تاريخ ابن خلدون
[المجلد
الثالث]
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة الكتاب الثاني ... ]
[تتمة القول في أجيال العرب ... ]
[تتمة الطبقة الثالثة من العرب ...
]
[الخبر عن الدول الإسلامية ونبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر
الإسلام وذكر أوليتهم وأخبار دولهم واحدة واحدة الى انقضائها]
(كان) لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد والشرف لا يناهضهم فيها أحد
من سائر بطون قريش. وكان فخذاهم بنو أميّة وبنو هاشم حيا جميعا ينتمون
لعبد مناف وينسبون إليه. وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرئاسة عليهم الا
أنّ بني أمية كانوا أكثر عددا من بني هاشم وأوفر رجالا. والعزّة إنّما
هي بالكثرة، قال الشاعر:
وإنّما العزّة للكاثر
وكان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أميّة وكان رئيسهم
في حرب الفجّار. وحدّث الأخباريون أنّ قريشا تواقعوا ذات يوم وحرب هذا
مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك،
فقام يجرّ إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا ولوّح بطرف ثوبه إليهم أن
تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم. (ولما) جاء
الإسلام ودهش الناس لما وقع من أمر النبوّة والوحي وتنزل الملائكة، وما
وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العصبيّة مسلمهم وكافرهم. أمّا
المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أنّ الله أذهب
عنكم غبية [1] الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم وآدم من تراب. وأما
المشركون فشغلهم ذلك الأمر
__________
[1] غبية: بالغين المعجمة أي الافتخار بالآباء وغير ذلك من أمور
العصبية انتهى.
(3/3)
العظيم عن شأن العصائب وذهلوا عنه حينا من
الدهر. ولذلك لمّا افترق أمر بني أمية وبني هاشم بالإسلام. إنما كان
ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير ولم يقع كبير فتنة لأجل
نسيان العصبيات والذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد ولم
يبق إلّا العصبية الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزّة الرجل على أخيه
وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يذهبها شيء ولا هي محظورة بل هي
مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاء إلى الدين ألا ترى إلى صفوان بن أميّة
وقوله عند ما انكشف المسلمون يوم حنين وهو يومئذ مشرك في المدّة التي
جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسلم، فقال له أخوه: ألا بطل
السحر اليوم؟ فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك. لان يربني رجل من قريش
أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. ثم أنّ شرف بني عبد مناف لم يزل في
بني عبد شمس وبني هاشم. فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحمزة كذلك. ثم من بعده العبّاس والكثير من بني عبد
المطلب وسائر بني هاشم خلا الجوّ حينئذ من مكان بني هاشم بمكّة
واستغلظت رياسة بني أمية في قريش. ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر
البطون في بدر وهلك فيها عظماء بني عبد شمس: عتبة وربيعة والوليد وعقبة
بن أبي معيط وغيرهم. فاستقلّ أبو سفيان بشرف بني أمية والتقدّم في
قريش، وكان رئيسهم في أحد وقائدهم في الأحزاب وما بعدها. (ولما كان
الفتح) قال العبّاس للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما أسلم أبو سفيان
ليلتئذ، كما هو معروف وكان صديقا له:
يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرا. فقال: من دخل
دار أبي سفيان فهو آمن. ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ وقال:
اذهبوا فأنتم الطلقاء وأسلموا. وشكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما
وجدوه في أنفسهم من التخلّف عن رتب المهاجرين الأوّلين، وما بلغهم من
كلام عمر في تركه شوراهم فاعتذر لهم أبو بكر وقال أدركوا إخوانكم
بالجهاد وأنفذهم لحروب الردّة فأحسنوا الغناء عن الإسلام وقوّموا
الأعراب عن الحيف والميل. ثم جاء عمر فرمي بهم الروم وأرغب قريشا في
النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك واستعمل يزيد بن أبي سفيان على
الشام. وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة
فولّى مكانه أخاه معاوية وأقرّه عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على
قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى
عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوّة ونبذوا الدنيا من أيديهم بما
اعتاضوا عنها من مباشرة الوحي وشرف القرب من الله برسوله وما زال الناس
يعرفون ذلك لبني أمية. وانظر
(3/4)
مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي
بكر: إنّ هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. (ولما
هلك عثمان) واختلف الناس على عليّ كانت عساكر عليّ أكثر عددا لمكان
الخلافة والفضل إلّا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع
معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم نزلوا بثغور الشام
منذ الفتح فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكه، ثم كسر من جناح عليّ ما كان
من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه واتفقت
الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عند ما نسي الناس
شأن النبوّة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبية والتغالب وتعين بنو أمية
للغلب على مضر وسائر العرب ومعاوية يومئذ كبيرهم. فلم تتعدّه الخلافة
ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه واستفحل شأنه واستحكمت في أرض مصر
رياسته وتوثق عقده. وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة
السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يدا من أهل الترشيح من
ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم ويصانع رءوس العرب وقروم مضر
بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه وكانت غايته في الحلم لا
تدرك وعصابته فيها لا تنزع ومرقاته فيها تزلّ عنها الأقدام (ذكر) أنه
مازح عديّ بن حاتم يوما يؤنبه بصحبة عليّ فقال له عديّ: والله إنّ
القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا وأنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى
عواتقنا ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبرا لندنينّ إليك من الشرّ باعا
وأنّ حزّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم [1] ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة
في عليّ فشم السيف يا معاوية يبعث السيف، فقال معاوية هذه كلمات حق
فاكتبوها وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا وأخباره في الحلم كثيرة.
بعث معاوية العمال الى الأمصار
لما استقلّ معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمّال إلى الأمصار،
فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة. ويقال إنه ولّى عليها أوّلا عبد الله
بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحا وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة
فأنت بين نابي أسد فعزله وولّى المغيرة. وبلغ
__________
[1] قوله وحشرجة إلخ. قال المجد: والحشرجة الغرغرة عند الموت تردد
النفس انتهى. وقوله الحيزوم، قال المجد أيضا: وكأمير، الصدر أو وسطه
كالحيزوم فيهما، جمعه احزمة وحزم انتهى.
(3/5)
ذلك عمرا فقال لمعاوية: يختان المال فلا
تقدر على ردّه فعد فاستعمل من يخافك فنصب المغيرة على الصلاة وولّى على
الخراج غيره، وكان على القضاء شريح. (ولما ولي) المغيرة على الكوفة
استعمل كثير بن شهاب على الريّ وأقرّه زياد بعده. وكان يغزو الديلم ثم
بعث على البصرة بسر بن أرطاة وكان قد تغلّب عليها حمران بن زيد عند صلح
الحسن مع معاوية فبعث بسرا عليها فخطب الناس وتعرّض لعليّ. ثم قال:
نشدت الله رجلا يعلم أني صادق أو كاذب ولا صدقني أو كذّبني. فقال أبو
بكرة: اللَّهمّ لا نعلمك إلّا كاذبا فأمر به فخنق فقام أبو لؤلؤة
الضبيّ فدفع عنه. وكان على فارس من أعمال البصرة زياد بن أبيه وبعث
إليه معاوية يطلبه في المال فقال: صرفت بعضه في وجهه واستودعت بعضه
للحاجة إليه وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله فكتب إليه
معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده
أولاد زياد والأكابر عبد الرحمن وعبد الله وعبّاد وكتب إليه لتقدمنّ أو
لأقتلنّ بنيك فامتنع واعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو بكرة وكان أخا
زياد لأمّه فقال: أخذتهم بلا ذنب وصالح الحسن على أصحاب عليّ حيث كانوا
فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية. ثم قدم أبو بكرة على معاوية
وقال: إنّ الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال وإنّ بسرا يريد قتل بني
زياد! فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد ولم يبق منه إلّا
ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى. (ثم عزل) معاوية بسرا عن
البصرة وأراد أن يولي عتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر:
إنّ لي بالبصرة أموالا وودائع وإن لم تولني عليها ذهبت. فولّاه وجعل
إليه معها خرسان وسجستان وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس
بن الهيثم السلميّ وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة ويوشلخ [1] قد نضوا،
فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة، وقيل إنّما
صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي (ثم قدم) قيس على
ابن عامر فضربه وحبسه وولّى مكانه عبد الله بن حازم، وقدم خراسان فأرسل
إليه أهل هراة وباذغيس ويوشلخ في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر
مالا انتهى. (ثم ولّى) معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن
الحكم وعلى مكّة خالد بن العاص بن هشام. واستقصى مروان عبد الله بن
الحرث بن نوفل وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين وولّى مكانه سعيد
بن العاص وذلك لثمان سنين من
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بوشنج.
(3/6)
ولايته. وجعل سعيد على القضاء [1] ابن عبد
الرحمن مكان عبد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيدا سنة أربع وخمسين
وردّ إليها مروان.
قدوم زياد
وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل عليّ كما قدّمناه وكان عبد الرحمن
ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة ورفع إلى معاوية أنّ زيادا
استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك
فأحضر عبد الرحمن وقال له: إن يكن أبوك أساء إليّ فقد أحسن عمك وأحسن
العذر عند معاوية (ثم قدم المغيرة) على معاوية فذكر له ما عنده من
الوجل باعتصام زياد بفارس فقال: داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل
فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت ويعيد الحرب خدعة، فاستأذنه
المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال: إنّ معاوية بعثني إليك وقد
بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك.
قال: أشر عليّ والمستشار مؤتمن فقال أرى أن تشخص إليه وتصل حبلك بحبله
وترجع عنه فكتب إليه معاوية بأمانه وخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه
المنجاب بن رابد الضبّي وحارثة بن بدر الغداني، واعترضه عبد الله بن
حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه
وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى
عليّ وبما بقي عنده مودعا للمسلمين فصدّقه معاوية وقبضه منه. ويقال إنه
قال له: أخاف أن تكون مكروبا بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث
بها إليه واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له وكان المغيرة يكرمه ويعظمه
وكتب إليه معاوية أن يلزم زيادا وحجر بن عديّ وسليمان بن صرد وسيف بن
ربعي وابن الكوّاء وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه
الصلوات.
عمال ابن عامر على الثغور
لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان
فأتاها وعلى شرطتها عبّاد بن الحصين ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله
بن معمر وغيره. وكان أهل البلاد قد كفروا، ففتح أكثرها حتى بلغ كابل
وحاصرها أشهرا ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها ولم يقدر المشركون
على سد الثلمة.
وبات عبّاد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح، ثم خرجوا من الغد
للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة انتهى. (ثم سار) إلى نسف
فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها
__________
[1] بياض بالأصل وقال الطبري: وكان على قضاء المدينة لمروان فيما زعم
الواقدي حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل. فلما ولي سعيد بن العاص
عزله عن القضاء واستقضى ابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. (ج 6 ص 130) .
(3/7)
ثم إلى الرجح فقاتلوه وظفر بهم وفتحها
انتهى. ثم إلى زابلستان (وهي غزنة) وأعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل
وقد نكث أهلها ففتحها انتهى. (واستعمل) على ثغر الهند عبد الله بن سوار
العبديّ، ويقال بل ولّاه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنما ووفد
على معاوية وأهدى له من خيولها، ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك
وقتلوه، وكان كريما في الغاية يقال: لم يكن أحد يوقد النار في عسكره،
وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم
الناس الخبيص ثلاثة أيام. (واستعمل) على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل
بالخراج والهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم. فخاف قيسا وأقبل فزاد
ابن عامر غضبا لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلا من يشكر وقيل أسلم بن
زرعة الكلابي (انتهى) . (ثم بعث) عبد الله بن حازم وقيل: إنّ ابن حازم
قال لابن عامر: إنّ قيسا لا ينهض بخراسان وأخاف إن لقي قيس حربا أن
ينهزم ويفسد خراسان، فاكتب لي عهدا إن عجز عن عدوّ قمت مقامه. فكتب
وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه
الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده وقام بأمر الناس وهزم
العدوّ. وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس وقالوا خدع صاحبنا،
وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه، وقال له أقم في الناس
بعذرك ففعل انتهى. (وفي سنة) ثلاث [1] وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر
فاستعمل معاوية مكانه عبد الله ابنه.
عزل ابن عامر
وكان ابن عامر حليما ليّنا للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك. وقال له
زياد جرّد السيف فقال: لا أصلح الناس بفساد نفسي. ثم بعث وفدا من
البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة ومنهم ابن الكوّاء وهو عبد
الله بن أبي أوفى اليشكري فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن
الكوّاء بعجز ابن عامر وضعفه فقال معاوية: تتكلم على أهل البصرة وهم
حضور! وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولّى على خراسان من أعداء ابن الكوّاء
عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوّاء لذلك
وقال: وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي. ثم أنّ معاوية استقدم ابن
عامر فقدم
__________
[1] قوله وفي سنة ثلاث إلخ.. هذا يخالف ما ذكره الميداني في مجمع
الأمثال قال: ليس هذا من كيسك، يضرب لمن يرى منه ما لا يمكن ان يكون هو
صاحبه. وأصل هذا ان معاوية لما أراد المبايعة ليزيد دعا عمرا فعرض عليه
البيعة له فامتنع فتركه معاوية ولم يستقص عليه. فلما اعتل معاوية العلة
التي توفي فيها دعا يزيدا وخلا به وقال له: إذا وضعتم سريري على شفير
حفرتي فادخل أنت القبر ومر عمرا يدخل معك فإذا دخل فاخرج واخترط سيفك
ومره ليبايعك فان فعل والا فادفنه قبلي ففعل ذلك يزيد فبايع عمرو وقال
ما هذا من كيسك ولكنه من كيس الموضوع في اللحد فذهبت مثلا انتهى.
(3/8)
وأقام أياما فلما ودّعه قال: إني سائلك
ثلاثا قال: هنّ لك، قال: ترد عليّ عملي ولا تغضب وتهب لي مالك بعرفة
ودورك بمكّة. قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم، فقال ابن عامر: وإني سائلك
ثلاثا ترد عليّ عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملا ولا تتبع لي أثرا
وتنكحني ابنتك هندا. قال: قد فعلت! ويقال: إنّ معاوية خيّره بين أن
يردّه على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه أو يعزله ويسوغه ما أصاب
فاختار الثالثة فعزله وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله الأزدي [1]
استخلاف زياد
كانت سميّة أم زياد مولاة للحرث بن كندة الطبيب وولدت عنده أبا بكرة ثم
زوّجها بمولى له وولدت زيادا وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض
حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية وولدت زيادا هذا، ونسبه [2] إلى
أبي سفيان وأقرّ لها به، إلّا أنه كان بخفية، ولما شبّ زياد سمت به
النجابة واستكتبه أبو موسى الأشعريّ وهو على البصرة، واستكفاه عمر في
أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام
فقال عمرو بن العاص وكان حاضرا للَّه هذا الغلام، لو كان أبوه من قريش
لساق العرب بعصاه. قال أبو سفيان وعليّ يسمع: والله إني لأعرف أباه ومن
وضعه في رحم أمّه، فقال له عليّ: اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك
سريعا. ثم استعمل عليّ زيادا على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدّده
ويعرض له بولادة أبي سفيان إيّاه فقام في الناس فقال: عجبا لمعاوية [3]
يخوّفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار! وكتب إليه عليّ إني
ولّيتك وأنا أراك أهلا وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب
النفس، لا توجب ميراثا ولا نسبا. ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن
خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام (هـ) . ولما قتل عليّ
وصالح زياد معاوية وضع مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ على معاوية ليعرض له
بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة
بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه،
وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة.
(وكتب زياد) إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي
جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الأسدي والصحيح الازدي.
[2] مقتضى السياق: ونسبته الى أبي سفيان.
[3] وفي بعض الروايات: عجبا لابن آكلة الأكباد.
(3/9)
إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها
زياد. وكان عبد الله بن عامر يبغض زيادا وقال يوما لبعض أصحابه: من عبد
القيس؟! ابن سميّة يقبّح آثاري ويعترض عمّالي لقد هممت بقسامة من قريش
أنّ أبا سفيان لم ير سميّة! فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية، فأمر
حاجبه أن يردّه من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد، فركب معه فأدخله
على معاوية فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته فقال يزيد: نقعد في
انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول، وقال: إني
لا أتكثر بزياد من قلّة ولا أتعزّز به من ذلّة ولكن عرفت حق الله
فوضعته موضعه فخرج ابن عامر وترضّى زيادا ورضي له معاوية.
ولاية زياد البصرة
كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة وكان يتشوّف الامارة
عليها. فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم
يعفه. فيقال إنه خرج زياد إلى الشام، ثم إنّ معاوية عزل الحرث بن عبد
الله الأزدي عن البصرة وولّى عليها زيادا سنة خمس وأربعين، وجمع له
خراسان وسجستان ثم جمع له السند والبحرين وعمان، وقدم البصرة فخطب
خطبته البتراء وهي معروفة، وإنما سمّيت البتراء لأنه لم يفتحها بالحمد
والثناء، فحذّرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات
والاسترسال في الفسق والضلال، وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات
وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم، فأطال في ذلك عنّفهم ووبّخهم وعرّفهم ما
يجب عليهم في الطاعة من المناصحة والانقياد للأئمة وقال: لكم عندي ثلاث
لا أحتجب عن طالب حاجة ولو طرقني ليلا ولا أحبس العطاء عن اباية ولا
أحمر البعوث [1] فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم: أشهد
أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. قال: كذبت ذاك نبيّ الله داود ثم استعمل
على شرطته عبد الله بن حصين وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل.
وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلّا سفكت دمه وكان يأمر بقراءة
سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة ثم يمهل بقدر ما يبلغ الرجل أقصى
البصرة، ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلّا قتله. وكان أوّل من
شدّد أمر السلطان وشيّد الملك فجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على
الشبهة وخافه السفهاء والذعّار وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم حتى كان
الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرّض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه ولا
يغلق أحد بابا وأدرّ العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف [2]
وسئل في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عن ابانة ولا اجرّ البعوث.
[2] يعتبر زياد أول من أعلن الأحكام العرفية في الإسلام.
(3/10)
إصلاح السابلة فقال: حتى أصلح المصر. فلما
ضبطه أصلح ما وراءه، وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين
ولاه قضاء البصرة فاستعفى، فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي، ثم
أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد، وكان يستعين بأنس
بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب. ويقال: إن زيادا أوّل من
سيّر بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس رابطة، فكان خمسمائة منهم
لا يفارقون المسجد، ثم قسّم ولاية خراسان على أربعة: فولّى على مرو
أمين ابن أحمد اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى
مروالروذ والعاربات والطالقات قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج
نافع بن خالد الطائي. ثم إنّ نافعا بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض
وجوهه، وكانت قوائمه منه، فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهبا وبعث
الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك
القائمة فعزله وحبسه، وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتابا، وقيل
ثمانمائة ألف. وشفع فيه رجال من الأزد فأطلقه واستعمل مكانه الحكم بن
عمرو الغفاريّ وجعل معه رجالا على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابيّ.
وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى
جبال الغور، وكانوا قد ارتدّوا، ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته
إلى ما وراءه فملأه غارة. ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو واستخلف على
عمله أنس بن أبي أناس [1] بن ربين فلم يرضه زياد. وكتب إلى خليد بن عبد
الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين
ألفا من البصرة والكوفة.
صوائف الشام
ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم فهزموهم وقتلوا جماعة
من البطارقة وأثخنوا فيها ثم دخل بسر بن أرطاة أرضهم سنة ثلاث وأربعين
ومشى بها وبلغ القسطنطينيّة. ثم دخل عبد الرحمن بن خالد وكان على حمص
فشتّى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر. ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة
ست وأربعين فشتى بها، وشتى أبو عبد الرحمن السبيعي على انطاكية ثم
دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتّى عبد الرحمن بأنطاكية أيضا. ودخل عبد الله
بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكريّ
في البحر وعقبة بن عامر الجهنيّ في البحر أيضا بأهل مصر وأهل المدينة.
ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتّى بأرض الروم ودخل عبد الله
بن كرز الجيلي بالصائفة وشتّى يزيد بن ثمرة الرهاويّ في بلاد الروم
بأهل الشام في البحر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انس بن أبي إياس بن روبين.
(3/11)
وعقبة بن نافع بأهل مصر كذلك (ثم) بعث
معاوية سنة خمسين جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف وندب
يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه. ثم بلغ الناس أنّ الغزاة أصابهم جوع ومرض
وبلغ معاوية أنّ يزيد أنشد في ذلك:
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفدفد البيد من حمّى ومن شوم
إذا اتطأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندي أمّ كلثوم
وهي امرأته بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير
جمعهم إليه معاوية فيهم ابن عبّاس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب
الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينيّة وقاتلوا الروم
عليها. فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها ورجع يزيد
والعساكر إلى الشام ثم شتّى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين
وغزا بسر بن أرطاة بالصائفة.
وفاة المغيرة
توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون، وقيل سنة تسع
وأربعين وقيل سنة إحدى وخمسين، فولّى مكانه معاوية زيادا وجمع له
المصرين فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب فلما وصل
الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس على كرسيّ وأحاط أصحابه
بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك، ومن لم يخلف حبسه
فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس. ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء
فطلبه، فهرب ثم أخذه فقتله وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط: إنّ عمر
بن الحمق يجتمع إليه شيعة عليّ فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع
عنده. وقال لا أبيح أحدا حتى يخرج عليّ، وأكثر سمرة بن جندب اليتامى
بالبصرة يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد انتهى.
(كان عمرو بن العاص) قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على
إفريقية، وهو ابن خالته انتهى الى لواته [1] ومرانه، فأطاعوا ثم كفروا
فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس. وفي السنة التي
بعدها ودّان وكورا من كور السودان وأثخن في تلك النواحي، وكان له فيها
جهاد وفتوح. ثم ولّاه معاوية على إفريقية سنة خمسين وبعث إليه عشرة
آلاف فارس، فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ووضع
السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا،
فإذا رجعوا عنهم ارتدّوا فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها
__________
[1] من نواحي الأندلس من أعمال فرّيش، ولواته: قبيلة من البربر.
(3/12)
العساكر من البربر فاختط القيروان وبنى بها
المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها [1] ثلاثة
آلاف باع وستمائة باع، وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا
للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين ورسخ
الدين. ثم ولّى معاوية على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري
واستعمل على إفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة واستخف به فسيّر
ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية وشكا إليه فاعتذر له ووعده بردّه
إلى عمله، ثم ولّاه يزيد سنة اثنتين وستين (وذكر) الواقدي: أنّ عقبة
ولي إفريقية سنة ست وأربعين فاختط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين
وستين بأبي المهاجر.
فحينئذ قبض على عقبة وضيّق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده
واليا على إفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك
البرانس من البربر كما نذكر بعد. (كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على
الكوفة) كثيرا ما يتعرّض لعليّ في مجالسه وخطبه، ويترحّم على عثمان
ويدعو له فكان حجر بن عديّ إذا سمعه يقول:
بلاياكم قد أضلّ الله ولعن. ثم يقول أنا أشهد أنّ من تذمّون أحق
بالفضل، ومن تزكّون أحق بالذم. فبعث له المغيرة يقول: يا حجر اتّق غضب
السلطان وسطوته، فإنّها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك. (ولما كان) آخر
إمارته المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال
له: مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعا بذم المؤمنين، وصاح
الناس من جوانب المسجد صدق حجر فر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يجدي
علينا نفعا. فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن
سلطانه، ويسخط عليه معاوية فقال لا أحبّ أن آتي بقتل أحد من أهل المصر.
وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله ثم توفي المغيرة وولي زياد
فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه. وقال حجر ما كان يقول
فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث وبلغه أنّ
حجرا يجتمع إليه شيعة عليّ ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم وأنهم
حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس وحجر جالس
يسمع فتهدّده وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأودعه نكالا
لمن بعده ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شدّاد بن
الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم
__________
[1] اي محيطها ودورانها.
(3/13)
أصحابه. فجمع زياد أهل الكوفة وتهدّدهم
فتبرّءوا فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا
لم يبق معه إلّا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فأت به طوعا
أو كرها فلما جاءه يدعوه امتنع من الإجابة فحمل عليهم وأشار إليه أبوا
العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر ثم
غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق فسقط ودخل في دور الأزد فاختفى
وخرج حجر من أبواب كندة فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه واجتمع
إليه الناس ولم يأته من كندة إلّا قليل ثم أرسل زياد وهو على المنبر
مذحج وهمدان ليأتوه بحجر، فلما علم أنهم قصدوه تسرّب من داره إلى النخع
ونزل على أخي الأشتر. وبلغه أنّ الشرطة تسأل عنه في النخع. فأتى الأزد
واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه فدعا حجر محمد بن الأشعث أن
يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد ومعه جرير بن
عبد الله وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحرث أخو الأشتر فاستأمنوا له
زيادا فأجابهم ثم أحضروا حجرا فحبسه وطلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق
إلى الموصل ومعه زواعة بن شدّاد فاختفى في جبل هناك ورفع أمرهما إلى
عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية، ويعرف
بابن أمّ الحكم فسار إليهما وهرب زواعة وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية
بذلك فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فاطعنه كذلك فمات
في الأولى والثانية ثم جدّ زياد في طلب أصحاب حجر وأتى بقبيصة بن ضبعة
العبسيّ بأمان فحبسه وجاء قيس بن عبّاد الشّبلي برجل من قومه من أصحاب
حجر فأحضره زياد وسأله عن عليّ فأثنى عليه فضربه وحبسه. وعاش قيس بن
عبّاد حتى قاتل مع ابن الأشعث، ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى
الحجّاج فقتله. ثم أرسل زياد إلى عبد الله ابن خليفة الطائي من أصحاب
حجر فتوارى وجاء الشرط فأخذوه ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ
زياد عديّ بن حاتم وهو في المسجد وقال: ائتني بعبد الله وخبره جهرة
فقال: آتيك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه
فحبسه، فنكر ذلك الناس وكلّموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكبير طيِّئ قال: أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه
وأمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيِّئ فلم يزل هنالك حتى مات وأتى زياد
بكريم بن عفيف الخثعميّ من أصحاب حجر وغيره
(3/14)
ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رءوس
الأرباع يومئذ [1] وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن
عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو
بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد. فشهدوا كلهم أنّ حجرا جمع الجموع
وأظهر شتم معاوية، ودعا إلى حربه وزعم أنّ الأمر لا يصلح إلا في
الطالبيين ووثب بالمصر وأخرج العامل وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه،
والبراءة من عدوّه وأهل حربه، وأنّ النفر الذين معه وهم رءوس أصحابه
على مقدّم رأيه ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة
والمنذر ابن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي
وقّاص وغيرهم وفي الشهود شريح بن الحرث وشريح بن هانئ ثم استدعى زياد
وائل بن حجر الحضرميّ وكثير ابن شهاب ودفع إليهما حجر بن عديّ وأصحابه
وهم الأرقم بن عبد الله الكنديّ وشريك بن شدّاد الحضرميّ وصيفي بن فضيل
الشيبانيّ وقبيصة بن ضبيعة العبسيّ، وكريم ابن عفيف الخثعميّ، وعاصم بن
عوف البجلي وورقاء بن سميّ البجلي، وكرام بن حبّان العنزي وعبد الرحمن
بن حسّان العنزي ومحرز بن شهاب التميمي وعبد الله بن حويّة السعدي ثم
أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر وسعد بن غوات
الهمدانيّ، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية. ثم لحقهما شريح بن هانئ
ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل ولما انتهوا إلى مرج غدراء [2] قريب
دمشق تقدّم ابن وائل وكثير إلى معاوية، فقرأ كتاب شريح وفيه بلغني أنّ
زيادا كتب شهادتي وأنّي أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة
ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، حرام الدم والمال
فإن شئت فاقبله أو فدعه، فقال معاوية: ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من
شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس وسعد بن غوات
اللذين ألحقهما زياد بهما. وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية
فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصما وورقاء ابني عمه
وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية وشفع وائل بن
حجر في الأرقم وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس وحبيب بن سلمة في
أخويه فتركهم وسأله مالك بن هبيرة السكونيّ
__________
[1] يظهر من سياق المعنى ان العبارة تامة وليس مكان البياض شيء.
[2] هو مرج عذراء بغوطة دمشق (معجم البلدان) .
(3/15)
في حجر فردّه فغضب وحبس في بيته وبعث
معاوية هدبة بن فيّاض القضاعيّ، والحسين بن عبد الله الكلابي، وأبا
شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم وعرض
عليهم البراءة من عليّ فأبوا وصلّوا عامة ليلتهم ثم قدموا من الغد
للقتل وتوضأ حجر وصلّى وقال: لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت
منها. اللَّهمّ إنّا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة، يشهدون علينا، وأهل
الشام يقتلوننا. ثم مشى إليه هدبة بن فيّاض بالسيف، فارتعد فقالوا: كيف
وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فابرأ من صاحبك وندعك.
فقال: وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن، والسيف. وإن جزعت من
الموت لا أقول ما يسخط الربّ فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم شريك بن شدّاد
وصيفي بن فضيل وقبيصة بن حنيفة، ومحرز بن شهاب، وكرام بن حبان ودفنوهم
وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسّان العنزي [1] وجيء بكريم بن الخثعميّ
إلى معاوية فطلب منه البراءة من عليّ فسكت واستوهبه سمرة بن عبد الله
الخثعميّ من معاوية فوهبه له، على أن لا يدخل الكوفة. فنزل إلى الموصل
ثم سأل عبد الرحمن بن حسّان عن عليّ فأثنى خيرا ثم عن عثمان فقال: أوّل
من فتح باب الظلم وأغلق باب الحق فردّه إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه
حيّا وهو سابع القوم. (وأمّا مالك) بن هبيرة السكونيّ فلما لم يشفعه
معاوية في حجر جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه فلقي القتلة وسألهم فقالوا
مات القوم وسار إلى عديّ فتيقن قتلهم فأرسل في إثر القتلة فلم يدركوهم،
وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم
أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حربا فيكون على المسلمين
أعظم من قتل حجر فطابت نفسه. (ولما بلغ) عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت
عبد الرحمن بن الحرث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا فقال
لمعاوية: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال: حيث غاب عليّ مثلك من حلماء
قومي وحملني ابن سميّة فاحتملت وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه.
وقيل في سياقة الحديث غير ذلك وهو أنّ زيادا أطال الخطبة في يوم جمعة
فتأخرت الصلاة فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه. وخشي فوت
الصلاة فحصبه بكف من الحصباء، وقام إلى
__________
[1] هذه العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 485 «وإني
والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرّبّ. فقتلوه وقتلوا ستة.
فقال عبد الرحمن بن حسّان العنزي وكريم الخثعميّ:
ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته» .
(3/16)
الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد ونزل
فصلى. وكتب إلى معاوية وعظّم عليه الأمر، فكتب إليه أن يبعث به موثقا
في الحديد وبعث من يقبض عليه فكان ما مرّ.
ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية، فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين
وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيدا ولا تغسلوا دما فإنّي لاق
معاوية غدا على الجادّة وقتل (انتهى) . (وقالت) عائشة لمعاوية: أين
حملك عن حجر؟ قال: لم يحضرني رشيد (انتهى) . (وكان) زياد قد ولّى
الربيع بن زياد الحارثيّ على خراسان سنة إحدى وخمسين بعد أن هلك حسن بن
عمر الغفاريّ وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفا فيهم بريدة بن
الحصيب، وأبو برزة الأسلمي من الصحابة وغزا بلخ ففتحها صلحا، وكانوا
انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس. ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان
بناحيتها من الترك، ولم يفلت منهم إلّا قيزل طرخان وقتله قتيبة ابن
مسلم في ولايته فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك
وقال: لا تزال العرب تقتل بعده صبرا ولو نكروا قتله منعوا أنفسهم من
ذلك، لكنهم أقرّوا فذلوا. ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره وقال
للناس: إني قد مللت الحياة، واني داع فأمّنوا ثم رفع يديه وقال:
اللَّهمّ إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمّن الناس. ثم خرج
فما تواترت ثيابه حتى سقط، فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله ومات
من يومه. ثم مات ابنه بعده بشهرين واستخلف خليد ابن عبد الله الحنفي
وأقرّه زياد.
وفاة زياد
ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال
بدعوة ابن عمر، وذلك أنّ زيادا كتب إلى معاوية إني ضبطت العراق بشمالي
ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز، فكتب له عهده بذلك، وخاف أهل الحجاز
وأتوا عبد الله بن عمر يدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك فاستقبل القبلة
ودعا معهم وكان من دعائه: اللَّهمّ اكفناه، ثم كان الطاعون فأصيب في
يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحا القاضي فاستشاره فقال إن يكن
الأجل فرغ فتلقى الله أجذم [1]
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 3 ص 494 «فقال له شريح: إني أخشى أن يكون
الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه» «وفي مروج
الذهب ما يؤخذ منه تسويده وعباراته وانه شاور شريحا في قطعها، فقال له:
لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني اكره ان كانت لك مدة ان تعيش أجذم، وإن
حم أجلك أن تلق ربك مقطوع اليد. فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت بغضا للقائك
وفرارا من قضائك انتهى.» ج 3 ص 27.
ابن خلدون م 2 ج 3-
(3/17)
كراهية في لقائه وإلّا فتعيش أقطع، ويعيّر
ولدك فقال: لا أبيت والطاعون في لحاف واحد، واعتزم على قطعها فلما نظر
إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل تركه لإشارة شريح وعذل الناس شريحا
في ذلك فقال: المستشار مؤتمن. ولما حضرته الوفاة قال له ابنه: قد هيأت
لكفنك ستين ثوبا فقال: يا بني قد دنا لأبيك لباس خير من لباسه. ثم مات
ودفن بالتوسة قرب الكوفة، وكان يلبس القميص ويرقعه، ولما مات استخلف
على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد وكان خليفته على البصرة عبد الله
بن عمر بن غيلان وعزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة وولّى عليها
الضحّاك بن قيس.
ولاية عبيد الله بن زياد على خراسان ثم على
البصرة
ولما قدم ابنه عبيد الله على معاوية وهو ابن خمس وعشرين سنة قال: من
استعمل أبوك على المصرين؟ فأخبره فقال: لو استعملك لاستعملتك. فقال
عبيد الله:
أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك وعمك استعملتك. فولّاه
خراسان ووصّاه فكان من وصيته: اتق الله ولا تؤثرنّ على تقواه شيئا،
فإنّ في تقواه عوضا وق عرضك من أن تدنسه، وإن أعطيت عهدا فأوف به، ولا
تتبعنّ كثيرا بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردنّ
عليك. وإذا لقيت عدوّك فكبّر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا
تطمعنّ أحدا في غير حقه، ولا تؤيسنّ أحدا من حق هو له. ثم ودّعه فسار
إلى خراسان أوّل سنة أربع وخمسين، وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي، ثم
قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين ونسف وسكند ولقيه
الترك فهزمهم وكان مع ملكهم امرأته خاتون، فأعجلوها عن لبس خفيها،
فأصاب المسلمون أحدهما وقوّم بمائتي ألف درهم. وكان عبيد الله ذلك
اليوم يحمل عليهم وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دما.
وكان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة، وكانت أربعة منها للأحنف بن
قيس بقهستان والمرعات وزحف لعبد الله بن حازم قضى فيه جموع فاران وأقام
عبيد الله واليا على خراسان سنتين وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على
البصرة. وذلك أنّ ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة، فحصبه رجل من بني
ضبّة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار
(3/18)
عنه، وأنه قطع على أمر لم يصح، مخافة أن
يعاقبهم معاوية جميعا فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة
وأوفاه الضبّيّون بالكتاب، فادّعوا أنّ ابن غيلان قطع صاحبهم ظلما فلما
قرأ معاوية الكتاب قال: أمّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه، ولكن أدي
صاحبكم من بيت المال وعزل عبد الله بن غيلان عن البصرة، واستعمل عليها
عبيد الله بن زياد، فسار إليها عبيد الله وولّى على خراسان أسلم بن
زرعة الكلابي فلم يغز ولم يفتح.
العهد ليزيد
ذكر الطبري بسنده قال: قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف،
فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولّي سعيد بن العاص وقال أصحاب المغيرة
للمغيرة: إنّ معاوية قلاك، فقال لهم: رويدا ونهض إلى يزيد وعرض له
بالبيعة. وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قريش ورادوا أسنانهم، وإنما
بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وسياسة، وما أدري ما يمنع
أمير المؤمنين من العهد لك فأدّى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في
ذلك. فقال: قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان وفي يزيد
منك خلف، فاعهد له يكون كهفا للناس بعدك فلا تكون فتنة ولا يسفك دم
وأنا أكفيك الكوفة ويكفيك ابن زياد البصرة فردّ معاوية المغيرة إلى
الكوفة، وأمره أن يعمل في بيعة يزيد فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من
شيعة بني أمية فأجابوه، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد
البيعة ليزيد.
فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم! نحن ومن وراءنا. فقال: ننظر ما قدمتم
له ويقضي الله أمره، والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره
بفكر [1] .
وكف عن هدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الظعينة بين
قرايته ويقول لو لم تكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه
من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية
وتنصّل. وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيرا فلما كان سنة سبع
وخمسين عزل مروان وولّى مكانه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقيل سنة
ثمان [2] .
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري «حدثني الحارث قال: حدثنا علي عن
مسلمة، قال: لما أراد معاوية
[2] هذا المقطع غير منسجم مع العنوان: العهد ليزيد، فهو يتكلم عن عزل
سعيد بن العاص وتولية مروان بن الحكم مكانه، وأمره مروان بهدم دار سعيد
والقصة مذكورة في مكان سابق من هذا الكتاب.
506- 511- طبعة دار صادر 1965
(3/19)
__________
[ () ] ان يبايع ليزيد كتب الى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد ابن
كعب النميري فقال: ان لكل مستبشر ثقة ولكل سر مستودع وان الناس قد
أبدعت من خصلتان: اذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها. وليس موضع
السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف في نفسه
وعقل يصون حسبه، وقد عجمتها منك فاحمدت الّذي قبلك. وقد دعوتك لأمر
اتهمت عليه بطون الصحف. ان أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد عزم على
بيعة يزيد وهو يتخوف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني وعلاقة أمر
الإسلام وضمانه عظيم. ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من
الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدّيا عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقل له:
رويدك بالأمر، فأقمن ان يتم لك ولا تعجل. فان دركا في تأخير خير من
تعجيل عاقبته الفوت.
فقال عبيد له أفلا غير هذا؟ قال ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه
ولا تمقت اليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرا من معاوية فأخبره عنك ان أمير
المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخاف خلاف الناس لهنات
ينقمونها عليه، وانك ترى له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين
الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد. فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير
المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة.
فقال زياد: رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فان أصبت فما لا
ينكر وان يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إنشاء الله من الخطأ. قال تقول
بما ترى ويقضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكتب زياد
الى معاوية يأمره بالتؤدة وان لا يعجل فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن
كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فاقطعه قطيعة» . الطبري ج 6 ص
169- 170.
وورد في الكامل لابن الأثير بعد ذكر الرواية المذكورة أعلاه عن الطبري
بفارق قليل: ج 3 ص 507.
«فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل الى عبد الله
بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا
أراد ان ديني عندي إذن لرخيص وامتنع، ثم كتب معاوية بعد ذلك الى مروان
بن الحكم: إني قد كبرت سني ودق عظمي وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي.
وقد رأيت ان أتخير لهم من يقوم بعدي، وقد كرهت ان اقطع امرا دون مشورة
من عندك، فاعرض ذلك عليهم واعلمني بالذي يردون عليك. فقام مروان بالناس
فأخبرهم به. فقال الناس:
أصاب ووفق، وقد أحببنا ان يتخير لنا فلا يألو.
فكتب مروان الى معاوية بذلك، فأعاد اليه الجواب يذكر يزيد، فقام مروان
فيهم وقال: ان أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه
يزيد بعده. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال:
كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم
تريدون ان تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا
الّذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما 46: 17
الآية.
فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء حجاب وقالت: يا مروان يا مروان!
فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل
فيه القرآن؟ كذبت والله وما هو به ولكنه فلان بن فلان ولكنك أنت فضض من
لعنة نبي الله.
وقام الحسين بن عليّ فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير. فكتب
مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب الى عماله بتقريظ يزيد
ووصفه وان يوفدوا اليه الوفود من الأمصار ...
تم ذكر الوفود التي وفدت على معاوية ويزيد وذكر كلام المتكلمين بهذا
الشأن. وسفر معاوية الى المدينة ثم الى مكة الى ان قال ص 510: ثم أقبل
معاوية على ابن الزبير فقال: هات لعمري انك خطيبهم فقال: نعم نخيرك بين
ثلاث خصال. قال اعرضهن قال: تصنع كما صنع رسول الله (ص) أو كما صنع أبو
بكر أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله (ص) ولم
يستخلف
(3/20)
عزل الضحاك عن الكوفة وولاية ابن أمّ الحكم
ثم النعمان بن بشير
عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين وولى مكانه عبد الرحمن بن
عبد الله بن عثمان الثقفي وهو ابن أمّ الحكم أخت معاوية فخرجت عليه
الخوارج الذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة، وخرجوا من
سجنه بعد موته فاجتمعوا على حيّان بن ضبيان السلميّ ومعاذ بن جرير
الطائي، فسيّر إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما
يذكر في أخبار الخوارج. ثم إنّ أهل الكوفة نقلوا عن عبد الرحمن سوء
سيرته، فعزله معاوية عنهم وولّى مكانه النعمان بن بشير. وقال: أوليك
خيرا من الكوفة، فولّاه مصر، وكان عليها معاوية بن خديج السكونيّ، وسار
إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها، وقال: ارجع إلى حالك لا تسر
فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن
خديج في عمله.
__________
[ () ] أحدا فارتضى الناس ابا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف
الاختلاف قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد الى رجل من قاصية
قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وان شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر
شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.
قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال لا! ثم قال: فأنتم! قالوا: قولنا
قوله. قال: فاني قد أحببت ان أتقدم إليكم انه قد أعذر من أنذر، أني كنت
أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس، فأحمل ذلك
وأصفح واني قائم بمقالة، فأقسم باللَّه لئن رد علي أحدكم بكلمة في
مقامي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه، فلا
يبقين رجل إلا على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه في حضرتهم فقال: أقم على رأس
كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فان ذهب رجل منهم يرد على كلمة
بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ان هؤلاء الرهط من المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضى إلا عن
مشورتهم وأنهم رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس،
وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف الى المدينة.
فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انكم لا تبايعون فلم رضيتم
وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم ان تردوا
على الرجل. قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثم انصرف الى
الشام» ص 511
(3/21)
ولاية عبد الرحمن بن
زياد خراسان
وفي سنة تسع وخمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية فقال: يا
أمير المؤمنين أما لنا حق؟ قال: بلى! فماذا قال توليني؟ قال: بالكوفة
النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالبصرة
وخراسان عبيد الله أخوك، وبسجستان عبّاد أخوك ولا أرى ما يشبهك إلا أن
أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة فولّاه خراسان فسار
إليها، وقدّم بين يديه قيس بن الهيثم السلميّ، فأخذ أسلم بن زرعة
وحبسه. ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم وأقام بخراسان وكان
متضعّفا لم يقرّ قط. وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين، فاستخلف على
خراسان قيس بن الهيثم. فقال له يزيد: كم معك من مال خراسان؟ قال عشرون
ألف درهم فخيّره بين أخذها بالحساب وردّه إلى عمله أو تسويغه إياها
وعزله، على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، فاختار تسويغها
والعزل. وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني. ثم
إنّ أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على
منازلهم ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به
معاوية وأجلسه معه على سريره. ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت
الأحنف، فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم، فقال:
انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله واطلبوا واليا ترضونه، فطفق القوم
يختلفون إلى رجال بني أمية وأشراف الشام، وقعد الأحنف في منزله، ثم
أحضرهم معاوية وقال: من اخترتم فسمّى كل فريق رجلا والأحنف ساكت. فقال
معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال: إن ولّيت علينا من أهل بيتك لم نعدل
بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت من غيرهم ينظر في ذلك قال: فإنّي قد أعدته
عليكم، ثم أوصاه بالأحنف وقبّح رأيه في مباعدته ولما هاجت الفتنة لم
يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم.
بقية الصوائف
دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتّى بها وقيل رجع ونزل
هنالك سفيان بن عوف الأزديّ فشتّى بها وتوفي هنالك انتهى. وغزا
بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفيّ، ثم دخل عبد الرحمن ابن أمّ الحكم
سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتّى بها وافتتحت في هذه السنة رودس،
فتحها جنادة بن أبي أميّة الأزديّ ونزلها المسلمون على حذر من الروم،
ثم كانوا يعترضونه في البحر
(3/22)
ويأخذون سفنه، وكان معاوية يدركهم بالعطاء
حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته. ثم دخل سنة أربع وخمسين الى
بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة [1] ابن يزيد السلميّ،
وفتح المسلمون جزيرة أروى قرب القسطنطينيّة ومقدمهم جنادة بن أبي أمية،
فملكوها سبع سنين ونقلهم يزيد في ولايته وفي سنة خمس وخمسين كان شتّى
سفيان بن عوف بأرض الروم، وقيل عمر بن محرز وقيل عبد الله بن قيس. وفي
سنة ست وخمسين كان شتّى جنادة بن أبي أميّة، وقيل عبد الرحمن بن مسعود،
وقيل غزا في البحر يزيد ابن سمرة. وفي البرّ عياض بن الحرث. وفي سنة
سبع وخمسين كان شتّى عبد الله بن قيّس بأرض الروم. وغزا مالك بن عبد
الله الخثعميّ في البرّ، وعمر بن يزيد الجهنيّ في البحر.
وفي سنة ثمان وخمسين كان شتّى عمر بن مرّة الجهنيّ بأرض الروم، وغزا في
البحر جنادة بن أميّة. وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد
الروم، وعليهم عمير بن الحباب السلميّ صعد سورها وقاتل عليه وحده حتى
انكشف الروم وفتحه.
وفي سنة ستين غزا مالك بن عبد الله سويّة وملك جنادة بن أبي أمية رودس
وهدم مدينتها.
وفاة معاوية
وتوفي معاوية سنة ستين وكان خطب الناس قبل موته وقال: إني كزرع مستحصد
وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم
فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أنّ من كان قبلي خير
مني. وقد قيل من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه. اللَّهمّ إني قد أحببت
لقاءك فاحبب لقائي وبارك لي. فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا
ابنه يزيد وقال: يا بنيّ إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأمور
وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد. وإني لا أخاف عليك أن
ينازعك هذا الأمر الّذي انتسب لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن
عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
فأمّا ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك. وأمّا
الحسين فإنّ أهل العراق لم يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به
فاصفح عنه، فإنّ له رحما ما مثله وحقا
__________
[1] بياض في الأصل وفي الطبري ج 3 ص 164: «ففيها كان مشتى محمد بن مالك
أرض الروم وصائفة معن بن يزيد السلمي» .
(3/23)
عظيما. وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه
صنعوا شيئا صنع مثله وليس له همّة إلّا في النساء. وأمّا الّذي يجثم لك
جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير
فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إربا إربا. هذا حديث الطبري عن هاشم
وله عن هاشم من طريق آخر قال: لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد
غائبا فدعا بالضحّاك بن قيس الفهريّ وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عتبة
المزنيّ فقال: أبلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنّهم أهلك فأكرم من
قدم إليك منهم وتعاهد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم
كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف.
وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوّك فانتصر
بهم، فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن قاموا بغير
بلادهم تغيّرت أخلاقهم ولست أخاف عليك من قريش إلّا ثلاثا ولم يذكر في
هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر. وقال في ابن عمر: قد وقذه الدين
فليس ملتمسا شيئا قبلك وقال في الحسين: ولو أني صاحبه عفوت عنه. وأنا
أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه. وقال في ابن الزبير: إذا
شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحا فاقبل واحقن دماء قومك ما
استطعت.
(وتوفي في منتصف رجب) ويقال جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان
على خاتمه عبد الله بن محصن الحميريّ وهو أوّل من اتخذ ديوان الخاتم،
وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب له بذلك إلى
زياد بالعراق، ففض عمر الكتاب وصيّر المائة مائتين، فلما رفع زياد
حسابه أنكرها معاوية، وأخذ عمر بردّها وحبسه فأدّاها عنه أخوه عبد الله
فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم، وحزم الكتب ولم تكن تحزم وكان على شرطته
قيس بن همزة الهمدانيّ، فعزله ابن بيد بن عمر العدويّ، وكان على حرسه
المختار من مواليه. وقيل أبو المحارى مالك مولى حميرة وهو أوّل من اتخذ
الحرس. وعلى حجابه مولاه سعد، وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور
الرومي، وعلى القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري وبعده أبو دويس عائذ
بن عبد الله الخولانيّ.
بيعة يزيد
بويع يزيد بعد موت أبيه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان،
وعلى مكة عمر
(3/24)
ابن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله
بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير. ولم يكن همّه إلا بيعة النفر
الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد بموت معاوية، وأن يأخذ
حسينا وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة فلما قرأ مروان الكتاب
بنعي معاوية، استرجع وترحم، واستشار الوليد في أمر أولئك النفر، فأشار
عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلهم قبل أن يعلموا بموت
معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلّا ابن عمر فإنه لا يحب القتال،
ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر. فبعث الوليد لوقته عبد الله
بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث، فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد
في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس وقال: أجيبا الأمير فقالا: لا
تنصرف إلا أن نأتيه، ثم حدّثا فيما بعث إليهما، فلم يعلموا ما وقع.
وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار اليه فأجلسهم بالباب، وقال إنّ
دعوتكم أو سمعتم صوتي عاليا فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل فسلّم ومروان عنده
فشكرهما على الصلة بعد القطيعة، ودعا لهما بإصلاح ذات البين فأقرأه
الوليد الكتاب بنعي معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحم وقال: مثلي
لا يبايع سرّا ولا يكتفى بها مني، فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان
أمرنا واحدا وكنت أوّل مجيب فقال الوليد وكان يحب المسالمة: انصرف.
فقال مروان: لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينهم،
ألزمه البيعة وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال أنت تقتلني أو هو! كذبت
والله! وانصرف إلى منزله. وأخذ مروان في عذل الوليد. فقال: يا مروان
والله ما أحب أنّ لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت
الحسين إن قال لا أبايع. واما ابن الزبير فاختفى في داره وجمع أصحابه،
وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وهدّدوه، وأقاموا ببابه في
طلبه، فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من
الذعر، ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه، فبعث إليهم
وانصرفوا.
وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى
مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين
سائر يومه. ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال: أصبحوا وترون وفري. وسار في
الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد
نصحه وقال تنحّ عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس،
فإن أجابوك فاحمد الله، وإن
(3/25)
اجتمعوا على غيرك فلم يضرّ بذلك دينك ولا
عقلك، ولم تذهب به مروأتك ولا فضلك، وأنا أخاف أن تأتي مصرا أو قوما
فيختلفون عليك، فتكون الأوّل إساءة، فإذا خير الأمّة نفسا وأبا أضيعها
ذمارا وأذلها. قال له الحسين: فإنّي ذاهب قال:
انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن فاتت بك لحقت بالرمال
وشعب الجبال. ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس، وتعرف الرأي
فقال يا أخي نصحت وأشفقت! ولحق بمكة. وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع
فقال: أنا أبايع أمام الناس، وقيل ابن عمر وابن عبّاس كانا بمكة، ورجعا
إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة
يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين، وقدم هو وابن عبّاس
المدينة وبايعا عنه بيعة الناس ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمر بن
سعيد قال: أنا عائد بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه
ناحية.
عزل الوليد عن المدينة وولاية عمر بن سعيد
ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر،
عزله عن المدينة واستعمل عليها عمر بن سعيد الأشرق فقدمها في رمضان
واستعمل على شرطته عمر ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه وبين أخيه من
البغضاء، وأحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى
الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن
الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ومحمد بن عمار
بن ياسر وغيرهم. ثم جهّز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها، وقال لعمر
بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ فقال: لا تجد رجلا أنكى له مني.
فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم أنيس بن عمرو الأسلمي. وعذله مروان بن
الحكم في غزو مكة وقال له: اتّق الله ولا تحلّ حرمة البيت فقال: والله
لنغزونه في جوف الكعبة وجاء أبو شريح الخزاعيّ إلى عمر بن سعيد فقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أذن لي بالقتال فيها
ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس. فقال له عمر: نحن أعلم بحرمتها
منك أيها الشيخ. وقيل إنّ يزيد كتب إلى عمر بن سعيد أن يبعث عمر بن
الزبير بالجيش إلى أخيه، فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدّمته أنيس. فنزل
أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح وبعث إلى أخيه أن برّ يمين
(3/26)
يزيد، فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلّا أن
يؤتى بك في جامعه فلا يضرب الناس بعضهم بعضا، فإنك في بلد حرام. فأرسل
عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان
فهزموا أنيسا بذي طوى وقتل أنيس في الهزيمة وتخلّف عن عمر بن الزبير
أصحابه فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير. وقال لأخيه:
قد أجرته فأنكر ذلك عليه. وقيل: إنّ صفوان قال لعبد الله بن الزبير:
اكفني أخاك أنا أكفيك أنيس بن عمرو، وسار إلى أنيس فهزمه وقتله. وسار
مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرّق عنه أصحابه، وأجاره أخوه عبدة، فلم
يجز أخوه عبد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة وحبسه بسجن عارم
ومات تحت السياط.
مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله
ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع وسأله أين تريد؟ فقال:
مكة وأستخير الله فيما بعد، فنصحه أن لا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه
وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس.
ورجع عنه وترك الحسين بمكّة فأقام والناس يختلفون إليه، وابن الزبير في
جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتي ويعلم أنّ
أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين.
ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في
منزل سليمان بن صرد وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد،
ورفاعة بن شدّاد، وحبيب ابن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا
للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه وبعثوا
بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ، وعبد الله بن وال ثم كتبوا إليه
ثانيا بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثا يستحثونه للحاق بهم
كتب له بذلك شيث بن ربعيّ وحجاز بن ابجر ويزيد بن الحرث ويزيد بن رويم
وعروة بن قيس وعمر بن الحجّاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي فأجابهم
الحسين: فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم
بن عقيل، يكتب إليّ بأمركم ورأيكم، فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به
رسلكم أقدم عليكم قريبا. ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم
بالقسط، الدين بدين الحق. وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد وودّع
أهله واستأجر دليلين من قيس فضلّا الطريق وعطش القوم فمات الدليلان بعد
أن أشارا
(3/27)
إليهم بموضع الماء، فانتهوا إليه وشربوا
ونجوا فتطيّر مسلم من ذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه. فكتب إليه خشيت أن
لا يكون حملك على ذلك إلّا الجبن، فامض لوجهك والسلام. وسار مسلم فدخل
الكوفة أوّل ذي الحجة من سنة ستين، واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب
الحسين، فبكوا ووعدوه النصر وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة
وكان حليما يجنح إلى المسالمة، فخطب وحذّر الناس الفتنة. وقال:
لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آخذ بالظنّة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم
وخالفتم إمامكم فو الله لأضربنّكم بسيفي ما دام قائمته بيدي، ولو لم
يكن لي ناصر فقال له بعض حلفاء بني أمية: لا يصلح ما ترى إلا الغشم،
وهذا الّذي أنت عليه مع عدوّك رأي المستضعفين فقال: أكون من المستضعفين
في طاعة الله أحب اليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله. ثم تركه
فكتب عبد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقّاص
إلى يزيد بالخبر، وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قويا ينفذ
أمرك ويعمل عملك في عدوّك فأشار عليه سرجون [1]
__________
[1] هنا بياض بالأصل نحو ثلاث ورقات. وجاء في الكامل لابن الأثير ج 4 ص
22 وما بعدها (طبعة دار صادر) : «فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون
مولى معاوية فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يوليه الكوفة، وكان يزيد
عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية
كنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم! قال: فاخرج عهد عبيد الله على الكوفة. فقال:
هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه. وجمع الكوفة
والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره اليه مع مسلم بن عمرو
الباهلي والد قتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه. فلما وصل
كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهّز ليبرز من الغد. وكان الحسين قد كتب
إلى أهل البصرة نسخة واحدة إلى الاشراف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة
رسوله ... ص 23» .
وجاء في الطبري ج 6 ص 200 (طبعة مصر) : «وقد كان حسين كتب إلى أهل
البصرة كتابا. قال هشام، قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن أبي
عثمان النهديّ قال: كتب حسين مع مولى لهم يقال له سليمان وكتب بنسخة
إلى رءوس الأخماس بالبصرة والى الاشراف. فكتب إلى مالك بن مسمع البكري
والى الأحنف بن قيس والى المنذر بن الجارود والى مسعود بن عمرو والى
قيس بن الهيثم والى عمر بن عبد الله بن معمر. فجاءت منه نسخة واحدة إلى
جميع اشرافها وهذا نصه: «أما بعد فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه
وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته. ثم قبضه الله اليه.
وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم.
وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس،
فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة. وأحببنا العافية ونحن
نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه. وقد أحسنوا وأصلحوا
وتحرّوا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا
الكتاب وانا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه (ص) . فان السنة قد أميتت
وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد
والسلام عليكم ورحمة الله.»
(3/28)
__________
[ () ] مسير الحسين إلى الكوفة ووقعة كربلاء:
انها وقعة عظيمة، وهي ضمن الأوراق البيضاء في هذا الكتاب، تاريخ العبر
للعلامة ابن خلدون.
ذكرها الطبري باسهاب في الجزء السادس من ص (194) إلى ص (271) .
وذكرها ابن الأثير في تاريخ الكامل في ج 4 ص 37 وما بعدها إلى ص 94 وقد
أثبتنا هنا عن هذه الوقعة ما ورد في تاريخ المختصر في أخبار البشر لابي
الفداء صاحب حماه ج 2. ص 104- 107 طبعة بيروت.» ومن أراد زيادة الإسهاب
فليرجع الى التواريخ المطولة.
ذكر مسير الحسين إلى الكوفة كما ورد بتاريخ ابو الفداء وورد على الحسين
مكاتبات يحثونه على المسير اليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان
ابن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيل بن
أبي طالب ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إلى الكوفة وبايعه بها، قيل ثلاثون
الفا، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس، وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا
يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد وكان واليا على البصرة فقدم
الكوفة ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية،
واستمر مع مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد
بقصره، ولم يكن مع عبيد الله في القصر أكثر من ثلاثين رجلا، ثم ان عبيد
الله أمر أصحابه ان يشرفوا من القصر ويمنوا أهل الطاعة ويخذلوا أهل
المعصية، حتى ان المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول انصرف ان الناس
يكفونك، فتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلا، فانهزم
واستتر، ونادى منادي عبيد الله بن زياد من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته،
فأمسك مسلم واحضر اليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد الله شتمه وشتم
الحسين وعليا وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر
هانئ بن عروة وكان ممن أخذ البيعة للحسين فضرب عنقه أيضا، وبعث
برأسيهما الى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل لثمان مضين من ذي
الحجة سنة ستين، وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه الى العراق، وكان عبد
الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق خوفا عليه، وقال للحسين يا
ابن العم إني أخاف عليك أهل العراق، فإنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا
البلد فإنك سيد أهل الحجاز، وان أبيت الا أن تخرج فسر الى اليمن، فان
بها شيعة لأبيك وبها حصون وشعاب، فقال الحسين يا ابن العم اني أعلم
والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده وخرج
الحسين من مكة يوم التروية سنة ستين، واجتمع عليه جماعة من العرب، ثم
لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، اعلم الحسين من
معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يمينا
وشمالا، ولما وصل الحسين الى مكان يقال له سراف، وصل اليه الحر صاحب
شرطة عبيد الله بن زياد في الفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين في حر
الظهيرة، فقال لهم الحسين ما أتيت الا بكتبكم فان رجعتم رجعت من هنا،
فقال له صاحب شرطة ابن زياد انا أمرنا ان لا نفارقك حتى نوصلك الكوفة
بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا
عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد (ثم دخلت سنة احدى وستين) .
ذكر مقتل الحسين كما ورد في تاريخ ابو الفداء ولما سار الحسين مع الحر
ورد كتاب من عبيد الله بن زياد الى الحر يأمره ان ينزل الحسين ومن معه
على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس ثاني
المحرم من هذه السنة أي سنة
(3/29)
مسيرة المختار الى الكوفة وأخذها من ابن
المطيع بعد وقعة كربلاء
مضى إبراهيم الى المختار وأخبره الخبر وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر
الحسين، ومضى
__________
[ () ] احدى وستين، ولما كان من الغد قدم من الكوفة عمر بن سعد ابن أبي
وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في
أن يمكن اما من العود من حيث أتى، واما ان يجهز الى يزيد بن معاوية،
واما ان يمكن أن يلحق بالثغور، فكتب عمر الى ابن زياد يسأل أن يجاب
الحسين الى أحد هذه الأمور، فاغتاظ ابن زياد فقال لا ولا كرامة، فأرسل
مع شمر بن ذي الجوشن الى عمر بن سعد، اما ان تقاتل الحسين وتقتله وتطأ
الخيل جثته، واما ان تعتزل ويكون الأمير على الجيش شمر، فقال عمر بن
سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس تاسع المحرم من هذه السنة، والحسين
جالس امام بيته بعد صلاة العصر. فلما قرب الجيش منه سألهم مع أخيه
العباس ان يمهلوه الى الغد، وانه يجيبهم الى ما يختارونه فأجابوه إلى
ذلك. وقال الحسين لأصحابه اني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل
وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فقال اخوه العباس لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟
لا أرانا الله ذلك أبدا! ثم تكلم اخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن
جعفر في نحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله ويدعون، فلما
أصبحوا ركب عمر بن سعد في أصحابه وذلك يوم عاشوراء من المذكورة، وعبى
الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا. ثم حملوا على
الحسين وأصحابه واستمر القتال الى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين
وأصحابه صلاة الخوف. واشتد بالحسين العطش، فتقدم ليشرب فرمي بسهم فوقع
في فمه. ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن
شريك على كتفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح،
فوقع فنزل اليه فذبحه واحتز رأسه. وقيل ان الّذي نزل واحتز رأسه هو شمر
المذكور، وجاء به الى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر
الحسين وظهره بخيولهم، ثم بعث بالرءوس والنساء والأطفال الى عبيد الله
بن زياد فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن
أرقم ارفع هذا القضيب فو الّذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله
(ص) على هاتين الشفتين. ثم بكى، وروي انه قتل مع الحسين من أولاد علي
أربعة هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر ومحمد، ومن أولاد الحسين أربعة،
وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر ومن أولاد عقيل. ثم بعث ابن زياد
بالرءوس وبالنساء والأطفال. ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما
يصلحهم، وأن يبعث معهم أمينا يوصلهم الى المدينة، فجهزهم الى المدينة،
ولما وصلوا اليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات وفيهن ابنة عقيل بن أبي
طالب وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون ان قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
(واختلف) في موضع الحسين فقيل جهز الى المدينة ودفن عند امه. وقيل دفن
عند باب الفراديس، وقيل ان خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأسا الى القاهرة
ودفنوه بها وبنوا عليه مشهدا يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره
والصحيح انه خمس وخمسون سنة وأشهر. وقيل حج الحسين خمسا وعشرين حجة
ماشيا، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (وأما) عبد الله بن الزبير
فإنه استمر بمكة ممتنعا عن الدخول في طاعة يزيد بن معاوية.
(3/30)
إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في
المدينة ليلا وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء ثم لقي بعضهم
فهزمهم، ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شيث بن ربعيّ وحجاز بن
أبجر العجليّ يقاتلانه فهزمهما، وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس
والنهوض إلى القوم قبل فولّى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافي إلى
المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة وبعث ابن مطيع شيث بن ربعي في ثلاثة
آلاف، وربع بن إياس في أربعة آلاف فسرّح إليهم المختار إبراهيم بن
الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائة راجل ونعيم بن هبيرة لشيث في
ثلاثمائة فارس وستمائة راجل واقتتلوا من بعد صلاة الصبح. وقتل نعيم
فوهن المختار لقتله وظهر شيث وأصحابه عليهم وقاتل إبراهيم بن الأشتر
راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه وركبهم الفشل. وبعث ابن المطيع جيشا
كثيفا فهزمهم، ثم حمل على شيث فهزمه، وبعث المختار فمنعه الرماة من
دخول الكوفة. ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر ابن الحجّاج
الزبيديّ وقال له: اخرج واندب الناس ففعل. وقام في الناس ووبخهم على
هزيمتهم وندبهم ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في
ألفين ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف. ووقف هو بكتائبه. واختلف على القصر
شيث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره، ثم من عليه
ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثا ومعه يزيد بن أنس
وأحمد بن شميط، ولما اشتدّ الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شيث بن ربعي
بأن يستأمن للمختار، ويلحق بابن الزبير وله ما يعده. فخرج عنهم مساء
ونزل دار أبي موسى واستأمن القوم للمختار فدخل القصر وغدا على الناس في
المسجد فخطبهم، ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على
الكتاب والسنة، واللطف بأهل البيت، ووعدهم بحسن السيرة وبلغه أنّ ابن
مطيع في دار أبي موسى فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه. وكان
ابن مطيع قد فرّق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك
الكوفة، وجعل على شرطته عبد الله بن كامل، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة،
وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحرث بن الأشتر على أرمينية،
ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس
على الموصل، ولإسحاق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن حذيفة ابن اليمان
على حلوان. وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة. وولى شريحا على
(3/31)
القضاء ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على
حجر بن عديّ، ولم يبلغ عن هانئ بن عروة رسالته إلى قومه وأنّ عليّا
غرمه وأنه عثمانيّ [1] . وسمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن
عتبة بن مسعود ثم مرض فولّى مكانه عبد الله بن مالك الطائيّ.
