
والّذي ذهب إليه ابن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنّها مختلفة
بالفصول وأنّها أنواع متباينة كلّ واحد منها قائم بنفسه متحقّق بحقيقته
له فصل وجنس شان سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابيّ على مذهبه في
اتّفاقها بالنّوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدّل الأغراض
حينئذ وعلاجها بالصّنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء
__________
[1] الفهر: الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه. وقيل هو حجر يملأ الكف
(لسان العرب) وهنا تعني الدق.
(1/722)
عنده ممكنة سهلة المأخذ. وبنى أبو عليّ بن
سينا على مذهبه في اختلافها بالنّوع إنكار هذه الصّنعة واستحالة وجودها
بناء على أنّ الفصل لا سبيل بالصّناعة إليه وإنّما يخلقه خالق الأشياء
ومقدّرها وهو الله عزّ وجلّ. والفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتّصوّر
فكيف يحاول انقلابها بالصّنعة. وغلّطه الطّغرائيّ من أكابر أهل هذه
الصّناعة في هذا القول. وردّ عليه بأنّ التّدبير والعلاج ليس في تخليق
الفصل وإبداعه وإنّما هو في إعداد المادّة لقبوله خاصّة. والفصل يأتي
من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النّور على الأجسام
بالصّقل والإمهاء. ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوّره ومعرفته قال: «وإذا
كنّا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من
التّراب والنّتن ومثل الحيّات المتكوّنة من الشّعر ومثل ما ذكره أصحاب
الفلاحة من تكوين النّحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من
قرون ذوات الظّلف وتصييره سكّرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح
للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذّهب والفضّة.
فتتّخذ مادّة تضيفها للتّدبير بعد أن يكون فيها استعداد أوّل لقبول
صورة الذّهب والفضّة. ثمّ تحاولها بالعلاج إلى أن يتمّ فيها الاستعداد
لقبول فصلها» . انتهى كلام الطّغرائيّ بمعناه. وهو الّذي ذكره في
الرّدّ على ابن سينا صحيح. لكنّ لنا في الرّدّ على أهل هذه الصّناعة
مأخذا آخر يتبيّن منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا
الطّغرائيّ ولا ابن سينا. وذلك أنّ حاصل علاجهم أنّهم بعد الوقوف على
المادّة المستعدّة بالاستعداد الأوّل يجعلونها موضوعا ويحاذون في
تدبيرها وعلاجها تدبير الطّبيعة في الجسم المعدنيّ حتّى أحالته ذهبا أو
فضّة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتمّ في زمان أقصر. لأنّه
تبيّن في موضوعة أنّ مضاعفة قوّة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبيّن أنّ
الذّهب إنّما يتمّ كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السّنين دورة
الشّمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيّات في العلاج كان زمن كونه
أقصر من ذلك ضرورة على
(1/723)
ما قلناه أو يتحرّون بعلاجهم ذلك حصول صورة
مزاجيّة لتلك المادّة تصيّرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج
الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدّم. واعلم أنّ
كلّ متكوّن من المولّدات العنصريّة فلا بدّ فيه من اجتماع العناصر
الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النّسبة لما تمّ
امتزاجها فلا بدّ من الجزء الغالب على الكلّ. ولا بدّ في كلّ ممتزج من
المولّدات من حرارة غريزيّة هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. ثمّ كلّ
متكوّن في زمان فلا بدّ من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التّكوين من
طور إلى طور حتّى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النّطفة
ثمّ العلقة ثمّ المضغة ثمّ التّصوير ثمّ الجنين ثمّ المولود ثمّ
الرّضيع ثمّ إلى نهايته. ونسب الأجزاء في كلّ طور تختلف في مقاديرها
وكيفيّاتها وإلّا لكان الطّور الأوّل بعينه هو الآخر وكذا الحرارة
الغريزيّة في كلّ طور مخالفة لها في الطّور الآخر. فانظر إلى الذّهب ما
يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من
الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطّبيعة في المعدن
ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتمّ. ومن شرط الصّناعة أبدا تصوّر ما
يقصد إليه بالصّنعة فمن الأمثال السّائرة للحكماء أوّل العمل آخر
الفكرة وآخر الفكرة أوّل العمل. فلا بدّ من تصوّر هذه الحالات للذّهب
في أحواله المتعدّدة ونسبها المتفاوتة في كلّ طور واختلاف الحارّ
