تاريخ ابن خلدون
الخبر عن بني العبّاس من دول الإسلام في
هذه الطبقة الثالثة للعرب وأولية أمرهم وإنشاء دولتهم والإلمام بنكت
أخبارهم وعيون أحاديثهم
هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية،
وهم القائلون بإمامة محمد بن عليّ بن الحنفية بعد عليّ، ثم بعده إلى
ابنه أبي هشام عبد الله. ثم
__________
[1] الأحجال: ج حجل وهو القيد.
(3/217)
بعده إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن
عبّاس بوصيته كما ذكرنا. ثم بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد، ثم
بعده إلى أخيه أبي العبّاس السفّاح وهو عبد الله بن الحارثية، هكذا
مساقها عند هؤلاء الكيسانية ويسمّون أيضا الحرماقيّة نسبة إلى أبي مسلم
لأنه كان يلقب بحرماق. ولبني العبّاس أيضا شيعة يسمّون الراوندية من
أهل خراسان يزعمون أنّ أحق الناس بالإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه
وسلم هو العبّاس، لأنه وارثه وعاصبه لقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله، وأنّ الناس منعوه من ذلك وظلموه إلى أن ردّه الله
إلى ولده، ويذهبون إلى البراءة من الشيخين وعثمان ويجيزون بيعة عليّ
لأنّ العباس قال له يا ابن أخي هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان ولقول
داود بن عليّ (عم الخليفة العبّاسي) على منبر الكوفة يوم بويع السفّاح:
يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا عليّ بن أبي طالب وهذا القائم فيكم يعني السفّاح.
دولة السفاح
قد تقدّم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم،
ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم بيعة السفّاح بالكوفة سنة
ثلاث وثلاثين ومائة، ثم قتل مروان بن محمد وانقراض الدولة الأموية. ثم
خرج بعض أشياعهم وقوّادهم وانتقضوا على أبي العبّاس السفّاح، وكان أوّل
من انتقض حبيب بن مرّة المرّيّ من قوّاد مروان، وكان بخولان والبلقاء
خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض ومعناه لبس البياض ونصب الرايات البيض
مخالفة لشعار العبّاسية في ذلك.
وتابعته قيس ومن يليهم والسفّاح يومئذ بالحيرة بلغه أنّ أبا الورد
مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابيّ انتقض بقنّسرين، وكان من
قوّاد مروان، ولما انهزم مروان وقدم عليه عبد الله بن عليّ بايعه ودخل
في دعوة العبّاسية وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس
والناعورة، فبعث بهم وبنسائهم القائد الّذي جاءهم من قبل عبد الله بن
عليّ. وشكوا ذلك إلى أبي الورد فقتل القائد، وخلع معه أهل قنّسرين،
وكاتبوا أهل حمص في الخلاف وقدّموا عليهم أبا محمد عبد الله بن يزيد بن
معاوية، وقالوا هو السفياني الّذي يذكر. ولما بلغ ذلك عبد الله بن عليّ
وادع حبيب
(3/218)
ابن مرّة وسار إلى أبي الورد بقنّسرين ومرّ
بدمشق، فخلع بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف
فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلى حمص فبلغه أنّ أهل دمشق خلعوا وبيّضوا
وقام فيهم بذلك عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزدي.
وأنّهم هزموا أبا غانم وعسكره وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانتهبوا ما خلف
عندهم فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي الورد، وقدّم أخاه عبد
الصمد في عشرة آلاف فكشف ورجع إلى أخيه عبد الله منهزما، فزحف عبد الله
في جماعة القوّاد ولقيهم بمرج الأحزم وهم في أربعين ألفا فانهزموا،
وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا. وهرب أبو محمد إلى
ترمذ وراجع أهل قنّسرين طاعة العبّاسيّة ورجع عبد الله بن علي إلى قتال
أهل دمشق ومن معهم. فهرب عثمان بن سراقة ودخل أهل دمشق في الدعوة
وبايعوا لعبد الله بن عليّ، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز
متغيبا إلى أيام المنصور فقتله زياد بن عبد الله الحارثي عامل الحجاز
يومئذ، وبعث برأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين فأطلقهما المنصور.
ثم خلع أهل الجزيرة وبيّضوا وكان السفّاح قد بعث إليهما ثلاثة آلاف من
جنده مع موسى بن كعب من قواده وأنزلهم بحرّان. وكان إسحاق بن مسلم
العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها
واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحرّان شهرين فبعث
السفّاح أخاه أبا جعفر إليهم وكان محاصرا لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال
إسحاق بن مسلم، ومرّ بقرقيسياء والرقّة وأهلهما قد خلعوا وبيّضوا. وسار
نحو حرّان فأجفل إسحاق بن مسلم عنها، ودخل الرها وبعث أخاه بكّار بن
مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ برمكة من
الحروريّة، فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة وانصرف
بكّار إلى أخيه إسحاق، فخلعه بالرها وسار إلى شمشاط بمعظم عسكره. وجاء
عبد الله بن عليّ فحاصره، ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول:
لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقّن موت صاحبها.
ثم تيقّن موت مروان فطلب الأمان واستأذنوا السفّاح، فأمرهم بتأمينه
وخرج إسحاق إلى أبي جعفر فكان من آثر أصحابه. واستقام أهل الجزيرة
والشام وولّى السفّاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان
فلم يزل عليها حتى استخلف.
(3/219)
حصار ابن هبيرة
بواسط ومقتله
ثم تقدّم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة امام الحسن بن قحطبة وتحصنه بواسط
وكان جويرة [1] وبعض أصحابه أشاروا عليه بعد الهزيمة باللحاق بالكوفة
فأبى. وأشار عليه يحيي بن حصين [2] باللحاق بمروان وخوّفه عاقبة الحصار
فأبى خشية على نفسه من مروان واعتصم بواسط. وبعث أبو مسلمة [3] الحسن
بن قحطبة في العسكر لحصاره وعلى ميمنته ابنه داود [4] فانهزم أهل الشام
واضطرّوا إلى دجلة وغرق منهم كثير. ثم تحاجزوا ودخل ابن هبيرة المدينة
وخرج لقتالهم ثانية بعد سبعة أيام فانهزم كذلك، ومكثوا أياما لا
يقتتلون إلا رميا. وبلغ ابن هبيرة أن أبا أمية الثعلبيّ [5] قد سوّد
فحبسه فغضبت لذلك ربيعة ومعن بن زائدة وحبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهنا
في أبي أمية، واعتزل معن وعبد الله بن عبد الرحمن بن بشير العجليّ فيمن
معهما فخلّى ابن هبيرة سبيل أبي أمية وصالحهم وعادوا إلى اتفاقهم. ثم
قدم على الحسن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم فأوقد
[6] غيلان بن عبد الله الخزاعي على السفّاح يخبره بقدوم أبي نصر، وكان
غيلان واجدا على الحسن، فرغب من السفّاح أن يبعث عليهم رجلا من أهل
بيته، فبعث أخاه أبا جعفر، وكتب إلى الحسن العسكر لك والقوّاد قوّادك
ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرا فأحسن طاعته ومؤازرته. وقدم أبو جعفر
فأنزله الحسن في خيمته وجعل على حرسه عثمان بن نهيك. ثم تقدّم مالك بن
الهيثم لقتال أهل الشام وابن هبيرة فخرجوا لقتاله وأكمنوا معن بن زائدة
وأبا يحيى الجرافي [7] ثم استطردوا لابن الهيثم وانهزموا للخنادق فخرج
عليهم معن وأبو يحيى فقاتلوهم إلى الليل وتحاجزوا
__________
[1] حوثرة: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[2] يحيي بن حضين: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[3] ابو سلمة: ابن الأثير ج 5 ص 438.
[4] «وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن
خازم بن خزيمة» ابن الأثير ج 5 438.
[5] ابا أمية التغلبي: المرجع السابق.
[6] اي الحسن بن قحطبة هو الّذي أوفد.
[7] ابا يحيي الجذامي: ابن الأثير ج 5 ص 440.
(3/220)
وأقاموا بعد ذلك أياما. ثم خرج أهل واسط مع
معن ومحمد بن نباتة، فهزمهم أصحاب الحسن إلى دجلة فتساقطوا فيها وجاء
مالك بن الهيثم فوجد ابنه قتيلا في المعركة، فحمل على أهل واسط حتى
أدخلهم المدينة. وكان مالك يملأ السفن حطبا ويضرمها نارا فتحرق ما تمرّ
به فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب، ومكثوا كذلك أحد عشر شهرا. وجاء
إسماعيل بن عبد الله القسريّ إلى ابن هبيرة بقتل مروان وفشلت اليمانية
عن القتال معهم، وتبعهم الفزاريّة فلم يقاتل معه إلا الصعاليك.
وبعث ابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى بأن يبايع له
فأبطأ عنه جوابه، وكاتب السفّاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم،
فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحرثيان، ووعدا ابن هبيرة
أن يصلحا له جهة السفّاح ولم يفعلا وتردّد الشعراء بين أبي جعفر وابن
هبيرة في الصلح، وأن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة وشاور
فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه وأنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه إلى
السفّاح وأمر بإمضائه، وكان لا يقطع أمرا دون أبي مسلم، فكتب إليه يحي
بن هبيرة قد خرج بعد الأمان إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة فلقيه
الحاجب سلّام بن سليم فأنزله وأجلسه على وسادة وأطاف بحجرة أبي جعفر
عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور وحادثة
وخرج عنه ومكث يأتيه يوما ويغبه يوما. ثم أغرى أبا جعفر أصحابه بأنه
يأتي في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فيهتز له العسكر فأمر أبو جعفر أن
يأتي في حاشيته فقط. فكان يأتي في ثلاثين ثم آخرا في ثلاثة ثم الحّ
السفّاح على أبي جعفر في قتله، وهو يراجعه للأمان الّذي كتب له حتى كتب
إليه السفّاح والله لتقتلنه أو لأبعثنّ من يخرجه من حجرتك فيقتله.
فبعث أبو جعفر إلى وجوه القيسيّة والمضرية وقد أعدّ لهم ابن نهيك في
مائة من الخراسانية في بعض حجره. وجاء القوم في اثنين وعشرين رجلا
يقدمهم محمد بن نباتة وجويرة [1] بن سهيل فدعاهم سلّام الحاجب رجلين
رجلين وعثمان بن نهيك يقيدهما إلى أن استكملهم وبعث أبو جعفر لحازم بن
خزيمة والهيثم بن شعبة في مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال
فدلّهم حاجبه على الخزائن فأقاموا عندها الرجال وأقبلوا نحوه فقام
حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل في جماعة
من مواليه ثم قتل ابن هبيرة آخرا وحملت رءوسهم
__________
[1] حوثرة بن سهيل: ابن الأثير ج 5 ص 441.
(3/221)
إلى أبي جعفر. ونادى بالأمان للناس إلّا
الحكم بن عبد الملك أبي بشر وخالد بن مسلمة المخزومي وعمر بن در [1]
فهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالدا فلم يجز السفّاح أمانه وقتله واستأمن
زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه.
مقتل أبي مسلمة بن الخلال وسليمان بن كثير
قد تقدّم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبي العباس السفّاح
واتهام الشيعة في أمره وتغير السفّاح عليه وهو بعكوة أعين [2] ظاهر
الكوفة. ثم تحوّل إلى مدينة الهاشمية ونزل قصرها وهو يتنكر لأبي مسلمة،
وكتب إلى أبي مسلم ببغيته وبرأيه فيه، فكتب إليه أبو مسلم بقتله. وقال
له داود بن عليّ لا تفعل فيحتج بها أبو مسلم عليك والذين معك أصحابه
وهم له أطوع، ولكن أكتب إليه يبعث من يقتله ففعل. وبعث أبو مسلم مرار
بن أنس الضّبيّ فقتله. فلما قدم نادى السفّاح بالرضا عن أبي مسلمة ودعا
به وخلع عليه ثم دخل عنده ليلة أخرى فسهر عامّة ليله، ثم انصرف إلى
منزله فاعترضه مرار بن أنس وأصحابه فقتلوه وقالوا قتله الخوارج. وصلى
عليه من الغد يحيى أخو السفّاح وكان يسمّى وزير آل محمد وأبو مسلم أمير
آل محمد. وبلغ الخبر إلى أبي مسلم، وسرّح سليمان بن كثيّر بالنكير لذلك
فقتله أبو مسلم، وبعث على فارس محمد بن الأشعث وأمره أن يقتل ابن أبي
مسلمة ففعل.
عمال السفاح
ولما استقام الأمر للسفّاح ولّى على الكوفة والسواد عمّه داود بن عليّ
ثم عزله وولّاه على الحجاز واليمن واليمامة وولّى مكانه على الكوفة
عيسى ابن أخيه موسى بن محمد. ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين فولّى
مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد وعلى
اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد [3]
__________
[1] عمر بن ذرّ: ابن الأثير ج 5 ص 442.
[2] العبارة هنا غير واضحة وفي الكامل ج 5 ص 436: «وتغيّر السفّاح عليه
وهو بعسكره، بحمّام أعين.»
[3] بياضان بالأصل، وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 147: لا وفيها مات داود بن
علي بالمدينة في شهر ربيع الأول، وكانت ولايته فيما ذكر محمد بن عمر
ثلاثة أشهر، واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى.
ولمّا بلغت ابا العباس وفاته وجه على المدينة ومكة والطائف واليمامة
خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثيّ، ووجه محمد
بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان على اليمن.»
(3/222)
وولّى السفّاح على البصرة سفيان بن معاوية
المهلّبيّ، ثم عزله وولى مكانه عمّه سليمان بن عليّ وأضاف إليه كور
دجلة والبحرين وعمان. وولّى عمّه إسماعيل بن عليّ الأهواز وعمّه عبد
الله بن عليّ على الشام، وأبا عون عبد الملك ابن يزيد على مصر، وأبا
مسلم على خراسان، وبرمك على ديوان الخراج. وولى عمّه عيسى بن عليّ على
فارس، فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم. فلما قدم عليه عيسى
همّ محمد بقتله، وقال أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره.
ثم أقصر عن قتله واستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرا ما عاش
ولا يتقلد سيفا إلا في جهاد فوفّى عيسى بذلك بقية عمره. واستعمل بعده
على فارس عمّه إسماعيل بن علي واستعمل على الموصل محمّد بن صول فطرده
أهلها وقالوا: بل علينا تولّى خثعم، وكانوا منحرفين عن بني العبّاس،
فاستعمل السفّاح عليهم أخاه يحيى وبعثه في اثني عشر ألفا، فنزل قصر
الإمارة وقتل منهم اثني عشر رجلا، فثاروا به وحمل السلاح فنودي فيهم
بالأمان لمن دخل المسجد الجامع فتسايل الناس إليه، وقد أقام الرجال على
أبوابه فقتلوا كل من دخل. يقال: قتل أحد عشر ألفا ممن لبس وما لا يحصى
من غيرهم. وسمع صياح النساء بالليل فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان،
واستباحهم ثلاثة أيام. وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في
النساء. وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف فاعترضته امرأة
وأخذت بعنان دابته وقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن عمّ الرسول؟
أما تعلم أنّ المؤمنات المسلمات ينكحهنّ الزنوج؟ فأمسك عنها وجمع الزنج
من الغد للعطاء، وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وبلغ السفّاح سوء أمره في
أهل الموصل فعزله، وولّى مكانه إسماعيل بن عليّ، وولّى يحيى مكان
إسماعيل بالأهواز وفارس. وملك الروم ملطية وقاليقلا. وفي سنة ثلاث
وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية والفتن يومئذ بالجزيرة،
وعاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان. فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على
الأمان وانتقلوا إلى بلاد الجزيرة، وحملوا ما قدروا عليه. وخرّب الروم
ملطية وسار عنها إلى مرج الحصى [1] ، وأرسل قسطنطين العساكر إلى
قاليقلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمنيّ فحصرها وداخل بعض
الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور فاقتحم البلد من ذلك النقب
واستباحها.
__________
[1] مرج الخصبي: ابن الأثير ج 5 ص 447.
(3/223)
الثوّار بالنواحى
[1] كان المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولّاه أبو عليّ اليمامة،
فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامة فبعث إليه زياد بن عبيد المدن
[2] بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حبّان [3] السلميّ فقتله وقتل
أصحابه وذلك سنة ثلاث وثلاثين (وفيها) خرج شريك بن شيخ اسحارا على أبي
مسلم ونقض أفعاله واجتمع إليه أكثر من ثلاثين ألفا فبعث إليه أبو مسلم
زياد بن صالح الخزاعيّ فقاتله وقتله. (وفيها) توجه أبو داود وخالد بن
إبراهيم إلى الختّل فتحصن ملكهم ابن السبيل [4] منهما ومنعه الدهاقين
فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار فخرج من حصنه مع الدهاقين ولحق بفرغانة
ثم سار منها إلى بلد الصين وأخذ أبو داود من ظفر به في الحصن فبعث بهم
إلى أبي مسلم (وفيها) الفتنة بين إخشيد فرغانة وملك الشاش، واستمدّ
الإخشيد ملك الصين فأمدّه بمائة ألف مقاتل وحصروا ملك الشاش حتى نزلوا
على حكم ملك الصين، فلم يعرض له ولا لقومه بسوء. وبعث أبو مسلم زياد بن
صالح لاعتراضهم فلقيهم على نهر الطراز فظفر بهم وقتل منهم نحوا من
خمسين ألفا وأسر نحوا من عشرين ألفا ولحق بهم بالصين، وذلك في ذي الحجة
سنة ثلاث وثلاثين. ثم انتقض بسّام بن إبراهيم ابن بسّام من فرسان أهل
خراسان وسار من عسكر السفّاح وجماعة على رأيه سرّا إلى المدائن، فبعث
السفّاح في أثرهم خازم بن خزيمة فقاتلهم وقتل أكثرهم واستباحهم، وبلغ
ماه. وانصرف، فمرّ بذات المطامير، وبها أخوال السفّاح من بني عبد
المدان في نحو سبعين من قرابتهم ومواليهم. وقيل له إنّ المغيرة من
أصحاب بسّام عندهم فسألهم عنه فقالوا مرّ بنا مجتازا فهدّدهم إن لا
يأخذه فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين، ونهب أموالهم وهدم دورهم،
وغضبت اليمانية لذلك ودخل بهم زياد بن عبيد الله الحرثي على السفّاح
وشكوا إليه ما فعل بهم فهمّ بقتله وبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن
عطيّة فدخلا على السفّاح وذكراه سابقة الشيعة وطاعتهم وأنهم آثروكم على
الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم، فإن كان لا بدّ من
__________
[1] المراد بالثوار الخارجون عن الطاعة المحاربون للخليفة «من خط الشيخ
العطار أهـ.»
[2] زياد بن عبد الله بن عبد المدان: ابن الأثير ج 5 ص 448.
[3] إبراهيم بن حسّان: المرجع السابق.
[4] ابن الشّبل. الكامل في التاريخ لابن الأثير.
(3/224)
قتله فابعثه لوجه من الوجوه، فإن قتل فهو
الّذي تريد وإن ظفر فلك، بعثه إلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من
عمان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فبعث معه سبعمائة رجل فحملهم
سليمان بن عليّ من البصرة في السفن وقد انضمّ إليه من أهله وعشيرته
ومواليه وعدّة من بني تميم من البصرة، فلما أرسوا بجزيرة ابن كاوان
قدّم خازم فضلة بن نعيم المنشلي [1] في خمسمائة إلى شيبان فانهزم هو
وأصحابه وكانوا صفريّة، وركبوا إلى عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضيّة،
فقتل شيبان ومن معه كما مرّ، وشيبان هذا غير شيبان بن سلمة الّذي قتل
بخراسان فربما يشتبهان. ثم ركب خازم البحر إلى ساحل عمان فنزل وقاتل
الجلندي أياما أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنّتهم
المشاقة ويدوّروها [2] بالنفط ويشعلوها بالنيران ويرموها في بيوت
القوم، وكانت من خشب فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم وأولادهم عن
القتل، فحمل عليهم خازم وأصحابه فاستلحموهم وقتل الجلندي وعشرة آلاف،
فبعث خازم برءوسهم إلى البصرة فبعثها سليمان إلى السفّاح فندم أهـ، ثم
غزا خالد بن إبراهيم أهل كشّ فقتل الاخريد [3] ملكها وهو مطيع
واستباحهم وأخذ من الأواني الصينية المنقوشة المذهّبة، ومن الديباج
والسروج ومتاع الصين وظرفه ما لم ير مثله، وحمله إلى أبي مسلم بسمرقند.
وقتل عدّة من دهاقين كشّ وملك طازان [4] أخا الأخريد على كش، ورجع أبو
مسلم إلى مرو بعد أن فتك في الصغد وبخارى وأمر ببناء سور سمرقند.
واستخلف زياد بن صالح على بخارى وسمرقند ورجع أبو داود إلى بلخ. ثم بلغ
السفّاح انتقاض منصور ابن جمهور بالسّند فبعث صاحب شرطته موسى بن كعب
واستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وسار موسى لقتال ابن جمهور
فلقيه بتخوم الهند وهو في نحو اثني عشر ألفا فانهزم ومات عطشا في
الرمال ورحل عامله على السّند بعياله وثقلته فدخل بهم بلاد الخزر. ثم
انتقض سنة خمس وثلاثين زياد بن صالح وراء النهر. فسار أبو مسلم إليه من
مرو وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى
__________
[1] فضلة بن نعيم النّهشليّ: ابن الأثير ج 5 452.
[2] ويرووها بالنفط: ابن الأثير ج 5 ص 452.
[3] وفي نسخة ثانية الإخشيد.
[4] طاران: ابن الأثير ج 5 ص 453.
(3/225)
ترمذ ليمنعها من زياد فلما وصل إليها خرج
عليه ناس من الطّالقان فقتلوه فبعث مكانه عيسى بن ماهان فسمع قتلة نصر
فقتلهم. وسار أبو مسلم فانتهى إلى آمد ومعه سباع ابن النعمان الأزديّ
وكان السفّاح قد دسّ معه إلى زياد بن صالح الأزدي أن ينتهز فرصة في أبي
مسلم فيقتله. ونمي الخبر إلى أبي مسلم فحبس سباعا بآمد، وسار عنها وأمر
عامله بقتله. ولقيه قوّاد زياد في طريقه وقد خلعوا زيادا فدخل أبو مسلم
بخارى ونجا زياد إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم. وكتب
أبو مسلم إلى أبي داود فقتله، وكان قد شغل بأهل الطّالقان فرجع إلى كشّ
وبعث عيسى بن ماهان إلى بسّام فلم يظفر منها بشيء، وبعث إلى بعض أصحاب
أبي مسلم يعيب أبا داود عيسى، فضربه وحبسه، ثم أخرجه فوثب عليه الجند
فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو.
حج أبي جعفر وأبي مسلم
وفي سنة ست وثلاثين استأذن أبو مسلم السفّاح في القدوم عليه للحج، وكان
منذ ولي خراسان لم يفارقها فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند،
فكتب إليه أبو مسلم إني قد عاديت الناس ولست أمن على نفسي فاذن له في
ألف، وقال: إنّ طريق مكة لا تحتمل العسكر فسار في ثمانية آلاف فرّقهم
ما بين نيسابور والريّ، وخلّف أمواله وخزائنه بالريّ وقدم في ألف وخرج
القواد بأمر السفّاح لتلقيه، فدخل على السفّاح وأكرمه وأعظمه واستأذن
في الحج فأذن له، قال: لولا أنّ أبا جعفر يريد الحج لاستعملتك على
الموسم، فأنزله بقرية وكان قد كتب إلى أبي جعفر أنّ أبا مسلم استأذنني
في الحج وأذنت له وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا
تطمع أن يتقدّمك، وأذن له فقدم الأنبار وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم
متباعدا من حيث بعث السفّاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ البيعة له ولابي
جعفر من بعده ويولي أبا مسلم على خراسان فاستخلى [1] أبو مسلم بأبي
جعفر. فلما قدم ألان أبو جعفر السفّاح بقتله وأذن له فيه ثم ندم وكفه
عن ذلك، وسار أبو جعفر إلى الحج ومعه أبو مسلم واستعمل على حرّان مقاتل
بن حكيم العكيّ.
__________
[1] فاستخفّ ابو مسلم بابي جعفر: ابن الأثير ج 5 ص 458.
(3/226)
موت السفاح وبيعة
المنصور
كان أبو العبّاس السفّاح قد تحوّل من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة
سنة أربع وثلاثين فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين
لثلاث عشرة ليلة خلت منه ولأربع سنين وثمانين أشهر من لدن بويع وصلى
عليه عمّه عيسى ودفن بالأنبار. وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة وكان قبل
موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى،
وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى،
ولما توفي السفّاح وكان أبو جعفر بمكّة فأخذ البيعة على الناس عيسى بن
موسى، وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكان متأخرا عنه فاقرأه
الكتاب فبكى واسترجع، وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال: أخاف شرّ عبد الله
بن عليّ. فقال أنا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان وهم أطوع لي منه فسرّي
عنه. وبايع له أبو مسلم والناس وأقبلا حتى قدما الكوفة. ويقال إنّ أبا
مسلم كان متقدما على أبي جعفر، فإنّ الخبر قد أتاه قبله فكتب أبو مسلم
إليه يعزّيه ويهنّيه بالخلافة، وبعد يومين كتب له ببيعته وقدم أبو جعفر
الكوفة سنة سبع وثلاثين وسار منها إلى الأنبار فسلّم إليه عيسى بيوت
الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر.