مسيرة ابن زياد الى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه
كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشام بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز
مع جيش ابن دلجة القينيّ وقد شاتة ومقتلة [2] . والآخر إلى العراق مع
عبيد الله بن زياد فكان من أمره وأمر التوّابين من الشيعة ما تقدّم
وأقام محاصرا لزفر بن الحرث بقرقيسياء، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن
الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها. ثم توفي مروان وولي بعده
عبد الملك فأقرّه على ولايته وأمره بالجدّ ويئس من أمر زفر وقيس، فنهض
إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت، وكتب
إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسديّ في ثلاثة آلاف إلى
الموصل، فسار إليها على المدائن وسرّح ابن زياد للقائه ربيعة بن
المختار الغنويّ في ثلاثة آلاف فالتقيا ببابل وعبّأ يزيد أصحابه وهو
راكب على حمار وحرّضهم، وقال: إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسديّ وإن
هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري، وإن هلك فسعد الخثعميّ. ثم اقتتلوا يوم
عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار الفلّ غير بعيد فلقيهم عبد
الله بن حملة الخثعميّ قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فردّ المنهزمين
وعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام وأثخن فيهم أهل الكوفة
بالقتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم. وهلك يزيد بن أنس من آخر
يومه وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد،
وقال: نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك. وانصرف
الناس وتقدّم الخبر إلى الكوفة فأرجف الناس بالمختار وأشيع أنّ يزيد
قتل وسرّ المختار رجوع العسكر فسرّح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف
وضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك. ثم اجتمع أشراف الكوفة
عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهليا اسلاميا، وشكوا من سيرة المختار
وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به. فقال: حتى ألقاه وأعذر
إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه فوعده
__________
[1] نسبة الى عثمان بن عفان.
[2] لم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه الأسماء.
(3/32)
الرجوع إلى مرادهم، وذكر له شأن الموالي
وشركتهم في الفيء فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أمية وابن
الزبير تركتهم فقال: اخرج إليهم بذلك وخرج فلم يرجع. واجتمع رأيهم على
قتاله وهم شيث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعد بن قيس وشمر
بن ذي الجوشن وكعب بن أبي كعب النخعيّ، وعبد الرحمن بن مخنف الأزديّ.
وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة
فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشدّ، فأبوا
من رأيه وقالوا: لا تفسد جماعتنا. ثم خرجوا وشهروا السلاح وقالوا
للمختار: اعتزلنا فإنّ ابن الحنفية لم يبعثك. قال: نبعث إليه الرسل مني
ومنكم، وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات وكفّ أصحابه عن قتالهم ينتظر
وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع فجاء فرأى القوم مجتمعين
ورفاعة بن شدّاد البجليّ [1] يصلي بهم. فلما وصل إبراهيم عبّأ المختار
أصحابه وسرح بين يديه أحمد ابن شميط البجليّ وعبد الله بن كامل الشادي
فانهزم أصحابهما وصبرا ومدّهما المختار بالفرسان والرجال فوجا بعد فوج،
وسار ابن الأشتر الى مصر وفيهم شيث ابن ربعيّ فقاتلوه فهزمهم فاشتدّ
ابن كامل على اليمن ورجع رفاعة بن شدّاد أمامهم إلى المختار فقاتل معه
حتى قتل من أهل اليمن عبد الله بن سعيد بن قيس، والفرات ابن زخر بن
قيس، وعمر بن مخنف، وخرج أخوه عبد الرحمن فمات وانهزم أهل اليمن هزيمة
قبيحة وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل
الحسين منهم فكانوا نصفهم وأطلق الباقين ونادى المختار الأمان إلا من
شهد في دماء أهل البيت وفرّ عمر بن الحجّاج الزبيدي، وكان أشدّ من حضر
قتل الحسين، فلم يوقف له على خبر وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا
رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه وانتهى إلى قرية
الكلبانية فارتاح يظنّ أنه نجا. وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة
صاحب المختار، بعثه مسلخة بينه وبين أهل البصرة، فنمي إليه خبره فركب
إليه فقتله وألقى شلوه للكلاب وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا
أكثرهم من اليمن، وكان آخر سنة ست وستين، وخرج أشراف الناس إلى البصرة
وتتبع المختار قتلة الحسين ودلّ على عبيد الله بن أسد الجهنيّ ومالك بن
نسير الكنديّ.
وحمل ابن مالك المحاربيّ بالقادسية فأحضرهم وقتلهم. ثم أحضر زياد بن
مالك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجبيليّ.
ابن خلدون م 3 ج 3-
(3/33)
الضبعيّ وعمران بن خالد العثريّ وعبد
الرحمن بن أبي حشكارة البجلي، وعبد الله ابن قيس الخولانيّ، وكانوا
نهبوا من الورث الّذي كان مع الحسين فقتلهم وأحضر عبد الله أو عبد
الرحمن بن طلحة وعبد الله بن وهيب الهمدانيّ ابن عم الأعشى فقتلهم.
وأحضر عثمان بن خالد الجهنيّ وأبا أسماء بشر بن سميط القابسيّ، وكانا
مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فقتلهما وحرقهما بالنار.
وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحيّ صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق
بالنار. ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه
عبد الله بن أبي جعدة ابن هبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص
عنده فقال: تعرف هذا؟ قال:
نعم! ولا خير في العيش بعده فقتله. ويقال: إن الّذي بعث المختار على
قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية،
فقال له ابن الحنفية:
يزعم المختار أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدّثونه
فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل وبعث برأس عمر وابنه إلى ابن
الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين ثم أحضر
حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين بسهم، وأصاب سلب العباس ابنه.
وجاء عديّ بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذرا من
قبول المختار شفاعته. وبحث عن مرّة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن
الحسين فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير وقد شلّت يده بضربة وبحث
عن زيد وفاد الحسين [1] قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين وقد
وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى فخرج
بالسيف يدافع. فقال ابن كامل: ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط وأحرقوه
حيّا. وطلب سنان بن أنس الّذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة. وطلب
عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح، وأرسل في طلب محمد بن الأشعث
وهو في قريته عند القادسيّة فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره. وطلب
آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 243: «وبعث المختار الى
زيد بن رقاد الجنبيّ أو الحبّاني» .
(3/34)
شأن المختار مع ابن
الزبير
كان على البصرة الحرث بن أبي ربيعة وهو القبّاع عاملا لابن الزبير.
وعلى شرطته عبّاد بن حسين وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم. وجاء المثنّى
بن مخرمة العبديّ وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع للمختار
وبعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس، وعسكر لحرب
القبّاع. فسرّح إليه عبّاد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر فانهزم
المثنّى إلى قومه عبد القيس، وأرسل القبّاع عسكرا يأتونه به فجاءه زياد
بن عمر العنكبيّ فقال له: لتردنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم فأرسل
الأحنف بن قيس وأصلح الأمر على أن يخرج المثنّى عنهم فسار إلى الكوفة.
وقد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير
يخادعه ليتمّ أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلب المختار في الوفاء بما
وعده به من الولاية، فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره، فولّى
عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار
وبعثه إليها وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة
فارس، وأعطاه سبعين ألف درهم، وقال: ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق،
وأمره بالانصراف بعد تمكث، فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك. ولما رأى عمر
الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في امارة
القبّاع قبل وثوب ابن مخرمة. وقيل إنّ المختار كتب إلى ابن الزبير: إني
اتخذت الكوفة دارا فإن سوّغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى
الشام وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك فأقام المختار بطاعته ويوادعه
ليتفرّغ لأهل الشام ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحرث ابن
الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض
عليه المدد فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى
فسرّح شرحبيل ابن دوس الهمدانيّ في ثلاثة آلاف أكريم [1] من الموالي
وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكّة
عبّاس بن سهل بن سعد في ألفين وأمره أن يستنفر العرب وإن رأى من جيش
المختار خلافا ناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عبّاس
__________
[1] كذا في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 247: فدعا المختار
شرحبيل بن ورس الهمدانيّ فسيّره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي ... »
(3/35)
بالرقيم وهم على تعبية فقال: سيروا بنا إلى
العدوّ الّذي بوادي القرى. فقال ابن دوس: إنما أمرني المختار أن آتي
المدينة ففطن عبّاس لما يريد فأتاهم بالعلوفة والزاد وتخيّر ألفا من
أصحابه وحمل عليهم فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه وأمن الباقين
فرجعوا للكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية
يشكو ابن الزبير، ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل بهم ابن الزبير
ما فعل. ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة ويبعث ابن الحنفية عليهم
رجلا من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت
قصدك ووفاءك بحقي وأحبّ الأمر إليّ الطاعة، فأطع الله وتجنب دماء
المسلمين. فلو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعا والأعوان كثيرا لكني
أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. (ثم دعا ابن الزبير)
محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع وبعث
إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا فتركهم. فلما
استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن
الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة، وتوعدهم
بالقتل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلا وكتب ابن الحنفية إلى المختار
بذلك فأخبر الشيعة وندبهم وبعث أمراء منهم في نحو ثلاثمائة، عليهم أبو
عبد الله الجدلي وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم وساروا إلى مكّة
فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم
وطفقوا ينادون بثأر الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم وأخرج ابن الحنفية
وكان قد بقي من أجله يومان، واستأذنوه في قتال ابن الزبير.
فقال: لا أستحلّ القتال في الحرم ثم جاء باقي الجند وخافهم ابن الزبير
وخرج ابن الحنفية إلى شعب عليّ واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم
المال. (ولما قتل المختار) واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة
فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر
الناس ووعده بالإحسان. وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام. ولما وصل
مدين لقيه خبر مهلك عمر بن سعيد فندم وأقام بأيلة، وظهر في الناس فضله
وعبادته وزهده وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي
طالب، فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف، وعذل ابن عبّاس ابن الزبير
على شأنه، ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك وصلى عليه ابن الحنفية
وعاش إلى أن أدرك حصار الحجّاج لابن الزبير. (ولما قتل
(3/36)
ابن الزبير) بايع لعبد الملك وكتب عبد
الملك إلى الحجّاج بتعظيم حقه وبسط أمله، ثم قدم إلى الشام وطلب من عبد
الملك أن يرفع حكم الحجّاج عنه ففعل، وقيل إنّ ابن الزبير بعث إلى ابن
عبّاس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام، فإنّ في هذه
فتنة فحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عبّاس في منزله وأراد
إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدّم ونفس عنهما ولما قتل المختار
قوى ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف.
مقتل ابن زياد
ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين بعث إبراهيم بن
الأشتر لقتال ابن زياد وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه،
وبعث معه بالكرسي الّذي كان يستنصر به وهو كرسيّ قد غشاه بالذهب وقال
للشيعة: هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكبر شأنه وعظم. وقاتل
ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة، ويقال: إنه كرسي عليّ بن
أبي طالب، وإنّ المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة، وكانت أمّه أمّ
هانئ بنت أبي طالب فهو ابن أخت عليّ. ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في
السير وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مرّ. فلما دخل
إبراهيم أرض الموصل عبّى أصحابه، ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته
الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريبا من النهر وكانت قيس مطبقة
على بني مروان عند المرج، وجند عبد الملك يومئذ [1] فلقي عمير بن
الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر وأوعده أن ينهزم بالميسرة، وأشار عليه
بالمشاجرة ورأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك وقال:
إنهم
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 261: فسار إبراهيم
وخلّف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط
النّخعيّ، وكان شجاعا. فلما دنا ابن زياد عبّأ أصحابه ولم يسر إلّا على
تعبية واجتماع، إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر خازر من
بلد الموصل فنزل بقرية بارشيا. واقبل ابن زياد اليه حتى نزل إليه حتى
نزل قريبا منهم على شاطئ الخازر.
وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد، الى ابن الأشتر أن
القني، وكانت قيس كلها مضطفنة على ابن مروان وقصة مرج راهط وجند عبد
الملك يومئذ كلب ... » وفي الطري ج 7 ص 142: «وجاء عبد الله بن زياد
حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى
ابن الأشتر: اني معك وانا أريد الليلة لقاءك فأرسل إليه ابن الأشتر ان
القني إذا شئت.
وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان
يومئذ كلب وصاحبهم بجدل، فأتاه عمير ليلا فبايعه» .
(3/37)
ميلوا [1] منكم رعبا وإن طاولتهم اجترءوا
عليكم قال: وبذاك أوصاني صاحبي. ثم عبّى أصحابه في السحر الأوّل، ونزل
يمشي ويحرّض الناس حتى أشرف على القوم وجاءه عبد الله بن زهير السلولي
بأنهم خرجوا على دهش وفشل وابن الأشتر يحرّض أصحابه ويذكّرهم أفعال ابن
زياد وأبيه. ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام
على ميسرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعميّ، ثم أخذ الراية فرد بن
علي فقتل، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة
السلولي ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا. وحملت ميمنة إبراهيم
على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم
فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالا شديدا. وقصد ابن الأشتر قلب العسكر
وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشدّ قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد
كأصوات القصارين، وإبراهيم يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم. ثم
حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد. وقال ابن الأشتر إني قتلت
رجلا تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك وضربته بسيفي فقصمته نصفين
فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير
الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين. ويقال
إنّ الّذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع
وادّعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي، وعبيد الله
بن زهير السلمي واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكبر
ممن قتل، وغنموا جميع ما في العسكر وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى
المختار فأتته بالمدائن وأنفذ ابن الأشتر عمّاله إلى البلاد فبعث أخاه
عبد الرحمن على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض
الجزيرة. وولّى زفر بن الحرث قيس [2] وحاتم بن النعمان الباهليّ حرّان
والرهاء وشمشاط وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين وأقام
بالموصل وأنفذ رءوس عبيد الله وقوّاده إلى المختار.
__________
[1] لا معنى للميل هنا ولعلها ملئوا.
[2] «قال في المشترك: قيس بفتح القاف وسكون المثناة من تحت وفي آخرها
سين مهملة. وقال في اللباب:
كيش بكسر الكاف وسكون المثناة التحتية وفي آخرها شين معجمة، وجزيرة كيش
بين الهند والبصرة، وبهذه الجزيرة مغاص لؤلؤ وبها نخيل محدث وأشجار
جبلية وشرب أهلها من الآبار انتهى من أبي الفداء» .
(3/38)
مسير مصعب إلى
المختار وقتله إياه
كان ابن الزبير في أوّل سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحرث بن ربيعة
وهو القبّاع وولّى مكانه أخاه مصعبا فقدم البصرة وصعد المنبر وجاء
الحرث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب وقرأ الآيات من أوّل القصص ونزل
ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار، ودخل عليه شيث بن ربعي وهو
ينادي وا غوثاه! ثم قدم محمد ابن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير
وبعث إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال
المختار فأبطأ وأغفل فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب:
ما وجد مصعب بريدا غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد ولكن غلبنا عبيدنا على
أبنائنا وحرمنا فأقبل معه المهلّب بالجموع والأموال وعسكر مصعب عند
الجسر فأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سرّا ليثبط الناس عن
المختار ويدعو إلى ابن الزبير وسار على التعبية وبعث في مقدمته عبّاد
بن الحصين الحبطي التميمي وعلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى
ميسرته المهلّب وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه، وقرّبهم إلى الخروج
مع ابن شميط وعسكر محمد في أعفر وبعث رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن
الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلّب من الميسرة على ابن
كامل فثبت ثم كرّ المهلب وحمل حملة منكرة وصبر ابن كامل قليلا وانهزموا
وحمل الناس جميعا على ابن شميط فانهزم وقتل واستمرّ القتل في الرجالة
وبعث مصعب عبّادا فقتل كل أسير أخذه.
وتقدّم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزما إلّا
قتلوه. ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط وحملوا
الضعفاء وأثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة.
ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه وأنّ مصعبا أقبل إليه
في البرّ والبحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة والمسلحين
والقادسية ونهر يسر فسكّر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار. وبقيت سفن أهل
البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه وقصدوا الكوفة. وسار المختار
ونزل حروراء بعد أن حصّن القصر وأدخل عدّة الحصار، وأقبل مصعب وعلى
ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن
الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته
سعيد بن منقذ
(3/39)
الهمدانيّ وعلى الخيل عمر بن عبيد الله
النهدي. ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين.
ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله ابن جعدة بن هبيرة
المخزوميّ على من بإزائه فحطّم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل
مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة
فقتل ابن الأشعث وعامّة أصحابه، وقتل عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب
وقاتل المختار. ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل
السبخة وقطع عنهم الميرة وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب
خفية ففطن مصعب لذلك فمنعه وأصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الآبار
ويشربون. ثم إنّ المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنّط وتطيّب
وخرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله فقال: ويحك يا
أحمق وثب ابن الزبير بالحجاز، ووثب بجدة باليمامة، وابن مروان بالشام
فكنت كأحدهم إلّا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب، فقاتل
على حسبك إن لم يكن لك نيّة. ثم تقدّم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من
بني حنيفة أخوين طرفة وطرّاف ابني عبد الله بن دجاجة. وكان عبد الله بن
جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر،
واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب ونزلوا على
حكمه فقتلهم أجمعين وأشار عليه المهلّب باستبقائهم، فاعترضه أشراف أهل
الكوفة، ورجع إلى رأيهم. ثم أمر بكف المختار ابن أبي عبيد فقطعت وسمّرت
إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجّاج.
وقتل زوجه عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أنّ المختار [1] فاستأذن أخاه
عبد الله وقتلها. ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته،
ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة. وكتب إليه عبد الملك
بولاية العراق، واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن
زياد وأشراف أهل الشام وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه فبعث على عمله
بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلّب بن أبي صفرة. وقيل إنّ
المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وإنه بعث
على مقدّمته أحمد بن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 275: «وقالت عمرة: رحمه
الله كان عبد الله صالحا، فحبسها، وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير
انها تزعم انه نبي فأمر بقتلها، فقتلت ليلا بين الكوفة والحيرة، قتلها
بعض الشرط ... » .
(3/40)
شميط، وبعث مصعب عبّاد الحبطيّ ومعه عبيد
الله بن عليّ بن أبي طالب، وتراضوا ليلا، فناجزهم المختار من ليلته
وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتدّ القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة
منهم محمد بن الأشعث فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب
مصعب وليس عنده أحد فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به،
ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم.
وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل، وطلب
الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعا، وكانوا
ستة آلاف رجل. ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة
على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن
مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن الحق بأبيك. وكتب الأحنف إلى
أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعبا ففعل وخرج حمزة بالأموال فعرض له
مالك بن مسمع وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا فضمن له عمر بن عبيد الله
العطاء فكفّ عنه. وقيل إن عبيد الله بن الزبير إنّما ردّ مصعبا إلى
البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار.
ولما ردّه إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولّاه
حرب الأزارقة. وكان المهلّب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما ردّ مصعبا
أراد أن يولّي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد
الملك فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة. فلما قدم البصرة عزله مصعب
عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر
فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.
خلاف عمر بن سعيد الأشرف ومقتله
كان عبد الملك بعد رجوعه من قنّسرين أقام بدمشق زمانا، ثم سار لقتال
زخر [1] بن الحرث الكلابي بقرقيسياء، واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن
أم الحكم الثقفي ابن أخته، وسار معه عمر بن سعيد. فلما بلغ بطنان انتقض
عمر وأسرى ليلا إلى دمشق، وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمر وهدم
داره، واجتمع إليه الناس
__________
[1] هو زفر بن الحارث الّذي ذكره الأخطل بقوله:
بني أمية اني ناصح لكم ... فلا يبيتن فيكم آمنا زفر
(3/41)
فخطبهم ووعدهم وجاء عبد الملك على أثره
فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياما ثم اصطلحا وكتب بينهما كتابا
وأمّنه عبد الملك فخرج إليه عمر ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام
ثم بعث إلى عمر ليأتيه، فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره
وكان عنده: لا تأتيه [1] فإنّي أخشى عليك منه فقال: والله لو كنت نائما
ما أيقظني! ووعد الرسول بالرواح إليه، ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت
القباء، ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان
وحسّان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمر فدخل. ولم يزل
أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد
ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحسّ بالشرّ وقال للغلام: انطلق إلى
أخي يحيى وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك
وهو لا يفهم فقال له: أغرب عني. ثم أذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فلقيا
عمر، ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثة زمنا، ثم أمر بنزع السيف عنه
فأنكر ذلك عمر وقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عبد الملك
أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف، ثم قال له عبد الملك:
يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت بيمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن
أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم!
وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين
يا أبا أمية فقال عمر: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين فأخرج من تحت
فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها وسأله أن لا [2] يخرجه على رءوس
الناس فقال أمكرا عند الموت؟
ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء فقال عبد
الملك: والله لو علمت أنك تبقى إن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك، ولكن
لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد فشتمه عمر وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر
أخاه عبد العزيز بقتله. فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم، فامسك عنه
وجلس ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فغلظ لعبد العزيز ثم
تناول عمر فذبحه بيده وقيل أمر غلامه بن الزغير فقتله وفقد الناس عمر
مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده
وكانوا ألفا، ومعه حميد بن الحرث وحريث وزهير
__________
[1] الأصح أن يقول: لا تأته.
[2] اللام هنا زائدة، وكانت نية عمران يرى أعوانه ما هو فيه، فيهبوا
لنجدته.
(3/42)
ابن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب
المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا
ساعة ثم خرج عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفيّ بالرأس فألقاه إلى الناس
وألقى اليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا. ثم
خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى ابن
سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعا
وألحقهم بمصعب، حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم. وكان بنو
عمر أربعة أمية وسعد [1] وإسماعيل ومحمّد. ولما حضروا عنده، قال: أنتم
أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم، والّذي كان
بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوّليكم على
أوّلينا في الجاهلية فقال سعيد: يا أمير المؤمنين تعدّ علينا أمرا كان
في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا. وأمّا عمر فهو
ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أحد ثنا به فبطن
الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك وقال: أبوكم خيرني بين أن
يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلي، وأمّا أنتم فما أرغبني فيكم
وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم. وقيل إنّ عمر إنما كان خلفه وقتله حين
سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم
يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسعة
وستين.
مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب
ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من
أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه فأبى، وسار نحو العراق وبلغ مصعبا
سيره فأرسل إلى المهلّب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره
وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولّى
مكانه المهلّب وذلك حين استخلف على الكوفة. وجاء خالد بن عبيد الله بن
خالد بن أسيد على البصرة مختفيا، وأعيد لعبد الملك عند مالك ابن مسمع
في بكر بن وائل والأزد، وأمدّ عبد الملك بعبيد الله ابن زياد بن ضبيان
وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا
فأخرجوه وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 302: سعيد.
(3/43)
فسخط على ابن معمر وسبّ أصحابه وضربهم وهدم
دورهم وحلقهم وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها. وعزل ابن معمر عن فارس
وولّى المهلّب وخرج إلى الكوفة فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك
وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل
البصرة إلا أن يكون المهلّب على قتال الخوارج ردّه وقال له المهلّب إنّ
أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدّى ثم بعث مصعب عن
إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى
عسكر في معسكره، وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد ابن مروان،
وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد، فنزلوا قريبا من قرقيسيا. وحضر
زفر ابن الحرث الكلابي، ثم صالحه وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر
وسار معه فنزل بمسكن قريبا من مسكن مصعب وفرّ الهذيل بن زفر فلحق
بمصعب. وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان
وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوما [1] إلى مصعب فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى
نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل هذا الا يرغب
عنه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ولقد كتب عبد الملك
لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعن واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس، فأبى عليه
مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب. وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة
أهل الشام فأعرضوا عنه. ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب
بقول، فقال: نجعل الأمر شورى فقال مصعب: ليس بيننا إلّا السيف فقدّم
عبد الملك أخاه محمدا وقدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمدّه بالجيش،
فأزال محمدا عن موقفه، وأمدّه عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتدّ
القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهليّ والد قتيبة، وأمدّ مصعب
إبراهيم بعتّاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره. وقال أوصيته لا
يمدّني بعتاب وأمثاله وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم
وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدّم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رءوس العراق إلى القتال فاعتذروا
وتثاقلوا فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل
العراق فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه
فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن
أحببت فافعل قال: لا يتحدّث نساء قريش
__________
[1] مختوم هي مضاف اليه والأصح بكتاب مختوم.
(3/44)
أنى رغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب إلى عمك
بمكّة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني، فإنّي مقتول. فقال: لا أخبر
قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الطاعة أو بأمير
المؤمنين بمكّة فقال: لا يتحدّث قريش أني فررت. ثم قال لعيسى: تقدّم يا
بني أحتسبك فتقدّم في ناس فقتل وقتلوا. وألح عبد الملك في قبول أمانه
فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن
زياد بن ضبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه. وخذل أهل العراق مصعبا حتى
بقي في سبعة أنفس، وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد ابن
ضبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها.
وقال:
إنما قتلته بثأر أخي. وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل: إنّ
الّذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار وأخذ عبيد الله
رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل
وكان ذلك سنة إحدى وسبعين. ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة
فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما وخطب الناس فوعد
المحسن، وطلب يحيى بن سعيد من جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمّنه وولّى
أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء
بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه، وكان عبد الله بن
يزيد بن أسد والد خالد القسري، ويحيى بن معتوق الهمدانيّ قد لجئا إلى
علي بن عبد الله بن عبّاس ولجأ هذيل بن زفر بن الحرث وعمر بن يزيد
الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك وصنع عمر بن حريث لعبد الملك
طعاما فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمر بن حريث
فأجلسه معه على سريره وطعم الناس. ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر
يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال
عبد الملك قال: أمعه عمر بن معمر؟
قيل: هو على فارس. قال: فالمهلب قيل: في قتال الخوارج، قال: فعبّاد بن
الحسين؟ قيل على البصرة. قال: وأنا بخراسان!
خذيني فجرّيني جهارا وأنشدي ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة، ثم إلى الشام فنصب بدمشق
وأرادوا التطاوف [1] به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن
__________
[1] لعله يقصد التطواف، والفعل طاف.
(3/45)
معاوية فغسلته ودفنته. وانتهى قتل مصعب إلى
المهلّب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان ولما جاء
خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال: الحمد للَّه الّذي له
الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من
يشاء، ويذلّ من يشاء، ألا وإنه لم يذلّ الله من كان الحق معه وإن كان
الناس عليه طرّا. وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل
مصعب فالذي أفرحنا منه أنّ قتله شهادة وأمّا الّذي أحزننا فإن لفراق
الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم عبد من عبيد الله وعون من
أعواني ألا وإنّ أهل العراق، أهل الغدر والنفاق سلّموه وباعوه بأقل
الثمن فإن [1] فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص
والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام ولا نموت إلّا طعنا
بالرماح وتحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى
الّذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور،
وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله
لي ولكم. (ولما بلغ الخبر) إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان
وعبد الله بن أبي بكرة واستعان حمدان بعبد الله ابن الأهتم عليها،
وكانت له منزلة عند بني أمية، فلما تمهّد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد
مصعب ولّى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد، فاستخلف عليها عبيد
الله ابن أبي بكرة، فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد، ثم عزل خالدا
سنة ثلاث وسبعين وولّى مكانه على البصرة أخاه بشرا وجمع له المصرين
وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث وولّى عبد الملك
على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين،
فغزا الروم ومزّقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف
دينار يدفعها إليه في كل يوم.
أمر زفر بن الحرث بقرقيسياء
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير بن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه وأقام
بها يدعو لابن الزبير ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي
معيط، وهو على
__________
[1] بياض بالأصل وفي كتاب الكامل لابن الأثير ج 4 ص 335: «فإن يقتل
فمه! والله ما نموت على مضاجعنا ... » .
(3/46)
حمص بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عبد
الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو
ثلاثمائة ثم أقبل أبان فواقع زفر، وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه. ثم
سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه
المجانيق وقال: كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسيّة، فإنّهم ينهزمون
إذا التقينا مع زفر ففعل. واشتدّ حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة
وأمر ابنه الهذيل يوما أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع
بعض أطنابه، ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على
أنفسهما ومن معهما وأنّ لهم ما أحبوا فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك.
وقال: عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب على أن له الخيار في
بيعته سنة. وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير وبينما الرسل
تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فترك
الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقرّ
بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال. وأن لا يبايع لعبد الملك حتى
يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه، وأن يدفع إليه مال نفسه في
أصحابه وتأخر زفر عن لقاء عبد الملك خوفا من فعلته بعمر بن سعيد. فأرسل
إليه بقضيب النبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه
على سريره وزوّج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر وسار عبد الملك إلى قتال
مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعبا هرب إليه وقاتل
مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمّنه عبد
الملك كما مرّ.
مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح
عليها
قد تقدّم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث
فرق، وكف فرقتين منهم. وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم
بجير [1] بن ورقاء الصريميّ فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم
يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين. وبعث الكتاب مع رجل من بني
عامر بن صعصعة. فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل
كتابك فأكله وكان بكير بن وشّاح [2] التميمي خليفة بن حازم على مرو،
فكتب إليه عبد الملك بعهده على
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: بحير: «بفتح الباء الموحدة وكسر
الحاء المهملة» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: وسّاج.
(3/47)
خراسان ورغّبه بالمطامع إن انتهى، فخلع ابن
الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه
بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو
ويزيد ابنه يترمّد [1] فأتبعه بجير ولحقه قريبا من مرو واقتتلوا فقتل
ابن حازم. طعنه بجير وآخران معه فصرعوه وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه
وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في
أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الّذي قتل ابن حازم
وأقام في ولاية خراسان. وقيل إنّ ذلك إنّما كان بعد قتل ابن الزبير
وأنّ عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس
وكفّنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير
وبكير ما ذكرناه [2] .
(كان) عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة
آلاف من أهل الشأم وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن
الزبير يومئذ على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمعيّ،
فهرب الحرث وأقام ابن أنيف شهرا يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى
معسكره ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحرث إلى المدينة وبعث ابن
الزبير بن خالد الدورقي على خيبر وفدك. ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز
عبد الملك بن الحرث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى، وبعث سرية
إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه وأقاموا بخيبر وعليهم
ابن القمقام وذكر لعبد الملك ذلك فاغتمّ وقال قتلوا رجلا صالحا بغير
ذنب. ثم عزل ابن الزبير الحرث بن حاطب عن المدينة وولّى مكانه جابر بن
الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة
فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا. ثم بعث عبد الملك طارق
بن عمر مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، ويعمل كما
يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار، وليسدّ خللا إن ظهر له بالحجاز،
فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين
من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القبّاع وهو
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 345: ويزيد ابنه بترمذ.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 346: «فغسل الرأس وكفنه
وبعثه إلى اهله بالمدينة واطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول
لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف ان لا يطيع عبد الملك
ابدا.
(3/48)
عامله على البصرة يستمدّه ألفي فارس إلى
المدينة فبعثهم القبّاع وأمر ابن الزبير جابر ابن الأسود أن يسيّرهم
إلى قتال طارق ففعل ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم، وقتل من أصحابه
خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى. ثم عزل
ابن الزبير جابرا عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو
طلحة النّداء وذلك سنة سبعين. فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق ولما
قتل عبد الملك مصعبا ودخل الكوفة وبعث منها الحجّاج بن يوسف الثقفي في
ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه بالأمان لابن
الزبير ومن معه إن أطاعوا فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يتعرّض
للمدينة ونزل الطائف. وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن
الزبير فينهزمون دائما وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجّاج إلى
عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرّق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم
لحصار ابن الزبير ويستمدّه، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق
بالحجّاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عنها
طلحة النّداء عامل ابن الزبير، وولّى مكانه رجلا من أهل الشام وسار إلى
الحجّاج بمكّة في خمسة آلاف. ولما قدم الحجّاج مكّة أحرم بحجه ونزل بئر
ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة
بمكّة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي. ثم نصب الحجّاج المنجنيق على
أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حجّ تلك السنة فبعث إلى
الحجّاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل، ونادى منادي الحجّاج
عند الإفاضة انصرفوا فإنّا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى
بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب
الشام رجالا فذعروا. فقال لهم الحجّاج لا شك فهذه صواعق تهامة وإنّ
الفتح قد حضر فأبشروا. ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسرى عن
أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف
ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح
ابن الزبير فرسه وقسّم لحمها في أصحابه وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم
والمدّ من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة
وتمرا ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق، يقوّي بها نفوس أصحابه. ثم
أجهدهم الحصار وبعث الحجّاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه
منهم نحو عشرة آلاف، وافترق الناس عنه
(3/49)
وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب، وأقام
ابنه الزبير حتى قتل معه. وحرّض الناس الحجّاج وقال: قد ترون قلّة
أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدّموا واملؤا ما بين
الحجون والأبواء فدخل ابن الزبير على أمّه أسماء وقال يا أمّه قد خذلني
الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت له:
أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك،
ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أميّة. وإن كنت إنما
أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك وإن قلت كنت على
حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال: يا
أمّه أخاف أن يمثّلوا بي ويصلبوني فقالت: يا بني الشاة إذا ذبحت لا
تتألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن باللَّه فقبّل رأسها وقال هذا
رأيي والّذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا ولا
أحببت الحياة وما أخرجني إلّا الغضب للَّه وأن تستحلّ حرماته، ولكن
أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني [1] بصيرة وإني يا أمّه في يومي هذا
مقتول فلا يشتدّ حزنك وسلّمي لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمد إتيان منكر
ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم، ولم يكن
آثر عندي من رضا الله تعالى. اللَّهمّ لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن
تعزية لأمي حتى تسلو عني فقالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن
تقدّمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك. ثم قالت: أخرج حتى انظر ما يصير
أمرك جزاك الله خيرا. قال: فلا تدعي الدعاء لي، فدعت له وودّعها
وودّعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من
يريد ما تريد! فقال: ما لبستها إلا لأشدّ منك فقالت: إنه لا يشدّ مني
فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة
منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال:
بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل
مصارعهم وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجّاج وطارق بناحية الأبطح
إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صفوان
لعبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف فيجيبه من جانب المعترك ولما رأى
الحجّاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين
يديه فتقدّم ابن الزبير
__________
[1] الأصح ان يقول زدتني.
(3/50)
إليهم وكشفهم عنه ورجع فصلّى ركعتين عند
المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية
ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد
أيام. ويقال: إنه قال: لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبير أوطبتم لي نفسا
عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله؟ فلا يرعكم وقع السيوف
فإن ألم الدواء في الجرح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم بما تصونون
وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا تسألوا عني،
ومن كان سائلا فإنّي في الرعيل الأوّل ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته
حجارة في وجه فأرغش [1] لها ودمي وجهه. ثم قاتل قتالا شديدا وقتل في
جمادى الآخر سنة ثلاث وسبعين وحمل رأسه إلى الحجّاج فسجد، وكبّر أهل
الشام وثار الحجّاج وطارق حتى وقفا عليه، وبعث الحجّاج برأسه ورأس عبد
الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك وصلب جثته
منكّسة على ثنية الحجون اليمنى. وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب
إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلّى بينها وبينه ولما قتل عبد الله ركب
أخوه عروة وسبق الحجّاج إلى عبد الملك فرحّب به وأجلسه على سريره، وجرى
ذكر عبد الله فقال عروة: إنه كان! فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل
فخرّ ساجدا. ثم أخبره عروة أنّ الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمّه فقال:
نعم، وكتب إلى الحجّاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمّه وصلّى عليه
عروة ودفنه وماتت أمّه بعده قريبا. ولما فرغ الحجّاج من ابن الزبير دخل
إلى مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم
وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال:
أنتم قتلة عثمان وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما
يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد ثم
عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله،
وقيل إنّ ولاية الحجّاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين
وإنّ عبد الملك عزل عنها طارقا واستعمله. ثم هدم الحجّاج بناء الكعبة
الّذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الّذي أقرّه
عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يصدّق ابن الزبير في الحديث الّذي
رواه عن عائشة. فلمّا صحّ عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.
__________
[1] وفي الكامل ج 4 ص 356: فأرعش.
(3/51)
ولاية المهلب حرب
الازارقة
ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر
بن مروان وجمع له المصرين أمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة فيمن
ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة
رجلا شريفا معروفا بالبأس والنجدة في جيش كثيف إلى المهلب، فيتبعوا
الخوارج حتى يهلكوهم.
فأرسل المهلّب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان. وشق على
بشر أنّ امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك، فغص به ودعا عبد الرحمن
بن مخنف فأعلمه منزلته عنده وقال: إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة
فكن عند حسن ظني بك ثم أخذ يغريه بالمهلّب وأن لا يقبل رأيه ولا
مشورته، فأظهر له الوفاق وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز ولقي بها
الخوارج فحدق [1] عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران. ثم
أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم وأنه استخلف على البصرة
خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم،
ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم ويحذّرهم عقوبة
عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة
واستأذنوا عمر بن حريث في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه.
ولاية أسد بن عبد الله على خراسان
ولما ولي بكير بن وشّاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في
العصبية له وعليه سنتين، وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم
العدوّ فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وانها لا تصلح إلّا على رجل من قريش
واستشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد: نزكيهم
برجل منك فقال: لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها فاعتذر وحلف أنّ
الناس خذلوه ولم يجد مقاتلا فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن
الهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علمه الناس، فولّاه
خراسان. (ولما) سمع بكير بن وشّاح بمسيره بعث، الى بجير بن ورقاء وهو
في حبسه كما مرّ فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل
__________
[1] لعلها تكون خندق.
(3/52)
وصالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفا
على أن لا يقاتله فلما قارب أميّة نيسابور إليه بجير وعرّفه عن أمور
خراسان وما يحسن به طاعة أهلها وحذّره غدر بكير وجاء معه إلى مرو فلم
يعرض أمية لبكير ولا لعمّاله وعرض عليه شرطته فأبى. وقال: لا أحمل
الجزية اليوم وقد كانت تحمل إليّ بالأمس وأراد أن يولّيه بعض النواحي
من خراسان فحذّره بجير منه. ثم ولّى أمية ابنه عبد الله على سجستان
فنزل بستا. وغزا رتبيل الّذي ملك على الترك بعد المقتول الأوّل وكان
هائبا للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف وبعث بهدايا ورقيق فأبى
عبد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها
عبد الله. ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي
عينه عن المسلمين فشرط رتبيل عليه ثلاثمائة ألف درهم والعهد بأن لا
يغزو بلادهم فأعطاه ذلك وبلغ الخبر بذلك عبد الملك فعزله.
ولاية الحجاج العراق
ثم ولّى عبد الملك الحجّاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين
وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في
اثني عشر راكبا حتى قدم الكوفة في شهر رمضان. وقد كان بشر بعث المهلّب
إلى الخوارج فدخل المسجد وصعد المنبر وقال: عليّ بالناس فظنّوه من بعض
الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابئ البرجمي الحصباء وأراد أن
يحصبه، فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهو لا يشعر به. ثم حضر
الناس فكشف الحجّاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة. ذكرها الناس وأحسن من
أوردها المبرّد في الكامل يتهدّد فيها أهل الكوفة ويتوعدهم عن التخلّف
عن المهلّب. ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلّب فقام إليه
عمير ابن ضابئ وقال: أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشدّ مني فقال: هذا
خير لنا منك قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابئ قال:
الّذي غزا عثمان في داره؟ قال: نعم. فقال: يا عدوا الله [1] إلى عثمان
بدلا. قال: إنه حبس أبي وكان شيخا كبيرا. فقال: إني لا أحب حياتك إنّ
في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل ونهب ماله. وقيل إنّ عنبسة بن سعيد
بن العاص هو الّذي أغرى به الحجّاج حين دخل عليه. ثم أمر الحجاج مناديه
فنادى ألا
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 378: «قال: يا عدو الله أفلا إلى
عثمان بعثت بدلا؟»
(3/53)
إنّ ابن ضابئ تخلّف بعد ثالثة من النداء
فأمرنا بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب فتساءل
الناس إلى المهلب وهو بدار هرمز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة
العسكر ثم بعث الحجّاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفيّ وأمره أن
يشتدّ على خالد بن عبد الله، وبلغه الخبر فقسّم في أهل البصرة ألف ألف
وخرج عنها. ويقال إن الحجّاج أوّل من عاقب على التخلّف عن البعوث
بالقتل قال الشعبيّ: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الّذي يكتب إليه زمن عمر
وعثمان وعليّ تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولي مصعب أضاف إليه
حلق الرءوس واللحى، فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في
يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات فلما جاء الحجّاج ترك ذلك
كله وجعل عقوبة من تخلّى بمكانه من الثغر أو البعث القتل. ثم ولّى
الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية ابن الحرث
الكلابي العلاقي وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه فأرسل الحجّاج مجاعة
ابن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة
من ولايته.
وقوع أهل البصرة بالحجاج
ثم خرج الحجّاج من الكوفة واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة وسار
إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة وتوعد على القعود عن المهلب
كما توعد فأتاه شريك بن عمرو اليشكري وكان به فتق فاعتذر به وبأنّ بشر
بن مروان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه ليردّ لبيت المال فضرب الحجاج عنقه
وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه وبين المهلّب
ثمانية عشر فرسخا. وأقام يشدّ ظهره وقال: يا أهل المصرين هذا والله
مكانكم حتى يهلك الله الخوارج. ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في
الأعطية وكانت مائة مائة وقال: لسنا نجيزها. فقال عبد الله بن الجارود:
إنما هي زيادة عبد الملك وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجّاج
فقال: إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجّاج أشهرا لا يذكر
الزيادة ثم أعاد القول فيها فردّ عليه ابن الجارود مثل الردّ الأوّل.
فقال له مضفلة بن كرب العبديّ سمعا وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا
وليس لنا أن نردّ عليه. فانتهره ابن الجارود وشتمه وأتى الوجوه إلى عبد
الله بن حكيم بن زياد المجاشعيّ وقالوا:
إنّ هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة وإنّا نبايعك على إخراجه من
العراق،
(3/54)
ونكتب إلى عبد الملك أن يولّي علينا غيره
وإلّا خلعناه وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق، فبايعوه سرّا
وتعاهدوا وبلغ الحجّاج أمرهم فاحتاط وجدّ. ثم خرجوا في ربيع سنة ستة
وسبعين وركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم ولم يبق مع
الحجّاج إلا خاصته وأهل بيته وبعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول
لرسوله، وصرّح بخلع الحجّاج فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك! وأبلغه
تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. ثم زحف ابن
الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا
زجاجته وانصرفوا عنها.
فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه. وقال الغضبان بن أبي القبعثري
الشيبانيّ لابن الجارود: لا ترجع عنه وحرضه على معالجته فقال إلى
الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد لا ترجع عنه وحرضه على
معالجته فقال إلى الغداة، وكان مع الحجّاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر
العتكيّ صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم
ويلحق بأمير المؤمنين وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت. وقال:
لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقّاك إلى ما رقّاك وفعلت
ما فعلت بابن الزبير والحجاز فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته
وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجّاج
يغالطه رافعا صوته عليه ليسمع الناس ويقول والله لا آمنهم حتى تؤتوني
بالهذيل بن عمران وعبد الله بن حكيم. ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري
أن ائتني فامنعني، فقال له: إن أتيتني منعتك فأبى وبعث إلى محمد بن
عمير بن عطارد وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك، وأجابوه مثله. ثم إنّ عبّاد
بن الحصين الجفطيّ مرّ بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم يتناجون
فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجّاج وجاءه قتيبة بن مسلم في
بني أعصر للحميّة القتيبيّة. ثم جاءه سبرة بن عليّ الكلابي وسعيد بن
أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فثابت إليه نفسه
وعلم أنه قد امتنع. وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن
شئت أقمت وثبطت عنك، فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف وقال
ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي؟ قال تركته أمس ولم
يبق إلّا الصبر ثم تراجعوا وعبّى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل
وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، وحمل ابن الجارود حتى حاصر اصحاب الحجّاج
وعطف الحجّاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر. ثم أصابه سهم غرب فوقع
ميتا ونادى منادي الحجّاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن حكيم وأمر أن لا
يتبع المنهزمين، ولحق ابن ضبيان بعمار فهلك هنالك. وبعث الحجّاج برأس
ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك ونصبت ليراها الخوارج
فيتأسوا من الاختلاف وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير لامتناعهما
من الإتيان إليه وحبس ابن القبعثري لتحريضه عليه، فأطلقه عبد الملك
وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك فقال الحجاج: لا
أرى أنسا يعين عليّ ودخل البصرة وأخذ ماله. وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش
في كلمة في شتمه وكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه فكتب عبد الملك إلى
الحجّاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس. «وأن تجيء إلى
منزله وتتنصل إليه وإلّا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك» . قالوا وجعل
الحجّاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقا. ثم جاء إلى أنس بن
مالك واعتذر إليه. وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد
كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير وأفسدوا الثمار
والزروع. ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم وقتل
بعضهم وصلبه. فلما كانت هذه الواقعة قدّموا عليهم رجلا منهم اسمه رياح
ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا فلما فرغ الحجّاج من ابن الجارود
أمر زياد بن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم وبعث ابنه حفصا
في جيش فقتلوه وانهزم أصحابه فبعث جيشا فهزم الزنج وأبادهم.
مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج
كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوارج برامهرمز فلما أمدّهم
الحجّاج بالعساكر من الكوفة والبصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى
كازرون وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم. وخندق المهلّب على نفسه، وقال
ابن مخنف وأصحابه خدمنا [1] سيوفنا. فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرّة في
ابن مخنف فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة، وأمّا أهل
الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا
__________
[1] ولعلها خندقنا سيوفنا، لأن خدمنا ليس لها معنى هنا. اي انهم يحمون
أنفسهم بسيوفهم وليس بالخندق حولهم.
(3/55)
الخوارج اشتدّ القتال بينهم ومال الخوارج
على المهلب فاضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بالخيل والرجال، ولما
رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلّب وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه
وانكشفوا عنه، وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء، وقد
أمره الحجّاج أن يسمع للمهلّب فثقل ذلك عليه، فلم يحسن بينهما العشرة
وكان يتراءف في الكلام، وربما أغلظ له المهلب. فأرسل عتاب إلى الحجّاج
يسأله القعود، وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه، فصادفا منه ذلك
مرقعا [1] واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلّب فولّى المهلب
عليهم ابنه حبيبا، وأقام يقاتلهم بنيسابور نحوا من سنة وتحرّكت الخوارج
على الحجّاج من لدن سنة ستة وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم وأوّل من
خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم بعث إليه العساكر فقتل فولّوا عليهم
شبيبا واتبعه كثير من بني شيبان وبعث إليهم الحجّاج العساكر مع الحرث
بن عميرة ثم مع سفيان الخثعميّ ثم انحدر ابن سعيد فهزموها وأقبل شبيب
إلى الكوفة فحاربهم الحجّاج وامتنع ثم سرّح عليه العساكر وبعث في أثرهم
عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم. ثم بعث عتّاب بن ورقاء وزهرة بن
حويّة مددا لهم فانهزموا وقتل عتاب وزهرة ثم قتل شبيب واختلف الخوارج
بينهم وقتل منهم جماعة كما يذكر ذلك كله في أخبارهم.
ضرب السكة الإسلامية
كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112:
1 وذكر النبيّ مع التاريخ، فنكر ذلك ملك الروم وقال: اتركوه وإلّا
ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهونه فعظم ذلك عليه واستشار الناس
فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل. ثم نقش
الحجّاج فيها قل هو الله أحد فكره الناس ذلك لأنه قد يمسّها غير
الطاهر. ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش وزاد ابن هبيرة أيام
يزيد بن عبد الملك عليه. ثم زاد خالد القسريّ عليهم في ذلك أيام هشام
ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار وضرب عليه
فكانت الهبيريّة والخالديّة واليوسفيّة أجود نقود بني أمية. ثم أمر
المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسميت النقود الأولى مكروهة إمّا
لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجّاج
__________
[1] لا معنى للكلمة مرقعا ولعلها: وصادف منه ذلك موقعا.
(3/57)
وكرهه. وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر
والكبر، فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطا واثني عشر وعشرة قراريط وهي
أنصاف المثاقيل فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين
فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطا وزن الدرهم العربيّ فكانت كل عشرة
دراهم تزن مثاقيل. وقيل إنّ مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه
عبد الله والأصح أنّ عبد الملك أوّل من ضرب السكة في الإسلام.
مقتل بكير بن وشاح [1] بخراسان
قد تقدّم لنا عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن
أسيد سنة أربع وسبعين وأنّ بكيرا أقام في سلطان أمية بخراسان وكان
يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان، فلا يجيب، وأنه ولّاه
طخارستان، وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه، ثم أمره بالتجهّز لغزو
ما وراء النهر، فحذره منه بجبر فردّه فغضب بكير. ثم تجهز أمية لغزو
غارا، وموسى بن عبد الله بن حازم لترمذ واستخلف ابنه على خراسان. فلما
أراد قطع النهر قال لبكير: ارجع إلى مرو فأكفنيها فقد وليتكها، وقم
بأمر ابن حازم فإنّي أخشى أن لا يضبطها. فانتخب من وثق به من أصحابه
ورجع، وأشار عليه صاحبه عتّاب بأن يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع
أميّة، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على ذلك فقال لهم بكير: أخشى
على من معي.
قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء، قال: يهلك المسلمون. قال ناد في
الناس برفع الخراج فيكونون معك. قال فيهلك أميّة وأصحابه. قال لهم عدد
وعدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن ورجع إلى
مرو فخلع أمية وحبس ابنه وبلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى ورجع
وأمر باتخاذ السفن وعبر وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من [2] مددا له
وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير وهزمه، فبعث
مكانه ثابت بن عطية فهزمه. ثم التقى أمية وبكير فاقتتلوا أياما. ثم
انهزم بكير إلى مرو وحاصره أمية أياما حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء
من خراسان، وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه، ويصل أصحابه
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 443: بكير بن وسّاج.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل الابن الأثير ج 4 ص 445 «وأتاه موسى بن عبد
الله بن حازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة وسار إليه بكير
فبيته وهزمه» .
(3/58)
ولا يقبل فيه سعاية بجير فتمّ الصلح ودخل
أمية مدينة مرو وأعاد بكيرا إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب
العدابي عشرين ألفا وعزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب. وقيل إنّ
بكيرا لم يصحب أمية إلى النهر وإنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية
النهر خلع وفعل ما فعل. ثم أنّ بجيرا سعى بأمية بأنّ بكيرا دعاه إلى
الخلاف وشهد عليه جماعة من أصحابه، وأنّ معه ابني أخيه فقبض عليه أمية
وقتله وقتل معه ابني أخيه وذلك سنة سبع وسبعين. ثم عبر النهر لغزو بلخ
فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى
مرو.
مقتل بجير بن زياد
[1] ولما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم
وهم عشيرته على الطلب بدمه وخرج فتى منهم من البادية اسمه شمردل وقدم
خراسان ووقف يوما على بجير فطعنه فصرعه ولم يمت وقتل شمردل وجاء مكانه
صعصعة بن حرب العوفيّ ومضى إلى سجستان وجاور قرابة بجير مدّة وانتسب
إلى خنفيّة ثم قال لهم: إنّ لي بخراسان ميراثا فاكتبوا إلى بجير
يعينني، فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه، وأقام عنده شهرا
يحضر باب المهلّب وقد أنس به وأمن غائلته، وجاء صعصعة يوما وهو عند
المهلب في قميص ورداء ودنا ليكلمه فطعنه ومات من الغد وقال صعصعة
فمنعته مقاعس وقالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير
ببكير وقيل إنّ المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة
إحدى وثمانين.
ولاية الحجاج على خراسان وسجستان
وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان
وضمهما إلى الحجّاج بن يوسف فبعث المهلّب بن أبي صفرة على خراسان وقد
كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه وأجلسه معه على السرير، وأحسن إلى
أهل البلاد من أصحابه وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان
فأما المهلب فقدّم ابنه حبيبا إلى خراسان فلم يعرض لأمية ولا لعمّاله
حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 457: بحير بن ورقاء.
(3/59)
ولايته، وسار في خمسة آلاف وقطع النهر
الغربي وما وراء النهر، وعلى مقدمته أبو الأدهم الرمّاني في ثلاثة
آلاف، فنزل على كشّ وجاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه، فبعث معه
ابنه يزيد، فبيّت ابن العم عساكر الختن وقتل الملك وجاءه صرّ يريد
قلعتهم حتى صالحوا بما رضي، ورجع. وبعث المهلب ابنه حبيبا في أربعة
آلاف ووافى صاحب بخارى في أربعين ألفا. وكبس بعض جنده في قرية فقتلهم
وأحرقها ورجع إلى أبيه. وأقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على
فدية وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورتبيل على صلحه يؤدّي
الخراج. ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده،
فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شريح بن هانئ من أصحاب علي، فدخل
بلاد رتبيل وتوغّل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخا من مدينتهم
وأثخن واستباح وخرّب القرى والحصون. ثم أخذ الترك عليهم القرى والشعاب
حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم، على أن يعطيهم
سبعمائة ألف درهم. ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال وحرّض الناس
ورجع وقتل حين، قتل في ناس من أصحابه ونجا الباقون وخرجوا من بلاد
رتبيل، ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا. فجعلوا
يطعمونهم السمن قليلا قليلا حتى استمرّوا وكتب الحجاج إلى عبد الملك
يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهّز عشرين ألف فارس من الكوفة
وعشرين ألفا من البصرة واختار أهل الغنى والشجاعة، وأزاح عللهم وأنفق
فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل.
وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان يبغضه ويقول أريد قتله.
ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه، فلما بعثه
على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجّاج وقال لا تبعثه فإنّي أخشى
خلافه. فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسار عبد الرحمن في الجيش
وقدم سجستان واستنفرهم وحذر العقوبة لمن يتعدّى وساروا جميعا إلى بلاد
رتبيل وبذل الخراج فلم يقبل منه ودخل بلاده فحواها شيئا فشيئا وبعث
عمّاله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب،
وامتلأت أيدي الناس من الغنائم، ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل.
وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا وهو أن الحجّاج كان قد
أنزل هميان بن عديّ السديّ مسلحة بكرمان إن احتاج إليه عامل السند
وسجستان،
(3/60)
فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن
الأشعث فهزمه وقام بموضعه. ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولّاه الحجاج
مكانه وجهّز إليه هذا الجيش وكان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم.
أخبار ابن الأشعث ومقتله
ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبّخه على القعود عن
التوغل ويأمره بالمضيّ لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي
ذراريهم. وأعاد عليه الكتاب بذلك ثانيا وثالثا وقال له: إن مضيت وإلّا
فأخوك إسحاق أمير الناس.
فجمع عبد الرحمن الناس وردّ الرأي عليهم وقال: قد كنّا عزمنا جميعا على
ترك التوغل في بلد العدوّ ورأينا رأيا وكتبت بذلك إلى الحجّاج وهذا
كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغل بكم وأنا رجل منكم، فثار
الناس وقالوا: لا نسمع ولا نطيع للحجّاج. وقال أبو الطفيل عامر بن
واثلة الكنانيّ: اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن
فتنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا. وقال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي:
انصرفوا إلى عدوّ الله الحجّاج فانفوه عن بلادكم ووثب الناس إلى عبد
الرحمن على خلع الحجاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد
الملك. وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما
بقي من الدهر، وإن هزم منعه ممن يريده. وجعل عبد الرحمن على سبت عيّاض
بن هميان الشيبانيّ وعلى رومج عبد الله بن عامر التميمي، وعلى كرمان
حرثة بن عمر التميمي. ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى همدان بين يديه
يجري بمدحه وذمّ الحجّاج. وعلى مقدمته عطيّة بن عمير العيرني. ولما بلغ
فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعناه
فخلعه الناس وبايعوا عبد الرحمن على السنة وعلى جهاد أهل الضلالة
والمخلين وخلعهم. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره ويستمدّه وكتب
المهلّب إلى الحجّاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم،
فنكر كتابه واتهمه. وجنّد عبد الملك الجند إلى الحجّاج فساروا إليه
متتابعين، وسار الحجّاج من البصرة فنزل تستر وبعث مقدمة خيل فهزمهم
أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد وقتل منهم جمعا كثيرا وذلك في أضحى
إحدى وثمانين، وأجفل الحجّاج إلى البصرة، ثم تأخّر عنها إلى الغاوية
(3/61)
وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته. ودخل عبد
الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها لأنّ الحجّاج كان اشتد على
الناس في الخراج، وأمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى، يستوفي
الجزية، فنكر ذلك الناس وجعل أهل القرى يبكون منه، فلما قدم عبد الرحمن
بايعوه على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك. ثم اشتدّ القتال بينهم في
المحرّم سنة اثنتين وثمانين، وتزاحفوا على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك.
وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة وانهزم منهم خلق كثير. وفشا القتل في
القرى فقتل منهم عقبة بن الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه، وقتل
الحجّاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف وكان هذا اليوم يسمّى يوم الراوية.
واجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن ابن عبّاس بن ربيعة بن الحرث بن
عبد المطلب وبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث
بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة. ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة
الحجّاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرميّ وثب بع
مطر بن ناحية من بني تميم مع أهل الكوفة، فاستولى على القصر وأخرجه.
فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة واحتف به همدان وجاء إلى القصر
فمنعه مطر فصعد الناس القصر وأخذوه فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة. ثم
إنّ الحجّاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ورجع إلى الكوفة
فنزل دوير فيرة، ونزل عبد الرحمن دير الجماجم واجتمع إلى كل واحد
أمداده وخندق على نفسه وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمدا في
جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجّاج ويجرى عليهم
أعطياتهم كأهل الشام، وينزل عبد الرحمن إلى أيّ بلد شاء عاملا لعبد
الملك.
فوجم الحجّاج لذلك وكتب إلى عبد الملك: إنّ هذا ممن يزيدهم جراءة
وذكّره بقضية عثمان وسعيد بن العاص. فأبى عبد الملك من رأيه وعرض عبد
الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك وتشاور أهل العراق بينهم
وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك، وأن العزّة لهم على عبد الملك لا
تزول، فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجدّدين الخلع. وتقدّمهم في
ذلك عبد الله بن دواب السلميّ وعمير بن تيحان، ثم برزوا للقتال وجعل
الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن
تميم اللّخميّ، وعلى الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى الرجّالة عبد
الله بن حبيب الحكميّ. وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجّاج بن
(3/62)
حارثة الخثعميّ، وعلى ميسرته الأبرد بن
قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العبّاس بن ربيعة بن الحرث بن
عبد المطلب، وعلى رجّالته محمد بن سعد بن أبي وقّاص، وعلى مجنبته عبد
الله بن رزم الحرشيّ، وعلى القرى [1] جبلة بن زخر بن قيس الجعفيّ وفيهم
سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي
ليلى. ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم، وكتيبة القرى
معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص. فعبّى الحجّاج ثلاث كتائب مع
الجرّاح بن عبد الله الحكمي وحملوا على القرى ثلاث حملات وجبلة يحرّض
القرى ويبيتهم والشعبي وسعيد بن جبير كذلك. ثم حملوا على الكتائب
ففرّقوها وأزالوها عن مكانها وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون
إليه، وأبصره الوليد بن نجيب الكلبيّ فقصده في جماعة من أهل الشام
وقتله وجيء برأسه إلى الحجّاج وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى.
ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى والمبارزة.
ثم اقتتلوا يوما في منتصف جمادى الآخرة وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة
الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرّة من غير قتّال
فتقوّضت صفوف الميمنة، وركبهم أصحاب الحجّاج، ثم انهزم عبد الرحمن
وأصحابه.
ومضى الحجّاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد
الملك إلى الشام. وأخذ الحجّاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر،
وقتل من أبى ودعا بكميل بن زياد صاحب عليّ فقتله لاقتصاصه. ثم أقام
بالكوفة شهرا وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة، ولحق ابن الأشعث
بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن
سمرة ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقّاص بالمدائن، وسار نحو الحجّاج
ومعه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانيّ كان قدم عليه قبل الهزيمة من
الري وكان انتقض بها ثم غلب عليها ولحق بعبد الرحمن فكان معه وبايع عبد
الرحمن خلق كثير على الموت، ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه والحجّاج
قبالتهم وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله وكان قدم من خراسان في بعث
الكوفة، فقاتلهم خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وقتل زياد بن غنيم
القيني. وكان عليّ صالح الحجّاج فهدّ منهم ثم أبى بكر القتال. وحل
بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة، كسروا
جفون
__________
[1] اي القرّاء.
(3/63)
سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارا
وأحاط بهم الرماة ولحقوا فقتلوا.
وحمل عبد الملك بن المهلّب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم. ثم حمل أصحاب
الحجّاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي
ليلى الفقيه، وأبو البحتري الطائي ومعلّى بن الأشعث نحو سجستان ويقال
إنّ بعض الأعراب جاء إلى الحجّاج فدلّه على طريق من وراء معسكر ابن
الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاءوا من ورائه، وأصبح الحجّاج فقاتله
واستطرد له حتى نهب معسكره وأقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن
الأشعث وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى، وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل
من وجد فيه وكان عدّة القتلى أربعة آلاف منهم: عبد الله بن شدّاد بن
الهادي وبسطام بن مصقلة وعمر بن ربيعة الرقاشيّ وبشر بن المنذر بن
الجارود وغيرهم. (ولما سار) ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج
بالعساكر، وعليهم عمارة بن تميم اللخمي، ومعهم محمد بن الحجّاج فأدركوه
بالسوس فقاتلوه وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر
قتالا شديدا فهزم، وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها
وهيأ له النزول فنزل. ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول، فحاصرها
أياما ثم سار إلى بست وعليها من قبله عيّاض بن هميان بن هشام السلوبيّ
الشيبانيّ، ثم استغفله فأوثقه. وكان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله،
ونزل على بست وتهدّد عيّاضا فأطلقه، وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده.
واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم وقصدوا
للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث، وكتبوا إلى عبد الرحمن
بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة
يزيد بن المهلّب وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان فأبوا وقالوا بل يكثر
بها تابعنا. فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن
سمرة فخشي الانتقاض وقال: إنما أتيتكم وأمركم جميعا وأنا الآن منصرف
إلى صاحبي الّذي جئت من عنده يعني رتبيل. ورجع عنهم في قليل وبقي معظم
العسكر مع عبد الرحمن بن العبّاس بسجستان، فجمع بابن الأشعث وسار إلى
خراسان في عشرين ألفا ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه. وبعث إليه يزيد
بن المهلب بالرحلة من البلاد، فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل، ثم أخذ
في الجباية وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن
عنه، وصبرت معه طائفة
(3/64)
ثم انهزموا وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما
في عسكرهم وأسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقّاص وعمر بن موسى
بن عبد الله بن معمر وعبّاس بن الأسود بن عوف والهلقام بن نعيم بن
القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز وأبوا العلج مولى عبيد الله بن معمر
وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات، وعبد الله بن فضالة
الزهراني الأزدي. ولحق عبد الرحمن بن العبّاس بالسند وأتى ابن سمرة إلى
مرو وانصرف يزيد إلى مرو. وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع سيدة بن نجدة،
وقال له أخوه حبيب: ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة؟ فإنّ له عندنا يدين،
وقد ودى عن المهلب أبوه طلحة مائة ألف، فتركه وترك عبد الله بن فضالة
لأنه من الأزد. وبعث الباقين وقدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا
بفيروز وقال: ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب؟ قال: فتنة عمّت
الناس! قال: أكتب أموالك فكتب ألفي ألف وأكثر. فقال للحجاج: وأنا آمن
على دمي؟ قال: لا والله لتؤدّينها ثم أقتلك. قال: لا تجمع مالي ودمي
وأمر به فنحي. ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقّاص فوبّخه طويلا ثم أمر
به فقتل ثم دعا بعمر بن موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به
فقتل. ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه.
وقال: ابن الأشعث طلب الممالك فالذي طلبت أنت؟ قال: أن توليني العراق
مكانك فأمر به فقتل. ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله يزيد
بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطرا، فأطرق الحجّاج، ثم
قال: ما أنت وذاك؟ ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله.
ثم أمر بفيروز فعذب ولما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردّوا عليّ
ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل. وأمر
بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفا، وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته
بين الأثلج وبين قيس، وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال: ليست هذه
وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على رويّ الدال. فأنشده فلما بلغ
قوله بخ بخ للوالدة وللمولود. قال: والله لا تبخبخ بعدها أبدا وقتل.