الغريزيّ عند اختلافها ومقدار الزّمان في كلّ طور وما ينوب عنه من
مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتّى يحاذي بذلك كلّه فعل الطّبيعة
في المعدن أو تعدّ لبعض الموادّ صورة مزاجيّة كصورة الخميرة للخبز
وتفعل في هذه المادّة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلّها إنّما
يحصرها العلم المحيط والعلوم البشريّة قاصرة عن ذلك وإنّما حال من
يدّعي حصوله على الذّهب بهذه الصّنعة بمثابة من يدّعي بالصّنعة تخليق
إنسان من المنيّ. ونحن إذا سلّمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره
وكيفيّة تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما
(1/724)
محصّلا بتفاصيله حتّى لا يشذّ منه شيء عن
علمه سلّمنا له تحليق هذا الإنسان وأنّى له ذلك. ولنقرّب هذا البرهان
بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء وما يدّعونه بهذا
التّدبير أنّه مساوقة الطّبيعية المعدنيّة بالفعل الصّناعيّ ومحاذاتها
به إلى أن يتمّ كون الجسم المعدنيّ أو تخليق مادّة بقوى وأفعال وصورة
مزاجيّة تفعل في الجسم فعلا طبيعيّا فتصيّره وتقلّبه إلى صورتها.
والفعل الصّناعيّ مسبوق بتصوّرات أحوال الطّبيعة المعدنيّة الّتي يقصد
مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادّة ذات القوى فيها تصوّرا مفصّلا
واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشريّ عاجز عن
الإحاطة بما دونها وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات.
هذا محصّل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته وليست الاستحالة فيه من جهة
الفصول كما رأيته ولا من الطّبيعة إنّما هو من تعذّر الإحاطة وقصور
البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك وله وجه آخر في الاستحالة
من جهة غايته. وذلك أنّ حكمة الله في الحجرين وندورهما أنّهما قيم
لمكاسب النّاس ومتموّلاتهم. فلو حصل عليهما بالصّنعة لبطلت حكمة الله
في ذلك وكثر وجودهما حتّى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه
آخر من الاستحالة أيضا وهو أنّ الطّبيعة لا تترك أقرب الطّرق في
أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطّريق الصّناعيّ الّذي
يزعمون أنّه صحيح وأنّه أقرب من طريق الطّبيعة في معدنها أو أقلّ زمانا
لما تركته الطّبيعة إلى طريقها الّذي سلكته في كون الفضّة والذّهب
وتخلّقهما وأمّا تشبيه الطّغراءي هذا التّدبير بما عثر عليه من مفردات
لأمثاله في الطّبيعة كالعقرب والنّحل والحيّة وتخليقها فأمر صحيح في
هذه أدّى إليه العثور كما زعم. وأمّا الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل
العالم أنّه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها
عشواء إلى هلمّ جرّا ولا يظفرون إلّا بالحكايات الكاذبة. ولو صحّ ذلك
لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن
تصديقه
(1/725)
صحّة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا
وإلى غيرنا. وأمّا قولهم إنّ الإكسير بمثابة الخميرة. وإنّه مركّب يحيل
ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك فاعلم أنّ الخميرة إنّما تقلب العجين
وتعدّه للهضم وهو فساد والفساد في الموادّ سهل يقع بأيسر شيء من
الأفعال والطّبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه
وأعلى فهو تكوين وصلاح والتّكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير
بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أنّ الكيمياء إن صحّ وجودها كما تزعم
الحكماء المتكلّمون فيها مثل جابر بن حيّان ومسلمة بن أحمد المجريطيّ
وأمثالهم فليست من باب الصّنائع الطّبيعيّة ولا تتمّ بأمر صناعيّ. وليس
كلامهم فيها من منحى الطّبيعيّات إنّما هو من منحى كلامهم في الأمور
السّحريّة وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلّاج وغيره وقد ذكر مسلمة
في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا
المنحى وهذا كلام جابر في رسائله ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا
إلى شرحه وبالجملة فأمرها عندهم من كلّيّات الموادّ الخارجة عن حكم
الصّنائع فكما لا يتدبّر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشبا أو
حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبّر ذهب من مادّة الذّهب في
يوم ولا شهر ولا يتغيّر طريق عادته إلّا بإرفاد ما وراء عالم الطّبائع
وعمل الصّنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيّا ضيّع ماله وعمله
ويقال لهذا التّدبير الصّناعيّ التّدبير العقيم لأنّ نيله إن كان صحيحا