انتقاض عبد الله بن علي وهزيمته
كان عبد الله بن عليّ قدم على السفّاح قبل موته فبعثه إلى الصائفة في
جنود أهل الشام وخراسان فانتهى إلى دلوك ولم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن
موسى بوفاة السفّاح وأخذ البيعة لأبي جعفر وله من بعده كما عهد به
السفّاح، فجمع عبد الله الناس وقرأ عليهم الكتاب وأعلمهم أنّ السفّاح
حين أراد أن يبعث الجنود إلى حرّان تكاسل بنو أبيه عنها فقال لهم: من
انتدب منكم فهو وليّ عهدي فلم يندب غيري! وشهد له أبو غانم الطائي
وخفاف المروزيّ وغيرهما من القوّاد وبايعوه، وفيهم حميد بن حكيم بن
قحطبة وغيره من خراسان والشام والجزيرة. ثم سار عبد الله حتى نزل حرّان
وحاصر مقاتل بن حكيم العكّيّ أربعين يوما وخشي من أهل خراسان فقتل منهم
جماعة، وولى حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه إلى عاملها زفر بن عاصم
بقتله فقرأ الكتاب في طريقه وسار إلى العراق وجاء أبو جعفر من الحج
(3/227)
فبعث أبا مسلم لقتال عبد الله ولحقه حميد
بن قحطبة نازعا عن عبد الله فسار معه وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم
الخزاعي. ولما بلغ عبد الله خبر إقباله وهو على حرّان بذل الأمان
لمقاتل بن حكيم ومن معه وملك حرّان. ثم بعث مقاتلا بكتابة إلى عثمان بن
عبد الأعلى، فلما قرأ الكتاب قتله وحبس ابنيه حتى إذا هزم عبد الله
قتلهما.
وأمر المنصور محمد بن صول وهو على أذربيجان أن يأتي عبد الله بن علي
ليمكر به، فجاء وقال: إني سمعت السفّاح يقول الخليفة بعدي عمّي عبد
الله فشعر بمكيدته وقتله. وهو جدّ إبراهيم بن العبّاس الصولي الكاتب.
ثم أقبل عبد الله بن عليّ حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم
فيمن معه. وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية
بأن يوافي أبا مسلم، فقدم عليه بالموصل، وسار معه ونزل أبو مسلم ناحية
نصيبين وكتب إلى عبد الله: إني قد وليت الشام ولم أومر بقتالك فقال أهل
الشام لعبد الله: سر بنا إلى الشام لنمنع نساءنا وأبناءنا. فقال لهم
عبد الله ما يريد إلّا قتالنا وإنما قصد المكر بنا، فأبوا إلا الشام.
فارتحل بهم إلى الشام ونزل أبو مسلم في موضع معسكره وغوّر ما حوله من
المياه فوقف أصحاب عبد الله بكّار بن مسلم العقيليّ وعلى ميسرته حبيب
بن سويد الاسدي وعلى الخيل عبد الصمد بن عليّ أخو عبد الله وعلى ميمنة
أبي مسلم الحسن بن قحطبة وعلى ميسرته خازم بن خزيمة، فاقتتلوا شهرا. ثم
حمل أصحاب عبد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم وحمل عبد
الصمد فقتل منهم ثمانية عشر رجلا. ثم حمل عليهم ثانية فأزالوا صفهم. ثم
نادى منادي أبي مسلم في أهل خراسان فتراجعوا وكان يجلس إذا لقي الناس
على عريش ينظر منه إلى الحومة فإن رأى خللا أرسل بسدّه فلا تزال رسله
تختلف بينه وبين الناس حتى ينصرفوا. فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون
من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين اقتتلوا وأمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة
أن يضمّ إلى الميسرة وينزل في الميمنة حماة أصحابه، فانضمّ أهل الشام
من الميسرة إلى الميمنة كما أمرهم. وأمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم
[1] وركبهم أصحاب أبي مسلم
__________
[1] الحادثة هنا غير واضحة وعن ابن الأثير ج 5 ص 467: «فلما كان يوم
الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا
فاقتتلوا، فمكر بهم ابو مسلم، وأمر الحسن بن قحطبة ان يعرّي الميمنة
ويضمّ أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة جماعة أصحابه وأشدّائهم،
فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة
أبي مسلم، وأمر أبو مسلم أهل القلب ان يحملوا مع من بقي في ميمنته على
ميسرة أهل الشام فحطّموهم، وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم،
فانهزم أصحاب عبد الله ... »
(3/228)
فانهزم أصحاب عبد الله فقال لابن سراقة ما
ترى؟ قال: الصبر إلى أن تموت فالغرار فيكم بمثلك قبيح. قال: بل آتي
العراق فأنا معك فانهزموا وحوى أبو مسلم عسكرهم. وكتب بذلك إلى المنصور
ومضى عبد الله وعبد الصّمد. فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن
موسى، وأمّنه المنصور وقيل بل أقام بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مروان
العجليّ في خيول أرسلها المنصور، فبعث به موثقا مع أبي الخطيب، فأطلقه
المنصور. وأمّا عبد الله فقدم البصرة وأقام عند أخيه سليمان متواريا
حتى طلبه وأشخص إليه. ثم إنّ أبا مسلم أمّن الناس بعد الهزيمة وأمر
بالكفّ عنهم.
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني
كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه ويتقدّم بالإحسان
للوفود وإصلاح الطريق والمياه، وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون: هذا
المكذوب عليه ولما صدروا عن الموسم تقدّم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة
السفاح فبعث إلى أبى جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ولا رجع اليه ولا
أقام ينتظره فغضب أبو جعفر وكتب اليه وأغلظ في العتاب فكتب يهنّئه
بالخلافة ويقدم إلى [1] فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى وقدم
أبو جعفر، وقد خلع عبيد الله بن عليّ، فسرّح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما
مرّ، وجمع الغنائم من عسكره. فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها،
فغضب أبو مسلم وقال: أنا أعين على الدعاء فكيف أخون الأموال؟ وهمّ
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 468 وتحت عنوان قتل أبي
مسلم الخراساني: «وفي هذه السنة- 137- قتل ابو مسلم الخراساني، قتله
المنصور، وكان سبب ذلك ان ابا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج،
على ما تقدّم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية
وآذربيجان: إن ابا مسلم كتب الي يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد
ان يسألني ان اوليّة الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك،
فانّك إن كنت بمكة لم يطمع ان يتقدمك. فكتب المنصور الى أخيه السفاح
يستأذنه في الحجّ، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو
جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجّا معا، فكان أبو مسلم
يكسوا الأعراب ويصلح الآبار، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا
المكذوب عليه. فلما قدم مكّة ورأى أهل اليمن قال: اي جند هؤلاء لو
لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة!. فلما صدر الناس عن الموسم تقدّم
ابو مسلم في الطريق على أبي جعفر خبر وفاة السفّاح، فكتب إلى أبي جعفر
يعزّيه عن أخيه ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب
أبو جعفر وكتب إليه كتابا غليظا. فلمّا أتاه الكتاب كتب إليه يهنّئه
بالخلافة وتقدّم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى بن موسى إلى ان يبايع
له ... »
(3/229)
بقتل الخصيب ثم خلّى عنه. وخشي المنصور أن
يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر والشام فازداد نفارا، وخرج من
الجزيرة يريد خراسان وسار المنصور إلى المدائن، وكتب إليه يستقدمه،
فأجابه بالامتناع والمسك بالطاعة عن بعد، والتهديد بالخلع إن طلب منه
سوى ذلك. فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط وأنه لا يحسن طاعة.
وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه. وقيل بل كتب إليه أبو
مسلم يعرّض له بالخلع وأنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام
بدعوتهم، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان وأمر المنصور عمّه عيسى ومشيخة بني
هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرّضونه على التمسّك بالطاعة ويحذّرونه
عاقبة البغي ويأمرونه بالمراجعة. وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد
المروروذي، وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه، فإذا يئس
يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري ولو خضت البحر لخضته
وراءك ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت. فأوصل أبو حميد
الكتب وتلطّف له في القول ما شاء واحتجّ عليه بما كان منه في التحريض
على طاعتهم، فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى
هذا القول وقال والله لئن أتيته ليقتلنك. ثم بعث إلى نيزك صاحب الريّ
يستشيره فأبى له من ذلك، وأشار عليه بنزول الريّ وخراسان من ورائه
فيكون أمكن لسلطانه. فأجاب أبا حميد بالامتناع فلما يئس منه أبلغه
مقالة المنصور فوجم طويلا ورعب من ذلك القول وأكبره. وكان المنصور قد
كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغّبه في الانحراف عنه بولاية خراسان
فأجاب سرّا وكتب إلى أبي مسلم يحذّره الخلاف والمعصية فزاده ذلك رعبا
وقال لأبي حميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضيّ إلى خراسان ثم
رأيت أنّ أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين يأتيني برايته فإنّي أثق
به. ولما قدم أبو إسحاق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب وداخله
المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها، فرجع إليه
وأشار عليه بلقاء المنصور، فاعتزم على ذلك واستخلف مالك بن الهيثم على
عسكره بحلوان، وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخشي أبو أيوب وزير
المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه وأشار عليه بأن
يأتي أبا مسلم ويتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالا
عظيما. وأن يشكر أخاه في ذلك، فإنّ أمير المؤمنين عازم أن يولّيه ما
ورى به ويريح نفسه. واستأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن
(3/230)
له، فلقي أبا مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر
فطابت نفسه وذهب عنه الحزن. ولما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على
المنصور فقبّل يده وانصرف ليريح ليلته، ودعا المنصور من الغد حاجبه
عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح وابن حنيفة حرب بن
قيس، وأجلسهم خلف الرواق، وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفّق بيديه.
واستدعى أبا مسلم، فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمّه عبد الله بن
عليّ وكان متقلدا بأحدهما فقال: هذا أحدهما! فقال: أرني فانتضاه أبو
مسلم وناوله إياه فأخذ يقلبه بيده ويهزّه. ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل
يعاتبه فقال: كتبت إلى السفّاح تنهاه عن الموت كأنك تعلمه: قال: ظننت
أنه لا يحلّ، ثم اقتديت بكتاب السفّاح وعلمت أنكم معدن العلم. قال
فتوركك عني بطريق مكة! قال كرهت مزاحمتك على الماء قال فامتناعك من
الرجوع إليّ حين بلغك موت السفّاح أو الإقامة حتى ألحقك! قال: طلبت
الرّفق بالناس والمبادرة إلى الكوفة! قال: فجارية عبد الله بن عليّ
أردت أن تتخذها لنفسك! قال: لا إنما وكانت بها من يحفظها.
قال: فمراغمتك ومسيرك إلى خراسان قال: خشيت منك فقلت آتي خراساني وأكتب
بعذري فأذهب ما في نفسك مني! قال فالمال الّذي جمعته بحرّان! قال
أنفقته في الجند تقوية لكم. قال ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك وتخطب
آسية بنت عليّ وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عبّاس؟ لقد ارتقيت لا
أمّ لك مرتقى صعبا. ثم قال له: وما الّذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثيّر
مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟
قال: أراد الخلافة فقتلته. ثم قال أبو مسلم: كيف يقال هذا بعد بلائي
وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة لو كانت أمة مكانك لأغنت إنما ذلك
بدولتنا وربحنا. وأكبّ أبو مسلم يقبل يده ويعتذر فازداد المنصور غضبا.
ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله فشتمه المنصور
وصفّق بيديه فخرج الحرس وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه فقال:
استبقني لعدوّك فقال: لا أبقاني الله إذا وأي عدوّ أعدى منك وأخذه
الحرس بسيوفهم حتى قتلوه، بذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين.
وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس، وقال: الأمير قائل عند أمير
المؤمنين فانصرفوا وأمر لهم بالجوائز وأعطى إسحاق مائة ألف ودخل عيسى
بن موسى على المنصور فسأل عنه وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه وذكر
رأي الإمام إبراهيم فيه.
(3/231)
فقال المنصور: والله ما أعلم على وجه الأرض
عدوّا أعدى لكم منه هو ذا في البساط فاسترجع عيسى، فأنكر عليه المنصور
وقال: وهل كان لكم ملك معه؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي
مسلم فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله ثم نظر إليه قتيلا فقال له
يا أمير المؤمنين عدّ خلافتك من هذا اليوم. ثم دعا أبا إسحاق عن متابعة
أبي مسلم وقال تكلّم بما أردت وأخرجه قتيلا فسجد أبو إسحاق ثم رفع رأسه
يقول الحمد للَّه أميت هو والله ما جئته قطّ إلا تكفّنت وتحنّطت ورفع
ثيابه وأراه كفنه وحنوطه فرحمه. وقال له استقبل طاعتك واحمد الله الّذي
أراحك. وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان
أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله، وقد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب
بخاتمي تامّا فاعلم أني لم أكتبه، فلما رآه كذلك فطن وانحدر إلى همذان
يريد خراسان، فكتب له المنصور بولاية شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي
بهمذان يحبسه فمرّ أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلى طعامه وحبسه
وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب
بقتله فقال: جاءني كتاب عهده فخلّيت سبيله. وقدم أبو نصر على المنصور
فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان فقال: نعم استنصحني فنصحت له وان
استنصحني أمير المؤمنين نصحت وشكرت، واستعمله على الموصل. وخطب أبو
جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه وخرج منهم بخراسان
رجل اسمه سنباد ويسمّى فيروز أصبهبذ وتبعه أكثر الجيال يطلبون بدم أبي
مسلم وغلب على نيسابور والريّ وأخذ خزائن أبي مسلم التي خلفها بالريّ
حين شخص إلى السفّاح وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض إلى التجّار
وكان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرّح إليه المنصور جمهور بن
مرّار العجليّ والتقوا على طرق المفازة بين همذان والريّ، فقاتلهم
وهزمهم وقتل منهم نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم ولحق سنباد
بطبرستان فقتله بعض عمّال صاحبها وأخذ ما معه وكتب إلى المنصور بذلك
فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر فسرّح إليه الجنود فهرب إلى الديلم
ثم إنّ جمهور بن مرّار لما حوى ما في عسكر سنباد ولم يبعث به خاف من
المنصور فخلع واعتصم بالريّ فسرّح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش، فخرج
من الريّ إلى أصبهان فملكها وملك محمد الريّ. ثم اقتتلوا وانهزم جمهور
فلحق بأذربيجان، وقتله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور، وذلك سنة
ثمان وثلاثين
.
(3/232)
حبس عبد الله بن علي
كان عبد الله بن علي بعد هزيمته أمام أبي مسلم لحق بالبصرة، ونزل على
أخيه سليمان.
ثم إنّ المنصور عزل سليمان سنة تسع وثلاثين فاختفى عبد الله وأصحابه،
فكتب المنصور إلى سليمان وأخيه عيسى بأمان عبد الله وقوّاده ومواليه
وإشخاصهم إلى المنصور منهما فشخصوا. ولما قدما عليه فأذن لهما فأعلماه
بحضور عبد الله واستأذناه له فشغلهما بالحديث وأمر بحبسه في مكان قد
هيئ له في القصر، فلما خرج سليمان وعيسى لم يجدا عبد الله فعلما أنه قد
حبس وأن ذمّتهما قد أخفرت، فرجعا إلى المنصور فحبسا عنه وتوزع أصحاب
عبد الله بين الحبس والقتل، وبعث ببعضهم إلى أبي داود خالد ابن إبراهيم
بخراسان فقتلهم بها. ولم يزل عبد الله محبوسا حتى عهد المنصور إلى
المهدي سنة تسع وأربعين وأمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي ودفع إليه
عبد الله، وأمره بقتله، وخرج حاجا وسارّ عيسى كاتبه يونس بن فروة في
قتل عبد الله بن علي فقال:
لا تفعل فإنه يقتلك به، وإن طلبه منك فلا تردّه إليه سرّا فلما قفل
المنصور من الحج دسّ على أعمامه من يحرّضهم على الشفاعة في أخيهم عبد
الله فشفعهم، وقال لعيسى جئنا به فقال: قتلته كما أمرتني فأنكر المنصور
وقال خذوه بأخيكم فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس واشتهر الأمر فجاء
به وقال: هو ذا حي سويّ، فجعله المنصور في بيت أساسه ملح وأجرى عليه
الماء فسقط ومات.
وقعة الراوندية
كان هؤلاء القوم من أهل خراسان ومن أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ
والحلول، وأن روح آدم في عثمان بن نهيك وأنّ الله حلّ في المنصور
وجبريل في الهيثم بن معاوية. فحبس المنصور نحوا من مائتين منهم فغضب
الباقون واجتمعوا وحملوا بينهم نعشا كأنهم في جنازة وجاءوا إلى السجن
فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم وحملوا على الناس في ستمائة رجل وقصدوا
قصر المنصور وخرج المنصور من القصر ماشيا وجاء معن بن زائدة الشيبانيّ
وكان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة وقد اشتدّ طلب المنصور له
فحضر عنده هذا اليوم متلثّما وترجّل وأبلى. ثم جاء إلى المنصور ولجام
بغلته في يد الربيع حاجبه وقال: تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا
الوقت
(3/233)
وأعظم فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية. ثم
سأله فانتسب فأمّنه واصطنعه. وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب
المنصور وقال أنا اليوم بوّاب. ثم قاتلهم أهل السوق وفتح باب المدينة
ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن
آخرهم. وأصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام وجعل على
الحبس بعده أخاه عيسى ثم بعده أبا العبّاس الطوسي وذلك كله بالهاشمية.
ثم أحضر معنا ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمّه
عيسى، فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلى الحومة وجلا حتى
رأيت شدّتك فحملني ذلك على ما رأيت مني. وقيل إنه كان مختفيا عند أبي
الخصيب حاجب المنصور وأنه جاء يوم الراوندية فاستأذن أبو الخصيب وشاوره
المنصور في أمرهم فأشار ببث المال في الناس، وأبى المنصور إلا الركوب
إليهم بنفسه فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا. ثم تغيّب فاستدناه وأمّنه
وولّاه على اليمن.
انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها
كان السفّاح قد ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الدّهليّ بعد
انتقاض بسّام ابن إبراهيم ومهلكه. فلما كان سنة أربعين ثار به بعض
الجند وهو بكشماهن وجاءوا إلى منزله فأشرف عليهم ليلا من السطح فزلت
قدمه فسقط ومات ليومه. وكان عصام صاحب شرطته فقام بالأمر بعده. ثم ولّى
المنصور على خراسان عبد الجبّار بن عبد الرحمن فقدم عليها وحبس جماعة
من القوّاد اتهمهم بالدعاء للعلويّة، منهم مجاشع ابن حريث الأنصاري
عامل بخارى وأبو المعرة خالد بن كثيّر مولى بني تميم عامل قهستان
والحريش بن محمد الذهليّ ابن عم أبي داود في آخرين. ثم قتل هؤلاء وألحّ
على عمال أبي داود في استخراج المال وانتهت الشكوى إلى المنصور بذلك
فقال لأبي أيوب: إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع، فأشار عليه أبو أيوب أن
تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت واستمكن
منه. فكتب إليه بذلك فأجاب بأنّ الترك قد جاشت وإن فرّقت الجنود خشيت
على خراسان فقال له أبو أيوب: اكتب إليه بأنك ممدّه بالجيوش وابعث معها
من شئت يستمكن منه، فأجاب عبد الجبّار بأنّ خراسان مغلّبة في عامها ولا
تحتمل زيادة العسكر فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله فبعث ابنه المهدي
فسار ونزل الريّ وقدم خازم بن خزيمة
(3/234)
لحرب عبد الجبّار فقاتلوه، فانهزم وجاء إلى
مقطنة [1] وتوارى فيها. فعبر إليه المحشد [2] بن مزاحم من أهل
مروالرّوذ وجاء به إلى خازم فحمله على بعير وعليه جبّة صوف، ووجهه إلى
عجز البعير وحمله إلى المنصور في ولده وأصحابه فبسط إليهم العذاب حتى
استخرج الأموال ثم قطع يديه ورجليه وقتله وذلك سنة اثنتين وأربعين وبعث
بولده إلى دهلك [3] فعزلهم بها وأقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى
العراق سنة تسع وأربعين. [4] وفي سنة اثنتين وأربعين انتقض عيينة بن
موسى بن كعب بالسّند، وكان عاملا عليها من بعد أبيه، وكان أبوه يستخلف
المسيّب بن زهير على الشرط فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن
يولّيه على الشرط، فحذّره المنصور وحرّضه على الخلاف فخلع الطاعة وسار
المنصور إلى البصرة وسرّح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكيّ
لحرب عيينة وولاه على السند والهند فورد السند وغلب عليها. وفي هذه
السنة انتقض الأصبهبد بطبرستان وقتل من كان في أرضه من المسلمين فبعث
المنصور مولاه أبا الخطيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم في العساكر
فحاصروه في حصنه مدّة ثم تحيّلوا ففتح لهم الحصن من داخله وقتلوا
المقاتلة وسبى الذرية وكان مع الأصبهبد سم فشربه فمات.
أمر بني العباس
بنو هاشم [5] حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه وتشاوروا فيمن
يعقدون
__________
[1] مقطنة: ابن الأثير ج 5 ص 506.
[2] المجشّر: ابن الأثير ج 5 ص 506.
[3] دهلك: جزيرة باليمن.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 506: «وامر بتسيير ولده
إلى دهلك- وهي جزيرة باليمن- فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند
فسبوهم فيمن سبوا» .
[5] ربما يكون قد سقطت بعض الجمل أثناء النسخ وفي الكامل لابن الأثير ج
5 ص 513 وتحت عنوان «ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة وامر
محمد بن عبد الله بن الحسن» وفيها (144) استعمل المنصور على المدينة
رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها. وكان
سبب عزله وعزل زياد قبله ان المنصور أهمّه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع
من حضره من بني هاشم عام حجّ أيام السفاح سنة ست وثلاثين، وذكر ان محمد
بن عبد الله كان يزعم ان المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة
فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد.»
(3/235)
له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله
بن الحسن المثنّى بن عليّ. وكان يقال:
إنّ المنصور ممن بايعه تلك الليلة. ولما حج أيام أخيه السفّاح سنة ست
وثلاثين تغيب عنه محمد وأخوه إبراهيم، ولم يحضرا عنده مع بني هاشم.
وسأل عنهما فقال له زياد ابن عبيد الله الحرثى أنا آتيك بهما وكان بمكة
فردّه المنصور إلى المدينة. ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص
بني هاشم بالسؤال سرّا، فكلهم يقول:
إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه، ويحسن العذر عنه إلا
الحسن ابن زيد بن الحسن بن عليّ. فإنه قال له: والله ما آمن وثوبه
عليك، فإنه لا ينام عنك، فكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد هذا:
اللَّهمّ اطلب الحسن بن زيد بدمائنا. ثم إنّ المنصور حج سنة [1] وألحّ
على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد فاستشار عبد الله سليمان بن
علي في إحضاره فقال له: لو كان عافيا عفى عن عمّه! فاستمرّ عبد الله
على الكتمان وبث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي
الحجاز ومياهها ثم كتب كتابا على لسان الشيعة إلى محمد بالطاعة
والمسارعة وبعثه مع بعض عيونه إلى عبد الله وبعث معه بالمال والإلطاف
كأنه من عندهم. وكان للمنصور كاتب على سرّه يتشيع، فكتب إلى عبد الله
بن حسن بالخبر وكان محمد بجهينة، وألحّ عليه صاحب الكتاب أمر محمد
ليدفع إليه كتاب الشيعة فقال له: اذهب إلى عليّ بن الحسن المدعو
بالأغرّ يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب وأوصله إليه. ثم جاءهم حقيقة
خبره من كاتب المنصور وبعثوا أبا هبّار إلى محمد وعليّ بن حسن يحذرهما
الرجل، فجاء أبو هبّار إلى عليّ بن حسن وأخبره ثم سار إلى محمد فوجد
العين عنده جالسا مع أصحابه فخلا به وأخبره، فقال: وما الرأي؟ قال:
تقتله. قال: لا أقارف دم مسلم. قال: تقيّده وتحمله معك. قال: لا آمن
عليه لكثرة الخوف والإعجال. قال: فودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال:
هذه إذن. ورجع فلم يجد الرجل ولحق بالمدينة. ثم قدم على المنصور وأخبره
الخبر وسمّى اسم أبي هبّار وكنيته، وقال: معه وبر فطلب أبو جعفر وبرا
المرّيّ فسأله عن أمر محمد فأنكره وحلف فضربه وحبسه. ثم دعا عقبة بن
سالم الأزدي وبعثه منكرا بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 500: «وفيها حجّ المنصور
... » اما الطبري فقد ذكر حج المنصور في حوادث سنة أربع وأربعين ومائة.
«ج 9 ص 180» .
(3/236)
عبد الله بن حسن ليظهر على أمره، فجاءه
بالكتاب فانتهره وقال لا أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل يتردّد إليه حتى
قبله وأنس به وسأله عقبة الجواب فقال: لا أكتب لأحد ولكن أقرئهم مني
سلاما وأعلمهم أنّ ابنيّ خارجان لوقت كذا. فرجع عقبة إلى المنصور فأنشأ
الحج، فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلى جنبه ثم دعا
بالغداء فأصابوا منه. ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود
والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا فقال: وأنا على ذلك.
فلحظ المنصور عقبة بن سالم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر
المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل، وأمر بحبسه وكان محمد يتردّد في
النواحي وجاء إلى البصرة فنزل في بني راهب وقيل في بني مرّة بن عبيد،
وبلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة وقد خرج عنها محمد، فلقي
المنصور عمر بن عبيد فقال له: يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على
أمرنا؟
فقال: لا، فانصرف واشتدّ الخوف على محمد وإبراهيم وسار إلى عدن ثم إلى
السّند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة وكان المنصور حج سنة أربعين وحج
محمد وإبراهيم وعزما على اغتيال المنصور وأبي محمد من ذلك. ثم طلب
المنصور عبد الله بإحضار ولديه وعنّفه وهمّ به، فضمنه زياد عامل
المدينة. وانصرف المنصور وقدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد وأعطاه
الأمان له. ثم قال له: الحق بأيّ بلاد شئت وسمع المنصور فبعث أبا
الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عبد
العزيز بن المطّلب ويقبض زيادا وأصحابه. فسار بهم فحبسهم المنصور، وخلف
زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد
بن عبد الله القسريّ، وأمره بطلب محمد وإنفاق المال في ذلك فكثرت نفقته
واستبطأه المنصور واستشار في عزله، فأشار عليه يزيد بن أسيد السلميّ من
أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسّان المزنيّ فبعثه أميرا على
المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، وأطلق يده في محمد بن خالد
القسريّ. فقدم المدينة وتهدّد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه. وقال له
عبد الله يومئذ: إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك
ووجد فقال له حاجبه أبو البختري: إنّ هذا ما اطلع على الغيب فقال:
ويلك! والله ما قال إلا ما سمع، فكان كذلك. ثم حبس رباح محمد بن خالد
وضربه وجدّ في طلب محمد فأخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل
جهينة، فبعث عامله في طلبه فأفلت منه. ثم إنّ رباح بن مرّة
(3/237)
حبس بني حسن وقيّدهم وهم عبد الله بن حسن
بن الحسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى بن عبد الله، وبنو أخيه
داود وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه عليّ
العائد. ثم حضر من الغد عند رباح وقال:
جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن
عبد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة. وكان أخا عبد الله لأمّه
أمّهما فاطمة بنت الحسين. وكان عامل مصر قد عثر على علي بن محمد بن عبد
الله ابن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو له فأخذه وبعث به إلى المنصور فلم
يزل في حبسه وسمّى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير
فضربهما المنصور وحبسهما. وقيل عبد الله حبس أولا وحده وطال حبسه.
فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم. ثم حج المنصور سنة أربع
وأربعين، فلما قدم مكة بعث إليهم وهم في السجن محمد بن عمران بن
إبراهيم بن طلحة ومالك بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمدا وإبراهيم
ابني عبد الله، فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور: لا والله
حتى يأتيني به وبابنيه، وكان محسنا مقبولا لا يكلم أحدا إلّا أجابه إلى
رأيه. ثم إنّ المنصور قضى حجّه وخرج إلى الرَّبَذَة، وجاء رباح ليودعه
فأمر باشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود والأغلال
وأردفهم في محامل بغير وطء، وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي.
وجاء محمد إبراهيم مع أبيهما عبد الله يسايرانه مستترين بزيّ الأعراب
ويستأذنه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشا
كريمين تمنعا أن تموتا كريمين، وانتهوا إلى الزيدية. وأحضر العثماني
الديقا عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوطا بعد ملاحاة جرت بينهما
أغضبت المنصور. ويقال: إنّ رباحا أغرى المنصور به وقال له: إنّ أهل
الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد. ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى
المنصور بأنّ أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد الله واحذر منهم.
فأمر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان، وبعث من يحلف أنه
رأس محمد بن عبد الله وأنّ أمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ثم قدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة، يقال: انه قتل
محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على أسطوانة وهو حيّ فمات. ثم بعده عبد
الله بن حسن ثم علي بن حسن، ويقال: إنّ المنصور أمر بهم فقتلوا، ولم
ينج منهم إلا سلمان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم
بن حسن وجعفر بن حسن والله أعلم.
(3/238)
ظهور محمد المهدي
ومقتله
ولما سار المنصور إلى العراق وحمل معه بني حسن رجع رباح [1] إلى
المدينة وألحّ في طلب محمد وهو مختف يتنقل في اختفائه من مكان إلى مكان
وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر. فتدلى فغمس في مائها وحتى سقط ابنه
من جبل فتقطع ودلّ عليه رباح بالمداد، فركب في طلبه فاختفى عنه ولم
يره. ولما اشتدّ عليه الطلب أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك. وجاء
الخبر إلى رباح بأنه الليلة خارج فأحضر العبّاس بن عبد الله بن الحرث
بن العبّاس ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما،
وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمدا شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم.
والله لئن خرج ليقتلنّكم أجمعين. وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة
فجاءوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب. ثم أحضر نفرا من العلويّين فيهم
جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش
فيهم إسماعيل ابن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه
خالد، وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقيل قد خرج محمد فقال له: ابن
مسلم بن عقبة أطعني واضرب أعناق هؤلاء فأبى، وأقبل من المداد [2] في
مائة وخمسين رجلا وقصد السجن، فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ
وابن أخيه النّذير بن يزيد ومن كان معهم وجعل على الرجّالة خوّات بن
جبير [3] وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل فدخلوا من باب
المقصورة وقبضوا على رباح وأخيه عبّاس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم، ثم
خرج إلى المسجد وخطب الناس وذكر المنصور بما نقمه عليه ووعد الناس
واستنصر بهم واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى
قضائها عبد العزيز بن المطّلب بن عبد الله المخزومي، وعلى بيت السلاح
عبد العزيز الدراوَرْديّ، وعلى الشرط أبا الغلمش [4] عثمان بن عبيد
الله بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن
جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأرسل إلى محمد بن عبد العزيز
يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة وسار
__________
[1] رياح: ابن الأثير ج 5 ص 529.
[2] المذار: ابن الأثير ج 5 ص 530
[3] خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير: المرجع السابق.
[4] ابا القلمّس: ابن الأثير ج 5 ص 531.
(3/239)
الى مكة، ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس
إلّا نفر قليل منهم: الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حرام [1]
وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد
الله بن عبد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
واستفتى أهل المدينة مالكا [2] في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا
بيعة المنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين فتسارع الناس إلى محمد ولزم
مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى
بيعته، وكان شيخا كبيرا فقال: أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك؟
فرجع الناس عنه قليلا وأسرع بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى محمد
فجاءت جمادة [3] أختهم إلى عمها إسماعيل وقالت: يا عم إنّ مقالتك ثبّطت
الناس عن محمد وإخوتي معه، فأخشى أن يقتلوا فردّها، فيقال: إنها عدت
عليه فقتلته، ثم حبس محمد بن خالد القسري بعد أن أطلقه واتهمه بالكتاب
إلى المنصور فلم يزل في حبسه. ولما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس
بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر، وجاء إلى المنصور في تسع [4] فخبّره
الخبر فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم. وكلمته على منبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم. ثم تتابع الخبر وأشفق المنصور من أمره واستشار أهل بيته
ودولته. وبعث إلى عمّه عبد الله وهو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد
الكوفة فإنّهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم ويحفّها بالمسالح حتى
يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الريّ فيتحشّد معه كافة
أهل الشام ويبعثه وأن يبعث العطاء في الناس، فخرج المنصور إلى الكوفة
ومعه عبد الله بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان. ولما قدم الكوفة
أرسل إلى يزيد يحيي وكان السفّاح يشاوره فأشار عليه بأن يشحن الأهواز
بالجنود وأشار عليه جعفر بن حنظلة الهرّاني [5] بأن يبعث الجند إلى
البصرة. فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبيّن وجه إشارتهما. وقال
المنصور لجعفر: كيف خفت البصرة؟ قال: لأنّ أهل المدينة ليسوا أهل حرب
حبسهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء الطالبيّين، ولم
__________
[1] ابن حزام: ابن الأثير ج 5 ص 532.
[2] اي مالك بن أنس بن مالك.
[3] حمّادة: ابن الأثير ج 5 ص 532.
[4] اي في تسعة أيام.
[5] جعفر بن حنظلة البهراني: ابن الأثير ج 5 ص 535.
(3/240)
يبق إلا البصرة. ثم إنّ المنصور كتب إلى
محمد المهدي كتاب أمان فأجابه عنه بالردّ والتعريض بأمور في الأنساب
والأحوال، فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك وانتصف كل واحد منهما
لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في
كتاب الكامل فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها [1] . ثم إنّ محمدا
المهدي استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر
وعلى اليمن القاسم بن إسحاق وعلى الشام موسى بن عبد الله. فسار محمد بن
الحسن إلى مكة والقاسم معه ولقيهما السريّ بن عبد الله عامل مكة ببطن
أذاخر فانهزم. وملك محمد مكّة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى
فنفر هو والقاسم بن عبيد الله، وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد
بإبراهيم، فكان معه بالبصرة واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له الأمان
امرأة عيسى، وهي بنت عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر.
وأمّا موسى بن عبد الله فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى
المدينة ثم لحق بالبصرة مختفيا وعثر عليه محمد بن سليمان بن عليّ وعلى
ابنه عبد الله وبعث بهما إلى المنصور فضربهما وحبسهما. ثم بعث المنصور
عيسى ابن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنود ومعه محمد بن أبي
العبّاس بن السفّاح وكثيّر بن حصين العبديّ وحميد بن قحطبة وهوازمرّد
[2] وغيرهم، فقال له: إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان وإن تغيب فخذ
أهل المدينة فإنّهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به
ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله. ويقال
إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك فقال: قبضه مهديّكم.
ولما وصل عيسى إلى فئته كتب إلى نفر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم:
عبد العزيز بن المطّلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمعيّ
وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فخرج إليه عبد الله هو
وأخوه عمر وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل. واستشار المهدي
أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها، فأمر بذلك اقتداء برسول
الله صلى الله عليه وسلم وحفر الخندق الّذي حفره رسول الله صلى الله
عليه وسلم للأحزاب. ونزل عيسى الأعرض [3] ، وكان محمد قد منع الناس من
الخروج
__________
[1] وهما مرويان أيضا في الكامل لابن الأثير ج 5 ص 536- 542.
[2] هزارمرد: ابن الأثير ج 5 ص 544.
[3] الأعرض: ابن الأثير ج 5 ص 545.
(3/241)
فخيّرهم، فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال
وبقي في شرذمة يسيرة. ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردّهم فأعجزوه
ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة وبعث عسكرا إلى طريق مكة يعترضون
محمدا إن انهزم إلى مكة، وأرسل إلى المهدي بالأمان والدعاء الى الكتاب
والسنّة ويحذّره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم
نزل عيسى بالحرف لاثنتي عشرة من رمضان سنة خمس وأربعين، فقام يومين، ثم
وقف على مسلم [1] ونادى بالأمان لأهل المدينة وأن تخلوا بينه وبين
صاحبه، فشتموه فانصرف وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات
المدينة وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن
الزبير وشعارهم أحد أحد. وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه
أخو أسد فقتله. ثم آخر فقتلوا [2] وقال أنا ابن الفاروق. وأبلى محمد
المهدي يومئذ بلاء عظيما وقتل بيده سبعين رجلا. ثم أمر عيسى بن موسى
حميد بن قحطبة فتقدّم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه،
وأجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه، وصابرهم أصحاب محمد إلى العصر. ثم
أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب ونصبوا عليها الأبواب وجازت
الخيل واقتتلوا وانصرف محمد فاغتسل وتحنّط. ثم رجع فقال [3] : أترك أهل
المدينة والله لا أفعل أو أقتل وأنت مني في سعة فمشى قليلا معه، ثم رجع
وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلاثمائة أو نحوها. فقال له بعض أصحابه:
نحن اليوم في عدّة أهل بدر وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في
اللحاق بالبصرة أو غيرها، فيقول والله لا تبتلون بي مرّتين. ثم جمع بين
الظهر والعصر ومضى فأحرق الديوان الّذي فيه أسماء من بايعهم [4] . وجاء
إلى السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عبّاسا وابن مسلم بن عقبة وتوثق
محمد بن القسريّ بالأبواب فلم يصلوا إليه. ورجع ابن حصين إلى محمد
فقاتل معه وتقدّم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الخمس. فعرقبوا
دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرّتين أو
ثلاثة. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل وانحدروا منه إلى المدينة. ورفع
بعض نسوة إلى العبّاس خمارا لها اسود على منارة المسجد. فلما رآه أصحاب
محمد وهم
__________
[1] سلع: ابن الأثير ج 5 ص 546.
[2] الأصح فقتله.
[3] القول موجه إلى عبد الله بن جعفر.
[4] الأصح: أسماء من بايعه.
(3/242)
يقاتلون هربوا، وفتح بنو غفّار طريقا
لأصحاب عيسى فجاءوا من وراء أصحاب محمد ونادى حميد بن قحطبة للبراز
فأبى، ونادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه [1] ، وكثرت فيه الجراح ثم
قتل وقاتل محمد على شلوه فهدّ الناس عنه هدا حتى ضرب فسقط لركبته وطعنه
ابن قحطبة في صدره، ثم أخذ رأسه وأتى به عيسى فبعثه إلى المنصور مع
محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، وبالبشارة مع
القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن، وأرسل معه رءوس بني شجاع، وكان قتل
محمد منتصف رمضان. وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان وصلب محمد
وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت زينب أخته في دفنه
بالبقيع، وقطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة، حتى أذن فيها
المهديّ بعده، وكان مع المهدي سيف عليّ ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلا من
التجار في دين كان له عليه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه
وأعطاه من دينه ثم أخذه منه المهدي، وكان الرشيد يتقلده وكان فيه ثمان
عشرة فقرة، وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بن عبد الله بن
محمد بن عليّ بن الحسين وحسين وعلي ابنا زيد بن علي، وكان المنصور يقول
عجبا خرجا عليّ ونحن أخذنا بثأر أبيهما. وكان معه علي وزيد ابنا الحسن
بن زيد بن الحسن وأبوهما الحسن مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو
معاوية بن عبد الله بن جعفر، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر
والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن جعفر وأبوه عليّ
مع المنصور، ومن غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن عمر بن سعيد بن
العاص ومحمد ابن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأبو بكر بن
عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، أخذ أسيرا فضرب وحبس في سجن المدينة،
فلم يزل محبوسا إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع
الحارثي، وفرّ عنها إلى بطن نخل وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور.
فخرج ابن أبي سبرة مقيّدا وأتى المسجد وبعث إلى محمد بن عمران ومحمد بن
عبد العزيز وغيرهما، وبعثوا إلى السودان وردّوهم عما
__________
[1] المعنى هنا غير واضح تماما وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 548:
ونادى محمد حميد بن قحطبة:
ابرز الي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن
الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يديّ من هؤلاء
الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك.
وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشحّ به على الموت، وابن خضير
يحمل على الناس لا يصغي الى امانه ... » .
(3/243)
كانوا فيه، فرجعوا ولم يصلّ الناس يومئذ
جمعة. ووقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عبد العزيز لصلاة العشاء
ونادى أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين، وصلى ثم أصبح ابن أبي سبرة
وردّ من العبيد ما نهبوه، ورجع ابن الربيع من بطن نخل وقطع رؤساء [1]
العبيد وكان مع محمد بن عبد الله أيضا عبد الواحد بن أبي عون مولى
الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز
بن محمد الدراوَرْديّ وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء ابن يعقوب
مولى بني سباع وبنوه تسعة وعيسى وعثمان ابنا خضير وعثمان بن محمد بن
خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لما أخذ بالبصرة وعبد العزيز
بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وعليّ بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب
[2] وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عميرة بن الوليد بن
[3] بن عبد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.
شأن إبراهيم بن عبد الله وظهوره ومقتله
كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهديّ محمد قد اشتدّ الطلب عليه وعلى
أخيه منذ خمس سنين، وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان
والجبل والحجاز واليمن والشام، وحضر مرّة مائدة المنصور بالموصل، وجاء
أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظّار على قنطرة الفرات حين
شدّها وطلبه فغاض في الناس فلم يوجد ووضع عليه الرصد بكل مكان ودخل بيت
سفيان بن حيّان العميّ [4] وكان معروفا بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى
المنصور وقال: أنا آتيك بإبراهيم فأحملني وغلامي على البريد وابعث معي
الجند ففعل. وجاء بالجند إلى البيت وأركب معه إبراهيم في زيّ غلامه
وذهب بالجند إلى البصرة ولم يزل يفرّقهم على البيوت ويدخلها موهما أنه
يفتشه حتى بقي وحده فاختفى وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه،
وكان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصين واختفى منه عند
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «ورجع ابن الربيع من بطن نخل
فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
[2] علي بن عبد المطلب بن عبد الله بن جنطب: ابن الأثير ج 5 ص 553.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 5 ص 557: «هشام بن عمارة بن الوليد بن
عدي ابن الخيار.
[4] سفيان بن حيان القمّيّ: ابن الأثير ج 5 ص 561.
(3/244)
الحسن بن حبيب ولقي من ذلك غيّا. ثم قدم
إبراهيم البصرة سنة خمس وأربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن
زياد بن حيّان النبطيّ وأنزله بداره في بني ليث فدعا الناس إلى بيعة
أخيه وكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة العبسيّ وعبد الله بن سفيان
وعبد الواحد بن زياد وعمر بن سلمة الهجيميّ وعبد الله بن حي بن حصين
الرّقاشي وبثوا دعوته في الناس، واجتمع لهم كثير من الفقهاء وأهل العلم
وأحصى ديوانه أربعة آلاف. واشتهر أمره ثم حوّلوه إلى وسط البصرة ونزل
دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر ليقرب من الناس وولّاه
سفيان أمير البصرة على أمره، وكتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور وكان
المنصور بظاهر، وأرسل من القوّاد مددا لسفيان علي إبراهيم إن ظهر، ثم
إنّ إبراهيم خرج أوّل رمضان من سنة خمس وأربعين وصلى الصبح في الجامع
وجاء دار الإمارة بابن سفيان وحبسه وحبس القوّاد معه، وجاء جعفر ومحمد
ابنا سليمان بن عليّ في ستمائة رجل وأرسل إبراهيم إليها المعين بن
القاسم الحدروري [1] في خمسين رجلا فهزمهما إلى باب زينب بنت سليمان بن
علي وإليها ينسب الزينبيّون من بني العبّاس فنادى بالأمان وأخذ من بيت
المال ألفي ألف درهم، وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين. ثم أرسل المغيرة
على الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين وهو في أربعة آلاف.
وأرسل عمر بن شدّاد إلى فارس وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي،
فتحصّنا في دار بجرد وملك عمر نواحيها، فأرسل هارون بن شمس العجليّ في
سبعة عشر ألفا إلى واسط فغلب عليها هارون بن حميد الإيادي وملكها.
وأرسل المنصور لحربه عامر ابن إسماعيل في خمسة آلاف وقيل في عشرين
فاقتتلوا أياما ثم تهادنوا يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم. ثم جاء
نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد وأخبرهم فازدادوا
حنقا على المنصور. ونفر في حره وعسكر من الغد، واستخلف على البصرة غيلة
وابنه حسنا معه. وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام وإرسال
الجنود وأمدادهم واحدا بعد واحد، وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأنّ
الناس في انتظارك ولو رأوك ما توانوا عنك، فسار وكتب المنصور إلى عيسى
بن موسى بإسراع العود وإلى مسلم بن قتيبة بالريّ وإلى سالم بقصد
إبراهيم وضم إليه غيرها من القوّاد.
وكتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز وفارس والمدائن
وواسط
__________
[1] المضاء بن القاسم الجزري: ابن الأثير ج 5 ص 564.
(3/245)
والسواد وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف
يتربصون به. ثم رمى كل ناحية بحجرها وأقام خمسين يوما على مصلاه ويجلس
ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا ويلبس السواد إذا ظهر للناس،
وينزعه إذا دخل بيته. وأهديت له من المدينة امرأتان فاطمة بنت محمد بن
عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن
أسيد فلم يحفل بهما. وقال: ليست هذه أيام نساء حتى انظر رأس إبراهيم
إليّ أو رأسي له. وقدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة
عشر ألفا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وسار إبراهيم من
البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخا من
الكوفة، وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف عيسى
إلى المنصور فهو في حف من الجنون. ويكون أسهل عليك فعرض ذلك إبراهيم
على أصحابه فقالوا: نحن هارون وأبو جعفر في أيدينا! فأسمع ذلك رسول
سالم فرجع، ثم تصافوا للقتال وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس
ليكون أثبت والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فأبى إبراهيم إلّا الصف
صف أهل الإسلام، ووافقه بقية أصحابه. ثم اقتتلوا وانهزم حميد بن قحطبة
وانهزم معه الناس وعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فقال لهم حميد:
لا طاعة في الهزيمة ولم يبق مع عيسى إلّا فلّ قليل فثبت واستمات وبينما
هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن عليّ وجاء من وراء إبراهيم
وأصحابه فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى ورجع المنهزمون من أصحابه
بأجمعهم اعترضهم إمامهم، فلا يطيقون ومخافة ولا وثوبه، فانهزم أصحاب
إبراهيم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه وحميد يقاتله. ثم
أصابه سهم بنحره فأنزلوه واجتمعوا عليه. وقال حميد شدّوا على تلك
الجماعة فاحصروهم عن إبراهيم وقطعوا رأسه وجاءوا به إلى عيسى فسجد
وبعثه إلى المنصور، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس
وأربعين، ولما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى، وقال: والله إني كنت لهذا
كارها ولكني ابتليت بك وابتليت بي. ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا
ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة النهراني
فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك وغفر له ما
فرّط فيه من حقّك، فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكنّاه بابي خالد
واستدناه.
(3/246)
بناء مدينة بغداد
وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة
الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على
نفسه منهم. فتجافى عن جوارهم وسار إلى مكان بغداد اليوم، وجمع من كان
هنالك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحرّ والبرد والمطر
والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها وقالوا تجيئك الميرة
في السفن من الشام والرقّة ومصر والمغرب إلى المصرات. ومن الصين والهند
والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة.
ومن أرمينية وما اتصل بها في تامرّا حتى يتصل بالزاب. وأنت بين أنهار
كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور وإذا قطعتها لم يكن لعدوّك
مطمع وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البرّ
والبحر والجبل. فشرع المنصور في عمارتها وكتب إلى الشام والجبل [1]
والكوفة وواسط والبصرة في الصنّاع والفعلة واختار من ذوي الفضل
والعدالة والعفّة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك، منهم:
الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة الفقيه وأمر بخطها بالرماد فشكلت أبوابها
وفصلانها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن فأضرم نارا ثم
نظر إليها وهي تشتعل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم.
ووكّل بها أربعة من القوّاد يتولى كل واحد منهم ناحية، ووكّل أبا حنيفة
بعدّ الآجر واللبن. وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى فحلف أن لا
يقلع عنه حتى يعمل له عملا فكان هذا. وأمر المنصور أن يكون عرض أساس
القصر من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب
والخشب ووضع بيده أوّل لبنة وقال: «بسم الله والحمد للَّه والأرض للَّه
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال ابنوا على بركة
الله، فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهديّ، فقطع البناء
وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة
إلى بغداد واستمرّ في بنائها، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن
والإيوان فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام [2] وفتوح العرب وفيه
مصلى عليّ بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر
__________
[1] هي بلاد طبرستان فإنها تسمى بلاد الجبل وبلاد الديلم أهـ. (من خط
الشيخ العطار) .
[2] قوله لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب ... هو في الحقيقة من بناء
الاكاسرة وآثارهم بحسب الإنشاء، ومعنى كونه من آثار الإسلام انه دل على
ان الإسلام أباد هذه الدولة التي بنت هذا البناء وملكوا ملكهم وأذلّوهم
أهـ. (من خط الشيخ العطار) .
(3/247)
بنقض القصر الأبيض فإذا الّذي ينفق في نقضه
أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه.
فقال خالد: لا أرى إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم،
فأعرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل
المدينة مدوّرة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حدّ سواء. وجعل
المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلى من الخارج.
ووضع الحجّاج ابن ارطاة قبلة المسجد، وكان وزن اللبنة التي يبنى بها
مائة رطل وسبعة عشر رطلا وطولها ذراع في ذراع، وكانت بيوت جماعة من
الكتاب والقوّاد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، وكانت الأسواق داخل
المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون
فيها، وجعل الطرق أربعين ذراعا وكان مقدار النفقة عليها في المسجد
والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة
ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم. وكان الأستاذ من البناءين يعمل يومه
بقيراط، والروز كاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلّا
بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد
أن حبسه عليها.
العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى
كان السفّاح قد عهد إلى عيسى بن موسى بن علي وولّاه على الكوفة فلم يزل
عليها، فلما كبر المهدي أراه المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى،
وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهديّ عن يساره فكلّمه في
التأخر عن المهديّ في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التي
عليّ وعلى المسلمين وأبى من ذلك، فتغيّر له المنصور وباعده بعض الشيء.
وصار يأذن للمهدي قبله ولعمّه عيسى بن عليّ وعبد الصمد. ثم يدخل عيسى
فيجلس تحت المهدي واستمرّ المنصور على التنكّر له وعزله عن الكوفة
لثلاث عشرة سنة من ولايته، وولّى مكانه محمد بن سليمان بن علي، ثم راجع
عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى من بعده.
ويقال إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه
وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا
تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء.
(3/248)
خروج استادسيس [1]
كان رجل ادّعى النبوّة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلاثمائة ألف
مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان وسار إليه الأخثم [2] عامل
مروالرّوذ في العساكر فقاتل الأخثم وعامة أصحابه، وتتابع القوّاد في
لقائه فهزمهم وبعث المنصور وهو بالبرادق [3] خازم بن خزيمة إلى المهديّ
في اثني عشر ألفا فولاه المهديّ حربه فزحف إليه في عشرين ألفا وجعل على
ميمنته الهيثم بن شعبة بن ظهير، وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي [4]
وفي مقدمته بكّار بن مسلم العقيليّ، ودفع لواءه للزّبرقان. ثم راوغهم
في المزاحفة وجاء إلى موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب، وأتى أصحاب
أستادسيس بالفئوس والمواعيل ليطموا الخندق فبدءوا بالباب الّذي يلي
بكّار بن مسلم فقاتلهم بكّار وأصحابه حتى ردّوهم عن بابهم فأقبلوا على
باب خازم وتقدّم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة
أن يخرج من باب بكّار ويأتي العدوّ من خلفهم وكانوا متوقعين قدوم أبي
عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتدّ قتاله معهم.
وبدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبّر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم
ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمرّ فيهم القتل فقتل سبعون ألفا وأسر أربعة
عشر، وتحصّن أستادسيس على حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق
الباقون، وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهديّ إلى المنصور ويقال إنّ
أستادسيس أبو مراجل أمّ المأمون وابنه غالب خال المأمون الّذي قتل
الفضل بن سهل.