(وسأل الحجاج) عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم إنه لحق بالري فكتب
إلى قتيبة بن مسلم وهو عامله على الري بإرسال الشعبي. فقدم على الحجّاج
سنة ثلاث وثمانين، وكان ابن أبي مسلم له صديقا فأشار عليه بحسن
الاعتذار فلما دخل على الحجّاج سلّم عليه بالإمرة وقال: وأيم الله لا
أقول إلا الحق
(3/65)
قد والله حرّضنا وجهدنا فما كنا أقوياء
فجرة، ولا أتقياء بررة، وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن
عفوت فبحلمك والحجة لك علينا. فقال الحجاج: هذا والله أحب اليّ ممن
يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا. ثم أمّنه وانصرف. (ولما
ظفر الحجّاج) بابن الأشعث وهزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت
وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة. فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند
الحجاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجّاج
فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب. ولما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر
لقتاله ثم غدروا به فانهزم، ولحق بطبرستان وأقرّه الأصبهبد وأحسن اليه،
وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال: قد علمت الأعاجم أني
أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري وكتب الحجّاج إلى الأصبهبد أن
يبعث بهم أو برءوسهم ففعل ذلك: (ولما انصرف) عبد الرحمن بن الأشعث من
هراة إلى رتبيل قال له علقمة ابن عمر الازدي: لا أدخل معك دار الحرب
لأنّ رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه،
ونحن خمسمائة قد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراما
وقدم عليهم مودود البصري، وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى
استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل في عبد
الرحمن يرهبه ويرغبه. وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث
وكان رسوله إلى رتبيل أوّلا فأنس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن
الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله فخافه وزير لرتبيل أخذ العهد من الحجّاج
وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل وخرج
إلى عمارة سرّا. وكتب عمارة إلى الحجّاج بذلك فأجاب وكتب له بالكفّ عنه
عشر سنين، وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن وقيل مات بالسل فقطع رأسه
وبعث به، وقيل أرسله مقيّدا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد
الرحمن نفسه من سطح القصر فمات، فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس
وثمانين.
قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كشّ من وراء النهر فأقام عليها سنتين،
وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة فمات سنة اثنتين وثمانين، فجزع
عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارسا، ولقيهم في مفازة
نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوهم قتالا شديدا يطلبون ما في
أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض
(3/66)
أصحابه لبعضهم شيئا من المتاع والسلاح،
ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو. ثم سأل أهل كشّ من المهلب الصلح على مال
يعطونه، فاسترهن منهم رهنا من أبنائهم في ذلك، وانفتل المهلّب وخلّف
حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية ويردّ الرهن، فلما صار ببلخ كتب
إليه: لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك
فأقرأ صاحب كشّ كتابه وقال: إن عجلت أعطيتك الرهن، وأقول له جاء الكتاب
بعد إعطائه. فعجّل صاحب كشّ بالفدية وأخذ الرهن وعرض له الترك كما
عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى، ففدوهم فردا فردا وأطلقهم.
ولما وصل إلى المهلّب ضربه ثلاثين سوطا عقوبة على مخالفة كتابه في
الرهن. فحلف حريث بن قطنة ليقتلنّ المهلب، وخاف ثابتا أن كان ذلك
المسير إليه فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف
ليقتلن المهلب، وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعا فأشار عليه
باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم، فلحق به في ثلاثمائة من أصحابهما.
(ثم هلك المهلّب) واستخلف ابنه يزيد، وأوصى ابنه حبيبا بالصلاة وأوصى
ولده جميعا بالاجتماع والألفة، ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر
العدد وأنها كم عن القطيعة، فإنّها تعقب النار والذلة والقلة، وعليكم
بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم واتقوا الجواب وزلة
اللسان فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينعش ويزلّ لسانه فيهلك واعرفوا لمن
يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وآثروا الجود على
البخل وأحبوا العرف واصنعوا المعروف، فإنّ الرجل من العرب تعده العدة
فيموت فكيف بالصنيعة عنده. وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنّها
أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء وإن أخذ الرجل بالحزم
فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر، وإن لم يظفر قيل ما فرّط ولا ضيّع
ولكن القضاء غالب.
وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام
في مجالسكم. ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين. (ويقال) إنه لما حثّهم
على الألفة والاجتماع أحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرون هذه مجتمعة؟
قالوا: لا. قال:
فتكسرونها مفترقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. واستولى يزيد على
خراسان بعد أبيه وكتب له الحجّاج بالعهد عليها ثم وضع العيون على بيزك
حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها
من الأموال والذخائر، وكانت
(3/67)
من أحصن القلاع. وكان بيزك إذا أشرف عليها
يسجد لها. ولما فتحها كتب إلى الحجّاج بالفتح وكان كاتبه يعمر
العدوانيّ حليف هذيل فكتب: إنّا لقينا العدوّ فمنحنا الله أكنافهم
فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برءوس الجبال ومهامه الأودية
وأهضام الغيطان وأفناء الأنهار. فقال الحجّاج: من يكتب ليزيد؟ قيل:
يحيى بن يعمر. فكتب بحمله على البريد فلما جاءه قال: أين ولدت؟ قال:
بالأهواز قال: فمن أين هذه الفصاحة؟ قال: حفظت من أولاد أبي وكان فصيحا
قال: يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا. قال ففلان؟ قال: نعم. قال:
فأنا؟ قال: تلحن خفيفا تجعل أنّ موضع إنّ وأنّ موضع أنّ. قال: أجلتك
ثلاثا وإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.
بناء الحجاج مدينة واسط
كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة
إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين، وعسكروا قريبا من الكوفة حتى يستتموا،
ورجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه فطرق بيته ودق الباب
فلم يفتح له إلّا بعد هنيهة وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة
عمه مراودته إيّاها. فقال لها: ائذني له فأذنت له، وجاء فقتله الفتى
وخرج إلى العسكر وقال: ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم
فأحضروها عند الحجّاج فأخبرته. فقال: صدقت! وقال للشاميين لا قود له
ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد
وبعث الروّاد فارتادوا له مكان واسط ووجد هناك راهبا ينظف بقعته من
النجاسات فقال: ما هذه؟ قال: نجد في كتبنا أنه ينشأ هاهنا مسجد
للعبادة.
فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة.
عزل يزيد عن خراسان
يقال إنّ الحجّاج وفد إلى عبد الملك ومرّ في طريقه براهب قيل له إنّ
عنده علما من الحدثان فقال: هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه؟ قال: نعم
فقال: مسمّى أو موصوفا؟ قال: موصوفا. قال: فما تجدون صفة ملكنا؟ قال:
صفته كذا. قال ثم من؟ قال: آخر اسمه الوليد. قال: ثم من؟ قال: آخر اسمه
ثقفي. قال فمن تجد
(3/68)
بعدي قال رجل يدعى يزيد. قال أتعرف صفته
قال لا أعرف صفته إلا أنه يغدر غدرة فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن
المهلب ووجل منه وقدم على عبد الملك. ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد
الملك يذمّ يزيد وآل المهلب وأنهم زبيريّة فكتب إليه إنّ وفاءهم لآل
الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجّاج يخوّفه غدرهم وما يقول
الراهب فكتب إليه عبد الملك إنك أكثرت في يزيد فانظر من تولّي مكانه
فسمّى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه. وكره الحجاج أن يكاتبه
بالعزل فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل واستشار يزيد حصين بن
المنذر الرقاشيّ فقال له: أقم واعتل وكاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي
فيك نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز
وأبطأ فكتب الحجّاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد. فقال: إنه
لا يضرّك بعدي وإنما ولّاك مخافة أن امتنع وخرج يزيد في ربيع سنة خمس
وثمانين. ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته وولى قتيبة بن مسلم وقيل
سبب عزل اليزيد أنّ الحجاج أذل العراق كلهم إلّا آل المهلب وكان يستقدم
يزيد فيعتل عليه بالعدا [1] والحروب وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم
فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف. ثم استقدمه بعد ذلك فقال
إنّي أغزو خوارزم فكتب الحجّاج لا تغزها فغزاها وأصاب سبيا وصالحه
أهلها وانفتل في الشتاء. وأصاب الناس البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا
عرايا وقتلهم المفضل. ولما ولى المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب
مغنما فقسمه ثم غزا شومان فغنم وقسّم ما أصابه.
مقتل موسى بن حازم
كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان وافترقوا عليه فخرج إلى
نيسابور، وخاف بنو تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى: اقطع نهر بلخ
حتى نلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن نقيم فيه. فسار موسى عن مرو في
مائتين وعشرين فارسا واجتمع إليه شبه الأربعمائة وقوم من بني سليم وأتى
قم فقاتله أهلها فظفر بهم وأصاب منهم مالا، وقطع النهر. وسأل صاحب
بخارى أن يأوي إليه فأبى وخافه، وبعث إليه بصلة فسار عنه وعرض نفسه على
ملوك الترك فأبوا خشية منه، وأتى سمرقند فأذن
__________
[1] لعلها العدي ومعناها الأعداء.
(3/69)
له ملكها طرخون ملك الصغد في المقام فأقام
وبلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم ولم يزل مقيما بسمرقند. وبارز بعض
أصحابه يوما بعض الصغد فقتله فأخرجه طرخون عنه فأتى كشّ فنزلها ولم يطق
صاحبها مدافعته واستجاش عليه بطرخون. فخرج موسى للقائه وقد اجتمع معه
سبعمائة فارس فاقتتلوا إلى الليل ودسّ موسى بعض أصحابه إلى طرخون
يخوّفه عاقبة أمره وأنّ كل من يأتي خراسان يطالبه بدمه فقال:
يرتحل عن كشّ؟ قال له: نعم! وكفّ حتى ارتحل وأتى ترمذ، فنزل إلى جانب
حصن بها مشرف على النهر، وأبى ملك ترمذ من تمليكه الحصن فأقام هنالك
ولاطف الملك وتودّد له وصار يتصيد معه. وصنع له الملك يوما طعاما
وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا، فلما طعموا امتنعوا من الذهاب. وقال
موسى هذا الحصن إمّا بيتي أو قبري وقاتلهم فقتل منهم عدّة واستولى على
الحصن وأخرج ملك ترمذ ولم يتعرّض له ولا لأصحابه. ولحق به جمع من أصحاب
أبيه فقوي بهم، وكان يغير على ما حوله. ولما ولي أمية خراسان سار لغزوه
وخالفه بكير كما تقدّم. ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من
خزاعة وحاصروه. وعاود ملك ترمذ استنصاره بالترك في جمع كثير ونزلوا
عليه من جانب آخر. وكان يقاتل العرب أوّل النهار والترك آخره ثلاثة
أشهر. ثم بيّت الترك ليلة فهزمهم وحوى عسكرهم بما فيه من المال والسلاح
ولم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلا. وأصبح الخزاعي والعرب وقد خافوا
مثلها. وغدا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم وكان صاحبه
فقال: إنّا لا نظفر إلّا بمكيدة فاضربني وخلني، فضربه خمسين سوطا فلحق
بالخزاعي وقال: إنّ ابن حازم اتهمني بعصبيتكم وأني عين لكم فأمّنه
الخزاعي وأقام عنده. ودخل عليه يوما وهو خال فقال له: لا ينبغي أن تكون
بغير سلاح.
فرفع طرف فراشه وأراه سيفا منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله ولحق بموسى.
وتفرّق الجيش واستأمن بعضهم موسى. ولما ولي المهلّب على خراسان قال
لبنيه: إياكم وموسى فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قيس. ثم لحق به
حريث وثابت ابنا قطنة الخزاعي فكانا معه. ولما ولي يزيد أخذ أموالهما
وحرمهما، وقتل أخاهما للأم الحرث بن معقّد، فسار ثابت إلى طرخون صريخا،
وكان محببا إلى الترك فغضب له طرخون. وجمع له نيزك وملك الصغد وأهل
بخارى والصاغان، فقدموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع عليه فلّ عبد
الرحمن بن عبّاس من هراة وفل ابن
(3/70)
الأشعث من العراق ومن كابل. فكان معه نحو
ثمانية آلاف فقال له ثابت وحريث:
سر بنا في هذا العسكر مع الترك، فنخرج يزيد من خراسان ونوليك، فحذّر
موسى أن يغلباه على خراسان، ونصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما: إن
أخرجنا يزيد قدم عامل المدينة عبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء
النهر ويكون لنا، فأخرجوهم وانصرف طرخون والترك. وقوي أمر العرب بترمذ
وجبوا الأموال واستبد ثابت وحريث على موسى وأغراه أصحابه بهما فهم
بقتلهما، وإذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهياطلة والتبّت والترك
فخرج موسى فيمن معه للقتال. ووقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف،
فحمل عليهم حريث بن قطنة حتى أزالهم عن موضعهم، وأصيب بسهم في وجهه
وتحاجزوا ثم بيّتهم موسى فانهزموا وقتل من الترك خلق كثير ومات منهم
قليل. ومات حريث بعد يومين ورجع موسى بالظفر والغنيمة. وقال له أصحابه:
قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى. وبلغ ثابتا بعض ما كانوا
يخوضون فيه ودسّ محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي
الباسيان ولا يحسن العربية، فاتصل بموسى وكان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه
فقال لهم ليلة: قد أكثرتم عليّ فعلى أيّ وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ فقال
له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عد لنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل
إليك. فقال والله: إنه لهلاككم وجاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من
ليلته في عشرين فارسا وأصبحوا ففقدوه وفقدوا الغلام فعلموا أنه كان
عينا. ونزل ثابت بحشور واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم. وسار
إليه موسى وقاتله، فحصر ثابتا بالمدينة. وأتاه طرخون مددا فرجع موسى
إلى ترمذ. ثم اجتمع ثابت وطرخون وأهل بخارى ونسف وأهل كش في ثمانين
ألفا. فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه. وقال يزيد بن هذيل والله
لأقتلن ثابتا أو أموت. فاستأمن إليه وحذّره بعض أصحابه منه فأخذ ابنيه
قدامة والضحّاك رهنا وأقام يزيد يتلمّس غرّة ثابت. ومات ابن الزياد
والقصير الخزاعي فخرج إليه ثابت يعزيه وهو بغير سلاح فضربه يزيد على
رأسه وهرب وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما. وهلك ثابت
لسبعة أيام وقام مكانه من أصحابه ظهير [1] وضعف أمرهم وبيّتهم موسى
ليلا في
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 511: «وأخذ طرخون قدامة والضحّاك
ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات. وقام بأمر العجم بعد موت
ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا وانتشر
أمرهم وأجمع موسى على بياتهم ... »
(3/71)
ثلاثمائة فبعث إليه طرخون كف أصحابك فإنّا
نرحل الغداة. فرجع وارتحل طرخون والعجم جميعا. ولما ولي المفضل خراسان
بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى ابن حازم وكتب إلى مدرك بن المهلب
في بلخ بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى رتبيل وإلى
طرخون أن يكونوا مع عثمان. فحاصروا موسى بن حازم فضيّقوا عليه شهرين،
وقد خندق عثمان على معسكره حذر البيات فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا
مستميتين واقصدوا الترك فخرجوا وخلّف النضر ابن أخيه سليمان في المدينة
وقال له: إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المهلّب دون عثمان وجعل
ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم وقصد طرخون
وأصحابه وصدقوهم القتال، فانهزم طرخون وأخذوا وحجزت الترك والصغد بينهم
وبين الحصن فقاتلهم فعقروا فرسه وأردفه مولى له فبصر به عثمان حين وثب
فعرفه فقصده وعقروا به الفرس وقتلوه، وقتل خلق كثير من العرب وتولى قتل
موسى واصل العنبريّ ونادى منادي عثمان بكفّ القتل وبالأسر وبعث النضر
بن سليمان إلى مدرك ابن المهلب فسلّم إليه مدينة ترمذ وسلّمها مدرك إلى
عثمان وكتب المفضل إلى الحجّاج بقتل موسى فلم يسرّه لأنه من قيس وكان
قتل موسى [1] سنة خمس وثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على ترمذ.
البيعة للوليد بالعهد
وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه
الوليد، وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول: لعلّ الموت يأتيه وتدفع العار
عن نفسك وجاءه روح بن زنباع [2] ليلة وكان عنده عظيما ففاوضه في ذلك
فقال: لو فعلته ما انتطح فيه عنزان.
فقال: نصلح إن شاء الله. وأقام روح عنده ودخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من
جنح
__________
[1] رحمه الله لو أبقي في حصنه ليكون سدا بينهم وبين طوائف الأمم
المجاورة له لكان خيرا لهم وللإسلام، فقد فجعوا الإسلام بقتله، كما
فجعوه بقتل قتيبة بن مسلم الباهلي. فاني أظن انه لم يأت في صدر الإسلام
عند قيام الدولة الأموية مثلهما. يعرف ذلك من نظر في وقائعهما
وحروبهما. «من خط الشيخ العطّار» .
[2] روح بن زنباع قالت فيه زوجته:
بكن الخز من روح وأنكر جلده ... وعجبت عجبا من جزام المطارف
وهذا البيت أورده السنوسي في شرح الكبرى، واختلفت نسخ الشراح والحواشي
فيه فمن قائل عون وآخر عوف والصحيح روح. وله ترجمة في كتاب الاغاني.
ولزوجته قائلة البيت قصة ظريفة رحمهما الله تعالى أهـ. من خط الشيخ
العطار» .
(3/72)
الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه
الخاتم والسكة فأخبره بموت عبد العزيز أخيه.
فقال روح: كفانا الله ما نريد ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد
الملك وولّاه عليها.
ويقال: إنّ الحجاج كتب إلى عبد الملك يزيّن له بيعة الوليد فكتب إلى
عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك، فكتب له أن تجعل
الأمر له من بيعة فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب
له عبد الملك أن يحمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير
المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا ولا ندري أينا يأتيه الموت فلا
تفسد عليّ بقية عمري فرقّ له عبد الملك وتركه. (ولما) بلغ الخبر بموت
عبد العزيز عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنه الوليد وسليمان، وكتب
بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي
فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا وأبى سعيد بن المسيّب فضربه ضربا مبرحا
وطاف به وحبسه. وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول: إنّ سعيدا ليس
عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف وقد كان ابن المسيّب امتنع من بيعة ابن
الزبير فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطا، وكتب
إليه ابن الزبير يلومه.
وقيل إنّ بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين والأوّل أصح. وقيل
قدم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصّاه عبد الملك
فقال: أبسط بشرك وألن كنفك وآثر الرّفق في الأمور فهو أبلغ لك، وانظر
حاجبك وليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك. ولا يقفنّ أحد ببابك إلا
أعلمك مكانه لتكون أنت الّذي تأذن له أو تردّه، فإذا خرجت إلى مجلسك
فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى
إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنّها تفتح مغاليق الأمور المبهمة
واعلم أنّ لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة وإذا سخطت
على أحد فأخّر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على
ردّها بعد إصابتها.
وفاة عبد الملك وبيعة الوليد
ثم توفي عبد الملك منتصف شوال سنة ست وثمانين وأوصى إلى بنيه فقال:
أوصيكم بتقوى الله فإنّها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على
الصغير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الّذي عنه تفترّون،
ولحيكم الّذي عنه ترمون وأكرموا الحجّاج فإنه الّذي وطّأ لكم المنابر،
ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم مغنى الأعداء. وكونوا بني أم بررة لا تدب
بينكم العقارب. وكونوا في الحرب أحرارا فإنّ القتال لا يقرّب منيّة
وكونوا
(3/73)
للمعروف منارا فإنّ المعروف يبقى أجره
وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له، واشكر [1]
لما يؤتي إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا،
وإن عادوا فانتقموا. (ولما دفن عبد الملك) قال الوليد: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 والله المستعان على مصيبتنا بموت
أمير المؤمنين والحمد للَّه على ما أنعم علينا من الخلافة. فكان أوّل
من عزّى نفسه وهنأها. ثم قام عبد الله بن همّام السامولي وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها
وبايعه ثم بايعه الناس بعده وقيل إنّ الوليد صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدّم لما أخّره الله ولا مؤخر لما
قدّمه الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه
وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ووليّ هذه الأمّة بالذي
يحق للَّه عليه في الشدّة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة
ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه من حج البيت وغزو الثغور وشن
الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا. أيها الناس عليكم
بالطاعة ولزوم الجماعة فإنّ الشيطان مع المنفرد. أيها الناس من أبدى
لنا ذات نفسه ضربنا الّذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه ثم نزل.
ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وأخباره
قدم قتيبة [2] خراسان أميرا عن الحجّاج سنة ستة وثمانين فعرض الجند
وحثّ على الجهاد وسار غازيا وجعل على الحرب بمرو [3] إياس بن عبد الله
بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي وتلقاه دهاقين البلخ والطالقان
وساروا معه. ولما عبر النهر تلقّاه ملك الصغانيان بهداياه. وكان ملك
أخرون وشومان يسيء جواره فدعاه إلى بلاده وسلّمها إليه. وسار قتيبة إلى
أخرون وشومان وهو من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أدّاها إليه.
وقبضها ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح
بعد
__________
[1] لعلها واشكروا حسب مقتضى السياق لأنه يخاطب أولاده.
[2] هذا فحل الدولة الأموية كما ان الحجاج فرعونها، كتبه الشيخ العطار.
[3] مرو احدى قواعد إقليم خراسان الأربع وهي مرو وهراة وبلخ ونيسابور
كتبه الشيخ العطار أيضا.
(3/74)
رجوع قتيبة كاشان وأورشت من فرغانة، ثم
أخسيكت مدينة فرغانة القديمة، وكان معه ابن يسّار وأبلى في هذه الغزاة.
وقيل إنّ قتيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين وكان من ذلك السبي امرأة
برمك. وكان برمك على النوبهار، فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع
عليها وعلقت منه بخالد، ثم صالح أهل بلخ وأمر قتيبة بردّ السبي، فألحق
عبد الله به حملها. ثم ردّت إلى برمك. وذكر أنّ ولد عبد الله بن مسلم
ادّعوه ورفعوا أمرهم إلى المهدي وهو بالري، فقال لهم بعض قرابتهم إنكم
إن استلحقتموه لا بدّ لكم أن تزوّجوه، فتركوه ولما صالح قتيبة ملك
شومان [1] كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين
هدّدهم فبعث بهم إليه. ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان فخشي وتثاقل، ثم
قدم وصالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة ثم غزا بيكنداد في مدائن
بخارى إلى النهر سنة سبع وثمانين. فلما نزل بهم استجاشوا بالصغد وبمن
حولهم من الترك. وساروا إليه في جموع عظيمة، وأخذوا عليه الطرق.
فانقطعت الأخبار والرسل ما بينه وبين المسلمين شهرين، ثم هزمهم بعض
الأيام وأثخن فيهم بالقتل والأسر وجاء إلى السور ليهدمه، فسألوا الصلح
فصالحهم واستعمل عليهم وسار عنهم غير بعيد. فقتلوا العامل ومن معه فرجع
إليهم وهدم سورهم وقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة وغنم من السلاح وآنية
الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله. ثم غزا سنة ثمان وثمانين بلد نومكثت
فصالحوه وسار إلى رامسة فصالحوه أيضا، فانصرف وزحف أيضا إليه الترك
والصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كوربعابور ابن أخت ملك الصين،
واعترضوا مقدمته وعليها أخوه عبد الرحمن فقاتلهم حتى جاء قتيبة وكان
ينزل معه، فأبلى مع المسلمين ثم انهزم الترك وجموعهم، ورجع قتيبة إلى
مرو. ثم أمره الحجّاج سنة تسع وثمانين وبخارى، وملكها وردان خذاه فعبر
النهر من زمّ ولقيه الصغد وأهل كشّ ونسف بالمفازة وقاتلوه فهزمهم ومضى
إلى بخارى فنزل عن يمين وردان ولم يظفر منه بشيء ورجع إلى مرو.
عمارة المسجد
كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين
لأربع سنين من ولايته، وولّى عليها عمر بن عبد العزيز فقدمها ونزل دار
مروان ودعا عشرة من فقهاء المدينة
__________
[1] وفي نسخة ثانية سومرن.
(3/75)
فيهم الفقهاء السبعة المعروفون، فجعلهم أهل
مشورته لا يقطع أمرا دونهم وأمرهم أن يبلغوه الحاجات والظلامات فشكروه
وجزوه خيرا. ودعا له الناس ثم كتب إليه سنة ثمان [1] أن يدخل حجر
أمّهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع
في مثلها، وقدّم القبلة ومن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل وادفع
إليه الثمن وأهدم عليه الملك، ولك في عمر وعثمان إسوة. فأعطاه أهل
الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء
المسجد فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ومائة من الفعلة
وأربعين حملا من الفسيفساء [2] وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز
واستكثر معهم من فعله الشام وشرع عمر في عمارته أهـ وولّى الوليد في
سنة تسع وثمانين على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ.
فتح السند
كان الحجّاج قد ولّى على ثغر السند ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن
الحكم بن أبي عقيل، وجهّز معه ستة آلاف مقاتل ونزل مكران، فأقام بها
أياما ثم أتى فيريوز ففتحها ثم أرمايل ثم سار إلى الدبيل وكان به بدّ
[3] عظيم في وسط المدينة على رأسه دقل عظيم وعليه راية فإذا هبت الريح
دارت فأطافت بالمدينة والبد صنم مركوز في بناء والدقل منارة عليه وكل
ما يعبد فهو عندهم بدّ. فحاصر الدبيل ورماهم بالمنجنيق فكسر الدقل
فتطيّروا بذلك ثم خرجوا إليه فهزمهم وتسنّم الناس الأسوار ففتحت عنوة
وأنزل فيها أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى النيروز.
وقد كانوا بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه فلقوا محمدا بالميرة وأدخلوه
مدينتهم وسار عنها وجعل لا يمرّ بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى
بلغ نهر مهران، واستعد ملك السند لمحاربته واسمه داهر بن صصّة ثم عقد
الجسر على النهر وعبر فقاتله داهر وهو على الفيل وحوله الفيلة. ثم
اشتدّ القتال وترجّل داهر فقاتل حتى قتل وانهزم الكفّار واستلحمهم
المسلمون ولحقت امرأة داهر بمدينة راور فساروا إليها وخافته، فأحرقت
نفسها وجواريها. وملك المدينة ولحق الفلّ بمدينة بدهمتاباد العتيقة على
فرسخين من مكان المنصورة وهي يومئذ غيضة، ففتحها عنوة واستلحم من وجد
بها
__________
[1] اي سنة ثمان وثمانين.
[2] قوله الفسيفساء حي أحجار صغيرة ملونة انتهى. من خط الشيخ العطار.
[3] بد: صنم كبير.
(3/76)
وخرّبها. ثم استولى على مدائن السند واحدة
واحدة وقطع نهر ساسل إلى الملقاد فحاصرها وقطع الماء فنزلوا على حكمه،
فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقتل سدنة البلد وهم ستة آلاف وأصابوا في
البلد ذهبا كثيرا في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية كانت الأموال
تهدى إليه من البلدان ويحجون إليه ويحلقون شعرهم عنده ويزعمون أنه هو
أيوب فاستكمل فتح السند وبعث من الخمس بمائة وعشرين ألف ألف وكانت
النفقة نصفها.
فتح الطالقان وسمرقند وغزو كش ونسف والشاش
وفرغانة وصلح خوارزم
قد تقدّم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع وثمانين، وانصرف عنها ولم يظفر.
وبعث إليه الحجّاج سنة تسعين يوبخه على الانصراف عنها ويأمره بالعود
فسار إليها ومعه نيزك طرخان صاحب باذغيس، وحاصرها واستجاش ملكها وردان
أخذاه [1] بمن حوله من الصغد والترك. فلما جاء مددهم خرجوا إلى
المسلمين وكانت الأزد في المقدّمة فانهزموا حتى جازوا عسكر المسلمين ثم
رجعوا وزحفت العساكر حتى ردّوا الترك إلى موقفهم. ثم زحف بنو تميم
وقاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم وأزالوهم عنها وكان بين المسلمين
وبينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم، فلما زالوا عن
مواقفهم عبر الناس واتبعوهم وأثخنوا فيهم بالقتل، وخرج خاقان وابنه
وفتح الله على المسلمين وكتب بذلك إلى الحجّاج ولما استوت الهزيمة جاء
طرخون ملك الصغد ومعه فارسان ودنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية
يؤدّيها فأجابه قتيبة وعقد له ورجع قتيبة ومعه نيزك وقد خافه لما رأى
من الفتوح، فاستأذنه في الرجوع وهو بآمد، فرجع يريد طخارستان وأسرع
السير وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسه وتبعه المغيرة
فلم يدركه وأظهر نيزك الخلع ودعا لذلك الأصبهند [2] ملك بلخ. وباذان
ملك مروالروذ وملك الطالقان وملك القاربات وملك الجوزجان فأجابوه،
وتوعدوا [3] لغزو قتيبة. وكتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه
بأثقاله وأمواله واستأذنه في الإتيان إن اضطر إلى ذلك. وكان جيفونة ملك
__________
[1] ورد اسمه سابقا وردان خذاه.
[2] هو الأصبهبذ كما مرّ اسمه في مكان سابق.
[3] لعلها تواعدوا حسب مقتضى السياق اي اتفقوا على موعد، اما التوعد اي
التهديد فلا معنى لها هنا.
(3/77)
طخارستان نيزك ينزل عنده، فاستضعفه وقبض
عليه وقيّده خشية من خلافه وأخرج عامل قتيبة من بلده. وبلغ قتيبة
وخبرهم قبل الشتاء وقد تفرّق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في
اثني عشر ألف إلى البروقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى
الشتاء تقدّم إلى طخارستان وأنا قريب منك. ولما انصرم الشتاء استقدم
قتيبة الجنود من نيسابور وغيرها فقدموا، فسار نحو الطالقان وكان ملكها
قد دخل معهم في الخلع ففتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وصلب منهم
سماطين أربعة فراسخ في مثلها، واستخلف عليها أخاه محمد بن مسلم، وسار
إلى القاربات فخرج إليه ملكها مطيعا واستعمل عليها وسار إلى الجوزجان
فلقيه أهلها بالطاعة، وهرب ملكها إلى الجبال واستعمل عليها عامر بن ملك
الحماس. ثم أتى بلخ وتلقاه أهلها بالطاعة وسار يتبع أخاه عبد الرحمن
إلى شعب حمله، ومضى نيزك إلى بغلان وخلف المقاتلة على فم الشعب ولا
يهتدي إلى مدخل، ومضايقوه يمنعونه. ووضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب،
وأقام قتيبة أياما يقاتلهم على فم الشعب ولا يهتدى إلى مدخل، حتى دلّه
عليه بعض العجم هنالك على طريق سرّب منه الرجال إلى القلعة فقتلوهم،
وهرب من بقي منهم ومضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن
وارتحل نيزك إلى وادي فرغانة، وبعث أثقاله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى
إلى السكون فتحصّن به ولم يكن له إلا مسلك واحد صعب على الدواب فحاصره
قتيبة شهرين حتى جهدوا وأصابهم جهد الجدري وقرب فصل الشتاء فدعا قتيبة
بعض خواصه ممن كان يصادق نيزك فقال:
انطلق إليه وأثن عليه بغير أمان وإن أعياك فأمنه وإن جئت دونه صلبتك.
فمضى الرجل وأشار عليه بلقائه وأنه عازم على أن يشق هنالك، فقال: أخشاه
فقال له:
لا يخلّصك إلا إتيانك، تنصّح له بذلك وبأنه يخشى عليه من غدر أصحابه
الذين معه. ولم يزل يفتل له [1] في الذروة والغارب، وهو يمتنع حتى قال
له: إنه قد أمّنك. فأشار عليه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقة وخرج معه
نيزك ومعهم جيفونة ملك طخارستان الّذي كان قيّده حتى انتهوا إلى الشعب
وهناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل
نيزك فوافاه كتابه لأربعين يوما بقتله فقتله وقتل معه صول طرخان خليفة
جيفونة وابن أخي نيزك ومن أصحابه
__________
[1] «قوله يفتل له ... هو مثل من أمثال العرب يضرب في الخداع والمماكرة
أهـ. من الميداني» .
(3/78)
سبعمائة وصلبهم وبعث برأسه إلى الحجاج
وأطلق جيفونة وبعث به إلى الوليد ثم رجع إلى مرو. وأرسل إليه ملك
الجوزجان يستأمنه فأمّنه على أن يأتيه فطلب الرهن فأعطاه. وقدم ثم رجع
فمات بالطالقان وذلك سنة إحدى وتسعين. ثم سار إلى شومان فحاصرها، وقد
كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة
أن يؤدّي ما كان صالح عليه، فقتل الرسول، فسار إليه قتيبة وبعث له صالح
أخو قتيبة وكان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى، فحاصره قتيبة ونصب
عليه المجانيق فهدم الحصن وجمع الملك ما في الحصن من مال وجوهر ورمى به
في بئر لا يدرك قعره، ثم استمات وخرج فقاتل حتى قتل وأخذ قتيبة القلعة
عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرّية ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصغد
وملكهم طرخون فأعطى ما كان صالح عليه قتيبة. وسار قتيبة إلى كشّ ونسف
فصالحوه. ورجع ولقي أخاه ببخارى وساروا إلى مرو. (ولما رجع) عن الصغد،
حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية وولّوا عليهم غورك فقتل طرخون
نفسه ثم غزا في سنة اثنتين وتسعين إلى سجستان يريد رتبيل فصالحه
وانصرف. وكان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خرزاد على أمره وكان أصغر منه
وعاث في الرعية وأخذ أموالهم وأهليهم فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه
ليسلّمها إليه على أن يمكنه من أخيه ومن عصاه من دونهم، فأجابه قتيبة
ولم يطلع الملك أحدا من مرازبته على ذلك وتجهز قتيبة سنة ثلاث وتسعين
وأظهر غزو الصغد، فأقبل أهل خوارزم على شأنهم ولم يحتفلوا بغزوه، وإذا
به قد نزل هزارسب قريبا منهم، وجاء أصحاب خوارزم شاه إليه فدعوه للقتال
فقال: ليس لنا به طاقة ولكن نصالحه على شيء نعطيه كما فعل غيرنا،
فوافقوه. وسار إلى مدينة الفيد من وراء النهر، وهذا حصن بلاده وصالحه
بعشرة آلاف رأس وعين ومتاع وأن يعينه على خام جرد وقيل على مائة ألف
رأس [1] . وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وهو عدو لخوارزم شاه
فقاتله وقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وأسر منهم أربعة آلاف فقتلهم
وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه من أمرائه فقتلهم،
ودفع أموالهم إلى قتيبة. ولما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المحشر بن
مخازم
__________
[1] قوله على مائة ألف رأس لعله ممن يأخذ منهم خراجا، والا فمن العبيد
استرقاق هذا العدد وأخذه منهم.
وماذا يصنعون بهذا العدد وأي طعام يكفيهم كل يوم. من خط الشيخ العطار.
(3/79)
السلميّ بغزو الصغد وهم آمنون على مسافة
عشرة أيام. فقال أكتم ذلك فقدّم أخاه في الفرسان والرماة، وبعثوا
بالأثقال إلى مرو، وخطب قتيبة الناس وحثّهم على الصغد وذكّرهم الضغائن
فيهم. ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه، فحاصرهم بسمرقند شهرا
واستجاشوا ملك الشاش وأخشاد [1] خاقان وفرغانة فانتخبوا أهل النجدة من
أبناء الملوك والمرازبة والأساورة وولّوا عليهم ابن خاقان وجاءوا إلى
المسلمين، فانتخب قتيبة من عسكره ستمائة فارس، وبعث بهم أخاه صالحا
لاعتراضهم. في طريقهم، فلقوهم بالليل وقاتلوهم أشدّ قتال، فهزموهم
وقتلوهم وقتلوا ابن خاقان ولم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم،
ونصب قتيبة المجانيق فرماهم بها وثلم السور واشتدّ في قتالهم، وحمل
الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة. ثم صالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف
مثقال، في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، وأن يمكّنوه من
بناء مسجد بالمدينة ويخلوها حتى يدخل فيصلّي فيه.
فلما فعل ذلك ودخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها وقيل إنه شرط
عليهم الأصنام وما في بيوت النار فأعطوه فأخذ الحلية وأحرق الأصنام
وجمع من بقايا مساميرها وكانت ذهبا خمسين ألف مثقال. وبعث بجارية من
سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجّاج، فأرسلها الحجّاج إلى الوليد وولدت له
يزيد. ثم قال فورك لقتيبة انتقل عنّا فانتقل وبعث إلى الحجاج بالفتح.
ثم رجع إلى مرو واستعمل على سمرقند إياس ابن عبد الله على حربها، وعبيد
الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم على خراجها، فاستضعف أهل خوارزم إياسا
وجمعوا له فبعث قتيبة عبد الله عاملا على سمرقند وأمره أن يضرب إياسا
وحبايا السطي مائة مائة ويخلعهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم مع
المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك وخشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم
ففرّ إلى بلاد الترك. وجاء المغيرة فقتل وسبى وصالحه الباقون على
الجزية، ورجع إلى قتيبة فولّاه على نيسابور ثم غزا قتيبة سنة أربع
وتسعين إلى ما وراء النهر وفرض البعث على أهل بخارى وكشّ ونسف وخوارزم،
فسار منهم عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش وسار هو إلى خجندة فجمعوا
له واقتتلوا مرارا كان الظفر فيها للمسلمين. وفتح الجند الذين ساروا
إلى الشاش مدينة الشاش وأحرقوها ورجعوا إلى قتيبة وهو على كشان
__________
[1] قوله واخشاد لعله اخشيد فرغانة لأن ملك فرغانة يقال له الإخشيد من
خط الشيخ العطار.
(3/80)
مدينة فرغانة وانصرف إلى مرو ثم بعث
الحجّاج إليه جيشا من العراق وأمره بغزو الشاش فسار لذلك وبلغه موت
الحجّاج فرجعوا إلى مرو.
خبر يزيد بن المهلب واخوته
كان الحجاج قد حبس يزيد وإخوته سنة ست وثمانين وعزل حبيب بن المهلب عن
كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين. وبلغه أنّ الأكراد غلبوا على
فارس فعسكر قريبا من البصرة للبعث وأخرج معه بني المهلب وجعلهم في
فسطاط قريبا منه ورتّب عليهم الحرس من أهل الشام. ثم طلب منهم ستة آلاف
ألف، وأمر بعذابهم وبكت أختهم هند بنت المهلب زوجة الحجاج فطلقها. ثم
كفّ عنهم وجعل يستأدبهم وبعثوا إلى أخيهم مروان وكان على البصرة أن
يعدّ لهم خيلا وكان حبيب منهم يعذب بالبصرة فصنع يزيد للحرس طعاما
كثيرا وأمر لهم بشراب فأقاموا يتعاقرون واستغفلهم يزيد والمفضل وعبد
الملك وخرجوا ولم يفطنوا لهم. ورفع الحرس خبرهم إلى الحجّاج فخشيهم على
خراسان وبعث البريد إلى قتيبة يخبرهم ليحذرهم، وكان يزيد قد ركب السفن
إلى البطائح واستقبلته الخيل المعدّة له هناك، وساروا إلى الشام على
السماوة ومعهم دليل من كلب ونمى خبرهم إلى الحجّاج فبعث إلى الوليد
بذلك.
وقدموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما
على سليمان فأخبره بحالهم وأنهم استجاروا به من الحجاج، فقال: ائتني
بهم فقد أجرتهم.
وكتب الحجّاج إلى الوليد أنّ بني المهلب خانوا مال الله وهربوا مني
فلحقوا بسليمان.
فسكن ما به لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجّاج وكان غضبا
للمال الّذي ذهبوا به فكتب سليمان إلى الوليد أنّ يزيد عندي وقد
أمّنته، وكان الحجّاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدّ نصفها وأنا أؤدّي النصف.
فكتب الوليد لا أؤمنه حتى تبعث به، فكتب سليمان لأجيئنّ معه، فكتب
الوليد إذن لا أؤمنه. فقال يزيد لسليمان: لا يتشاءم الناس بي لكما
فاكتب معي وتلطف ما أطقت، فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب وكان الوليد أمر
أن يبعث مقيدا. فقال سليمان لابنه: أدخل على عمك أنت ويزيد في سلسلة.
فقال: الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان. ثم دفع أيوب كتاب أبيع
بالشفاعة وضمان المال عن يزيد فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمّة أبيه
وجواره، وتكلم يزيد واعتذر فأمّنه الوليد ورجع إلى سليمان وكتب الوليد
إلى الحجاج
(3/81)
بالكفّ عنهم فكف عن حبيب وأبي عبسة وكانا
عنده وأقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة.
ولاية خالد القسري على مكة وإخراج سعيد بن
جبير عنها ومقتله
ولما كان في سنة ثلاث وتسعين كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد يقص
عليه أفعال الحجّاج بالعراق وما هم فيه من ظلمه وعدوانه، فبلغ بذلك
الحجّاج فكتب إلى الوليد: إنّ كثيرا من المرّاق وأهل الشقاق قد انجلوا
عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر وأصابه من ذلك وهن. فولّى
الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسري [1] وعثمان بن حيّان بإشارة
الحجّاج، وعزل عمر عن الحجاز وذلك في شعبان من السنة. ولما قدم خالد
مكة أخرج من كان بها من أهل العراق كرها وتهدّد من أنزل عراقيا أو أجره
دارا وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خلف
الحجّاج فيأمن. وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجّاج وكان قد جعله
على عطاء الجند الذين وجههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل
فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع فكان معه إلى أن هزم وسار إلى
بلاد رتبيل. فلحق سعيد بأصبهان، وكتب الحجاج فيه إلى عاملها فتحرّج من
ذلك ودسّ إلى سعيد فسار إلى أذربيجان. ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة
فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجاج يستخفون بأسمائهم. فلما قدم
خالد بن عبد الله مكّة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ
سعيد بن جبير ومجاهدا وطلق بن حبيب، وبعث بهم إلى الحجّاج فمات طلق في
الطريق وجيء بالآخرين إلى الكوفة وأدخلا على الحجاج. فلما رأى سعيدا
شتم خالدا القسري على إرساله وقال: لقد كنت أعرف أنه بمكّة وأعرف البيت
الّذي كان فيه، ثم أقبل على سعيد وقال: ألم أشركك في أمانتي؟ ألم
أستعملك؟ ثم تفعل بعدد أياديه عنده. فقال: بلى! قال:
فما أخرجك على قتالي؟ أنا امرؤ من المسلمين أخطئ مرّة وأصيب أخرى. ثم
استمرّ في محاورته فقال: إنما كانت بيعة في عنقي فغضب الحجاج وقال: ألم
آخذ بيعتك لعبد الملك بمكّة بعد مقتل ابن الزبير؟ ثم جددت له البيعة
بالكوفة فأخذت بيعتك
__________
[1] خالد هذا من جبابرة أمراء الدولة المروانية على شاكلة الحجاج أهـ.
من خط الشيخ العطار.
(3/82)
ثانيا؟ قال: بلى! قال: فنكثت بيعتين لأمير
المؤمنين، وتوفي بواحدة للفاعل بن الفاعل، والله لأقتلنك. فقال: إني
لسعيد كما سمتني أمي فضربت عنقه فهلل رأسه ثلاثا أفصح منها بمرّة.
ويقال: إن عقل الحجاج التبس يومئذ وجعل يقول: قيودنا قيودنا فظنّوها
قيود سعيد بن جبير، فأخذوها من رجليه وقطعوا عليها ساقيه، وكان إذا نام
يرى سعيد بن جبير في منامه آخذا بمجامع ثوبه يقول: يا عدوّ الله فيم
قتلتني؟ فينتبه مرعوبا يقول: ما لي ولسعيد بن جبير.
وفاة الحجاج
وتوفي الحجاج في شوّال خمس وتسعين لعشرين سنة من ولايته العراق، ولما
حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله وعلى حرب الكوفة والبصرة
يزيد بن أبي كبشة وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهم الوليد بعد
وفاته. وكتب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان قد عرف أمير المؤمنين بلاءك
وجهدك وجهادك أعداء المسلمين وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الّذي تحب،
فأتمم مغازيك وانتظر ثواب ربّك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى
كأني انظر إلى بلادك والثغر الّذي أنت فيه ولم يغير الوليد أحدا من
عمّال الحجاج.
أخبار محمد بن القاسم بالسند
كان محمد بن القاسم بالملتان وأتاه خبر وفاة الحجاج هنالك فرجع إلى
الدور والثغور [1] وكان قد فتحها. ثم جهّزه الناس إلى السلماس مع حبيب
فأعطوا الطاعة وسالمه أهل شرست [2] وهي مغزى أهل البصرة وأهلها يقطعون
في البحر. ثم سار في العسكر إلى [3] فخرج إليه دوهر فقاتله محمد وهزمه
وقتله. ونزل أهل المدينة على حكمه فقتل وسبى ولم يزل عاملا على السند
إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك فعزله وولّى يزيد بن أبي كبشة السكسكيّ
على السند مكانه فقيّده يزيد وبعث به إلى العراق فحبسه صالح بن عبد
الرحمن بواسط وعذبه في رجال من قرابة الحجّاج على
__________
[1] وفي الكامل ج 4 ص 588: فرجع إلى الدور والبغرور وكان قد فتحها، وفي
بعض النسخ الثغور والثغرور.
[2] وفي الكامل لابن الأثير: سرشت.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 588: ثم إلى محمد الكيرج
فخرج اليه دوهر.
(3/83)
قتلهم. وكان الحجاج قتل أخاه آدم على رأي
الخوارج ومات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه. فولى سليمان
على السند حبيب بن المهلّب فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع
حبشة بن داهر إلى برهماباذ [1] فنزل حبيب على شاطئ مهران وأعطاه أهل
الروم الطاعة، وحارب فظفر، ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز
إلى الإسلام على أن يملكهم وهم أسوة المسلمين فيما لهم وعليهم، فأسلم
حبشة والملوك وتسمّوا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهليّ عامل
عمر على ذلك الثغر فغزا بعض الهند وظفر. ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن
على السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شط مهران، ومنعه حبشة بن داهر
العبور وقال: إني قد أعملت وولّاني الرجل الصالح ولست آمنك فأعطاه
الرهن ثم ردّها حبشة وكفر وحارب فحاربه الجنيد في السفن وأسره ثم قتله.
وهرب صصّة بن داهر إلى العراق شاكيا لغدر الجنيد فلم يزل يؤنسه حتى
جاءه فقتله. ثم غزا الجنيد الكيرج من آخر الهند وكانوا نقضوا فاتخذ
كباشا [2] زاحفة ثم صك بها سور المدينة فثلمها ودخل فقتل وسبى وغنم،
وبعث العمّال إلى المرمد والمعدل [3] ودهنج [4] وبعث جيشا إلى أرين
فأغاروا عليها وأحرقوا ربضها وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل
مثلها. وولّى تميم بن زيد الضبيّ [5] فضعف ووهن ومات قريبا من الدّيبل.
وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند وتركوا مراكزهم. ثم ولي الحكم بن
سوّام [6] الكلبي وقد كفر أهل الهند الا أهل قصّة، فبنى مدينة سمّاها
المحفوظة وجعلها مأوى المسلمين، وكان معه عمر بن محمد بن القاسم وكان
يفوّض إليه عظائم الأمور وأغزاه عن المحفوظة. فلما قدم وقد ظهر أمره
فبنى مدينة وسماها المنصورة وهي التي كانت أمراء السند ينزلونها
واستخلص ما كان غلب عليه العدوّ، ورضي الناس بولايته. ثم قتل الحكم
وضعفت الدولة الأموية عن الهند وتأتي أخبار السند في دولة المأمون.
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير: ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ.
[2] ليس المراد بالكباش هاهنا الغنم، وانما هي آلة من خشب وحديد
يجرونها بنوع من الخيل فتدق الحائط فينهدم. وقد بطلت هذه الآلة
كالمنجنيق لما حدثت الآلات النارية من المدافع وغيرها، كبطلان النبال
فليس الآن من الآلات القديمة الا السيف والرماح قليلة أهـ. من خط الشيخ
العطار.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590.
[4] وفي نسخة اخرى: وهج.
[5] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 590: تميم بن زبيد القينيّ.
[6] وفي الكامل لابن الأثير: الحكم بن عوّام الكلبي.
(3/84)
فتح مدينة كاشغر
أجمع قتيبة لغزو مدينة كاشغر سنة ست وتسعين وهي أدنى مدائن الصين فسار
لذلك وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعها بسمرقند وعبر النهر، وجعل على
المجاز مسلحة [1] يمنعون الراجع من العسكر إلا بإذنه! وبعث مقدمه إلى
كاشغر فغنموا وسبوا وختم أعناق السبي. وأوغل حتى قارب الصين فكتب إليه
ملك الصين يستدعي من أشراف العرب من يخبره عنهم وعن دينهم فانتخب قتيبة
عشرة من العرب كان منهم هبيرة بن شمرج الكتابيّ. وامر لهم بعدة حسنة
ومتاع من الخزّ والوشي وخيول أربعة وقال لهم: أعلموه أني حالف أني لا
أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم. ولما قدموا على ملك
الصين دعاهم في اليوم الأوّل فدخلوا وعليهم الغلائل والأردية، وقد
تطيبوا ولبسوا النعال. فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن حضره، وقالوا بعد
انصرافهم هؤلاء نسوان. فلبسوا الوشي والمطارف وعمائم الخز وغدوا عليه
فلم يكلموهم وقالوا هذه أقرب إلى هيئة الرجال ثم دعاهم الثالثة فلبسوا
سلاحهم وعلى رءوسهم البيضات والمغافر وتوشحوا السيوف واعتقلوا الرماح
ونكبوا القسيّ فهالهم منظرهم ثم انصرفوا وركبوا فتطاردوا فعجب القوم
منهم. ثم دعا زعيمهم هبيرة بن شمرج فسأله لم خالفوا في زيّهم فقال:
أمّا الأوّل فإنّا نساء في أهلنا وأما الثاني فزيّنا عند أمرائنا، وأما
الثالث فزينا لعدوّنا. فاستحسن ذلك، ثم قال له: قد رأيتم عظم ملكي وأنه
ليس أحد يمنعكم مني، وقد عرفت قلّتكم فقولوا لصاحبكم ينصرف وإلّا بعثت
من يهلككم. فقال هبيرة كيف نكون في قلة وأول خيلنا في بلادك وآخرها في
منابت الزيتون. وأما القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه، ولنا آجال إذا حضرت
فلن نتعدّاها وقد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم
ويأخذ جزيتكم قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث له بتراب من أرضنا
فيطؤه، ويقبض أبناءنا فيختمهم وبهدية ترضيه، ثم أجازهم فأحسن. وقدموا
على قتيبة فقبل الجزية ووطئ التراب وختم الغلمان وردّهم ثم انصرف من
غداته. وأوفد هبيرة إلى الوليد، وبلغه وهو في الفرات موت الوليد.
__________
[1] المسلمة: جماعة من العسكر يقفون في الطريق للحاجة اليهم أهـ. من خط
الشيخ العطار.
(3/85)
وفاة الوليد وبيعة
سليمان
ثم توفي الوليد في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست وتسعين وصلى عليه عمر
بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة: مسجد
المدينة، ومسجد القدس ومسجد دمشق. ولما أراد بناء مسجد دمشق كانت في
موضعه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال:
نردّ عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنّها خارج المدينة مما فتح عنوة
ونبنيها مسجدا فتركوا ذلك. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند، وكان
يتخذ الضياع وكان متواضعا يمرّ بالبقّال فيسأله بكم حزمة البقل؟ ويسعّر
عليه وكان يختم القرآن في ثلاث وفي رمضان في يومين وكان أراد أن يخلع
أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان فكتب إلى عمّاله
ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجّاج وقتيبة وبعض خواصه. واستقدم
سليمان ثم استبطأه فأجمع السير إليه ليخلعه فمات دون ذلك. ولما مات
بويع سليمان من يومه وهو بالرملة فعزل عثمان بن حيّان من المدينة آخر
رمضان، وولّى عليها أبا بكر ابن محمد بن عمر بن حزم، وعزل ولاة الحجاج
عن العراق فولّى يزيد بن المهلّب على المصرين وعزل عنهما يزيد بن أبي
مسلم. فبعث يزيد أخاه زيادا على عمان وأمر سليمان يزيد بن المهلب بنكبة
آل أبي العقيّل قوم الحجاج وبني أبيه وبسط أصناف العذاب عليهم، فولّى
على ذلك عبد الملك بن المهلّب.
مقتل قتيبة بن مسلم
ولما ولي سليمان خافه قتيبة لما قدّمناه من موافقته الوليد على خلعه
فخشي أن يولّي يزيد ابن المهلب خراسان فأجمع خلعه وكتب إليه لئن لم
تقرّني على ما كنت عليه وتؤمّني لأخلعنك ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا
فأمّنه وكتب له العهد على خراسان وبعث إليه رسوله بذلك، فبعث الرسول
وهو بحلوان أنه قد خلع وكان هو بعد بعثة الكتاب إلى سليمان قد اشتدّ
وجله وأشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة، فدعا الناس إلى الخلع وذكرهم
بوائقه وسوء ولاية من تقدّمه فلم يجبه أحد، فغضب وشتمهم وعدّد وقالبهم
قبيلة قبيلة وأثنى على نفسه بالأب والبلد والمعشر. فغضب الناس وكرهوا
خلع سليمان وأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه وعذل قتيبة أصحابه فيما كان
منه فقال: لما لم تجيبوني
(3/86)
غضبت فلم أدر ما قلت. وجاء الأزد إلى حضين
بن المنذر «بالضاد المعجمة» فقالوا:
كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر
كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا فعرف مغزاهم فقال: إنّ مضر
بخراسان كثير وتميم أكثرهم وهم شوكتها ولا يرضون بغيرهم فيصيبوا قتيبة
ولا أرى لها إلا وكيعا. وكان وكيع موثقا من قتيبة بعزله وولاية ضرار بن
حصين الضبيّ مكانه.
وقال حيّان النبطيّ مولى بن شيبان ليس لها غير وكيع، ومشى الناس بعضهم
إلى بعض سرّا وتولى كبر ذلك حيّان ونمي خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا
دخل عليه، وتنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيّان فلما دعاه تمارض، واجتمع
الناس إلى وكيع وبايعوه. فمن أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة
آلاف، ومن بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف
عليهم ابن زخر ومن الموالي سبعة آلاف عليهم حيّان النبطيّ وقيل من
الديلم، وسمي نبطيّا للكنته. وشرط على وكيع أن يحوّل له الجانب الشرقي
من نهر بلخ فقبل، وفشا الخبر وبلغ قتيبة فدسّ ضرار بن سيان الضبي [1]
إلى وكيع فبايعه، وجاء إلى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة إلى وكيع فاعتذر
بالمرض. فقال لصاحب شرطته: ائتني به وإن أبى ائتني برأسه فلما جاء إلى
وكيع ركب ونادى في الناس فأتوه أرسالا. واجتمع إلى قتيبة أهل بيته
وخواصه وثقاته وبنو عمه، وأمر فنودي في الناس قبيلة قبيلة، وأجابوه
بالجفوة. يقول: أين بنو فلان؟ فيقولون: حيث وضعتهم فنادى بأذكركم الله
والرحم، فقالوا: أنت قطعتها! فنادى لكم العتبى، فقالوا: إنّا لنا الله
إذا فدعا ببرذون ليركبه فمنعه ورمحه فعاد إلى سريره وجاء حيّان النبطي
في العجم، فأمره عبد الله أخو قتيبة أن يحمل على القوم، فاعتذر وقال
لابنه: إذا لقيتني حولت قلنسوتي فمل بالأعاجم إلى وكيع، ثم حوّلها وسار
بهم ورمى صالح أخو قتيبة بسهم فحمل إلى أخيه. ثم تهايج الناس وجاء إلى
عبد الرحمن أخي قتيبة الغوغاء ونحوهم فأحرقوا آريّا [2] فيه إبل قتيبة
ودوابه. ثم زحفوا به حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه وجرح جراحات كثيرة
ثم قطعوا رأسه وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد
الكريم ومسلم وابنه كثير، وقيل قتل عبد الكريم بقزوين، فكان عدّة من
قتل من أهله أحد عشر رجلا، ونجا أخوه عمر مع أخواله من تميم. ثم صعد
وكيع المنبر وأنشد الشعر في الثناء على نفسه وفعله والذم من قتيبة ووعد
بحسن السيرة وطلب رأس قتيبة وخاتمه من الأزد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 15: ضرار بن سنان الضبي.
[2] الآري: محبس الدابة أو حبل تشد به: جمعها اواري وأوار.
(3/87)
وهدّدهم عليه فجاءوا به فبعثه إلى سليمان.
ووفّى وكيع لحيّان النبطيّ بما ضمن له.
ولاية يزيد بن المهلب خراسان
كان يزيد بن المهلّب لما ولاه سليمان العراق على الحرب والصلاة والخراج
استكره أن يحيف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجاج
ويخرب العراق، وإن قصّر عن ذلك لم يقبل منه فرغب من سليمان أن يعفيه من
الخراج وأشار عليه بصالح ابن عبد الرحمن مولى تميم فولاه سليمان الخراج
وبعثه قبل يزيد فلما جاء صالح إلى يزيد ضيّق عليه صالح، وكان يزيد يطعم
على ألف خوان فاستكثرها صالح فقال:
اكتب ثمنها عليّ وغير ذلك وضجر يزيد وجاء خبر خراسان ومقتل قتيبة فطمع
يزيد في ولايتها ودسّ عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يولّيه خراسان
ولا يشعر بطلبته بذلك. وسيّره على البريد فقال له سليمان: إنّ يزيد
إليّ بذكر عملك بالعراق! فقال: نعم بها ولدت وبها نشأت. ثم استشاره
فيمن يوليه خراسان ولم يزل سليمان بذكر الناس وهو يردّهم، ثم حذّره من
وكيع وغدره قال: فسمّ أنت! قال شريطة الكمال الإجازة ممن أشير به، وإذا
علم يكره ذلك. ثم قال: هو يزيد بن المهلب فقال سليمان: العراق أحب
إليه، فقال ابن الأهتم: قد عملت ولكن نكرهه فيستخلف على العراق ويسير
إلى خراسان، فكتب عهد يزيد على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم فلما جاءه
بعث ابنه مخادا على خراسان ثم سار بعده واستخلف على واسط الجرّاح بن
عبد الله الحكميّ وعلى البصرة ابن عبد الله بن هلال الكلابي، وعلى
الكوفة حرملة بن عيد اللمغميّ. ثم عزله لأشهر بشير بن حيّان النهدي،
فكانت قيس تطلب بثأر قتيبة وتزعم أنه لم يخلع. فأوصى سليمان يزيد إن
أقامت قيس بيّنة أنه لم يخلع أن يقيد به من وكيع.
أخبار الصوائف [1] وحصار قسطنطينية
كانت الصوائف تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية وحدوث الفتن واشتدّت
الفتن أيام عبد الملك اجتمعت الروم واستجاشوا على أهل الشام فصالح عبد
الملك صاحب قسطنطينية على أن يؤدّي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية
منه على المسلمين ونظرا
__________
[1] الصوائف هي الجيوش التي كانت تجهز في أوان الصيف لسد الثغور وحرب
الكفار، استمر ذلك من صدر الإسلام إلى أواخر الدولة العباسية أهـ. من
خط الشيخ العطار.
(3/88)
لهم، وذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة
معاوية. ثم لما قتل مصعب وسكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحدى وسبعين في
الصائفة. فدخل فافتتح قيساريّة، ثم ولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه
محمد بن مروان سنة ثلاث وسبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم،
ودخل عثمان بن الوليد من ناحية أرمينية في أربعة آلاف ولقيه الروم في
ستين ألفا فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر. ثم غزا محمد بن مروان سنة
أربع وسبعين فبلغ أنبولية وغزا في السنة بعدها في الصائفة من طريق
مرعش، فدوّخ بلادهم وخرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من
ناحية مرعش ثانية، ثم غزاهم سنة ست وسبعين من ناحية ملطية ودخل في
الصائفة سنة سبع وسبعين الوليد ابن عبد الملك فأثخن فيهم ورجع وجاء
الروم سنة تسع وسبعين فأصابوا من أهل أنطاكية وظفروا بهم فبعث عبد
الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بالعسكر ففتح قاليقلا. ثم غزا
محمد بن مروان سنة اثنتين وثمانين أرمينية وهزمهم، فسألوه الصلح
فصالحهم وولّى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه وقتلوه فغزاهم سنة خمس
وثمانين وصاف فيها وشتى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ودوّخها،
ورجع وعاد إليها سنة سبع وثمانين. فأثخن فيهم بناحية المصيصة وفتح
حصونا كثيرة. منها حصن بولق والأحزم وبولس وقمقيم. وقتل من المستقربة
ألف مقاتل وسبى أهاليهم. ثم غزا بلاد الروم سنة تسع وثمانين مسلمة بن
عبد الملك والعبّاس بن الوليد، فافتتح مسلمة حصن سورية وافتتح العبّاس
أردولية، ولقي جمعا من الروم فهزمهم. وقيل إنّ مسلمة قصد عمّورية فلقي
بها جمعا من الروم فهزمهم. وافتتح هرقلة وقموليّة وغزا العبّاس الصائفة
من ناحية البلد بدون. وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع وثمانين
من ناحية أذربيجان ففتح حصونا ومدائن هناك. ثم غزا سنة تسعين ففتح
الحصون الخمس التي بسورية. وغزا العبّاس حتى بلغ أردنّ وسورية. وفي سنة
إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد
الملك وكان الوليد قد ولّى مسلمة على الجزيرة وأرمينية وعزل عمه محمد
بن مروان عنها، فغزا الترك من ناحية أذربيجان حتى الباب وفتح مدائن
وحصونا، ثم غزا سنة اثنتين وتسعين بعدها ففتح ثلاثة حصون وجلا أهل سر
سنّة إلى بلاد الروم ثم غزا العبّاس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد
الروم ففتح سبيطلة، وغزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة. وغزا مسلمة ففتح
ماشية وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وغزا
(3/89)
العبّاس بن الوليد سنة أربع وتسعين ففتح
انطاكية. وغزا عبد العزيز بن الوليد ففتح غزالة وبلغ الوليد بن هشام
المعيطيّ مروج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفي سنة خمس
وتسعين غزا العبّاس الروم ففتح هرقلة. وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة
أرض الرضاخيّة وفتح الحصن الّذي فتحه الرّصاع، وغزا عمر بن هبيرة أرض
الروم في البحر فشتّى بها، وبعث سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى
القسطنطينية وبعث ابنه داود على الصائفة ففتح حصن المراة، وفي سنة ثمان
وتسعين مات ملك الروم، فجاء القون إلى سليمان فأخبره وضمن له فتح
الروم، وسار سليمان إلى وابق وبعث الجيوش مع أخيه مسلمة، ولما دنا من
القسطنطينيّة أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدّين من الطعام ويلقوه
في معسكرهم فصار أمثال الجبال واتخذ البيوت من الخشب وأمر الناس
بالزراعة وصاف وشتّى وهم يأكلون من زراعتهم وطعامهم الّذي استاقوه
مدّخرا. ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار، وسألوا الصلح على الجزية
دينارا على الرأس، فلم يقبل مسلمة وبعث الروم إلى ألقون إن صرفت عنّا
المسلمين ملّكناك فقال لمسلمة: لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك
قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنك
تطاولهم، فأحرق الزرع فقوي الروم وغدر ألقون وأصبح محاربا، وأصاب الناس
الجوع فأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وسلمان مقيم بوابق
وحال الشتاء بينهم وبينه فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات وأغارت برجان على
مسلمة وهو في قلّة فهزمهم وفتح مدينتهم. وغزا في هذه السنة الوليد بن
هشام فأثخن في بلاد الروم. وغزا داود بن سليمان سنة ثمان وتسعين ففتح
حصن المراة مما يلي ملطية. وفي سنة تسع وتسعين بعث عمر بن عبد العزيز
مسلمة وهو بأرض الروم وأمدّه بالنفول بالمسلمين وبعث إليه بالخيل
والدواب، وحث الناس على معونتهم ثم أمر عمر بن عبد العزيز أهل طريدة
بالجلاء عنها إلى ملطية وخرّبها. وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها
المسلمين وفرض على أهل الجزيرة مسلحة تكون عندهم إلى فصل الشتاء، وكانت
متوغلة في أرض الروم فخرّبها عمر، وولّى على ملطية جعونة بن الحرث من
بني عامر بن صعصعة. وأغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن
هشام المعيطي وعمر ابن قيس الكندي.
(3/90)
فتح جرجان وطبرستان
كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنهما كانتا للكفار، وتوسطتا بين
فارس وخراسان ولم يصبهما الفتح. وكان يقول وهو في جوار سليمان بالشام
إذا قصّت عليه أخبار قتيبة وما يفعله بخراسان وما وراء النهر، ما فعلت
جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت يوسس ونيسابور وليست هذه الفتوح بشيء
والشأن في جرجان. فلما ولّاه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من
أهل العراق والشام وخراسان سوى الموالي والمتطوّعة، ولم تكن جرجان
يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخارم يقوم الرجل على باب منها فيمنعه
فابتدأ بقهستان فحاصرها وبها طائفة من الترك فكانوا يخرجون فيقاتلون
وينهزمون في كل يوم ويدخلون حصنهم ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه دهقان
يستأذن [1] يسأل في الصلح ويسلّم المدينة وما فيها فصالحه وأخذ ما فيها
من الأموال والكنوز والسبي ما لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألفا من الترك،
وكتب إلى سليمان بذلك. ثم سار إلى جرجان وكان سعيد بن العاصي قد صالحهم
على الجزية مائة ألف في السنة فكانوا أحيانا يجبون مائة وأحيانا مائتين
وأحيانا ثلاثمائة، وربما أعطوا ذلك وربما منعوا، ثم كفروا ولم يعطوا
خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا الطريق إلى خراسان على [2]
فكان الناس يسلكون على فارس وسلماس. ثم فتح قتيبة طريق قومس وبقي أمر
جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه. ولما فتح يزيد قهستان وجرجان طمع في
طبرستان فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكريّ على ساسان وقهستان، وخلف
معه أربعة آلاف فارس، وسار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان ونزل بآمد.
ونسا [3] راشد بن عمر في أربعة آلاف. ودخل بلاد طبرستان فسأل صاحبها
الأصبهبذ في الصلح، وأن يخرج من طبرستان فأبى يزيد ورجا أن يفتحها،
ووجه أخاه عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه، وإذا اجتمعا فعيينة
على الناس واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم والتقوا فانهزم
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «فأرسل صول، دهقان مهستان، الى
يزيد يطلب منه ان يصالحه ويؤمنه على نفسه واهله وماله ليدفع اليه
المدينة بما فيها، فصالحه ووفّى له» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: «ولم يأت جرجان بعد
سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلّا على
فارس» .