فهو واقع ممّا وراء الطّبائع والصّنائع كالمشي على الماء وامتطاء
الهواء والنّفوذ في كشائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة
للعادة أو مثل تخليق الطّير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى:
«وَإِذْ تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي 5: 110» [1] وعلى ذلك
فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربّما أوتيها الصّالح
ويؤتيها غيره فتكون عنده
__________
[1] سورة المائدة من الآية 110.
(1/726)
معارة. وربّما أوتيها الصّالح ولا يملك
إيتاءها فلا تتمّ في يد غيره. ومن هذا الباب يكون عملها سحريّا فقد
تبيّن أنّها إنّما تقع بتأثيرات النّفوس وخوارق العادة إمّا معجزة أو
كرامة أو سحرا. ولهذا كان كلام الحكماء كلّهم فيها إلغازا لا يظفر
بحقيقته إلّا من خاض لجة من علم السّحر واطّلع على تصرّفات النّفس في
عالم الطّبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها.
والله بما يعملون محيط. وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصّناعة
وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطّرق الطّبيعيّة للمعاش وابتغاؤه من
غير وجوهه الطّبيعيّة كالفلاحة والتّجارة والصّناعة فيستصعب العاجز
ابتغاءه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير
طبيعيّة من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل
العمران حتّى في الحكماء المتكلّمين في إنكارها واستحالتها. فإنّ ابن
سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء فكان من أهل الغنى والثّروة
والفارابيّ القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الّذين يعوزهم أدنى بلغة
من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النّفوس المولعة بطرقها
وانتحالها. والله الرّازق ذو القوّة المتين لا ربّ سواه.
الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف
في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنّه ممّا أضرّ بالنّاس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة
التّآليف واختلاف الاصطلاحات في التّعاليم وتعدّد طرقها ثمّ مطالبة
المتعلّم والتّلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلّم له منصب التّحصيل
فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي
عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ دون
رتبة التّحصيل. ويمثّل ذلك من شأن الفقه في
(1/727)
المذهب المالكيّ بالكتب المدوّنة مثلا وما
كتب عليها من الشّروحات الفقهيّة مثل كتاب ابن يونس واللّخميّ وابن
بشير والتّنبيهات والمقدّمات والبيان والتّحصيل على العتبيّة وكذلك
كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطّريقة
القيروانيّة من القرطبيّة والبغداديّة والمصريّة وطرق المتأخّرين عنهم
والإحاطة بذلك كلّه وحينئذ يسلّم له منصب الفتيا وهي كلّها متكرّرة
والمعنى واحد. والمتعلّم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر
ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلّمون بالمتعلّمين على المسائل
المذهبيّة فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التّعليم سهلا ومأخذه
قريبا ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة الّتي
لا يمكن نقلها ولا تحويلها ويمثّل أيضا علم العربيّة من كتاب سيبويه
وجميع ما كتب عليه وطرق البصريّين والكوفيّين والبغداديّين
والأندلسيّين من بعدهم وطرق المتقدّمين والمتأخّرين مثل ابن الحاجب
وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلّم وينقضي عمره دونه
ولا يطمع أحد في الغاية منه إلّا في القليل النّادر مثل ما وصل إلينا
بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربيّة من أهل مصر
يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنّه استولى على غاية من ملكة تلك
الصّناعة لم تحصل إلّا لسيبويه وابن جنّي وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما
أحاط به من أصول ذلك الفنّ وتفاريعه وحسن تصرّفه فيه. ودلّ على أنّ
الفضل ليس منحصرا في المتقدّمين سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشّواغب
بتعدّد المذاهب والطّرق والتّآليف ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا
نادر من نوادر الوجود وإلّا فالظّاهر أنّ المتعلّم ولو قطع عمره في هذا
كلّه فلا يفي له بتحصيل علم العربيّة مثلا الّذي هو آلة من الآلات
ووسيلة فكيف يكون في المقصود الّذي هو الثّمرة؟ ولكنّ الله يهدي من
يشاء
.