ولاية هشام بن عمر الثعلبي على السند
كان على السّند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة
ويلقب مرامي ألف رجل [5] ولما كان من أمر المهديّ ما قدّمناه بعث ابنه
عبد الله
__________
[1] استاذسيس: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[2] الاجشم: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[3] الراذان: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[4] نهار بن حصين السعدي: ابن الأثير ج 5 ص 591.
[5] هزارمرد (يعني ألف رجل) ابن الأثير ج 5 ص 595.
(3/249)
الأشتر إلى البصرة ليدعو له، فسار من هنالك
إلى عمر بن حفص وكان يتشيّع فأهدى له خيلا ليتمكن بها من لقائه. ثم
دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده مختفيا ودعا القوّاد وأهل البلد
فأجابوا فمزق الأعلام وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها، وهو في ذلك إذ
فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل على ابنه أشتر وعزّاه فقال له: الله في
دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السّند عظيم المملكة، كان يعظّم
جهة النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان معروفا بالوفاء، فأرسل إليه بعد
أن عاهده عليه، واستقر عند ذلك الملك. وتسلّل إليه جماعة من الزيدية
نحوا من أربعمائة، وبلغ ذلك المنصور فغاظه وكتب إلى عمر بن حفص بعزله
وأقام يفكر فيمن يوليه السّند، وعرض له يوما هشام بن عمر الثعلبي [1]
وهو راكب ثم اتبعه إلى بيته وعرض عليه أخته، فقال للربيع: لو كانت لي
حاجة في النكاح لقبلت، فجزاك الله خيرا، وقد ولّيتك السّند فتجهّز لها
وأمره أن يحارب ملك السّند ويسلّم إليه الأشتر ففعل، وأقام المنصور
يستحثّه. ثم خرجت خارجة بالسّند فبعث هشام أخاه سفيحا لحسم الداء عنها،
فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطئ همذان في عشرة من
الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعا. وكتب هشام
بذلك إلى المنصور فشكره وأمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به وغلب على
مملكته، وبعث بسراري عبد الله الأشتر ومعه ولد منه اسمه عبد الله بعث
بهم المنصور إلى المدينة وأسلمه إلى أهله ولما ولّى هشام بن عمر على
السّند وعزل عمر بن حفص عنها ثم حدثت فتق بإفريقية بعثه إلى سدّه كما
سيأتي في أخبارها.
بناء الرصافة للمهدي
ولما رجع المهدي من خراسان قدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة
فأجازهم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور. ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم
قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس بأن يفرّق بينهم ويستكفيه في
ذلك، وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله
والعبّاس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر؟ فقال: مضر
كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت
الله ومنها خليفة الله فغضب اليمن إذ لم يذكر لها
__________
[1] هشام بن عمر الثعلبي: ابن الأثير ج 5 ص 595.
(3/250)
فضلا. ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر
وقطعوا الّذي كبحها فتشاجر الحيّان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية
للدولة وأصبحوا أربع فرق، وقال قثم للمنصور: اضرب كل واحدة بالأخرى
وسيّر لابنك المهدي فلل أنير له [1] بجنده فيتناظرون أهل مدينتك فقبل
رأيه وأمر صالحا صاحب المصلى ببناء الرّصافة للمهدي.
مقتل معن بن زائدة
كان المنصور قد ولّى على سجستان معن بن زائدة الشيبانيّ وأرسل إلى
رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضا زائدة الثمن فغضب معن وسار
إلى الرّخّج على مقدمته يزيد [2] ابن أخيه يزيد ففتحها وسبى أهلها
وقتلهم ومضى رتبيل إلى عزمه وانصرف معن إلى بست فشتى بها ونكر قوم من
الخوارج سيرته فهجموا عليه وفتكوا به في بيته وقام يزيد بأمر سجستان
وقتل قاتليه واشتدّت على أهل البلاد وطأته فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور
على لسانه كتابا يتضجر من كتب المهدي إليه ويسأله أن يعفى من معاملته،
فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهدي كتابه وعزله وحبسه ثم شفع فيه شخص إلى
مدينة السلام فلم يزل مجفوا حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر
بعد.
العمال على النواحي أيام السفاح والمنصور
كان السفاح قد ولّى عند بيعته على الكوفة عمّه داود بن علي وجعل على
حجابته عبد الله بن بسّام وعلى شرطته موسى بن كعب وعلى ديوان الخراج
خالد بن برمك وبعث عمه عبد الله لقتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن
قحطبة تقدمة، وبعث يحيى ابن جعفر ابن تمام بن العبّاس إلى المدائن،
وكان أحمد بن قحطبة تقدمة وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمّار بن
ياسر إلى الأهواز مددا لبسام بن إبراهيم،
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل لابن الأثير ج 5 ص 604: وقال قثم
للمنصور: قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف ان يحدث
عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر. وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي ان
تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك
بلدا وهذا بلدا. فان فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء ... فقبل رأيه
واستقام ملكه وبنى الرّصافة وتولى صالح المصلّى ذلك.»
[2] مزيد ابن أخيه يزيد: ابن الأثير ج 5 ص 606.
(3/251)
ودفع ولاية خراسان إلى أبي مسلم، فولّى أبو
مسلم عليها إيادا وخالد بن إبراهيم وبعث عمّه عبد الله في مقدمته لحرب
مروان أخاه صالحا ومعه أبو عون بن يزيد، فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون
يزيد بمصر واستقل عبد الله بولاية الشام وولّى السفاح أخاه أبا جعفر
على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فولّى على أرمينية يزيد بن أسد وعلى
أذربيجان محمد بن صول ونزل الجزيرة. وكان أبو مسلم ولّى على فارس محمد
بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلّال، فبعث السفّاح عليها عيسى فمنعه
محمد بن الأشعث واستخلفه على الولاية فبعث عليها عمه إسماعيل. وولّى
على الكوفة ابن أخيه موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية المهلّبيّ وعلى
السّند منصور بن جمهور ونقل عمه داود إلى ولاية الحجاز واليمن
واليمامة. ثم ولّى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان وتوفي
داود بن عليّ سنة ثلاث وثلاثين، فولّى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن
عبد الله بن عبد المدان وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد
ابن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وهو عمّ محمد بن يزيد. وفيها بعث
محمد بن الأشعث إلى إفريقية ففتحها وفي سنة أربع وثلاثين بعث صاحب
الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور، وولّاه مكانه على السّند،
فاستخلف مكانه على الشرطة المسيّب بن زهير. وتوفي عامل اليمن محمد بن
يزيد، فولّى مكانه عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثي. ولما استخلف
المنصور وانتقض عبد الله بن علي وأبو مسلم ولّى على خراسان أبا داود
خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن عليّ. ثم
هلك خالد ابن إبراهيم سنة أربعين فولّى مكانه عبد الجبّار ابن عبد
الرّحمن فانتقض لسنة من ولايته، فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان
وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبّار. وتوفي سليمان عامل البصرة
سنة أربعين فولّى مكانه سفيان بن معاوية، ومات موسى بن كعب بالسّند
وولّى مكانه ابنه عيينة فانتقض، فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي
صفرة وولّى مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة. وولّى على الجزيرة والثغور
والعواصم أخاه العبّاس ابن محمد وكان بها يزيد بن أسيد وعزل عمه
إسماعيل عن الموصل، وولّى مكانه مالك ابن الهيثم الخزاعيّ. وفي سنة ست
وأربعين عزل الهيثم بن معاوية وولّى على مكة والطائف مكانه السريّ بن
عبد الله بن الحرث بن العبّاس نقله إليها من اليمامة، وولّى مكانه من
اليمن قثم بن العبّاس بن عبد الله بن العبّاس، وعزل حميد بن
(3/252)
قحطبة عن مصر وولّى مكانه نوفل بن الفرات،
ثم عزله وولّى مكانه يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة.
وولى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ ثم اتهمه في أمر
ابن أبي الحسن فعزله، وولّى مكانه رباح بن عثمان المزنيّ ولما قتله
أصحاب محمد المهدي ولّى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثيّ. ولما قتل
إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولّى المنصور على البصرة سالم بن
قتيبة الباهليّ، وولّى على الموصل ابنه جعفرا مكان مالك بن الهيثم وبعث
معه حرب بن عبد الله من أكابر قوّاده. ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة
سنة ست وأربعين، وولّى مكانه محمد بن سليمان، وعزل عبد الله بن الربيع
عن المدينة، وولّى مكانه جعفر بن سليمان، وعزل السريّ بن عبد الله عن
مكة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن عليّ.
وولى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لما
سخطه بسبب العهد. وولّى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن
السفّاح فاستعفاه ورجع إلى بغداد فمات، واستخلف بها عقبة بن سالم
فأقرّه. وولّى على المدينة جعفر بن سليمان، وولّى سنة ثمان وأربعين على
الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها، وعزل سنة تسع وأربعين
عمه عبد الصمد عن مكة، وولّى مكانه محمد بن إبراهيم. وفي سنة خمسين عزل
جعفر بن سليمان عن المدينة، وولّى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن. وفي
سنة إحدى وخمسين عزل عمر بن حفص عن السّند وولّى مكانه هشام بن عمر
والثعلبيّ، وولّى عمر بن حفص على إفريقية.
ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مددا له، وولّى مكانه بمصر محمد بن سعيد.
وفي هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدّم فقام بأمره يزيد ابن
أخيه يزيد، فأقرّه المنصور ثم عزله وفي هذه السنة سار عقبة بن سالم من
البصرة واستخلف نافع ابن عقبة فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدويّ
واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله وولّى جابر بن مومة الكلابيّ، ثم
عزله وولّى مكانه عبد الملك بن طيبان النهيري. ثم عزله وولّى الهيثم بن
معاوية العكّيّ. وفيها ولّى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام،
ثم عزله وولّى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد، وولّى على الموصل
إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسريّ. ومات أسيد بن عبد الله أمير
خراسان فولّى مكانه حميد بن قحطبة وفي سنة ثلاث وخمسين توفي عبيد الله
بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعيّ وكان
على اليمن
(3/253)
يزيد بن منصور وفي سنة خمس وأربعين بل أربع
وخمسين عزل عن الجزيرة أخاه العبّاس وأغرمه مالا، وولّى مكانه موسى بن
كعب الخثعميّ، وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه، ولم يزل ساخطا
على العبّاس حتى غضب على عمه إسماعيل، فشفع فيه إخوته عمومة المنصور
فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم وأنت ساخط على
أخيك العبّاس منذ كذا! ولم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه. وفي سنة خمس
وخمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة وولّى مكانه عمر بن زهير الضبّي
أخا المسيّب صاحب الشرطة، وكان من أسباب عزله، أنه حبس عبد الكريم بن
أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة، وكتب إليه أن يتبين أمره
فقتله قبل وصول الكتاب، فغضب عليه المنصور وقال: لقد هممت أن أقيده به.
وعزل عمه عيسى في أمره لأنه الّذي كان أشار بولايته. وفيها عزل الحسن
بن زيد عن المدينة وولّى مكانه عمه عبد الصمد بن علي، وكان على الأهواز
وفارس عمارة بن حمزة. وفي سنة سبع وخمسين ولّى على البحرين سعيد بن
دعلج صاحب الشرطة بالبصرة، فأنفذ إليها ابنه تميما ومات سوار بن عبد
الله قاضي البصرة فولّى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العيريّ.
وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولّى مكانه مولاه مطرا وعزل هشام بن عمر
عن السّند وولّى مكانه معبد بن الخليل. وفي سنة ثمان وخمسين عزل موسى
بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهديّ أن يسير إلى الرقّة
موريا بزيارة القدس ويكفل طريقة على الموصل فقبض عليه، وكان المنصور قد
ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجّله في إحضارها ثلاثا وإلا
قتله، فبعث ابنه يحيى إلى عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالح صاحب
المصلّى وغيرهم من القوّاد ليستقرض منهم، قال يحيى:
فكلهم بعث إلا أنّ منهم من منعني الدخول ومنهم من يجيبني بالردّ إلا
عمارة بن حمزة فإنه أذن لي ووجهه إلى الحائط، ولم يقبل عليّ، وسلّمت
فردّ خفيفا، وسأل كيف خالد فعرّفته واستقرضته فقال: إن أمكنني شيء
يأتيك فانصرفت عنه. ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلاثمائة
ألف. وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها،
وسخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيّب بن زهير بخالد بن برمك فقال: كيف
يصلح بعد ما فعلنا؟ فقال: أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه، وعقد له على
الموصل، ولابنه يحيى على أذربيجان. وسارا مع المهدي
(3/254)
فعزل موسى بن كعب وولاهما. قال يحيى:
وبعثني خالد إلى عمارة بقرضه وكان مائة ألف، فقال لي: أكنت لأبيك
صديقا؟ قم عني لا قمت. ولم يزل خالد على الموصل إلى وفاة المنصور. وفي
هذه السنة عزل المنصور المسيّب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيدا لأنه ضرب
أبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله، وكان مع أخيه عمر بن زهير
بالكوفة، وولّى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عبد الله. ثم على
الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبّار، وعلى قضائها عبد
الله بن محمد بن صفوان. ثم شفع المهدي في المسيّب وأعاده إلى شرطته.
الصوائف
كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن، فلما كانت
سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية ونواحيها فنازل حصن
بلخ [1] ، واستنجدوا أهل ملطية فأمدّوهم بثمانمائة مقاتل، فهزمهم الروم
وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحة وعاملها موسى بن كعب بخراسان [2]
فسلّموا البلد على الأمان لقسطنطين. ودخلوا إلى الجزيرة وخرّب الروم
ملطية، ثم ساروا إلى قاليقلا ففتحوها.
وفي هذه السنة سار أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الجتن [3] فدخلها فلم
تمتنع عليه، وتحصّن منه السبيل [4] ملكهم، وحاصره مدّة، ثم فرض الحصن
ولحق بفرغانة.
ثم دخلوا بلاد الترك وانتهوا إلى بلد الصين، وفيها بعث صالح بن علي بن
فلسطين سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب. وفي سنة خمس
وثلاثين غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل إفريقية جزيرة صقلّيّة فغنم وسبى
وظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم سفل [5] ولاة إفريقية بفتن البربر
فأمّن أهل صقلّيّة وعمّر الحصون والمعاقل وجعلوا الأساطيل تطوف بصقلية
للحراسة، وربما صادفوا تجّار المسلمين في البحر فأخذوهم وفي سنة ثمان
وثلاثين خرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها وعفا عن
أهلها. فغزا العبّاس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى،
__________
[1] كمخ: ابن الأثير ج 5 ص 447.
[2] بحرّان: ابن الأثير ج 5 ص 447
[3] الختّل: ابن الأثير ج 5 ص 448
[4] حبيش بن الشبل: ابن الأثير ج 5 ص 449
[5] حسب مقتضى السياق: وشغل
(3/255)
وبني ما خرّبه الروم من سور ملطية من سورة
الروم، وردّ إليها أهلها وأنزل بها الجند ودخل دار الحرب من درب الحرث
وتوغّل في أرضهم. ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية. وفي سنة
تسع وثلاثين كان الفداء بين المسلمين والروم في أسرى قاليقلا وغيرهم.
ثم غزا بالصائفة سنة أربعين عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام ومعه الحسن
بن قحطبة، وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان وسمع
كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع، ولم تكن بعدها صائفة إلى سنة ست
وأربعين، لاشتغال المنصور بفتنة بني حسن. وفي سنة ست وأربعين خرج الترك
والحدر بن باب الأبواب وانتهوا إلى أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة
ورجعوا. وفي سنة سبع وأربعين أغار أستر خان الخوارزمي في جمع من الترك
على أرمينية فغنم وسبى ودخل تفليس فعاث فيها. وكان حرب بن عبد الله
مقيما بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة، فأمره
المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى، فانهزموا وقتل حرب في
كثير من المسلمين. وفيها غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعميّ من
أهل فلسطين، ويقال له ملك الصوائف فغنم غنائم كثيرة وقسّمها بدرب الحرث
[1] وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة العبّاس بن محمد ومعه الحسن بن
قحطبة ومحمد بن الأشعث، فدخلوا أرض الروم وعاثوا ورجعوا. ومات محمد بن
الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر. ثم غزا
بالصائفة سنة أربع وخمسين زفر بن عاصم الهلالي. وفي سنة خمس بعدها طلب
ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية، وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد
السلميّ وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب
الحرثى ولقي العدوّ فاقتتلوا ثم تحاجزوا.
وفاة المنصور وبيعة المهدي
وفي سنة ثمان وخمسين توفي المنصور منصرفا من الحج ببئر ميمون لست خلت
من ذي الحجة وكان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال: لم أدع شيئا إلا
تقدّمت إليك فيه
__________
[1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة ولكن في حوادث ستة وأربعين ومائة وليس
سبعة وأربعين ج 5 ص 576 «وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعميّ، الّذي
يقال له مالك الصوائف (وهو من أهل فلسطين) بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة
ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلا بموضع يدعى الرهوة
نزل بها ثلاثا وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة. فسحبت تلك الرهوة، رهوة
مالك.»
(3/256)
وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل واحدة منها،
وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدي: انظر
إلى هذا السفط فاحتفظ به فإنّ فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى
يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما
تريد وإلّا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة. فإن ثقل عليك فالكراسة
الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل. فانظر هذه المدينة
وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك
الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذريّة ومصلحة البيوت.
فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا وما أظنك تفعل.
وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدّمهم وتوطئ الناس
أعقابهم وتوليهم المنابر فإنّ عزّك عزّهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل.
وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنّهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم
ودماءهم في دولتك وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز
عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما
أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقيّة فإنك لا تتمّ بناءها وأظنك
ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل
النساء في أمرك وأظنك ستفعل. وقيل قال له: إني ولدت في ذي الحجة وولّيت
في ذي الحجة وقد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة، وإنما
حدّ لي الحج على ذلك. فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي
يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجا ومخرجا ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من
حيث لا تحتسب.
يا بني احفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمّته يحفظك الله ويحفظ عليك
أمورك، وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم
مقيم، والزم الحدود فإنّ فيها صلاحك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا
تعتد فيها فتبور، فإنّ الله تعالى لو علم أنّ شيئا أصلح منها لدينه
وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه. واعلم أنّ من شدّة غضب الله لسلطانه
أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما
ادّخر له من العذاب الأليم فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَساداً 5: 33 الآية.
فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه
وحصّنه وذبّ عنه، وأوقع بالملحدين اقمع المارقين منه، وقابل الخارجين
عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل
(3/257)
ولا تشطط فإنّ ذلك أقطع للشعث وأحسم للعدوّ
وأنجع في الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك
وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعيّة
واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق
عليهم وارفع المكاره عنهم وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإنّ
النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند
ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في
أحكام الأمور والنازلات في أوقاتها أوّلا أوّلا، واجتهد وشمّر فيها
وأعدّ رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما
يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظنّ
وأسئ الظنّ بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقّد من يبيت على بابك
وسهّل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة
ونفسا غير ساهية. ولا تنم فإنّ أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل
عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم
ودّعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارنا، وساق الهدي وأشعره وقلّده
لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الّذي مات به. ثم
اشتدّ فجعل يقول للربيع وكان عديله بادر بي إلى حرم ربّي هاربا من
ذنوبي فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه
والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن
عليّ العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد، ثم الأكابر وذوي
الأنساب، ثم عامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدي ثم بايع القوّاد وعامّة
الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة فبايعا الناس
للمهدي بين الركن والمقام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل
إبراهيم ابن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من
خلافته. وذكر علي بن محمد النوفليّ عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان
يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر،
فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية
فعلمت أنه قد مات. ثم أقبل الحسن بن زيد العلويّ والناس حتى ملئوا
السرادق وسمعنا همس البكاء. ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية
وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه. ثم خرج الربيع
وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد
الله
(3/258)
المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني
هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامة المسلمين. ثم بكى وبكى الناس ثم قال:
البكاء أمامكم فأنصتوا رحمكم الله: ثم قرأ: أمّا بعد فإنّي كتبت كتابي
هذا وأنا حيّ في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله
أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعا ولا يذيق بعضكم بأس بعض. ثم أخذ في
وصيتهم للمهدي وحثّهم على الوفاء بعهده. ثم تناول الحسن بن زيد وقال:
قم فبايع، فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأوّل فالأوّل.
ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام، فحملوه على
ثلاثة أميال من مكّة فدفنوه. وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من
الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان: والله لتبايعنّ وإلّا ضربنا
عنقك. ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم
الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة. ولما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي
الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه، وكان أوّل ما فعله المهدي حين
بويع أنه أطلق من كان في حبس المنصور إلّا من كان في دم أو مال أو ممن
يسعى بالفساد، وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوسا مع الحسن بن
إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن. فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث
إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه وبلغ ذلك يعقوب بن داود فجاء
إلى ابن علاثة القاضي وأوصله إلى أبي عبيد الله الوزير ليوصله إلى
المهدي فأوصله واستخلاه فلم يحدّثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره
بتحقيق الحال، فأمره بتحويل الحسن، ثم هرب بعد ذلك ولم يظفر به. وشاور
يعقوب بن داود في أمره فقال أعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره. ثم طلب من
المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له
وكان يدخل كلما أراد ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون
وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين، والقضاء عن
الغارمين والصدقة على المتعفّفين فحظي بذلك وتقدّمت منزلته وسقطت منزلة
أبي عبد الله، ووصله المهدي بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في
الله.
ظهور المقنّع ومهلكه
كان هذا المقنّع من أهل مرو ويسمى حكيما وهاشميّا، وكان يقول بالتناسخ
وأنّ الله خلق آدم فتحوّل في صورته ثم في صورة نوح ثم إلى أبي مسلم ثم
إلى هاشم وهو
(3/259)
المقنع. فظهر بخراسان وادّعى الإلهيّة
واتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه فسمّي المقنّع، وأنكر قتل يحيى بن
زيد وزعم أنه يأخذ بثأره، وتبعه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له.
وتحصّن بقلعة بسّام [1] من رساتيق كشّ وكان قد ظهر بخارى والصغد جماعة
من المبيّضة فاجتمعوا معه على الخلاف، وأعانهم كفّار الأتراك وأغاروا
على المسلمين من ناحيتهم، وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن
سيّار، فقتلوا أخاه محمد بن نصر وحسّان ابن أخيه تميم. وأنفذ المهدي
إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيّضة فقاتلوهم أربعة أشهر في
بعض حصون بخارى وملكوه عنوة، فقتل منهم سبعمائة ولحق فلّهم بالمقنّع
وجبريل في اتباعهم. ثم بعث المهديّ أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ
في قتاله فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد
الحريشيّ، وأتاه عقبة بن مسلم من ذمّ فاجتمعوا بالطواويس وأوقعوا
بأصحاب المقنّع فهزموهم، ولحق فلّهم بالمقنع في بسّام فتحصنوا بها.
وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشيّ، فكتب الحريشيّ إلى
المهدي بالسعاية في معاذ ويضمن الكفاية إن أفرد بالحرب، فأجابه المهديّ
إلى ذلك وانفرد بحرب المقنّع وأمدّه معاذ بابنه وجاءوا بآلات الحرب حتى
طلب أصحاب المقنّع الأمان سرّا فأمّنهم، وخرج إليه ثلاثون ألفا وبقي
معه زهاء ألفين، وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله فيقال
سقاهم السمّ، ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار ودخلوا القلعة وبعث
الحريشيّ برأس المقنّع إلى المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث وتسعين.
الولاة أيام المهدي
وعزل المهدي سنة تسع وخمسين عمه إسماعيل عن الكوفة وولّى عليها إسحاق
بن الصفّاح الكندي ثم الأشعي، وقتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب
الجمحيّ وعزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن
الصلاة، وولّى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيري. ثم جعل
الأحداث إلى عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عبد الله الباهليّ. وعزل
قثم بن العبّاس عن اليمامة وولّى مكانه الفضل بن صالح، وعزل مطرا مولى
المنصور عن مصر
__________
[1] قلعة بسنام: ابن الأثير ج 6 ص 39.
(3/260)
وولّى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان. وعزل
عبد الصمد بن علي عن المدينة وولّى مكانه محمد بن عبد الله الكثيريّ ثم
عزله وولّى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان، ثم عزله وولّى
مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وتوفي معبد بن الخليل عامل السّند فولّى
مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عبد الله. وتوفي حميد بن قحطبة
بخراسان فولّى عليها مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم سخطه سنة
ستين فعزله، وولّى معاذ بن مسلم. وولّى على سجستان حمزة بن يحيى وعلى
سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها وحصّنها وكان على اليمن رجاء بن روح
وولّى على قضاء الكوفة شريك [1] وولّى على فارس والأهواز ودجلة قاضي
البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله وولّى مكانه محمد بن سليمان، وولى
على السّند بسطام بن عمر وولّى على اليمامة بشر بن المنذر وفي سنة إحدى
وتسعين [2] ولّى على السّند محمد بن الأشعث واستقضى عافية القاضي مع
ابن علاثة بالرصافة وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، وولّى مكانه عبد
الصمد بن علي، وولّى عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد
الكوفة وحسّان السروري على الموصل وبسطام بن عمر والثعلبي على
أذربيجان، وعزله عن السّند. وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة
فولّى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتبا للرشيد، فصرفه
وجعل مع الهادي، وجعل هو مع هارون يحيى ابن خالد وعزل محمد بن سليمان
أبا ضمرة عن مصر وولّى مكانه سليمان بن رجاء، وكان على سواد الكوفة
يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور. وفي سنة ست وستين عزل علي
بن سليمان عن اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان، وعزل مسلمة بن
رجاء عن مصر وولّى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر. وولّى مكانه
مولاه واضحا، ثم عزله وولّى مكانه يحيى الحريشيّ، وكان على طبرستان عمر
بن العلاء وسعيد بن دعلج وعلى جرجان مهليل بن صفوان ووضع ديوان الأرمة
وولى عليها عمر بن يزيع مولاه.
العهد للهادي وخلع عيسى
كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من
ولاية
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 41: «وعلى احداث الكوفة إسحاق
بن الصّباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك.