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 30: واستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو
(3/91)
المشركون، واتبعهم المسلمون إلى الشّعب
وصعد المشركون في الجبل فامتنعوا على المسلمين وصعد أبو عيينة بمن معه
خلفهم فهزمهم المشركون في الوعر فكفّوا وكاتب الأصبهبذ أهل جرجان
ومقدّمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادّة عن يزيد
والطريق بينه وبين جرجان ووعدهم بالمكافأة على ذلك فساروا بالمسلمين
وهم غارّون، وقتل عبد الله بن معمر وجميع من معه ولم ينج أحد وكتبوا
إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق، وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم
وهالهم، وفزع يزيد إلى حيّان النبطيّ وكان قد غرّمه مائتي ألف درهم
بسبب أنه كتب إلى ابنه مخلد كتابا فبدأ بنفسه. فقال له: لا يمنعك ما
كان مني إليك من نصيحة المسلمين، وقد علمت ما جاءنا من جرجان فاعمل في
الصلح. فأتى حيّان الأصبهبذ ومت إليه بنسب العجم وتنصّل له وفتل له في
الذروة والغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وقر [1]
زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على يد كل رجل منهم ترس
وطيلسان وجام من فضة وخرقة حرير وكسوة، فأرسل يزيد لقبض ذلك ورجع. أهـ.
(وقيل) في سبب مسير يزيد إلى جرجان أنّ صولا [2] التركي كان على قهستان
والبحيرة، جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان، وهما من جرجان مما
يلي خوارزم وكان يغير على فيروز بن فولفول مرزبان جرجان وأشار فيروز
بنصيب من بلاده، فسار فيروز إلى يزيد هاربا منه وأخذ صول جرجان وأشار
فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبذ ويرغبه في العطاء إن هو حبس صولا
بجرجان حتى يحاصر بها، ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته وخروجه عن جرجان
فيتمكن يزيد منه فكتب إلى الأصبهبذ وبعث بالكتاب إلى صول فخرج من حينه
إلى البحيرة وبلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان ومعه فيروز واستخلف على
خراسان ابنه مخلدا. وعلى سمرقند وكشّ ونسف وبخارى ابنه معاوية وعلى
طخارستان ابن قبيصة بن المهلّب، وأتى جرجان فلم يمنعه دونها أحد ودخلها
ثم سار منها إلى البحير وحصر صولا بها شهرا حتى سأل الصلح على نفسه
وماله وثلاثمائة ويسلّم إليه البحيرة فأجابه
__________
[1] الوقر: الحمل الثقيل. وأكثر ما يستعمل في حمل الحمار والبغل. اما
حمل الحمل فيسمى الوسق.
[2] قبوله صول هو اسم ملك من ملوك الترك وقول بعض العرب:
ما اقدر الله ان يدني على شحط من داره الحزن فمن داره صول أي داره دار
صول أهـ. من خط الشيخ العطار.
(3/92)
يزيد وخرج صول عن البحيرة وقتل يزيد من
الأتراك أربعة عشر ألفا وأمر إدريس بن حنظلة العمى أن يحصي ما في
البحيرة ليعطي الجند فلم يقدر. وكان فيها من الحنطة والشعير والأرزّ
والسمسم والعسل شيء كثير ومن الذهب والفضة كذلك ولما صالح يزيد أصبهبذ
طبرستان كما قدّمناه سار إلى جرجان وعاهد الله إن ظفر بهم ليطحننّ
القمح على سائل دمائهم ويأكل منه فحاصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه
فيقاتلونه ويرجعون وكانوا متمنعين [1] في الجبل والأوعار وقصد رجل من
عجم خراسان فأتبع [2] بخلا في الجبل وانتهى إلى معسكرهم وعرف الطريق
إليه ودلّ الأدلّة على معالمه، وأتى يزيد فأخبره فانتخب ثلاثمائة رجل
مع ابنه خالد وضم إليه جهم بن ذخر وبعثه وذلك الرجل يدل به، وواعده أن
يناهضهم العصر من الغداة ولما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب
عنده حتى اضطرمت النيران ونظر العدوّ إلى النار فهالهم وحاموا للقتال
آمنين خلفهم فناشبهم يزيد إلى العصر وإذا بالتكبير من ورائهم فهربوا
إلى حصنهم وأتبعهم المسلمون فأعطوا ما بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد
فقتل المقاتلة وسبى الذرّية وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى وادي جرجان،
ومكّن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم وجرى الماء على الدم وعليه الأرحاء
فطحن وخبز وأكل وقتل منهم أربعين ألفا وبنى مدينة جرجان ولم تكن بنيت
قبل ورجع إلى خراسان وولّى على جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ ولما قتل
مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره.
وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز
ثم توفى سليمان بدابق من أرض قنّسرين من سنة تسعة وتسعين في صفر منها،
وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود، ثم استصغره وقال له كاتبه
رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بقسطنطينية ولا يعرف حياته من موته فعدل
إلى عمر بن عبد العزيز وقال له: إني والله لأعلم أنها تكون فتنة ولا
يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده، وكان عبد الملك قد جعل
ذلك له وكتب بعد البسملة هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين
لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليتك الخلافة من بعدي
__________
[1] الأصح ان يقول ممتنعين.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 34: فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من
عجم خراسان يتصير، وقيل رجل من طيِّئ فأبصر وعلا في الجبل فتبعه.
(3/93)
ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له
وأطيعوا واتقوا الله، ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب ثم أمر كعب
بن جابر العبسيّ صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته، وأمر رجاء بن حيوة أن
يدفع لهم كتابه وقال: أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا من ولّيت فيه فبايعوه
رجلا رجلا وتفرّقوا وأتى عمر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودّة
يستعفي من ذلك فأبى وجاءه هشام أيضا يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى،
فانصرف أسفا أن يخرج من بني عبد الملك ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل
بيته فقرأ عليهم الكتاب فلما ذكر عمر قال هشام: والله لا نبايعه أبدا
فقال له رجاء: والله نضرب عنقك فقام أسفا يجرّ رجليه حتى جاء إلى عمر
بن عبد العزيز وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فبايعه
واتبعه الباقون ودفن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز والوليد كان
غائبا عن موت سليمان ولم يعلم بيعة عمر فعقد لواء ودعا لنفسه وجاء إلى
دمشق. ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال: بلغني أنّ
سليمان لم يعهد فخفت على الأموال أن تنهب فقال: عمر لو قمت بالأمر
لقعدت في بيتي ولم أنازعك فقال عبد العزيز: والله لا أحب لهذا الأمر
غيرك وأوّل ما بدأ به عمر لما استقرّت البيعة له أنه ردّ ما كان لفاطمة
بنت عبد الملك زوجته من المال والحلي والجوهر إلى بيت المال وقال: لا
أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد فردّته جميعه ولما ولّى أخوها يزيد من
بعد ردّه عليها فأبت وقالت: ما كنت أعطيه حيّا أعطيه ميتا [1] ففرّقه
يزيد على أهله وكان بنو أمية يسبّون عليّا فكتب عمر إلى الآفاق بترك
ذلك، وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين.
عزل يزيد بن المهلب وحبسه والولاية على
عماله
ولما استقرّت البيعة لعمر كتب في سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن
يستخلف على عماله ويقدم فاستخلف مخلدا ابنه وقدم من خراسان وقد كان عمر
ولّى على البصرة عديّ ابن أرطاة الفزاريّ وعلى الكوفة عبد الحميد بن
عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب وضم إليه أبا الزناد، فكتب إلى عدي بن
أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب ويبعثه مقيدا، فلما نزل يزيد
واسط وركب السفن يريد البصرة بعث عليّ بن
__________
[1] الجملة غير مفهومة حسب مقتضى السياق وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص
42: «ما كنت أطيعه حيّا وأعصيه ميتا.»
(3/94)
أرطاة موسى بن الرحيبة الحميريّ فلقيه في
نهر معقل عند الجسر فقيّده وبعث به إلى عمر، وكان عمر يبغضه ويقول إنه
مراء وأهل بيته جبابرة فلما طالبه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من
خمس جرجان قال: إنما كتبت لأسمع الناس، وعلمت أنّ سليمان لم يكن
ليأخذني بذلك. فقال له عمر: اتق الله وهذه حقوق المسلمين لا يسعني
تركها ثم حبسه بحصن حلب وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكميّ واليا على
خراسان مكانه. وانصرف يزيد بن يزيد فقدم على عمر واستعطفه لأبيه وقال
له: يا أمير المؤمنين إن كانت له بيّنة فخذ بها وإلا فاستحلفه وإلا
فصالحه أو فصالحني على ما تسأل فأبى عمر من ذلك وشكر من مخلد ما فعل،
ثم ألبس يزيد جبة صوف وحمله على جمل وسيّره إلى دهلك ومرّ يزيد على
الناس وهو ينادي بعشيرة وبالنكير لما فعل به فدخل سلامة بن نعيم
الخولانيّ على عمر وقال: أردد يزيد إلى محبسه لئلا ينزعه قومه، فإنّهم
قد غضبوا، فرده إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر.
ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيري على
خراسان
ولما عزل يزيد عن خراسان وكان عامل جرجان جهم بن ذخر الجعفيّ فأرسل
عامل العراق على جرجان عاملا مكانه، فحبسه جهم وقيّده فلما جاء الجرّاح
إلى خراسان أطلق أهل جرجان عاملهم، ونكر الجرّاح على جهم ما فعل وقال:
لولا قرابتك مني ما سوغتك هذا! يعني أنّ جهما وجعفا معا ابنا سعد
العشيرة. ثم بعث في الغزو وأوفد على عمر وفدا فكلّم فيه بعضهم عمر بأنه
يعرّي الموالي بلا عطاء ولا رزق ويؤاخذ من أسلم من أهل الذمّة بالخراج.
ثم عرّض بأنه سيف من سيوف الجرّاح قد علم بالظلم والعدوان. فكتب عمر
إلى الجرّاح انظر من صلى قبلك فخل عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام
فرارا من الجزية فامتحنهم بالختان وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه عمران!
الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا واستقدم الجرّاح وقال: احمل معك
أبا مخلد واستخلف على حرب خراسان عبد الرحمن ابن نعيم القشيري ولما قدم
على عمر قال: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان.
قال: صدق من وصفك بالجفاء، ألا أقمت حتى تقطر ثم تسافر. ثم سأل عمر أبا
مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال يكافئ الأكفّاء ويعادي الأعداء
ويقدم إن وجد ما يساعده، قال: فعبد الرحمن بن نعيم؟ قال: يحب العافية
وتأتيه! قال:
(3/95)
هو أحب إليّ فولّاه الصلاة والحرب، وولّى
عبد الرحمن القشيريّ الخراج فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى
قتل يزيد بن المهلّب. وولي مسلمة فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف وظهر
من أيام الجرّاح بخراسان دعاة بني العبّاس فيمن بعثه محمد بن علي بن
عبد الله بن العبّاس إلى الآفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العبّاسية.
وفاة عمر بن عبد العزيز وبيعة يزيد
ثم توفى عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان ودفن بها
السنتين وخمسة أشهر من ولايته ولأربعين من عمره وكان يدعى أشجّ بني
أمية رمحته دابة وهو غلام فشجّته. ولما مات ولي بعده يزيد بن عبد الملك
بعهد سليمان كما تقدّم وقيل لعمر حين احتضر: أكتب إلى يزيد فأوصه
بالأمّة فقال: بماذا أوصيه؟ إنه من بني عبد الملك! ثم كتب أمّا بعد
فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على
الرجعة، إنك تترك ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام.
ولما ولي يزيد عزل أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة وولّى
عليها عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري وغير كل ما صنعه عمر بن عبد
العزيز وكان من ذلك شأن خراج اليمن فإنّ محمدا أخا الحجّاج جعل عليهم
خراجا مجدّدا وأزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر وقال: لئن يأتيني
من اليمن حبة ذرة أحب إليّ من تقرير هذه الوظيفة فلما ولي يزيد أعادها
وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضا وهلك عمّه محمد بن مروان فولّى
مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمّه الآخر مسلمة بن عبد الملك.
احتيال يزيد بن المهلب مقتله
قد تقدّم لنا حبس يزيد بن المهلب فلم يزل محبوسا حتى اشتدّ مرض عمر بن
عبد العزيز فعمل في الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لأنّ زوجته بنت أخي
الحجّاج وكان سليمان أمر ابن المهلب بعذاب قرابة الحجاج كلهم فنقلهم من
البلقاء وفيهم زوجة يزيد وعذّبها وجاءه يزيد بن عبد الملك إلى منزله
شافعا فلم يشفعه فضمن حمل ما قرّر عليها فلم يقبل فتهدّده فقال له ابن
المهلب لئن وليت أنت لأرمينّك بمائة ألف
(3/96)
سيف، فحمل يزيد بن عبد الملك عنها مائة ألف
دينار. ولما اشتدّ مرض عمر خاف من ذلك وأرسل إلى مواليه أن يغدوا له
بالإبل والخيل في مكان عيّنه لهم وبعث إلى عامل حلب باشفاقه من يزيد،
وبذل له المال وإلى الحرس الذين يحفظونه فخلّى سبيله، وأتى إلى دوابه
فركبها ولحق بالبصرة. وكتب إلى عمر: إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج
من محبسك. ولكن خفت أن يقتلني يزيد شرّ قتله فقرأ عمر الكتاب وبه رمق
فقال: اللَّهمّ إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه
فقد هاض. انتهى. ولما بويع ليزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن
عبد الرحمن بالكوفة وإلى عديّ بن أرطاة بالبصرة بهربه والتحرّر منه
وأبى عديّ أن يأخذ المهلب بالبصرة فحبس المفضّل حبيبا ومروان ابني
المهلب، وبعث عبد الحميد من الكوفة جندا عليهم هشام بن ساحق بن عامر
فأتوا العذيب ومرّ بيزيد عليهم فوق القطقطانة فلم يقدموا عليه. ومضى
نحو البصرة وقد جمع عديّ بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها وبعث على
خيلها المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل وجاء يزيد على أصحابه الذين معه
وانضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم. وبعث عديّ بن أرطاة
على كل خمس من أخماس البصرة رجالا: فعلى الأزد المغيرة بن زياد بن عمر
العتكيّ، وعلى تميم محرز بن حمدان السعديّ، وعلى بكرة نوح بن شيبان بن
مالك بن مسمع، وعلى عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل
العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وهم قريش وكنانة والأزد
وبجيلة وخثعم وقيس عيلان ومزينة فلم يعرضوا ليزيد وأقبل فانزل. انتهى.
واختلف الناس إليه وأرسل إلى عديّ أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة،
ويخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد، وبعث حميد ابن أخيه عبد الملك بن المهلب
يستأمن له من يزيد بن عبد الملك فأجاره خالد القسري وعمر بن يزيد
الحكمي بأمان يزيد له ولأهله وقد كان بعد منصرف حميد فرّق في الناس قطع
الذهب والفضة فانثالوا عليه، وعديّ يعطي درهمين درهمين ثم تناجزوا
الحرب وحمل أصحاب يزيد على أصحاب عديّ فانهزموا ودنا يزيد من القصر،
وخرج عديّ بنفسه فانهزم أصحابه. وخاف إخوة يزيد وهم في الحبس أن يقتلوا
قبل وصوله فأغلق الباب وامتنعوا فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس
عنه فخلّوا عنهم وانطلقوا إلى أخيهم. ونزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى
جنب القصر وتسوّر القصر بالسلالم وفتحه وأتى بعديّ بن أرطاة فحبسه.
وهرب رءوس
(3/97)
البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر إلى
الكوفة والشام وخرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ إلى الشام فلقي
خالدا القسري وعمر بن يزيد وقد جاءوا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد بن
أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة وحبسه عديا فرجعا إلى وعد لهما
فلم يقبلا، وقبض عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد
ابن المهلب وحمّاد بن ذخر، وحملهما وسيرهما إلى الشام فحبسهما يزيد حتى
هلكا بالسجن وبعث يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم ويمنيهم
الزيادة وجهز أخاه مسلمة وابن أخيه العبّاس بن الوليد إلى العراق في
سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام والجزيرة، فقدموا الكوفة
ونزلوا النخيلة. وتكلم العبّاس يوما ببعض الكلام فأساء عليه حيّان
النبطيّ بالكشّة الأعجمية ولما سمع ابن المهلب بوصول مسلمة وأهل الشام
فخطب الناس وشجّعهم للقائهم وهوّن عليهم أمرهم وأخبرهم أن أكثرهم له
واستوثق له أهل البصرة وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان وبعث إلى
خراسان مدرك بن المهلب وعليها عبد الرحمن بن نعيم وبعث بنو تميم
ليمنعوه ولقيه الأزد على رأس المغارة فقالوا: ارجع عنّا حتى نرى مآل
أمركم. ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلى الكتاب والسنة ويحثهم على الجهاد
وأنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم ونكر ذلك الحسن
البصريّ والنضر بن أنس بن مالك وتابعهما الناس في النكير. وسار يزيد من
البصرة إلى واسط واستخلف عليها أخاه مروان بن المهلب وأقام بواسط أياما
ثم خرج منها سنة اثنتين ومائة واستخلف عليها أمان معونة وقدّم أخاه عبد
الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله ابن الوليد بسور له فاقتتلوا
وانهزم عبد الملك وعاد إلى يزيد وأقبل مسلمة على شاطئ الفرات إلى
الأنهار فعقد الجسر وعبر وسار حتى نزل على يزيد بن المهلب وفزع إليه
ناس من أهل الكوفة وكان عسكره مائة وعشرين [1] وكان عبد الحميد بن عبد
الرحمن قد عسكر بالنخيلة وشق المياه وجعل الأرصاد على أهل الكوفة أن
يفزعوا إلى يزيد بن المهلّب، وبعث بعثا إلى مسلمة مع صبرة بن عبد
الرحمن بن مختف فعزل مسلمة بن عبد الحميد عن الكوفة واستعمل عليها محمد
بن عمر بن الوليد بن عقبة. ثم أراد يزيد بن المهلّب أن يبعث أخاه محمد
بالعساكر يبيّتون مسلمة فأبى عليه أصحابه وقالوا: قد وعدناهم بالكتاب
والسنة ووعدوا بالإجابة فلا نغدرهم فقال يزيد: ويحكم تصدّقونهم إنهم
__________
[1] أي مائة وعشرين الفا.
(3/98)
يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه
والله ما في بني مروان أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصغرى يعني
مسلمة. وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحثّ الناس على اللحاق بيزيد أخيه
والحسن البصريّ يثبطهم ويتهدّده فلم يكف ثم طلب الذين يجتمعون إليه
فافترقوا فأقام مسلمة بن عبد الملك يطاول يزيد بن المهلب ثمانية أيام
ثم خرج يوم الجمعة منتصف صغر فعبّى أصحابه وعبّى العبّاس بن الوليد
كذلك والتقوا، واشتدّ القتال وأمر مسلمة فأحرق الجسر فسطع دخانه فلما
رآه أصحاب يزيد انهزموا واعترضهم يزيد يضرب في وجوههم حتى كثروا عليه
فرجع وترجّل في أصحابه وقيل له: قتل أخوك حبيب فقال: لا خير في العيش
بعده ولا بعد الهزيمة.
ثم استمات ودلف إلى مسلمة لا يريد غيره فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو
وأصحابه، وفيهم أخوه محمد وبعث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع
خالد ابن الوليد بن عقبة وقيل إن الّذي قتله الهذيل بن زفر بن الحرث
الكلابي وأنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره وكان المفضل بن المهلب
يقاتل في ناحية المعترك وما علم بقتل يزيد فبقي ساعة كذلك يكرّ ويفرّ
حتى أخبر بقتل إخوته فافترق الناس عنه، ومضى إلى واسط وجاء أهل الشام
إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة ومعه جماعة منهم
صدق، فقاتلوا ساعة من النهار ثم انصرفوا وأسر مسلمة ثلاثمائة أسير
حبسهم بالكوفة. وجاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم فأمر
العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلك وبدأ بثمانين من بني تميم فقتلهم.
ثم جاء كتاب يزيد بإعفائهم فتركهم وأقبل مسلمة فنزل الحيرة وجاء الخبر
بقتل يزيد إلى واسط فقتل ابنه معاوية عديّ بن أرطاة ومحمدا ابنه ومالكا
وعبد الملك ابنا مسمع في ثلاثين ورجع إلى البصرة بالمال والخزائن
واجتمع بعمّه المفضّل وأهل بيتهم، وتجهزوا للركوب في البحر وركبوا إلى
قندابيل وبها وداع بن حميد الأزدي ولّاه عليها يزيد بن المهلب ملجأ
لأهل بيته إن وقع بهم ذلك فركبوا البحر بعيالهم وأموالهم إلى جبال
كرمان فنزلوا بها واجتمع إليهم الفلّ من كل جانب. وبعث مسلمة مدرك بن
ضب الكلبي في طلبهم فقاتلهم وقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم
ومحمد بن إسحاق بن محمد بن الأشعث وأسر ابن صول قهستان، وهرب عثمان بن
إسحاق بن محمد بن الأشعث فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة ورجع ناس من
أصحاب بني المهلب فاستأمنوا وأمّنهم مسلمة منهم مالك بن إبراهيم بن
الأشتر والورد
(3/99)
ابن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي ومضى
إلى آل المهلب ومن معهم بقندابيل فمنعهم وداع بن حميد من دخولها وخرج
معهم لقتال عدوّهم وكان مسلمة قد ردّ مدرك بن ضبّ بعد هزيمتهم في جبال
كرمان وبعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل فتبعوا
لقتاله! وبعث هلال راية أمان فمال إليه وداع بن حميد وعبد الملك بن
هلال وافترق الناس عن آل المهلب ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن
آخرهم: المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن
المهلب والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان
بن المفضل بن المهلب برتبيل [1] ملك الترك وبعث هلال بن أحور برءوسهم
وسبيهم وأسراهم إلى مسلمة بالحيرة فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد
الملك فسيّرهم يزيد إلى العبّاس بن الوليد في حلب فنصب الرءوس وأراد
مسلمة أن يبتاع الذرّية فاشتراهم الجرّاح بن عبد الله الحكميّ بمائة
ألف وخلّى سبيلهم. ولم يأخذ مسلمة من الجرّاح شيئا ولما قدم بالأسرى
على يزيد بن عبد الملك وكانوا ثلاثة عشر أمر يزيد فقتلوا وكلهم من ولد
المهلب واستأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عبد الملك
فأمّنه وأقام عمر وعثمان عند رتبيل حتى أمّنهما أسد بن عبد الله القسري
وقدما عليه بخراسان.
ولاية مسلمة على العراق وخراسان
ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب بني المهلب ولّاه يزيد بن عبد
الملك على العراق وجمع له ولاية البصرة والكوفة وخراسان فأقرّ على
الكوفة محمد بن عمر بن الوليد وكان قد قام بأمر البصرة بعد بني المهلب
شبيب بن الحرث التميمي فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي
وعلى شرطتها عمر بن يزيد التميمي وأراد عبد الرحمن أن يقتل شيعة بن
المهلب بالبصرة فعزله وولّى على البصرة عبد الملك بن بشر ابن مروان.
وأقرّ عمر بن يزيد على الشرطة واستعمل مسلمة على خراسان صهره على [2]
سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العبّاس
__________
[1] الظاهر من سياق المعنى ان عبارة سقطت أثناء النسخ وفي الكامل لابن
الأثير ج 5 ص 86: «وحملت رءوسهم وفي اذن كل واحد رقعة فيها اسمه إلّا
ابا عيينة بن المهلب وعمر بن يزيد بن المهلب وعثمان بن المفضل، فإنهم
لحقوا برتبيل» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 90: «واستعمل مسلمة على خراسان سعيد
بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية» .
(3/100)
ويلقب سعيد خدينة. دخل عليه بعض العرب
بخراسان وعليه ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، وسئل عنه لما خرج فقال:
خدينة وهي الدهقانة ربة البيت. ولمّا ولّاه على خراسان سار إليها
فاستعمل شعبة بن ظهير النهشليّ على سمرقند فسار إليها وقدم الصغد وكان
أهلها كفروا أيام عبد الرحمن بن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح فوبّخ ساكنها
من العرب وغيرهم بالجبن فاعتذروا بأمر أميرهم عليّ بن حبيب العبديّ. ثم
حبس سعيد عمّال عبد الرحمن بن عبد الله وأطلقهم، ثم حبس عمّال يزيد بن
المهلب رفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم فمات بعضهم في العذاب وبقي
بعضهم بالسجن حتى غزاهم الترك والصغد فأطلقهم.
العهد لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد
لما بعث يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب مع مسلمة أخيه
والعبّاس بن أخيه الوليد قال له العباس: إنا نخاف أن يرجف أهل العراق
بموتك ويبث [1] ذلك في أعضادنا وأشار عليه بالعهد لعبد العزيز أخيه بن
الوليد وبلغ ذلك مسلمة فجاءه وقال: أخوك أحق فإنّ ابنك لم يبلغ وأشار
عليه بأخيه هشام وابنه الوليد من بعده.
والوليد ابن إحدى عشرة سنة فبايع لهما كذلك ثم بلغ ابنه الوليد فكان
إذا رآه يقول الله بيني وبين من قدّم هشاما عليك.
غزوة الترك
لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسمّوه خدينة واستعمل شعبة على
سمرقند ثم عزله كما مرّ وولّى مكانه عثمان بن عبد الله بن مطرف بن
الشخّير فطمعت الترك، وبعثهم خاقان إلى الصغد، وعلى الترك كورصول
وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهليّ وفيه مائة أهل بيت بذراريهم. وكتبوا
إلى عثمان بسمرقند وخافوا أن يبطئ المدد، فصالحوا الترك على أربعين
ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. وندب عثمان الناس فانتدب المسيّب بن
بشر الرياحيّ ومعه أربعة آلاف من سائر القبائل.
فقال لهم المسيّب: من أراد الغزو والصبر على الموت فليتقدّم فرجع عنه
ألف، وقالها بعد فرسخ فرجع ألف آخر، ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله
ألف. وسار حتى كان
__________
[1] بث الخبر اي أذاعه ونشره وليس لها معنى هنا. ولعلها يفت من اعضادنا
اي يوهن فوقنا.
(3/101)
على فرسخين من العدوّ فأخبره بعض الدهاقين
بقتل الرهائن وميعادهم غدا. وقال أصحابي ثلاثمائة مقاتل وهم معكم فبعث
المسيب إلى القصر رجلين عجميّا وعربيّا يأتيانه بالخبر، فجاءوا في ليلة
مظلمة وقد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد فصاح بهما
فقالا له اسكت وادع لنا فلانا. فأعلماه قرب العسكر وسألا هل عندكم
امتناع غدا؟ فقال: لهما نحن مستميتون. فرجعا إلى المسيب فأخبراه فعزم
على تبييت الترك وبايعه أصحابه على الموت وساروا يومهم إلى الليل. ولما
أمسى حثّهم على الصبر وقال: ليكن شعاركم يا محمد ولا تتبعوا موليّا
واعقروا الدواب فإنه أشدّ عليهم، وليست بكم قلّة فإنّ سبعمائة سيف لا
يضرب بها في عسكر إلا أوهنته، وان كثر أهله. ثم دنوا من العسكر في
السحر وثار الترك وخالطهم المسلمون وعقروا الدواب وترجّل المسيب في
أصحاب له فقاتلوا قتالا شديدا وقتل عظيم من عظماء الترك فانهزموا ونادى
منادي المسيب لا تتبعوهم واقصدوا القصر واحملوا من فيه، ولا تحملوا من
متاعهم إلّا المال ومن حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله
وإلا فله أربعون درهما. وحملوا من في القصر إلى سمرقند ورجع الترك من
الغد فلم يروا في القصر أحدا. ورأوا قتلاهم فقالوا: لم يكن الذين
جاءونا بالأمس.
غزو الصغد
ولما كان من انتقاض الصغد إعانتهم الترك على المسلمين ما ذكرنا تجهّز
سعيد لغزوهم وعبر النهر فلقيه الترك وطائفة من الصغد فهزمهم المسلمون.
ونهاهم سعيد عن اتباعهم وقال هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم. ثم
سار المسلمون إلى واد بينهم وبين المرج فقطعه بعض العسكر وقد أكمن لهم
الترك فخرجوا عليهم وانهزم المسلمون إلى الوادي وقيل بل كان المنهزمون
مسلحة للمسلمين وكان فيمن قتل شعبة بن ظهر [1] في خمسين رجلا. وجاء
الأمير والناس فانهزم العدوّ وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا
وسبوا ردّ السبي وعاقب السرية فثقل سعيد على الناس وضعفوه ولما رجع من
هذه الغزاة وكان سورة بن الأبجر قد قال لحيّان النبطيّ يوم أمر سعيد
بالكف عن الصغد وأنهم جباية أمير المؤمنين [2] فقال: سورة ارجع عنهم يا
حيّان فقال: عقيرة
__________
[1] وقد مرّ اسمه في السابق بن ظهير.
[2] قوله جباية أمير المؤمنين معناه: أنه يأخذ منهم المال، ففي
استئصالهم ضياع له انتهى. من خط الشيخ العطار.
(3/102)
الله لا أدعها. فقال انصرف يا نبطيّ. قال:
أنبط الله وجهك فحقدها عليه سورة وأغرى به سعيد خدينة وقال: إنه أفسد
خراسان على قتيبة ويثب عليك ويتحصّن ببعض القلاع فقال له سعيد: لا يسمع
هذا منك أحد، ثم حاول عليه وسقاه لبنا قد ألقى فيه ذهبا مسحوقا. ثم ركض
والناس معه أربعة فراسخ فعاش حيّان من بعدها ليالي قلائل ومات.
ولاية ابن هبيرة على العراق وخراسان
كان مسلمة لما ولي على هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئا واستحيا
يزيده من عزله فكتب إليه بالقدوم وأن يستخلف على عمله وسار لذلك سنة
ثلاث وأربعمائة، فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد، وقال:
وجّهني أمير المؤمنين لحيازة أموال بني المهلب فارتاب لذلك، وقال له
بعض أصحابه: كيف يبعث ابن هبيرة من عند الجزيرة لمثل هذا الغرض؟ ثم
أتاه أنّ ابن هبيرة عزل عمّاله. وكان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان،
وكان الحجّاج يبعثه في البعوث، وهو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين
خلع ويقال إنه الّذي قتله، وجاء برأسه، فسيره الحجّاج إلى عبد الملك
فاقطعه قرية قريبة من دمشق. ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلّص
منه مالا فارتاب وأخذ المال ولحق بعبد الملك عائدا به من الحجّاج وقال
قتلت ابن عمه ولست آمنه على نفسي، فأجاره عبد الملك، وكتب الحجّاج إليه
فيه فقال: أمسك عنه وعظّم شأنه عبد الملك وبنوه واستعمله عمر بن عبد
العزيز على الروم من ناحية أرمينية وأثخن فيهم وأسر سبعمائة منهم
وقتلهم. واستخدم أيام يزيد لمحبوبته حبّابة [1] فسعت له في ولاية
العراق، فولّاه يزيد مكان أخيه مسلمة. ولمّا ولي قدم عليه المجشر بن
مزاحم السلميّ، وعبد الله بن عمر الليثي في وفد فشكوا من سعيد وحذيفة
عاملهم وهو صهر مسلمة فعزله وولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر
الحريشيّ من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسار خدينة
عن خراسان وقدم سعيد فلم يعرض لعماله. ولما قدم على خراسان كان الناس
بإزاء العدوّ وقد نكثوا، فحثّهم على الجهاد وخاف الصغد منه بما كانوا
أعانوا الترك أيام خدينة، فقال لهم ملكهم: احملوا له خراج ما مضى
واضمنوا خراج ما يأتي
__________
[1] حبّابة هذه جارية أحبها يزيد حبّا تجاوز به الحد وضرب به المثل،
أهـ. من خط الشيخ العطار.
(3/103)
والعمارة والغزو معه، وأعطوه الرهن بذلك.
فأبوا إلّا أن يستجيروا بملك فرغانة وخرجوا من بلادهم إلى خجندة وسألوا
الجوار وأن ينزلوا شعب عصام. فقال:
أمهلونا عشرين يوما أو أربعين لنخليه لكم وليس لكم عليّ جوار قبل
دخولكم إيّاه.
ثم غزاهم الحريش سنة أربع ومائة فقطع النهر وترك قصر الريح على فرسخين
من الدنوسيّة، وأتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهل الصغد وأنهم بخجندة،
ولم يدخلوا جواره بعد، فبعث معه عبد الرحمن القسريّ في عسكر، وجاء في
أثره حتى نزلوا على خجندة، وخرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا، وقد كانوا
حفروا خندقا وغطّوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال. فلما
انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق وأسقطهم الله في ذلك الخندق. ثم
حاصرهم الحريشيّ، ونصب عليهم المجانيق وأرسلوا إلى ملك فرغانة ليجيرهم،
فقال: قد شرطت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الّذي بيني وبينكم. فسألوا
الصلح من الحريشيّ على أن يردّوا ما في أيديهم من سبي العرب، ويعطوا ما
كسر من الخراج ولا يتخلف أحد منهم بخجندة، وإن أحدثوا حدثا استبيحت
دماؤهم. فقبل منهم وخرجوا من خجندة ونزلوا في العسكر على كل من يعرفه.
وبلغ الحريشيّ أنهم قتلوا امرأة فقتل قاتلها، فخرج قبيل منهم فاعترض
الناس وقتل جماعة. وقتل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين، ولقي
الناس منهم عنفا ثم أحاطوا بهم وهم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح فقتلوا
عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف. وكتب الحريشيّ إلى يزيد بن عبد
الملك ولم يكتب لعمر بن هبيرة فأحفظه ذلك ثم سرّح الحريشيّ سليمان بن
أبي السري إلى حصن يطيف به وراء الصغد ومعه خوارزم شاه وملك أجرون
وسومان. فسار سليمان وعلى مقدمته المسيّب بن بشر الرياحي، ولقيه أهل
الحصن فهزمهم ثم حاصرهم فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم ويسلموا
القلعة بما فيها فقبل. وبعث إلى الحريشيّ فقبضه [1] وبعث من قبضه. وسار
الحريشيّ إلى كشّ ونسف حربا وخراجا سليمان بن أبي السريّ واستنزل مكانه
آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان وجاء به إلى مرو فشنقه وصلبه.
__________
[1] مقتضى السياق فقبله وبعث من قبضه.
(3/104)
ولاية الجرّاح على أرمينية وفتح بلنجر
ولما سار ابن هبيرة على الجزيرة وأرمينية تشبب البهراني فحفل لهم الخزر
وهم التركمان واستجاشوا بالقفجاق وغيرهم من أنواع الترك، ولقوا
المسلمين بمرج الحجارة فهزموهم واحتوى التركمان على عسكرهم وغنموا ما
فيه. وقدم المنهزمون على يزيد بن عبد الملك فولّى على أرمينية الجرّاح
بن عبد الله الحكميّ وأمدّه بجيش كثيف وسار لغزو الخزر فعادوا للباب
والأبواب. ونزل الجرّاح بردعة فأراح بها قليلا، ثم سار نحوهم وعبر نهر
الكرّ وأشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم ثم أسرى من ليلته وأجدّ
السير إلى مدينة الباب فدخلها وبثّ السرايا للنهب والغارة. وزحف إليه
التركمان وعليهم ابن ملكهم فلقيهم عند نهر الزمان واشتد القتال بينهم،
ثم انهزم التركمان وكثر القتل فيهم، وغنم المسلمون ما معهم وساروا حتى
نزلوا على الحصن، ونزل أهلها على الأمان فقتلهم. ثم سار إلى مدينة
برغوا [1] فحاصرها ستة أيام، ثم نزلوا على الأمان ونقلهم [2] ثم ساروا
إلى بلنجر وقاتلهم التركمان دونها فانهزموا وافتتح الحصن عنوة.
وغنم المسلمون جميع ما فيه فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار وكانوا بضعة
وثلاثين ألفا. ثم إن الجرّاح رجّع حصن بلنجر إلى صاحبه وردّ عليه أهله
وماله، على أن يكون عينا للمسلمين على الكفّار. ثم نزل على حصن الوبيد
[3] وكان به أربعون ألف بيت من الترك فصالحوا الجرّاح على مال أعطوه
إياه. ثم تجمع الترك والتركمان وأخذوا الطرق على المسلمين فأقام في
رستاق سبى وكتب إلى يزيد بالفتح وطلب المدد وكان ذلك آخر عمر يزيد وبعث
هشام بعد ذلك إليه بالمدد وأقرّه على العمل.
ولاية عبد الواحد القسري على المدينة ومكة
كان عبد الرحمن بن الضحّاك عاملا على الحجاز منذ أيام عمر بن عبد
العزيز وأقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين
فامتنعت فهدّدها بأن يجلد ابنها في الخمر وهو عبد الله بن الحسن
المثنّى. وكان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمّى ابن هرمز.
ولما رفع حسابه وأراد السير إلى يزيد جاء ليودّع فاطمة، فقالت: أخبر
أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحّاك وما يتعرّض لي. ثم بعث
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 112: يرغوا.
[2] وفي نسخة اخرى: فقتلهم.
[3] وفي الكامل ج 5 ص 112: الوبندر.
(3/105)
رسولها بكتابها إلى يزيد يخبره. وقدم ابن
هرمز على يزيد فبينما هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب: بالباب رسول
فاطمة بنت الحسين، فذكر ابن هرمز ما حملته.
فنزل عن فراشه وقال عندك مثل هذا وما تخبرني به! فاعتذر بالنسيان.
فأدخل يزيد الرسول وقرأ الكتاب وجعل ينكث الأرض بخيزارنة ويقول: لقد
اجترأ ابن الضحّاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب قيل له عبد الواحد
بن عبد الله القسري فكتب إليه بيده قد وليتك المدينة فانهض إليها واعزل
ابن الضحّاك وغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع وأنا على فراشي.
وجاء البريد بالكتاب إليه ولم يدخل على ابن الضحّاك فأحضر البريد ودس
إليه بألف دينار فأخبره الخبر فسار ابن الضحّاك إلى مسلمة بن عبد الملك
واستجار به وسأل مسلمة فيه يزيد فقال: والله لا أعفيه أبدا فردّه مسلمة
إلى عبد الواحد بالمدينة فعذّبه ولقي شرّا، ولبس جبة صوف يسأل الناس
وكان قد آذى الأنصار فذمّوه وكان قدوم القسري في شوّال سنة أربع ومائة
وأحسن السيرة فأحبّه الناس وكان يستشير القاسم بن محمد وسالم بن عبد
الله.
عزل الحريشيّ وولاية مسلم الكلبي على خراسان
كان سعيد الحريشيّ عاملا على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا وكان يستخف
به ويكاتب الخليفة دونه ويكنيه أبا المثنّى. وبعث من عيونه من يأتيه
بخبره فبلغه أعظم مما سمع فعزله وعذّبه حتى أدّى الأموال وعزم على قتله
ثم كف عنه. وولّى ابن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة
الكلابي، ولما جاء إلى خراسان حبسه وقيّده وعذّبه كما قلنا. فلما هرب
ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الحريشيّ فأدركه
على الفرات وقال لابن هبيرة ما ظنك بي قال: إنك لا تدفع رجلا من قومك
إلى رجل من قسر قال: هو ذاك ثم انصرف وتركه.
وفاة يزيد وبيعة هشام
ثم توفي يزيد بن عبد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من
خلافته وولّى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مرّ، وكان بحمص فجاءه
الخبر بذلك فعزل عمر ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عبد الله
القسري فسار إلى العراق من يومه.
(3/106)
غزو مسلم الترك
غزا مسلم بن سعيد الترك سنة خمسة ومائة فعبر النهر وعاث في بلادهم ولم
يفتح شيئا وقفل فأتبعه الترك ولحقوه على النهر فعبر بالناس ولم ينالوا
منه. ثم غزا بقية السنة وحاصر أفشين حتى صالحوه على ستة آلاف رأس، ثم
دفعوا إليه القلعة. ثم غزا سنة ست ومائة، وتباطأ عنه الناس، وكان ممن
تباطأ البختري بن درهم، فردّ مسلم نصر بن سيّار إلى بلخ وأمره أن يخرج
الناس إليه، وعلى بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم، فجاء نصر وأحرق باب
البختري وزياد بن طريف الباهليّ. ثم منعهم عمر من دخول بلخ وقد قطع
سعيد النهر، ونزل نصر بن سيّار البروقان وأتاه جند الضلاضيان، وتجمعت
ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر وخرجت مضر إلى نصر، وخرج
عمر بن مسلم إلى ربيعة والأزد وتوافقوا وسفر الناس بينهما في الصلح
وانصرف نصر. ثم حمل البختري وعمر بن مسلم على نصر فكرّ عليهم فقتل منهم
ثمانية عشر وهزمهم وأتى بعمر بن مسلم والبختريّ وزياد بن طريف فضربهم
مائة مائة وحلق رءوسهم ولحاهم وألبسهم المسوح. وقيل إنّ سبب تعزير عمر
بن مسلم انهزام تميم عنه وقيل انهزام ربيعة والأزد ثم أمنهم نصر بعد
ذلك وأمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد. ولما قطع مسلم النهر ولحقه من لحق
من أصحابه سار إلى بخارى فلحقه بها كتاب خالد بن عبد الله القسري
بولايته وبأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة وبلغه أنّ خاقان قد أقبل
إليه فارتحل. ولحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين
فأصابهم. ثم أطاف بالعسكر وقاتل المسلمين، وقتل المسيّب بن بشر
الرياحيّ والبرّاء من فرسان المهلّب وأخو غورك وثار الناس في وجوههم
فأخرجوهم من العسكر ورحل مسلم بالناس ثمانية أيام والترك مطيفون بهم
بعد أن أمر بإحراق ما ثقل من الأمتعة، فأحرقوا ما قيمته ألف ألف.
وأصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة والشاش. فأمر مسلم الناس
أن يخرطوا سيوفهم ويحملوا فافرج أهل فرغانة والشاش عن النهر، ونزل مسلم
بعسكره ثم عبر من الغد، واتبعهم ابن خاقان. فكان حميد بن عبد الله على
الساقة من وراء النهر وهو مثخن بالجراحة.
فبعث إلى مسلم بالانتظار وعطف على الترك فقاتلهم وأسر قائدهم وقائد
الصغد ثم أصابه سهم فمات. وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد ولقيهم
هنالك كتاب
(3/107)
أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بولايته
على خراسان واستخلافه عبد الرحمن بن نعيم. فقرأ مسلم الكتاب وقال سمعا
وطاعة.
ولاية أسد القسري على خراسان
ولما غزا خالد بن عبد الله خراسان استخلف عليها أخاه أسد بن عبد الله
فقدم ومسلم ابن سعيد بفرغانة فلما رجع وأتى النهى ليقطعه منعه الأشهب
بن عبد الله التميمي وكان على السفن بآمد [1] حتى عرفه أنه الأمير فأذن
له. ثم عبر أسد النهر ونزل بالمرج وعلى سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج
بالناس وتلقى أسدا وأدخله سمرقند وبعث أسد إلى عبد الرحمن بن نعيم
بالولاية على العسكر فقفل بالناس إلى سمرقند. ثم عزل أسدا عنها وولّى
مكانه الحسن بن أبى العمّرطة الكنديّ ثم قدم مسلم بن سعيد بن عبد الله
بخراسان فكان يكرّمه ومرّ بابن هبيرة وهو يروم الهرب وأسلم على يديه.
ثم غزا الغور وهي جبال هراة فوضع أهلها أثقالهم في الكهوف ولم يكن
إليهم طريق فاتخذ التوابيت ووضع فيها الرجال ودلّاها بالسلاسل
فاستخرجوا ما قدروا عليه ثم قطع كماق النهر وجاءه خاقان ولم يكن بينهما
قتال وقيل عاد مهزوما من الجسر. ثم سار إلى عوبرين وقاتلها وأبلى نصر
بن سيّار ومسلم بن أحور وانهزم المشركون وحوى المسلمون عسكرهم بما فيه.
ولاية أشرس على العراق
كان أسد بن عبد الله في ولايته على خراسان يتعصّب حتى أفسد الناس وضرب
نصر ابن سيّار بالسياط وعبد الرحمن بن نعيم وسورة بن أبجر والبختريّ بن
أبي درهم، وعامر بن مالك الحماني وحلقهم وسيّرهم إلى أخيه، وكتب إليه
أنهم أرادوا الوثوب بي فلامه خالد وعنّفه وقال: هلّا بعثت برءوسهم؟
وخطب أسد يوما فلعن أهل خراسان. فكتب هشام بن عبد الملك إلى خالد اعزل
أخاك فعزله في رمضان سنة تسع وولّى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي فقعد
عن الصائفة تلك السنة فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي
وأمره أن يراجع خالدا فكان خيرا ففرح به أهل خراسان.
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 131: بآمل.
(3/108)
عزل أشرس
أرسل أشرس إلى سمرقند سنة عشر ومائة أبا الصيدا صالح بن ظريف مولى بني
ضبّة والربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند وغيرها مما وراء النهر
يدعوهم إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، وعليها الحسن بن
العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعاهم لذلك وأسلموا. وكتب غورك
إلى الأشرس أنّ الجرّاح قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن العمرّطة: بلغني
أنّ أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما أسلموا نفورا من الجزية
فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. ثم
عزل ابن العمرّطة عن الخراج وولّى عليها ابن هانئ ومنعهم أبو الصيدا
أخذ الجزية ممن أسلم، وكتب هانئ إلى أشرس بأنهم أسلموا وبنوا المساجد
فكتب إليه وإلى العمّال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه ولو أسلم،
فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند وخرج معهم أبو
الصيدا وربيع بن عمران والهيثم الشيبانيّ وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن
قشير وبشير الجحدري وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم. وبلغ
الخبر إلى أشرس فعزل ابن العمرّطة عن الحرب وولّى مكانه المجشر بن
مزاحم السلمي وعميرة بن سعد الشيبانيّ، فكتب المجشر إلى أبي الصيدا
يستقدمه هو وأصحابه فقدم ومعه ثابت قطنة فحبسهما وسيرهما إلى أشرس،
واجتماع الباقون وولّوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا فكتب أشرس ووضع
عنهم الخراج فرجعوا وضعف أمرهم وتتبعوا فحبسوا كلهم وألحّ هانئ في
الخراج واستخف بفعل العجم والدهاقين. وأقيموا في العقوبات وحرقت
ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم وأخذت الجزية ممن أسلم.
فكفرت الصغد وبخارى، واستجاشوا بالترك وخرج أشرس غازيا فنزل آمد وأقام
أشهرا وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر ولقي الترك
وأهل الصغد وبخارى ومعهم خاقان، فحصروا قطنا في خندقه. وأغار الترك على
سرح المسلمين، وأطلق أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود
بن عمرو وبعثه معه في خيل، فاستقدمه من أيدي الترك ما أخذوه ثم عبر
أشرس بالناس ولحق بقطن ولقيهم العدوّ فانهزموا أمامهم وسار أشرس بالناس
حتى جاء بيكند فحاصرها المسلمون، وقطع أهل البلد عنهم الماء، وأصابهم
العطش فرحلوا إلى المدينة
(3/109)
واعترضهم دونها العدوّ فقاتلوهم قتالا
شديدا وأبلى الحرث بن شريح وقطن بن قتيبة بلاء شديدا وأزالوا الترك عن
الماء فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخر بن مسلم بن النعمان العبديّ، وعبد
الملك بن دثار الباهلي وغيرهم وحمل قطن بن قتيبة في جماعة تعاقدوا على
الموت، فانهزم العدوّ واتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل. ثم رجع
أشرس إلى بخارى وجهز عليها عسكرا يحاصرونها وعليهم الحرث بن شريح
الأزدي ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان وبها جمع من المسلمين.
وقطعوا القنطرة وأتاهم ابن جسر وابن يزدجرد وقال: إنّ خاقان جاء يردّ
عليّ منكبي وأنا آخذ لكم الأمان فشتموه وأتاهم يزغري في مائتين وكان
داهية، وكان خاقان لا يخالفه.
فطلب رجلا يكلمه فجاءه يزيد بن سعد الباهلي فرغّبه باضعاف العطاء
والإحسان على النزول ويسيرون معهم، فلاطفه ورجع إلى أصحابه وقال هؤلاء
يدعونكم لقتال المسلمين، فأبوا وأمر خاقان فألقى الحطب الرطب في الخندق
ليقطعه، وألقى المسلمون البهائم ليأكلوها ويحشوا جلودها ترابا ويملئوا
بها الخندق. وأرسل الله سبحانه سحابة فاحتمل السيل ما في الخندق إلى
النهر الأعظم ورمى المسلمون بالسهام فأصيب يزغري بسهم ومات من ليلته
فقتلوا جميع من عندهم من الأسرى والرهن.
ولم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة فجرّدوا عليهم واشتدّ
قتالهم وصالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة ويرحلوا عليها إلى
سمرقند والدنوسيّة وتراهنوا على ذلك وتأخر خاقان حتى يخرجوا وخلف معهم
كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية وأطلقوا الرهن
وكان مدّة الحصار ستين يوما.
عزل أشرس عن خراسان وولاية الجنيد
وفي سنة إحدى عشرة ومائة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان وولّى
مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن عمر بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي
حارثة المريّ أهدى إلى أمّ حكيم بنت يحيي بن الحكم امرأة هشام قلادة
فيها جواهر فأعجبت هشاما فأهدى له أخرى مثلها فولّاه خراسان وحمله على
البريد فقدم خراسان في خمسمائة ووجد الخطّاب ابن محرز السلمي خليفة
أشرس على خراسان فسار الجنيد إلى ما وراء النهر ومعه الخطاب واستخلف
على مرو المجشر بن مزاحم
(3/110)
السلمي وعلى بلخ سورة بن أبجر التميمي.
وبعث إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن
يعترضه العدوّ، فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي فعرض له الترك
والصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك وحمل المسلمون عليهم من
أمامهم فانهزم الترك ولحق عامر بالجنيد فأقبل معه وعلى مقدمته عمارة بن
حزيم واعترضه الترك فهزمهم. وزحف اليه خاقان بنواحي سمرقند وقطن ابن
قتيبة على ساقته، فهزم خاقان وأسر ابن أخيه وبعث به إلى هشام، ورجع إلى
مرو ظافرا. واستعمل قطن بن قتيبة على بخارى والوليد بن القعقاع العبسيّ
على هراة وحبيب بن مرّة العبسيّ على شرطته ومسلم بن عبد الرحمن الباهلي
على بلخ وعليها نصر بن سيّار فبعث مسلم إلى نصر وجيء به في قميص دون
سراويل، فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة؟ فعزل الجنيد مسلما عن
بلخ وأوفد وفدا إلى هشام يخبر غزاته.
مقتل الجرّاح الحكمي
قد كان تقدّم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع ومائة وانهزامهم أمامه
وأنه أثخن فيهم وملك بلنجر وردّها على صاحبها وأدركه الشتاء فأقام
هنالك. وأنّ هشاما أقرّه على عمله ثم ولّاه أرمينية فدخل بلاد التركمان
من ناحية تفليس سنة إحدى عشرة ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف ظافرا.
فاجتمع الخزر والترك من ناحية اللاف، وزحف إليهم الجرّاح سنة اثنتي
عشرة ولقيهم بمرج أردبيل، فاقتتلوا أشدّ قتال، وتكاثر العدوّ عليه
فاستشهد ومن معه وقد كان استخلف أخاه الحجّاج على أرمينية ولما قتل طمع
الخزر وهم التركمان وأوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وقيل كان
قتله ببلنجر.
ولما بلغ الخبر هشاما دعا سعيد الحريشيّ فقال: بلغني أنّ الجرّاح
انهزم! قال:
الجرّاح أعرف باللَّه من أن ينهزم ولكن قتل فابعثني على أربعين من دواب
البريد وابعث إليّ كل يوم أربعين رجلا مددا واكتب إلى أمراء الأجناد
يواسوني ففعل وسار الحريشيّ فلا يمرّ بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه
من أراد الجهاد. ووصل مدينة أزور فلقيه جماعة من أصحاب الجرّاح فردّهم
معه ووصل إلى خلاط فحاصرها وفتحها وقسّم غنائمها. ثم سار عنها يفتح
القلاع والحصون إلى بروعة فنزلها وابن خاقان يومئذ بأذربيجان يحاصر
مدينة ورثان منها ويعيث في نواحيها، وبعث الحريشيّ إلى
(3/111)
أهل ورثان يخبرهم بوصوله فأخرج العدوّ عنهم
ووصل إليهم الحريشيّ. ثم اتبع العدوّ إلى أردبيل وجاءه بعض عيونه بأنّ
عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه ومعهم خمسة آلاف بيت من
المسلمين أسارى وسبايا، فبيتهم وقتلهم أجمعين ولم ينج منهم أحد واستنقذ
المسلمين منهم. وسار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم فسار
إليهم واستلحمهم أجمعين واستنقذ من معهم من المسلمين، وكان فيهم أهل
الجرّاح وولده فحملهم إلى باجروان. ثم زحف إليهم جموع الخزر مع ابن
ملكهم والتقوا بأرض زرند، واشتدّ القتال والسبي من معسكر الكفّار فبكى
المسلمون رحمة لهم وصدقوا الحملة، فانهزم الكفّار واتبعهم المسلمون إلى
نهر أرس وغنموا ما كان معهم من الأموال واستنقذوا الأسرى والسبايا
وحملوهم إلى باجروان. ثم تناصر الخزر في ملكهم ورجعوا فنزلوا نهر
البيلقان واقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزموا فكان من غرق أكثر ممن قتل
وجمع الحريشيّ الغنائم وعاد إلى باجروان فقسّمها وكتب إلى هشام بالفتح.
واستقدمه وولّى أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان.
وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان
وخرج الجنيد سنة اثنتي عشرة ومائة من خراسان غازيا إلى طخارستان وبعث
إليها عمارة ابن حزيم في ثمانية عشر ألفا، وبعث إبراهيم بن سام الليثي
في عشرة آلاف إلى وجه آخر وحاشتك الترك [1] وزحف بهم خاقان إلى سمرقند
وعليها سورة بن أبجر فكتب إلى الهند مستغيثا فأمر الجنيد بعبور النهر
فقال له المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي: إن الترك ليسوا
كغيرهم وقد مزقت جندك فسلّم ابن عبد الرحمن بالنبراود والبختري بهراة
وعمارة بن حزيم بطخارستان ولا تعبر النهر في أقل من خمسين الفا.
فاستقدم عمارة وأمهل فقال: أخي على سورة وعبر الجنيد فنزل كشّ وتأهب
للسير. وغوّر الترك الآبار في طريق كشّ وسار الجنيد على التعبية
واعترضه خاقان ومعه أهل الصغد وفرغانة والشاش، وحملوا على مقدّمته،
وعليها عثمان بن عبد الله بن الشخّير فرجعوا والترك في أتباعهم ثم
حملوا على المدينة وأمدّهم الجنيد
__________
[1] العبارة غير واضحة والأسماء مختلفة عن بعض المراجع وفي الكامل لابن
الأثير ج 5 ص 162: «فوجه عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر
الفا، ووجه إبراهيم بن بسّام الليثي في عشرة الاف إلى وجه آخر، وجاشت
الترك....»
(3/112)
بنصر بن سيّار وشدّوا على العدوّ وقتل
أعيانا منهم وأقبل الجنيد على الميمنة وأقبل تحت راية الأزد فقال له
صاحب الراية: ما قصدت كرامتنا لكن علمت أنّا لا نصل إليك ومنا عين
تطرف. فصبروا وقاتلوا حتى كلّت سيوفهم وقطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها
حتى أدركهم الملل وتعانقوا ثم تحاجزوا وهلك من الأزد في ذلك المعترك
نحو من ثمانين فيهم عبد الله بن بسطام ومحمد بن عبد الله بن جودان
والحسين بن شيخ ويزيد ابن المفضّل الحرّاني. وبين الناس كذلك إذ طلعت
أوائل عسكر خاقان فنادى منادي الجنيد بالنزول فترجلوا، وخندق كل كائن
على رجاله. وقصد خاقان جهة بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحرث فحملت بكر
عليهم فأفرجوا واشتد القتال، وأشار أصحاب الجنيد عليه بأن يبعث إلى
سورة بن أبجر من سمرقند ليتقدّم الترك إليه ليكون لهم شغل به عن الجنيد
وأصحابه، فكتب يستقدمه فاعتذر فأعاد عليه وتهدّده وقال:
أخرج وسر مع النهر لا تفارقه فلما خرج هو استبعد طريق النهر واستخلف
على سمرقند موسى بن أسود الحنظليّ وسار محمد في اثني عشر ألفا حتى إذا
بقي بينه وبين الجنيد وعساكره فرسخ لقيه خاقان عند الصباح وحال بينهم
وبين الماء واضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا وحملوا وانكشفت
الترك وأظلم الجوّ بالعجاج. وكان من وراء الترك لهب سقط فيه جميع
العدوّ والمسلمون وسقط سورة فاندقت فخذه ثم عطف الترك فقتلوا المسلمين
ولم يبق منهم إلا القليل وانحاش بالناس المهلب بن زياد والعجمي في
ستمائة أو ألف، ومعه قريش بن عبد الله العبديّ إلى رستاق المرغاب،
وقاتلوا بعض قصوره فأصيب المهلب وولّوا عليهم الرحب بن خالد. وجاءهم
الاسكيد صاحب نسف وغورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان فلم يجز أمان
غورك وقتلهم ولم ينج منهم أحد. ثم خرج الجنيد من الشعب قاصدا سمرقند
وأشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل ووافقته جموع الترك فجال الناس
جولة وصبر المسلمون وقاتل العبيد وانهزم العدوّ ومضى الجنيد إلى سمرقند
فحمل العيالات إلى مرو وأقام بالصغد أربعة أشهر وكان صاحب الرأي
بخراسان في الحرب المجشّر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن ابن صبح
المخزومي وعبيد الله بن حبيب الهجريّ. ولما انصرفت الترك بعث الجنيد
نهار بن توسعة بن تيم الله وزميل بن سويد بن شيم بالخبر وتحامل فيه على
سورة بن أبجر بما عصاه من مفارقة النهر حتى نال العدوّ منه فكتب إليه
هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة ومثلها من الكوفة
وثلاثون ألف رمح ومثلها سيفا. وأقام
(3/113)
الجنيد بسمرقند وسار خاقان إلى بخارى
وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف عليه من الترك واستشار عبد الله بن
أبي عبد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه فاشترط عليه أن لا
يخالفه فأشار بحمل العيالات من سمرقند فقدّمهم واستخلف بسمرقند عثمان
بن عبد الله بن الشخّير في أربعمائة فارس وأربعمائة راجل ووفّر
أعطياتهم وسار العيادات في مقدمته حتى [1] من الضيق ودنا من الطواويس.
فأقبل إليه خاقان بكير ميمنية [2] أوّل رمضان سنة اثنتي عشرة، واقتتلوا
قليلا، ثم رجع الترك وارتحل من الغد، فاعترضه الترك ثانيا وقتل مسلم بن
أحوز بعض عظمائهم فرجعوا من الطواويس. ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى
وقدمت الجنود من البصرة والكوفة فسرّح الجنيد معهم حورثة بن زيد
العنبري فيمن انتدب معه.
ولاية عاصم على خراسان وعزل الجنيد
بلغ هشاما سنة ست عشرة أن الجنيد بن عبد الرحمن عامل خراسان تزوّج بنت
يزيد بن المهلّب فغضب لذلك وعزله وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد
الهلالي وكان الجنيد قد مرض بالاستسقاء. فقال هشام لعاصم: إن أدركته
وبه رمق فأزهق نفسه فلما قدم عاصم وجده قد مات وكانت بينهما عداوة فحبس
عمارة بن حزيم وكان الجنيد استخلفه وهو ابن عذبة فعذّبه عاصم وعذّب
عمال الجنيد.
ولاية مروان بن محمد على أرمينية وأذربيجان
لما عاد مسلمة من غزو الخزر وهم التركمان إلى بلاد المسلمين وكان في
عسكره مروان بن محمد بن مروان، فخرج مختفيا عنه إلى هشام وشكا له من
مسلمة وتخاذله عن الغزو وما أدخل بذلك على المسلمين من الوهم. وبعث إلى
العدوّ بالحرب وأقام شهرا حتى استعدّوا وحشدوا ودخل بلادهم فلم يكن له
فيهم نكاية وقصد أراد السلامة ورغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم، وأن
يمدّه بمائة وعشرين ألف مقاتل ويكتم عليه.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 169: «حتى خرجوا من
الأماكن المخوفة ودنا من الطواويس.
[2] وفي الكامل ج 5 ص 169: بكر مينية.
(3/114)
فأجابه لذلك وولّاه على أرمينية. فسار
إليها وجاءه المدد من الشام والعراق والجزيرة.
فأظهر أنه يريد غزو اللان وبعث إلى ملك الخزر في المهادنة فأجاب. وأرسل
رسله لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهّز وودّعهم وسار على أقرب
الطرق فوافاهم ورأى ملك الخزر أنّ اللقاء على تلك الحال غرر فتأخر إلى
أقصى بلاده. ودخل مروان فأوغل فيها وخرّب وغنم وسبى إلى آخرها. ودخل
بلاد ملك السرير وفتح قلاعها وصالحوه على ألف رأس نصفها غلمان ونصفها
جواري ومائة ألف مد تحمل إلى الباب. وصالحه أهل تومان على مائة رأس
نصفين وعشرين ألف مد. ثم دخل أرض وردكران فصالحوه. ثم أتى حمرين وافتتح
حصنهم، ثم أتى سبدان فافتتحها صلحا، ثم نزل صاحب اللكز في قلعته وقد
امتنع من أداء الوظيفة، فخرج يريد ملك الخزر فأصيب بسهم ومات وصالح أهل
اللكز مروان، وأدخل عامله وسار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا، وسار إلى
الرودانيّة فأوقع بهم ورجع.
خلع الحرث بن شريح [1] بخراسان
كان الحرث هذا عظيم الأزد بخراسان فخلع سنة ست عشرة ولبس السواد، ودعا
إلى كتاب الله وسنة نبيّه والبيعة للرضا على ما كان عليه دعاة بني
العبّاس هناك. وأقبل الى الغاربات [2] وجاءته رسل عاصم مقاتل بن حيّان
النبطيّ والخطّاب بن محرز السلميّ فحبسهما وفرّوا [3] من السجن إلى
عاصم بدم الحرث وغدره. وسار الحرث من الغاربات إلى بلخ وعليها نصر بن
سيّار والتخيبيّ، فلقياه في عشرة آلاف وهو في أربعة فهزمهم، وملك بلخ
واستعمل عليها سليمان بن عبد الله بن حازم. وسار إلى الجوزجان [4]
عليها ثم سار إلى مرو ونمي إلى عاصم أنّ أهل مرو يكاتبونه فاستوثق منهم
بالقسامة وخرج وعسكر قريبا من مرو، وقطع الجسور وأقبل الحرث في ستين
ألفا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين الجوزجان والغاربات، وملك
الطالقان وأصلحوا القناطر ثم نزع محمد بن المثنّى في ألفين من الأزد
وحمّاد بن عامر
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الحرث بن سريج.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: الغارياب
[3] الأصح أن يقول وفرّا.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 183: «وسار إلى الجوزجان
فغلب عليها وعلى الطالقان ومروالروذ.»
(3/115)
الجابي في مثلها من بني تميم إلى عاصم،
ولحقوا به. ثم اقتتلوا فانهزم الحرث وغرق كثير من أصحابه في نهر مرو
وقتلوا قتلا ذريعا. وكان ممن غرق حازم. ولما قطع الحرث نهر مرو ضرب
رواقه واجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس وكفّ عاصم عنهم.
ولاية أسد القسري الثانية بخراسان
كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أنّ خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى
العراق ليكون مددها قريب الغوث، فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله
القسري وكتب إليه: ابعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسدا فسار
على مقدمته محمد بن مالك الهمدانيّ. (ولما بلغ عاصم) الخبر راود الحرث
بن شريح على الصلح وأن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه الكتاب والسنة،
فإن أبى اجتمعا وأبى بعض أهل خراسان ذلك فانتقض بينهما واقتتلا، فانهزم
الحرث وأسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم. وبعث بالفتح إلى هشام مع محمد
بن مسلم العنبريّ فلقيه أسد بالري وجاء إلى خراسان فبعث عاصما وطلبه
بمائة ألف درهم، وأطلق عمارة بن حزيم وعمّال الجنيد. ولم يكن لعاصم
بخراسان إلا مرو ونيسابور وكانت مروالروذ للحرث، وواصل لخالد بن عبيد
الله الهجريّ على مثل رأي الحرث. فبعث أسد عبد الرحمن بن نعيم في أهل
الكوفة والشام إلى الحرث، وسار هو بالناس إلى آمد.
فخرج إليه زياد القرشيّ مولى حيّان النبطي في العسكر، فهزمهم أسد
وحاصرهم حتى سألوا الأمان، واستعمل عليهم يحيي بن نعيم بن هبيرة
الشيبانيّ، وسار إلى بلخ، وقد بايعوا سليمان بن عبد الله بن حازم. فسار
حتى قدمها ثم سار منها إلى ترمذ والحرث محاصر لهما، وأعجزه وصول المدد
إليها فخرج إلى بلخ، وخرج أهل ترمذ فهزموا الحرث وقتلوا أكثر أصحابه.