(1/728)
الفصل الخامس
والثلاثون في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف والغاء ما سواها
اعلم أنّ العلوم البشريّة خزانتها النفس الإنسانيّة بما جعل الله فيها
من الإدراك الّذي يفيدها ذلك الفكر المحصّل لها ذلك بالتّصوّر للحقائق
أوّلا، ثمّ بإثبات العوارض الذاتيّة لها أو نفيها عنها ثانيا، إمّا
بغير وسط أو بوسط، حتّى يستنتج الفكر بذلك مطالبه الّتي يعنى بإثباتها
أو نفيها. فإذا استقرّت من ذلك صورة علميّة في الضمير فلا بدّ من
بيانها لآخر، إمّا على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار
في تصحيحها. وذلك البيان إنّما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركّب من
الألفاظ النطقيّة الّتي خلقها الله في عضو اللّسان مركّبة من الحروف،
وهي كيفيّات الأصوات المقطّعة بعضلة اللهاة واللّسان ليتبيّن بها ضمائر
المتكلّمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عمّا في
الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكلّ ما يندرج في
الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان
رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد، أو لمن
يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم
باليد تدلّ أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقيّة حروفا بحروف
وكلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام
المنطقيّ، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا، فسمّي هذا البيان. يدل
على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون
بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم
الفائدة في حصوله للغائب والمتأخّر، وهؤلاء هم المؤلّفون. والتآليف بين
العوالم البشريّة والأمم الإنسانيّة كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار
وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأخبار عن الأمم والدول.
(1/729)
وأمّا العلوم الفلسفيّة، فلا اختلاف فيها،
لأنّها إنّما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكريّة، في
تصوّر الموجودات على ما هي عليه، جسمانيّها وروحانيّها وفلكيّها
وعنصريّها ومجرّدها ومادّتها. فإنّ هذه العلوم لا تختلف، وإنّما يقع
الاختلاف في العلوم الشرعيّة لاختلاف الملل، أو التاريخيّة لاختلاف
خارج الخبر. ثمّ الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها،
ويسمّى ذلك قلما وخطّا. فمنها الخطّ الحميريّ، ويسمّى المسند، وهو
كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخّرين من
مضر، كما يخالف لغتهم. وإنّ الكلّ عربيّا. إلّا أنّ ملكة هؤلاء في
اللّسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكلّ منهما قوانين كلّيّة مستقرأة
من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربّما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات
العبارة. ومنها الخطّ السّريانيّ، وهو كتابة النّبط والكلدانيّين.
وربّما يزعم بعض أهل الجهل أنّه الخطّ الطبيعيّ لقدمه فإنّهم كانوا
أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامّي. لأنّ الأفعال الاختياريّة كلّها
ليس شيء منها بالطبع، وإنّما هو يستمرّ بالقدم والمران حتّى يصير ملكة
راسخة، فيظنّها المشاهد طبيعيّة كما هو رأي كثير من البلداء في اللّغة
العربيّة، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم.