[2] حسب مقتضى السياق احدى وستين، راجع ابن الأثير ج 6 ص 55.
(3/261)
العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهدي،
ونمي ذلك إلى المهدي فسرّ به واستقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من
أعمال الكوفة فامتنع من القدوم. فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم
وأوصاه بالإضرار فلم يجد سبيلا إلى ذلك. وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا
يوم جمعة أو عيد. وبعث إليه المهدي يتهدّده فلم يجب، ثم بعث عمه
العبّاس يستقدمه فلم يحضر، فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه، وقدم
على عسكر المهدي وأقام أياما يختلف إليه ولا يكلّم بشيء. وحضر الدار
يوما وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الّذي كان
خلفه فكسروه، وأظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلى أن كاشفه أكابر
أهل بيته وأشدّهم محمد بن سليمان واعتذر بالإيمان التي عليه. فأحضر
المهدي القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجيّ،
فأفتوه بمخارج الإيمان وخلع نفسه وأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم [1]
وضياعا بالزّاب وكسكر وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد. ثم جلس المهدي
من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب
وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع.
فتح باربد من السند
وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عبد الملك بن شهلب المسمعي في جمع كثير من
الجند والمقطوعة إلى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض
الهند، وفتحوا باربد فافتتحوها عنوة، ولجأ أهلها إلى البدّ فأحرقوه
عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون
وأقاموا بعض أيام إلى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم
إبراهيم بن صبيح. ثم ركبوا البحر إلى فارس فلما انتهوا إلى ساحل حرّان
عصفت بهم الريح فانكسرت عامّة مراكبهم وغرق الكثير منهم.
حج المهدي
وفي سنة ستين حج المهدي واستخلف على بغداد ابنه الهادي، وخاله يزيد بن
منصور، واستصحب ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان معه الوزير يعقوب
بن
__________
[1] عشرة آلاف ألف درهم: ابن الأثير ج 6 ص 45 وهو الأصح.
(3/262)
داود، فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الّذي
ضمنه على الأمان فوصله المهدي وأقطعه. ولما وصل إلى مكّة اهتمّ بكسوة
الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها. وكانت فيها كسوة
هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وقسّم مالا عظيما هنالك في مصارف
الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم، ووصل إليه من
مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائة ألف دينار ففرّق ذلك كله، وفرّق
مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسّع المسجد، ونقل خمسمائة من الأنصار
إلى العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق. ولما رجع أمر ببناء
القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة، وأمر
باتخاذ المصانع في كل منها منهل، وبتحديد الأميال وحفر الآبار، وولى
على ذلك بقطير بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتصغير المنابر
إلى مقدار منبر النّبي صلى الله عليه وسلم. وأمر في سنة سبع وستين
بالزيادة في الحرمين على يد بقطير فدخلت فيه دور كثيرة، ولم يزل البناء
فيهما إلى وفاة المهدي.
نكبة الوزير أبي عبد الله
كان أبو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهديّ أيام أبيه المنصور فلطفت
عنده منزلته واستوزره وسار معه إلى خراسان وعظمت به بطانة المهديّ
فأكثروا فيه السعاية، وكان الربيع يدرأ عنه ويعرض كتبه على المنصور
ويحسن القول فيه. فكتب المنصور إلى المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيه
السعاية، ولما مات المنصور قام الربيع ببيعة المهدي، وقدموا إلى بغداد
جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله قبل المهدي وقبل أهله فعذله ابنه
الفضل على ذلك، فقال: هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا
نعامله، وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك. فلما
وقف ببابه أمهله طويلا من المغرب إلى العشاء ثم أذن له فدخل عليه وهو
متكئ فلم يجلس ولا أقبل عليه. وشرع الربيع يذكر أمر البيعة فكفه وقال:
قد بلغنا أمركم.
فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب.
فقال له:
ليس الصواب إلّا ما عملته، ولكن والله لأنفقنّ مالي وجاهي في مكروهة،
وجدّ في السعاية فيه فلم يجد طريقا إليها لاحتياطه في أمر دينه
وأعماله. فأتاه من قبل ابنه محمد ودسّ إلى المهدي بعرضه لحرمة وأنه
زنديق، حتى لا استحكمت التهمة فيه أحضره
(3/263)
المهدي في غيبة من أبيه، ثم قال له: اقرأ
فلم يحسن فقال لأبيه: ألم تقل أنّ ابنك يقرأ القرآن؟ فقال: فارقني منذ
سنين وقد نسي، فأمر به المهدي فقتل. واستوحش من أبي عبد الله وساءت
منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره وعزله عن ديوان الرسائل وردّه إلى
الربيع، وارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي وعظم شأنه وأنفذ عهده
إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب، وكان لا ينفذ كتاب المهدي حتى
يكتب يعقوب إلى يمينه بإنفاذ ذلك.
ظهور دعوة العباسية بالأندلس وانقطاعها
وفي سنة إحدى وستين أجاز عبد الرحمن بن حبيب الفهريّ من إفريقية إلى
الأندلس داعية لبني العباس، ونزل بساحل مرسية، وكاتب سليمان بن يقطن
[1] عامل سرقسطة في طاعة المهدي فلم يجبه. وقصد بلاده فيمن معه من
البربر فهزمه سليمان وعاد إلى تدبير [2] . وسار إليه عبد الرحمن صاحب
الأندلس وأحرق السفن في البحر تضييقا على ابن حبيب في النجاة فاعتصم
بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر
وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار وذلك سنة اثنتين وستين. وهمّ عبد
الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة
الشمالية لأخذ ثأره فعصى عليه سليمان بن يقطن والحسين بن يحيى بن سعيد
بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك.
غزو المهدي
تجهّز المهدي سنة ثلاث وستين لغزو الروم وجمع الأجناد من خراسان ومن
الآفاق وتوفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره، وسار من الغد
واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي واستصحب هارون، ومرّ في طريقه
بالجزيرة والموصل، فعزل عبد الصمد بن علي وحبسه ثم أطلقه سنة ست وستين.
ولما جاز ببني مسلمة بن عبد الملك ذكّره عمه العباس بما فعله مسلمة مع
جدّهم محمد بن عليّ، وكان أعطاه مرّة في اجتيازه عليه ألف دينار فأحضر
المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجرى عليهم
الأرزاق، وعبر الفرات إلى حلب، فأقام بها وبعث ابنه
__________
[1] سليمان بن يقظان: ابن الأثير ج 6 ص 54.
[2] تدمير: ابن الأثير ج 6 ص 54.
(3/264)
هارون للغزو وأجاز معه الدروب إلى جيحان
مشيّعا، وبعث معه عيسى بن موسى وعبد الملك بن صالح والحسن بن قحطبة
والربيع بن يونس ويحيى بن خالد بن برمك وكان إليه أمر العسكر والنفقات،
وحاصروا حصن سمالوا أربعين يوما ثم فتحوه بالأمان وفتحوا بعده فتوحات
كثيرة، وعادوا إلى المهدي وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك
الناحية منهم. ثم قفل إلى بغداد ومرّ ببيت المقدس وصلّى في مسجده ورجع
إلى بغداد.
العهد لهارون
وفي سنة ست وستين أخذ المهدي البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه
الرشيد.
نكبة الوزير يعقوب بن داود
كان أبو داود بن طهمان كاتبا لنصر بن سيّار هو وإخوته وكان شيعيّا وعلى
رأي الزيديّة ولما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر
فأقصاه نصر، فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمّنه في نفسه وأخذ
ما اكتسبه من المال أيام نصر، وأقام بعد ذلك عاطلا. ونشأ له ولد أهل
أدب وعلم وصحبوا أولاد الحسن. وكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله
فورثوا ذلك عنه، ولما قتل إبراهيم طلبهم المنصور وحبس يعقوب وعليّا مع
الحسن بن إبراهيم حتى توفي، وأطلقهما المهدي بعده مع من أطلق.
وداخله المهدي في أمر الحسن لما فرّ من الحبس فكان ذلك سببا لوصلته
بالمهديّ حتى استوزره، فجمع الزيديّة وولّاهم شرقا وغربا وكثرت السعاية
فيه من البطانة بذلك وبغيره وكان المهدي يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قد
تمكنت، فإذا غدا عليه تبسّم وسأله. وكان المهدي مشتهرا بالنساء فيخوض
معه في ذلك وفيما يناسبه ويتغلّب برضاه وسامره في بعض الليالي وجاء
ليركب دابّته وقد نام الغلام، فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه
فسقط ورمحته فانكسر فانقطع عن المهدي وتمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه
وأمر به فحبس وحبس عمّاله وأصحابه. ويقال بل دفع إليه علويّا ليقتله
فأطلقه، ونمي ذلك إلى المهدي فأرسل من أحضره، وقال ليعقوب أين العلويّ؟
فقال: قتلته فأخرجه إليه حتى رآه. ثم حبس في المطبق ودلّي في بئر فيه.
وبقي أيام المهدي والهادي ثم أخرج وقد عمي وسأل من الرشيد المقام بمكة
فأذن له.
وقيل في سبب تغيّره أنه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده،
ويكثر
(3/265)
عليه في ذلك ويقول: أبعد الصلوات الخمس في
المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ لا والله لا على هذا استوزرتني ولا
عليه صحبتك!
مسير الهادي إلى جرجان
وفي سنة سبع وستين عصى وتداهر من شرو بن ملكا طبرستان [1] من الديلم
فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي وجعل على جنده محمد بن حميد [2] وعلى
حجابته نفيعا مولى المنصور وعلى حرسه عيسى بن ماهان وعلى رسائله أبان
بن صدقة وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد [3] .
فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمّر عليهم يزيد فحاصرهما حتى
استقاما وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان وما كان إليه وولّى
مكانه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه ثم بعث سنة ثمان
وستين يحيى الحريشيّ في أربعين ألفا إلى طبرستان.
العمال بالنواحي
وفي سنة ثلاث وستين ولّى المهدي ابنه هارون على المغرب كله وأذربيجان
وأرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى الرسائل يحيى بن
خالد بن برمك وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولّى مكانه عبد الله بن
صالح، وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولّى مكانه المسيّب بن زهير
الضبيّ، وعزل يحيى الحريشيّ عن أصبهان وولّى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل
سعيد بن دعلج عن طبرستان وولّى مكانه عمر بن العلاء، ومهلهل بن صفوان
عن جرجان وولّاها هشام بن سعيد.
وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة إسحاق بن
الصّباح، وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان، فعزله
سنة أربع وستين وولّى مكانه صالح بن داود. وكان على السّند محمد بن
الأشعث. وفي سنة خمس وستين عزل خلف بن عبد الله عن الريّ وولاها عيسى
مولى جعفر، وولّى على البصرة روح بن حاتم وعلى البحرين وعمان والأهواز
وفارس وكرمان النعمان مولى المهدي. وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولّى
مكانه أحمد بن إسماعيل. وفي سنة ست وستين
__________
[1] ونّداد هرمز وشروين صاحبي طبرستان: ابن الأثير ج 6 ص 75.
[2] محمد بن حميل: المرجع السابق.
[3] ابا خالد الأحول: ابن الأثير ج 6 ص 76.
(3/266)
عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء
البصرة واستقضى مكانه خالد بن طليق ابن عمران بن حصين فاستعفى أهل
البصرة منه. وولّى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار إلى جرجان.
واضطربت في هذه السنة خراسان على المسيّب بن زهير فولّاها أبا العباس
الفضل بن سليمان الطوسيّ، وأضاف إليه سجستان، فولّى هو على سجستان سعيد
بن دعلج. وولّى على المدينة إبراهيم ابن عمه وعزل منصور بن يزيد عن
اليمن وولّى مكانه عبد الله بن سليمان الربعيّ. وكان على مصر إبراهيم
بن صالح وتوفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين.
وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان والرويان وما كان إليه وولّاه
عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه. وحج بالناس إبراهيم ابن
عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج، فولّى مكانه إسحاق بن
موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثيّ وعلى اليمامة عبد الله
بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى قضائها عمر بن عثمان
التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي. وقتل موسى بن كعب ووقع
الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق
وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة.
الصوائف
وفي سنة تسع وخمسين أغزى المهدي عمه العبّاس بالصائفة وعلى مقدمته
الحسن الوصيف فبلغوا أهرة [1] وفتحوا مدينة أوهرة ورجعوا سالمين ولم
يصب من المسلمين أحد. وفي سنة إحدى وستين غزا بالصائفة يمامة بن الوليد
[2] فنزل دابق وجاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفا ونزل عمق مرعش
فقتل وسبى وغنم، وحاصر مرعش وقتل من المسلمين عددا، وانصرف إلى جيحان
فكان عيسى بن عليّ مرابطا بحصن مرعش فعظم ذلك على المهديّ وتجهّز لغزو
الروم. وخرجت الروم سنة اثنتين وستين إلى الحرث [3] فهدموا أسوارها
وغزا بالصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة فبلغ جهة
أدرركبه [4] وأكثر التحريق والتخريق ولم يفتح حصنا ولا لقي
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 41: أنقرة.
[2] ثمامة بن الوليد: ابن الأثير، ج 6 ص 55
[3] الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 58.
[4] حمّة ازرولية: المرجع السابق.
(3/267)
جمعا ورجع بالناس سالما. وغزا يزيد بن أسيد
السلميّ من ناحية قاليقلا فغنم وسبى وفتح ثلاثة حصون. ثم غزا المهدي
بنفسه سنة ثلاث وستين كما مرّ ثم غزا سنة أربع وستين عبد الكبير بن عبد
الرحمن بن زيد بن الخطّاب من درب الحرث فخرج إليه ميخاييل وطارد
الأرمني [1] البطريقان في تسعين الفا فحام عن لقائهم ورجع بالناس، فغضب
عليه المهدي وهمّ بقتله فشفع فيه وحبسه. وفي سنة خمس وستين بعث المهدي
ابنه هارون بالصائفة وبعث معه الربيع فتوغّل في بلاد الروم ولقيه عسكر
نقيطا من القواميس فبارزه يزيد بن مزيد فهزمهم، وغلب على عسكرهم ولحقوا
بالدمشق [2] صاحب المسالح، فحمل لهم مائتي ألف دينار واثنتين وعشرين
ألف درهم، وسار الرشيد بعساكره وكانت نحوا من مائة ألف فبلغ خليج
قسطنطينية وعلى الروم يومئذ غسطة [3] امرأة إليوك كافلة لابنها منه
صغيرا، فجرى الصلح على الفدية وأن تقيم له الأدلّاء والأسواق في الطريق
لأنّ مدخله كان ضيّقا مخوفا فأجابت لذلك، وكان مقدار الفدية سبعين ألف
دينار كل سنة ومدّة الصلح ثلاث سنين وكان ما سباه المسلمون قبل الصلح
خمسة آلاف رأس وستمائة رأس وقتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة
وخمسون ألفا ومن الأسرى ألفان. ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان وستين
ولم يستكملوا مدّته بقي منها أربعة أشهر وكان على الجزيرة وقنّسرين علي
ابن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطّال في عسكر فغنموا وسبوا وظفروا
ورجعوا.
وفاة المهدي وبيعة الهادي
وفي سنة تسع وستين اعتزم المهدي على خلع ابنه موسى الهادي من العهد
والبيعة للرشيد به، وتقديمه على الهادي وكان بجرجان فبعث إليه بذلك
فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي فلما بلغ ماسبدان توفي
هنالك. يقال مسموما من بعض جواريه، ويقال سمّت إحداهما الأخرى في كثرى
فغلط وأكلها ويقال حاز صيدا فدخل وراءه إلى خربة فدق الباب ظهره وكان
موته في المحرّم وصلى عليه ابنه الرشيد وبويع ابنه موسى الهادي لما
بلغه موت أبيه وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان. وكان الرشيد لما
توفي المهدي والعسكر بماسبدان نادى في الناس بإعطاء
__________
[1] طاراذ الارمني: ابن الأثير ج 6 ص 63
[2] الدمستق: ابن الأثير ج 6 ص 66
[3] عطسة امرأة أليون: ابن الأثير ج 6 ص 66
(3/268)
تسكينا وقسم فيهم مائتين مائتين، فلما
استوفوها تنادوا بالرجوع إلى بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت
المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون.
وقدم الرشيد بغداد في أثرهم فبعثت الخيزران إلى الربيع فامتنع يحيى
خوفا من غيرة الهادي وأمرت الربيع بتسكين الجند فسكنوا وكتب الهادي إلى
الربيع يتهدّده فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بودّه فأشار عليه بأن
يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه وتصحبه الهدايا والتحف ففعل ورضى الهادي عنه
وأخذت البيعة ببغداد للهادي. وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق وبعث نصيرا
الوصيف إلى الهادي بجرجان فركب اليزيد إلى بغداد فقدمها في عشرين يوما.
فاستوزر الربيع وهلك لمدّة قليلة من وزارته. واشتدّ الهادي في طلب
الزنادقة وقتلهم، وكان منهم عليّ بن يعطى ويعقوب بن الفضل من ولد ربيعة
بن الحرث بن عبد المطلب، كان قد أقرّ بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان
مقسما أن لا يقتل هاشميّا فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم
داود بن علي فقتلهما (وأمّا عماله) فكان على المدينة عمر بن عبد العزيز
بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى مكّة والطائف عبد الله
بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين
سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري وعلى الكوفة
موسى بن عيسى بن موسى، وعلى البصرة ابن سليمان وعلى جرجان الحجّاج مولى
الهادي، وعلى قومس زياد بن حسّان وعلى طبرستان والرّويان صالح بن عمير
مولى [1] وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد، وعزله الهادي لسوء سيرته
وولّى مكانه عبد الملك وصالح بن علي (وأمّا الصائفة) فغزا بها في هذه
السنة وهي سنة تسع وتسعين معيوب [2] بن يحيى وقد كان الروم خرجوا مع
بطريق لهم إلى الحرث فهرب الوالي ودخلها الروم وعاثوا فيها فدخل معيوب
وراءهم من درب الراهب وبلغ مدينة استة وغنم وسبى وعاد.
ظهور الحسين المقتول بفتح [3]
وهو الحسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط، كان
الهادي
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 32: صالح بن عميرة الاسدي وعلى
أصبهان طيفور مولى الهادي.
[2] معيوف بن يحيى: ابن الأثير ج 6 ص 94، الطبري ج 10 ص 32
[3] المقتول بفخ: ابن الأثير ج 6 ص 90، الطبري ج 10 ص 24
(3/269)
قد استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز
كما مرّ فأخذ يوما الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد الله بن الحسين
الملقّب أبا الزفت، ومسلم بن جندب الهذليّ الشاعر، وعمر بن سلام مولى
العمريين على شراب لهم، فضربهم وطيف بهم بالمدينة بالحبال في أعناقهم،
وجاء الحسين إليه فشفع فيهم وقال: ليس عليهم حدّ فإنّ أهل العراق لا
يرون به بأسا وليس من الحدّ أن نطيفهم فحبسهم. ثم جاء ثانية ومعه من
عمومته يحيى بن عبد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه وأطلقه
من الحبس. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضا ويعرضون فغاب الحسن عن
العرض يومين، فطلب به الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله كافليه وأغلظ
لهما، فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به.
وكان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه وخرجوا من
ليلتهم. وضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف واقتحموا المسجد
فصلوا الصبح وبايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله
وسنّة رسوله. وجاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند والعمري وابن إسحاق
الأزرق ومحمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلوهم وهزموهم من المسجد،
واجتمع يحيى وإدريس بن عبد الله بن حسن فقتلاه وانهزم الباقون وافترق
الناس.
وأغلق أهل المدينة أبوابهم وانتهب القوم من بيت المال بضعة عشر ألف
دينار وقيل سبعين ألفا، واجتمعت شيعة بني العبّاس من الغد وقاتلوهم إلى
الظهر وفشت الجراحات وافترقوا. ثم قدم مبارك التركيّ من الغد حاجا
فقاتل مع العبّاسية إلى منتصف النار وافترقوا، وواعدهم مبارك الرواح
إلى القتال واستغفلهم وركب رواحله راجعا واقتتل الناس المغرب ثم
افترقوا. ويقال إنّ مباركا دسّ إلى الحسين بذلك تجافيا عن أذية أهل
البيت، وطلب أن يأخذ له عذرا في ذلك بالبيات فبيته الحسين واستطرد له
راجعا. وأقام الحسين وأصحابه بالمدينة واحدا وعشرين يوما آخر ذي
القعدة، ولما بلغها نادى في الناس بعتق من أتى إليه من العبيد فاجتمع
إليه جماعة.
وكان قد حجّ تلك السنة رجال من بني العبّاس منهم سليمان بن المنصور
ومحمد بن سليمان بن علي والعبّاس بن محمد بن علي وموسى وإسماعيل أبناء
عيسى بن موسى. ولما بلغ خبر الحسين إلى الهادي كتب إلى محمد بن سليمان
وولّاه على حربه وكان معه رجال وسلاح وقد أغذ بهم عن البصرة خوف
الطريق، فاجتمعوا بذي طوى، وقدموا مكة فحلّوا من العمرة التي كانوا
أحرموا بها. وانضمّ إليهم من حجّ من شيعتهم
(3/270)
ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا يوم التروية،
فانهزم الحسين وأصحابه وقتل كثير منهم، وانصرف محمد بن سليمان وأصحابه
إلى مكة ولحقهم بذي طوى رجل من خراسان برأس الحسين ينادي من خلفهم
بالبشارة، حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروبا على قفاه وجبهته، وجمعت
رءوس القتلى فكانت مائة ونيفا وفيها رأس سليمان أخي المهدي ابن عبد
الله، واختلط المنهزمون بالحاج. وجاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف
خلف محمد بن سليمان والعبّاس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وقتله وغضب
محمد بن سليمان من ذلك وغضب الهادي لغضبه وقبض أمواله وغضب على مبارك
التركي وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهادي. وأفلت من
المنهزمين إدريس بن عبد الله أخو المهدي فأتى مصر وعلي يريدها، وأصبح
مولى صالح بن المنصور وكان يتشيع لآل عليّ فحمله على البريد إلى المغرب
ووقع بمدينة وليلة من أعمال طنجة واجتمع البريد على دعوته وقتل الهادي
وأصحابه بذلك وصلبه [1] وكان لإدريس وابنه إدريس وأعقابهم حروب نذكرها
بعده.
حديث الهادي في خلع الرشيد
كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره، وكان رأى في
منامه أنه دفع إليهما قضيين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب
الرشيد كله، وتأوّل ذلك بقصر مدّة الهادي وطول مدّة الرشيد وحسنها.
فلما ولي الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه، وفاوض في
ذلك قوّاده فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالك،
وحرّضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به، ونهى الهادي أن
يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولّى أموره
فاتهمه الهادي بمداخلته وبعث إليه وتهدّده فحضر عنده مستميتا وقال:
يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي! فسكن غضبه وقال له
في أمر الخلع فقال: يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث
الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق
للبيعة، فصدّقه وسكت عنه،
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 93: «وأفلت من المنهزمين إدريس بن
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى
صالح بن المنصور، وكان شيعيا لعليّ، فحمله على البريد الى ارض المغرب،
فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر. فضرب
الهادي عنق واضح وصلبه» .
(3/271)
وعاد أولئك الذين جفلوه من القوّاد والشيعة
فأغروه بيحيى وأنه الّذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي فطلب
الحضور للنصيحة، وقال له يا أمير المؤمنين أتظن الناس يسلمون الخلافة
لجعفر وهو صبي ويرضون به لصلاتهم وحجّهم وغزوهم، وتأمن أن يسمو إليها
عند ذلك أكابر أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك، والله لو لم يعقده المهدي
لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذرا من ذلك، وإني أرى أن تعقده لأخيك،
فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له فقبل الهادي قوله
وأطلقه. ولم يقنع القوّاد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك
وضيّق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلى قصر مقاتل ونكره الهادي وأظهر
خفاءه [1] وبسط الموالي والقوّاد فيه ألسنتهم.
وفاة الهادي وبيعة الرشيد
ثم خرج الهادي إلى حديقة الموصل فمرض واشتدّ مرضه هنالك واستقدم
العمّال شرقا وغربا. ولما ثقل تآمر القوّاد الذين بايعوا جعفرا في قتل
يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفا من الهادي. ثم توفي الهادي في شهر ربيع
الأوّل سنة سبعين ومائة، وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل. ويقال
إنّ أمّه الخيزران وصت بعض الجواري عليه فقتلته لأنها كانت أوّل خلافته
تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب، ووجد الهادي لذلك
فكلمته يوما في حاجة فلم يجبها فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك.
فغضب الهادي وشتمه وحلف لاقضيتها فقامت مغضبة، فقال:
مكانك وإلّا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لئن
بلغني أنّ أحدا من قوّادي وخاصتي وقف ببابك لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ
ماله، ما للمواكب تغدو وتروح عليك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو
بيت يصونك؟
إياك إياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمّي! فانصرفت وهي لا تعقل. ثم قال
لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدّث الرجال بخبر أمّه، ويقال فعلت أمّ فلان
وصنعت؟ فقالوا لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمّي فتتحدّثون معها؟
فيقال: إنه لما جدّ في خلع الرشيد خافت عليه منه، فلما ثقل مرضه وصت
بعض الجواري فجلست على وجهه فمات، وصلى عليه الرشيد. وجاء هرثمة بن
أعين إلى
__________
[1] لعلها جفاءه حسب مقتضى السياق.