ثم سار أسد إلى سمرقند ومرّ بحصن زمّ وبه أصحاب الحرث فبعث إليهم وقال:
إنما نكرتم منا سوء السيرة ولم يبلغ ذلك النساء واستحلال الفروج ولا
مظاهرة المشركين على مثل سمرقند وأعطاه الأمان على تسليم سمرقند،
وهدّده إن قاتل بأنه لا يؤمنه أبدا. فخرج إلى الأمان وسار معه إلى
سمرقند فأنزلهم على الأمان ثم رجع أسد إلى بلخ وسرّح جديعا الكرماني
إلى القلعة التي فيها ثقل الحرث وأصحابه في طخارستان. فحاصرها وفتحها
وقتل مقاتلهم ومنهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحرث. وباع سبيهم في سوق
بلخ وانتقض على الحرث
(3/116)
أربعمائة وخمسون من أصحابه بالقلعة،
ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي. فقال لهم الحرث: إن كنتم مفارقيّ ولا
بدّ فاطلبوا الأمان، وإن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونه لكم، فأبوا إلّا
أن ارتحل، فبعثوا بالأمان فلم يجبهم إليه. وسرّح جديعة الكرمانيّ في
ستة آلاف فحصرهم حتى نزلوا على حكمه وحمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن
ميمون القاضي. فقتلهم وكتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين واتخذ أسد
مدينة بلخ دارا ونقل إليها الدواوين. ثم غزا طخارستان وأرض حبونة [1]
فغنم وسبى.
مقتل خاقان
ولما كانت سنة تسع عشرة غزا أسد بن عبد الله بلاد الختّل فافتتح منها
قلاعا وامتلأت أيدي العسكر من السبي والشاء وكثب بن السائحي [2] صاحب
البلاد يستجيش خاقان على العرب، ويضعفهم له فتجهز وخفف من الأزودة
استعجالا للعرب فلما أحس به ابن السائحيّ بعث بالنذير إلى أسد فلم
يصدّقه، فأعاد عليه إني الّذي استمددت خاقان لأنك معّرت البلاد، ولا
أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب واستطالة خاقان عليّ، فصدّقه
حينئذ أسد وبعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيليّ، الّذي كان ولي
سجستان، وبعث معه المشيخة كثيّر بن أميّة، وأبا سفيان بن كثيّر الخزاعي
وفضيل بن حيّان المهري وغيرهم وأمدّهما بجند آخر. وجاء في أثرهم فانتهى
إلى نهر بلخ وقد قطعه إبراهيم بن عاصم بالسبي والأثقال، فخاض النهر من
ثلاثة وعشرين موضعا، وحمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة فما استكمل
العبور حتى طلعت عليهم الترك وعلى المسلمة الأزد وتميم. فحمل خاقان
عليهم فانكشفوا فرجع أسد إلى عسكره وخندق. وظنوا أنّ خاقان لا يقطع
النهر فقطع النهر إليهم وقاتله المسلمون في معسكرهم وباتوا والترك
محيطون بهم فلما أصبحوا لم يروا منهم أحدا فعلموا أنهم اتبعوا الأثقال
والسبي، واستعلموا علمها من الطلائع، فشاور أسد الناس فأشاروا بالمقام
وأشار نصر بن سيّار باتباعهم يخلص الأثقال ويقطع شقة لا بد من قطعها،
فوافقه أسد وطيّر النذير إلى إبراهيم بن عاصم. وصبح خاقان للأثقال وقد
خندقوا عليهم فأمر أهل الصغد بقتلهم فهزمتهم مسلحة المسلمين فصعد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 198: حبوية. وفي نسخ اخرى: حبوية.
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 200: انسايجي.
(3/117)
على تلّ حتى رأى المسلمين من خلفهم. وأمر
الترك أن يأتوهم من هنالك ففعلوا وخالطوهم في معسكرهم وقتلوا صاغان
خذاه وأصحابه وأحسوا بالهلاك وإذا بالغبار قد رهج والترك يتنحّون قليلا
قليلا. وجاء أسد ووقف على التلّ الّذي كان عليه خاقان وخرج إليه بقية
الناس وجاءته امرأة صاغان خذاه معولة فأعول معها، ومضى خاقان يقود أسرى
المسلمين في الآفاق ويسوق الإبل الموقورة والجواري وأراد أهل العسكر
قتالهم فمنعهم أسد ونادى رجل من عسكر خاقان وهو من أصحاب الحرث بن شريح
يعيّر أسدا ويحرّضه ويقول: قد كان لك عن الختّل مندوحة وهي أرض آبائي
وأجدادي، قد كانت ما رأيت، ولعلّ الله ينتقم منك. ومضى أسد إلى بلخ
فعسكر في مرجها حتى جاء الشتاء، فدخل البلد وشتّى فيها. وكان الحرث بن
شريح بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان وأغراه بغزو خراسان وزحفوا إلى
بلخ. وخرج أسد يوم الأضحى فخطب الناس وعرّفهم بأن الحرث بن شريح استجلب
الطاغية ليطفئ نور الله ويبدّل دينهم، وحرّضهم على الاستنصار باللَّه
وقال أقرب ما يكون العبد للَّه ساجدا. ثم سجد وسجد الناس وأخلصوا
الدعاء وخرج للقائهم وقد استمدّ خاقان من وراء النهر، وأهل طخارستان
وحبونة في ثلاثين ألفا وجاء الخبر إلى أسد وأشار بعض الناس بالتحصّن
منهم بمدينة بلخ. واستمدّ خالد وهشام. وأبى الأسد إلّا اللقاء، فخرج
واستخلف على بلخ الكرماني بن علي، وعهد إليه أنه لا يدع أحدا يخرج من
المدينة. واعتزم نصر بن سيّار والقاسم بن نجيب وغيرهم على الخروج فأذن
لهم وصلّى بالناس ركعتين وطوّل. ثم دعا وأمر الناس بالدعاء ونزل من
وراء القنطرة ينتظر من تخلف، ثم بدا له وارتحل فلقي طليعة خاقان وأسر
قائدهم وسار حتى نزل على فرسخين من الجوزجان ثم أصبحوا وقد تراءى
الجمعان وأنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب ومعه الجوزجان (أهـ) . وحملت
الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد، فشدت عليهم الأسد وبنو تميم
والجوزجان من الميمنة فانكشفوا إلى خاقان وقد انهزم والحرث معه واتبعهم
الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم واستاقوا مائة وخمسين ألفا من الشاء ودواب
كثيرة. وسلك خاقان غير الجادّة والحرث بن شريح [1] ولقيهم أسد عند
الطريق. وسلك الجوزجان بعثمان بن عبد الله بن الشخّير طريقا،
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 205: وأخذ خاقان طريقا
في الجبل والحرث يحميه وسار منهزما.»
(3/118)
يعرفها حتى نزلوا على خاقان وهو آمن،
فتركوا الأبنية والقدور تغلي وبناء العرب والموالي والعسكر مشحون من
آنية الفضّة، وركب خاقان والحرث يمانع عنه. وأعجلوا امرأة خاقان عن
الركوب فقتلها الخصيّ الموكل بها. وبعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان
يفادون بها أسراهم، وأقام خمسة أيام وانصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه.
ونزل الجوزجان وخاقان هارب أمامه. وانتهى خاقان إلى جونة الطخاريّ،
فنزل عليه، وانصرف أسد إلى بلخ، وأقام خاقان عند جونة حتى أصلح آلته،
وسار وسبيه بها فأخذه جدكاوش أبو فشين فأهدى إليه وأتحفه وحمل أصحابه
يتخذ بذلك عنده يدا. ثم وصل خاقان بلاده وأخذ في الاستعداد في الحرب
ومحاصرة سمرقند وحمل الحرث وابن شريح وأصحابه على خمسة آلاف برذون.
ولاعب خاقان بالنرد كورصول يوما فغمزه كورصول فأنف وتشاجر، فصك كورصول
يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يده فتنحّى وجمع. ثم بيّت خاقان فقتله
وافترق الترك وحملوه وتركوه بالعراء فحمله بعض عظمائهم ودفنه. وكان أسد
بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عبد الله فأخبره وبعث به إلى هشام فلم
يصدّقه، ثم بعده القاسم بن نجيب بقتل خاقان، فحثّت قيس أسدا وخالدا،
وقالوا لهشام: استقدم مقاتل بن حيّان. فكتب بذلك إلى خالد، فأرسل إلى
أسد أن يبعث به فقدم على هشام والأبرش وزيره جالس عنده، فقصّ عليه
الخبر فسرّ بذلك وقال لمقاتل: ما حاجتك؟ قال يزيد بن المهلّب أخذ من
حيّان أبي مائة ألف درهم بغير حق، فأمر بردّها عليّ. فاستحلفه وكتب له
بردها، وقسّمها مقاتل بين ورثة حيّان. ثم غزا أسد الختّل بعد مقتل
خاقان، وقدم مصعب بن عمر الخزاعيّ إليها فسار إلى حصن بدرطرخان فاستأمن
له أن يلقي أسدا فأمنه وبعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم، وراوده
على ذلك فأبى أسد وردّه إلى مصعب ليردّه إلى حصنه، فقال له مسلمة بن
أبي عبد الله وهو من الموالي: إن أمير المؤمنين سيندم على حبسه. ثم
أقبل أسد بالناس ووعد له المجشّر بن مزاحم بدرطرخان أو قبول ما عرض،
فندم أسد وأرسل إلى مصعب يسأل عنه فوجده مقيما عند مسلمة، فجيء به
وقطعت يده. ثم أمر رجلا من الأزد كان بدرطرخان قتل أباه فضرب عنقه وغلب
على القلعة. وبعث العساكر في بلاد الختّل فامتلأت أيديهم من الغنائم
والسبي وامتنع ولد بدرطرخان
(3/119)
وأمواله في قلعة فوق بلدهم صغيرة فلم يوصل
[1] إليهم.
وفاة أسد
وفي ربيع الأوّل سنة عشرين توفي ابن عبدا القسري بمدينة بلخ واستخلف
جعفر بن حنظلة النهروانيّ فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيّار
بالعمل في رجب.
ولاية يوسف بن عمر الثقفي على العراق وعزل
خالد
وفي هذه السنة عزل هشام خالدا عن أعماله جميعها بسعاية أبي المثنّى
وحسّان النبطيّ وكانا يتوليان ضياع هشام بالعراق، فنقلا على خالد وأمر
الأشدق بالنهوض على الضياع وأنهى ذلك حسّان بعد أبي المثنّى، وأنّ غلته
في السنة ثلاثة عشر ألف ألف فوقرت في نفس هشام. وأشار عليه بلال بن أبي
بردة والعريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام ويضمنون له الرضا فلم
يجبهم. ثم شكا من خالد بعض آل عمر والأشدق بأنه أغلظ له في القول
بمجلسه، فكتب إليه هشام يوبّخه ويأمره بأن يمشي ساعيا على قدميه إلى
بابه ويترضاه ونميت عنه من هذا أقوال كثيرة وأنه يستقل ولاية العراق،
فكتب إليه هشام: يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي
بشرف، يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا وأنت من بجيلة
القليلة الذليلة؟ أمّا والله إني لأظنّ أنّ أوّل من يأتيك صقر من قريش
يشدّ يديك إلى عنقك. ثم كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي وهو باليمن يأمره
أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولّاه ذلك. فسار إلى
الكوفة ونزل قريبا منها وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده وأهدى
إليه وصيفا ووصيفة سوى الأموال والثياب ومرّ يوسف وأصحابه ببعض أهل
العراق فسألوهم فعرضوا وظنّوهم خوارج، وركب يوسف إلى دور ثقيف فكتموا،
ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر ودخل مع الفجر فصلى، وأرسل
إلى خالد وطارق فأخذهما. وقيل إنّ خالدا كان بواسط وكتب إليه بالخبر
بعض أصحابه من دمشق، فركب إلى خالد وأخبره بالخبر وقال: اركب إلى أمير
المؤمنين واعتذر إليه قال: لا أفعل بغير إذن قال: فترسلني أستأذنه قال:
لا. قال: فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده
__________
[1] الأصح ان يقول: لم يصل اليهم.
(3/120)
وهي مائة ألف ألف قال: والله ما أجد عشرة
آلاف ألف قال: أتحملها أنا وفلان وفلان. قال: لا أعطي شيئا وأعود فيه
فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستبقي الدنيا وتبقى
النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند الكوفة
فنقتل ويأكلون الأموال فأبى خالد من ذلك كله فودعه طارق ومضى وبكى ورجع
إلى الكوفة. وخرج خالد إلى الحمّة وجاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية
العراق وأن يأخذ ابن النصرانيّة يعني خالدا وعمّاله فيعذّبهم، فأخذ
الأولاد وسار من يومه واستخلف على اليمن ابنه الصلت وقدم في جمادى
الأخيرة سنة عشرين ومائة فنزل النجف وأرسل مولى كيسان فجاء بطارق ولقيه
بالحيرة فضربه ضربا مبرّحا ودخل الكوفة. وبعث عثمان عطاء بن مقدم إلى
خالد بالحمّة فقدم عليه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على
سبعة آلاف ألف. وقيل أخذ منه مائة ألف وكانت ولايته العراق خمس عشرة
سنة ولما ولي يوسف نزلت الذلّة بالعراق في العرب وصار الحكم فيه إلى
أهل الذمّة.
ولاية نصر بن سيار خراسان وغزوة وصلح الصغد
ولما مات أسد بن عبد الله ولّى هشام على خراسان نصر بن سيّار وبعث إليه
عهده على عبد الكريم بن سليط الحنفيّ، وقد كان جعفر بن حنظلة لما
استخلفه أسد عند موته عرض على نصر أن يولّيه بخارى فقال له: البحتريّ
بن مجاهد مولى بني شيبان لا تقبل فإنك شيخ مضر بخراسان، وكان عهدك قد
جاء على خراسان كلها فكان كذلك ولما ولي نصر استعمل على بلخ مسلم بن
عبد الرحمن وعلى مروالروذ وشاح ابن بكير بن وشاح، وعلى هراة الحرث بن
عبد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن الرحمن القسريّ، وعلى خوارزم
أبا حفص عليّ بن حقنة، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. وبقي أربع سنين لا
يستعمل في خراسان إلّا مضريّا فعمرت عمارة لم تعمر مثلها، وأحسن
الولاية والجباية. وكان وصول العهد إليه بالولاية في رجب سنة عشرين
فغزا غزوات أوّلها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد. وسار إليها من
بلخ ورجع إلى مرو فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة وجعلها على من
كان يخفف عنه منهم وانتهى عددهم ثلاثين ألفا من الصنفين وضعت عن هؤلاء
وجعلت على هؤلاء. ثم غزا الثانية إلى سمرقند، ثم الثالثة إلى الشاش سار
إليها من
(3/121)
مرو ومعه ملك بخارى وأهل سمرقند وكشّ ونسف
في عشرين ألفا. وجاء إلى نهر الشاش فحال بينه وبين عبوره كورصول، عسكر
نصر في ليلة ظلماء، ونادى نصر لا يخرج أحد وخرج عاصم بن عمير في جند
سمرقند، فجاولته خيل الترك ليلا وفيهم كورصول فأسره عاصم وجاء به إلى
نصر فقتله وصلبه على شاطئ النهر فحزنت الترك لقتله وأحرقوا أبنيته
وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم. وأمر نصر بإحراق عظامه لئلا
يحملوها بعد رجوعه. ثم سار إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس، وكتب إليه
يوسف بن عمران ليسير إلى الحرث بن شريح في الشاش ويخرّب بلادهم
ويسبيهم. فسار لذلك وجعل على مقدّمته يحيى بن حصين وجاء بهم إلى الحرث
وقاتلهم وقتل عظيما من عظماء الترك وانهزموا. وجاء ملك الشاش في الصلح
والهدنة والرهن واشترط نصر عليه إخراج الحرث بن شريح من بلده فأخرجه
إلى فاراب.
واستعمل على الشاش ينزل ابن صالح مولى عمرو بن العاص. ثم سار إلى أرض
فرغانة وبعث أمّه في إتمام الصلح، فجاءت لذلك وأكرمها نصر وعقد لها
ورجعت. وكان الصغد لما قتل خاقان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم، فلما ولي
نصر بعث إليهم في ذلك وأعطوه ما سألوه من الشروط، وكان أهل خراسان قد
نكروا شروطهم، وكان منها أن لا يعاقب من ارتدّ عن الإسلام إليهم ولا
يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة وحكم وعاب الناس ذلك على نصر لما أمضاه لهم.
فقال: لو عاينتم شكوتهم في المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم. وأرسل إلى
هشام في ذلك فأمضاه وذلك سنة ثلاث وعشرين.
ظهور زيد بن على ومقتله
ظهر زيد بن عليّ بالكوفة خارجا على هشام داعيا للكتاب والسنّة وإلى
جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة
الفيء وردّ المظالم وأفعال الخير ونصر أهل البيت. واختلف في سبب خروجه
فقيل: إنّ يوسف ابن عمران لما كتب في خالد القسريّ كتب إلى هشام أنه
شيعة لأهل البيت، وأنه ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار
وردّ عليه الأمن، وأنه أودع زيدا وأصحابه الوافدين عليه مالا، فكان زيد
قد قدم على خالد بالعراق هو ومحمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، وداود
بن علي بن عبد الله بن عبّاس فأجازهم ورجعوا إلى المدينة
(3/122)
فبعث هشام عنهم وسألهم فأقرّوا بالجائزة
وحلفوا على ما سوى ذلك وأنّ خالدا لم يودعهم شيئا فصدّقهم هشام وبعثهم
إلى يوسف فقاتلوا خالدا وصدّقهم الآخر، وعادوا إلى المدينة ونزلوا
القادسية. وراسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم، وقيل في سبب ذلك، إنّ
زيدا اختصهم مع ابن عمه جعفر ابن الحسن المثنّى في وقف عليّ، ثم مات
جعفر فخاصم أخوه عبد الله زيدا وكانا يحضران عند عامل خالد بن عبد
الملك بن الحرث، فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة وأنكر زيد من خالد
إطالته للخصومة وأن يستمع لمثل هذا فأغلظ له زيد وسار إلى هشام فحجبه،
ثم أذن له بعد حين فحاوره طويلا ثم عرض له بأنه ينكر الخلاف وتنقصه. ثم
قال له: أخرج؟ قال: نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره! فسار إلى الكوفة
وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: ناشدتك الله الحق بأهلك ولا
تأت الكوفة وذكّره بفعلهم مع جدّه وجدّه يستعظم ما وقع به. وأقبل
الكوفة فأقام بها مستخفيا ينتقل في المنازل واختلف إليه الشيعة وبايعه
جماعة منهم: مسلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسيّ ومعاوية بن إسحاق بن
زيد بن حارثة الأنصاري وناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته. ثم
يقول: أتبايعون على ذلك؟ فيقولون: نعم فيضع يده على أيديهم ويقول عهد
الله عليك وميثاقه وذمّته وذمّة نبيه بيقين تتبعني ولا تقاتلني مع
عدوّي ولتنصحنّ لي في السر والعلانية. فإذا قال نعم وضع يده على يده ثم
قال: اللَّهمّ اشهد فبايعه خمسة عشر ألفا وقيل أربعون. وأمرهم
بالاستعداد وشاع أمره في الناس وقيل: إنه أقام في الكوفة ظاهرا ومعه
داود بن عليّ ابن عبد الله بن عبّاس لما جاءوا لمقاتلة خالد فاختلف
إليه الشيعة، وكانت البيعة. وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمران فأخرجه من
الكوفة ولحق الشيعة بالقادسية أو الغلبية وعذله داود بن عليّ في الرجوع
معه وذكره حال جدّه الحسين فقالت الشيعة لزيد: هذا إنما يريد الأمر
لنفسه ولأهل بيته فرجع معهم ومضى داود إلى المدينة. ولما أتى الكوفة
جاءه مسلمة بن كهيل فصدّه عن ذلك وقال أهل الكوفة لا يعوّلون لك. وقد
كان مع جدّك منهم أضعاف من معك ولم تعاوله، وكان أعزّ عليهم منك على
هؤلاء فقال له: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: فتأذن لي
أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا أهلك نفسي، فخرج
لليمامة وكتب عبد الله بن الحسن المثنّى إلى زيد يعذله ويصدّه فلم يصغ
إليه وتزوّج نساء بالكوفة وكان يختلف إليهنّ والناس يبايعونه، ثم أمر
(3/123)
أصحابه يتجهّزون. ونمى الخبر إلى يوسف بن
عمر فطلبه وخاف فتعجّل الخروج وكان يوسف بالحيرة وعلى الكوفة الحكم بن
الصلت وعلى شرطته عمر بن عبد الرحمن من القاهرة ومعه عبيد الله بن
عبّاس الكندي في ناس من أهل الشام. ولما علم الشيعة أنّ يوسف يبحث عن
زيد جاء إليه جماعة منهم فقالوا: ما تقول في الشيخين؟
فقال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، وما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا
بخير. وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الناس فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس وعملوا
بالكتاب والسنّة. قال: فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟
فقال: إنّ هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين فإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنّة
وأن نحيي السنن ونطفئ البدع، فإن أجبتم سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم
بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام الحق يعنون محمدا
الباقر، وأنّ جعفرا ابنه إمامنا بعده، فسمّاهم زيد الرافضة ويقال إنما
سمّاهم الرافضة حيث فارقوه ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بأن يجمع أهل
الكوفة في المسجد فجمعوا وطلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن
حارثة فخرج منها ليلا واجتمع إليه ناس من الشيعة وأشعلوا النيران
ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، وأصبح جعفر بن أبي العباس الكندي فلقى
اثنين من أصحاب زيد يناديان بشعاره فقتل واحدا وأتى بالآخر إلى الحكم
فقتله، وأغلق أبواب المسجد على الناس وبعث إلى يوسف بالخبر فسار من
الحيرة وقدم الريّاف بن سلمة الأراثيني في ألفين خيالة وثلاثمائة
ماشية. وافتقد زيد الناس فقيل إنهم في الجامع محصورون، ولم يجد معه إلا
مائتين وعشرين. وخرج صاحب الشرطة في خيله فلقي نصر بن خزيمة العبسيّ من
أصحاب زيد ذاهبا إليه فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه وحمل زيد على أهل
الشام فهزمهم وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزدي ممن بايعه وناداه فلم
يخرج إليه.
ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام فهزمهم ثم دخل الكوفة،
والريات في اتباعه فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة:
أفعلتموها حسينية؟ قال:
أمّا أنا فو الله لأموتنّ معك وإنّ الناس بالمسجد فامض بنا إليهم فجاء
إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق
المسجد فانصرفوا عند المساء. وأرسل يوسف بن عمر من الغد العبّاس ابن
سعد المزني في أهل الشام فجاءه في دار الزرق وقد كان أوى إليها عند
المساء، فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر.
(3/124)
ثم حملوا على أصحاب العبّاس فهزمهم زيد
وأصحابه وعبأهم يوسف بن عمر من العشيّ ثم سرّحهم فكشفهم أصحاب زيد ولم
يثبت خيلهم لخيله. وبعث إليهم يوسف بن عمر بالقادسية واشتدّ القتال
وقتل معاوية بن زيد ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه وأهل
الشام يظنون أنهم تحاجزوا ولما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا
عليه الماء وأصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور ودلّه بعض
الموالي على قبر زيد فاستخرجه وقطع رأسه وبعث بها إلى يوسف بالحيرة،
فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق وأمر يوسف الحكم أن يصلب زيدا
بالكناسة ونصر ابن خزيمة ومعاوية بن إسحاق ويحرسهم فلما ولي الوليد أمر
بإحراقهم واستجار يحيي ابن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى
سكن المطلب ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية.
ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية
كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن عليّ بن
عبد الله بن عبّاس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة أيام عمر بن
عبد العزيز، لمّا مرّ أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة ذاهبا
وجائيا من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من
أعمال البلقاء وهلك هنالك وأوصى له بالأمر. وكان أبو هاشم قد علّم
شيعته بالعراق وخراسان وأنّ الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عبد الله
بن عبّاس. فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمدا وبايعوه سرّا وبعث
دعاته منهم إلى الآفاق وكان الّذي بعث إلى العراق مسيرة بن والي خراسان
محمد بن حبيش، وأمّا عكرمة السرّاج وهو أبو محمد الصادق وحيّان العطّار
خال إبراهيم بن سلمة فجاءوا إلى خراسان ودعوا إليه سرّا وأجابهم الناس
وجاءوا بكتب من أجاب إلى مسيرة انتهى. فبعث بها إلى محمد واختار أبو
محمد الصادق اثني عشر رجلا من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم وهم:
سليمان بن كثيّر الخزاعي ولاهز بن قريط التميمي، وأبو النجم عمران بن
إسماعيل مولى أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق
الخزاعي، وأبو حمزة بن عمر ابن أعين مولى خزاعة وأخوه عيسى، وأبو علي
شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة. واختار بعده سبعين رجلا وكتب
إليه محمد بن علي كتابا يكون لهم مثالا
(3/125)
يقتدون به في الدعوة، وأقاموا على ذلك ثم
بعث مسيرة رسله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة،
وخلافة يزيد بن عبد الملك. وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم
قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم وولد محمد ابنه عبد الله السفّاح سنة أربع
ومائة، وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان فأخرجه لهم
ابن خمسة عشر يوما قال: هذا صاحبكم الّذي يتمّ الأمر على يده، فقبلوا
أطرافه وانصرفوا. ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع
الجنيد بن عبد الرحمن فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد
الصادق ومحمد بن حبيش وعمّار العبادي خال الوليد الأزرق دعاه إلى
خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر
به منهم وصلبه وأقبل عمّار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن
علي بذلك فأجابه: الحمد للَّه الّذي صدق دعوتكم ومقالتكم وقد بقيت منكم
قتلى ستعدّ. ثم كان أوّل من قدّم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد
مولى همذان بعثه محمد بن عليّ سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام وقال
له: انزل في اليمن وتلطّف لمضر ونهاه عن الغالب النيسابورىّ شيعة بني
فاطمة. فشتّى زياد بمرو ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة، ثم عاد إلى
أمره، فأحضره أسد وقتله في عشرة من أهل الكوفة ثم جاء بعدهم إلى خراسان
رجل من أهل الكوفة اسمه كثيّر ونزل على أبي الشحم وأقام يدعو سنتين أو
ثلاثة، ثم أخذ أسد بن عبد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة. أخذ
سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريط بثلاثمائة
سوط وشهد حسن ابن زيد الأزدي ببراءتهم فأطلقهم. ثم بعث بكير بن هامان
سنة ثماني عشرة عمّار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو وتسمّى بخراش
وأطاعه الناس. ثم نزل دعوتهم بدعوة الحزمية [1] فأباح النساء وقال: إنّ
الصوم إنما هو عن ذكر الإمام وأشار إلى إخفاء اسمه والصلاة الدعاء له،
والحج القصد إليه وكان خراش هذا نصرانيّا بالكوفة وأتبعه على مقالته
مالك بن الهيثم والحريش بن سليم. وظهر أسد على خبره وبلغ الخبر بذلك
إلى محمد بن عليّ فنكر عليهم قبولهم من خراش وقطع مراسلتهم فقدم عليه
ابن كثيّر منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم، وكتب معه إليهم
كتابا مختوما لم يجدوا فيه غير البسملة، فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم
__________
[1] وفي نسخة ثانية الخرّميّة.
(3/126)
عليهم. ثم بعث محمد بن بكير بن بان وكتب
معه بكذب خراش فلم يصدّقوه فجاء إلى محمد وبعث معه عصيا مضبّية بعضها
بالحديد وبعضها بالنحاس ودفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا
السيرة فتابوا ورجعوا وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين وعهد ابنه
إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمّونه الإمام.
وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه والدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست
وعشرين ومائة، ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية
والسيرة فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير
على إبراهيم. ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع وعشرين وقد اختلف في
أوّليته اختلافا كثيرا وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد
فقيل: كان من ولد بزرجمهر، ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى
السرّاج، فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين ونشأ بها واتصل بإبراهيم
الإمام وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار فسمّاه إبراهيم
الإمام عبد الرحمن وزوجة أبيه أبي النجم عمران ابن إسماعيل من الشيعة
فبنى بها بخراسان وزوّج ابنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب.
وابنته أسماء من فهم بن محرز فأعقبت فاطمة وهي التي يذكرها الحزمية [1]
.
وقيل في اتصاله بإبراهيم الإمام أنّ أبا مسلم كان مع موسى السرّاج
وتعلم منه صناعة السروج وكان يتجهّز فيها بأصبهان والجبال والجزيرة
والموصل واتصل بعاصم بن يونس العجليّ صاحب عيسى السراج وابني أخيه عيسى
وإدريس ابني معقل، وإدريس هو جد أبي دلف ونمى إلى يوسف بن عمران
العجليّ من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري. وكان أبو مسلم
معهم في السجن بخدمتهم وقبل منهم الدعوة وقيل لم يتصل بهم من عيسى
السرّاج وإنما كان من ضياع بني العجليّ بأصبهان أو الجبل. وتوجه سليمان
بن كثيّر ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريط وقحطبة بن شبيب من خراسان
يريدون إبراهيم الإمام بمكّة، فمرّوا بعاصم بن يونس وعيسى وإدريس ابني
معقل العجليّ بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم وأخذوه
ولقوا إبراهيم الإمام بمكّة فأعجبه فأخذه. وكان يخدمه ثم قدم النقباء
بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجّه من قبله إلى خراسان فبعث
معه أبا مسلم. فلما تمكن ونوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله
بن عبّاس وكان من أولية هذا الخبر أنّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية الخرّمية.
(3/127)
جارية لعبد الله بن العبّاس ولدت لغير رشدة
[1] فحدّها واستعبد وليدها وسمّاه سليطا فنشأ واختص بالوليد. وادّعى
أنّ عبد الله بن عبّاس أقرّ بأنه ابنه وأقام البينة على ذلك وخاصم عليّ
بن عبد الله في الميراث وأذاه. وكان في صحابته عمر الدنّ من ولد أبي
رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها سليط بالخبر،
فاستعدت الوليد على عليّ فأنكر وحلف، فنبشوا في البستان فوجدوه. فأمر
الوليد بعليّ فضرب ليدلّه على عمر الدنّ. ثم شفع فيه عبّاد بن زياد
فأخرج إلى الحميمة. ولما ولي سليمان ردّه إلى دمشق وقيل: إنّ أبا مسلم
كان عبدا للعجليين، وابن بكير بن هامان كان كاتبا لعمّال بعض السند
وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم.
وكان العجليون في الحبس، وأبو مسلم العبسيّ بن معقل. فدعاهم بكير إلى
رأيه فأجابوه، واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم
وبعث به إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج من
الشيعة. فسمع منه وحفظ وصار يتردّد إلى خراسان. وقيل كان لبعض أهل هراة
وابتاعه منه إبراهيم الإمام، ومكث عنده سنين وكان يتردّد بكتبه إلى
خراسان ثم بعثه أميرا على الشيعة وكتب إليهم بالطاعة له، وإلى أبي سلمة
الخلّال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذه إلى خراسان فنزل على سليمان بن
كثيّر وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم جاء سليمان
بن كثيّر ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكّة سنة سبع وعشرين بعشرين ألف
دينار للإمام إبراهيم ومائتي ألف درهم ومسك ومتاع كثير ومعهم أبو مسلم
وقالوا: هذا مولاك وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر
الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلّال وهو رضى فكتب إليه
إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدّقوه
وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم. ثم بعث إبراهيم في
سنة ثمان وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان وكتب له: إني قد أمرته
بأمري فاسمعوا له وأطيعوا. وقد أمّرته على خراسان وما غلبت عليه
فارتابوا من قوله ووفدوا على إبراهيم الإمام من قابل مكّة وذكر له أبو
مسلم أنهم لم يقبلوه. فقال لهم: قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله،
وكان عرضه على سليمان بن كثيّر ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا. وإني قد
أجمع رأيي على أبي مسلم وهو منّا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا. وقال
لأبي مسلم: انزل في أهل
__________
[1] الرشدة ضد الزنية ويقال: ولد لرشدة اي شرعي، وولد لغير رشدة اي ابن
زنى. (قاموس) .
(3/128)
اليمن وأكرمهم. فإنّ بهم يتمّ الأمر وآتهم
البيعة. وأمّا مضر فهم العدوّ والغريب، واقتل من شككت فيه وإن قدرت أن
لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل وارجع إلى سليمان بن كثيّر
واكتف به مني وسرّحه معهم فساروا إلى خراسان.
وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن
يزيد
توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة
لعشرين سنة من خلافته وولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك
كما مرّ، وكان الوليد متلاعبا وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه
فلم يمكنه. وكان يضرب من يأخذه في صحبته، فخرج الوليد في ناس من خاصته
ومواليه وخلف كاتبه عيّاض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال فضربه هشام وحبسه.
ولم يزل الوليد مقيما بالبرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد
السفياني على البريد بكتاب سالم ابن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل
بالخبر فسأل عن كاتبه عيّاض فقال: لم يزل محبوسا حتى مات هشام، فأرسل
إلى الحرّاق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاما من شيء طلبه. ثم
خرج بعد موته من الحبس وختم أبواب الخزائن ثم كتب الوليد من وقته إلى
عمه العبّاس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام
وولده وعمّاله وخدمه إلّا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه في الرّفق
بالوليد، فانتهى العبّاس لما أمر به الوليد. ثم استعمل الوليد العمّال
وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة فجاءته بيعتهم وكتب مروان ببيعته واستأذن
في القدوم. ثم عقد الوليد من سنته لابنيه الحكم وعثمان بعده وجعلهما
وليي عهده وكتب بذلك إلى العراق وخراسان.
ولاية نصر للوليد على خراسان
وكتب الوليد في سنته إلى نصر بن سيّار بولاية خراسان وأفرده بها، ثم
وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعمّاله فردّ إليه الوليد
خراسان. وكتب يوسف إلى نصر بالقدوم ويحمل معه الهدايا والأموال وعياله
جميعا وكتب له الوليد بأن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة
ويجمع له البراذين الغرّة [1] ويجمع بذلك إليه في
__________
[1] الغرّة لا تتناسب مع معنى الجملة ولعلها الفرة جمع فارة ويقال
للبرذون والبغل والحمار فاره إذا كان سيورا.
(3/129)
وجوه أهل خراسان، واستحثه رسول يوسف
فأجازه. ثم سار واستخلف على خراسان عصمة بن عبد الله الأسدي وعلى شاش
موسى بن ورقاء وعلى سمرقند حسّان بن [1] من أهل الصغانيان وعلى آمد
مقاتل بن عليّ الصغديّ. وأسرّ إليهم أن يداخلوا الترك في المسير إلى
خراسان ليرجع إليهم وبينا هو في طريقه إلى العراق بيهق لقيه مولى لبني
ليث، وأخبره بقتل الوليد والفتنة بالشام وأنّ منصور بن جمهور قدم
العراق وهرب يوسف بن عمر فرجع بالناس.
مقتل يحيى بن زياد
كان يحيى بن زياد سار بعد قتل أبيه وسكون الطلب عنه كما مرّ فأقام عنه
الحريش ابن عمر ومروان في بلخ ولما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه
من عند الحريش فأحضر الحريش وطالبه بيحيى، فأنكر، فضربه ستمائة سوط،
فجاء ابنه قريش ودلّه على يحيى فحبسه وكتب إلى الوليد فأمره أن يخلي
سبيله وسبيل أصحابه فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد فسار وأقام بسرخس
فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عيّاد يخرجه عنها فأخرجه إلى بيهق
وخاف يحيى بن يوسف بن عمر فسار إلى نيسابور وبها عمر ابن زرارة، وكان
مع يحيى سبعون رجلا ولقوا دواب وأدركهم الإعياء فأخذوها بالثمن. وكتب
عمر بن زرارة بذلك إلى نصر فكتب إليه يأمره بحربهم، فحاربهم في عشرة
آلاف فهزموه وقتلوه، ومروا بهراة فلم يعرضوا لها وسرّح نصر بن سيّار
مسلم بن أحور المازني إليهم فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالا شديدا
وأصيب يحيى بسهم في جبهته فمات. وقتل أصحابه جميعا وبعثوا برأسه إلى
الوليد وصلب بالجوزجان. وكتب الوليد إلى يوسف بن عمر بأن يحرق شلو زيد،
فأحرقه وذراه في الفرات ولم يزل يحيى مصلوبا بالجوزجان حتى استولى أبو
مسلم على خراسان فدفنه ونظر في الديوان أسماء من حضر لقتله فمن كان
حيّا قتله ومن كان ميتا خلفه في أهله بسوء.
مقتل خالد بن عبد الله القسري
قد تقدّم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق وأنه حبس خالدا أصحاب
العراق
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 270: «وحسّان من أهل
الصغانيان بسمرقند» وفي الطبري ج 8 ص 299: وحسان من أهل صغانيان الاسدي
سمرقند.»
(3/130)
وخراسان قبله [1] فأقام بحبسه في الحيرة
ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ابن خالد والمنذر ابن أخيه
أسد واستأذن هشاما في عذابه فأذن له على أنه إن هلك قتل يوسف به فعذبه.
ثم أمر هشام بإطلاقه سنة إحدى وعشرين، فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة
فأقام بها، حتى خرج زيد وقتل وانقضى أمره، فسعى يوسف بخالد عند هشام
بأنه الّذي داخل زيدا في الخروج، فردّ هشام سعايته ووبّخ رسوله وقال:
لسنا نتهم خالدا في طاعة. وسار خالد إلى الصائفة وأنزل أهله دمشق
وعليها كلثوم بن عيّاض القشيريّ، وكان يبغض خالدا. فظهر في دمشق حريق
في ليال، فكتب كلثوم إلى هشام بأنّ موالي خالد يريدون الوثوب إلى بيت
المال ويتطرّقون إلى ذلك بالحريق كل ليلة في البلد. فكتب إليه هشام
بحبس الكبير منهم والصغير والموالي فحبسهم. ثم ظهر على صاحب الحريق
وأصحابه. وكتب بهم الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج ولم يذكر فيهم
أحدا من آل خالد ومواليه فكتب هشام إلى كلثوم يوبّخه ويأمره بإطلاق آل
خالد وترك الموالي فشفع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة، فلما قدم دخل
منزله وأذّن للناس فاجتمعوا ببابه فوبّخهم وقال: إنّ هشاما يسوقهنّ إلى
الحبس كل يوم. ثم قال خرجت غازيا سامعا مطيعا فحبس أهلي مع أهل الجرائم
كما يفعل بالمشركين. ولم يغير ذلك أحد منكم، أخفتم القتل؟ أخافكم الله.
والله ليكفنّ عني هشام أو لأعودن إلى عراقيّ الهوى شاميّ الدار حجازي
الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس. وبلغ ذلك هشاما فقال:
خرف أبو الهيثم. ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام بطلب يزيد بن خالد
فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد وحبسه فيه
فكتب إليه هشام بتخليته ووبّخه انتهى.
ولما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالدا وقال أين ابنك؟ قال: هرب من هشام
وكنّا نراه عندك حتى استخلفك الله فلم نره وطلبناه ببلاد قومه من
الشراة فقال: ولكن خلفته طلبا للفتنة فقال: إنّا أهل بيت طاعة. فقال:
لتأتيني به أو لازهقنّ، نفسك فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما
عنه فأمر الوليد بضربه. ولما قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال
اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فقال له الوليد: إنّ
__________
[1] العبارة هنا مبهمة وغير واضحة وفي الكامل في التاريخ لابن الأثير ج
5 ص 276 «ثم سار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالدا فحبسه بها تمام ثمانية عشر
شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد ... »
(3/131)
يوسف يشتريك بكذا فاضمنها إلي قبل أن أدفعك
إليه. فقال: ما عهدت العرب تباع! والله لو سألتني عودا ما ضمنته. فدفعه
إلى يوسف فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء وعذبه عذابا شديدا وهو لا
يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتدّ في عذابه ثم قتله ودفنه في عباءة
يقال: إنه قتله بشيء وضعه على وجهه. وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام
عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. وذلك في المحرّم سنة ستة وعشرين ومائة.
مقتل الوليد وبيعة يزيد
ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون. حتى نسب إليه
في ذلك كثير من الشنائع مثل رمية المصحف بالسهام حين استفتح فوقع على
قوله: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ 14: 15 وينشدون له في ذلك بيتين
تركتهما لشناعة مغزاهما [1] . ولقد ساءت القالة فيه كثيرا، وكثير من
الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء الصقوها به. قال
المدائني: دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله: ممن أنت؟
فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فوجم، فقال: قل وأنت آمن ولو أنّك مروان
فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص،
فإنه قتل خليفة مجمعا عليه، ارفع حوائجك فرفعها وقضاها. وقال شبيب بن
شبّة:
كنا جلوسا عند المهدي فذكر الوليد فقال المهدي: كان زنديقا فقام ابن
علانة الفقيه [2] فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله عزّ وجلّ أعدل من أن
يولي خلافة النبوّة وأمر الأمّة زنديقا لقد أخبرني عنه من كان يشهده في
ملاعبة وشربه ويراه في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب
التي عليه المصيبة المصبغة. ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض
نظيفة فيلبسها ويشتغل بربه. أترى هذا فعل من لا يؤمن باللَّه؟ فقال
المهدي: بارك الله عليك يا ابن علانة، وإنما كان الرجل محسودا في خلاله
ومزاحما بكبار عشيرة بيته من بني عمومته مع لهو كان يصاحبه، أوجد لهم
به السبيل على نفسه. وكان من خلاله قرض الشعر الوثيق ونظم الكلام
__________
[1]
تهددني بجبار عنيد ... فها انا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشد ... فقل: يا رب خزقني الوليد
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291: ابو علانة الفقيه.
(3/132)
البليغ. قال يوما لهشام يعزّيه في مسلمة
أخيه: إنّ عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى،
واختلّ الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، فتزوّدوا فإنّ خير
الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم.
وامّا حكاية مقتله فإنه لما تعرّض له بنو عمه ونالوا من عرضه أخذ في
مكافأتهم.
فضرب سليمان بن عمه هشام مائة سوط وحلقه وغرّبه إلى معان من أرض الشام،
فحبسه إلى آخر دولته وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرّق بين ابن الوليد
وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة
نساء أبيه.
وخوّفوا بني أمية منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم [1] وطعنوا عليه في
تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدّهم عليه في ذلك
يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسّك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت
اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه
لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة وكان اليمن وقضاعة أكثر
جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف ابن عمر، وصنعوا
على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنيّة بشأن خالد. فازداد واختفى. وأتوا
إلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد
الحكمي فقال: شاور أخاك العبّاس وإلا فأظهر أنه قد بايعك، فإنّ الناس
له أطوع. فشاور العبّاس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سرّا وكان
بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يعظّم
عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد وبعث
بالكتاب إلى العبّاس فتهدّد أخاه يزيد فكتمه فصدّقه. ولما اجتمع ليزيد
أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكرا، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل
دمشق ليلا وقد بايع له أكثر أهلها سرّا وأهل المزّة.
وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فاستوياها فنزل قطنا،
واستخلف عليها ابنه محمدا وعلى شرطته أبو العاج كثيّر بن عبد الله
السلميّ. ونمى الخبر إليهما فكذّباه وتواعد يزيد مع أصحابه بعد المغرب
بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء
حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن
الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة
فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج وهو سكران
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 280: وقد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.
(3/133)
وخزان [1] بيت المال. وبعث عن محمد بن عبد
الملك فأخذه وأخذوا سلاحا كثيرا كان بالمسجد، وأصبح الناس من الغد من
النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزّة والسكاسك وأهل دارا وعيسى
بن شيب الثعلبيّ في أهل درهة وحرستا، وحميد بن حبيب اللّخميّ في أهل
دمّرّعران، وأهل حرش والحديثة ودرير كاوربعيّ بن هشام الحرثي في جماعة
من عرّ وسلامان. ويعقوب بن عمير بن هانئ العبسيّ وجهينة ومواليهم. ثم
بعث عبد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس، فجاء بعبد الملك بن محمد بن
الحجّاج من قصره على الأمان. ثم جهّز يزيد الجيش الى الوليد بمكانه من
البادية مع عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك، ومنصور بن جمهور وقد
كان الوليد لما بلغه الخبر بعث عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق
فأقام بطريقة قليلا، ثم بايع ليزيد وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق
بحمص فيتحصّن بها. قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عبد الله
بن عنبسة وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل فسار
إلى قصر النعمان ابن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحّاك وغيره. وجاء
كتاب العبّاس بن الوليد بأنه قادم عليه، وقاتلهم عبد العزيز ومنصور بعد
أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنّة. فقتله
أصحاب الوليد واشتدّ القتال بينهم وبعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور
لاعتراض العبّاس بن الوليد أن يأتي بالوليد، فجاء به كرها إلى عبد
العزيز وأرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما
بقي على أن ينصرف عنه فأبى. ثم قاتل قتالا شديدا حتى سمع النداء بقتله
وسبّه من جوانب الحومة، فدخل القصر فأغلق الباب وطلب الكلام من أعلى
القصر، فكلّمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكّره بحرمة وفعله فيهم فقال ابن
عنبسة: إنّا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما
حرّم الله، وشرب الخمر ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.
قال: حسبك الله يا أخا السكاسك! فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإنّ فيما
أحل الله سعة عما ذكرت. ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف وقال:
يوم كيوم عثمان فتسوّروا عليه وأخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد
قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه فساروا به
إلى يزيد فأمر بنصبه، فتلطّف له يزيد بن فروة مولى
__________
[1] لعلها خزائن بيت المال.
(3/134)
بني مرّة في المنع من ذلك، وقال: هذا ابن
عمك وخليفة وإنما تنصب رءوس الخوارج ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته. فلم
يجبه، وأطافه بدمشق على رمح ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد وكان معهم
عليه وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين لسنتين وثلاثة أشهر من
بيعته. ولما قتل خطب الناس يزيد فذمّه وثلبه وأنه إنما قتله من أجل
ذلك، ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم وسدّ
الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب وإلّا فلكم ما شئتم من
الخلع.
وكان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس
وهي عشرة عشرة. وردّ العطاء كما كان أيام هشام وبايع لأخيه إبراهيم
بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك حمله على ذلك
أصحابه القدرية لمرض طرقه [1] .
ولما قتل الوليد وكان قد حبس سليمان ابن عمّه هشام بعمان، خرج سليمان
من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق. ثم بلغ مقتله
إلى حمص وأنّ العبّاس بن الوليد أعان على قتله فانتقضوا وهدموا دار
العبّاس وسبوها، وطلبوه فلحق بأخيه يزيد. وكاتبوا الأجناد في الطلب بدم
يزيد وأمّروا عليهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك ومعاوية بن يزيد بن
حصين بن نمير وراسلهم يزيد فطردوا رسوله فبعث أخاه مسرورا في الجيش
فنزل حوّارين. ثم جاء سليمان بن هشام من [2] فردّ عليه ما أخذ الوليد
من أموالهم، وبعث على الجيش وأمر أخاه مسرورا بالطاعة. واعتزم أهل حمص
على المسير إلى دمشق فقال لهم مروان: ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا
الجيش وإنما نقاتله قبل، فيكون ما بعده أهون علينا. فقال لهم السميط بن
ثابت [3] : إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدرية، فقتلوه
وولّوا عليهم محمدا السفياني وقصدوا دمشق، فاعترضهم ابن
__________
[1] بياض بالأصل وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 22: «شتم مروان بن محمد يزيد
بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد فسمّاه الناقص، فسمّاه الناس الناقص
لذلك، وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة، فكان من ذلك
وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمان»
راجع الكامل لابن الأثير ج 5 ص 291- 292.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 293: «فنزلوا حوّارين ثم
قدم على يزيد سليمان بن هشام، فردّ عليه يزيد ما كان الوليد أخذه من
أموالهم ... » وفي الطبري ج 9 ص 23 عبارة واحدة وهي «ثم قدم على يزيد
سليمان بن هشام» .
[3] وفي الكامل ج 5 ص 293: السّمط بن ثابت
(3/135)
هشام بغدرا [1] فقاتلهم قتالا شديدا وبعث
يزيد عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنيّة
العقاب وهشام بن مضاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلاميّة. وبينما سالم
يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنيّة العيقاب فانهزم أهل حمص، ونادى يزيد
بن خالد بن عبد الله القسريّ: الله الله على قومك يا سليمان. فكفّ
الناس عنهم وبايعوا ليزيد. وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد ابن
يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما أهـ. واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن
الحصين وكان لما قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد
الملك فطردوه وتولّى منهم سعيد وضبعان ابنا روح. وكان ولد سليمان
ينزلون فلسطين فأحضروا يزيد بن سليمان وولّوه عليهم. وبلغ ذلك أهل
الأردن فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك. وبعث يزيد سليمان بن هشام في
أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفا، وبعث إلى
ابني روح بالإحسان والولاية، فرجعا بأهل فلسطين. وقدّم سليمان عسكرا من
خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع وخشي أهل طبرية على من
وراءهم، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، ونزلوا بمنازلهم،
فافترقت جموع الأردن وفلسطين وسار سليمان بن هشام ولحقه أهل الأردن
فبايعوا ليزيد وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد
وولّى على فلسطين ضبعان بن روح وعلى الأردن إبراهيم بن الوليد.
ولاية منصور بن جمهور على العراق ثم ولاية
عبد الله بن عمر
لما ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق وخراسان ولم يكن من أهل
الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانيّة، وحنقا على يوسف بقتله
خالد القسري. ولما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره، وحبس اليمانيّة
لما تجتمع المضريّة عليه. فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية. وأقبل
منصور وكتب من عين البقر [2] إلى قوّاد الشام في الحيرة بأخذ يوسف
وعمّاله، فأظهر يوسف الطاعة ولما قرب منصور
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 293: عذراء.
[2] وفي الكامل ج 5 ص 294: عين التمر.
(3/136)
دخل دار عمر ابن محمد بن سعيد بن العاص
ولحق منها بالشام سرّا وبعث يزيد بن الوليد خمسين فارسا لتلقّيه. فلما
أحسّ بهم هرب واختفى، ووجد بين النساء فأخذوه وجاءوا به إلى يزيد فحبسه
مع ابني الوليد، حتى قتلهم مولى ليزيد بن خالد القسري.
ولما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب أفاض العطاء وأطلق من
كان في السجون من العمّال وأهل الخراج، واستعمل أخاه على الري وخراسان،
فسار لذلك فامتنع نصر بن سيّار من تسليم خراسان له. ثم عزل يزيد منصور
بن جمهور لشهرين من ولايته، وولّى على العراق عبد الله بن عمر بن عبد
العزيز وقال: سر إلى أهل العراق فإنّ أهله يميلون إلى أبيك. فسار
وانقاد له أهل الشام وسلّم إليه منصور العمل، وانصرف إلى الشام وبعث
عبد الله العمّال على الجهات واستعمل عمر بن الغضبان بن القبعثرى على
الشرطة وخراج السواد والمحاسبات وكتب إلى نصر بن سيّار بعهده على
خراسان.
انتقاض أهل اليمامة
ولما قتل الوليد كان عليّ بن المهاجر على اليمامة عاملا ليوسف بن عمر
فجمع له المهير بن سليمان بن هلال من بني الدول بن خولة [1] . وسار
إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا وانهزم عليّ وقتل ناس من أصحابه،
وهرب إلى المدينة وملك المهير اليمامة ثم مات. واستخلف عليها عبد الله
بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة. من الدؤل فبعث المندلب [2] بن إدريس
الحنفي على الفلج قرية من قرى بني عامر بن صعصعة فجمع له بني كعب بن
ربيعة بن عامر وبني عمير فقتلوا المندلب وأكثر أصحابه. فجمع عبد الله
ابن النعمان جموعا من حنيفة وغيرها وغزا الفلج وهزم بني عقيل وبني بشير
وبني جعدة وقتل أكثرهم. ثم اجتمعوا ومعهم نمير فلقوا بعض حنيفة
بالصحراء فقتلوهم وسلبوا نساءهم، ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع
وقال لست بدون عبد الله بن النعمان وهذه فترة من السلطان. وأغار
وامتلأت يداه من الغنائم وأقبل ومن معه وأقبلت بنو عامر والتقوا فانهزم
بنو حنيفة ومات أكثرهم من العطش. ورجع بنو عامر بالأسرى والنساء ولحق
عمر بن الوازع باليمامة ثم جمع
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 298: «المهير بن سلمى بن هلال، أحد
بني الدؤل بن حنيفة.»
[2] وفي الكامل لابن الأثير: المندلث بن إدريس الحنفي.
(3/137)
عبيد الله بن مسلم الحنفي جمعا وأغار على
قشير وعكل فقتل منهم عشرين وسمّى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة
واليا على اليمامة من قبل أبيه حتى ولي العراق لمروان فتعرّض المثنّى
لبني عامر وضرب عدّة من بني حنيفة وحلقهم. ثم سكنت البلاد ولم يزل عبيد
الله بن مسلم الحنفي مستخفيا حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي واليا
على العامّة لبني العبّاس ودلّ عليه فقتله.
اختلاف أهل خراسان
ولما قتل الوليد وقدم على نصر عهد خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد
العزيز صاحب العراق، انتقض عليه جديع بن عليّ الكرماني وهو أزدي. وإنما
سمى الكرماني لأنه ولد بكرمان وقال لأصحابه: هذه فتنة فانظروا لأموركم
رجلا.
فقالوا له: أنت! وولّوه. وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد
بن عبد الله، فلما ولي نصر عزله عن الرئاسة بغيره فتباعد ما بينهما.
وأكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني، فاعتزم على حبسه، وأرسل صاحب
حرسه ليأتي به.
وأراد الأزد أن يخلّصوه فأبى، وجاء إلى نصر يعدّد عليه أياديه قبله من
مراجعة يوسف بن عمر في قتله، والغرامة عنه، وتقديم ابنه للرئاسة. ثم
قال: فبدلت ذلك بالإجماع على الفتنة، فأخذ يعتذر ويتنصّل، وأصحاب نصر
يتحاملون عليه مثل مسلم بن أحور وعصمة بن عبد الله الأسدي. ثم ضربه
وحبسه آخر رمضان سنة ست وعشرين. ثم نقب السجن واجتمع له ثلاثة آلاف،
وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على الكتاب والسنّة. فلما
جاء الكرماني قدّمه عبد الملك ثم عسكر نصر على باب مروالروذ، واجتمع
إليه الناس، وبعث سالم بن أحور في الجموع إلى الكرماني وسفر الناس
بينهما على أن يؤمّنه نصر ولا يحبسه. وأجاب نصر إلى ذلك وجاء الكرماني
إليه وأمره بلزوم بيته. ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله، وكلّموه فيه
فأمّنه، وجاء إليه وأعطى أصحابه عشرة عشرة. فلما عزل جمهور عن العراق
وولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خطب نصر قدّام بن جمهور وأثنى على
عبد الله، فغضب الكرماني لابن الجمهور وعاد لجمع المال واتخاذ السلاح.
وكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة ويصلّي خارج المقصورة، ويدخل فيسلّم
ولا يحبس. ثم أظهر الخلاف وبعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش في
(3/138)
صرفه وسفر بينهما الناس في الصلح على أن
يخرج الكرماني من خراسان وتجهّز للخروج إلى جرجان.
أمان الحرث بن شريح وخروجه من دار الحرث
لما وقعت الفتنة بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرماني
عليه بالحرث بن شريح، وكان مقيما ببلاد الترك منذ اثنتي عشرة سنة كما
مرّ، فأرسل مقاتل بن حيّان النبطي يراوده على الخروج من بلاد الترك،
بخلاف ما يقتضي له الأمان من يزيد بن الوليد وبعث خالد بن زياد البديّ
الترمذيّ وخالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد، فكتب
له الأمان وأمر نصرا أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن
عبد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضا. ولما وصل إلى نصر بعث
إلى الحرث بذلك فلقيه الرسول راجعا مع مقاتل بن حيّان وأصحابه ووصل سنة
سبع وعشرين في جمادى الأخيرة وأنزله نصر بمرو، وردّ عليه ما أخذ له،
وأجرى عليه كل يوم خمسين درهما وأطلق أهله وولده. وعرض عليه أن يولّيه
ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل. وقال: لست من الدنيا واللذات في شيء،
وإنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنة وبذلك أساعدك على عدوّك، وإنّما
خرجت من البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور فكيف تزيدني عليه؟ وبعث
إلى الكرماني: إن عمل نصر بالكتاب عضدته في أمر الله ولا أعتبك إن ضمنت
لي القيام بالعدل والسنّة. ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم ومن غيرهم
كثير واجتمع إليه ثلاثة آلاف وأقام على ذلك.
انتقاض مروان لما قتل الوليد
كان مروان بن محمد بن مروان على أرمينية وكان على الجزيرة عبدة بن رياح
العباديّ. وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه فبعث معه مروان ابنه عبد
الملك. فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد، وسار
عبدة عن الجزيرة.
فوثب عبد الملك بالجزيرة وجرزان فضبطهما، وكتب إلى أبيه بأرمينية
يستحثه، فسار طالبا بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها. وكان
معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة. وكان هشام قد
حبسه على إفساد
(3/139)
الجند بإفريقية عند مقتل كلثوم بن عيّاض،
وشفع فيه مروان فأطلقاه واتخذا عنده يدا. فلما سار من أرمينية داخل
ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات واجتمع له الكبير من
جند مروان وناهضه القتال. ثم غلبهم وانقادوا له وحبس ثابت بن نعيم
وأولاده. ثم أطلقهم من حرّان إلى الشام وجمع نيّفا وعشرين ألفا من
الجزيرة ليسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه يشترط ما كان عبد الملك ولّى
أباه محمدا من الجزيرة والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك وبايع
له مروان وانصرف.
وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم
ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته. ويقال إنه كان
قدريا وبايعوا لأخيه إبراهيم من بعده، إلا أنه انتقض عليه الناس ولم
يتم له الأمر وكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة وأقام على
ذلك نحوا من ثلاثة أشهر ثم خلعه مروان ابن محمد على ما يذكر وهلك سنة
اثنتين وثلاثين [1] .
مسير مروان إلى الشام
ولما توفي يزيد وولي أخوه إبراهيم وكان مضعفا، انتقض عليه مروان لوقته،
وسار إلى دمشق. فلما انتهى إلى قنّسرين وكان عليها بشر بن الوليد عاملا
لأخيه يزيد ومعه أخوهما مسرور، ودعاهم مروان إلى بيعته ومال إليه يزيد
بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان فلما تراءى الجمعان مال ابن
هبيرة وقيس إلى مروان وأسلموا بشرا ومسرورا فأخذهما مروان وحبسهما،
وسار بأهل قنّسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا امتنعوا من بيعة إبراهيم.
فوظه إليهم عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك في جند أهل دمشق. فكان
يحاصرهم. فلما دخل مروان رحل عبد العزيز عنهم، وبايعوا مروان وخرج
للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفا ومروان في ثمانين فدعاهم
إلى الصلح وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحكم وعثمان
وليي عهده فأبوا وقاتلوه. وسرّب عسكرا جاءوهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن
فيهم أهل حمص فقتلوا
__________
[1] اي سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
(3/140)
منهم نحوا من سبعة عشر ألفا وأسروا مثلها.
ورجع مروان بالفلّ وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد وحبس
يزيد بن العقّار والوليد بن مصاد الكلبيّين فهلكا في حبسه. وكان ممن
شهد قتل الوليد ابن الحجّاج وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق فاجتمع
له مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان،
خشية أن يطلقهما مروان فيثأرا بأبيهما. وولوا ذلك يزيد بن خالد فبعث
مولاه أبا الأسد فقتلهما وأخرج يوسف ابن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد
السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحة، وأعجلهم خيل مروان فدخل دمشق
وأتى بأبي الوليد ويوسف بن عمر مقتولين فدفنهما، وأتى بأبي عمر
السفياني في قيوده فسلّم عليه بالخلافة وقال: إنّ ولي العهد جعلها لك.
ثم بايعه وسمع الناس فبايعوه وكان أوّلهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين
بن نمير وأهل حمص. ثم رجع مروان إلى خراسان واستأمن له إبراهيم بن
الوليد وسليمان بن هشام وقدما عليه، وكان قدوم سليمان من تدمر بمن معه
من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة فبايعوا لمروان.
انتقاض الناس على مروان
ولما رجع إلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف
على مروان فأجابوه وبعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب وجاء الأصبغ بن
دؤالة الكلبيّ وأولاده، ومعاوية السّكسكيّ فارس أهل الشام وغيرها في
ألف من فرسانهم، ودخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبعة وعشرين وزحف مروان
في العساكر من حرّان ومعه إبراهيم المخلوع وسليمان بن هشام، ونزل عليهم
ثالث يوم الفطر، وقد سدّوا أبوابهم فنادى مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟
قالوا لم ننكث ونحن على الطاعة.
ودخل عمر الوضّاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف وخرجوا
من الباب الآخر وجفل مروان في اتباعهم وعلا الباب. فقتل منهم نحو
خمسمائة وصلبهم وهدم من سورها علوه وأفلت الأصبغ بن دؤالة وابنه
قرافصة. ثم بلغ مروان وهو بحمص خلاف أهل الغوطة وأنهم ولّوا عليهم يزيد
بن خالد القسري وحاصروا دمشق وأميرها زامل بن عمر، فبعث مروان إليهم
ابا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث، وعمر بن الوضّاح في عشرة آلاف.
فلما دنوا من دمشق حملوا عليهم، وخرج إليهم من كان بالمدينة فهزموهم
وقتلوا يزيد بن خالد وبعثوا برأسه إلى مروان وأحرقوا المزّة
(3/141)
وقرى البرامة. ثم خرج ثابت بن نعيم في أهل
فلسطين وحاصر طبرية وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. فبعث
مروان إليه أبا الورد، فلما قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه ولقيه
أبو الورد منهزما فهزمه أخرى، وافترق أصحابه وأسر ثلاثة من ولده وبعث
بهم إلى مروان. وتغيب ثابت وولّى مروان على فلسطين الرّماحس بن عبد
العزيز الكنانيّ فظفر بثابت بعد شهرين وبعث به إلى مروان موثقا فقطعه
وأولاده الثلاثة، وبعثهم إلى دمشق فصلبوه. ثم بايع لابنيه عبد الله
وعبيد الله وزوجهما بنتي هشام، ثم سار إلى ترمذ [1] من دير أيوب وكانوا
قد غوروا المياه فاستعمل المزاد والقرب والإبل وبعث وزيره الأبرش
الكلبيّ إليهم وأجابوا إلى الطاعة. وهرب نفر منهم إلى البلد وهدم
الأبرش سورها ورجع بمن أطاع إلى مروان ثم بعث مروان يزيد ابن عمر بن
هبيرة إلى العراق لقتال الضحّاك الشيبانيّ الخارجي بالكوفة وأمدّه
ببعوث أهل الشام ونزل قرقيسيا ليقدّم ابن هبيرة لقتال الضحّاك. وكان
سليمان بن هشام قد استأذنه بالمقام في الرصافة أياما ويلحق به فرجعت
طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع ابن هبيرة فأقاموا
بالرصافة ودعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب، وسار معهم إلى قنّسرين
فعسكر بها، وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه. وبلغ الخبر مروان فكتب
إلى ابن هبيرة بالمقام ورجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه،
واستباح معسكره وأثخن فيهم وقتل أسراهم، وقتل إبراهيم أكبر ولد سليمان
وخالد بن هشام المخزومي جا [2] أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفا وهرب
سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها وبنى ما كان تهدم من سورها. وسار
مروان إليه فلما قرب منه بيّته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على
الموت، وكان على احتراس وتعبية فترك القتال بالليل وكمنوا له في طريقه
من الغد فقاتلهم إلى آخر النهار، وقتل منهم نحوا من ستمائة وجاءوا إلى
سليمان فلحق بتدمر وخلف أخاه سعيدا بحمص وحاصره مروان عشرة أشهر ونصب
عليهم نيفا وثمانين منجنيقا حتى استأمنوا
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 330: وكان مروان بدير أيوب فبايع
لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوجهما ابنتي هشام بن عبد الملك وجمع كذلك
بني أمية، واستقام له الشام ما خلا تدمر ... وكانوا قد عوّروا المياه
فاستعمل المزاد والقرب والإبل ... »
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص: ومثل إبراهيم بن سليمان
أكبر ولده، وخالد بن هشام المخزوميّ خال هشام بن عبد الملك، وادّعى
كثير من الأسراء للجند انّهم عبيد، فكف عن قتلهم وامر ببيعهم فيمن يزيد
مع من أصيب من عسكرهم ومضى سليمان حتى انتهى إلى حمص ... »
(3/142)
له وأمكنوه من سعيد بن هشام وآخرين شرطهم
عليهم. ثم سار لقتال الضحّاك الخارجيّ بالكوفة. وقيل إنّ سليمان بن
هشام لما انهزم بقنّسرين لحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق،
وسار معه إلى الضحّاك فبايعوه وكان النصر بن سعيد قد ولي العراق، فلما
اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحّاك من
الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر. وولّى الضحّاك مكانه بالكوفة المثنّى
بن عمران وسار الضحّاك إلى الموصل وأقبل ابن هبيرة إلى الكوفة فنزل
بعيد التمر [1] وسار إليه المثنّى فهزمه ابن هبيرة وقتله وعدّة من
قوّاد الضحّاك. وانهزم الخوارج ومعهم منصور بن جمهور ثم جاءوا إلى
الكوفة واحتشدوا وساروا للقاء ابن هبيرة فهزمهم ثانية، ودخل الكوفة
وسار إلى واسط وأرسل الضحّاك عبيدة بن سوار الثعلبيّ لقتاله، فنزل
الصّراة وقاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم.
ظهور عبد الله بن معاوية
كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد الله بن عمر
بن عبد العزيز الكوفة في إخوانه وولده، فأكرمهم عبد الله وأجرى عليهم
ثلاثمائة درهم في كل يوم وأقاموا كذلك. ولما بويع إبراهيم بن الوليد
بعد أخيه واضطرب الشام وسار مروان إلى دمشق، حبس عبد الله بن عمر عبد
الله بن معاوية عنده، وزاد في رزقه بعده لمروان يبايعه ويقاتله [2] .
فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة
وقاتله عبد الله بن عمر ثم خاف إسماعيل أن يفتضح فكفوا خبرهم فوقعت
العصبية بين الناس من إيثار عبد الله بن عمر بعضا من مضر وربيعة
بالعطاء دون غيرهم، فثارت
__________
[1] اسمها عين التمر وقد مر ذكرها في مكان سابق وقد ذكرها ابن خلدون
عين البقر وعين التمر اسمها الصحيح وما تزال إلى آلاف تعرف بهذا الاسم
وهي تقع إلى الجنوب الغربي من كربلاء ويسمونها شفاثة أيضا» .
[2] العبارة هنا غير واضحة وفي الطبري ج 8 ص 49: فاحتبس عبد الله بن
عمر عبد الله ابن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه واعده لمروان
بن محمد ان هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان.»
(3/143)
ربيعة فبعث إليهم أخاه عاصما ملقيا بيده
فاستحيوا ورجعوا وأفاض [1] في رءوس الناس يستميلهم. فاستنفر الناس
واجتمعت الشيعة إلى عبد الله بن معاوية فبايعوه وأدخلوه قصر الكوفة
وأخرجوا منه عاصم بن عمر فلحق بأخيه بالحيرة وبايع الكوفيون ابن معاوية
ومنهم منصور بن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء، وجاءته
البيعة من المدائن وجمع الناس وخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة، فسرّح
للقائه مولاه. ثم خرج في أثره وتلاقيا ونزع منصور بن جمهور وإسماعيل
أخو خالد القسري وعمر بن العطاء. وجاءته البيعة من ابن عمر ولحقوا
بالحيرة وانهزم ابن معاوية إلى الكوفة. وكان عمر بن الغضبان قد حمل على
ميمنة ابن عمر فكشفها وانهزم أصحابه من ورائه، فرجع إلى الكوفة وأقام
مع ابن معاوية في القصر، ومعهم ربيعة والزيدية على أفواه السكك يقاتلون
ابن عمر. ثم أخذ ربيعة الأمان لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية، وسار ابن
معاوية إلى المدائن وتبعه قوم من أهل الكوفة فتغلب بهم على حلوان
والجبل وهمذان وأصبهان والري إلى أن كان من خبره ما نذكره.
غلبة الكرماني على مرو وقتله الحرث بن شريح
لما ولي مروان وولّى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر
بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فارتاب الحرث وقال: ليس لي أمان
من مروان وخرج فعسكر وطلب من نصر أن يجعل الأمر شورى فأبى، وقرأ جهم بن
صفوان مولى راسب وهو رأس الجهميّة سيرته وما يدعو إليه على الناس،
فرضوا وكثر جمعه. وأرسل إلى نصر في عزل سالم بن أحور عن الشرطة، وتغيير
العمّال.
فتقرّر الأمر بينهما على أن يردوا ذلك إلى رجال أربعة: مقاتل بن سليمان
ومقاتل بن حيّان بتعيين نصر والمغيرة بن شعبة الجهضمي [2] ومعاذ بن
جبلة بتعيين الحرث.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 8 ص 50: «وبلغ الخبر ابن عمر فأرسل إليهم
أخاه عاصما فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا فالقى نفسه بينهم
وقال: هذه يدي لكم فاحكموا فاستحيوا وعظموا عاصما وتشكروا له، واقبل
على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلما امسى ابن عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر
بن الغضبان بمائة ألف فقسمها في قومه بني همام وأرسل إلى ثمامة بن حوشب
بمائة ألف، فقسمها في قومه وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة
آلاف وإلى عثمان بن الخيبري بعشرة آلاف» .
[2] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 342: المغيرة بن شعبة الجهضمي.
(3/144)
وأمر نصر أن يكتب بولاية سمرقند وطخارستان
لمن يرضاه هؤلاء الأربعة. وكان الحرث يقول إنه صاحب السور وإنه يهدم
سور دمشق ويزيل ملك بني أمية فأرسل إليه نصر: إن كان ما تقوله حقا
فتعال نسير إلى دمشق، وإلا فقد أهلكت عشيرتك.
فقال الحرث: هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي. قال: فكيف تهلك عشرين
ألفا من ربيعة واليمن؟ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر ويعطيه
ثلاثمائة ألف فلم يقبل.
فقال له: فابدأ بالكرمانيّ فأقتله وأنا في طاعتك. ثم اتفقا على تحكيم
جهم ومقاتل، فاحتكما بأن يعزله نصر ويكون الأمر شورى. فأتى نصر فخالفه
الحرث، وقدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة منهم عاصم بن
عمير الضريمي وأبو الديّال الناجي ومسلم بن عبد الرحمن وغيرهم، فكانوا
معه وأمر الحرث أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد، وأتاه الناس وقرئت
على باب نصر.
فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم وتجهّزوا للحرب. ونقب الحرث سور مرو
من الليل ودخل بالنهار فاقتتلوا وقتل جهم بن مسعود الناجي وأعين مولى
حيّان ونهبوا منزل مسلم بن أحور، فركب سالم حين أصبح فقاتل الحرث
وهزمه، وجاء إلى عسكره فقتل كاتبه وبعث نصر إلى الكرمانيّ وكان في
الأزد وربيعة وكان موافقا للحرث لما قدّمناه، فجاءه نصر على الأمان
وحادثهم وأغلظوا له في القول فارتاب ومضى، وقتل من أصحابه جهم بن
صفوان. ثم بعث الحرث ابنه حاتما إلى الكرمانيّ يستجيشه فقال له أصحابه:
دع عدويك يضطربان، ثم ضرب بعد يومين وناوش القتال أصحاب نصر فهزمهم،
وصرع تميم بن نصر ومسلم بن أحور وخرج نصر من مرو من الغد فقاتلهم ثلاثة
أيام وانهزم الكرمانيّ وأصحابه ونادى مناد يا معشر ربيعة واليمن إنّ
أبا سيّار قتل فانهزمت مضر ونصر وترجل ابنه تميم فقاتل وأرسل إليه
الحرث إني كافّ عنك فإنّ اليمانية يعيّرونني بانهزامكم، فاجعل أصحابك
إزاء الكرمانيّ، ولما انهزم نصر غلب الكرمانيّ على مرو ونهب الأموال
فأنكر ذلك عليه الحرث، ثم اعتزل عن الحرث بشر بن جرموز الضبيّ في خمسة
آلاف وقال: إنما كنا نقاتل معك طلبا للعدل، فأمّا إن اتبعت الكرماني
للعصبية فنحن لا نقاتل فدعا الحرث الكرماني إلى الشورى فأبى، فانتقل
الحرث عنه وأقاموا أياما. ثم ثلم الحرث السور ودخل البلد وقاتله
الكرمانيّ قتالا شديدا فهزمه وقتله وأخاه سوادة. واستولى الكرمانيّ على
مرو وقيل إنّ الكرمانيّ خرج مع الحرث لقتال
(3/145)
بشر بن جرموز ثم ندم الحرث على اتباع
الكرماني وأتى عسكر بشر فأقام معهم وبعث إلى مضر من عسكر الكرماني
فساروا إليهم وكانوا يقتتلون كل يوم ويرجعون إلى خنادقهم ثم نقب الحرث
بعد أيام سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني واقتتلوا فقتل الحرث وأخاه
وبشر بن جرموز وجماعة من بني تميم وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فانهزم
الباقون وصفت مرو لليمن وهدموا دور المضريّة.
ظهور الدعوة العباسية بخراسان
قد ذكرنا أنّ أبا مسلم كان يتردّد إلى الإمام من خراسان ثم استدعاه سنة
تسعة وعشرين ليسأله عن الناس فسار في سبعين من النقباء مؤدين بالحج ومر
بنسا فاستدعى أسيدا فأخبره بأن كتب الإمام جاءت إليه مع الأزهر بن شعيب
وعبد المالك بن سعيد، ودفع إليه الكتب ثم لقيه بقومس كتاب الإمام إليه
وإلى سليمان بن كثيّر إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث يلقاك
كتابي ووجّه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض وجاء أبو
مسلم إلى مرو وأعطى كتاب الإمام لسليمان بن كثيّر وفيه الأمر بإظهار
الدعوة، فنصبوا أبا مسلم وقالوا رجل من أهل البيت ودعوا إلى طاعة بني
العبّاس وكتبوا إلى الدعاة بإظهار الأمر، وترك أبو مسلم بقرية من قرى
مرو في شعبان من سنة تسع وعشرين ثم بثوا الدعاة في طخارستان ومروالرود
والطالقان وخوارزم، وأنهم إن أعجلهم عدوّهم دون الوقت عاجلوه وجرّدوا
السيوف للجهاد، ومن شغله العدوّ عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد
الوقت. ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثيّر الخزاعي آخر رمضان
ونصر بن سيّار يقاتل الكرماني وشيبان فعقد اللواء الّذي بعث به الإمام
إليه وكان يدعى الظلّ على رمح طوله أربعة عشر ذراعا. ثم عقد الراية
التي بعثها معه وتسمى السحاب وهو يتلو: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
22: 39 الآية. ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثيّر وأخوه سليمان ومواليه
ومن أجاب الدعوة من أهل تلك القرى وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم في
خرقان فأصبحوا عنده ثم قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضّاح في سبعمائة
راجل. وقدم من الدعاة أبو العبّاس المروزي وحصن أبو مسلم بسفيدنج
ورمّها وحضر عيد الفطر، فصلى سليمان بن كثيّر وخطب على المنبر في
العسكر وبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة. وكبر في الأولى ست
تكبيرات وفي الثانية خمسا خلاف ما كان بنو أمية
(3/146)
يفعلون. وكل ذلك مما سنّه لهم الإمام
وأبوه. ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة فطمعوا وكان أبو مسلم وهو في
الخندق إذا كتب نصر بن سيار يبدأ باسمه فلما قوى بمن اجتمع إليه كتب
إلى نصر وبدأ بنفسه وقال: (أمّا بعد) فإنّ الله تباركت أسماؤه عيّر
قوما في القرآن فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ 35: 42 (إلى) وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله
تَحْوِيلًا 35: 43 فاستعظم الكتاب وبعث مولاه يزيد لمحاربة أبي مسلم
لثمانية عشر شهرا من ظهوره فبعث إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي
فدعاه إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستكبروا
فقاتلهم مالك وهو في مائتين يوما بكماله.
وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبيّ وإبراهيم بن يزيد وزياد بن
عيسى فسرّحهم إلى مالك فقوي مالك بهم، وقاتلوا القوم فحمل عبد الله
الطائي على يزيد مولى نصر فأسره، وانهزم أصحابه وأرسله الطائي إلى أبي
مسلم ومعه رءوس القتلى فأحسن أبو مسلم إلى يزيد وعالجه، ولما اندملت
جراحة قال: إن شئت أقمت عندنا وإلا رجعت إلى مولاك سالما بعد أن
تعاهدنا على أن لا تحاربنا ولا تكذب علينا فرجع إلى مولاه. وتفرس نصر
أنه عاهدهم فقال: والله هو ما ظننت وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم
وأنهم الله يصلون الصلاة لوقتها بأذان وإقامة ويتلون القرآن ويذكرون
الله كثيرا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما
أحسب أمرهم إلا سيعلو ولولا أنك مولاي لأقمت عندهم. وكان الناس يرجفون
عنهم بعبادة الأوثان واستحلال الحرام. ثم غلب حازم بن خزيمة على
مروالروذ وقتل عامل نصر بها وكان من بني تميم من الشيعة وأراد بنو تميم
منعه فقال: أنا منكم فإن ظفرت فهي لكم وإن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية
زاها. ثم تغلب على أهلها فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل
ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع ابنه خزيمة بن حازم. وقيل في
أمر أبي مسلم غير هذا وأنّ إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لما بعثه
خراسان بابنه أبي النّجم وكتب إلى النقباء بطاعته. وكان أبو مسلم من
سواد الكوفة فهزما فانتهى [1] لإدريس بن معقل العجليّ ثم سار إلى ولاية
محمد بن علي، ثم ابنه إبراهيم، ثم للأئمة من ولاية [2] من ولده وقدم
خراسان وهو حديث
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 361: «وكان أبو مسلم
من أهل خطرنية من سواد الكوفة وكان قهرمانا لإدريس بن معقل العجليّ.»
[2] الظاهر من المعنى ان «من ولاية زائدة» ولا لزوم لوجودها.
(3/147)
السن واستصغره سليمان بن كثيّر فردّه وكان
أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء النهر، فلما جاء إلى مرو أقرأه
كتاب الإمام وسألهم عن أبي مسلم فأخبروه أنّ سليمان بن كثيّر ردّه
لحداثة سنّه وأنه لا يقدر على الأمر، فنخاف على أنفسنا وعلى من يدعوه
فقال لهم أبو داود: إنّ الله بعث نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى جميع
خلقه، وأنزل عليه كتابه بشرائعه وأنبأه بما كان وما يكون وخلف علمه
رحمة لأمته وعمله إنما هو عند عترته وأهل بيته وهم معدن العلم وورثة
الرسول فيما علمه الله أتشكون في شيء من ذلك؟ قالوا: لا. قال: فقد
شككتم والرجل لم يبعثه إليكم حتى علم أهليته لما يقوم به فبعثوا عن أبي
مسلم وردّوه من قومس بقول أبي داود وولوه أمرهم وأطاعوه ولم تزل في نفس
أبي مسلم من سليمان بن كثيّر. ثم بعث الدعاة ودخل الناس في الدعوة
أفواجا واستدعاه الإمام سنة تسع وعشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره في
إظهار الدعوة وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب ويحمل ما اجتمع عنده من
الأموال فسار في جماعة من النقباء والشيعة فلقيه كتاب الإمام بقومس
يأمره بالرجوع وإظهار الدعوة بخراسان، وبعث قحطبة بالمال وأنّ قحطبة
سار إلى جرجان. واستدعى خالد بن برمك وأبا عون فقدما بما عندهما من مال
الشيعة فسار به نحو الإمام.
مقتل الكرماني
قد ذكرنا من قبل أنّ الكرماني قتل الحرث بن شريح فخلصت له مرو وتنحّى
نصر عنها ثم بعث نصر سالم بن أحور في رابطته وفرسانه إلى مرو فوجد يحيي
بن نعيم الشّيبانيّ في ألف رجل من ربيعة ومحمد بن المثنّى في سبعمائة
من الأزد وأبو الحسن ابن الشيخ في ألف منهم والحربي السغدي [1] في ألف
من اليمن. فتلاحى سالم وابن المثنّى وشتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزموه
وقتل من أصحابه نحو مائة. فبعث نصر بعده عصمة بن عبد الله الأسديّ فكان
بينهم مثل ما كان أوّلا، فقاتلهم محمد السغدي، فانهزم السغدي وقتل من
أصحابه أربعمائة. ورجع إلى نصر فبعث مالك بن عمر التميميّ فاقتتلوا
كذلك وانهزم مالك وقتل من أصحابه سبعمائة ومن أصحاب الكرماني ثلاثمائة.
ولما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنه لا مدد لهم
جعل يكتب إلى شيبان الخارجي يذمّ اليمانية تارة ومضر أخرى ويوصي
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 363: الجرجيّ السعدي.
(3/148)
الرسول بكتاب مضر أن يتعرّض لليمانيّة
ليقرؤا ذمّ مضر والرسول بكتاب اليمانيّة أن يتعرّض لمضر ليقرؤا ذمّ
اليمانيّة حتى صار هوى الفريقين معه ثم كتب إلى نصر بن سيّار
والكرماني: أنّ الإمام أوصاني بكم ولا أعد ورأيه فيكم. ثم كتب يستدعي
الشيعة أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا ومقاتل بن حكيم بن غزوان وكانوا
أوّل من سوّد ونادوا يا محمد يا منصور! ثم سوّد أهل أبي ورد ومروالروذ
وقرى مرو فاستدعاهم أبو مسلم وأقبل فنزل بين خندق الكرماني وخندق نصر
وهابه الفريقان وبعث إلى الكرماني إني معك وقبل فانضم أبو مسلم إليه،
وكتب نصر بن سيّار إلى الكرماني يحذّره منه ويشير عليه بدخول مرو
ليصالحه فدخل ثم خرج من الغد، وأرسل إلى نصر في إتمام الصلح في مائتي
فارس، فرأى نصر فيه غرّة فبعث إليه ثلاثمائة فارس فقتلوه. وسار ابنه
إلى أبي مسلم وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة إلى بعض
الدور. ودخل أبو مسلم مرو فبايعه عليّ بن الكرماني، وقال له أبو مسلم
أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. وكان نصر حين نزل أبو مسلم بين
خندقه وخندق الكرماني ورأى قوّته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بخروجه
وكثرة من معه ودعائه لإبراهيم بن محمد:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكو ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام
فإن لم تطفئوها يخرجوها ... مسجّرة يشيب لها الغلام
أقول من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام
فإن يك قومنا أضحوا نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام
تعزّي عن رجالك ثمّ قولي ... على الإسلام والعرب السلام.
فوجده مشتغلا بحرب الضحّاك بن قيس فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى
الغائب فاحثهم التلول قبلك. فقال نصر: أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا
نصر عنده.
وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثورهم على كتاب من إبراهيم الإمام لابي
مسلم يوبّخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكنته ويأمره أن
لا يدع بخراسان متكلّما بالعربية. فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله
بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة [1] فيبعث إليه بإبراهيم بن محمد مشدود
الوثاق فحبسه مروان.
__________
[1] وفي الكامل ج 5 ص 366: الى الحميمة.
(3/149)
اجتماع أهل خراسان
على قتل أبي مسلم
لما أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس، وكان أهل مرو يأتونه ولا
يمنعهم نصر، وكان الكرماني وشيبان الخارجي لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه
دعا إلى خلع مروان وكان أبو مسلم ليس له حرس ولا حجّاب ولا غلظة الملك،
فكان الناس يأنسون به لذلك، وأرسل نصر إلى شيبان الخارجي في الصلح
ليتفرّغ لقتال أبي مسلم، إمّا أن يكون معه أو يكفّ عنه، ثم نعود إلى ما
كنا فيه فهمّ شيبان بذلك، وكتب أبو مسلم إلى الكرمانيّ فحرّضه على منع
شيبان من ذلك فدخل عليه وثناه عنه ثم بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي
إلى هراة فملكها وطرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر. فجاء
يحيي بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ إلى الكرماني وشيبان وأغراهما بمصالحة
نصر وقال: إن صالحتم نصرا قاتله أبو مسلم وترككم لأنّ أمر خراسان لمضر
وإن لم تصالحوه صالحه وقاتلكم فقدّموا نصر قبلكم. فأرسل شيبان إلى نصر
في الموادعة فأجلب وجاء مسلم بن أحور بكتب الموادعة فكتبوها وبعث أبو
مسلم إلى شيبان في موادعة ثلاثة أشهر فقال ابن الكرمانيّ إذا ما صالحت
نصرا إنما صالحه شيبان وأنا موتور بأبي ثم عاود القتال وقعد شيبان عن
نصره وقال: لا يحلّ الغدر فاستنصر ابن الكرمانيّ بأبي مسلم فأقبل حتى
نزل الماخران لاثنتين وأربعين يوما من نزوله يسفيدنج وخندق على معسكره
وجعل له بابين وعلى شرطته مالك بن الهيثم وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن
عثمان، وعلى ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفّر وعلى الرسائل أسلم
بن صبيح وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب وكان القاسم يصلي بأبي
مسلم ويقرأ القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم وسالف بني أميّة ولما
نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرمانيّ بأنه معه فطلب لقاءه
فجاءه أبو مسلم وأقام عنده يومين ثم رجع وذلك أوّل المحرّم سنة ثلاثين
[1] ثم عرض الجند وأمر كامل ابن مظفّر بكتب أسمائهم وأنسابهم في دفتر
فبلغت عدّته سبعة آلاف ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على
وضع الحرب والاجتماع على قتال أبي مسلم فعظم ذلك عليه وتحوّل عن
الماخران لأربعة أشهر من نزولها لأنها كانت
__________
[1] اي سنة ثلاثين ومائة.
(3/150)
تحت الماء وخشي أن يقطع فتحوّل إلى طبسين
وخندق بها، وخندق نصر بن سيّار على نهر عياض وأنزل عمّاله بالبلاد،
فأنزل أبا الدّيال في جنده لطوسان فآذوا أهلها وعسفوهم وكان أكثرهم مع
أبي مسلم في خندق فسير إليهم جندا فقاتلوه فهزموه وأسروا من أصحابه
ثلاثين، فأطلقهم أبو مسلم ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع من الشيعة
ليقطع مادّة نصر من مروالروذ وبلخ وطخارستان فخندق بين نصر وبين هذه
البلاد، واجتمع إليه ألف رجل وقطع المادة عن نصر.
مقتل عبد الله بن معاوية
قد تقدّم لنا أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بويع بالكوفة
وغلبه عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ولحق بالمدائن وجاءه ناس من
أهل الكوفة وغيرها فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس
وأصبهان والريّ وأقام بأصبهان وكان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم
القدر بفارس فجاء إلى دار الإمارة بإصطخر وطرد عامل عبد الله بن عمر
عنها، وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. ثم سار إلى كرمان فأغار عليها
وانضم إليه قوّاد من أهل الشام فسار إلى سالم بن المسيّب عامل عبد الله
ابن عمر على شيراز فقتله سنة ثمان وعشرين. ثم سار محارب إلى أصبهان
وحوّل عبد الله ابن معاوية إلى إصطخر بعد أن استعمل على الجبال أخاه
الحسن بن معاوية، وأتى إلى إصطخر فنزل بها وأتاه بنو هاشم وغيرهم، وجبى
المال وبعث العمّال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام، وأتاه
شيبان بن عبد العزيز الخارجي ثم أتاه أبو جعفر المنصور وعبد الله ابن
أخيه عيسى. ولما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن
حنظلة الكلابي على الأهواز وأن يقاتل عبد الله بن معاوية، وبلغ سليمان
بن حبيب وهو بالأهواز فسرّح داود بن حاتم للقاء نباتة، وهرب سليمان من
الأهواز إلى نيسابور وقد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها، وبايع لابن
معاوية، فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها. ثم إنّ محارب بن موسى فارق
عبد الله بن معاوية وجمع، وقصد نيسابور فقاتله يزيد بن معاوية وهزمه،
فأتى كرمان وأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه ثم نافره، فقتله
ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابنا له. ثم بعث يزيد بن هبيرة بعد نباتة بن
حنظلة ابنه داود ابن يزيد في العساكر إلى عبد الله بن معاوية، وعلى
مقدّمته داود بن ضبارة. وبعث
(3/151)
معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلوا عبد الله
بن معاوية وهزموه وأسروا وقتلوا، وهرب منصور بن جمهور إلى السند وعبد
الرحمن بن يزيد إلى عمان وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر،
وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم ومضى ابن معاوية عن فارس إلى
خراسان. وسار معن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور وكان فيمن أسر مع عبد
الله بن معاوية عبد الله بن علي بن عبد الله ابن عبّاس، شفع فيه حرب
ابن قطن من أخواله بني هلال، فوهبه له ضبارة وغاب عبد الله بن معاوية
عن ابن ضبارة، ورمى أصحابه باللواطة، فبعث إلى ابن هبيرة ليخبره، وسار
ابن ضبارة في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحاصره بها حتى خرج
منها هاربا ومعه أخوه الحسن ويزيد وجماعة من أصحابه، فسلك المفازة على
كرمان إلى خراسان طمعا في أبي مسلم لأنه كان يدعو إلى الرضا من آل
محمد، وقد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة وعليها مالك فقال له:
انتسب نعرفك. فانتسب له فقال: أمّا عبد الله وجعفر فمن أسماء آل الرسول
وأمّا معاوية فلا نعرفه في أسمائهم. قال: إنّ جدّي كان عند معاوية حين
ولد أبي فبعث إليه مائة ألف على أن يسمي ابنه باسمه فقال: لقد اشتريتم
الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير [1] فلا نرى لك حقا فيما تدعو إليه ثم
بعث بخبره إلى أبي مسلم فأمره بالقبض عليه وعلى من معه فحبسهم. ثم كتب
إليه بإطلاق أخويه الحسن ويزيد وقتل عبد الله فوضع الفراش على وجهه
فمات [2] .
لما تعاقد نصروا ابن الكرماني وقبائل ربيعة واليمن ومضر على قتال أبي
مسلم عظم على الشيعة، وجمع أبو مسلم أصحابه ودسّ سليمان بن كثيّر إلى
ابن الكرماني يذكّره بثأر أبيه من نصر فانتقضوا، فبعث نصر إلى أبي مسلم
بموافقة مضر وبعث إليه أصحاب ابن الكرماني وهم ربيعة واليمن بمثل ذلك.
واستدعى وفد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما وأحضر الشيعة لذلك
وأخبرهم بأنّ مضر أصحاب مروان وعمّاله وشيعته وقبله [3] يحيى بن زيد.
فلما حضر الوفد تكلم سليمان بن كثيّر، ويزيد بن شقيق
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: «لقد اشتريتم الاسم الخبيث
بالثمن اليسير.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 373: فأمر من وضع فراشا
على وجهه فمات واخرج فصلّي عليه ودفن، وقبره بهراة معروف يزار، رحمه
الله.»
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 378: قتله يحيى بن زيد.
(3/152)
السلميّ بمثل ذلك وبأن نصر بن سيّار عامل
مروان ويسمّيه أمير المؤمنين وينفّذ أوامره فليس على هدى، وإنما يختار
عليّ بن الكرماني وأصحابه ووافق السبعون من الشيعة على ذلك وانصرف
الوفد ورجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران وأمر الشيعة ببناء المساكن
وأمن من فتنة العرب ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من
ناحيته ليدخل هو وقومه من الناحية الأخرى، فلم يطمئن لذلك أبو مسلم
وقال:
ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرمانيّ نصر بن سيّار الحرب ودخل مرو
من ناحيته وبعث أبو مسلم بعض النقباء. فدخل معه ثم سار وعلى مقدمته
أسيد بن عبد الله الخزاعيّ، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم وعلى ميسرته
القاسم بن مجاشع. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، ومضى إلى قصر الإمارة
وهو يتلو: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها 28:
15. وأمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم وصفت له مرو، وأمر
بأخذ البيعة من الجند، وتولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء
الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة
ثلاث وأربع، وكانوا اثني عشر رجلا. فمن خزاعة سليمان بن كثيّر ومالك بن
الهيثم وزياد بن صالح وطلحة بن زريق وعمر بن أعين. ومن طيِّئ قحطبة بن
شبيب بن خالد سعدان. ومن تميم أبو عيينة موسى بن كعب ولاهز ابن قريط
والقاسم بن مجاشع وأسلم بن سلام ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن
إبراهيم الشّيبانيّ وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان وكان عمر بن
أعين مكان موسى بن كعب وأبو النّجم إسماعيل بن عمران مكان أبي علي
الهروي وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن أحد من النقباء ووالده غير أبي منصور
طلحة بن زريق بن سعد وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث
وصحب المهلّب وغزا معه. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور. وكان نصّ
البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
والطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليكم بذلك عهد
الله وميثاقه والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا
تسألوا رزقا ولا طمعا حتى تبدأكم به ولاتكم، وذلك سنة ثلاثين ومائة. ثم
أرسل أبو مسلم لاهز بن قريط في جماعة إلى نصر بن سيّار يدعو إلى
البيعة، وعلم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة له بأصحابه، فوعده بأنه
يأتيه يبايعه من الغد، وأرسل أصحابه بالخروج من ليلتهم إلى مكان يأمنون
فيه. فقال
(3/153)
أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا الليلة. فلما
أصبح [1] أبو مسلم كتابه وأعاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب
وأقام لوضوئه، فقال لاهز: إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فخرج نصر عند
المساء من خلف حجرته ومعه ابنه تميم والحكم بن غيلة النميري وامرأته
المرزبانة وانطلقوا هرابا. واستبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده وبلغ
أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه منهم سالم ابن أحوز
صاحب شرطته والبحتري كاتبه، وابنان له ويونس بن عبد ربه ومحمد ابن قطن
وغيرهم. وسار أبو مسلم وابن الكرماني في طلبه ليلتهما فأدركا امرأته قد
خلفها وسار فرجعوا إلى مرو. وبلغ نصر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة
ليلة. ثم جاء نيسابور فأقام بها وتعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على
رأيه. ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة فقال شيبان: بل أنت
تبايعني [2] واستنصر بابن الكرماني فأبى عليه، وسار شيبان إلى سرخس
واجتمع له جمع من بكر بن وائل وبعث إليه أبو مسلم في الكفّ فسجن الرسل.
فكتب إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث المكنّى بأبي ورد أن يسير إليه
فقاتله وقتله وقتل بكر بن وائل الرسل الذين كانوا عنده. وقيل إنّ أبا
مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكرا من عنده عليهم خزيمة بن حازم وبسّام بن
إبراهيم. ثم بعث أبو مسلم كعبا من النقباء إلى أبيورد فافتتحها، ثم أبا
داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن
القشيريّ فجمع له أهل بلخ وترمذ وجند طخارستان ونزل الجوزجان، ولقيهم
أبو داود فهزمهم وملك مدينة بلخ. وساروا إلى ترمذ فكتب أبو مسلم إلى
أبي داود يستقدمه وبعث مكانه على بلخ يحيى بن نعيم أبا الميلاء فداخله
زياد بن عبد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم، واجتمع لذلك زياد ومسلم بن
عبد الرحمن الباهليّ، وعيسى بن زرعة السلميّ وأهل بلخ وترمذ وملوك
طخارستان وما وراء النهر ونزلوا على فرسخ من بلخ وخرج إليهم يحيى بن
نعيم بمن معه. واتفقت كلمة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على
قتال المسوّدة وولّوا عليهم مقاتل بن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 381: «فلما كان الغد
عبّأ ابو مسلم أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر وأعاد إلى نصر لاهز بن
قريظ وجماعة معه» .
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 383: «فقال شيبان: أنا
أدعوك إلى بيعتي. فأرسل اليه ابو مسلم أن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن
منزلك الّذي أنت به..
(3/154)
حيّان النبطيّ مخافة أن يتنافسوا. وبعث أبو
مسلم أبا داود إليهم فأقبل بعساكره حتى اجتمعوا على نهر السرحسان [1]
واقتتلوا. وكان زياد وأصحابه قد خلفوا أبا سعيد القرشي مسلحة وراءهم
خشية أن يؤتوا من خلفهم وكانت راياته سودا وأغفلوا ذلك. فلما اشتدّ
القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم فظنّوه كمينا للمسوّدة فانهزموا
وسقطوا في النهر، وحوى أبو داود معسكرهم بما فيه وملك بلخ. ومضى زياد
ويحيى ومن معهما إلى ترمذ وكتب أبو مسلم يستقدم أبا داود وبعث النضر بن
صبيح المزني على بلخ. ولما قدم أبو داود أشار على أبي مسلم بالتفرقة
بين عليّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث عثمان على بلخ وقدمها فاستخلف
الفرافصة بن ظهير العبسيّ وسار هو والنضر بن صبيح إلى مروالروذ وجاء
مسلم بن عبد الرحمن الباهليّ من ترمذ في المضريّة، فاستولى على بلخ
ورجع إليه عثمان والنضر فهربوا من ليلتهم ولم يعن النضر في طلبهم
وقاتلهم عثمان ناحية عنه فانهزم، ورجع أبو داود إلى بلخ وسار أبو مسلم
إلى نيسابور ومعه علي بن الكرماني وقد اتفق مع أبي داود على قتال ابني
الكرماني فقتل أبو داود عثمان في بلخ وقتل أبو مسلم عليّا في طريقه إلى
نيسابور.
مسير قحطبة للفتح
وفي سنة ثلاثين قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم
وقد عقد له لواء على محاربة العدوّ فبعثه أبو مسلم في مقدمته وضمّ إليه
العساكر وجعل إليه التولية والعزل، وأمر الجنود بطاعته. وقد كان حين
غلب على خراسان بعث العمّال على البلاد فبعث ساعي بن النعمان الأزدي
على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان ومحمد بن الأشعث
الخزاعي على طبسين وجعل مالك بن الهيثم على شرطته. وبعث قحطبة إلى طوس
ومعه عدّة من القوّاد: أبو عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك وعثمان
بن نهيك، وحازم بن خزيمة وغيرهم فهزم أهل طوس وأفحش في قتلهم، ثم بعث
أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجّة، وكتب إلى قحطبة
بقتال تميم ابن نصر بالسودقان،
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 384: نهر السرجنان.
(3/155)
ومعه الثاني بن سويد وأصحاب شيبان، وأمدّه
بعشرة آلاف مع عليّ بن معقل فزحف إليهم ودعاهم بدعوته وقاتلهم، فقتل
تميم بن نصر وجماعة عظيمة من أصحابه، يقال بلغوا ثلاثين ألفا واستبيح
معسكرهم وتحصّن الباقي بالمدينة فاقتحمها عليهم، وخلّف خالد بن برمك
على قبض الغنائم، وسار إلى نيسابور فهرب منها نصر بن سيّار الى قومس ثم
تفرّق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان وكان يزيد بن هبيرة
بعثه مددا لنصر، فأتى فارس وأصبهان ثم سار إلى الريّ، ثم إلى جرجان
وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها رمضان وشوّال وارتحل إلى جرجان، وجعل
ابنه الحسن على مقدمته وانتهى إلى جرجان وأهل الشام بها مع نباتة
فهابهم أهل خراسان فخطبهم قحطبة وأخبرهم أنّ الإمام أخبره أنهم يلقونه
مثل هذه العدد فينصرونه عليهم. ثم تقدّم للقتال وعلى ميمنته ابنه الحسن
فانهزم أهل الشام وقتل نباتة في عشرة آلاف منهم وبعث برأسه إلى أبي
مسلم، وذلك في ذي الحجة من السنة وملك قحطبة جرجان. ثم بلغه أنّ أهل
جرجان يرومون الخروج عليه فاستعرضهم وقتل منهم نحوا من ثلاثين ألفا
وسار نصر من قومس إلى خوار الري وعليها أبو بكر العقيليّ وكتب إلى ابن
هبيرة بواسط يستمدّه فحبس رسله. فكتب مروان إلى ابن هبيرة فجهز ابن
هبيرة جيشا كثيفا إلى نصر وعليهم ابن عطيف.
هلاك نصر بن سيار
ثم بعث قحطبة ابنه الحسن إلى محاصرة نصر في خوار الري في محرّم سنة
إحدى وثلاثين، وبعث إليه المدد مع أبي كامل وأبي القاسم محرز بن
إبراهيم وأبي العبّاس المروزيّ. ولما تقاربوا نزع أبو كامل إلى نصر
فكان معه وهرب جند قحطبة وأصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم فبعثه نصر
إلى ابن هبيرة فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر فأقام ابن عطيف
بالري وسار نصر إلى الري وعليها حبيب بن يزيد النهشليّ. فلما قدمها سار
ابن عطيف إلى همذان وكان فيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل ابن
عطيف عنها إلى أصبهان وبها عامر بن
(3/156)
ضبارة، وقدم نصر الري فأقام بها يومين ومرض
وارتحل. فلما بلغ نهاوة [1] مات لاثنى عشر من ربيع الأوّل من اسنة ودخل
أصحابه همذان.
استيلاء قحطبة على الريّ
ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان
وأقبل قحطبة من جرجان وقدم زياد بن زرارة القشيري وقد كان قدم على طاعة
أبي مسلم واعتزم على اللحاق بابن ضبارة، فبعث قحطبة في أثره المسيّب بن
زهير الضبيّ فهزمه، وقتل عامة من مع ابن معاوية ورجع، ولحق قحطبة ابنه
الحسن إلى الريّ فخرج عنها حبيب بن يزيد النهشليّ وأهل الشام، ودخلها
الحسن في صفر ثم لحق به أبوه وكتب بالخبر إلى أبي مسلم. وقد أكثر أهل
الريّ إلى بني أمية فأخذ أبو مسلم أملاكهم ولم يردّها عليهم إلا السفاح
بعد حين فأقام قحطبة بالريّ وكتب أبو مسلم إلى أصبهبذ طبرستان بالطاعة
وأداء الخراج فأجاب، وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند وكبير الديلم بمثل
ذلك فأفحش في الردّ.
فكتب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن
منه لضيق بلاده وكان الديلم يقاتلونه كل يوم، فكثر فيهم الجراح والقتل،
ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع فرجع موسى إلى الري ولم يزل المصمغان
متمنّعا إلى أيام المنصور فأغزاه حمّاد بن عمر في جيش كثيف، ففتح
دنباوند. ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو ونزل نيسابور
ثم سير قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الريّ بثلاث ليال، فسار عنها مالك
بن أدهم وأهل الشام وخراسان إلى نهاوند ونزل على أربعة فراسخ من
المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطيّة مولى باهلة في سبعمائة
وأقام محاصرا لها.
استيلاء قحطبة على أصبهان ومقتل ابن ضبارة
وفتح نهاوند وشهرزور
قد تقدّم لنا أنّ ابن هبيرة بعث ابنه داود يزيد لقتال عبد الله بن
معاوية بإصطخر،
__________
[1] وفي نسخة أخرى نهاوند. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 396: «فلما
بلغ ساوة مات» .
(3/157)
وبعث معه عامر بن ضبارة فهزموه واتبعوه إلى
كرمان سنة تسع وعشرين، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة
ثلاثين، كتب إلى ابنه داود ضبارة بالمسير إلى قحطبة فسار من كرمان في
خمسين ألفا ونزلوا أصبهان وبعث إليهم قحطبة جماعة من القوّاد عليهم
مقاتل بن حكيم الكعبيّ فنزلوا قمّ وسار قحطبة إلى نهاوند مددا لولده
الحسن الّذي حاصرهم فبعث مقاتلا بذلك قحطبة، فسار حتى لحقه، وزحفوا
للقاء داود ابن ضبارة وهم في مائة ألف وقحطبة في عشرين ألفا.
وحمل قحطبة وأصحابه فانهزم ابن ضبارة وقتل واحتووا على ما كان في
معسكرهم مما لا يعبّر عنه من الأصناف وذلك في رجب. وطيّر قحطبة بالخبر
إلى ابنه الحسن وسار إلى أصبهان فأقام بها عشرين ليلة، وقدم على ابنه
فحاصروا نهاوند ثلاثة أشهر إلى آخر شوّال، ونصبوا عليهم المجانيق وبعث
بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا، فبعث إلى أهل
الشام فقالوا أشغل عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من
ناحيتنا، ففعلوا، وخرجوا إليه جميعا فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامل
وحاتم بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعليّ بن عقيل وبيهس.
وكان قحطبة لما جاء إلى نهاوند بعث ابنه الحسن إلى جهات حلوان وعليها
عبد الله بن العلاء الكنديّ فتركها وهرب. ثم بعث قحطبة عبد الملك بن
يزيد ومالك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على
مقدمته عبد الله بن محمد فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة فانهزم وقتل. وملك
أبو عون بلاد الموصل. وقيل إنّ عثمان هرب إلى عبد الله بن مروان وغنم
أبو عون عسكره وقتل أصحابه، وبعث إليه قحطبة بالمدد وكان مروان بن محمد
بحرّان فسار في أهل الشام والجزيرة والموصل ونزل الزاب الأكبر وأتوا
شهرزور إلى المحرّم سنة اثنتين وثلاثين.
حرب سفاح بن هبيرة مع قحطبة ومقتلهما وفتح
الكوفة
ولما قدم على يزيد بن هبيرة ابنه داود منهزما من حلوان خرج يزيد للقاء
قحطبة في مدد لا يحصى، وكان مروان أمدّه بحوثرة بن سهيل الباهليّ، فسار
معه حتى نزل حلوان واحتفر الخندق الّذي كانت فارس احتفرته أيام
الواقعة. وأقام وأقبل
(3/158)
قحطبة إلى حلوان ثم عبر دجلة إلى الأنبار
فرجع ابن هبيرة مبادرا إلى الكوفة وقدم إليها حوثرة في خمسة عشر ألفا
وعبر قحطبة الفرات من الأنبار لثمان من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين،
وابن هبيرة معسكر على فم الفرات وعلى ثلاثة وعشرين فرسخا من الكوفة،
ومعه حوثرة وفلّ ابن ضبارة. وأشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة ويقصد هو
خراسان فيتبعه قحطبة فأبى إلا البدار إلى الكوفة، وعبر إليها دجلة من
المدائن، وعلى مقدمته حوثرة والفريقان يسيران على جانب الفرات. وقال
قحطبة لأصحابه إنّ الإمام أخبرني بأنّ وقعة تكون بهذا المكان والنصر
لنا، ثم دلّوه على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة وابن نباتة فانهزم أهل
الشام، وقعد قحطبة وشهد مقاتل العللي بأنّ قحطبة عهد لابنه الحسن بعده،
فبايع جميع الناس لأخيه الحسن، وكان في سرية فبعثوا عنه وولّوه ووجد
قحطبة في جدول هو وحرب بن كمّ ابن أحوز وقيل: إنّ قحطبة لما عبر الفرات
وقاتل ضربه معن بن زائدة فسقط وأوصى إذا مات أن يلقى في الماء. ثم
انهزم ابن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وأوصى بأمر الشيعة إلى أبي
مسلمة الخلّال بالكوفة وزير آل محمد. ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة
لحقوا بابن هبيرة فانهزم إلى واسط واستولى الحسن ابن قحطبة على ما في
معسكرهم. وبلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة
الشيعة خرج ليلة عاشوراء وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثيّ وعلى شرطته
عبد الرحمن بن بشير العجليّ وسار إلى [1] فهرب زياد ومن معه من أهل
الشام ودخل القصر ورجع إليه حوثرة [2] وعن محمد عامة من معه ولزم
القصر. ثم جاء قوم من بجيلة من أصحاب حوثرة فدخلوا في الدعوة ثم آخرون
من كنانة، ثم آخرون من نجدل [3] فارتحل حوثرة نحوه [4] وكتب محمد إلى
قحطبة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: «وسار محمد إلى
القصر، فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام، ودخل محمد القصر.»
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 405: وسمع حوثرة الخبر
فسار نحو الكوفة فتفرّق عنه محمد عامة من معه.»
[3] وفي نسخة أخرى بجدل وفي الكامل ج 5 ص 405: من آل بحدل.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 405: «ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل
من آل بحدل فلما رأى ذلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه.»
(3/159)
وهو لم يعلم بهلاكه فقرأه الحسن على الناس
وارتحل نحو الكوفة فصبحها الرابعة من مسيرة وقيل إنّ الحسن بن قحطبة
سار إلى الكوفة بعد قتل ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجليّ
فهرب عنها وسبق محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلا فلقى الحسن ودخل معه
وأتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة وعسكر بالنخيلة، ثم نزل
حمام أعين. وبعث الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة وبايع الناس
أبا مسلمة حفص ابن سليمان الخلّال وزير آل محمد واستعمل محمد بن خالد
القسري على الكوفة وكان يسمّى الأمير، حتى ظهر أبو العبّاس السفّاح
وبعث حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد والمسيّب بن هبيرة وخالد بن
مرمل [1] ، إلى دير فناء وشراحيل إلى عير [2] وبسّام بن إبراهيم بن
بسّام إلى الأهواز، وبها عبد الرحمن بن عمر بن هبيرة فقاتله بسّام
وانهزم إلى البصرة وعليها مسلم بن قتيبة الباهليّ عاملا لأخيه. وبعث
بسّام في أثره سفيان ابن معاوية بن يزيد بن المهلّب واليا على البصرة،
فجمع سالم قيسا ومضر وبني أمية وجاء قائد من قواد ابن هبيرة في ألفي
رجل، وجمع سفيان اليمانيّة وحلفاءهم من ربيعة واقتتلوا في صفر. وقتل
ابن سفيان واسمه معاوية فانهزم لذلك. ثم جاء إلى سالم أربعة آلاف مددا
من عند مروان فقاتل الأزد واستباحهم ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة
فهرب عنها واجتمع ولد الحرث بن عبد المطّلب إلى محمد بن جعفر فولّوه
أياما حتى قدم أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم.
فلما بويع أبو العباس السفّاح ولّاها سفيان بن معاوية.
بيعة السفاح
قد كنا قدمنا خبر الدعاة وقبض مروان على إبراهيم بن محمد وأنه حبسه
بحرّان وكان نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم باللحاق بالكوفة وأوصى على
أخيه أبي العبّاس عبد الله ابن الحرثية. فسار أبو العبّاس ومعه أهل
بيته وفي إخوته أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابن أخيه إبراهيم
وعيسى ابن أخيه موسى ومن أعمامه داود وعيسى وصالح
__________
[1] هو خالد بن برمك.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 406: «وبعث المسيب بن
زهير وخالد بن برمك إلى دير منّى، وبعث المهلّبيّ وشراحيل إلى عين
التمر.»
(3/160)
وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن
عبد الله بن عبّاس، وموسى ابن عمه داود ويحيى بن جعفر بن تمام بن
العبّاس، فقدموا الكوفة في صفر وأبو سلمة والشيعة على حمام أعين بظاهر
الكوفة وأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود،
وكتم أمرهم عن جميع القوّاد والشيعة أربعين ليلة، وأراد فيما زعموا أن
يحوّل الأمر إلى أبي طالب. وسأله أبو الجهم من الشيعة وغيره فيقول: لا
تعجلوا ليس هذا وقته. ولقي أبو حميد محمد بن إبراهيم ذات يوم خادم
إبراهيم الإمام وهو سابق الخوارزميّ فسأله عن الإمام فقال: قتل إبراهيم
وأوصى إلى أخيه أبي العبّاس وها هو بالكوفة ومعه أهل بيته. فسأله في
اللقاء فقال: حتى أستأذن وواعده من الغد في ذلك المكان، وجاء أبو حميد
إلى أبي الجهم فأخبره وكان في عسكر أبي سلمة فقال له: تلطف في لقائهم.
فجاء إلى موعد سابق ومضى معه ودخل عليهم فسأل عن الخليفة فقال داود ابن
علي: هذا إمامكم وخليفتكم يشير إلى أبي العبّاس.
فسلّم عليه بالخلافة وعزّاه بإبراهيم الإمام، ورجع ومعه خادم من خدمهم
إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وأنّ أبا العبّاس أرسل إلى أبي سلمة أن
يبعث إليه كراء الرواحل التي جاءوا إليها، فلم يبعث إليهم شيئا فمشى
أبو الجهم وأبو الحميد والخادم إلى موسى بن كعب وأخبروه بالأمر وبعثوا
إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه. واتفق رأي القوّاد على لقاء الإمام
فنهض موسى بن كعب وأبو الجهم عبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد
الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وأبو حميد وعبد الله ابن بسّام
ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حصين وسليمان بن الأسود فدخلوا على أبي
العبّاس فسلّموا عليه بالخلافة وعزّوه في إبراهيم. ورجع موسى بن كعب
وأبو الجهم وخلفوا الباقين عند الإمام وأوصوهم إن جاء أبو سلمة لا
يدخلنّ إلّا وحده وبلغه الخبر فجاء ودخل وحده كما حدوا له وسلم على أبي
العباس بالخلافة وأمره بالعود إلى معسكره وأصبح الناس يوم الجمعة
لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأوّل فلبسوا الصفّاح واصطفّوا للخروج إلى
أبي العبّاس وأتوه بالدواب له ولمن معه من أهل بيته، وأركبوهم إلى دار
الإمارة، ثم رجع إلى المسجد فخطب وصلى بالناس وبايعوه ثم صعد المنبر
ثانية فقام في أعلاه وصعد عمه داود فقام دونه وخطب خطبته البليغة
المشهورة وذكر حقهم في الأمر وميراثهم له، وزاد الناس في أعطياتهم،
وكان موعوكا فاشتد عليه الوعك فحبس على المنبر وقام عمّه داود على أعلى
المراقي فخطب
(3/161)
مثله وذمّ سيرة بني أمية وعاهد الناس على
إقامته الكتاب والسنّة وسيرة النبي. ثم اعتذر عن عود السفّاح بعد
الصلاة إلى المنبر وأنه أراد أن لا يخلط كلام الجمعة بغيرها، وإنما
قطعه عن إتمام الكلام شدّة الوعك فأدعوا الله له بالعافية. ثم بالغ في
ذم مروان وشكر شيعتهم من أهل خراسان وأنّ الكوفة منزلهم لا يتخلون عنها
وأنه ما صعد هذا المنبر خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار
إلى السفّاح وأنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج عنّا حتى نسلمه لعيسى بن
مريم. ثم نزل أبو العبّاس وداود أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا
جعفر في المسجد يأخذ البيعة على الناس حتى جنّ الليل.
وخرج أبو العبّاس إلى عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر.
وحاجب السفّاح يومئذ عبد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة عمه داود
وبعث عمه عبد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور وبعث ابن أخيه موسى إلى
الحسن ابن قحطبة وهو يحاصر ابن هبيرة بواسط وبعث يحيى بن جعفر بن تمام
بن العبّاس إلى أحمد ابن قحطبة بالمدائن وبعث أبا اليقظان عثمان بن
عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسّام إبراهيم بن بسّام بالأهواز،
وبعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك ابن الطوّاف وأقام السفّاح بالعسكر
شهرا ثم ارتحل فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية. وقد قيل إنّ داود
بن عليّ وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العبّاس إلى الكوفة
وإنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفا خبرهم وقال لهم داود: كيف تأتون
الكوفة ومروان بن محمد في حرّان في أهل الشام والجزيرة فطلّ على العراق
ويزيد بن هبيرة بالعراق؟ فقال: يا عم من أحب الحياء ذلّ فرجع داود
وابنه معه.
مقتل إبراهيم بن الامام
قد تقدّم لنا أنّ مروان حبسه بحرّان وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك
وابنيه عثمان ومروان والعبّاس بن الوليد بن عبد الملك وعبد الله بن عمر
بن عبد العزيز وأبا محمد السفياني فهلك منهم في السجن من وباء وقع
بحرّان: العبّاس بن الوليد وإبراهيم بن الإمام وعبد الله بن عمر. وخرج
سعيد بن هشام ومن معه من المحبوسين بعد أن قتلوا صاحب السجن فقتلهم
الغوغاء من أهل حرّان وكان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك
وعبد الملك بن بشر الثعلبي وبطريق أرمينية واسمه كوشان
(3/162)
وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس لم
يستحلّ الخروج منه. ولما قدم مروان منهزما من الزاب حل عنه فيمن بقي
وقيل إنّ شراحيل بن مسلمة كان محبوسا مع إبراهيم وكانا يتزاوران
ويتهاديان، فدسّ في بعض الأيام إلى إبراهيم بن الإمام بلبن مسموم على
لسان شراحيل فاستطلق بطنه. وقيل إنّ شراحيل قال: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 احتيل والله عليه، وأصبح ميتا من
ليلته.
هزيمة مروان بالزاب ومقتله بمصر
قد ذكرنا أنّ قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور
فقتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل وأنّ مروان بن محمد سار إليه
من حرّان في مائة وعشرين ألفا وسار أبو عون إلى الزاب ووجه أبو سلمة
عيينة بن موسى والمنهال بن قبّان [1] وإسحاق بن طلحة كل واحد في ثلاثة
آلاف مددا له. فلما بويع أبو العباس وبعث مسلمة بن محمد في ألفين وعبد
الله الطائيّ في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين
ودراس بن فضلة [2] في خمسمائة كلهم مددا لأبي عون، ثم ندب أهل بيته إلى
المسير إلى أبي عون، فانتدب عبد الله بن عليّ فسار وقدم على أبي عون
فتحوّل له عن سرادقه بما فيه ثم أمر عيينة بن موسى بخمسة آلاف تعبر
النهر من الزاب أوّل جمادى الأخير سنة اثنتين وثلاثين وقاتل عساكر
مروان إلى المساء ورجع ففقد مروان الجسر من الغد وقدم ابنه عبد الله
وعبر فبعث عبد الله بن عليّ المخارق بن غفّار في أربعة نحو عبد الله بن
مروان فسرّح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فانهزم
أصحاب المخارق وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رءوس القتلى، فقال: أنت
المخارق؟ قال: لا. قال: فتعرفه في هذه الرءوس؟ قال: نعم. قال: هو ذا
فخلّى سبيله وقيل بل أنكر أن يكون في الرءوس فخلّى سبيله وعاجلهم عبد
الله بن عليّ بالحرب قبل أن يفشوا الخبر وعلى ميمنته أبو عون وعلى
ميسرته الوليد بن معاوية وكان عسكره نحوا من عشرين ألفا، وقيل اثني عشر
وأرسل مروان إليه في الموادعة فأبى وحمل الوليد بن معاوية بن مروان
__________
[1] المنهال بن فتّان: ابن الأثير ج 5 ص 416.
[2] وداس بن نضلة: ابن الأثير ج 5 ص 416.
(3/163)
وهو صهر مروان على ابنته، فقاتل أبا عون
حتى انهزم إلى عبد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا ومشى قدما ينادي يا
لثارات إبراهيم وبالأشعار يا محمد يا منصور. وأمر مروان القبائل بأن
يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته. ثم ظهر له الخلل فأباح
الأموال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال. فبعث ابنه عبد الله
يصدّهم عن ذلك فتبادروا بالفرار وانهزموا وقطع مروان الجسر وكان من غرق
أكثر ممن قتل. وغرق إبراهيم بن الوليد المخلوع وقيل بل قتله عبد الله
بن علي بالشام وممن قتل يحيى بن علي ابن هشام وكان ذلك في جمادى
الأخيرة سنة اثنتين وثلاثين، وأقام عبد الله في عسكره سبعة أيام واجتاز
عسكر مروان بما فيه وكتب بالفتح إلى أبي العبّاس السفّاح، وسار مروان
منهزما إلى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمر الثعلبي وابن خزيمة
الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم وقيل هذا أمير المؤمنين
فتجاهلوا وقالوا أمير المؤمنين لا يفرّ. ثم أسمعوه الشتم والقبائح فسار
إلى حرّان وبها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص وجاء عبد الله إلى حرّان
فلقيه أبو مسعود فأمنه ولقي الجزيرة. ولما بلغ مروان حمص أقام بها
ثلاثا وارتحل فاتبعه أهلها لينهبوه فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وسار
إلى دمشق وعليها الوليد ابن عمه فأوصاه بقتال عدوّه. وسار إلى فلسطين
فنزل نهر أبي فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل
إلى عبد الله ابن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، ثم سار عبد
الله بن عليّ في أثره من حرّان بعد أن هدم الدار التي حبس فيها أخوه
الإمام إبراهيم. وانتهى إلى قنج [1] فأطاعه أهلها وقدم عليه أخوه عبد
الصمد بعثه السفاح مددا في ثمانية آلاف وافترق قوّاد الشيعة على أبواب
دمشق فحاصروها أياما ثم دخلوها عنوة لخمس من رمضان واقتتلوا بها كثيرا
وقتل عاملها الوليد بن معاوية وأقام عبد الله بدمشق خمس عشرة ليلة
وارتحل يريد فلسطين فأجفل مروان إلى العريش، وجاء عبد الله فنزل نهر
أبي فطرس ووصله هناك كتاب السفّاح بأن يبعث صالح بن عليّ في طلب مروان.
فسار صالح في ذي القعدة وعلى مقدمته أبو عون وعامر بن إسماعيل الحارثي
فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد ونزل صالح الفسطاط وتقدّمت عساكره
فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير فسار
إليه أبو عون وبيته هنالك خوفا من أن
__________
[1] منبج: ابن الأثير ج 5 ص 425.
(3/164)
يفضحه الصبح فانهزم مروان وطعن فسقط في آخر
ذي الحجة الحرام وقطع رأسه، وبعث به طليعة أبي عون إليه. فبعثه إلى
السفّاح وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان إلى أرض الحبشة وقاتلوهم
فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وبقي إلى أيام المهدي فأخذه عامل فلسطين
وسجنه المهدي. وكان طليعة أبي عون عامر بن إسماعيل الحارثي فوجد نساء
مروان وبناته في كنيسة بوصير قد وكل بهنّ خادما يقتلهنّ بعده بهنّ صالح
ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء فلامهنّ على قتالهم عند بني أمية. ثم
عفا عنهنّ وحملهنّ إلى حرّان يبكين. وكان مروان يلقب بالحمار لحرنه في
مواطن الحرب. وكان أعداؤه ويلقبونه الجعديّ نسبة إلى الجعد بن درهم كان
يقول بخلق القرآن ويتزندق. وأمر هشام خالد القسري بقتله فقتله. ثم
تتبعوا بني أمية بالقتل ودخل أسديف [1] يوما على السفّاح وعنده سليمان
بن هشام وقد أمّنه والده فقال:
لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فأمر السفاح بسليمان فقتل. ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد
الله بن علي وعنده ثمانون أو تسعون من بني أمية يأكلون على مائدته
فقال:
أصبح الملك في ثبات الأساس ... بالبهاليل من بني العبّاس
طلبوا أمر هاشم فنعونا ... بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلنّ عبد شمس عثارا ... فاقطعن كلّ رقلة وغراس
فلنا أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي
فلقد غاضني وغاض سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الّذي بحرّان أضحى ... ثاويا رهن غربة ونعاس
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام
عليهم وأنينهم يسمع حتى ماتوا، وذلك بنهر أبي فطرس وكان فيمن قتل: محمد
بن عبد الملك بن مروان والمعزّ بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان وسعيد بن
عبد الملك وأبو
__________
[1] سديف: ابن الأثير ج 5 ص 429.
(3/165)
عبيدة بن الوليد بن عبد الملك. وقيل: إنّ
إبراهيم المخلوع قتل معهم، وقيل إنّ أسديفا هو الّذي أنشد هذا الشعر
للسفّاح وأنه الّذي قتلهم. ثم قتل سليمان بن علي بن عبد الله بن
العبّاس بالبصرة جماعة من بني أمية فأمر بأشلائهم في الطرق فأكلتهم
الكلاب، وقيل إنّ عبد الله بن علي أمر بنبش قبور الخلفاء من بني أمية
فلم يجدوا في القبور إلّا شبه الرماد وخيطا في قبر معاوية وجمجمة في
قبر عبد الملك. وربّما وجد فيها بعض الأعضاء الا هشام بن عبد الملك
فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسوط ثم صلبه وحرقة وذرّاه في الريح،
والله أعلم بصحّة ذلك. ثم تتبعوا بني أمية بالقتل فلم يفلت منهم إلا
الرضعاء أو من هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام وغيره
ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم.
بقية الصوائف في الدولة الاموية
قد انتهينا بالصوائف إلى آخر أيام عمر بن عبد العزيز وفي سنة اثنتين
ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على
الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقا وقتل منهم سبعمائة
أسير. وغزا العبّاس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة. ثم غزا سنة ثلاث
بعدها فافتتح مدينة رسلة. ثم غزا الجرّاح الحكميّ أيام هشام سنة خمس
فبلغ وراء بلنجر وغنم، وغزا في هذه السنة سعيد بن عبد الملك أرض الروم
وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعا. وغزا فيها مروان بن محمد
بالصائفة اليمنى، ففتح مدينة قريبة من أرض الزوكخ. ثم غزا سعيد بن عبد
الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست. ثم غزا مسلمة بن عبد الملك الروم من
الجزيرة وهو وال عليها ففتح قيساريّة. وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا
[1] . وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس، وغزا سنة تسع ففتح حصنا آخر
يقال له طبسة [2] . وغزا سنة عشر بالصائفة عبد الله بن عقبة الفهريّ،
وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وغزا بالصائفة
اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام
وفي البحر عبد الله بن أبي مريم. وافتتح معاوية في
__________
[1] فتح حصنا من حصون الروم.
[2] طيبة: ابن الأثير ج 5 ص 145.
(3/166)
صائفة ثلاث عشرة مدينة خرشفة [1] . وغزا
سنة ثلاث عشرة عبد الله البطّال، فانهزم فثبت عبد الوهّاب من أصحابه
فقتل. ودخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش. ثم غزا سنة أربع
عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق [2] .
والتقى عبد الله البطّال مع قسطنطين، فهزمه البطّال وأسره. وغزا سليمان
بن هشام بالصائفة اليسرى [3] فبلغ قيساريّة، وهزم مسلمة بن عبد الملك
خاقان وباب الباب [4] . وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة
وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة. وسليمان بن هشام
بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة، وفرّق السرايا في أرض الروم وبعث
فيها مروان بن محمد من أرمينية [5] فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها
قومانساه صلحا، وغزا معاوية وسليمان أيضا أرض الروم سنة ثماني عشرة.
وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية ودخل أرض وارقيس [6] ، فهرب وارقيس
إلى الحرور [7] ونازل حصنه فحاصره. وقتل وارقيس بعض من اجتاز به وبعث
برأسه إلى مروان ونزل أهل الحصن على حكمه فقتل وسبى. وغزا سنة تسع عشرة
مروان بن محمد من أرمينية ومرّ ببلاد اللّان إلى بلاد الخزر على بلنجر
وسمندر وانتهى إلى خاقان فهرب خاقان منه. وغزا سليمان بن هشام سنة
عشرين بالصائفة فافتتح سندرة وغزا إسحاق بن مسلم العقيلي قومانساه [8]
وافتتح قلاعه وخرب أرضه.
وغزا مروان من أرمينية سنة إحدى وعشرين وأفنى [9] قلعة بيت السرير فقتل
وسبى، ثم قلعة أخرى كذلك ودخل عزسك [10] وهو حصن الملك فهرب منه الملك
ودخل
__________
[1] خرشنة: ابن الأثير ج 5 ص 171
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 179: «وفي هذه
السنة (أي سنة اربع عشرة ومائة) غزا معاوية بن هشام بالصائفة اليسرى
فأصاب ربض أقرف.»
[3] بالصائفة اليمنى «المرجع السابق» .
[4] هزم خاقان وأحكم ما هناك وبنى الباب: ابن الأثير ج 179
[5] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 186: «وفيها بعث مروان
بن محمد وهو على أرمينية، بعثين وافتتح أحدهما حصونا ثلاثة من اللّان،
ونزل الآخر على تومان شاه فنزل أهلها على الصلح.»
[6] أرض ورنيس: ابن الأثير ج 5 ص 198
[7] الخزر: ابن الأثير ج 5 ص 198
[8] وغزا إسحاق بن سلم العقيلي تومان شاه: ابن الأثير ج 5 ص 228
[9] لعلها أتى قلعة بيت السرير
[10] غوميك: ابن الأثير ج 5 ص 240
(3/167)
حصنا له يسمى جرج [1] فيه سرير الذهب
فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة ومائة ألف مدني [2] ثم دخل
أرض أرزق ونصران [3] فصالحه ملكها. ثم أرض تومان كذلك. ثم أرض حمدين
[4] فأخرب بلاده وحصر حصنا له شهرا حتى صالحه ثم أرض مسداد [5] ففتحها
على صلح ثم نزل كيلان [6] فصالحه أهل طبرستان وكيلان [7] وكل هذه
الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان. وغزا مسلمة بن هشام
الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير وفي سنة اثنتين وعشرين بعدها قتل
البطّال واسمه عبد الله بن الحسين الأنطاكي وكان كثير الغزو في بلاد
الروم والإغارة عليهم. وقدّمه مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان يغزو بلاد
الروم إلى أن قتل هذه السنة. وفي سنة أربعة وعشرين غزا سليمان بن هشام
بالصائفة على عهد أبيه فلقي أليون ملك الروم فهزمه وغنم. وفي سنة خمسة
وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره [8] وكان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري
وخزينة [9] الروم وبني بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان. ثم
بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه ثم
طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف. وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد
بالصائفة أخاه العمر وبعث الأسود بن بلال المحاربي [10] بالجيش في
البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين، وغزا
أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن
مرعش
__________
[1] خيزج: ابن الأثير ج 5 ص 240
[2] مدي: ابن الأثير ج 5 ص 240
[3] أزر وبطران: ابن الأثير ج 5 ص 240
[4] حمزين: ابن الأثير ج 5 ص 240
[5] مداز: ابن الأثير ج 5 ص 240
[6] كيران: ابن الأثير ج 5 ص 240
[7] فصالحه أهل طبرستان وفيلان: المرجع السابق
[8] زبطرة: ابن الأثير ج 5 ص 274
[9] حسب مقتضى السياق: واضربته الروم
[10] اغزى الوليد أخاه الغمر بن يزيد وأمّر على جيوش البحر الأسود بن
بلال المحاذيّ: ابن الأثير ج 5 ص 274.
(3/168)
عمال بني أمية على
النواحي
استعمل معاوية أوّل خلافته سنة أربعين عبد الله بن عمرو بن العاص على
الكوفة ثم عزله واستعمل المغيرة بن شعبة على الصلاة واستعمل [1] على
الخراج وكان على النقباء بها شريح وكان حمران بن أبان قد وثب على
البصرة عند ما صالح الحسن معاوية فبعث معاوية بشر بن أرطاة على البصرة
وأمدّه فقتل أولاد زياد بن أبيه، وكان عاملا على فارس لعليّ بن أبي
طالب، فقدم البصرة وقد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل. ثم ولّى على
البصرة عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وضم إليه خراسان
وسجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب وعلى القضاء عميرة بن تبرى، وقد
تقدّم لنا أخبار قيس في خراسان وكان عمرو بن العاص على مصر كما تقدّم،
فولّى سنة إحدى وأربعين من قبله على إفريقية عقبة بن نافع بن عبد قيس،
وهو ابن خالته فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوه ثم كفروا فغزاهم وقتل
وسبى.
ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين بعدها غذامس وقتل وسبى وافتتح سنة ثلاثة
وأربعين بعدها بلد ودّان وولّى معاوية بالمدينة سنة اثنتين وأربعين
مروان بن الحكم فاستقضى عبد الله بن الحرث بن نوفل، وولّى معاوية على
مكّة في هذه السنة خالد بن العاص ابن هشام، وكان على أرمينية حبيب بن
مسلمة الفهريّ وولاه عليها معاوية ومات سنة اثنتين وأربعين فولى مكانه
[2] واستعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عبد الله بن سوار
العبديّ ويقال ولّاه معاوية وعزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم
عن خراسان وولّى مكانه الحرث ابن عبد الله بن حازم. ثم عزل معاوية عبد
الله بن عامر عن البصرة سنة أربع وأربعين وولّى مكانه الحرث بن عبد
الله الأزدي، ثم عزله لأربعة أشهر وولّى أخاه زيادا سنة
__________
[1] بياض بالأصل: يذكر ابن الأثير في كتاب الكامل ج 3 ص 413 خبر تولية
عمرو بن العاص الكوفة وعزله عنها بدسيسة المغيرة ثم تولية المغيرة
الكوفة وعزله عن الخراج واستعماله على الصلاة فقط بتحذير من عمرو بن
العاص. ولم يذكر ابن الأثير من تولى أمر الخراج. وكذلك الطبري لم يذكر
خبر عزله عن الخراج ج 6 ص 98.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 3 ص 425 خبر وفاة محمد بن
مسلمه بالمدينة ولم يذكر من ولي مكانه. وكذلك الطبري لم يذكر وفاته ولا
من تولى بعده أمر أرمينية.
(3/169)
خمس وأربعين، فولّى على خراسان الحكم بن
عمر الغفاريّ، وجعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي. ثم مات الحكم
فولّى خليد بن عبد الله الحنفيّ سنة سبعة وأربعين ثم ولّى على خراسان
سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثيّ، وتولى عمرو بن العاص سنة تسعة
وأربعين فولّى مكانه سعيد بن العاص، فعزل عبد الله بن الحرث عن القضاء
واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن وفي سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة
فضم الكوفة إلى أخيه زياد، فجاء إليها واستخلف على البصرة سمرة ابن
جندب، وكان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفا بنصف وفي سنة
خمسين هذه اقتطع معاوية إفريقية عن معاوية بن خديج بمصر وولّى عقبة بن
نافع الفهريّ وكان مقيما ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن
العاص، فأمدّه بعشرة آلاف فسار إليها وانضاف إليه من أسلم من البربر،
ودوّخ البلاد وبنى بالقيروان، وأنزل عساكر المسلمين ثم استعمل معاوية
على مصر وإفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة، وجاء عقبة إلى
الشام فاعتذر إليه معاوية ووعده بعمله ومات معاوية فولّاه يزيد سنة
اثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة اثنتين وستين واستعمل أبا
المهاجر فولي الأمصار، فحبس عقبة وضيّق عليه وأمره يزيد بإطلاقه فوفد
عقبة فأعاده إلى عمله. فحبس أبا المهاجر وخرج غازيا وأثخن حتى قتله
كسيلة كما يأتي في أخباره وفي سنة إحدى وخمسين ولّى زياد على خراسان
الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عبد الله الحنفي وفي سنة ثلاث
وخمسين توفي زياد واستخلف على البصرة سمرة بن جندب وعلى الكوفة عبد
الله بن خالد بن أسيد. ثم ولّى الضحاك بن قيس سنة خمس بعدها وفي هذه
السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد واستخلفه ابنه عبد
الله ومات لشهرين واستخلف خليد بن يربوع الحنفي وكان على صفا بيروز
الدّيلميّ من قبل معاوية فمات سنة ثلاث وخمسين وفي سنة أربع وخمسين عزل
معاوية عن المدينة سعيد بن العاص وردّ إليها مروان بن الحكم ثم عزله
سنة سبعة وولّى مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان وعزل سنة تسعة
وخمسين عن البصرة ابن جندب وولّى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان،
وولّى على خراسان عبيد الله بن زياد ثم ولّاه سنة خمس بعدها على البصرة
مكان بن غيلان ثم ولّى على خراسان سنة ستة وخمسين سعيد بن عثمان بن
عفّان وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحّاك بن قيس
واستعمل مكانه ابن أمّ الحكم وهي
(3/170)
أخته، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي،
وطرده أهل الكوفة فولّاه مصر فردّه معاوية بن خديج وولّى مكانه على
الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير وولّى فيها على خراسان عبد
الرحمن بن زياد فقدم إليها قيس بن الهيثم السلميّ فحبس أسلم بن زرعة
فأغرمه ثلاثمائة ألف درهم. ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي
من ذكرناه وعلى سجستان عبّاد بن زياد وعلى كرمان شريك بن الأعور وعزل
يزيد لأوّل ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز وولّاها عمر بن
سعيد الأشدق ثم عزله سنة إحدى وستين، وردّ الوليد بن عقبة وولّى على
خراسان سالم بن زياد، فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي وبعث
أخاه يزيد إلى سجستان وكان بها أخوهما عبّاد فخرج عنهما. وقاتل يزيد
أهل كابل فهزموه، فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد
الله بن خلف الخزاعيّ فبقي سنة، وبعث سنة اثنتين وستين عقبة بن نافع
إلى إفريقية فحبس أبا المهاجر، واستخلف على القيروان زهير بن قيس
البلوي كما نذكر في اخباره. وتوفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد
الأنصاريّ أمير مصر. ثم هلك يزيد سنة أربع وستين واستخلف على أهل
العراق عبيد الله بن زياد. وولّى أهل البصرة عليهم عبد الله بن الحرث
بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب ويلقب ببّة، وهرب ابن زياد إلى الشام.
وجاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير وبلغه خلاف أهل الري
وعليهم الفرّخان فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه،
فبعث عتّاب بن ورقاء فهزمهم. ثم بويع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد
عبد الرحمن بن حجّام القرشيّ داعية ابن الزبير وولّى عليها عمر بن سعيد
ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير لما بعثه أخوه عبد الله إلى الشام، وولّى
على مصر ابنه عبد العزيز فلم يزل عليها واليا إلى أن هلك لسنة خمسة
وثمانين، فولّى عبد الملك عليها ابنه عبد الله بن عبد الملك.
وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد واستخلف المهلّب بن أبي صفرة،
ثم ولىّ مسلم عبد الله بن حازم فاستبدّ بخراسان إلى حين. ثم خرج أهل
الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زياد وبايعوا لابن الزبير وقدم المختار بن
أبي عبيد أميرا على الكوفة
(3/171)
من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد، وامتنع
شريح من القضاء أيام الفتنة [1] واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه
مصعبا سنة خمس وستين مكان أخيه عبد الله وثار بنو تميم بخراسان على عبد
الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشّاح وغلب المختار على ابن مطيع
عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستين (ثم مات) مروان سنة خمس وستين
وولي عبد الملك. وولىّ ابن الزبير أخاه مصعبا على البصرة وولىّ مكانه
بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهريّ. ثم ملك عبد العزيز العراق سنة
إحدى وسبعين واستعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن أسد وعلى الكوفة
أخاه بشر بن مروان وكان على خراسان عبد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير،
فقام بكير بن وشّاح التميمي بدعوة عبد الملك وقتله. وولّاه عبد الملك
خراسان. وكان على المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير
بعد جابر بن الأسود، فبعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان فغلبه
عليها. ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين وانفرد عبد الملك بالخلافة
وولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمدا. وعزل خالد بن عبد الله عن
البصرة وضمّها إلى أخيه بشر فسار إليها واستخلف على الكوفة عمر بن حريث
وولىّ على الحجاز واليمن واليمامة الحجّاج بن يوسف وبعثه من الكوفة
لحرب ابن الزبير وعزل طارقا عن المدينة وسار من جنده. وفي سنة أربع
وسبعين استقضى أبا إدريس الخولانيّ وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلّب بن
أبي صفرة لحرب الأزارقة. وعزل عن خراسان بكير بن وشّاح وولّى مكانه
أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فبعث أمية ابنه عبد الله على سجستان.
وكان على إفريقية زهير بن قيس البلوي فقتله البربر سنة تسع وستين.
وشغل عبد الملك بفتنة ابن الزبير، فلما فرغ منها بعث إلى إفريقية سنة
أربع وسبعين حسّان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها، فأثخن
فيها وافترقت جموع الروم
__________
[1] بياض بالأصل: وفي الطبري ج 7 ص 66: «وحج بالناس في هذه السنة عبد
الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة فيها اخوه عبيدة بن الزبير
وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطميّ، وعلى قضائها سعد بن ثمران، وأبي
شريح ان يقضي فيها. وقال فيما ذكر عنه: انا لا أقضي في الفتنة. وعلى
البصرة عمر بن عبد الله بن معمر التميمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة
وعلى خراسان عبد الله بن خازم» . وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 174 لم
يذكر امتناع شريح من القضاء وانما يذكر توليه عبد الله بن يزيد الخطميّ
على الكوفة وعلى قضائها هشام بن هبيرة. وقد تولى القضاء بعد امتناع
شريح عن القضاء في الكوفة أبا بردة بن أبي موسى كما سنعلم.
(3/172)
والبربر. وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار
إفريقية ثم ولىّ عبد الملك سنة خمس وسبعين الحجّاج بن يوسف على العراق
فقط، وولىّ على السند سعيد بن أسلم بن زرعة وقتل في حروبها، وكان أمر
الخوارج وفي سنة ست وسبعين ولي على المدينة أبان ابن عثمان وكان على
قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى بعد هشام بن
هبيرة وعلى قضاء المدينة عبد الله بن قشير بن مخرمة. ثم كانت حروب
الخوارج كما نذكر في أخبارهم. وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أميّة
بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمّهما إلى الحجّاج بن يوسف، فبعث
الحجّاج على خراسان المهلّب بن أبي صفرة وعلى سجستان عبد الله بن أبي
بكرة وولىّ على قضاء البصرة موسى بن أنس واستعفى شريح بن الحرث من
القضاء بالكوفة فولّى مكانه أبا بردة بن أبي موسى ثم ولى على قضاء
البصرة عبد الرحمن بن أذينة وخرج عبد الرحمن بن الأشعث فملك سجستان
وكرمان وفارس والبصرة ثم قتل ورجعت إلى حالها، وذلك سنة إحدى وثمانين.
وفي سنة اثنتين وثمانين مات المهلّب بن أبي صفرة واستخلف ابنه يزيد على
خراسان فأقرّه الحجّاج. وفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن
المدينة وولىّ مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي فعزل هشام نوفل ابن
مساحق عن القضاء وولىّ مكانه عمر بن خالد الزرقيّ. وبنى الحجّاج مدينة
واسط. وفي سنة خمس وثمانين عزل الحجّاج يزيد بن المهلّب عن خراسان
وولىّ مكانه هشام أخاه المفضّل قليلا ثم ولى قتيبة بن مسلم وتوفي عبد
الملك. وعزل الوليد لأوّل ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولّى
مكانه عمر بن عبد العزيز فولّى على القضاء أبا بكر بن عمر بن حزم وولىّ
الحجّاج على البصرة الجرّاح بن عبد الله الحكميّ وولىّ على قضائها عبد
الله بن أذينة وعلى قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري. وفي سنة
تسع وثمانين ولىّ الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القسريّ وكان على
ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهو ابن
عمّ الحجاج. ففتح السند وقتل ملكه، وكان على مصر عبد الله بن عبد الملك
ولّاه عليها أبوه ففل ملكها. فعزله الوليد في هذه السنة وولىّ مكانه
قرّة بن شريك، وعزل خالدا عن الحجاز وولىّ عمر بن عبد العزيز. وفي سنة
إحدى وتسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية وولىّ
مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن
زياد عاملا لمولاه موسى بن نصير
(3/173)
عامل الوليد بالقيروان فأجاز البلاد والبحر
إلى بلاد الأندلس وافتتحها سنة اثنتين وتسعين كما يذكر في أخبارها، وفي
سنة ثلاث وتسعين عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وولّى مكانه خالد بن
عبد الله على مكّة وعثمان بن حيّان على المدينة. ومات الحجّاج سنة خمس
وتسعين ثم مات الوليد سنة ست وتسعين وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه
على سليمان وولّاها سليمان يزيد بن المهلّب وفيها مات قرّة بن شريك [1]
وكان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم وعلى مكّة عبد العزيز
بن عبد الله ابن خالد بن أسيد وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى وعلى
قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة وفي سنة سبع وتسعين عزل سليمان بن
موسى بن نصير [2] عن إفريقية وولّى مكانه محمد بن يزيد القرشيّ حتى مات
سليمان فعزل واستعمل عمر مكانه إسماعيل بن عبد الله [3] وفي سنة ثمان
وتسعين كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عبد الملك على يد يزيد
ابن المهلّب وفي سنة تسع وتسعين استعمل عمر ابن عبد العزيز على البصرة
عدي بن أرطاة الفزاريّ، وأمره بإبقاء يزيد بن المهلّب موثوقا فولّى على
القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم إياس بن معاوية وعلى الكوفة عبد
الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطّاب. وولّى على المدينة عبد
العزيز بن أرطاة وولّى على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمي. ثم عزل
سنة مائة وولّى عبد الرحمن بن نعيم القرشي وولّى على الجزيرة عمر بن
هبيرة الفزاري، وعلى إفريقية إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم وعلى
الأندلس السمح بن مالك الخولانيّ.
ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسماعيل عن إفريقية وولّاها يزيد بن أبي مسلم
كاتب الحجّاج، فلم يزل عليها إلى أن قتل. وفي سنة اثنتين ومائة ولي
يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على العراق وخراسان فولّى على خراسان
سعيد بن عبد العزيز بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص بن أميّة ويقال له
سعيد خدينة. ثم استحيا من مسلمة في أمر الجرّاح فعزله وولّى مكانه ابن
يزيد بن هبيرة، فجعل على قضاء الكوفة القاسم
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 20: «وفي هذه السنة (96)
مات قرّة بن شريك العبسيّ أمير مصر في صفر، وقيل مات سنة خمس وتسعين في
الشهر الّذي مات فيه الحجّاج» .
[2] العبارة غير صحيحة. وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 23: «وفيها عزل
سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل
عليها محمد بن يزيد القرشي» .
[3] إسماعيل بن عبيد الله: ابن الأثير (المرجع السابق) .
(3/174)
ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى
قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
وكان على مصر أسامة بن زيد، وليها بعد قرّة بن شريك وولّى ابن هبيرة
على خراسان سعيدا الحريشيّ مكان حذيفة. وفي سنة ثلاث ومائة جمع يزيد
مكّة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحّاك، وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن
خالد عن مكّة وعن الطائف وولّى مكانه على الطائف عبد الواحد بن عبد
الله البصري. وفي سنة أربع ومائة ولّى يزيد على أرمينية الجرّاح بن عبد
الله الحكمي وعزل عبد الرحمن بن الضحّاك عن مكّة والمدينة لثلاث سنين
من ولايته، وولّى عليهما مكانه عبد الواحد النصري [1] وعزل ابن هبيرة
سعيد الحريشيّ عن خراسان وولّى عليها مسلم بن سعيد ابن أسلم بن زرعة
الكلابي، وولّى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي. ومات يزيد بن
عبد الملك سنة خمس وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق وولّى مكانه
خالد بن عبد الله القسري، واستعمل خالد على خراسان أخاه أسدا سنة سبع
ومائة.
وعزل مسلم بن سعيد وولّى على البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى قضائها
ثمامة بن عبد الله بن أنس. وولّى على السند الجنيد بن عبد الرحمن.
واستعمل هشام على الموصل الحرّ بن يوسف، وعزل عبد الواحد النصري عن
الحجاز، وولّى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، واستقضى
بالمدينة محمد بن صفوان الجمحيّ، ثم عزله واستقضى الصّلت الكندي. وعزل
الجرّاح بن عبد الله عن أرمينية وأذربيجان وولّى مكانه أخاه مسلمة،
فولّى عليها الحرث ابن عمر الطائي. وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن
عمر، وفي سنة تسع عزل خالد أخاه أسدا عن خراسان وولّى هشام عليها أشرس
بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالدا بعد أن كان خالد ولّى الحكم
بن عوانة الكلبي مكان أخيه، فلم يقرّ فعزله هشام. ومات في سنة تسع عامل
القيروان بشر بن صفوان، فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغرّ
السلمي فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس، واستعمل حذيفة بن
الأخوص الأشجعيّ. ثم عزل لستة أشهر ووليها عثمان بن أبي نسعة الخثعميّ
وفي سنة عشر ومائة جمع خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة
لبلال بن أبي بردة وعزل تمامة عن القضاء. وفي سنة إحدى عشرة عزل هشام
عن خراسان أشرس بن عبد الله وولّى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن الحرث
بن خارجة بن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: البصري وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 113: النضريّ.
(3/175)
سنان بن أبي حارثة المرّي وولّى على
أرمينية الجرّاح بن عبد الله الحكمي وعزل مسلمة.
وفيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل إفريقية وعثمان بن أبي تسعة عن
الأندلس، وولّى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني. وفي سنة اثنتي عشرة قتل
الجرّاح بن عبد الله صاحب أرمينية قتله التركمان، فولّى هشام مكانه
سعيدا الحريشيّ. ومات الهيثم عامل الأندلس وولّوا على أنفسهم مكانه
محمد بن عبد الله الأشجعي شهرين وبعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقيّ
من قبيل ابن عبد الرحمن السلمي عامل إفريقية.
وغزا إفرنجة فاستشهد، فولّى عبيدة مكانه عبد الملك بن قطن الفهري وعزل
عبيدة عن إفريقية وولّى مكانه عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار
إليها. وفي سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولّى مكانه مروان
بن محمد بن مروان.
وعزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز وولّى مكانه على المدينة خالد بن عبد
الملك بن الحرث بن الحكم، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام المخزوميّ.
وفي سنة ست عشرة ومائة عزل هشام الجنيد بن عبد الرحمن المرّي عن خراسان
وولّى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلاليّ. وفيها استعمل عبد الله
بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجّاج القيسي مكان عبد الملك بن قطن
ففتح خليتيه [1] وفي سنة سبع عشرة ومائة عزل هشام عاصم بن عبد الله عن
خراسان وولّى مكانه خالد بن عبد الله القسري فاستخلف خالد أخاه أسدا.
وولّى هشام على إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحجاب وكان على مصر
فسار اليها واستخلف على مصر ولده وولّى على الأندلس عقبة بن الحجّاج
وعلى طنجة ابنه إسماعيل وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا
إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان وفتح وغنم. وأغزاه إلى
صقلّيّة سنة اثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها ثم واستدعاه لفتنة ميسرة
كما نذكره في أخبارهم وفي سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن
عبد الملك بن الحرث وولّى مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل. وفي سنة
عشرين مات أسد بن عبد الله الخراسانيّ وولي مكانه نصر بن سيّار. وعزل
هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين وخراسان وولّى مكانه يوسف
بن عمر الثقفي
__________
[1] وفيها استعمل عبد الله بن الحجاب عطيّة بن الحجّاج القيسيّ على
الأندلس فسار اليها ووليها في شوّال من هذه السنة وعزل عبد الملك بن
قطن، وكان له كلّ سنة غزاة، وهو الّذي افتتح جليقية والبتة وغيرهما.
(ابن الأثير ج 5 ص 185) .
(3/176)
استقدمه إليها من ولاية اليمن، فأقرّ نصر
بن سيّار على خراسان، وكان على قضاء الكوفة ابن شرمة [1] وعلى قضاء
البصرة عامر بن عبيدة وولّى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان واستقضى
مكانه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وكان على قضاء البصرة إياس بن
معاوية بن قرّة فمات في هذه السنة وفي سنة ثلاث وعشرين قتل كلثوم بن
عيّاض الّذي حثه هشام لقتال البربر بالمغرب وتوفي عقبة بن الحجّاج أمير
الأندلس وقيل بل خلعوه، وولّى مكانه عبد الملك بن قطن ولايته الثانية
كما يذكر.
وفي سنة أربع وعشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان. وتلقب بلخ [2] على
الأندلس ثم مات وكان سار إليها من فل كلثوم بن عيّاض لما قتله البربر
بالمغرب وولّى هشام على الأندلس أبا الخطّار حسام بن ضرار الكلبي فأمر
حنظلة بن صفوان أن يوليه فولّاه وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد
ولوه بعد بلج فعزله أبو الخطار. وفي هذه السنة ولّى الوليد بن يزيد
خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفيّ على الحجاز فأسره ثم قتل الوليد
سنة ست وعشرين فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر وولّى مكانه منصور ابن
جمهور، فبعث عامله على خراسان فامتنع نصر بن سيّار من تسليم العمل له.
ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولّى مكانه على العراق عبد الله بن عمر
ابن عبد العزيز، وغلب حنظلة على إفريقية عبد الرحمن بن حبيب كما يذكر
في خبرها. وعزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف، وولّى مكانه عبد
العزيز ابن عمر بن عثمان، وغلب سنة سبع وعشرين عبد الله بن معاوية بن
عبد الله بن جعفر على الكوفة، وولّى مروان على الحجاز عبد العزيز بن
عمر بن عبد العزيز، وعلى العراق النضر بن سعيد الحريشيّ. وامتنع ابن
عمر من استلام العمل إليه ووقعت الفتنة بينهم. ولحق ابن عمر بالخوارج
كما يذكر في أخبارهم واستولى بنو العبّاس على خراسان. وفي سنة تسع
وعشرين ولي يوسف بن عبد الرحمن الفهريّ على الأندلس بعد نوّابة بن
سلامة كما يأتي في أخبارهم. وولّى مروان على الحجاز عبد الواحد [3]
وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة وفي سنة ثلاثين ملك أبو مسلم
__________
[1] ابن شبرمة (ابن الأثير ج 5 ص 228) وفي نسخة اخرى شبرمة.
[2] هو بلج (ابن الأثير ج 5 ص 259) .
[3] عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: ابن الأثير ج 5 ص 373. وفي
الطبري ج 9 ص 96: «وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن سليمان بن
عبد الملك بن ودان» .
(3/177)
خراسان وهرب عنها نصر بن سيّار فمات بنواحي
همذان سنة إحدى وثلاثين وجاء المسوّدة عليهم قحطبة فطلبوا ابن هبيرة
على العراق وملّكوه وبايعوا خليفتهم أبا العبّاس السفّاح. ثم غلبوا
مروان على الشام ومصر وقتلوه. وانقرض أمر بني أمية وعاد الأمر والخلافة
لبني العبّاس والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده وهذه أخبار بني أمية
مخلصة [1] من كتاب أبي جعفر الطبري ولنرجع إلى أخبار الخوارج كما شرطنا
في أخبارها بالذكر، والله المعين لا ربّ غيره.
الخبر عن الخوارج وذكر أوّليتهم وتكرّر خروجهم في الملة الإسلامية
قد تقدّم لنا خبر الحكمين في حرب صفين واعتزل الخوارج عليا منكرين
للتحكيم مكفّرين به ولاطفهم في الرجوع عن ذلك وناظرهم فيه بوجه الحق
فلجّوا وأبوا إلا الحرب وجعلوا أشعارهم النداء بلا حكم إلا للَّه
وبايعوا عبد الله ابن وهب الراسبي وقاتلهم عليّ بالنهروان فاستلحمهم
أجمعين ثم خرج من فلّهم طائفة بالأنبار فبعث إليهم من استلحمهم ثم
طويفة أخرى مع هلال بن عليّة فبعث معقل بن قيس فقتلهم. ثم أخرى ثالثة
كذلك، ثم أخرى على المدائن كذلك، ثم أخرى بشهرزور كذلك، وبعث شريح بن
هانئ فهزموه فجرح واستلحمهم أجمعين، واستأمن من بقي فأمّنهم وكانوا نحو
خمسين. وافترق شمل الخوارج ثم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا
[2] لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل بالسهم عبد الرحمن بن ملجم
عليّا رضى الله عنه وباء بإثمه وسلم الباقون، ثم اتفقت الجماعة على
بيعة معاوية سنة إحدى وأربعين واستقل معاوية بخلافة الإسلام.
وقد كان فروة بن نوفل الأشجعي اعتزل عليّا والحسن ونزل شهرزور وهو في
خمسمائة من الخوارج فلما بويع معاوية قال فروة لأصحابه: قد جاء الحق
فجاهدوا وأقبلوا فنزلوا النخيلة عند الكوفة فاستنفر معاوية أهل الكوفة
فخرجوا لقتالهم، وسألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم وبين معاوية فأبوا
فاجتمعت أشجع على فروة وأتوا له من القتال
__________
[1] لعلها ملخصة.
[2] الأصح: تواعدوا أي اتفقوا على ميعاد، بينما هنا تعني تهددوا.
(3/178)
ودخلوا الكوفة قهرا [1] واستعمل الخوارج
بعده عبد الله بن أبي الحريشيّ من طيِّئ وقاتلوا أهل الكوفة فقاتلوا
وابن أبي الحريشيّ معهم ثم اجتمعوا بعده على حوثرة بن وداع الأسدي
وقدموا إلى النخيلة في مائة وخمسين ومعهم فلّ ابن أبي الحريشيّ.
وبعث معاوية إلى حوثرة أباه ليردّه عن شأنه فأبى، فبعث إليهم عبد الله
بن عوف في معسكر فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين دخلوا الكوفة وتفرّقوا
فيها، وذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى وأربعين. وسار معاوية إلى الشام
وخلف المغيرة بن شعبة فعاد فروة ابن نوفل الأشجعي إلى الخروج فبعث إليه
المغيرة خيلا عليها ابن ربعي ويقال معقل ابن قيس فلقيه بشهرزور فقتله
ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله، وكان من أصحاب ابن ملجم وهو
الّذي أتى معاوية يبشّره بقتل عليّ فخافه على نفسه وأمر بقتله فتنكّر
بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله ثم بلغ المغيرة أنّ بعضهم
يريد الخروج وذكر له معن بن عبد الله المحاربي فحبسه ثم طالبه بالبيعة
لمعاوية فأبى فقتله.
ثم خرج على المغيرة أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب فأخرج معه النساء،
فبعث المغيرة من قتله وأصحابه ثم حكم أبو ليلى في المسجد بمشهد الناس
وخرج في اثنين من الموالي فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله
بسور الكوفة سنة اثنتين وأربعين ثم خرج على ابن عامر في البصرة سهم بن
غانم الجهنيّ في سبعين رجلا منهم الحطيم وهو يزيد بن حالك الباهليّ،
ونزلوا بين الجسرين والبصرة ومرّ بهم بعض الصحابة منقلبا من الغزو
فقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، وقالوا: هؤلاء كفرة وخرج إليهم ابن عامر
فقتل منهم عدّة وأمّن باقيهم ولما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب
منهم الحطيم إلى الأهواز وجمع ورجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه
فاختفى وطلب الأمان من زياد فلم يؤمنه ثم دل عليه فقتله وصلبه بداره.
وقيل بل قتله عبد الله بعد زياد سنة أربع وخمسين. ثم اجتمع الخوارج
بالكوفة على المستورد بن عقلة التيمي من تيم الرباب وعلى حيّان بن
ضبيان السلمي وعلى معاذ بن جوين الطائي. وكلهم من فلّ النهروان الذين
ارتموا في القتلى ودخلوا الكوفة بعد مقتل عليّ واجتمعوا في أربعمائة في
منزل حيّان بن ضبيان وتشاوروا في الخروج، وتدافعوا الإمارة. ثم اتفقوا
على المستورد وبايعوه في جمادى الأخيرة وكبسهم المغيرة في منزلهم فسجن
حيّان وأفلت
__________
[1] المعنى غير واضح وفي نسخة اخرى: «فاجتمعت أشجع على فروة فوعظوه فلم
يرجع فأخذوه قهرا وأدخلوه الكوفة» .
(3/179)
المستورد فنزل الحيرة واختلف إليه الخوارج.
وبلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس وتهدّد الخوارج فقام إليه معقل بن قيس
فقال: ليكفك كل رئيس قومه. وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس وكان
عالما بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبديّ إلا أنه لا يسلم عشيرته،
فخرجوا ولحقوا بالصراة في ثلاثمائة فجهّز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة
آلاف وجعل معظمهم من شيعة عليّ، وخرج معقل في الشيعة وجاء الخوارج
ليعبروا النهر إلى المدائن فمنعهم عاملها سمّال بن عبد العبسيّ ودعاهم
إلى الطاعة على الأمان فأبوا فساروا إلى المذار. وبلغ ابن عامر بالبصرة
خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثيّ في ثلاثة آلاف من الشيعة وجاء معقل
بن قيس إلى المدائن وقد ساروا إلى المذار، فقدّم بين يديه أبا الرواع
الشاكريّ في ثلاثمائة، وسار ولحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم. ثم
لحقه معقل بن قيس متقدّما أصحابه عند المساء فحملت الخوارج عليه فثبت
وباتوا على تعبية، وجاء الخبر إلى الخوارج بنهوض شريك بن الأعور من
البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين وأصبح معقل واجتمع بشريك وبعث أبا
الرواع في أتباعهم في ستمائة فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط
وهو في اتباعهم. ورأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقل
فتسرب عنهم إلى معقل وأبو الرواع في اتباعه ولما لحق بمعقل قاتلهم
قتالا وأدركهم أبو الرواع بعد أن لقي كثيرا من أصحاب معقل منهزمين
فردّهم واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل المستورد معقلا طعنه بالرمح فأنفذه
وتقدّم معقل والرمح فيه إلى المستورد فقسم دماغه بالسيف وماتا جميعا.
وأخذ الراية عمر بن محرز بن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك. ثم حمل الناس
على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم إلا خمسة أو ستة. وعند ابن الكلبي
أنّ المستورد من تيم من بني رباح. خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدي
ورجاف الطائي ابنا الخالة، وعلى البصرة سمرة بن جندب وقتلوا بعض بني
ضبّة فخرج عليهم شبان من بني عليّ وبني راسب فرموهم بالنبل، وقتل قريب
وجاء عبد الله بن أوس الطائي برأسه واشتد زياد في أمر الخوارج وسمرة
وقتلوا منهم خلقا. ثم خرج سنة اثنتين وخمسين على زياد بن حراش العجليّ
في ثلاثمائة بالسواد فبعث اليهم زياد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم،
وخرج أيضا أصحاب المستورد حيّان بن ضبيان ومعاذ من طيِّئ فبعث إليهما
من قتلهما وأصحابهما. وقيل بل استأمنوا وافترقوا. ثم اجتمع بالبصرة سنة
ثمان وخمسين سبعون رجلا من الخوارج من عبد
(3/180)
القيس وبايعوا طواف بن [1] على أن يفتكوا
بابن زياد، وكان سبب ذلك أنّ ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة
وحملهم على قتل بعضهم بعضا وخلى سبيل القاتلين ففعلوا وأطلقهم، وكان
منهم طوّاف ثم ندموا وعرضوا على أولياء المقتولين القود والدية فأبوا،
وأفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا من بَعْدِ ما فُتِنُوا 16: 110 الآية، فاجتمعوا
للخروج كما قلنا. وسعى بهم إلى ابن زياد فاستعجلوا الخروج وقتلوا رجلا
ومضوا إلى الجلحاء كما قلنا. فندب ابن زياد الشرط والمحاربة فقاتلوهم.
فانهزم الشرط أوّلا ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم.
واشتد ابن زياد على الخوارج وقتل منهم جماعة كثيرة منهم: عروة بن أدبة
أخو مرداس وأدبة أمهما وأبوهما جرير بن تميم. وكان وقف على ابن زياد
يوما يعظه فقال أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 26: 128
الآيات؟ فظن ابن زياد أنّ معه غيره فأخذه وقطعه وقتل ابنيه. وكان أخوه
مرداس من عظمائهم وعبّادهم وممن شهد النهروان بالاستعراض ويحرّم خروج
النساء ولا يرى بقتال من لا يقاتله. وكانت امرأته من العابدات من بني
يربوع وأخذها ابن زياد فقطعها. والحّ ابن زياد في طلب الخوارج وقتلهم
وخلّى سبيل مرداس من بينهم لما وصف له من عبادته، ثم خاف فخرج إلى
الأهواز وكان يأخذ مال المسلمين إذا مرّ به فيعطي منه أصحابه ويرد
الباقي. وبعث ابن زياد إليهم أسلم بن زرعة الكلابي في الغي رجل ودعاهم
إلى معاودة الجماعة فأبوا وقاتلوهم فهزموا أسلم وأصحابه فسرّح إليهم
ابن زياد عبّاد بن علقمة المازنيّ. ولحقهم بتوج وهم يصلون فقتلهم
أجمعين ما بين راكع وساجد لم يتغيروا عن حالهم ورجع إلى البصرة برأس
أبي بلال مرداس فرصده عبيدة بن هلال في ثلاثة نفر عند قصر الإمارة
ليستفتيه فقتلوه واجتمع عليهم الناس فقتلوا منهم وكان على البصرة عبيد
الله بن أبي بكرة فأمره زياد بتتبع الخوارج إلى أن تقدّم فحبسهم، وأخذ
الكفلاء على بعضهم وأتى بعروة بن أدبة فقال أنا كفيلك وأطلقه. ولما جاء
ابن زياد قتل المحبوسين منهم والمكفولين، وطالب ابن أبي بكرة بعروة بن
أدبة فبحث عنه حتى ظفر به وجاء به إلى ابن زياد فقطعه وصلبه سنة ثمان
وخمسين. ثم مات يزيد واستفحل أمر ابن الزبير بمكة وكان الخوارج لما
اشتدّ عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم
__________
[1] ضوّاف بن غلّاق: ابن الأثير ج 3 ص 516
(3/181)
نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير
لجهاد عساكر يزيد لما ساروا إليه قالوا: وإن لم يكن على رأينا داحضا عن
البيت وقاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد وانصرفت العساكر كشفوا عن رأي
ابن الزبير فيهم وجاءوه يرمون من عثمان ويتبرّءون منه فصرّح بمخالفتهم.
وقال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين وعليّ وعثمان واعتذر عنه
فيما يزعمون، وقال: أشهدكم ومن حضرني أني وليّ لابن عفّان وعدوّ
لأعدائه قالوا: فبرئ الله منك قال بل بريء الله منكم فافترقوا عنه.
وأقبل نافع بن الأزرق الحنظليّ وعبد الله بن صفّار السعديّ وعبد الله
بن أباض، وحنظلة بن بيهس وبنو الماخور: عبد الله وعبيد الله والزبير من
بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم، حتى أتوا البصرة وانطلق أبو طالوت عن
بني بكر بن وائل وأبو فديك عبد الله بن نور بن قيس ابن ثعلبة وعطية بن
الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا بها مع أبي طالوت. ثم تركوه ومالوا
عنه إلى نجدة ابن عامر الحنفيّ. ومن هنا افترقت الخوارج على أربع فرق:
الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنظليّ وكان رايه البراءة من سائرة
المسلمين وتكفيرهم والاستعراض وقتل الأطفال واستحلال الأمانة لأنه
يراهم كفّارا. والفرقة الثانية النجديّة وهم بخلاف الأزارقة في ذلك
كلّه. والفرقة الثالثة الإباضيّة أصحاب عبد الله بن إباض المريّ وهم
يرون أنّ المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الرأي
الأوّل ولا يقفون عند الثاني ولا يحرّمون مناكحة المسلمين ولا موارثتهم
ولا المنافقين فيهم وهم عندهم كالمنافقين، وقول هؤلاء أقرب إلى السنّة
ومن هؤلاء البيهسيّة أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعيّ. والفرقة
الرابعة الصفريّة وهم موافقون للأباضية إلا في العقدة فإنّ الإباضية
أشد على العقدة منهم. وربما اختلفت هذه الآراء من بعد ذلك واختلف في
تسمية الصفريّة فقيل نسبوا إلى ابن صفّار وقيل اصفروا بما نهكتهم
العبادة وكانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون
إلا في الشاذ من الفروع. وفي أصل اختلافهم هذا مكاتبات بين نافع بن
الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل
فلينظر هناك، (ولما جاء نافع) إلى نواحي البصرة سنة أربع وستين فأقام
بالأهواز يعترض الناس وكان على البصرة عبد الله بن الحرث بن نوفل بن
الحرث بن عبد المطّلب، فسرّح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل
البصرة بإشارة الأحنف ابن قيس، فدافعه عن نواحي البصرة وقاتله
بالأهواز، على ميمنة مسلم الحجّاج بن
(3/182)
باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر
العدابي، وعلى ميمنة ابن الأزرق عبيدة بن هلال وعلى ميسرته الزبير بن
الماخور التميمي. فقتل مسلم ثم قتل نافع فأمّر أهل البصرة عليهم
الحجّاج بن باب والخوارج عبد الله بن الماخور ثم قتل الحجّاج، وعبد
الله فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الاخدم [1] والخوارج عبيد الله بن
الماخور. ثم اقتتلوا حتى أمسوا، وجاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل
البصرة فهزموهم وقتل ربيعة وولّوا مكانه حارثة بن بدر فقاتل وردّهم على
الأعقاب ونزل الأهواز. ثم عزل عن البصرة عبد الله بن الحرث وبعث ابن
الزبير عليها الحرث القبّاع بن أبي ربيعة فزحف الخوارج إلى البصرة،
وأشار الأحنف بن قيس بتولية المهلّب حروبهم، وقد كان ابن الزبير ولّاه
خراسان، فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب، واشترطوا للمسلم ما سأل من
ولاية ما غلب عليه، والإعانة بالأموال، فاختار من الجند اثني عشر ألفا
وسار إليهم فدفعهم عن الجسر. وجاء حارثة بن بدر بمن كان معه في قتال
الخوارج، فردّهم الحرث إلى المهلّب وركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق
في النهر. وسار المهلّب وعلى مقدمته ابنه المغيرة فقاتلهم المقدمة
ودفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر.
ونزل المهلّب بسولاف وقاتله الخوارج وصدقوا الحملة فكشفوا أصحاب
المهلّب ثم ترك من الغد قتالهم وقطع دجيل ونزل العقيل ثم ارتحل فنزل
قريبا منهم وخندق عليه وأذكى العيون والحرس. وجاء منهم عبيدة بن هلال
والزبير بن الماخور في بعض الليالي ليبيّتوا عسكر المهلّب فوجدوهم
حذرين وخرج إليهم المهلب من الغد في تعبية والأزد وتميم في ميمنته،
وبكر وعبد القيس في ميسرته، وأهل العالية في القلب.
وعلى ميمنة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكريّ، وعلى ميسرتهم الزبير بن
الماخور واقتتلوا ونزل الصبر. ثم شدّوا على الناس فأجفل عسكر المهلّب
وانهزم وسبق المنهزمين إلى ربوة ونادى فيهم فاجتمع له ثلاثة آلاف
أكثرهم من الأزد، فرجع بهم وقصد عسكر الخوارج واشتدّ قتالهم ورموهم
بالحجارة، وقتل عبد الله بن الماخور [2] وكثير منهم وانكفؤا راجعين إلى
كرمان وناحية أصبهان منهزمين، واستخلفوا عليهم الزبير ابن الماخور [3]
وأقام المهلّب بمكانه حتى جاء مصعب بن الزبير أميرا على البصرة وعزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ربيعة بن الأخزم.
[2] عبد الله بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 199
[3] الزبير بن الماخور: ابن الأثير ج 4 ص 200
(3/183)
المهلب. (وأمّا نجدة) وهو نجدة بن عامر بن
عبد الله بن سيّار [1] بن مفرّج الحنفيّ.
وكان مع نافع بن الأزرق، فلما افترقوا سار إلى اليمامة ودعا أبو طالوت
إلى نفسه، وهو من بكر بن وائل وتابعه نجدة ونهب الحضارم بلد بني حنيفة
وكان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف فقسّمها في أصحابه، وذلك سنة خمس
وستين. واعترض عيرا من البحرين جاءت لابن الزبير فأخذها وجاء بها إلى
أبي طالوت فقسّمها بين أصحابه. ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي
طالوت فخالفوه وبايعوا نجدة وسار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم وأثخن
فيهم، ورجع نجدة إلى اليمامة في ثلاثة آلاف، ثم سار إلى البحرين سنة
سبع وستين فاجتمع أهل البحرين من عبد القيس وغيرهم على محاربته.
وسالمته الأزد والتقوا بالعطيف فانهزمت عبد القيس وأثخن فيهم نجدة
وأصحابه وأرسل سرية إلى الخط فظفروا بأهله. ولما قدم مصعب بن الزبير
البصرة سنة تسع وستين بعث عبد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفا
[2] ونجدة بالعطيف فقاتلوهم وهزمهم نجدة وغنم ما في عسكرهم وبعث عطية
بن الأسود الحنفي من الخوارج إلى عمان وبها عبّاد ابن عبد الله شيخ
كبير فقاتله عطيّة فقتله وأقام أشهرا وسار عنها، واستخلف عليها بعض
الخوارج فقتله أهل عمان وولّوا عليهم سعيدا وسليمان ابني عبّاد. ثم
خالف عطيّة نجدة وجاء إلى عمان فامتنعت منه، فركب البحر إلى كرمان
وأرسل إليه المهلّب جيشا فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فقتله خيل
المهلّب بقندابيل. ثم بعث نجدة المعرفين إلى البوادي بعد هزيمة ابن
عمير فقاتلوا بني تميم بكاظمة وأعانهم أهل طويلع فبعث نجدة من استباحهم
وأخذ منهم الصدقة كرها.
ثم سار إلى صنعاء فبايعوه وأخذ الصدقة من مخالفيها. ثم بعث أبا فديك
إلى حضرموت فأخذ الصداقة منهم. وحج سنة ثمان وستين في تسعمائة رجل وقيل
في ألفين، ووقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما. ثم سار نجدة
إلى المدينة وتأهبوا لقتاله، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتا لعبد الله بن
عمر بن عثمان فضمّها إليه وامتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال: قد أعتقت
نصيبي منها. قالوا: فزوّجها، قال: هي أملك بنفسها، وقد كرهت الزواج
ولما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عروة بن مسعود فبايعه عن قومه وولّى
عليهم الخازرق وعلى يبانة والسراة. وولّى على
__________
[1] بن ساد: ابن الأثير ج 4 ص 201
[2] عبد الله بن عمير الليثي الأعور في اربعة عشر الفا: ابن الأثير ج 4
ص 202
(3/184)
ما يلي نجران سعد الطلائع، ورجع إلى
البحرين وقطع الميرة عن الحرمين. وكتب إليه ابن عبّاس أنّ ثمامة بن
أشاك [1] لما أسلم قطع الميرة عن مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إنّ أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلّاها
لهم، وانك قطعت الميرة ونحن مسلمون فخلّاها لهم نجدة. ثم اختلف إليه
أصحابه لأنّ أبا سنان حييّ بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية،
فانتهره نجدة وقال: إنما علينا أن نحكم بالظاهر. وأغضبه عطية في منازعة
جرت بينهما على تفضيله لسرية البرّ على سرية البحر في الغنيمة فشتمه
نجدة فغضب وسأله في درء الحدّ في الخمر عن رجل من شجعانهم فأبى، وكاتبه
عبد الملك في الطاعة على أن يولّيه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الدماء
فاتّهموه في هذه المكاتبة ونقموا عليه أمثال هذه، وفارقه عطية إلى
عمان. ثم انحازوا عنه وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني
قيس بن ثعلبة واستخفى نجدة وألح أبو فديك في طلبه وكان مستخفيا في قرية
من قرى حجر. ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم وأجمع المسير إلى عبد
الملك، فعلم به أبو فديك، وجاءت سرية منهم وقاتلهم فقتلوه. وسخط قتله
جماعة من أصحاب أبي فديك وأعتمده مسلم بن جبير فطعنه اثنتي عشر طعنة
وقتل مسلم لوقته، وحمل أبو فديك إلى منزله، ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة
ثمان وستين واليا على العراقين عن أخيه، وكان المهلّب في حرب الأزارقة
فأراد مصعب أن يولّيه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية، ليكون بينه وبين
عبد الملك فاستقدمه من فارس وولّاه، وولّى على فارس وحرب الأزارقة عمر
بن عبد الله بن معمر. وكان الخوارج قد ولّوا عليهم بعد قتل عبد الله بن
الماخور سنة خمس وستين أخاه الزبير فجاءوا به إلى إصطخر، وقدم عمر ابنه
عبيد الله إليهم فقتلوه ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم وقتل منهم سبعون.
وفلق قطري بن الفجاءة وشتر صالح بن مخراق وساروا إلى نيسابور، فقاتلهم
عمر بها وهزمهم، فقصدوا أصبهان فاستحموا بها. ثم أقبلوا إلى فارس
وتجنّبوا عسكر عمر ومروا على ساجور ثم أرّجان، فأتوا الأهواز قاصدين
العراق.
وأغذ عمر السير في أثرهم، وعسكر مصعب عند الجسر. فسار الزبير بالخوارج
فقطع أرض صرصر وشنّ الغارة على أهل المدائن يقتلون الولدان والرجال،
ويبقرون بطون الحبالى، وهرب صاحب المدائن عنها وانتهت جماعة منهم إلى
الكرخ، فقاتلهم أبو
__________
[1] ثمامة بن أثال: ابن الأثير ج 4 ص 204
(3/185)
بكر بن مخنف فقتلوه وخرج أمير الكوفة وهو
الحرث بن أبي ربيعة القبّاع حتى انتهى إلى الصراة ومعه إبراهيم بن
الأشتر وشبيب بن ربعي، وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحرث ومحمد بن عمير،
وأشاروا عليه بعقد الجسر والعبور إليهم، فانهزموا إلى المدائن. وأمر
الحرث عبد الرحمن ابن مختف باتباعهم في ستة آلاف إلى حدود أرض الكوفة،
فانتهوا إلى الري وعليها يزيد بن الحرث بن دويم الشّيبانيّ وما والاهم
عليه أهل الري فهزموه وقتلوه. ثم انحطوا إلى أصبهان وبها عتاب بن ورقاء
فحاصروه أشهرا وكان يقاتلهم على باب المدينة ثم دعا إلى الاستماتة في
قتالهم فخرجوا وقاتلوهم، وانهزمت الخوارج وقتل الزبير واحتووا على
معسكرهم. ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازنيّ ويكنى أبا نعامة
وارتحل بهم إلى كرمان حتى استجمعوا فرجعوا إلى أصبهان فامتنعت، فأتوا
الأهواز وقاموا. وبعث مصعب إلى المهلّب فردّه إلى قتال الخوارج وولّى
على الموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلّب فانتجعت الناس من
البصرة وسار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف واقتتلوا ثمانية أشهر وبعث مصعب
إلى عتاب بن ورقاء الرباحي [1] عامل أصبهان بقتال أهل الري بما فعله في
ابن دويم، فسار إليهم وعليهم الفرّخان فقاتلهم وافتتحها عنوة وقلاعها
وعاث في نواحيها.
خبر ابن الحرّ ومقتله
كان عبيد الله بن الحرّ الجعفي من خيار قومه صلاحا وفضلا. ولما قتل
عثمان حزن عليه، وكان مع معاوية على عليّ، وكانت له زوجة بالكوفة
فتزوّجت لطول مغيبه.
فأقبل من الشام وخاصم زوجها إلى عليّ فعدّد [2] عليه شهوده صفين. فقال:
أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا وردّ إليه امرأته. فرجع إلى الشام وجاء
إلى الكوفة بعد مقتل عليّ ولقي إخوانه وتفاوضوا في النكير على عليّ
ومعاوية. ولما قتل الحسين تغيّب على ملحمته وسأل عنه ابن زياد فلم يره.
ثم لقيه فأساء عذله، وعرض له بالكون مع عدوّه فأنكر وخرج مغضبا. وراجع
ابن زياد رأيه فيه فطلبه فلم يجده فبعث عنه فامتنع، وقال: أبلغوه أني
لا آتيه طائعا أبدا وأتى منزل أحمد بن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: الرياحي.
[2] لعلها ندّد
(3/186)
زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه، وخرج إلى
المدائن. ومضى لمصارع الحسين وأصحابه فاستغفر لهم، ولما مات يزيد وقعت
الفتنة اجتمع إليه أصحابه وخرج بنواحي المدائن، ولم يعترض للقتل ولا
للمال، إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه فيأخذ منه عطاءه وعطاء
أصحابه ويردّ الباقي ويأخذ لصاحب المال بما أخذ. وحبس المختار امرأته
بالكوفة وجاء فأخرجها من الحبس وأخرج كل من فيه وأراد المختار أن يسطو
به فمنعه إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد. ثم فارقه ولم
يشهد معه وشهد مع مصعب قتال المختار وقتله. ثم أغرى به مصعب فحبسه وشفع
فيه رجال من وجوه مذحج فشفعهم وأطلقه، وأتى إليه الناس يهنئونه فصرّح
بأن أحدا لا يستحق بعد الأربعة ولا يحلّ أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا،
فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقون به ذلك، وكلهم عاص مخالف، قوي
الدنيا ضعيف الآخرة، ونحن أصحاب الأيام مع فارس، ثم لا يعرف حقنا
وفضلنا وإني قد أظهرت لهم العداوة. وخرج للحرب فأغار فبعث إليه مصعب
سيف بن هانئ المراديّ يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس
فأبى، فسرّح إليه الأبرد بن فروة الرباحيّ في عسكر فهزمه عبيد الله
فبعث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله، فبعث إليه الحجّاج بن حارثة
الخثعميّ ومسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر وهزمهما، فأرسل إليه مصعب
بالأمان والولاية فلم يقبل، وأتى إلى فارس فهرب دهقانها بالمال وتبعه
ابن الحرّ إلى عين التمر وعليه بسطام بن معقلة بن هبيرة الشّيبانيّ،
فقاتل عبيد الله وأوفاهم الحجّاج بن حارثة فهزمهما عبيد الله وأسرهما
وأخذ المال الّذي مع الدهقان. وأقام بتكريت ليحيي الخراج فسرّح مصعب
لقتاله الأبرد ابن فروة الرباحي والجون بن كعب الهمدانيّ في ألف وأمدهم
المهلّب بيزيد بن المعقل في خمسمائة وقاتلهم عبيد الله يومين في
ثلاثمائة ثم تحاجزوا وقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك
فتجهّزوا! ثم قال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعبا وقصد الكوفة وجاءته
العساكر من كل جهة، ولم يزل يهزمهم ويقتل منهم بنواحي الكوفة والمدائن.
وأقام يغير بالسواد ويجبي الخراج ثم لحق بعبد الملك فأكرمه وأجلسه معه
على سريره، وأعطاه مائة ألف درهم وقسّم في أصحابه الأعطيات وسأل من عبد
الملك أن يوجّه معه عسكرا لقتال مصعب فقال: سر بأصحابك وادع من قدرت
عليه وأنا ممدك بالرجال. فسار نحو الكوفة ونزل بناحية الأنبار وأذن
لأصحابه في
(3/187)
إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه. وبعث
الحرث بن أبي ربيعة إليه جيشا كثيفا فقاتلهم وتفرّق عنه أصحابه وأثخنه
الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات فأشرف خيل على
السفينة وتبادروا به فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في
الماء مع بعضهم فغرّقوه.
حروب الخوارج مع عبد الملك والحجاج
ولما استقرّ عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن
عبد الله وكان المهلّب يحارب الأزارقة فولّاه على خراج الأهواز وبعث
أخاه عبد العزيز بن عبد إلى قتال الخوارج، ومعه مقاتل بن مسمع، وأتت
الخوارج من ناحية كرمان إلى داربجرد وبعث قطريّ بن الفجاءة صالح بن
مخراق [1] في تسعمائة فاستقبل عبد العزيز ليلا على غير تعبية فانهزم
وقتل مقاتل بن مسمع وأسرت بنت المنذر بن الجارود امرأة عبد العزيز
فقتلها الخوارج. وتغيّر عبد العزيز إلى رامهرمز. وكتب خالد بالخبر إلى
عبد الملك فكتب إليه [2] على ولاية أخيه الحرب وولاية المهلّب جباية
الخراج وأمره بأن يسرّح المهلّب بحربهم. وكتب إلى بشر بالكوفة بإمداده
بخمسة آلاف مع من يرضاه، فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري،
فكانوا هنالك مسلحة فأنفذ بشر العسكر وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث، وكتب له عهده على الريّ. وخرج خالد بأهل البصرة ومعه المهلّب
واجتمعوا بالأهواز.
وجاءت الازارقة فأحرقوا السفن. ومرّ المهلّب بعبد الرحمن بن الأشعث
وأمره أن يخندق عليه وأقاموا كذلك عشرين ليلة. ثم زحف الخوارج بالناس
فهال الخوارج كثرتهم وانصرفوا. وبعث خالد داود بن قحدم في آثارهم
وانصرف إلى البصرة وكتب بالخبر إلى عبد الملك فكتب إلى أخيه بشر أن
يبعث أربعة آلاف من أهل الكوفة إلى فارس، ويلحقوا بداود بن قحدم في طلب
الأزارقة. فبعث بهم بشر بن عتاب ولحقوا بداود واتبعوا الخوارج حتى
أصابهم الجهد ورجع عامتهم مشاة إلى الأهواز.
__________
[1] صالح بن مخارق: ابن الأثير ج 4 ص 342.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 4 ص 343: فكتب اليه عبد الملك: قد عرفت
ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني انه عامل على الأهواز، فقبّح الله
رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي
الخراج.»
(3/188)
(ثم خرج أبو فديك) من بني قيس بن ثعلبة
فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفيّ كما مرّ. وهزم خالدا فكتب
إلى عبد الملك بذلك، وأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب
الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير لقتال أبي فديك. فانتدب معه عشرة
آلاف وسار بهم وأهل الكوفة على ميمنته عليهم محمد بن موسى بن طلحة بن
عبيد الله، وأهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه، وهو في
القلب وانتهوا إلى البحرين واصطفوا للقتال وحملوا على أبي فديك وأصحابه
فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة وعبد الرحمن
وفرسان الناس فإنّهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة ورجع أهل الميسرة.
وحمل أهل الميمنة على الخوارج فهزموهم واستباحوا عسكرهم وقتلوا أبا
فديك وحصروا أصحابه بالمشقر حتى نزلوا على الحكم فقتل منهم ستة آلاف
وأسر ثمانمائة وذلك سنة ثلاث وسبعين. ثم ولّى عبد الملك أخاه بشرا على
البصرة فسار إليها وأمره أن يبعث المهلّب إلى حرب الأزارقة وأن ينتخب
من أهل البصرة من أراد ويتركه ورأيه في الحرب ويمدّه بعسكر كثيف من أهل
الكوفة مع رجل معروف بالنجدة. فبعث المهلّب لانتخاب الناس جديع بن سعيد
بن قبيصة وشق على بشر أن ولاية المهلّب من عبد الملك وأوغرت صدره فبعث
على عسكر الكوفة عبد الرحمن ابن مخنف وأغراه بالمهلّب في ترك مشورته
وتنغّصه. وسار المهلّب إلى رامهرمز وبها الخوارج وأقبل ابن مخنف في أهل
الكوفة فنزل على ميل منه بحيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نبأ بشر ابن
مروان وأنه استخلف خالد بن عبد الله بن خالد على البصرة وخليفته على
الكوفة عمر بن حريث فافترق ناس كثيرة من أهل البصرة وأهل الكوفة فنزلوا
الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدّدهم فلم يلتفتوا إليه. وأقبل
أهل الكوفة إلى الكوفة وكتب إليهم عمر بن حريث بالنكير والعود إلى
المهلّب ومنعهم الدخول فدخلوا ليلا إلى بيوتهم (ثم قدم الحجّاج) أميرا
على العراقين سنة خمس وسبعين فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منها:
«ولقد بلغني رفضكم المهلّب وإقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين، وأيم
الله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه وأنهب داره» . ثم
دعا العرفاء وقال ألحقوا الناس بالمهلّب وأتوني بالبراءة بموافاتهم،
ولا تغلقنّ أبواب الجسر. ووجد عمر بن ضابىء من المتخلفين وأخبر أنه من
قتلة عثمان فقتله فأخر جند المهلّب وازدحموا على الجسر وجاء العرفاء
إلى المهلّب برامهرمز
(3/189)
فأخذوا كتابه بموافاة الناس، وأمرهم
الحجّاج بمناهضة الخوارج فقاتلوهم شيئا ثم انزاحوا إلى كازرون وسار
المهلّب وابن مخنف فنزلوا بهم وخندق المهلّب ولم يخندق ابن مخنف
وبيّتهم الخوارج فوجدوا المهلّب حذرا فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه
أصحابه وقاتل حتى قتل وفي حديث أهل الكوفة أنّهم لما ناهضوا الخوارج
مالوا إلى المهلّب واضطروه إلى معسكره وأمدّه عبد الرحمن بعامة عسكره
وبقي في خفّ من الجند. فمال إليه الخوارج فنزل ونزل معه القرّاء واحد
وسبعون من أصحابه فقتلوا. وجاء المهلّب من الغد فدفنه وصلى عليه وكتب
بالخبر إلى الحجّاج فبعث على معسكره عتاب بن ورقاء وأمره بطاعة
المهلّب، فأجاب لذلك وفي نفسه منه شيء. وعاتبه المهلب يوما ورفع إليه
القضيب فردّه ابنه المغيرة عن ذلك وكتب عتاب يشكو المهلّب إلى الحجّاج
ويسأله العود وصادف ذلك أمر شبيب فاستقدمه وبقي المهلّب.
حروب الصفرية وشبيب مع الحجاج
ثم خرج صالح بن مسرّح التميمي من بني امرئ القيس بن زيد مناة وكان يرى
رأي الصغريّة وكان عابدا ومسكنه أرض الموصل والجزيرة وله أصحاب يقرئهم
القرآن والفقه وكان يأتي الكوفة ويلقى أصحابه ويعدّ ما يحتاج إليه
فطلبه الحجّاج فترك الكوفة وجاء إلى أصحابه بالموصل ودار فدعاهم إلى
الخروج وحثّه عليه. وجاءه كتاب شبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانيّ من
رءوسهم يحثّه على مثل ذلك. فكتب إليه إني في انتظارك فاقدم. فقدم شبيب
في نفر من أصحابه منهم أخوه المضّاد والمحلّل ابن وائل اليشكريّ ولقيه
بدارا، وأجمع صالح الخروج. وبث إلى أصحابه وخرجوا في صفر سنة ست
وسبعين. وأمر بالدعاء قبل القتال وخيّر في الدماء والأموال وعرضت لهم
دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة فأخذوها وحملوا عليها أصحابهم. وبلغ محمد
بن مروان وهو أمير الجزيرة خروجهم فسرّح إليهم عدي بن عدي الكندي في
ألف فسار من حرّان وكان ناسكا فكره حروبهم وبعث إليهم بالخروج فحبسوا
الرسول. فساروا إليه فطلعوا عليه وهو يصلي الضحى وشبيب في الميمنة
وسويد بن سليم في الميسرة وركب عديّ على غير تعبية فانهزم واحتوى
الخوارج على معسكره ومضوا إلى آمد وسرّح محمد بن مروان خالد بن حرّ
السلمي في ألف وخمسمائة، والحرث بن جعونة العامريّ في مثلها، وقال:
أيكما سبق فهو أمير على صاحبه.
(3/190)
وبعث صالح شبيبا إلى الحرث وتوجه نحو خالد
وقاتلوهم أشدّ القتال واعتصم أصحاب محمد بخندقهم فسارت الخوارج عنهم
وقطعوا أرض الجزيرة والموصل إلى الدسكرة. فسرّح إليهم الحجّاج الحرث بن
عميرة ابن ذي الشعار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة فلقيهم على تخم ما
بين الموصل وصرصر والخوارج في تسعين رجلا.
فانهزم سويد بن سليم وقتل صالح وصرع شبيب. ثم وقف على صالح قتيلا فنادى
بالمسلمين فلاذوا به ودخلوا حصنا هنالك وهم سبعون. وعاث الحرث بهم
وأحرق عليهم الباب ورجع حتى يصحبهم من الغداة. فقال لهم شبيب بايعوا من
شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا إليهم فبايعوه وأطفئوا النار بالماء في
اللبود وخرجوا إليه فبيتوا وصرّح الحرث فحملوا أصحابه وانهزموا نحو
المدائن وحوى شبيب عسكرهم. وسار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن
سنان التميمي من تميم شيبان [1] إلا أخاه فضالة من أكابر الخوارج. وكان
خرج قبل صالح في ثمانية عشر رجلا ونزل على ماء لبني عنزة فقتلوهم،
وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك يتقرّبون له بهم. فلما دعا شبيب سلامة إلى
الخروج شرط عليه أن ينتخب ثلاثين فارسا ويسير بهم إلى عنزة فيثأر منهم
بأخيه فقبل شرطه وسار إلى عنزة فأثخن فيهم وجعل يقتل الحلّة بعد الحلّة
[2] . ثم أقبل شبيب إلى داران [3] في نحو سبعين رجلا ففرّت منهم طائفة
من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف فنزلوا ديرا خرابا وامتنعوا منه، وسار في
بعض حاجاته واستخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم
مقيمين، فقتل منهم ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد وأشرف بنو شيبان على
مضّاد وأصحابه، وسألوا الأمان ليخرجوا إليهم ويسمعوا دعوتهم فأخرجوا
وقبلوا ونزلوا إليهم واجتمعوا بهم وجاء شبيب فاستصوب فعلهم وسار بطائفة
نحو أذربيجان. وكان الحجّاج قد بعث سفيان بن أبي العالية الخثعميّ إلى
طبرستان يحاصرها في ألف فارس، فكتب إليه الحجّاج أن يرجع فصالح أهل
طبرستان ورجع فأقام بالدسكرة يطلب المدد وبعث الحجّاج أيضا إلى الحرث
بن عميرة الهمدانيّ قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة والمدائن وإلى سورة
__________
[1] سلامة بن سنان التيمي من تيم شيبان: ابن الأثير ج 4 ص 397.
[2] فجعل يقتل محلّة بعد محلّة. ابن الأثير ج 4 ص 397.
[3] رأذان: ابن الأثير ج 4 ص 398.
(3/191)
ابن أبجر التميمي [1] في خيل المناظر.
ويعجّل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين فاستطردهم وأكمن كمينا لهم مع
أخيه، واتبعوه في سفح الجبل فخرج عليهم الكمين فانهزموا بغير قتال،
وثبت سفيان وقاتل ثم حمل شبيب فانكشف ونجا إلى بابل مهرود، وكتب إلى
الحجّاج بالخبر وبوصول العساكر إلّا سورة بن أبجر فكتب الحجّاج إلى
سورة يتهدّده ويأمره أن يتّخذ من المدائن خمسمائة فارس ويسير إلى شبيب
فسار. وانتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان فترحّم على أصحابه
هنالك وبيّتهم سورة هنالك وهم حذرون فلم يصب منهم الغرة ورجع نحو
المدائن وشبيب في اتّباعه. وخرج ابن أبي العصغي [2] عامل المدائن
فقاتلهم وهرب الكثير من جنده إلى الكوفة ومضى شبيب إلى تكريت ووصل سورة
إلى الكوفة بالغلّ فحبسه الحجّاج ثم أطلقه. وسرّح عثمان بن سعيد بن
شرحبيل الكنديّ [3] ويلقب الجزل في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين
أحد وساروا لحرب شبيب وأصحابه. وقدّم بين يديه عيّاض بن أبي لبنة
الكنديّ وجعلوا يتبعون شبيبا من رستاق إلى رستاق وهو على غير تعبية
والجزل على التعبية ويخندق على نفسه متى نزل وطال ذلك على شبيب وكان في
مائة وستين فقسمه على أربع فرق وثبت الجزل ومشايخه فلم يصب منهم فرجع
عنهم.
ثم صحبهم ثانية فلم يظفر منهم بشيء. وسار الجزل في التعبية كما كان
وشبيب يسير في أرض الخوارج وغيرها يكسب الخراج. وكتب الحجّاج إلى الجزل
ينكر عليه البطء ويأمره بالمناهضة وبعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل
فجاءهم بالهندوان [4] ووبّخهم وعجّزهم وجاءهم الخبر بأنّ شبيبا قد دخل
قطيطيا والدهقان يصلح لهم الغداء، فنهض سعيد في الناس وترك الجزل مع
العسكر وقد صفّ بهم خارج الخندق وجاء سعيد إلى قطيطيا وعلم به شبيب
فأكل وتوضأ وصلى. وخرج فحمل على سعيد وأصحابه مستعرضا فانهزموا وثبت
سعيد فقتله وسار في اتباعهم إلى الجزل فقاتلهم الجزل حتى وقع بين
القتلى جريحا. وكتب إلى الحجّاج بالخبر وأقام بالمدائن وانتهى شبيب إلى
الكرخ وعبر دجلة إليه وأرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم
__________
[1] سورة بن الحرّ التميمي: ابن الأثير ج 4 ص 398.
[2] ابن أبي العصيفر: ابن الأثير ج 4 ص 401.
[3] الجزل بن سعيد بن شرحبيل الكندي واسمه عثمان: ابن الأثير ج 4 ص
401.
[4] النهروان: ابن الأثير ج 4 ص 403.
(3/192)
واشترى منه حاجاته وسار إلى الكوفة فلما
قرب منها بعث الحجّاج سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل فساروا
إلى شبيب وأمر عثمان بن قطن فعسكر في السّبخة وخالفه شبيب إلى أهل
السبخة فقاتلوه وجاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة وسويد في إتباعه ثم
رحل من الحيرة. وجاء كتاب الحجّاج إلى سويد يأمره باتباعه فمضى في
إتيانه وشبيب يغير في طريقه وأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل
ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان. ولما أبعد سار الحجّاج إلى
البصرة واستعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فجاءه كتاب دهقان
بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة فبعث بالكتاب إلى الحجّاج. وأقبل
شبيب حتى نزل عقرقوبا [1] ، ونزل وسار منها يسابق الحجّاج إلى الكوفة.
وطوى الحجّاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر ووصل شبيب عند المغرب
فأراح وطعموا ثم ركبوا ودخلوا إلى السوق وضرب شبيب القصر بعموده. ثم
اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحين ومروا بدار صاحب الشرطة
فدعوه إلى الأمير ونكرهم فقتلوا غلامه ومرّوا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل
بن الحرث وكان يطيل الصلاة فيه. ثم خرجوا من الكوفة واستقبلهم النضر بن
القعقاع بن شور الذهلي، وكان ممن أقبل مع الحجّاج من البصرة فتخلّف عنه
فلما رآه قال: السلام عليك أيها الأمير، فقال له شبيب:
قل أمير المؤمنين ويلك! فقالها. وأراد شبيب أن يلقّنه للقرابة بينهما.