ومنها الخطّ العبرانيّ الّذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل
وغيرهم. ومنها الخطّ اللطينيّ، خطّ اللطينيّين من الروم، ولهم أيضا
لسان مختصّ بهم. ولكلّ أمّة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها
ويختصّ بها.
مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنّما وقعت العناية بالأقلام
الثلاثة الأولى.
أمّا السّريانيّ فلقدمه كما ذكرنا، وأمّا العربيّ والعبريّ فلتنزّل
القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطّان بيانا لمتلوّهما،
فوقعت العناية بمنظومهما أوّلا وانبسطت قوانين لاطّراد العبارة في تلك
اللّغة على أسلوبها لتفهم الشّرائع التكليفيّة من ذلك الكلام
الربّانيّ. وأمّا اللطينيّ فكان الروم، وهم أهل ذلك
(1/730)
اللّسان، لما أخذوا بدين النّصرانيّة، وهو
كلّه من التوراة، كما سبق في أوّل الكتاب، ترجموا التوراة وكتب
الأنبياء الإسرائيليّين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل
الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها.
وأمّا الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنّما هي لكلّ أمّة بحسب
اصطلاحها. ثمّ إنّ الناس حصروا مقاصد التأليف الّتي ينبغي اعتمادها
وإلغاء ما سواها، فعدّوها سبعة:
أوّلها: استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبّع مسائله، أو
استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقّق ويحرص على إيصاله بغيره،
لتعمّ المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعلّ المتأخّر يظهر على
تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلّم الشافعيّ أوّلا في
الأدلّة الشرعيّة اللفظيّة ولخصها، ثمّ جاء الحنفيّة فاستنبطوا مسائل
القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
وثانيها: أن يقف على كلام الأوّلين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على
الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممّن عساه
يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقّها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول
والمنقول، وهو فصل شريف.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطإ في كلام المتقدّمين ممّن
اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح
الّذي لا مدخل للشكّ فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذّر
محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلّف ووثوق
الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفنّ الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب
(1/731)
انقسام موضوعة فيقصد المطّلع على ذلك أن
يتمّم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفنّ بكمال مسائله وفصوله، ولا
يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتّبة في أبوابها ولا
منتظمة، فيقصد المطّلع على ذلك أن يرتّبها ويهذّبها، ويجعل كل مسألة في
بابها، كما وقع في المدوّنة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي
العتبيّة من رواية العتبيّ عن أصحاب مالك، فإنّ مسائل كثيرة من أبواب
الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذّب ابن أبي زيد المدوّنة وبقيت
العتبيّة غير مهذّبة.
فنجد في كلّ باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدوّنة وما فعله ابن أبي
زيد فيها والبرادعيّ من بعده.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرّقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبّه
بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفنّ وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به
فنّ ينظّمه في جملة العلوم الّتي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في
علم البيان.
فإنّ عبد القاهر الجرجانيّ وأبا يوسف السّكاكيّ وجدا مسائله مستقرية في
كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة،
تنبّه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في
ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولا لفنّ البيان، ولقّنها المتأخّرون
فأربوا فيها على كلّ متقدّم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف الّتي هي أمّهات للفنون مطوّلا
مسهبا فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرّر، إن
وقع، مع الحذر من حذف الضروريّ لئلّا يخلّ بمقصد المؤلّف الأوّل.
فهذه جماع المقاصد الّتي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى
ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادّة الّتي يتعيّن سلوكها في نظر
العقلاء،
(1/732)
مثل انتحال ما تقدّم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس،
من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخّر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في
الفنّ أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدّل الصواب بالخطإ، أو يأتي بما
لا فائدة فيه.
فهذا شأن الجهل والقحّة. ولذا قال أرسطو، لمّا عدّد هذه المقاصد،
وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل
والقحّة. نعوذ باللَّه من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله
يهدي للّتي هي أقوم. |