تاريخ ابن خلدون

الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخّرين إلى اختصار الطّرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدوّنون منها برنامجا مختصرا في كلّ علم يشتمل على حصر مسائله وأدلّتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنّ. وصار ذلك مخلّا بالبلاغة وعسرا على الفهم. وربّما عمدوا إلى الكتب الأمّهات المطوّلة في الفنون للتّفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وابن مالك في العربيّة والخونجيّ في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التّعليم وفيه إخلال بالتّحصيل وذلك لأنّ فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعدّ لقبولها بعد وهو من سوء التّعليم كما سيأتي. ثمّ فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلّم بتتبّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأنّ ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثمّ بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التّعليم في تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات الّتي تحصل من الموضوعات البسيطة المطوّلة لكثرة ما يقع

(1/733)


في تلك من التّكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التّامّة. وإذا اقتصر على التّكرار قصّرت الملكة لقلّته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها. «ومن يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» . والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب. ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد [1] عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله. ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشّرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ فتجود ملكته. ثمّ يرجع به وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات.
وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلّمين لهذا العهد الّذي أدركنا يجهلون طرق التّعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يورد.

(1/734)


ذهنه في حلّها ويحسبون ذلك مرانا على التّعليم وصوابا فيه ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات [1] الفنون في مبادئها وقبل أن يستعدّ لفهمها فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلّا في الأقلّ وعلى سبيل التّقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة. ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه والانتقال فيها من التّقريب إلى الاستيعاب الّذي فوقه، حتّى تتمّ الملكة في الاستعداد ثمّ في التّحصيل ويحيط هو بمسائل الفنّ وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنّما أتى ذلك من سوء التّعليم. ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الّذي أكبّ على التّعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتّعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتّى يعيه من أوّله إلى آخره ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنّهوض إلى ما فوق حتّى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التّحصيل وهجر العلم والتّعليم. والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنّه ذريعة إلى النّسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنّسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النّاشئة عنه. والله علّمكم ما لم تكونوا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: غرائب.

(1/735)


تعلمون. ومن المذاهب الجميلة والطّرق الواجبة في التّعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما كان ذلك أجدر لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفّق للصّواب. واعلم أيّها المتعلّم أنّي أتحفك بفائدة في تعلّمك فإن تلقّيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصّناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدّم لك مقدّمة تعينك في فهمها وذلك أنّ الفكر الإنسانيّ طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو (وجدان حركة للنّفس) [1] في البطن الأوسط من الدّماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانيّة على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجّه إلى المطلوب. وقد يصوّر طرفيه [2] يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الّذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعدّدا ويصير إلى الظّفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطّبيعة الفكريّة الّتي تميّز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثمّ الصّناعة المنطقيّة هي كيفيّة فعل هذه الطّبيعة الفكريّة النّظريّة تصفه لتعلم سداده من خطئه وأنّها وإن كان الصّواب لها ذاتيّا إلّا أنّه قد يعرض لها الخطأ في الأقلّ من تصوّر الطّرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنّتاج فتعين المنطق للتّخلّص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعيّ مساوق للطّبيعة الفكريّة ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيّا استغني عنه في الأكثر.
ولذلك تجد كثيرا من فحول النّظّار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيّما مع صدق النّيّة والتّعرّض لرحمة الله تعالى فإنّ
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فعل حركة في النفس وقوة.
[2] وفي النسخة الباريسية: طريقيه.

(1/736)


ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطّبيعة الفكريّة على سدادها فيفضي بالطّبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثمّ من دون هذا الأمر الصّناعيّ الّذي هو المنطق مقدّمة أخرى من التّعلّم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذّهنيّة تردها [1] من مشافهة الرّسوم بالكتاب ومشافهة اللّسان بالخطاب. فلا بدّ أيّها المتعلّم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأوّلا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفّها [2] ثمّ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثمّ القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثمّ تلك المعاني مجرّدة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطّبيعة الفكريّة بالتّعرّض لرحمة الله ومواهبه. وليس كلّ أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التّعليم بسهولة، بل ربّما وقف الذّهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلّة بشغب الجدال والشّبهات وقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلّص من تلك الغمرة إلّا قليلا ممّن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك [3] في فهمك أو تشغيب بالشّبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشّبهات واترك الأمر الصّناعيّ جملة وأخلص إلى فضاء الفكر الطّبيعيّ الّذي فطرت عليه. وسرّح نظرك فيه وفرّغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النّظّار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظّفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الّذي جعله الله من مقتضيات [4] هذا الفكر ونظره عليه كما قلناه وحينئذ فارجع
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تؤديها.
[2] وفي النسخة الباريسية: احفظها.
[3] وفي النسخة الباريسية: ارتياب.
[4] وفي النسخة الباريسية: من مفيضات.

(1/737)


به إلى قوالب الأدلّة وصورها فأفرغه فيها ووفّه حقّه من القانون الصّناعيّ ثمّ اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.
وأمّا إن وقفت عند المناقشة والشّبهة في الأدلّة الصّناعيّة وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعيّة وضعيّة تستوي جهاتها المتعدّدة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميّز جهة الحقّ منها إذ جهة الحقّ إنّما تستبين [1] إذا كانت بالطّبع فيستمرّ ما حصل من الشّكّ والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالنّاظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثرين من النّظّار والمتأخّرين سيّما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغب بالقانون المنطقيّ تعصّب له فاعتقد أنّه الذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلّة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها. والذّريعة إلى إدراك الحقّ بالطّبع إنّما هو الفكر الطّبيعيّ كما قلناه إذا جرّد عن جميع الأوهام وتعرّض النّاظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأمّا المنطق فإنّما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصّواب. والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلّا من عند الله.
الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل
اعلم أنّ العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذّات كالشّرعيّات من التّفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطّبيعيّات والإلهيّات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آليّة [2] لهذه العلوم كالعربيّة والحساب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: تتميز.
[2] وفي النسخة الباريسية: آلة ووسيلة.