وكان النضر ناحية بيت هانئ بن قبيصة الشيبانيّ فقال له: يا نضر لا حكم
إلا للَّه ففطن بهم وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
2: 156 وشدّ عليه أصحاب شبيب فقتلوه. ونادى منادي الحجّاج بالكوفة يا
خيل الله اركبي وهو بباب القصر وكان أوّل من أتاه عثمان بن قطن ابن عبد
الله بن الحسين ذي القصّة [2] ، ثم جاء الناس من كل جانب، فبعث الحجاج
خالد بن الأسدي [3] وزائدة بن قدامة الثقفيّ وأبا الضريس مولى بني
تميم، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وزياد بن عبد الله العتكيّ [4]
في ألفين ألفين وقال: إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة وبعث معهم
محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان، وكان عبد الملك قد ولّاه
عليها، وأمر الحجّاج أن
__________
[1] عقرقوف: ابن الأثير ج 4 ص 406.
[2] بن الحصين ذي الغصة: ابن الأثير ج 4 ص 407.
[3] فبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي: المرجع السابق.
[4] زياد بن عمرو العتكيّ: المرجع السابق.
(3/193)
يجهّزه ويبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله،
فجهّزه. وحدث أمر شبيب فقال له الحجّاج: تجاهد ويظهر اسمك ثم تمضي إلى
عملك، فساروا جميعا ونزلوا أسفل الفرات. وأخذ شبيب نحو القادسية وجرّد
الحجاج ألفا وثمانمائة من نقاوة الجند مع ذخر بن قيس [1] ، وأمره
بمواقعة شبيب أينما أدركه، وإن ذهب فأتركه. فأدركه بالسلخين [2] وعطف
عليه شبيب فقاتل ذخر حتى صرع وفيه بضعة عشر جرحا وانهزم أصحابه يظنون
أنه قتل ثم أفاق من برد السحر فدخل قرية وسار إلى الكوفة ثم قصد شبيب
وأعوانه وهم على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فقال: إنّ هزمناهم فليس
دون الحجّاج والكوفة مانع وانتهى إليهم وقد تعبوا للحرب وعلى الميمنة
زياد بن عمر العتكيّ وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدي وكل أمير بمكانه.
وعبّى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر
فانكشفوا وثبت زياد قليلا. ثم حمل الثانية فانهزموا وانهزم جريحا عند
المساء. ثم حملوا على عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر فانهزم ولم
يقاتل ولحق بزياد بن عمر وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن
طلحة عند الغروب فقاتلوه وصبر لهم ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن
غالب في الميسرة فصبر ونزل في خمسين رجلا فقاتلوه حتى قتلوا. وحملت
الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين ثم
حملوا عليه وعلى أعين فهزموهما إلى زائدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه
نادى نزال [3] وقاتلهم إلى السحر ثم حمل شبيب عليه فقتله وقتل أصحابه
ودخل أبو الضريس مع الفلّ إلى الجوسق بإزائهم. ورفع الخوارج عنهم السيف
ودعوهم إلى البيعة لشبيب عند الفجر فبايعوه وكان فيمن بايعه أبو بردة
وبقي محمد بن موسى لم ينهزم، فلما طلع الفجر سمع شبيب أذانهم وعلم
مكانهم فأذّن وصلّى ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم وثبتت أخرى وقاتل
محمد حتى قتل. وأخذ الخوارج ما في العسكر وانهزم الذين بايعوا شبيبا
فلم يبق منهم أحد. وجاء شبيب إلى الجوسق الّذي فيه أعين وأبو الضريس
فتحصنوا منه فأقام يوما عليهم وسار عنهم وأراده أصحابه على
__________
[1] زحر بن قيس: ابن الأثير ج 8 صفحة 408.
[2] السّيلحين: المرجع السابق.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 410: «فلما انتهوا إليه نادى: يا أهل
الإسلام الأرض الأرض» .
ويعني النزول عن خيلهم إلى الأرض والقتال راجلين.
(3/194)
الكوفة وازاءهم خوخى [1] فتركها وخرج على
نفر وسمع الحجّاج بذلك فظنّ أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة وأكثر
السواد لها فهاله ذلك وبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وخوخى
والأنبار وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفير. وقيل في مقتل محمد بن موسى
غير هذا وهو أنه كان شهد مع عمر بن عبد الله بن معمر قتال أبي فديك
فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك فولّاه سجستان فمرّ
بالكوفة وقيل للحجّاج إن جاء إلى هذا أحد ممن تطلبه منعك منه فمره
بقتال شبيب في طريقه لعل الله يريحك منه ففعل الحجّاج. وعدل محمد إلى
قتال شبيب وبعث إليه شبيب بدهاء الحجّاج وخديعته إياه وأن يعدل عنه
فأبى إلا شبيبا فبارزه وقتله شبيب. ولما انهزم الأمراء وقتل موسى بن
محمد بن طلحة دعا الحجّاج عبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن ينتخب ستة
آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، فسار لذلك. ثم كتب إليه وإلى
أصحابه يتهدّدهم إن انهزموا ومرّ ابن الأشعث بالمدائن وعاد الجزل من
جراحته فوصّاه وحذّره وحمله على فرسه وكانت لا تجاري. وسار شبيب على
دقوقا وشهرزور وابن الأشعث في إتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل وأقام
يقاتله أهلها، فكتب إليه الحجّاج: أما بعد فاطلب شبيبا وأسلك في أثره
أين سلك حتى تدركه فأقتله أو تنفيه فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين
والجند جنده. فجعل ابن الأشعث يتبعه وشبيب يقصد به الأرض الخشنة
الغليظة وإذا دنا منه رجع يبيته فيجده على حذرة حتى أتعب الجيش وأحفى
دوابهم ونزل بطن أرض الموصل ليس بينه وبين سواد إلا نهر حولايا [2] في
دادان الأعلى من أرض خوخى ونزل عبد الرحمن في عواقيل النهر وكانت أيام
النحر، وطلب شبيب الموادعة فيها فأجابه قصدا للمطاولة وكتب عثمان بن
قطن بذلك إلى الحجّاج فنكر وبعث إلى عثمان بن قطن بإمارة العسكر وأمره
بالمسير وعزل عبد الرحمن بن الأشعث وبعث على المدائن مطرّف بن المغيرة
مكان ابن قطن وقدم ابن قطن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية وناداهم
إلى الحرب فاستمهلوه وأنزله عبد الرحمن بن الأشعث وأصبحوا إلى القتال
ثالث يومهم على تعبية وفي الميمنة خالد بن نهيك بن قيس وفي الميسرة
عقيل بن شدّاد السّلوليّ وابن قطن في الرجالة
__________
[1] جوخى: ابن الأثير ج 4 ص 411.
[2] وفي الكامل ج 4 ص 414: «ثم اقبل البتّ وهي من قرى الموصل، ليس
بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا، وهو في راذان الأعلى من أرض
جوص» .
(3/195)
وعبر إليهم شبيب في مائة وثلاثين رجلا فوقف
في الميمنة وأخوه مضاد في القلب وسويد بن سليم في الميسرة وحمل شبيب
على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا ونزل عقيل بن شدّاد فقاتل حتى قتل
وقتل معه مالك بن عبد الله الهمدانيّ وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها
وقاتل خالد بن نهيك فجاء شبيب من ورائه فقتله وتقدّم عثمان إلى مضاد في
القلب فاشتدّ القتال وحمل شبيب من وراء عثمان وعطف عليهم سويد بن سليم
ومضاد من القلب حتى أحاطوا به فقتلوه وانهزمت العساكر ووقع عبد الرحمن
بن الأشعث فأتاه ابن أبي شثبة الجعفي [1] وهو على بغلة فأردفه ونادى في
الناس باللحاق بدير أبي مريم ورفع شبيب السيف عن الناس ودعاهم إلى
البيعة فبايعوه ولحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتى أمّنه الحجّاج ومضى
شبيب إلى ماه نهرادان [2] فأقام فيه فصل الصيف فلحق به من كان للحجّاج
عليه تبعة ثم أقبل إلى المدائن في ثمانمائة رجل وعليها مطرّف بن
المغيرة وبلغ الخبر إلى الحجّاج فقام في الناس وتسخط وتوعد. فقال زهرة
بن حويّة وهو شيخ كبير لا يستطيع القيام إلا معتمدا: أنت تبعث الناس
متقطعين فيصيبون منهم فاستنفر الناس جميعا وابعث عليهم رجلا شجاعا
مجرّبا يرى الفرار عارا والصبر مجدا وكرما. فقال الحجّاج: أنت ذلك
الرجل! فقال: إنما يصلح من يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على
الفرس ولا أطيق من هذا شيئا وقد ضعف بصري ولكن أكون مع أمير وأشير
عليه.
فقال له: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله أوّل أمرك وآخره. ثم قال
للناس:
سيروا فتجهّزوا بأجمعكم فتجهزوا وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بأنّ شبيبا
شارف المدائن يريد الكوفة وهم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم وقتل
أمراءهم ويستمدّه من جند الشام، فبعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد
الكلبيّ في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكميّ في ألفين وذلك سنة
ست وسبعين وكتب الحجّاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحيّ يستقدمه من عند
المهلب وقد وقع بينهما كما مرّ فقدم عتاب وولّاه على الجيش فشكر زهرة
بن حويّة له وقال: رميتهم بحجرهم والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل.
وبعث الحجّاج إلى جند الشام يحذّرهم البيات ويوصيهم
__________
[1] ابن أبي سيرة الجعفي: ابن الأثير ج 4 ص 415.
[2] ماه يهراذان: ابن الأثير ج 4 ص 419.
(3/196)
الاحتياط وأن يأتوا على عين التمر. وعسكر
عتاب بجماع أعين [1] ثم قطع شبيب دجلة الى المدائن وبعث إليه مطرّف أن
يأتيه رجال من وجوههم ينظر في دعوتهم فرجا منه وبعث اليه بغيث بن سويد
[2] في جماعة مكثوا عنده أربعا ولم يرجعوا من مطرّف بشيء. ونزل عتاب
الصراة وخرج مطرف إلى الجبال خوفا أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجّاج
فخلا لهم الجوّ. وجاء مضّاد إلى المدائن فعقد الجسر ونزل عتاب سوق حكم
[3] في خمسين ألفا وسار شبيب بأصحابه في ألف رجل، فصلى الظهر بساباط
وأشرف على عسكر عتاب عند المغرب وقد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه فصلى
المغرب، وعبّى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتين في الميسرة،
والمحلّل بن وائل في مائتين في الميمنة وهو في مائتين في القلب. وكان
على ميمنة عتاب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد وعلى ميسرته نعيم بن عليم
وعلى الرجّالة حنظلة بن الحرث اليربوعي وهو ابن عمه وهم ثلاثة صفوف بين
السيوف والرماح والرماة. ثم حرّض الناس طويلا وجلس في القلب ومعه زهرة
بن مرتد [4] وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وابو بكر بن محمد بن أبي
جهم العدويّ وأقبل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمل على الميسرة
وفيها ربيعة فانقضوا وثبت قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم
على رايتهم حتى قتلوا. ثم حمل شبيب على عتاب بن ورقاء وحمل سويد بن
سليم على محمد بن سليم في الميمنة في تميم وهمدان واشتدّ القتال وخالط
شبيب القلب وانفضوا وتركوا عتابا وفرّ ابن الأشعث في ناس كثيرين وقتل
عتاب بن ورقاء وركب زهرة بن حويّة فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر
الثعلبي من الخوارج ووطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيبانيّ منهم،
ووقف عليه شبيب وتوجع له ونكر الخوارج ذلك وقالوا: أتتوجع لرجل كافر؟
فقال: أعرف قديمه.
ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه وهربوا تحت ليلهم وحوى ما
في العسكر وأتاه أخوه من المدائن وأقام يومين ثم سار نحو الكوفة ولحق
سفيان بن الأبرد وعسكر الشام بالحجّاج، فاستغنى بهم عن أهل الكوفة
واشتدّ بهم وخطب فوبّخ أهل الكوفة
__________
[1] حمام أعين: ابن الأثير ج 4 ص 421.
[2] قعنب بن سويد: ابن الأثير ج 4 ص 421.
[3] سوق حكمة: ابن الأثير ج 4 ص 422.
[4] زهرة بن حوية: ابن الأثير ج 4 ص 423.
(3/197)
وعجّزهم وجاء شبيب فنزل حمام أعين فسرّح
الحجّاج إليه الحرث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشرط لم يشهدوا
يوم عتاب فبادر إليه شبيب فقتله وانهزم أصحابه إلى الكوفة وأخرج
الحجّاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك وجاء شبيب فنزل السّبخة ظاهر
الكوفة وبنى بها مسجدا وسرّح الحجّاج مولاه أبا الورد في غلمان لقتاله
فحمل عليه شبيب وقتله يظنه الحجّاج ثم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك
فقتله. فركب الحجّاج في أهل الشام وجعل سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على
أفواه السكك وقعد على كرسيه ونادى في أهل الشام وحرّضهم فغضوا الأبصار
وجثوا على الركب وشرّعوا الرماح وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه ومع
سويد بن سليم ومع المحلّل بن وائل وحمل سويد وبيتوا وطاعنوه حتى انصرف
وقدّم الحجّاج كرسيّه وحمل المحلّل ثانية فكذلك وقدّم الحجّاج كرسيّه
فثبتوا له وألحقوه بأصحابه. وسرب شبيب سويد بن سليم إلى أهل السكك وكان
عليها عروة بن المغيرة بن شعبة فلم يطق دفاعه ثم حمل شبيب فطاعنوه
وردّوه وانتهى الحجّاج إلى مسجده وصعده وملك العرصة. وقال له خالد ابن
عتاب ائذن لي في قتالهم فإنّي موتور فأذن له، فجاءهم من ورائهم وقتل
أخا شبيب وغزالة امرأته وخرّق عسكرهم وحمل الحجّاج عليهم فانهزموا،
وتخلّف شبيب ردءا لهم. فأمر الحجّاج أصحابه بموادعتهم ودخل الكوفة فخطب
وبشّر الناس. ثم سرّح حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف فارس
لاتباعه وحذّره بيانه فانتهى في أثره إلى الأنبار وقد افترق عن شبيب
كثير من أصحابه للأمان الّذي نادى الحجاج به، فجاءه شبيب عند الغروب
وقد قسّم حبيب جنده أرباعا وتواصوا بالاستماتة فقاتلهم شبيب طائفة بعد
طائفة فما زالت قدم إنسان عن موضعها إلى آخر الليل. ثم نزل شبيب
وأصحابه واشتدّ القتال وكثر القتلى وسقطت الأيدي وفقئت الأعين، وقتل من
أصحاب شبيب نحو ثلاثين ومن أهل الشام نحو مائة وأدركهم الإعياء والفشل
جميعا فانصرف شبيب بأصحابه وقطع دجلة ومرّ في أرض خوخى.
ثم قطع دجلة أخرى عند واسط ومضى على الأهواز وفارس إلى كرمان ليريح
بها.
(وقد قيل) في هذه الحرب غير هذا، وهو أنّ الحجاج بعث إليه أمراء واحدا
بعد واحد فقتلهم وكان منهم أعين صاحب حمام أعين وكان غزالة امرأة شبيب
نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين [1] بالبقرة وآل عمران فجاء شبيب
ودخل الكوفة ليلا
__________
[1] ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران.
(3/198)
وأوفت بنذرها. ثم قاتلهم الناس وخرجوا وقام
الحجّاج في الناس يستشيرهم وبرز إليه قتيبة وعذله في بعث الرعاع
ينهزمون ويموت قائدهم والرأي أن تخرج بنفسك فتحالمه [1] فخرج من الغد
إلى السّبخة وبها شبيب واختفى مكانه عن القوم ونصب أبا الورد مولاه تحت
اللواء فحمل عليه شبيب فقتله. ثم حمل على خالد بن عتاب في الميسرة ثم
على مطرف بن ناجية [2] في الميمنة فكشفهما ونزل عند ذلك الحجّاج
وأصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد وبينما هم على ذلك إذ اختلف
الخوارج وقال مصقلة بن مهلهل الضبيّ لشبيب: ما تقول في صالح بن مسرّح؟
قال: برئت منه. فبرئ مصقلة منه، وفارقه. وشعر الحجّاج باختلافهم فسرّح
خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم وقتل غزالة وبعث برأسها إلى
الحجّاج فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله، وجاء به فغسله ودفنه. وانصرف
الخوارج وتبعهم خالد وقتل مضاد أخو شبيب ورجع خالد عنهم بعد أن أبلى.
وسار شبيب إلى كرمان. وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يستمدّه فبعث إليه
سفيان بن الأبرد الكلبيّ في العساكر فأنفق فيهم المال، وسرّحه بعد
انصراف الخوارج بشهرين وكتب إلى عامل البصرة وهو الحكم بن أيّوب زوج
ابنته أن يبعث بأربعة آلاف فارس من جند البصرة إلى سفيان فبعثهم مع
زياد بن عمر العتكيّ فلحقه [3] انقضاء الحرب. وكان شبيب بعد أن استجم
بكرمان أقبل راجعا فلقي سفيان بالأهواز فعبر إليه جسر دجيل وزحف في
ثلاثة كراديس فقاتلهم أشدّ قتال وحملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة
وسفيان وأهل الشام مستميتين يزحفون زحفا حتى اضطرّ الخوارج إلى الجسر
فنزل شبيب في مائة من أصحابه، وقاتل إلى المساء حتى إذا جاء الليل
انصرف وجاء إلى الجسر فقدّم أصحابه وهو على أثرهم فلما مرّ بالجسر
اضطرب حجر تحت حافر فرسه وهو على حرف السفينة فسقط في الماء وغرق وهو
يقول: وكان أمر الله مفعولا، ذلك تقدير العزيز العليم. وجاء صاحب الجسر
إلى سفيان وهو يريد الانصراف بأصحابه فقال: إنّ رجلا من الخوارج سقط
فتنادوا بينهم غرق أمير
__________
[1] فتحاكمه: ابن الأثير ج 4 ص 429.
[2] مطر بن ناجية: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 431: «فسيّرهم مع زياد
بن عمرو العتكيّ، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب» .
(3/199)
المؤمنين ومرّوا وتركوا عسكرهم فكبّر سفيان
وأصحابه وركب إلى الجسر وبعث إلى عسكرهم فحوى ما فيه وكان كثير الخيرات
ثم استخرجوا شبيبا من النهر ودفنوه.
خروج المطرف والمغيرة بن شعبة
لما ولى الحجّاج الكوفة وقدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافا فاستعمل
عروة على الكوفة ومطرّفا على المدائن وحمزة على همذان فكانوا أحسن
العمّال سيرة وأشدّهم على المريب. ولما جاء شبيب إلى المدائن نزل نهر
شير [1] ومطرّف بمدينة الأبواب فقطع مطرّف الجسر وبعث إلى شبيب أن يرسل
إليه من يعرض عليه الدعوة، فبعث إليه رجلا من أصحابه فقالوا نحن ندعو
إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء
وتعطيل الحدود والتبسط بالجزية فقال مطرّف دعوتم إلى حق [2] جورا ظاهرا
وأنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بإحداثهم وعلى الدعاء
إلى الكتاب والسنة على الشورى كما تركها عمر بن الخطّاب حتى يولّي
المسلمون من يرضونه، فإنّ العرب إذا علمت أنّ المراد بالشورى الرضا من
قريش رضوا فكثر مبايعكم فقالوا: لا نجيبك إلى هذا! وأقاموا أربعة أيام
يتناظرون في ذلك ولم يتفقوا وخرجوا من عنده. ثم دعا مطرّف أصحابه
وأخبرهم بما دار بينه وبين أصحاب شبيب وأنّ رأيه خلع عبد الملك
والحجّاج فوجموا من قوله وأشاروا عليه بالكتمان فقال له يزيد بن أبي
زياد مولى أبيه لن والله يخفى على الحجاج شيء مما وقع ولو كنت في
السحاب لاستنزلك فالنجاء بنفسك، ووافقه أصحابه فسار عن المدائن إلى
الجبال ولما كان في بعض الطريق دعا أصحابه إلى الخلع والدعاء إلى
الكتاب والسنّة، وأن يكون الأمر شورى فرجع عنه بعض إلى الحجّاج منهم
سبرة بن عبد الرحمن مخنف وسار مطرّف ومرّ بحلوان وبها سويد بن عبد
الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه فأوقع مطرّف بهم وأثخن في الأكراد
ومال عن همذان ذات اليمين وبها أخوه حمزة واستمدّه بمال وسلاح فأمدّه
سرّا. وسار إلى قم وقاشان فبعث عماله في نواحيه وفزع إليه كل جانب فجاء
سويد بن سرحان الثقفي وبكير بن هارون
__________
[1] بهرسير: ابن الأثير ج 4 ص 434.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 434: «ما دعوتم إلّا
إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا» وكذلك الطبري ج 7 ص 260.
(3/200)
النّخعيّ من الري في نحو مائة رجل. وكان
على الريّ عديّ بن زياد الأيادي وعلى أصبهان البرّاء بن قبيصة فكتب إلى
الحجّاج بالخبر واستمدّه فأمدّه بالرجال، وكتب إلى عديّ بالري أن يجتمع
مع البرّاء على حرب مطرّف فاجتمعوا في ستة آلاف وعديّ أميرهم. وكتب
الحجّاج إلى قيس بن سعد البجليّ [1] وهو على شرطة حمزة بهمذان بأن يقبض
على حمزة ويتولى مكانه فجاءه في جمع من عجل وربيعة وأقرأه كتاب الحجّاج
فقال سمعا وطاعة. وقبض قيس عليه وأودعه السجن وسار عديّ والبرّاء نحو
مطرّف فقاتلوه وانهزم أصحابه وقتل يزيد مولى أبيه وكان صاحب الراية.
وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكا
صالحا وكان الّذي تولى قتل مطرّف عمر بن هبيرة الفزاريّ. وبعث عديّ أهل
البلاء إلى الحجّاج وأمر بكير بن هارون وسويد بن سرحان، وكان الحجّاج
يقول مطرّف ليس بولد للمغيرة وإنما هو ابن مصقلة الحر، لأن أكثر
الخوارج كانوا من ربيعة لم يكن فيهم من قيس.
اختلاف الازارقة
قد تقدّم لنا مقام المهلّب في قتال الأزارقة على سابور بعد مسير عتاب
عنه إلى الحجّاج وأنه أقام في قتالهم سنة، وكانت كرمان لهم وفارس
للمهلّب فانقطع عنهم المدد وضاقت حالهم فتأخروا إلى كرمان وتبعهم
المهلّب ونزل خيررفت [2] مدينة كرمان وقاتلهم حتى أزالهم عنها وبعث
الحجّاج العمال على نواحيها وكتب إليه عبد الملك بتسويغ [3] للمهلّب
معونة له على الحرب. وبعث الحجّاج إلى المهلّب البرّاء بن قبيصة يستحثه
لقتال الخوارج فسار وقاتلهم والبرّاء مشرف عليه من ربوة واشتدّ قتاله،
وجاء البرّاء من الليل فتعجّب لقتاله وانصرف إلى الحجّاج وأنهى غدر
المهلّب وقاتلهم ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شيء. ثم وقع
الاختلاف بينهم فقيل في سببه انّ المقعطر الضبيّ وكان عاملا لقطريّ على
بعض نواحي كرمان قتل
__________
[1] قيس بن سعد العجليّ: ابن الأثير ج 4 ص 436.
[2] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 437.
[3] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 4 ص 437: «فكتب اليه عبد
الملك يأمره ان يترك بيد المهلب فسا ودارابجرد وكورة إصطخر تكون له
معونة على الحرب.»
(3/201)
بعض الخوارج فطلبوا القود منه فمنعه قطري
وقال: تأول فأخطأ، وهو من ذوي السابقة فاختلفوا وقيل بل كان رجل في
عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلّب فكتب المهلّب كتابا
مع رجل وامرأة أن يلتقيه في عسكرهم وفيه وصلت نصالك وقد أنفذت إليك ألف
درهم. فلما وقف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله فأنكر عليه عبد ربه
الكبير واختلفوا. (وقيل) بعث المهلّب نصرانيا وأمره بالسجود لقطريّ
فقتله بعض الخوارج وولّوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطريا فبقي في نحو
الخمسين منهم وأقاموا يقتتلون شهرا، ثم لحق قطريّ بطبرستان وأقام عبد
ربه بكرمان وقاتلهم المهلّب وحاصرهم بخيرفت [1] ولما طال عليهم الحصار
خرجوا بأموالهم وحريمهم وهو يقاتلهم حتى أثخن فيهم. ثم دخل خيرفت وسار
في اتباعهم فلحقهم على أربعة فراسخ فقاتلهم هو وأصحابه حتى أعيوا وكفّ
عنهم. ثم استمات الخوارج ورجعوا فقاتلوه حتى يئس من نفسه. ثم نصره الله
عليهم وهزمهم وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف كان منهم عبد ربه الكبير
ولم ينج إلا القليل. وبعث المهلّب المبشر إلى الحجّاج فأخبره وسأله عن
بني المهلّب فأثنى عليهم واحدا واحدا قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا
كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلّب يشكره
ويأمره أن يولّي على كرمان من يراه وينزل حامية ويقدّم عليه، فولّى
عليها ابنه يزيد وقدم على الحجّاج فاحتفل لقدومه وأجلسه إلى جانبه
وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلّب! وسرّح سفيان بن الأبرد الكلبي
في جيش عظيم نحو طبرستان لطلب قطريّ وعبيدة بن هلال ومن معهم من
الخوارج. والتقوا هنالك بإسحاق بن محمد بن الأشعث في أهل الكوفة
واجتمعا على طلبهم، فلقوهم في شعب من شعب طبرستان وقاتلوهم فافترقوا عن
قطريّ ووقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب ومرّ به علج فاستقاه على أن
يعطيه سلاحه، فعمد إلى أعلى الشعب وحدّر عليه حجرا من فوق الشعب فأصابه
في رأسه فأوهنه ونادى بالناس فجاء في أوّلهم نفر من أهل الكوفة فقتلوه
[2] منهم سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف والسياح بن
محمد بن الأشعث [3] وحمل رأسه أبو الجهم إلى
__________
[1] جيرفت: ابن الأثير ج 4 ص 439 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[2] هنا بياض بالأصل وبعد مراجعة الكامل تبين انه لا يوجد اي نقص. (ابن
الأثير ج 4 ص 442) :
«فقتلوه، منهم سورة بن الحر التميمي..»
[3] الصبّاح بن محمد بن الأشعث: المرجع السابق.
(3/202)
إسحاق بن محمد فبعث به إلى الحجّاج، وبعثه
الحجّاج إلى عبد الملك وركب سفيان فأحاط بالخوارج وحاصرهم حتى أكلوا
دوابهم، ثم خرجوا إليه واستماتوا فقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى
الحجّاج ودخل دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجّاج قبل دير
الجماجم. قال بعض العلماء وانقرضت الأزارقة بعد قطريّ وعبيدة آخر
رؤسائهم وأوّل رؤسائهم نافع بن الأزرق. واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة
إلى أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع وسبعين فلم تظهر لهم جماعة، إلى رأس
المائة.
خروج سودب
خرج سودب [1] هذا أيام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة واسمه بسطام
وهو من بني يشكر فخرج في مائتي رجل وسار في خوخى [2] وعامل الكوفة
يومئذ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب. فكتب إليه عمر أن
لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم فبعث
عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجليّ في ألفين فأقام بإزائه لا
يحرّكه. وكتب عمر إلى سودب: بلغني أنك خرجت غضبا للَّه ولرسوله، وكنت
أولى بذلك مني، فهلمّ إليّ أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس،
وإن كان الحق معك نظرنا في أمرك. فبعث إليه عاصما الحبشيّ مولى بني
شيبان ورجلا من بني يشكر فقدما عليه بخاصر [3] فسألهما ما أخرجكم وما
الّذي نقمتم؟ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان
فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه؟ قال عمر: ما
سألته ولا غلبت عليه وعهد إليّ رجل قبلي فقمت ولم ينكر أحد، ومذهبكم
الرضا لكل من عدل، وإن أنا خالفت الحق فلا طاعة لي عليكم. قالا: فقد
خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم فتبرّأ منهم والعنهم فقال عمر:
أنتم تريدون الآخرة وقد أخطأتم طريقها، وإنّ الله لم يشرع اللعن. وقد
قال إبراهيم: ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقال: أولئك الذين هدى الله
فبهداهم اقتده وبقي تسمية أعمالهم مظالم ذما، ولو كان لعن أهل الذنوب
فريضة لوجب عليكم لعن فرعون، أنتم لا تلعنونه وهو أخبث
__________
[1] شوذب: ابن الأثير ج 5 ص 45.
[2] جوخى: ابن الأثير ج 5 ص 45 وقد مرّ ذكرها من قبل.
[3] خناصرة: ابن الأثير ج 5 ص 45.
(3/203)
الخلق، فكيف ألعن أنا أهل بيتي وهم مصلّون
صائمون ولم يكفروا بظلمهم! لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا إلى
الإيمان والشريعة، فمن عمل بها قبل منه، ومن أحدث حدثا فرض عليه الحدّ.
فقالا: فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد والإقرار بما
نزل عليه. فقال عمر: وليس أحد ينكر ما نزل عليه ولا يقول لا أعمل بسنّة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن القوم أسرفوا على أنفسهم. قال عاصم:
فابرأ منهم وردّ أحكامهم. قال عمر: أتعلمان أنّ أبا بكر سبى أهل الردّة
وأنّ عمر ردّها بالفدية ولم يبرأ من أبي بكر وأنتم لا تبرءون من واحد
منهما. قال:
فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا ولا استعرضوا وخرج أهل
البصرة فقتلوا عبد الله بن حبّاب وجارية حاملا، ولم يتبرّأ من لم يقتل
ممن قتل واستعرض، ولا أنتم تتبرّءون من واحد منهما. وكيف ينفعكم ذلك مع
علمكم باختلاف أعمالكم؟
ولا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي والدين واحد فاتقوا الله ولا تقبلوا
المردود وتردّوا المقبول، وقد أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من
شهد شهادة الإسلام وعصم ماله ودمه، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر
الأديان وتحرّمون دماءهم وأموالهم فقال اليشكريّ من استأمن على قوم
وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدّى الحق
الّذي لزمه؟ فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلى يزيد مع علمك أنه لا يعدل
فيه؟ فقال: إنما ولّاه غيري والمسلمون أولى بذلك بعدي. قال: فهو حق ممن
فعله وولّاه، قال أنظراني ثلاثا ثم جاءه عاصم فرجع عن رأي الخوارج وقال
له اليشكري: أعرض عليهم ما قلت واسمع حجّتهم. وأقام عاصم عند عمرو وأمر
له بالعطاء وتوفي عمر لأيام قلائل ومحمد بن جرير ينتظر عود الرسل. ولما
مات عمر كتب عبد الحميد إلى محمد بن جرير بمناجزة سودب قبل أن يصل
إليهم خبر عمر، فقالت الخوارج ما خالف هؤلاء ميعادهم إلّا وقد مات
الرجل الصالح. واقتتلوا فانهزم محمد بن جرير واتبعه الخوارج إلى
الكوفة، ورجعوا وقدم على سودب صاحباه وأخبراه بموت عمر، وسرّح يزيد
تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه، ثم بعث إليهم الشجاع بن وداع
[1] في ألفين فقتلوه وهزموه بعد أن قتل منهم هدبة ابن عم سودب وبقي
الخوارج بمكانهم. وجاء مسلمة إلى الكوفة فأرسل سعيد بن عمرو
__________
[1] السمّاج بن وداع: ابن الأثير ج 5 ص 69.
(3/204)
الحريشيّ [1] في عسكر [2] آلاف فاستماتت
الخوارج وكشفوا العساكر مرارا ثم حملوا عليهم فطحنوهم طحنا. وقتل سودب
وأصحابه ولم يبق منهم أحد، وضعف أمر الخوارج إلى ظهور [3] أيام هشام
سنة عشرين ومائة بهلول بن بشر بن شيبان وبلغت كنارة، وكان لما عزم على
الخوارج حج ولقي بمكة من كان على رأيه، فأبعدوا إلى قرية من قرى الموصل
واجتمعوا بها وهم أربعون وأمّروا عليهم البهلول وأخفوا أنفسهم بأنهم
قدموا من عند هشام ومرّوا بقرية كان بهلول ابتاع منها خلّا فوجده خمرا
وأبى البائع من ردّه واستعدى عليه عامل القرية، فقال: الخمر خير منك
ومن قومك فقتلوه وأظهروا أمرهم وقصدوا خالد القسري بواسط وتعلّلوا عليه
بأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس ويولّي المجرّد على المسلمين. وجاء
الخبر إلى خالد فتوجه من واسط إلى الحيرة وكان بها جند من بني العين
نحو ستمائة بعثوا مددا لعامل الهند، فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول
وأصحابه وضمّ إليهم مائتين من الشرط والتقوا على الفرات، فقتل مقدمهم
وانهزموا إلى الكوفة، وبعث خالد عابدا الشيبانيّ من بني حوشب بن يزيد
بن رويم فلقيه بين الموصل والكوفة فهزمهم إلى الكوفة وارتحل يريد
الموصل. ثم بدا له وسار يريد هشاما بالشام وبعث خالد جندا من العراق
وعامل الجزيرة جندا، وبعث هشام جندا فاجتمعوا بين الجزيرة والموصل
بكحيل وهم في عشرين ألفا وبهلول في سبعين فقاتلوا واستماتوا وصرع بهلول
وسأله أصحابه العهد فعهد إلى دعامة الشيبانيّ ثم إلى عمر اليشكريّ من
بعده. ومات بهلول من ليلته وهرب دعامة وتركهم ثم خرج عمر اليشكريّ فلم
يلبث أن قتل. (ثم خرج) على خالد بعد ذلك بسنتين الغفريّ صاحب الأشهب
وبهذا كان يعرف فبعث اليه السمط بن مسلم البجليّ في أربعة آلاف فالتقوا
بناحية الفرات فانهزمت الخوارج ولقيهم عبيد أهل الكوفة وغوغاؤهم فرموهم
بالحجارة حتى قتلوهم. ثم خرج وزير السختيانيّ على خالد بالحيرة فقتل
وأحرق القرى فوجّه إليه خالد جندا فقتلوا أصحابه، وأثخن بالجراح وأتى
به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل. وكان يسامره بالليل وسعى
بخالد إلى هشام وأنه أخذ حروريا يستحق القتل فجعله سميرا، فكتب إليه
__________
[1] سعيد بن عمر والحرشيّ: ابن الأثير ج 5 ص 70.
[2] في عشرة الاف: ابن الأثير ج 5 ص 70 والعبارة هنا غير واضحة وربما
يكون قد سقطت كلمة «من عشرة» أثناء النسخ فتصبح العبارة: في عسكر من
عشرة الاف.
[3] العبارة هنا غير واضحة والأصح: الى ان ظهر أيام هشام.
(3/205)
هشام بقتله فقتله. ثم خرج بعد ذلك الصخاري
بن شبيب بالفريضة فمضى وندم خالد فطلبه فلم يرجع، وأتى جبل وبها نفر من
اللّات بن ثعلبة فأخبرهم وقال: إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من
قعدة الصغرية كان خالد قتله صبرا. ثم خرج معه ثلاثون منهم فوجه إليهم
خالد جندا فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحاري وأصحابه
أجمعون. وردّ أمر الخوارج بعد ذلك مرّة فلما وقعت الفتن أيام هشام
بالعراق والشام وشغل مروان بمن انتقض عليه فخرج بأرض كفريموتا سعيد بن
بهدل الشيبانيّ في مائتين من أهل الجزيرة وكان على رأي الحرورية، وخرج
بسطام البهسيّ في مثل عدّتهم من ربيعة، وكان مخالفا لرأيه، فبعث إليه
من الصغريّة أربعة آلاف أو يزيدون. وولّى مروان على العراق النضر بن
سعيد الحريشيّ وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فامتنع عبد الله
بالحيرة، وسار إليه النضر وتحاربا أشهرا. وكانت الصغريّة مع النضر عصبة
لمروان لطلبه بدم الوليد وأمه قيسية. فلما علم الضحّاك والخوارج
باختلافهم، أقبل إلى العراق سنة سبع وعشرين وزحف إليهم فتراسل ابن عمر
والنّضر وتعاقدا واجتمعا لقتاله بالكوفة، وكل واحد منهما يصلى بأصحابه
وابن عمر أمير على الناس وجاء الخوارج فقاتلوهم فهزموهم إلى خندقهم ثم
قاتلوهم في اليوم الثاني كذلك فسلك الناس إلى واسط منهم النّضر بن سعيد
الحريشيّ ومنصور ابن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وغيرهم من الوجوه.
فلحق ابن عمر بواسط واستولى الضحّاك على الكوفة وعادت الحرب بين ابن
عمر والنضر. ثم زحف إليهما الضحّاك فاتفقا وقاتلا حتى ضرّستهما الحرب،
ولحق منصور بن جمهور بالضحّاك والخوارج وبايعهم ثم صالحهم ابن عمر
ليشغلوا مروان عنه، وخرج إليهم وصلّى خلف الضحّاك وبايعه وكان معه
سليمان بن هشام وصل إليه هاربا من حمص لما انتقض بها وعليه عليها مروان
فلحق بابن عمر وبايع معه الضحّاك وصار معه وحرّضه على مروان انما لحق
بالضحّاك وهو يحاصر نضيرا وتزوّج أخت شيبان الحروري. فرجع الضحّاك إلى
الكوفة وسار منها إلى الموصل بعد عشرين شهرا من حصار واسط، بعد أن دخل
أهل الموصل وعليهم القطرن أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم
أهل البلد وقاتلهم القطرن فقتل ومن معه وبلغ الخبر إلى مروان وهو يحاصر
حمص فكتب إلى ابنه عبد الله أن يسير إلى يمانع الضحّاك عن توسط الجزيرة
فسار في ثمانية آلاف فارس
(3/206)
والضحّاك في مائة ألف وحاصره بنصيبين. ثم
سار مروان بن محمد إليه فالتقيا عند كفريموتا من نواحي ماردين فقاتله
عامّة يومه إلى الليل وترجّل الضحّاك في نحو ستة آلاف وقاتلوا حتى
قتلوا عن آخرهم وعثر على الضحّاك في القتلى فبعث مروان برأسه إلى [1]
الجزيرة وأصبح الخوارج فبايعوا الخبيريّ قائد الضحّاك وعاودوا الحرب مع
مروان فهزموه وانتهوا إلى خيامه فقطعوا أطنابهم وجلس الخبيريّ على فرشه
والجناحان ثابتان وعلى الميمنة عبد الله بن مروان وعلى الميسرة إسحاق
بن مسلم العقيليّ فلما انكشف قلّة الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان
فقتلوهم جميعا والخبيريّ معهم. ورجع مروان من نحو ستة أميال وانصرف
الخوارج وبايعوا شيبان الحروريّ وهو شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ
ويكنى أبا الدلقاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من
يومئذ وأقام في قتالهم أياما وانصرف عن شيبان كثير منهم وارتحلوا إلى
الموصل بإشارة سليمان بن هشام وعسكروا شرقي دجلة، وعقدوا الجسور
واتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر، وقتل من الطائفتين خلق كثير وأسر
ابن أخ لسليمان بن هشام اسمه أمية بن معاوية فقطعه ثم ضرب عنقه وكتب
مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة وهو بقرقيسياء يأمره بالسير إلى العراق
وولّاه عليها وعلى الكوفة يومئذ المثنّى بن عمران العائدي من قريش
خليفة للخوارج فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا وانهزمت الخوارج. ثم
تجمّعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم، ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل
شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة وقتل عبيدة
واستباح عسكرهم، واستولى على العراق وكان منصور بن جمهور مع الخوارج
فمضى إلى الماهين وغلب عليها وعلى الخيل جميعا، وسار ابن هبيرة إلى
واسط فحبس ابن عمر وكان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز فبعث
ابن هبيرة إليه نباتة بن حنظلة، وبعث هو داود بن حاتم والتقيا على دجلة
__________
[1] هنا اربع بياضات بالأصل كما ترى، وان الكلام الّذي بين البياضات
غير مترابط وكثير الاغلاط لذلك نقلنا ما ورد في تاريخ الطبري ج 9 ص 76:
فذكر هشام عن أبي مخنف ان الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقي مروان
بكفرثوثى من أرض الجزيرة فقتل الضحاك يوم التقوا. وابو هاشم مخلد بن
محمد بن صالح قال: فيما حدثني احمد بن زهير قال حدثنا عبد الوهاب بن
إبراهيم عنه ان الضحاك، لما قتل عطية التغلبي صاحبه وعامله على الكوفة
ملحان بقنطرة السليحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر
بواسط وجّه مكانه من أصحابه رجلا يقال له مطاعن، واصطلح عبد الله بن
عمر
(3/207)
فانهزم داود وقتل وكتب مروان إلى ابن هبيرة
أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزنيّ فبعثه في ثمانية آلاف وبعث شيبان
لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر وتحصّن بالسند وجعل
مروان يمدّه بالجنود وكان منصور بن جمهور بالجبل يمدّ شيبان بالأموال.
ثم كثرت جموع عامر فخرج إلى الجون والخوارج اللذين يحاصرونه فهزمهم
وقتل الجون وسار قاصدا الخوارج بالموصل، فارتحل شيبان عنها وقدم عامر
على مروان فبعثه في اتباع شيبان، فمرّ على الجبل وخرج على بيضاء
__________
[ () ] والضحاك على أن يدخل في طاعته. فدخل وصلى خلفه وانصرف إلى
الكوفة. وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط. ودخل الضحّاك الكوفة، وكاتبه
أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكنوه منها، فسار في جماعة جنوده
بعد عشرين شهرا حتى انتهى اليها، وعليها يومئذ عامل لمروان وهو رجل من
بني شيبان من أهل الجزيرة، يقال له القطران بن أكمه. ففتح أهل الموصل
المدينة للضحّاك، وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى
قتلوا. واستولى الضحّاك على الموصل وكورها، وبلغ مروان خبره وهو محاصر
حمص مشتغل بقتال أهلها. فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة
يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين يشغل الضحّاك عن
توسط الجزيرة فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه وهو في نحو من
سبعة آلاف أو ثمانية، وخلف بحرّان قائدا في ألف أو نحو ذلك. وسار
الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة
من مع الضحّاك، فهو فيما بلغنا عشرون ومائة ألف..
وأقام الضحّاك على نصيبين محاصرا لها ووجّه قائدين من قواده ( ... )
حتى وردا الرقة فقاتلهم من بها من خيل مروان وهم نحو من خمسمائة فارس.
ووجه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلا من روابطه، فلما دنوا منها
انقشع أصحاب الضحّاك منصرفين إليه فاتبعتهم خيله فاستسقطوا من ساقتهم
نيّفا وثلاثين رجلا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة ومضى صامدا إلى
الضحّاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا فقاتله
يومه ذلك. فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجل معه من ذوي الثبات
من أصحابه نحو من ستة آلاف، وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه
وأحدقت بهم خيول مروان، فالحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة. وانصرف
من بقي من أصحاب الضحّاك إلى عسكرهم، ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحّاك
أن الضحّاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل.
وجاءهم بعض من عيانه حين ترجل فأخبرهم بخبره ومقتله فبكوه وناحوا عليه.
وخرج عبد الملك بن بشر التغلبيّ القائد الّذي كان وجهه في عسكرهم إلى
الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فاعلمه أن الضحاك قتل. فأرسل معه
رسلا من حرسه معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلبا القتلى حتى
استخرجوه فاحتملوه حتى أتوا به مروان وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة،
فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحّاك أنهم قد علموا بذلك. وبعث
مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة فطيف به فيها. وقيل: إن
الخيبريّ والضحّاك انما قتلا سنة 129.
راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 5 ص 348- 349.
(3/208)
فارس وبها يومئذ عامر بن عبد الله بن حطويه
بن جعفر [1] في جموع كثيرة، فسار ابن معاوية إلى كرمان وقاتله عامر
فهزمه ولحق بهراة وسار عامر بمن معه فلقي شيبان والخوارج بخيرفت [2]
فهزمهم واستباح عسكرهم ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها سنة ثلاثين
ومائة، وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل شهرا، ثم انهزم شيبان
ولحق بفارس وعامر بن صراة [3] في اتباعه، ثم سار شيبان إلى جزيرة ابن
كاوان، وأقام بها. ولما ولي السفّاح بعث حارثة بن خزيمة لحرب الخوارج
هنالك لموجدة وجدها عليه، فأشير عليه ببعثه لذلك. فسار في عسكر إلى
البصرة وركب السفن إلى جزيرة ابن كاوان، وبعث فضالة بن نعيم النهيليّ
في خمسمائة، فانهزم شيبان إلى عمان وقاتل هناك وقتله جلندي بن مسعود بن
جعفر بن جلندي ومن معه سنة أربع وثلاثين. وركب سليمان بن هشام السفن
بأهله ومواليه إلى الهند بعد مسير شيبان إلى جزيرة ابن كاوان حتى إذ
بويع السفّاح قدم عليه وأنشده سديف البيتين المعروفين وهما:
لا يغرّنّك ما ترى من رجال ... إنّ بين الضّلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع الصوت حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فقتله السفّاح وانصرف مروان بعد مسير شيبان إلى الموصل الى منزله
بحرّان. فلم يزل بها حتى سار إلى الزاب، ومضى شيبان بعد سلمة إلى
خراسان والفتنة بها يومئذ بين نصر ابن سيّار والكرماني والحرث بن شريح
وقد ظهر أبو مسلم بالدعوة العباسية فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه
واجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر بن سيّار فلما صالح الكرماني
أبا مسلم كما مرّ وفارق شيبان تنحّى شيبان عن عمر لعلمه أنه لا يقاومه.
ثم هرب نصر بن سيّار إلى سرخس واستقام أمر أبي مسلم بخراسان، فأرسل إلى
شيبان يدعوه إلى البيعة ويأذنه بالحرب، واستجاش بالكرماني فأبى، فسار
إلى سرخس واجتمع إليه الكثير من بكر بن وائل، وأرسل إليه أبو مسلم في
الموادعة، فحبس الرسل، فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني
ليث بالمسير إلى شيبان
__________
[1] عبد الله بن معاوية بن حبيب بن جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 355.
[2] جيرفت: المرجع السابق وقد مر ذكرها من قبل.
[3] عامر بن ضبارة: المرجع السابق.
(3/209)
فسار إليه فهزمه وقتل في عدّة من بكر بن
وائل. ويقال إنّ خزيمة بن حازم حضر مع بسّام في ذلك.
خبر أبى حمزة وطالب وإسحق
كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري [1] وكان من
الخوارج الإباضية وكان يوافي مكة كل موسم يدعو إلى خلاف مروان، وجاء
عبد الله ابن يحيي المعروف بطالب الحق سنة ثمان وعشرين وهو من حضرموت
فقال له:
انطلق معي فإنّي مطاع في قومي. فانطلق معه إلى حضرموت وبايعه على
الخلافة وبعثه عبد الله سنة تسع وعشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي [2] في
سبعمائة فقدموا مكة وحكموا بالموقف وعامل المدينة يومئذ عبد الواحد بن
سليمان بن عبد الملك، فطلبهم في الموادعة حتى ينقضي الموسم. وأقام
للناس حجّهم ونزل بمعنى وبعث إلى أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن
ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد
وعبيد الله ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر [3] بن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن في أمثالهم، فكشّر في وجه العلويّ والعثمانيّ وانبسط إلى
البكريّ والعمريّ، وقال لهما: ما خرجنا إلا بسيرة أبويكما! فقال له
عبيد الله بن حسن: ما جئنا للتفضيل بين آبائنا وإنما جئنا برسالة من
الأمير وربيعة يخبرك بها. ثم أحكموا معه الموادعة إلى مدتها. ونفر عبد
الواحد في النفر الأوّل فمضى إلى المدينة وضرب على أهلها البعث وزادهم
في العطاء عشرة، وبعث عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن عثمان،
فانتهوا إلى فديك. وجاءتهم رسل أبي حمزة يسألونهم التجافي عن حربهم وأن
يخلوا بينهم وبين عدوّهم فلما نزلوا قديد وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب
حرب، فطلع عليهم أصحاب أبي حمزة من الغياض فأثخنوا فيهم وكان قتلاهم
نحو سبعمائة من قريش. وبلغ الخبر إلى عبد الواحد فلحق بالشام ودخل أبو
حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين وخطب على المنبر وأعلن بدعوته ووعظ،
وذكر وردّ مقالات من عليهم وسفّه رأيهم وأحسن السيرة في أهل المدينة
واستمالهم حتى سمعوه
__________
[1] المختار بن عوف الازدي السلّمي البصري: ابن الأثير ج 5 ص 351.
[2] بلج بن عقبة الازدي: ابن الأثير ج 5 ص 373.
[3] وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وعمر بن ربيعة: ابن الأثير ج 5 ص
374.
(3/210)
يقول: من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر
وأقام ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم وسار نحو الشام. وكان مروان قد سرّح إليهم
عبد الملك بن محمد بن عطيّة بن هوازن في أربعة آلاف ليقاتل الخوارج حتى
يبلغ اليمن فلقي أبا حمزة في وادي القرى، فانهزمت الخوارج وقتل أبو
حمزة ولحق فلّهم بالمدينة. وسار عطية في أثرهم إلى المدينة فأقام بها
شهرا، ثم سار إلى اليمن واستخلف على المدينة الوليد ابن أخيه عروة،
وعلى مكّة رجلا من أهل الشام. وبلغ عبد الله طالب الحق مسيره إليه وهو
بصنعاء فخرج للقائه، واقتتلوا، وقتل طالب الحق وسار ابن عطيّة إلى
صنعاء وملكها. وجاء كتاب مروان بإقامة الحج بالناس، فسار في اثني عشر
رجلا ومعه أربعون ألف دينار وخلّف ثقله بصنعاء ونزل الحرف فاعترضه ابن
حماية المرادي في جمع، وقال له ولأصحابه: أنتم لصوص فاستظهروا بعهد
مروان فكذّبوه وقاتلهم فقتلوه. وركد ريح الخوارج من يومئذ إلى أن ظهرت
الدولة العبّاسية وبويع المنصور بعد السفّاح (فخرج سنة سبع وثلاثين)
بالجزيرة ملبد بن حرملة الشيبانيّ فسارت اليه روابط الجزيرة في ألف
فارس فهزمهم وقاد منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلّبيّ ومهلّل بن
صفوان مولى المنصور، ثم نزار من قوّاد خراسان، ثم زياد بن مسكان ثم
صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحدا بعد واحد، وقتل منهم. ثم سار إليه حميد
بن قحطبة وهو عامل الجزيرة فهزمه وتحصّن حميد منه، فبعث المنصور عبد
العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار في الجيوش، ومعه زياد بن مسكان
فأكمن له الملبّد، وقاتلهم. ثم خرج الكعبين [1] فانهزم عبد العزيز وقتل
عامّة أصحابه فبعث المنصور حازم بن خزيمة في ثمانية آلاف من أهل خراسان
فسار إلى الموصل وعبر إليه الملبّد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة
وأهل الميسرة من أصحاب حازم، وترجّل حازم وأصحابه، وترجّل ملبّد كذلك.
وأمر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل، واشتدّ القتال وتزاحفت الميمنة
والميسرة ورشقوهم، فقتل ملبّد في ثمانمائة ممن ترجل معه، وثلاثمائة قبل
أن يترجل. وتبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهاء مائة وخمسين. ثم
خرج سنة ثمان وأربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسّان بن مخالد [2]
بن مالك بن الأجدع
__________
[1] حسب مقتضى السياق «الكمين» .
[2] حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانيّ: ابن الأثير ج
5 ص 584.
(3/211)
الهمدانيّ أخو مسروق. وكان على الموصل
الصغر بن يجدة [1] وليها بعد حرب بن عبد الله، فسار إليهم فهزموه إلى
الدجلة. وسار حسّان إلى العمّال ثم إلى البحر وركب إلى السند وقاتل،
وكاتب الخوارج بعمان يدعوهم ويستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا، وعاد إلى
الموصل فخرج إليه الصّفر بن الحسن ابن صالح بن جنادة الهمذاني وهلال،
فقتل هلالا واستبقى ابن الحسن فاتهمه بعض أصحابه بالعصبيّة وفارقوه.
وقد كان حسّان أمّه من الخوارج وخاله حفص بن أشتم من فقهائهم ولما بلغ
المنصور خروجه قال: خارجي من همذان فقيل له إنه ابن أخت حفص بن أشتم.
قال:
من هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأنّ عامّة همذان شيعة. وعزم المنصور
على الفتك بأهل الموصل، فإنّهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت
ديارهم وأموالهم وأحضر أبا حنيفة وابن أبي ليلى بن شبرمة واستفتاهم
فتلطّفوا له في العفو فأشار إلى أبي حنيفة فقال: أباحوا ما لا يملكون
كما لو أباحت امرأة، فزوّجها بغير عقد شرعيّ فكف عن أهل الموصل. ثم خرج
أيام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرّة واجتمع شركس فبعث
إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيبانيّ ابن أخي معن فاقتتلوا قتالا شديدا
وأسره يزيد وبعث به إلى المهدي موثقا، وحمل من النهروان على بعير وحوّل
وجهه إلى ذنبه كذلك فدخلوا إلى الرصافة وقطعوا ثم صلبوا [2] . وكان
حروبا متعودا فغلب على بوشنج ومروالروذ والطالقان والجوزجان، وكان على
بوشنج مصعب بن زريق جدّ طاهر بن الحسين فهرب منه وكان من أصحابه معاذ
الفارياني وقبض معه ثم خرج معه أيام المهدي بالجزيرة حمزة بن مالك
الخزاعي سنة تسع وستين وهزم منصور بن زياد وصاحب الخراج وقوي أمره، ثم
اغتاله بعض أصحابه فقتله. ثم خرج آخر أيام المهدي بأرض الموصل خارجيّ
من بني تميم اسمه ياسين يميل إلى مقاتلة صالح بن مسرّح فهزم عسكر
الموصل وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي القائد
أبا هريرة محمد بن مروخ وهزيمة بن أعين مولى بني ضبّة فحارباه حتى قتل
في عدّة من أصحابه وانهزم الباقون. ثم خرج بالجزيرة أيام الرشيد سنة
ثمان وسبعين الوليد بن طريف من بني مغلب، وقتل إبراهيم بن خالد ابن
خزيمة بنصيبين، ثم دخل أرمينية وحاصر خلاط عشرين يوما وافتدوا بثلاثين
__________
[1] الصقر بن نجدة: المرجع السابق.
[2] حسب مقتضى السياق: فقطّعوه ثم صلبوه والضمير يعود إلى يوسف بن
إبراهيم.
(3/212)
ألفا. ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان
وأرض السواد، وعبر إلى غرب دجلة وعاث في أرض الجزيرة، فبعث إليه الرشيد
يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ، وهو ابن أخي معن في العساكر فمكث
يقاتله، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فاغروا به الرشيد وأنه أبقى على
الوليد برجم وائل. فكتب إليه الرشيد يتهدّده فناجزه يزيد الحرب في
رمضان سنة تسع وسبعين وقاتلهم قتالا شديدا فقتل الوليد وجيء برأسه.
ثم أصبحت أخته مستلئمة للحرب فخرج إليها يزيد وضربها على رأسها بالرمح
وقال لها اعدي فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول في رثائه
الأبيات المشهورة التي منها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحبّ الزاد إلّا من التقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف
وانقرضت كلمة هؤلاء بالعراق والشام، فلم يخرج بعد ذلك إلّا شذاذ
متفرّقون يستلحمهم الولاة بالنواحي إلّا ما كان من خوارج البربر
بإفريقية، فإنّ دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظّفريّ سنة ثلاث
وعشرين ومائة. ثم فشت دعوة الإباضيّة والصّفريّة منهم في هوارة ولماية
ونفزة ومغيلة وفي مغراوة وبني يفرن من زناتة حسبما يذكر في أخبار
البربر لسي رستم من الخوارج بالغرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط
نذكرها في أخبار البربر أيضا. ثم سار بإفريقية منهم على دولة
العبيديّين خلفاء القيروان أبو يزيد بن مخلد المغربيّ، وكانت له معهم
حروب وأخبار تذكرها في موضعها. ثم لم يزل أمرهم في تناقص إلى أن
اضمحلّت ديانتهم وافترقت جماعتهم وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر
الذين دانوا بها أوّل الأمر. ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق
لهذا العهد في قصور ربع وواديه، في مغراوة من شعوب زناتة ويسمّون
الراهبية نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبي. أوّل من بويع منهم أيام
عليّ بن أبي طالب. وهم في قصور هنالك مظهرين لبدعتهم لبعدهم عن مقال
أهل السنّة والجماعة، وكذلك في جبال طرابلس وزناتة أثر باق تلك النحلة
تدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك وتطير إلينا هذا العهد
من تلك البلاد دواوين ومجلّدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده،
وفروعه مباينة لمناحي السنّة وطرقها بالكلية، إلّا أنها ضاربة بسهم في
إجادة التأليف والترتيب
(3/213)
وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة. وكان
بنواحي البحرين وعمان إلى بلاد حضرموت وشرقي اليمن ونواحي الموصل آثار
تفشي وعروق في كل دولة، إلى أن خرج عليّ بن مهدي من خولان باليمن ودعا
إلى هذه النحلة. وغلب يومئذ من كان من الملوك باليمن واستلحم بني
الصليحيّ القائمين بدعوة العبيديّين من الشيعة وغلبوهم على ما كان
بأيديهم من ممالك اليمن، واستولوا أيضا على زبيد ونواحيها من يد موالي
بني نجاح ومولى ابن زياد كما نذكر ذلك كله في أخبارهم إن شاء الله
سبحانه وتعالى. فلتصفح في أماكنها. ويقال إنّ باليمن لهذا العهد شيعة
من هذه الدعوة ببلاد حضرموت، والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
الدولة الإسلامية بعد افتراق الخلافة
لم يزل أمر الإسلام جميعا دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية
من بعدهم لاجتماع عصبية العرب. ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم
الدعاة لأهل البيت، فغلب دعاة بني العبّاس على الأمر واستقلوا بخلافة
الملك، ولحق الفلّ من بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها من كان
هنالك من مواليهم، ومن هرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العبّاس، وانقسمت
لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب. ثم ظهر دعاة أهل البيت
بالمغرب والعراق من العلويّة ونازعوا خلفاء بني العبّاس واستولوا على
القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديّين بالقيروان
ومصر، والقرامطة بالبحرين، والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من
بعده. وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرّقة نذكرها واحدة بعد واحدة.
ونبدأ منها أوّلا بذكر الشيعة ومبادئ دولهم، وكيف انساقت إلى العبّاسية
ومن بعدهم إلى آخر دولهم. ثم نرجع إلى دولة بني أمية بالأندلس. ثم نرجع
إلى دولة الدعاة للدولة العبّاسية في النواحي من العرب والعجم كما
ذكرناه في برنامج الكتاب، والله الموفق للصواب.
مبدأ دولة الشيعة
(أعلم) أن مبدأ هذه الدولة أنّ أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر وأنّ الخلافة لرجالهم دون من
سواهم من قريش. وفي
(3/214)
الصحيح أنّ العبّاس قال لعليّ في وجع رسول
الله صلى الله عليه وسلم الّذي توفي فيه: اذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا
الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا.
فقال له عليّ: إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده. وفي الصحيح أيضا أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي توفي فيه: هلموا أكتب
لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا فاختلفوا عنده في ذلك، وتنازعوا ولم يتم
الكتاب. وكان ابن عبّاس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم، حتى لقد
ذهب كثير من الشيعة إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه
ذلك لعليّ، ولم يصح ذلك من وجه يعوّل عليه. وقد أنكرت هذه الوصية عائشة
وكفى بإنكارها. وبقي ذلك معروفا من أهل البيت وأشياعهم. وفيما نقله أهل
الآثار أنّ عمر قال يوما لابن العبّاس: إنّ قومكم يعني قريشا ما أرادوا
أن يجمعوا لكم، يعني بني هاشم بين النبوّة والخلافة فتحموا عليهم، وأنّ
ابن عبّاس نكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام فتكلّم بما عصب له.
وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أنّ في نفوس أهل البيت شيئا من
أمر الخلافة والعدول عنهم بها. وفي قصّة الشورى: أنّ جماعة من الصحابة
كانوا يتشيعون لعليّ ويرون استحقاقه على غيره، ولما عدل به إلى سواه
تأفّفوا من ذلك وأسفوا له مثل الزبير ومعه عمّار بن ياسر والمقداد بن
الأسود وغيرهم. إلا أنّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الألفة،
لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفّف والأسف. ثم لما فشا التكبّر على
عثمان والطعن في الآفاق كان عبد الله ابن سبإ ويعرف بابن السوداء، من
أشدّ الناس خوضا في التشنيع لعليّ بما لا يرضاه من الطعن على عثمان
وعلى الجماعة في العدول إليه عن عليّ، وأنه وليّ بغير حق، فأخرجه عبد
الله بن عامر من البصرة ولحق بمصر فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا
إلى الغلوّ في ذلك وانتحال المذاهب الفاسدة فيه، مثل خالد بن ملجم
وسوذان بن حمدان وكنانة بن بشر وغيرهم. ثم كانت بيعة عليّ وفتنة الجمل
وصفين، وانحراف الخوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكيم في الدين.
وتمحّضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية مع عليّ، وبويع ابنه الحسن
وخرج عن الأمر لمعاوية، فسخط ذلك شيعة عليّ منه وأقاموا يتناجون في
السرّ باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه،
وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع، وأوعدهم
(3/215)
إلى هلاك معاوية. فساروا إلى محمد بن
الحنفيّة وبايعوه في السرّ على طلب الخلافة متى أمكنه، وولّى على كل
بلد رجلا، وأقاموا على ذلك ومعاوية يكف بسياسة من غربهم، ويقتلع الداء
إذا تعيّن له منهم، كما فعل بحجر بن عديّ وأصحابه، ويروّض من شماس أهل
البيت ويسامحهم في دعوى تقدّمهم واستحقاقهم. ولا يهيّج أحدا منهم
بالتثريب عليه في ذلك، إلى أن مات ووليّ يزيد، وكان من خروج الحسين
وقتله ما هو معروف، فكانت من أشنع الوقائع في الإسلام. عظمت بها
الشحناء، وتوغّل الشيعة في شأنهم، وعظم النكير والطعن على من تولّى ذلك
أو قعد عنه ثم تلاوموا على ما أضاعوه من أمر الحسين وأنهم دعوه ثم لم
ينصروه فندموا ورأوا أن لا كفّارة في ذلك إلا الاستماتة دون ثأره،
وسمّوا أنفسهم التوّابين. وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعيّ،
ومعه جماعة من خيار أصحاب عليّ. وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق
ولحق بالشام وجمع وزرينج [1] قاصدا العراق فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل
سليمان وكثير من أصحابه كما ذكرنا في خبره وذلك سنة خمس وستين. ثم خرج
المختار بن أبي عبيد ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدّمناه في خبره، وفشا
التعصّب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج عن حدود الحق، واختلفت
مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت، وبايعت كل طائفة
لصاحبها سرّا ورسخ الملك لبني أمية وطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على
عقائدهم فيها، وتستّروا بها مع تعدّد فرقهم وكثرة اختلافهم كما ذكرناه
عند نقل مذاهبهم في فصل الإمامة من الكتاب الأوّل. ونشأ زيد بن عليّ بن
الحسين وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل
متردّدا في إصابة عليّ في حرب صفين والجمل، فنقل ذلك عنه وكان أخوه
محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى سخطيّة جدّه، وكان زيد أيضا مع
قوله بأفضلية عليّ على أصحابه، يرى أنّ بيعة الشيخين صحيحة وأنّ إقامة
المفضول جائزة خلاف ما عليه الشيعة. ويرى أنهما لم يظلما عليّا. ثم
دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامّة
الشيعة ورجع عنه بعضهم لما سمعوه يثني على الشيخين وأنهما لم يظلما
عليّا. وقالوا: لم يظلمك هؤلاء ورفضوا دعوته فسمّوا الرافضة من أجل
ذلك. ثم قاتل يوسف بن عمر
__________
[1] العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل ج 4 ص 164: «وكان مروان قد
سيّر ابن زياد إلى الجزيرة، ثم إذا فرغ منها سار الى العراق» .
(3/216)
فقتله يوسف وبعث برأسه إلى هشام وصلب شلوه بالكناسة ولحق ابنه يحيى
بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعة إلى الخروج فخرج هنالك سنة خمس
وعشرين، وسرّح إليه نصر بن سيّار العساكر مع سالم بن أحور المازنيّ
فقتلوه وبعث برأسه إلى الوليد وصلب شلوه بالجوزجان وانقرض شأن الزيدية.
وأقام الشيعة على شأنهم وانتظار أمرهم، والدعاء لهم في النواحي يدعون
على الأحجال [1] للرضا من آل محمد، ولا يصرّحون بمن يدعون له حذرا عليه
من أهل الدولة. وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا
يرون أنّ الأمر بعد محمد بن الحنفيّة لابنه أبي هشام عبد الله. وكان
كثيرا ما يغدو على سليمان بن عبد الملك فمرّ في بعض أسفاره محمد بن علي
ابن عبد الله بن عبّاس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء فنزل عليه
وأدركه المرض عنده فمات، وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلم شيعته بالعراق
وخراسان أنّ الأمر صائر إلى ولد محمد بن عليّ هذا، فلما مات قصدت
الشيعة محمد بن عليّ وبايعوه سرّا. وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على
رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز، وأجابه عامّة أهل خراسان
وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك. وتوفي محمد سنة أربع وعشرين
وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك وكانوا يسمّونه الإمام. ثم بعث
أبو مسلم إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره فهلك، وكتب إليهم
بولايته ثم قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وحبسه بخراسان فهلك
هنالك لسنة. وملك أبو مسلم خراسان وزحف إلى العراق فملكها كما ذكرنا
ذلك كله من قبل وغلبوا بني أمية على أمرهم وانقرضت دولتهم. |