(3/272)
الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، وأحضر يحيى
فاستوزره وكتب إلى الأطراف بالبيعة. وقيل: إنّ يحيى هو الّذي جاءه
وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه [1] إلى يحيى وأعطاه خاتمه. وكان يحيى
يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد. وعزل لأوّل خلافته عمر بن عبد العزيز
العمري عن المدينة وولّى مكانه إسحاق بن سليمان، وتوفي يزيد بن حاتم
عامل إفريقية، فولّى مكانه روح بن حاتم، ثم توفي فولّى مكانه ابنه
الفضل، ثم قتل فولّى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية. وأفرد
الثغور كلها عن الجزيرة وقنّسرين وجعلها عمالة واحدة وسمّاها العواصم،
وأمره بعمارة طرسوس ونزلها الناس. وحجّ لأوّل خلافته وقسّم في الحرمين
مالا كثيرا. وأغزى بالصائفة سليمان بن عبد الله البكائي، وكان على مكة
والطائف عبد الله بن قثم وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البحرين
والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي، وعلى
خراسان أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي ثم عزله وولّى مكانه جعفر
بن محمد بن الأشعث. فسار إلى خراسان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل
فافتتحها وافتتح سابهار وغنم ما كان فيها. ثم استقدمه الرشيد فعزله
وولّى مكانه ابنه العبّاس، وكان على الموصل عبد الملك بن صالح فعزله
وولّى مكانه إسحاق بن محمد بن فروخ، فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن
قيس فأحضره إلى بغداد وقتله، وولّى مكانه [2] وكان على أرمينية يزيد بن
مزيد بن زائدة بن أخي معن فعزله وولىّ مكانه أخاه عبد الله بن المهدي.
وولّى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني ثعلب [3] روح بن صالح الهمدانيّ
فوقع بينه وبين ثعلب خلاف وجمع لهم الجموع فبيتوه وقتلوه في جماعة من
أصحابه. وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمد بن سليمان والي البصرة وكان أخوه
جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد وأنه يحدّث نفسه بالخلافة! وأنّ
أمواله كلها فيء من أموال المسلمين
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 106: وقيل لما مات الهادي جاء يحيى
بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في فراشه فقال له: قم يا أمير المؤمنين!
فقال: كم تروعني! إعجابا منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن
بلغه هذا؟ فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه، فبينما هو يكلمه إذ أتاه رسول
آخر يبشّره بمولود، فسمّاه عبد الله وهو المأمون، ولبس ثيابه وخرج،
فصلّى على الهادي بعيساباذ.
[2] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 50: «وفيها قتل هارون ابا هريرة
محمد بن فروخ وكان على الجزيرة، فوجه اليه هارون ابا حنيفة حرب بن قيس
فقدم به عليه مدينة السلام فضرب عنقه في قصر الخلد» . ابن الأثير ج 6 ص
113- 114.
[3] بني تغلب: ابن الأثير ج 6 ص 113
(3/273)
فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها، وكان لا
يعبر عنها من المال والمتاع والدواب، واحضروا من العين فيها ستين ألف
ألف دينار ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء.
وتوفي سنة أربع وسبعين والي الرشيد إسحاق بن سليمان على السّند ومكران،
واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه، وفي سنة خمس وسبعين عقد لابنه
محمد بن زبيدة ولاية العهد ولقّبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس
سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى، وفيها
عزل الرشيد العبّاس بن جعفر عن خراسان وولّاها خاله الغطريف بن عطاء
الكنديّ.
خبر يحيى بن عبد الله في الديلم
وفي سنة خمس وسبعين خرج يحيى بن عبد الله بن حسن أخو المهدي بالديلم
واشتدّت شوكته وكثر جمعه وأتاه الناس من الأمصار فندب اليه الرشيد
الفضل بن يحيى في خمسين ألفا وولاه جرجان وطبرستان والري وما إليها
ووصل معه الأموال فسار ونزل بالطالقان وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله وكتب
إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم فأجاب
يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة واجلة بني هاشم
ومشايخهم عن عبد الصمد منهم فكتب له الرشيد بذلك وبعثه مع الهدايا
والتحف وقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأفاض عليه العطاء
وعظمت منزلة الفضل عنده ثم أنّ الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في حبسه.
ولاية جعفر بن يحيى مصر
كان موسى بن عيسى قد ولاه الرشيد مصر فبلغه أنه عازم على الخلع فردّ
أمرها إلى جعفر بن يحيى وأمره بإحضار عمر بن مهران وأن يولّيه عليها،
وكان أحول مشوّه الخلق خامل البزّة يردف غلامه خلفه. فلما ذكرت له
الولاية قال على شرطيّة أن يكون أمري بيدي إذا صلحت البلاد انصرفت
فأجابه إلى ذلك. وسار إلى مصر وأتى مجلس موسى فجلس في أخريات الناس حتى
إذا افترقوا رفع الكتاب إلى موسى فقرأه وقال: متى يقدم أبو حفص؟ فقال:
أنا أبو حفص! فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: أليس لي ملك مصر ثم
سلّم له العمل. فتقدّم عمر إلى كاتبه أن لا
(3/274)
يقبل من الهدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث
الناس بهداياهم وكانوا يمطلون بالخراج. فلما حضر النجم الأوّل والثاني
وشكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا وحسبها لأربابها واستوفى خراج مصر
ورجع إلى بغداد.
الفتنة بدمشق
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية ورأس المضريّة
أبو الهيدام عامر بن عمارة من ولد خارجة بن سنان بن أبي حارثة المرّيّ،
وكان أصل الفتنة بين القيس وبين اليمانية أنّ اليمانية قتلوا منهم رجلا
فاجتمعوا لثأره، وكان على دمشق عبد الصّمد بن علي فجمع كبار العشائر
ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانية وبيتوا المضريّة فقتلوا منهم ثلاثمائة
أو ضعفها، فاستجاشوا بقبائل قضاعة وسليم فلم ينجدوهم وأنجدتهم قيس،
وساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة وطال الحرب
بينهم. وعزل عبد الصّمد عن دمشق وولّى مكانه إبراهيم بن صالح بن عليّ.
ثم اصطلحوا بعد سنين ووفد إبراهيم على الرشيد وكان هواه مع اليمانية
فوقع في قيس عند الرشيد واعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر واستخلف إبراهيم
على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم. ثم وثبت غسّان برجل من
ولد قيس بن العبسيّ فقتلوه، واستنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه
وقتلوا من اليمانية نفرا. ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن
عبد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوهم، فجاءت أمّ الغلام سابّة إلى أبي
الهيدام، فقال انظريني حتى ترفع دماؤنا إلى الأمير، فإن نظر فيها وإلا
فأمير المؤمنين ينظر فيها. وبلغ ذلك إسحاق وحضر عنده أبو الهيدام فلم
يأذن له ثم قتل بعض الدواقيل رجلا من اليمانية وقتلت اليمانية رجلا من
سليم ونهبوا جيران محارب، وركب أبو الهيدام معهم إلى إسحاق فوعده
بالنظر لهم، وبعث إلى اليمانية يغريهم به فاجتمعوا وأتوا إلى باب
الجابية فخرج إليهم أبو الهيدام وهزمهم واستولى على دمشق وفتح السجون.
ثم اجتمعت اليمانيّة واستنجدوا كلبا وغيرهم فاستمدّوهم، واستجاش أبو
الهيدام المضريّة فجاءوه وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع
مرّات. ثم أمره إسحاق بالكفّ وبعث إلى اليمانيّة يخبرهم بغرّته، وجاء
الخبر وركب وقاتلهم فهزمهم، ثم هزمهم أخرى على باب توما. ثم جمعت
اليمانيّة أهل الأردنّ والجولان من كلب وغيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر
فأبطئوا ودخل المدينة فأرسل إسحاق من دلّهم على مكمنه وأمرهم بالعبور
إلى
(3/275)
المدينة، فبعث من أصحابه من يأتيهم من
ورائهم فانهزموا. ولما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود عند قصر الحجّاج
وجاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحي دمشق. ثم سألوا
الأمان من أبي الهيدام فأمّنهم وسكن الناس.
وفرّق أبو الهيدام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق، فطمع فيه
إسحاق وسلّط عليه العذافر السكسكيّ مع الجنود فقاتلهم فانهزم العذافر
وبقي الجند يحاربونه ثلاثا.
ثم إنّ إسحاق قاتله في الثالثة والجند في اثني عشر ألفا ومعهم
اليمانية، فخرج أبو الهيدام من المدينة وقاتلهم على باب الجابية حتى
أزالهم عنه. ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم
أصحابه وهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأحرقوا قرى وديارا لليمانيّة في
الغوطة، ثم توادعوا سبعين يوما أو نحوها وقدم السّندي في الجنود من قبل
الرشيد وأغزته [1] اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة فأقبل
السّندي إلى دمشق وإسحاق بدار الحجّاج، وبعث قائده في ثلاثة آلاف وأخرج
إليهم أبو الهيدام ألفا وأحجم القائد عنهم ورجع إلى السّندي فصالح أبا
الهيدام وأمّن أهل دمشق. وسار أبو الهيدام إلى حوران وأقام السّندي
بدمشق ثلاثا وقدم موسى بن عيسى واليا عليها فبعث الجند يأتونه بأبي
الهيدام فكبسوا داره وقاتلهم هو وابنه وعبده فانهزموا وجاء أصحابه من
كل جهة وقصد بصرى. ثم بعث إليه موسى فسار إليه في رمضان سنة سبع وسبعين
وقيل إنّ سبب الفتنة بدمشق أنّ عامل الرشيد بسجستان قتل أخا الهيدام
فخرج هو بالشام وجمع الجموع. ثم بعث الرشيد أخا له ليأتيه به فتحيّل
حتى قبض عليه وشدّه وثاقا وأتى به إلى الرشيد فمنّ عليه وأطلقه. وبعث
جعفر ابن يحيى سنة ثمانين إلى الشام من أجل هذه الفتن والعصبيّة فسكن
الثائرة وأمّن البلاد وعاد.
فتنة الموصل ومصر
وفي سنة سبع وثمانين تغلّب العطّاف بن سفيان الأزديّ على خراسان وأهل
الموصل على العامل بها محمد بن العبّاس الهاشمي وقيل عبد الملك بن صالح
فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج وبقي العامل معه مغلبا إلى أن
سار الرشيد إلى الموصل وهدم سورها ولحق العطّاف بأرمينية ثم بالرقم
فاتخذها وطنا. وفي سنة ثمان وسبعين
__________
[1] لعلها أغرته.
(3/276)
ثارت الحوفيّة بمصر وهم من قيس وقضاعة على
عاملها إسحاق بن سليمان وقاتلوه.
وكتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين وكان بفلسطين فسار إليهم وأذعنوا
بالطاعة، وولي على مصر ثم عزله لشهر وولىّ عبد الملك بن صالح عليها.
وكان على خراسان أيام المهدي والهادي أبو الفضل العبّاس بن سليمان
الطوسي فعزله الرشيد، وولّى على خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث
الخزاعيّ فأبوه من النقباء من أهل مصر ومقدم ابنه العبّاس سنة ثلاث
وسبعين، ثم قدم فغزا طخارستان وبعث ابنه العبّاس إلى كابل في الجنود
وافتتح سابهار ورجع إلى مرو. ثم سار إلى العراق سنة ثلاث في رمضان وكان
الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى. ثم ولىّ الرشيد
ابنه العبّاس بن جعفر ثم عزله عنها فولى خالدا الغطريف بن عطاء الكنديّ
سنة خمس وسبعين على خراسان وسجستان وجرجان فقدم خليفة داود بن يزيد
وبعث عامل سجستان، وخرج في أيامه حصين الخارجيّ من موالي قيس بن ثعلبة
من أهل أوق وبعث عامل سجستان عثمان بن عمارة الجيوش إليه فهزمهم حصين
وقتل منهم وسار إلى باذغيس وبوشنج وهراة فبعث إليه الغطريف اثني عشر
ألفا من الجند فهزمهم حصين وقتل منهم خلقا، ولم يزل في نواحي خراسان
إلى أن قتل سنة سبع وسبعين. وسار الفضل إلى خراسان سنة ثمان وسبعين
وغزا ما وراء النهر سنة ثمانين ثم ولىّ الرشيد على خراسان علي بن عيسى
بن ماهان وقدم إليه يحيى [1] فأقام بها عشرين سنة وخرج عليه في ولايته
حمزة بن أترك وقصد بوشنج وكان على هراة عمرويه بن يزيد الأزدي فنهض
إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة وقتل جماعة منهم ومات عمرويه في
الزحام، فبعث عليّ بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففضّ [2] حربه
فعزله، وبعث ابنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمدّه بالعساكر وردّه فهزم
حمزة وقتل أصحابه، ونجا إلى قهستان في أربعين وأثخن عيسى في الخوارج
بارق وجوين [3] وفيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفا.
وخلف عبد الله بن العبّاس النسيقي [4] بزرنج فجبى الأموال وسار بها
ومعه الصفّة ولقيه حمزة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الطبري ج 10 ص 68: «وفيها شخص الرشيد من مدينة
السلام مريدا الرقة على طريق الوصل، فلما نزل البروان ولّى عيسى بن
جعفر خراسان وعزل عنها جعفر بن يحيى وكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها
عشرين ليلة» راجع ابن الأثير ج 6 ص 150.
[2] حسب مقتضى السياق فرفض حربه.
[3] أوق وجوين: ابن الأثير ج 6 ص 151.
[4] النسفي: ابن الأثير ج 6 ص 151.
(3/277)
فهزموه وقتلوا عامّة أصحابه. وسار حمزة في
القرى فقتل وسبى وكان عليّ قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فخرج
إلى حمزة وقصد قرية [1] ففرّ الخوارج وهم الذين يرون التحكيم ولا
يقاتلون والمحكّمة هم الذين يقاتلون وشعارهم لا حكم إلا للَّه فكتب
العقد إلى حمزة بالكفّ وواعدهم، ثم انتقض وعاث في البلاد وكانت بينه
وبين أصحاب عليّ حروب كثيرة. ثم ولى الرشيد سنة اثنتين وثمانين ابنه
عبد الله العهد بعد الأمين ولقبه المأمون وولّاه على خراسان وما يتصل
بها إلى همذان واستقدم عيسى ابن علي من خراسان وردّها إليه من قبل
المأمون وخرج عليه بنسا أبو الخصيب وهب ابن عبد الله النّسائي وعاث في
نواحي خراسان ثم طلبه الأمان فأمّنه. ثم بلغه أنّ حمزة الخارجيّ عاث
بنواحي باذغيس فقصده وقتل من أصحابه نحوا من عشرة آلاف وبلغ كل من وراء
غزنة. ثم غدر أبو الخصيب ثانية وغلب أبيورد ونسا وطوس ونيسابور، وحاصر
مرو وانهزم عنها وعاد إلى سرخس، ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست وثمانين
فقتله في نسا وسبى أهله. ثم نمي إلى الرشيد سنة تسع وثمانين أنّ عليّ
بن عيسى مجمع على الخلاف وأنه قد أساء السيرة في خراسان وعنّفهم، وكتب
إليه كبراء أهلها يشكون بذلك، فسار الرشيد إلى الريّ فأهدى له الهدايا
والكثيرة والأموال ولجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقوّاده
وتبين للرشيد من مناصحته خلاف ما أنهى إليه فردّه إلى خراسان وولّى على
الري وطبرستان ودنباوند وقومس وهمذان وبعث عليّ ابنه عيسى لحرب خاقان
سنة ثمان وثماني فهزمه وأسر إخوته، وانتقض على عليّ بن عيسى رافع بن
اللّيث بن نصر بن سيّار بسمرقند وطالت حروبه معه وهلك في بعضها ابنه
عيسى. ثم إنّ الرشيد نقم على عليّ بن عيسى أمورا منها استخفافه بالناس
وإهانته أعيانهم، ودخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر فأغلظ له في
القول وأفحش في السبّ والتهديد وفعل مثل ذلك بهشام بن [2] فأمّا الحسين
فلحق بالرشيد شاكيا ومستجيرا وأمّا هشام فلزم بيته وادّعى أنه بعلّة
الفالج حتى عزل عليّ، وكان مما نقم عليه أيضا أنه لم قتل ابنه عيسى في
حرب رافع بن الليث أخبر بعض جواريه أنه دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف
__________
[1] فأتى قرية فيها قعد الخوارج: ابن الأثير ج 6 ص 151.
[2] بياض بالأصل: وفي الكامل لابن الأثير: «فمن ذلك انه دخل عليه يوما
الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين وهشام بن فرخسرو ... » ج 6 ص 203.
(3/278)
دينار [1] . وتحدّث الجواري بذلك فشاع في
الناس، ودخلوا البستان ونهبوا المال، وكان يشكو إلى الرشيد بقلّة المال
ويزعم أنه باع حليّ نسائه. فلما سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن
أعين وقال له: ولّيتك خراسان، وكتب له بخطّه وقال له: اكتم أمرك وامض
كأنك مدد. وبعث معه رجاء الخادم. فسار إلى نيسابور وولّى أصحابه فيها
ثم سار إلى مرو ولقيه عليّ بن عيسى فقبض عليه وعلى أهله وأتباعه وأخذ
أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف، وبعث إلى الرشيد من المتاع وقر خمسمائة
بعير وبعث إليه بعليّ بن عيسى على بعير من غير غطاء ولا وطاء، وخرج
هرثمة إلى ما وراء النهر وحاصر رافع بن الليث بسمرقند إلى ان استأمن
فأمّنه، وأقام هرثمة بسمرقند وكان قدم مرو سنة ثلاث وتسعين.
إيداع كتاب العهد
وفي سنة ست وثمانين حجّ الرشيد وسار من الأنبار ومعه أولاده الثالثة
محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم، وكان قد ولّى الأمين العهد
وولّاه العراق والشام إلى آخر.
الغرب. وولّى المأمون العهد بعده وضم إليه من همذان إلى آخر المشرق،
وبايع لابنه القاسم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته
للمأمون. وجعل في حجر عبد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور
والعواصم. ومرّ بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية عطاء منه ومن الأمين
ومن المأمون فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. ثم سار إلى مكة
فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقوّاد وكتب كتابا أشهد فيه على
الأمين بالوفاء للمأمون وآخر على المأمون بالوفاء للأمين وعلّق
الكتابين في الكعبة وجدّد عليها العهود هنالك. ولما شخص إلى طبرستان
سنة تسع وثمانين وأقام بها أشهد من حضره أنّ جميع ما في عسكره من
الأموال والخزائن والسلاح والكراع للمأمون وجدّد له البيعة عليهم وأرسل
إلى بغداد فجدّد له البيعة على الأمين.
أخبار البرامكة ونكبتهم
قد تقدّم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة وكان له قدم راسخ في
الدولة وكان يلي الولايات العظام وولّاه المنصور على الموصل، وعلى
أذربيجان، وولّى ابنه
__________
[1] ذكر ابن الأثير المبلغ ثلاثين ألف ألف: المرجع السابق. ولكنه لم
يذكر أهي دراهم أم دنانير.
(3/279)
يحيى على أرمينية ووكله المهدي بكفالة
الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع وتولية
العهد ابنه وحبسه الهادي لذلك. فلما ولي الرشيد استوزر يحيى وفوّض إليه
أمور ملكه وكان أوّلا يصدر عن رأي الخيزران أمّ الرشيد، ثم استبدّ
بالدولة. ولما ماتت وكان بيتهم مشهورا بالرجال من العمومة والقرابة،
وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا
على حظّ من تقريب السلطان واستخلاصه. وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت
أمّه الرشيد وأرضعته الخيزران وكان يخاطب يحيى يا أبت واستوزر الفضل
وجعفرا وولّى جعفرا على مصر وعلى خراسان وبعثه إلى الشام عند ما وقعت
الفتنة بين المضريّة واليمانيّة، فسكّن الأمور ورجع. وولّى الفضل أيضا
على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عبد الله العلويّ من
الديلم ودفع المأمون لما ولّاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى فحسنت
آثارهم في ذلك كله. ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولة وكثرت
السعاية فيهم وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم، يقال بسبب أنه دفع إليه
يحيى بن عبد الله لما استنزله أخوه الفضل من الديلم، وجعل حبسه عنده
فأطلقه استبدادا على السلطان ودالة وأنهى الفضل بن الربيع ذلك إلى
الرشيد فسأله فصدّقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه، وكثرت
السعاية فيهم فتنكّر لهم الرشيد. ودخل عليه يوما يحيى بن خالد بغير إذن
فنكر ذلك منه، وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفا به من مواجهته
وكان حاضرا فقال يحيى: هو عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني
فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها! فاستحيى هارون وقال: ما أردت ما
يكره. وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذ دخل، فتقدّم لهم مسرور
الخادم بالنهي عن ذلك فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك
زمانا. فلما حجّ الرشيد سنة سبعة وثمانين ورجع من حجّه ونزل الأنبار
أرسل مسرورا الخادم في جماعة من الجند ليلا فأحضر جعفرا بباب الفسطاط
وأعلم الرشيد فقال: ائتني برأسه فطفق جعفر يتذلّل ويسأله المراجعة في
أمره حتى قذفه الرشيد بعصي كانت في يده وتهدّده فخرج وأتاه برأسه وحبس
الفضل من ليلته وبعث من احتاط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم
وحبسه في منزله وكتب من ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم،
وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين.. وبنصبان على الجسر،
وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيّق على يحيى ولابنه الفضل ومحمد
(3/280)
وموسى ثم تجرّدت عنه التهمة بعبد الملك بن
صالح بن علي، وكانوا أصدقاء له، فسعى فيه ابنه عبد الرحمن بأنه يطلب
الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع، ثم أحضره من الغداة وقرّعه ووبّخه
فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه، فأحضر كاتبه شاهدا عليه
فكذّبه عبد الملك، فأحضر ابنه عبد الرحمن فقال هو مأمور معذور أو عاق
فاجر، فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك،
فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عبد الملك: رضيت باللَّه حكما وبأمير
المؤمنين حاكما فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه. ثم أحضره الرشيد يوما
آخر فأرعد له وأبرق وجعل عبد الملك يعدّد وسائله ومقاماته في طاعته
ومناصحته فقال له الرشيد: لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك وردّه إلى
محبسه. وكلّمه عبد الله بن مالك فيه، وشهد له بنصحه فقال: أطلقه إذا،
قال: أمّا في هذا القرب فلا ولكن سهّل حبسه ففعل. وأجرى عليه مؤنه حتى
مات الرشيد وأطلقه الأمين. وعظم حقده على البرامكة بسبب ذلك، فضيّق
عليهم وبعث إلى يحيى يلومه فيما ستر عنه من أمر عبد الملك. فقال: يا
أمير المؤمنين كيف يطلعني عبد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة، وهل
إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك؟ أعيذك باللَّه أن تظنّ هذا الظنّ
إلا أنه كان رجلا متجمّلا يسرني أن يكون في بيتك مثله، فوليته ولا
خصصته. فعاد إليه الرسول يقول: إن لم تقر قتلت الفضل ابنك. فقال: أنت
مسلّط علينا فافعل ما أردت. وجذب الرسول الفضل وأخرجه فودّع أباه وسأله
في الرضا عنه فقال: رضي الله عنك، وفرّق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد
عندهما شيئا فجمعهما واحتفظ [1] إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر
فكان يبكيه ويبكي قومه حزنا عليهم. ثم انتهى به إلى طلب الثأر بهم فكان
يشرب النبيذ مع جواريه ويأخذ سيفه وينادي وا جعفراه وا سيداه والله
لأثأرنّ بك ولأقتلنّ قاتلك، فجاء ابنه وحفص كان مولاه إلى الرشيد
فأطلعاه على أمره، فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفرا والأسف
عليه، فبكى إبراهيم وقال: والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله فانتهره
الرشيد وأقامه. ثم دخل عليه ابنه بعد ليال قلائل فقتله يقال بأمر
الرشيد.
وكان يحيى بن خالد محبوسا بالكوفة ولم يزل بها كذلك إلى أن مات سنة
تسعين ومائة ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين. وكانت البرامكة من
محاسن العالم ودولتهم من أعظم الدول وهم كانوا نكتة محاسن الملّة
وعنوان دولتها.
__________
[1] بمعنى غضب.
(3/281)
الصوائف وفتوحاتها
كان الرشيد على ما نقله الطبري وغيره يغزو عاما ويحجّ عاما، ويصلّي كل
يوم مائة ركعة ويتصدّق بألف درهم، وإذا حجّ حمل معه مائة من الفقهاء
ينفق عليهم، وإذا لم يحجّ أنفق على ثلاثمائة حاج نفقة شائعة. وكان
يتحذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه
للمال. وكان إذا لم يغز غزا بالصائفة كبار أهل بيته وقوّاده، فغزا
بالصائفة سنة سبعين سليمان بن عبد الله البكائيّ، وقيل غزا بنفسه.
وغزا بالصائفة سنة اثنتين وسبعين إسحاق بن سليمان بن عليّ فأثخن في
بلاد الروم وغنم وسبى. وغزا في سنة أربع وسبعين بالصائفة عبد الملك بن
صالح وقيل أبوه عبد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء، وأصابهم برد
سديد سقطت منه أيدي الجند. ثم غزا بالصائفة سنة سبع وسبعين عبد الرزاق
بن عبد الحميد الثعلبي. وفي سنة ثمان وسبعين زفر بن عاصم وغزا سنة إحدى
وثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف وأغزى عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة
وافتتح مطمورة. وكان الفداء بين المسلمين والروم وهو أوّل فداء في دولة
بني العبّاس، وتولّاه القاسم بن الرشيد وأخرج له من طرسوس الخادم
الوالي عليها، وهو أبو سليمان فرج فنزل المدامس [1] على اثني عشر
فرسخا، وحضر العلماء والأعيان وخلق من أهل الثغور وثلاثون ألفا من
الجند المرتزقة فحضروا هنالك وجاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم
من الأسرى، وكان أسرى المسلمين ثلاثة آلاف وسبعمائة. وغزا بالصائفة سنة
اثنتين وثمانين عبد الرحمن ابن عبد الملك بن صالح دقشوسوس [2] مدينة
أصحاب الكهف. وبلغهم أنّ الروم سلوا [3] ملكهم قسطنطين بن أليون وملكوا
أمّه ربى [4] وتلقّب عطشة، فأثخنوا في البلاد ورجعوا. وفي سنة ثلاث
وثمانين حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل ابن يحيى فماتت ببردعة،
ورجع من كان معها فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة، فتجهّز إلى بلاد
الإسلام، وخرج من باب الأبواب وسبى أكثر من مائة ألف فارس وفعلوا ما لم
يسمع بمثله. فولّى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلى أذربيجان
وأمره
__________
[1] اللامس: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[2] أفسوس: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[3] سملوا: ابن الأثير ج 6 ص 159.