(1/738)


وغيرهما للشّرعيّات كالمنطق للفلسفة. وربّما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخّرين فأمّا العلوم الّتي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلّة والأنظار فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة. وأمّا العلوم الّتي هي آلة لغيرها مثل العربيّة والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلّا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرّع المسائل لأنّ ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلّما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربّما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذّات لطول وسائلها مع أنّ شأنها أهمّ والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصّورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآليّة تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني. وهذا كما فعل المتأخّرون في صناعة النّحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التّفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيّرها من المقاصد [1] وربّما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللّغو وهي أيضا مضرّة بالمتعلّمين على الإطلاق لأنّ المتعلّمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها [2] فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟ فلهذا يجب على المعلّمين لهذه العلوم الآليّة أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبّهوا المتعلّم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همّته بعد ذلك إلى شيء من التّوغّل ورأى من نفسه قياما بذلك وكفاية به فليرقّ [3] له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا وكلّ ميسّر لما خلق له.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وصيرها مقصودة بذاتها.
[2] وفي نسخة أخرى: بهذه الآلات والوسائل.
[3] وفي نسخة أخرى: فليختر لنفسه.

(1/739)


الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات. وسبب ذلك أنّ التّعليم في الصّغر أشدّ رسوخا وهو أصل لما بعده لأنّ السّابق الأوّل للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التّعليم من الملكات. فأمّا أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرّسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى [1] البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حدّ البلوغ إلى الشّبيبة. وكذا في الكبير إذا رجّع [2] مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأمّا أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الّذي يراعونه في التّعليم. إلّا أنّه لمّا كان القرآن أصل ذلك وأسّه ومنبع الدّين والعلوم جعلوه أصلا في التّعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشّعر في الغالب والتّرسل وأخذهم بقوانين
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: من قراء البربر.
[2] وفي نسخة أخرى: راجع.

(1/740)


العربيّة وحفظها وتجويد الخطّ والكتاب. ولا تختصّ عنايتهم في التّعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخطّ أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشّبيبة وقد شدا [1] بعض الشّيء في العربيّة والشّعر والبصر بهما وبرّز في الخطّ والكتاب وتعلّق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم.
لكنّهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التّعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلّا ما حصل من ذلك التّعليم الأوّل. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلّم. وأمّا أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلّا أنّ عنايتهم بالقرآن واستنظار [2] الولدان إيّاه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر ممّا سواه وعنايتهم بالخطّ تبع لذلك. وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأنّ سند طريقتهم في ذلك متّصل بمشيخة الأندلس الّذين أجازوا عند تغلّب النصارى على شرق الأندلس، واستقرّوا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأمّا أهل المشرق فيخلطون في التّعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها. والّذي ينقل لنا أنّ عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشّبيبة ولا يخلطون بتعليم الخطّ بل لتعليم الخطّ عندهم قانون ومعلّمون له على انفراده كما تتعلّم سائر الصّنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصّبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخطّ قاصر عن الإجادة ومن أراد تعلّم الخطّ فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمّة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأمّا أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أنّ القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أنّ البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير
__________
[1] شد من المعلم: أخذ.. (قاموس) .
[2] وفي نسخة أخرى: استظهار.

(1/741)


أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللّسان العربيّ وحظّه الجمود في العبارات وقلّة التّصرّف في الكلام. وربّما كان أهل إفريقية في ذلك أخفّ من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التّصرّف ومحاذاة المثل بالمثل إلّا أنّ ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. وأمّا أهل الأندلس فأفادهم التّفنّن في التّعليم وكثرة رواية الشّعر والتّرسّل ومدارسة العربيّة من أوّل العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللّسان العربيّ. وقصّروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الّذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل حظّ وأدب بارع أو مقصّر، على حسب ما يكون التّعليم الثّاني من بعد تعليم الصّبيّ [1] . ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربيّ في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التّعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدّم تعليم العربيّة والشّعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: «لأنّ الشّعر ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم [2] العربيّة في التّعليم ضرورة فساد اللّغة ثمّ ينتقل منه إلى الحساب فيتمرّن فيه حتّى يرى القوانين ثمّ ينتقل إلى درس القرآن فإنّه يتيسّر عليك بهذه المقدّمة» . ثمّ قال:
«ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصّبيّ بكتاب الله في أوامره [3] يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهمّ ما عليه منه» . ثمّ قال: «ينظر في أصول الدّين ثمّ أصول الفقه ثمّ الجدل ثمّ الحديث وعلومه» ونهى مع ذلك أن يخلط في التّعليم علمان إلّا أن يكون المتعلّم قابلا لذلك بجودة الفهم والنّشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلّا أنّ العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصّت به العوائد من تقدّم دراسة القرآن إيثارا للتّبرّك والثّواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصّبيّ من الآفات والقواطع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الصبا.
[2] وفي نسخة أخرى: تقديم.
[3] وفي نسخة أخرى: أول عمره.

(1/742)


عن العلم فيفوته القرآن، لأنّه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحلّ من ربقة القهر فربّما عصفت به رياح الشّبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن لئلّا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التّعليم لكان هذا المذهب الّذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق. ولكنّ الله يحكم ما يشاء لا معقّب لحكمه.