[4] ريني: ابن الأثير ج 6 ص، وتلقب عطسة.
(3/282)
بالنهوض إليهم وأنزل خزيمة بن خازم بنصيبين
ردءا لهم. وقيل إنّ سبب خروجهم أنّ سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمي [1]
فدخل ابنه إلى الخزر مستجيشا بهم على سعيد، ودخلوا أرمينية وهرب سعيد
والخزر ورجعوا [2] . وفي سنة سبع وثمانين غزا بالصائفة القاسم بن
الرشيد وجعله قربانا للَّه وولّاه العواصم، فأناخ على قرّة وضيّق عليها
وبعث عليها ابن جعفر بن الأشعث فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله وفادى
الروم بثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين على أن يرحل عنهم، فأجابهم
وتمّ بينهم الصلح ورحل عنهم، وكان ملك الروم يومئذ ابن زيني وقد تقدّم
ذكره فخلعه الروم وملّكوا يقفور [3] وكان على ديوان خراجهم ومات [4]
زيني بعد خمسة أشهر. ولما ملك يقفور كتب إلى الرشيد بما استفزّه فسار
إلى بلاد الروم وغازيا، ونزل هرقّل وأثخن في بلادهم حتى سأل يقفور
الصلح، ثم نقض العهد وكان البرد شديد الكلب وظنّ يقفور أنّ ذلك يمنعه
من الرجوع، فلم يمنعه ورجع حتى أثخن في بلاده ثم خرج من أرضهم. وغزا
بالصائفة سنة ثمان وثمانين إبراهيم بن جبريل ودخل من درب الصفصاف فخرج
إليه يقفور ملك الروم وانهزم وقتل من عسكره نحوا من أربعين ألفا. وفي
هذه السنة رابط القاسم بن الرشيد أبق [5] وفي سنة تسع وثمانين كتب
الرشيد وهو بالري كتب الأمان لشروين أبي قارن، ونداهرمز [6] جدمازيار،
مرزبان خستان صاحب الديلم [7] . وبعث بالكتب مع حسين الخادم إلى
طبرستان فقدم خستان ونداهرمز فأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما وضمن
ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان وذكرا كيف توجه الهادي لهما وحاصرهما.
وفي سنة ست وثمانين كان فداء بين المسلمين حتى لم يبق بأرض الروم مسلم
إلّا فودي. وفي سنة تسعين سار الرشيد إلى بلاد الروم بسبب ما قدمناه من
غدر يقفور في مائة وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع
والمتطوّعة ومن ليس له ذكر في الديوان، واستخلف المأمون
__________
[1] المنجّم السّلميّ: ابن الأثير ج 6 ص 163.
[2] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 6 ص 163: «فانهزم سعيد،
وأقاموا نحو سبعين يوما، فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد،
فأصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر وسدّا الثّلمة» .
[3] نقفور: ابن الأثير ج 6 ص 185.
[4] الأصح ماتت ريني وهي أم الملك قسطنطين كما مرّ معنا.
[5] أوق: مرّ ذكرها سابقا.
[6] لوندا هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 191.
[7] وأمانا لمرزبان بن جستان صاحب الديلم: المرجع السابق.
(3/283)
بالرقّة وفوّض إليه الأمور، وكتب إلى
الآفاق بذلك، فنزل على هرقل [1] فحاصرها ثلاثين يوما وافتتحها وسبى
أهلها وغنم ما فيها. وبعث داود بن عيسى بن موسى في سبعين ألفا غازيا في
أرضهم ففتح الله عليه وخرّب ونهب ما شاء. وفتح شراحيل بن معن بن زائدة
حصن الصّقالبة وديسة [2] وافتتح يزيد بن مخلد حصن الصّفصاف وقونية [3]
، وأناخ عبد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع واستعمل الرشيد حميد بن
معيوب [4] على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلى قبرس، فهزم وحرّق
وسبى من أهلها نحوا من سبعة عشر ألفا وجاء بهم إلى الواقعة [5] فبايعوا
بها وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار. ثم سار الرشيد إلى حلوانة [6]
فنزل بها وحاصرها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر وبعث يقفور
بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن ابنه دينارين وعن بطارقته
كذلك، وبعث يقفور في جارية من بني هرقلة [7] وكان خطبها ابنه فبعث بها
إليه. ونقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن يحيى فأثخن فيهم وسباهم
ولما رجع الرشيد من غزاته خرجت الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء
وأغاروا ورجعوا فاستنقذ أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم. وفيها غزا
يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضايق
فانهزم، وقتل في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس. واستعمل الرشيد
على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يولّيه خراسان وضمّ إليه ثلاثين ألفا
من أهل خراسان، وأخرجه إلى الصائفة وسار بالعساكر الإسلامية في أثره
ورتّب بدرب الحرث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة،
وأغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرّك من مكانه.
وبعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلى طرسوس وأقام هو بدرب الحرث وأمر
قوّاده بهدم الكنائس في جميع الثغور وأخذ أهل الذمّة بمخالفة زيّ
المسلمين في ملبوسهم
__________
[1] هرقلة: ابن الأثير ج 6 ص 195.
[2] دلسة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[3] ملقونية: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[4] حميد بن معيوف: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[5] الرافقة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[6] طوانة: ابن الأثير ج 6 ص 196.
[7] الجارية هي من سبي هرقلة: المرجع السابق.
(3/284)
وأمر هرثمة ببناء هرطوس [1] وتولّى ذلك،
فخرج الخادم بأمر الرشيد وبعث إليها جندا من خراسان ثلاثة أيام،
وأشخص ألفا من أهل المصيصة وألفا من أنطاكية فتمّ بناؤها سنة
اثنتين وتسعين. وفي هذه السنة تحرّكت الخرميّة بناحية أذربيجان
فبعث إليهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر، ووافاه
بقرملين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي. وفيها استعمل الرشيد على
الثغور ثابت بن مالك الخزاعيّ فافتتح مطمورة وكان الفداء على يديه
بالبرذون. ثم كان الفداء الثاني وكان عدّة أسرى المسلمين فيه ألفين
وخمسمائة.
الولاية على النواحي
كان على إفريقية مزيد بن حاتم كما قدّمناه ومات سنة إحدى وسبعين
بعد أن استخلف ابنه داود فبعث الرشيد على إفريقية أخاه روح بن حاتم
فاستقدمه من فلسطين وبعثه إلى إفريقية. وعزل أبا هريرة محمد بن
فروج عن الجزيرة وقتله وولى مكانه [2] وفي سنة ست وسبعين ولّى
الرشيد على الموصل الحكم بن سليمان، وقد كان خرج الفضل الخارجي
بنواحي نصيبين وغنم وسار إلى داريا وآمد وأرزق وخلاط فقفل لذلك
ورجع إلى نصيبين، فأتى الموصل وخرج إليه الفضل في عساكرها فهزمهم
على الزاب. ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه. وفي سنة ست وسبعين
مات روح بن حاتم بإفريقية واستخلف حبيب بن نصر المهلّبيّ فسار
الفضل إلى الرشيد فولّاه على إفريقية، وعاد إليها فاضطرب عليه
الخراسانية من جند إفريقية ولم يرضوه، فولّى مكانه هرثمة بن أعين
وبعث في العساكر فسكن الاضطراب، ورأى ما بإفريقية من الاختلاف
فاستعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه، وقدم إلى العراق بعد سنتين ونصف
من مغيبه. وفي هذه ولّى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر
مضافا إلى ما بيده من الريّ وسجستان وغيرهما. ثم عزله عن مصر وولّى
عليها إسحاق بن سليمان فثارت به الجوقيّة من مصر وهم جموع من قيس
وقضاعة فأمدّه بهرثمة بن أعين فأذعنوا وولّاه عليهم شهرا، ثم عزله
وولى عبد الملك بن
__________
[1] هي مدينة طرسوس.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 114: «وفيها- 171-
قتل الرشيد ابا هريرة محمد ابن فروخ، وكان على الجزيرة، فوجّه إليه
الرشيد ابا حنيفة حرب بن قيس، فأحضره إلى بغداد وقتله» .
(3/285)
صالح مكانه، وفيها فوّض أمر دولته إلى يحيى
بن خالد. وفي سنة ثمانين بعث جعفر ابن يحيى إلى الشام في القوّاد
والعساكر ومعه السلاح والأموال والعصبية التي كانت بها فسكنت
الفتنة ورجع، فولّاه خراسان وسجستان فاستعمل عليها عيسى بن جعفر،
وولّى جعفر بن يحيى المريس وقدم هرثمة بن أعين من إفريقية فاستخلفه
جعفر على الحرد [1] وعزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرّويان
وولّاها عبد الله بن حازم، وولّى على الجزيرة سعيد بن مسلم وولّى
على الموصل يحيى بن سعيد الحريشيّ فأساء السيرة وطالبهم بخراج سنين
ماضية، فانجلا أكثر أهل البلد، وعزله الرشيد وولّى عليها يحيى بن
خالد. وفي سنة إحدى وثمانين ولّى على إفريقية محمد بن مقاتل بن
حكيم العكّيّ وكان أبوه من قوّاد الشيعة ومحمد رضيع الرشيد وتلاده
فلما استعفى هرثمة ولّاه مكانه، واضطربت عليه إفريقية، وكان
إبراهيم بن الأغلب بها واليا على الزاب، وكان جند إفريقية يرجعون
إليه فأعانه وحمل الناس على طاعته بعد أن أخرجوه فكرهوا ولاية محمد
بن مقاتل وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب
ولاية إفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصر
معونة إلى والي إفريقية ويحمل هو كل سنة أربعين ألف دينار فاستشار
الرشيد بطانته فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب، وولّاه الرشيد في
محرّم سنة أربعة وثمانين، فضبط الأمور وقبض على المؤمنين وبعث بهم
إلى الرشيد فسكنت البلاد. وابتنى مدينة بقرب القيروان وسماها
العباسية وانتقل إليها بأهله وخاصّته وحشمه، وصار ملك إفريقية في
عقبه كما يذكر في أخبارها إلى أن غلبهم عليها الشيعة العبيديّون.
وكان يزيد بن مزيد على أذربيجان فولّاه الرشيد سنة ثمان وثمانين
على أرمينية مضافة إليها، وولّى خزيمة بن خازم على نصيبين. وولّى
الرشيد سنة أربع وثمانين على اليمن ومكّة حمادا البربريّ وعلى
السّند داود بن يزيد بن حاتم وعلى الجبل يحيى الحريشيّ، وعلى
طبرستان مهرويّة الزاي، وقتله أهل طبرستان سنة خمس وثمانين، فولّى
مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ. وفيها توفي يزيد بن زائدة
الشيطاني [2] ببردعة وكان على أذربيجان وأرمينية فولّى مكانه ابنه
أسد بن يزيد بن حاتم. وفي سنة تسع وثمانين سار الرشيد إلى الري
وولّى على طبرستان والريّ ودنباوند
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 152: أنه ولّى جعفر بن يحيى
الحرس.
[2] يزيد بن مزيد بن زائدة الشيبانيّ: ابن الأثير ج 6 ص 169.
(3/286)
وقوس [1] وهمذان عبد الملك بن مالك. وفي
سنة تسعين ولّى على الموصل خالد بن يزيد بن حاتم وقد تقدّم لنا
ولاية هرثمة على سليمان ونكبة علي بن عيسى. في سنة إحدى وتسعين ظفر
حمّاد البربري بهيصيم اليماني [2] وجاء به إلى الرشيد فقتله، وولّى
في هذه السنة على الموصل محمد بن الفضل ابن سليمان وكان على مكة
الفضل بن العبّاس أخي المنصور والسفّاح.
خلع رافع بن الليث بما وراء النهر
كان رافع بن نصر [3] بن سيّار من عظماء الجند فيما وراء النهر وكان
يحيى بن الأشعث قد تزوّج ببعض النساء المشهورات الجمال وتسرّى
عليها وأكثر ضرارها وتشوّقت إلى التخلّص منه، فدسّ إليها رافع بن
الليث بأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه وتحل للأزواج ثم
ترجع وتتوب، فكان وتزوّجها وشكا يحيى بن الأشعث إلى الرشيد وأطلعه
على جلّ الأمر، فكتب إلى علي بن عيسى أن يفرّق بينهما ويقيم الحدّ
على رافع ويطوف به في سمرقند مقيّدا على حمار ليكون عظة لغيره،
ففعل ذلك ولم يجده [4] رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس ولحق بعلي
بن عيسى في بلخ فهمّ بضرب عنقه، فشفع فيه ابنه عيسى فأمره
بالانصراف إلى سمرقند فرجع إليها ووثب بعاملها فقتله وملكها وذلك
سنة تسعين. فبعث عليّ لحربه ابنه عيسى فلقيه رافع وهزمه وقتله،
فخرج علي بن عيسى لقتله وسار من بلخ إلى مرو مخافة عليها من رافع
ابن الليث. ثم كانت نكبة علي بن عيسى وولاية هرثمة بن أعين على
خراسان وكان مع رافع بن الليث جماعة من القوّاد ففارقوه إلى هرثمة
منهم عجيف بن عنبسة وغيره. وحاصر هرثمة رافع بن الليث في سمرقند
وضايقه، واستقدم طاهر ابن الحسين من خراسان فحضر عنده وعاث حمزة
الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند، وحمل إليه عمال هراة
وسجستان الأموال. ثم خرج عبد الرحمن إلى نيسابور سنة أربع وتسعين
وجمع نحوا من عشرين ألفا، وسار إلى حمزة فهزمه وقتل من أصحابه خلقا
وأتبعه إلى هراة حتى كتب المأمون إليه وردّه عن
__________
[1] قومس: المرجع السابق.
[2] هيصم اليماني: المرجع السابق.
[3] رافع بن الليث بن نصر: ابن الأثير ج 6 ص 195.
[4] مقتضى السياق: ولم يحدّه.
(3/287)
ذلك. وكانت سنة ثلاث وتسعين بين هرثمة وبين
أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة وأسر بشرا أخا رافع وبعث به
إلى الرشيد وافتتح بخارى. وكان الرشيد قد سار من الرقّة بعد مرجعه
من الصائفة التي بني فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع، وكان
قد أصابه المرض، فاستخلف على الرقّة ابنه القاسم وضمّ إليه خزيمة
بن خازم، وجاء إلى بغداد، ثم سار منها إلى خراسان في شعبان سنة
اثنتين وتسعين واستخلف عليها ابنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام
معه فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد، وحذّره
البقاء مع الأمين فأسعفه الرشيد بذلك وسار معه.
وفاة الرشيد وبيعة الأمين
ولما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في سفر سنة ثلاث
وتسعين وقد اشتدّت عليه، فبعث ابنه المأمون إلى مرو ومعه جماعة من
القوّاد عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن خزيمة [1]
والعبّاس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسديّ والحريشيّ [2] ونعيم
بن خازم، ثم سار الرشيد إلى موسى واشتدّ به الوجع وضعف عن الحركة
وثقل فأرجف الناس بموته، وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم
يطق النهوض فقال: ردّوني. ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافع أسيرا
بعث به هرثمة بن أعين فأحضره وقال: لو لم يبق من أجلي إلا حركة
شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم أمر قصّابا ففصل أعضاءه ثم أغمي عليه
وافترق الناس. ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان
فيها وأنزل فيه قوما قرءوا فيه القرآن حتى ختموه وهو في محفة على
شفيره ينظر إليه وينادي وا سوأتاه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ثم مات وصلّى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل
بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة أو
تزيد وترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار. ولما مات الرشيد
بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه، والمأمون يومئذ بمرو وكتب
حمويّة مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبة ببغداد وهو سلام أبو
مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة فكان أوّل من فعل ذلك.
وكتب صالح إلى أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد، وبعث معه
بالخاتم والبردة
__________
[1] أسد بن يزيد: ابن الأثير ج 6 ص 212.
[2] السندي الحرشيّ: ابن الأثير ج 6 ص 212.
(3/288)
والقضيب، فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلى
قصر الخلافة وصلّى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزّى نفسه
والناس، وبايعته جملة أهله ووكّل سليمان بن المنصور وهم [1] عم
أبيه وأمّه بأخذ البيعة على القوّاد وغيرهم. ووكّل السّنديّ بأخذ
البيعة على الناس سواهم، وفرّق في الجند ببغداد رزق سنين. وقدمت
أمّه زبيدة من الرقّة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من
الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد، وكان قد كتب إلى معسكر الرشيد وهو
حيّ مع بكر بن المعتمر لما اشتدت علّة الرشيد وإلى المأمون بأخذ
البيعة لهم وللمؤتمن أخيهما، وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر
والخزائن والأموال برأي الفضل. وإلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من
الحرم والأموال، وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس
والحجابة. وكان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها
سنه فجحدها فضربه وحبسه. ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه
ولما قرءوا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين وارتحل الفضل بالناس
لهواهم في وطنهم وتركوا عهود المأمون. فجمع المأمون من كان عنده من
قوّاد أبيه وهم عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن
قحطبة والعلاء مولى الرشيد وكان على حجابته والعبّاس بن المسيّب بن
زهير وكان على شرطته وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته وعبد الرحمن
بن عبد الملك ابن صالح وذو الرئاستين الفضل بن سهل وهو أخصهم به
وأحظاهم عنده، فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردّهم ومنعه الفضل
من ذلك وقال: أخشى عليك منهم ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكّرهم
البيعة والوفاء، وتحذّرهم الحنث، فبعث سهل بن صاعد ونوفلا الخادم
بكتابه إليهم بنيسابور فقرأ الفضل كتابة وقال:
أنا واحد من الجند. وشدّ عبد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح
وقال: لو كان صاحبك حاضرا لوضعته فيه وسبّ المأمون وانصرفوا، ورجع
سهل ونوفل بالخبر إلى المأمون فقال له الفضل بن سهل: هؤلاء أعداء
استرحت منهم وأنت بخراسان، وقد خرج بها المقنّع وبعده يوسف البر
فتضعضعت لهما الدولة ببغداد، وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف
كان الحال، وأنت اليوم نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، فاصبر
وأنا أضمن لك الخلافة. فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك
فقال: إنّ عبد الله بن مالك والقوّاد أنفع مني لشهرتهم وقوّتهم
وأنا خادم
__________
[1] لعلها هو عم.
(3/289)
لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك. وجاءهم
الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون، فمنهم من امتنع ومنهم
من طرده، فرجع إلى المأمون وأخبره فقال أنت بالأمر وأشار عليه
الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء
السّنة وردّ المظالم ويعقد على الصفوف ففعل جميع ذلك، وأكرم
القوّاد. وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى ابن كعب وللربعيّ مكان
أبي داود وخالد بن إبراهيم، ولليماني مكان قحطبة ومالك بن الهيثم،
وكل هؤلاء نقباء الدولة. ووضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به
أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبيّنا. وأقام المأمون يتولّى ما
كان بيده من خراسان والريّ وأهدى إلى الأمين وكتب إليه وعظّمه. ثم
إنّ الأمين عزل لأوّل ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة
واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقرّ المؤتمن على قنّسرين والعواصم.
وكان على مكّة داود بن عيسى بن موسى ابن محمد، وعلى حمص إسحاق بن
سليمان فخالف عليه أهل حمص وانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين
وولّى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشيّ، فقتل عدّة منهم وحبس عدّة،
واضرم النار في نواحيها، وسألوا الأمان فأجابهم، ثم انتقضوا فقتل
عدّة منهم ثم ولّى عليهم إبراهيم بن العبّاس.
أخبار رافع وملوك الروم
وفي سنة ثلاث وتسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند وملكها وقام بها
ومعه طاهر ابن الحسين فاستجاش رافع بالترك فأتوه وقوي بهم. ثم
انصرفوا وضعف أمره، وبلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان وحضر عند
المأمون فأكرمه. ثم قدم هرثمة على المأمون فولّاه الحرس وأنكر
الأمين ذلك كله. وفي هذه السنة قتل يقفور [1] ملك الروم في حرب
برجان لسبع سنين من ملكه، وملك بعده ابنه استبراق وكان جريا فمات
لشهرين وملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيس، ووثب عليه الروم
سنة أربع وتسعين بعد اثنتين من ملكه فهرب وترهّب وولّوا بعده إليوق
[2] القائد.
__________
[1] هو نقفور وقد مرّ في مكان آخر من هذا الكتاب.
[2] أليون القائد: ابن الأثير ج 6 ص 236.
(3/290)
الفتنة بين الأمين
والمأمون
ولما قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته،
فأجمع قطع علائقه من الأمور وأغرى الأمين بخلعه والبيعة للعهد
لابنه موسى، ووافقه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسّنديّ وغيرهما
ممن يخشى المأمون. وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عبد الله وناشدوا
الأمين في الكفّ عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم
لنكث عهده. ولجّ الأمين في ذلك، وبلغه أنّ المأمون عزل العبّاس بن
عبد الله بن مالك عن الريّ وأنه ولىّ هرثمة بن أعين على الحرس وأنّ
رافع بن الليث استأمن له فآمنه وسار في جملته فكتب إلى العمّال
بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فبلغ ذلك المأمون
فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه. وأرسل الأمين إليه
العبّاس بن موسى بن عيسى وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحا
صاحب الموصل، ومحمد بن عيسى بن نهيك يطلب منه تقديم ابنه موسى عليه
في العهد ويستقدمه. فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان
فقالوا: إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان فأحضر الوفد
وأعلمهم بامتناعه مما جاءوا فيه. واستعمل الفضل بن سهل العبّاس بن
موسى ليكون عينا لهم عند الأمين ففعل، وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار.
ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان وأن يكون له بخراسان
صاحب بريد يكاتبه، فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلى قعوده بالريّ
ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتب والعيون، وهو مع ذلك
يتخوّف عاقبة الخلاف. وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه وجيفونة
فارق الطاعة، وملوك الترك منعوا الضريبة، فخشي المأمون ذلك وحفظ
عليه الأمر بأن يولّى خاقان وجيفونة بلادهما، ويوادع ملك كابل،
ويترك الضريبة لملوك الترك الآخرين. وقال له بعد ذلك ثم أضرب الخيل
بالخيل والرجال بالرجال فان ظفرت وإلا لحقت بخاقان مستجيرا فقبل
إشارته وفعلها، وكتب إلى الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر
الّذي أمره الرشيد بلزومه وأنّ مقامه به أشدّ غناء ويطلب إعفاء من
الشخوص إليه، فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده فخلعه وبايع
لولده في أوائل سنة خمس وتسعين وسمّاه الناطق بالحق، وقطع ذكر
المأمون والمؤتمن من المنابر وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى
وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك
(3/291)
وعلى حرسه أخوه عيسى، وعلى رسائله صاحب
القتلى. وكان يدعى له على المنابر ولابنه الآخر عبد الله ولقبه
القائم بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين
والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك، وسارت الكتب من ذلك إلى
المأمون ببغداد من عيونه بها، فقال المأمون: هذه أمور أخبر الرائي
عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحق وبعث الفضل بن سهل إلى جند الريّ
بالأقوات والإحسان، وجمع إليهم من كان بأطرافهم. ثم بعث على الريّ
طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعيّ أبا العباس أميرا
وضمّ إليه القوّاد والأجناد فنزلها ووضع المسالح والمراصد، وبعث
الأمين عصمة بن حمّاد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وأمره أن يقيم
بهمذان ويبعث مقدمته إلى ساوة.
خروج ابن ماهان لحرب طاهر ومقتله
ثم جهّز الأمين علي بن ماهان إلى خراسان لحرب المأمون، يقال دسّ
بذلك الفضل ابن سهل العين له عند الفضل بن الربيع، فأشار به عليهم
لما في نفوس أهل خراسان من النفرة عن ابن ماهان فجدّوا في حربه.
ويقال حرّض أهل خراسان على الكتب إلى ابن ماهان ومخادعته إن جاء.
فأمره الأمين بالمسير وأقطعه نهاوند وهمذان وقم وأصبهان وسائر كور
الجبل حربا وخراجا، وحكّمه في الخزائن وأعطاه الأموال وجهّز معه
خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجليّ
وهلال بن عبد الله الحضرميّ في الانضمام، وركب إلى باب زبيدة
ليودّعها فأوصته بالمأمون بغاية ما يكون أن يوصى به، وأنه بمنزلة
ابنها في الشفقة والموصلة وناولته قيدا من فضة وقالت له: إن سار
إليك فقيّده به مع المبالغة في البرّ والأدب معه. ثم سار عليّ بن
عيسى من بغداد في شعبان وركب الأمين يشيعه في القوّاد والجنود ولم
ير عسكر مثل عسكره. ولقي السفر بالسابلة فأخبروه أنّ طاهرا بالريّ
يعرض أصحابه، وهو مستعدّ للقتال. وكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان
يعدهم ويمنّيهم، وأهدى لهم التيجان والأسورة على أن يقطعوا الطرق
عن خراسان فأجابوا، ونزل أوّل بلاد الريّ فأشار عليه أصحابه باذكاء
العيون والطلائع، والتحصن بالخندق فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له،
وهو إمّا أن يتحصن بالريّ فيثب إليه أهلها، وإمّا أن يفرّ إذا قربت
منه خيلنا. ولما كان من الريّ على عشرة فراسخ استشار أصحاب طاهر في
لقائه فمالوا إلى التحصّن بالريّ فقال: أخاف أن يثب بنا أهلها.
وخرج فعسكر على خمسة فراسخ
(3/292)
منها في أقل من أربعة آلاف فارس. وأشار
عليه أحمد بن هشام كبير جند خراسان أن ينادي بخلع الأمين وبيعة
المأمون لئلا يخادعه عليّ بن عيسى بطاعة الأمين وأنه عامله ففعل،
وقال عليّ لأصحابه بادروهم فإنّهم قليل ولا يصبرون على حدّ السيوف
وطعن الرماح، وأحكم تعبية جنده وقدّم بين يديه عشر رايات مع كل
راية ألف رجل، وبين كل رايتين غلوة سهم ليقاتلوا نوبا. وعبّى طاهر
أصحابه كراديس وحرّضهم وأوصاهم، وهرب من أصحاب طاهر جماعة فجلدهم
عليّ وأهانهم، فأقصر الباقون وجدّوا في قتاله. وأشار أحمد بن هشام
على طاهر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح ويذكّر علي بن عيسى بها
نكثه. ثم اشتدّ القتال وحملت ميمنة عليّ فانهزمت ميسرة طاهر وكذلك
ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها، واعتمد طاهر القلب فهزموهم ورجعت
المجنبتان منهزمة وانتهت الهزيمة إلى علي وهو ينادي بأصحابه فرماه
رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله وجاء برأسه إلى طاهر، وحمل شلوه على
خشبة وألقي في بئر بأمر طاهر. وأعتق طاهر جميع غلمانه شكرا للَّه
وتمت الهزيمة. واتبعهم أصحاب طاهر فرسخين واقفوهم فيها اثنتي عشرة
مرّة يقتلونهم في كلها ويأسرونهم حتى جنّ الليل بينهم. ورجع طاهر
إلى الريّ وكتب إلى الفضل: كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بين
يدي وخاتمة في إصبعي، وجنده متصرّفون تحت أمري والسلام. وورد
الكتاب على البريد في ثلاثة أيام فدخل الفضل على المأمون وهنّأه
بالفتح ودخل الناس فسلّموا عليه بالخلافة ووصل رأس عليّ بعدها
بيومين وطيف به في خراسان، ووصل الخبر إلى الأمين بمقتل علي وهزيمة
العسكر فأحضر الفضل بن الربيع وكيل المأمون ببغداد وهو نوفل الخادم
فقبض ما بيده من ضياعه وغلّاته وخمسين ألف ألف درهم كان الرشيد
وصّاه بها وندم الأمين على فعله، وسعت الجند والقوّاد في طلب
الأرزاق فهمّ عبد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين وفرّق فيهم
أموالا.
مسير ابن جبلة إلى طاهر ومقتله
ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين
ألف فارس إلى همذان، وولّاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان
وأمدّه بالمال، فسار إلى همذان وحصّنها وجاءه طاهر فبرز إليه
ولقيه، فهزمه طاهر إلى البلد. ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى
المدينة وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهر
وخرج من همذان. وكان طاهر عند نزوله عليها قد خشي من
(3/293)
صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه فجهّز العسكر
على همذان وسار إلى قزوين في ألف فارس ففرّ عاملها وملكها ثم ملك
همذان وسار أعمال الجبل وأقام عبد الرحمن بن جبلة في أمانه. ثم
أصاب منه بعض الأيام غرّة فركب وهجم عليه في عسكر فقاتله طاهر أشدّ
القتال حتى انهزم أصحابه وقتل ولحق فلّهم بعبد الله وأحمد ابني
الحريشيّ في عسكر عظيم بعثهما الأمين مددا لعبد الرحمن فانهزموا
جميعا إلى بغداد. وأقبل طاهر نحو البلاد وحده وأخذه إلى حلوان
فخندق بها وجمع أصحابه.
بيعة المأمون
وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر ويخاطب بأمير المؤمنين
وعقد للفضل بن سهل على المشرق كلّه من جبل همذان إلى البيت طولا
ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا وحمل له عمّاله ثلاثة
آلاف ألف درهم. وعقد له لواء ذا شعبتين ولقّبه ذا الرئاستين يعني
الحرب والعلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل العلم نعيم بن حازم
وولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج.
ظهور السفياني
هو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ويلقّب أبا العميطر
لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقّبوه بها، وكانت أمّه نفيسة بنت عبد
الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب وكان يقول أنا ابن شيخي صفّين
يعني عليا ومعاوية، وكان من بقايا بني أمية بالشام وكان من أهل
العلم والرواية فادّعى لنفسه بالخلافة آخر سنة خمس وتسعين وأعانه
الخطّاب بن وجه العلس [1] مولى بني أمية، كان متغلّبا على صيدا
فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور، وكان أكثر أصحابه من كلب. وكتب
إلى محمد بن صالح بن بيهس يدعوه ويتهدّده فأعرض عنه وقصد السفيانيّ
القيسية فاستجاشوا بمحمد بن صالح فجاءهم في ثلاثمائة فارس من
الصبات [2] ومواليه. وبعث السفيانيّ يزيد بن هشام للقائهم في اثني
عشر ألفا فانهزم يزيد وقتل من أصحابه ألفان وأسر ثلاثة آلاف أطلقهم
ابن بيهس وحلقهم. ثم جمع جمعا مع ابنه القاسم وخرجوا
__________
[1] الخطاب بن وجه الفلس: ابن الأثير ج 6 ص 249.
[2] الضباب ومواليه: المرجع السابق.
(3/294)
إلى ابن بيهس فانهزموا وقتل القاسم وبعث
برأسه إلى الأمين. ثم جمع جمعا آخر وخرجوا مع مولاه المعتمر
فانهزموا وقتل المعتمر فوهن أمر السفيانيّ وطمعت فيه قيس. ثم إنّ
ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نمير وأوصاهم بيعة مسلمة بن يعقوب بن
علي بن محمد بن سعد بن مسلمة عبد الملك بالخلافة. وقال لهم:
تولوه وكيدوا به السفيانيّ فإنكم لا تتقون بأهل بيته. وعاد ابن
بيهس إلى حوران واجتمعت نمير على مسلمة فبايعوه فقتل منهم وجمع
مواليه ودخل على السفيانيّ فقيّده وحبس رؤساء بني أمية، وأدنى
القيسيّة وجعلهم بطانة. وأفاق ابن بيهس من مرضه فجاء إلى دمشق
وحاصرها وسلّمها له القيسية في محرّم سنة ثمان وتسعين وهرب مسلمة
والسفيانيّ إلى المزّة وملك ابن بيهس دمشق إلى أن قدم عبد الله بن
طاهر دمشق وسار إلى مصر ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلى
العراق ومات بها.
مسير الجيوش إلى طاهر ورجوعهم بلا قتال
ولما قتل عبد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلى أسد بن يزيد
بن مزيد ودعاه لحرب طاهر بعد أن ولي الأمين الخلافة، وشكر لأسد فضل
الطاعة والنصيحة وشدّة البأس ويمن التقيّة، وطلب منه أرزاق الجند
من المال لسنة، وألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال،
وأن لا يطلب بحسبان ما يفتتح. فقال قد أشططت ولا بدّ من مناظرة
أمير المؤمنين ثم ركب ودخل على الأمين فأمر بحبسه، وقيل إنه طلب
ولدي المأمون كانا عند أمّهما ابنة الهادي ببغداد بحملهما معه، فإن
أطاعه المأمون وإلّا قتلهما. فغضب الأمين لذلك وحبسه، واستدعى عبد
الله بن حميد بن قحطبة فاشتط وكذلك فاستدعى أحمد بن مزيد واعتذر له
عبس أسد وبعثه لحرب طاهر، وأمر الفضل بأن يجهّز له عشرين ألف فارس
وشفع في أسد ابن أخيه فأطلقه. ثم سار وسار معه عبد الله بن حميد بن
قحطبة في عشرين ألفا أخرى، وانتهوا إلى حلوان وأقاموا [1] وطاهر
بموضعه ودس المرجفين في عسكرهم بأنّ العطاء والمنع ببغداد والجند
يقبضون أرزاقهم. حتى مشى الجند بعضهم إلى بعض، واختلفوا واختلفوا
واقتتلوا ورجعوا من غير لقاء. وتقدّم طاهر فنزل
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 256: «واقام أحمد وعبد الله
بخانقين واقام طاهر بموضعه، ودس الجواسيس والعيون، وكانوا يرجفون
في عسكر أحمد وعبد الله» .
(3/295)
حلوان وجاءه هرثمة في جيش من عند المأمون
ومعه كتاب بأن يسلّم إلى هرثمة ما ملكه من المدن ويتقدّم إلى
الأهواز ففعل ذلك.
أمر عبد الملك بن صالح وموته
قد تقدّم لنا حبس عبد الملك بن صالح إلى أن مات الرشيد وأخرجه
الأمين، ولما كان أمر طاهر جاء عبد الملك إلى الأمين وأشار عليه
بأن يقدّم أهل الشام لحربه، فهم أجرأ من أهل العراق وأعظم نكاية في
العدوّ، وضمن طاعتهم بذلك، فولّاه الأمين أهل الشام والجزيرة وقرّ
له بالمال والرجال واستحثه، فسار إلى الرقّة وكاتب أهل الشام
فتسالموا إليه فأكرمهم وخلع عليهم وكثرت جموعه. ثم مرض واشتدّ مرضه
ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيّين وأهل الشام بسبب دابة أخذت
لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر وعرفها عند بعض أهل الشام،
فاقتتلوا وأرسل إليهم عبد الملك بالقتل فلم يقتلوا، وكثر القتل
وأظهر عبد الملك النصرة للشاميّين وانتقض الحسين ابن عليّ
للخراسانيين، وتنادى الناس بالرجوع إلى بلادهم فمضى أهل حمص وقبائل
كلب فانهزم أهل الشام وأقام عبد الملك بن صالح بالرقّة، توفي بها.
خلع الأمين وإعادته
ولما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن عليّ في الجند بالرحيل
إلى بغداد وقدمها فلقيه القوّاد ووجوه الناس ودخل منزله واستدعاه
الأمين من جوف الليل فامتنع وأصبح، فوافى باب الجسر وأغراهم بخلع
الأمين وحذّرهم من نكثة ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا ولقيه أصحاب
الأمين فانهزموا، وذلك منتصف رجب سنة ست، وأخذ البيعة للمأمون من
الغد ووثب العبّاس بن عيسى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد
وحبسه بقصر المنصور ومعه أمّه زبيدة، فلما كان من الغد طلب الناس
أرزاقهم من الحسين وماج بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد فنكر
استبداد الحسين بخلع الأمين وليس بذي منزلة ولا حسب ولا نسب ولا
غنائم.
وقال أسد الحربي قد ذهب أقوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بفكّه يا
معشر الحربيّة، فرجع الناس على أنفسهم باللائمة وقالوا ما قتل قوم
خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف. ثم نهضوا إلى الحسين وتبعهم
أهل الأرض فقاتلوه قتالا شديدا وأسروه ودخل
(3/296)
أسد الحربي إلى الأمين وكسر قيوده وأجلسه
على أريكته، وأمرهم الأمين بلبس السلاح فانتهبه الغوغاء وجيء
بالحسين إليه أسيرا، فاعتذر إليه وأطلقهم وأمره بجمع الجند والمسير
إلى طاهر وخلع عليه ما وراء بابه ووقف الناس يهنئونه بباب الجسر
حتى إذا خف عنه الناس قطع الجسر وهرب. وركب الجند في طلبه وأدركوه
على فرسخ من بغداد وقتلوه وجاءوا برأسه إلى الأمين واختفى الفضل بن
الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر.
استيلاء طاهر على البلاد
ولما جاء كتاب المأمون بالمسير إلى الأهواز قدم إليها الحسين بن
عمر الرستميّ وسار في أثره وأتته عيونه بأنّ محمد بن يزيد بن حاتم
قد توجّه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر، فبعث
من أصحابه محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعبّاس بن بخاراخذاه
مددا للرستمي. ثم أمدّهم بقريش بن شبل ثم سار بنفسه حتى كان قريبا
منهم وأشرفوا على محمد بن يزيد مكرم وقد أشار إليه أصحابه بالرجوع
إلى الأهواز والتحصّن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة، فرجع
وأمر طاهر قريش شبل باتّباعه قبل أن يتحصّن بالأهواز، فخرج لذلك
وفاته محمد بن يزيد إلى الأهواز وجاء على أثره فاقتتلوا قتالا
شديدا، وفرّ أصحاب محمد واستمات هو ومواليه حتى قتلوا. وملك طاهر
الأهواز وولّى على اليمامة والبحرين وعمان ثم سار إلى واسط وبها
السّنديّ بن يحيى الحريشيّ والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم،
فهربا عنها وملكها طاهر وبعث قائدا من قوّاده إلى الكوفة وبها
العبّاس بن الهادي، فخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلى طاهر
وكذلك فعل المنصور بن المهدي بالبصرة والمطّلب بن عبد الله بن مالك
بالموصل، وأقرّهم طاهر على أعمالهم. وبعث الحرث بن هشام وداود بن
موسى إلى قصر ابن هبيرة وأقام بجرجابا [1] ولما بلغ الخبر بذلك إلى
الأمين بعث محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري إلى قصر
ابن هبيرة فقاتلهم الحرث وداود قتالا شديدا وهزموهم إلى بغداد.
وبعث الأمين أيضا الفضل بن موسى على الكوفة، فبعث إليه طاهر بن
العلاء في جيش فلقيه في طريقه فأراد مسالمته بطاعة المأمون كيادا
ثم قاتله فانهزم إلى بغداد. ثم سار طاهر إلى المدائن
__________
[1] جرجرايا: ابن الأثير ج 6 ص 264، طرنايا: الطبري ج 10 ص 168.
(3/297)
وعليها البرمكي والمدد متصل له كل يوم،
فقدم قريش بن شبل، فلما أشرف عليهم وأخذ البرمكي في التعبية فكانت
لا تتمّ له، فأطلق سبيل الناس وركب بعضهم بعضا نحو بغداد، وملك
طاهر لمدائن ونواحيها ثم نزل صرصر وعقد بها جسرا.
بيعة الحجاز للمأمون
ولما أخذ الأمين كتب العهد من مكة وأمر داود بن عيسى، وكان على مكة
والمدينة بخلع المأمون قام في الناس ونكر نقض العهد، وذكّرهم ما
أخذ الرشيد عليهم من الميثاق لابنيه في المسجد الحرام أن يكونوا
على الظالم، وأنّ محمدا بدأ بالظلم والنكث وخلع أخويه وبايع لطفل
صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلما ثم دعا إلى خلعه
والبيعة للمأمون فأجابوه، ونادى بذلك في شعاب مكّة وخطبهم.
وكتب إلى ابنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعله، وذلك في رجب سنة ست
وتسعين.
وسار من مكة على البصرة وفارس وكرمان إلى المأمون وأخبره فسرّ بذلك
وولّاه مكانه وأضاف إليه ولاية عكّ وأعطاه خمسمائة ألف درهم وسيّر
معه ابن أخيه العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم ويزيد بن
جرير بن مزيد بن خالد القسريّ في جند كثيف عاملا على اليمن ومرّوا
بطاهر وهو محاصر بغداد فأكرمهم وأقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون
وأطاعوه.
حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها ومقتل
الأمين
ولما اتصلت بالأمين هذه الأحوال وقتل الحسين بن علي بن عيسى، شمّر
لحرب طاهر واستعدّ له وعقد في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة [1]
شتى وأمر عليهم عليّ بن محمد بن عيسى نهيك، وأمرهم بالمسير إلى
هرثمة فساروا إليه والتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا وأسر
قائدهم عليّ بن محمد فبعث به هرثمة إلى المأمون وترك النهروان،
وأقام طاهر بصرصر والجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها. ثم بذل
الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم فسار إليه من عسكر طاهر نحو من
خمسة آلاف ففرّق فيهم الأموال وقوّد جماعة من الحربيّة ودسّ إلى
رؤساء
__________
[1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 6 ص 267: «وفي هذه السنة اي سنة ست
وتسعين ومائة عقد محمد الأمين في رجب وشعبان، نحوا من اربعمائة
لواء لقوّاد شتى، وأمّر عليهم عليّ بن محمّد بن عيسى بن نهيك ... »
(3/298)
الجند في عسكر طاهر ورغّبهم فشغبوا على
طاهر وسار كثير منهم إلى الأمين، وانضموا إلى قوّاد الحربية وقوّاد
بغداد وساروا إلى صرصر. فعبّى أصحابه كراديس وحرّضهم ووعدهم.
ثم تقدّم فقاتلهم مليّا من النهار وانهزم أصحاب الأمين، وغنم أصحاب
طاهر عسكرهم.
ولما وصلوا إلى الأمين فرّق فيهم الأموال وقوّد منهم جماعة ولم يعط
المنهزمين شيئا ودس إليهم طاهر واستمالهم فشغبوا على الأمين فأمر
هؤلاء المحدثين بقتالهم وطاهر يراسلهم وقد أخذ رهائنهم على الطاعة،
وأعطاهم الأموال. فسار فنزل باب الأنبار بقوّاده وأصحابه واستأمن
إليه كثير من جند الأمين، وثارت العامّة وفتقت السجون، ووثب
الشطّار على الأخيار ونزل زهير بن مسيّب الضبيّ من ناحية، ونصب
المجانيق والعرّادات، وحفر الخنادق ونزل هرثمة بناحية أخرى وفعل
مثل ذلك. ونزل عبيد الله بن الوضّاح بالشماسيّة ونزل طاهر بباب
الأنبار فضيّق على الأمين بمنزله ونفد ما كان بيد الأمين من
الأموال، وأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب
والفضة ليفرّقها في الجند، وأحرق الحديثة فمات بها خلق، واستأمن
سعيد ابن مالك بن قادم إلى طاهر فولّاه الأسواق وشاطئ دجلة، وأمره
بحفر الخنادق وبناء الحيطان وكل ما غلب عليه من الدروب، وأمده
بالرجال والأموال. ووكّل الأمين بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور
إلى دجلة بعض قوّاده فألحّ في إحراق الدور والرمي بالمجانيق وفعل
طاهر مثل ذلك. وكثر الخراب ببغداد وصار طاهر يخندق على ما يمكنه من
النواحي ويقاتل من لم يجبه، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم
والقوّاد وعجز الأجناد عن القتال. وقام به الباعة والعيّارون
وكانوا ينهبون أموال الناس. واستأمن إليه القائد الموكّل بقصر صالح
فأمّنه وسلّم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الأخيرة من
سنة سبع. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين.
واجتمع العيّارون والباعة والأجناد وقاتلوا أصحاب طاهر في قصر
صالح، وقتلوا منهم خلقا وكاتب طاهر القوّاد بالأمان وبيعة المأمون
فأجابه بنو قحطبة كلّهم ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي
العبّاس الطائي وغيرهم. وفشل الأمين وفوّض الأمر إلى محمد بن عيسى
بن نهيك وإلى الحسن الهرش، ومعهم الغوغاء يتولون أمر تلك الفتنة.
وأجفل الناس من بغداد وافترقوا في البلاد. ولما وقع بطاهر في قصر
صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني وتخريبها ثم قطع الميرة
عنهم وصرف السفن التي تحمل فيها إلى الفرات. فغلت الأسعار
(3/299)
وضاق الحصار واشتدّ كلب العيّارين فهزموا
عبيد الله بن الوضّاح وغلبوه على الشماسية. وجاء هرثمة ليعينه
فهزموه أيضا وأسروه ثم خلصه أصحابه. وعقد طاهر جسرا فوق الشماسية
وعبر إليهم وقاتلهم أشدّ قتال فردّهم على أعقابهم، وقاتل منهم بشرا
كثيرا وعاد ابن الوضّاح إلى مركزه وأحرق منازل الأمين
بالخيزرانيّة، وكانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم. وأيقن
الأمين بالهلاك وفرّ منه عبد الله بن حازم ابن خزيمة إلى المدائن
لأنه اتّهمه وحمل عليه السفلة والغوغاء. ويقال بل كاتبه طاهر وقبض
ضياعه فخرج عن الأمين وقصد الهرش ومن معه جزيرة العبّاس من نواحي
بغداد فقاتلهم بعض أصحاب طاهر وهزموهم وغرق منهم خلق كثير وضجر
الأمين وضعف أمره وسار المؤتمن بن الرشيد إلى المأمون فولّاه جرجان
وكاتب طاهر خزيمة بن حازم ومحمد بن علي بن موسى بن ماهان وأدخلهما
في خلع الأمين فأجاباه ووثبا آخر محرّم من سنة ثمان وتسعين فقطعا
جسر دجلة وخلع الأمين وبعث إلى هرثمة وكان بإزائهما فسار إليهما من
ناحيته ودخل عسكر المهدي وملكه وقدم طاهر من الغد إلى المدينة
والكرخ فقاتلهم وهزمهم وملكها عنوة ونادى بالأمان ووضع الجند بسوق
الكرخ وقصر الوضّاح وأحاط بمدينة المنصور وقصر زبيدة وقصر الخلد من
باب الجسر إلى باب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة ونصب
عليها المجانيق. واعتصم الأمين في أمّه وولده بمدينة المنصور،
واشتدّ عليه الحصار وثبت معه حاتم بن الصقر والحريشيّ والأفارقة.
وافترق عامّة الجنود والخصيان والجواري في الطرق وجاء محمد بن حاتم
بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي إلى الأمين وقالا له
بقي من خيلك سبعة آلاف فرس نختار سبعة آلاف فنجعلهم عليها ونخرج
على بعض الأبواب ولا يشعر بنا أحد ونلحق بالجزيرة والشام فيكون ملك
جديد، وربما مال إليك الناس ويحدث الله أمرا فاعتزم على ذلك وبلغ
الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك
والسندي بن شاهك يتهدّدهم إن لم يصرفوه عن ذلك الرأي. فدخلوا على
الأمين وحذّروه من ابن الصقر وابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم
فيتقرّبوا به إلى طاهر وأشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن
أعين والخروج إليه وخالفهم إليه ابن الصقر وابن الأغلب. وقالوا له
إذا ملت إلى الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى وتطيّر من طاهر
وأرسل إلى هرثمة يستأمنه. فأجابه أنه يقاتل في أمانة المأمون فمن
دونه
(3/300)
وبلغ ذلك طاهرا فعظم عليه أن يكون الفتح
لهرثمة واجتمع هو وقوّاده لهرثمة وقوّاده في منزل خزيمة بن حازم،
وحضر سليمان والسنديّ وابن نهيك وأخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه
أبدا وأنه يخرج إلى هرثمة ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو
الخلافة فرضي. ثم جاء الهرش وأسرّ إليه أنهم يخادعونه وأنهم
يحملونها مع الأمين إلى هرثمة فغضب وأعدّ رجالا حول قصور الأمين،
وبعث إليه هرثمة لخمس بقين من محرّم سنة ثمان وتسعين بأن يتربص
ليلة لأنه رأى أولئك الرجال بالشط فقال: قد افترق عني الناس ولا
يمكنني المقام لئلا يدخل عليّ طاهر فيقتلني.
ثم ودّع ابنيه وبكى وخرج إلى الشط وركب حراقة هرثمة. وجعل هرثمة
يقبل يديه ورجليه وأمر بالحراقة أن تدفع وإذا بأصحاب طاهر في
الزواريق فشدّوا عليها ونقبوها ورموهم بالآجر والنشّاب فلم يرجعوا
ودخل الماء إلى الحراقة فغرقت. قال أحمد بن سالم صاحب المظالم:
فسقط الأمين وهرثمة وسقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة وأخرجه وشق
الأمين ثيابه. قال: وخرجت إلى الشطّ فحملت إلى طاهر فسألني عن نفسي
فانتسبت وعن الأمين فقلت غرق فحملت إلى بيت وحبست فيه حتى أعطيتهم
مالا فاديتهم به على نفسي. فبعد ساعة من الليل فتحوا عليّ الباب
وأدخلوا عليّ الأمين عريان في سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة
فاسترجعت وبكيت. ثم عرفني فقال:
ضمّني إليك فإنّي أجد وحشة شديدة، فضممته وقلبه يخفق فقال: يا أحمد
ما فعل أخي؟ فقلت: حيّ قال: قبح الله بريدهم كان يقول قد مات، يريد
بذلك العذر عن محاربته فقلت: بل قبّح الله وزراءك، فقال: تراهم
يفون لي بالأمان؟
قلت: نعم إن شاء الله. ثم دخل محمد بن حميد الطاهري فاستثبتنا حتى
عرفه وانصرف، ثم دخل علينا منتصف الليل قوم من العجم منتضين سيوفهم
فدافع عن نفسه قليلا ثم ذبحوه ومضوا برأسه إلى طاهر ثم جاءوا من
السحر فأخذوا جثته. ونصب طاهر الرأس حتى رآه الناس ثم بعث به إلى
المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب ومعه الخاتم والبردة
والقضيب وكتب معه بالفتح فلما رآه المأمون سجد. ولما قتل الأمين
نادى طاهر بالأمان ودخل المدينة يوم الجمعة فصلّى بالناس وخطب
للمأمون وذمّ الأمين، ووكّل بحفظ القصور الخلافيّة، وأخرج زبيدة
أمّ الأمين وابنيه موسى وعبد الله إلى بلاد الزاب الأعلى. ثم أمر
بحمل الولدين إلى المأمون وندم الجند على قتله وطالبوا طاهر
بالأموال فارتاب بجند بغداد وبجنده أنهم تواطئوا عليه
(3/301)
وثاروا به لخمس من قتل الأمين. فهرب إلى
عقرقوبا [1] ومعه جماعة من القوّاد ثم تعبّى لقتالهم فجاءوا
واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث فصفح عنهم وتوعّدهم أن
يعودوا لمثلها، وأعطاهم أربعة أشهر. واعتذر إليه مشيخة بغداد
وحلفوا أنهم لم يدخلوا الجند في شيء من ذلك، فقبل منهم ووضعت أهل
الحرب أوزارها واستوسق [2] لأمر للمأمون في سائر الأعمال والممالك.
ثم خرج الحسن الهرش في جماعة من السفلة واتبعه كثير من بوادي
الأعراب ودعا إلى الرضا من آل محمد وأتى النيل فجبى الأموال ونهب
القرى وولّى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من
كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، فقدم سنة تسعة
وتسعين وفرّق العمّال وولّى طاهرا على الجزيرة والموصل والشام
والمغرب وأمره أن يسير إلى قتال نصر بن شبيب، وأمر هرثمة بالمسير
إلى خراسان وكان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر
في كيسوم شمالي حلب، وكان له ميل إلى الأمين.
فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة وغلب على ما جاوره من البلاد،
وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وعبر إلى شرقي العراق
وحصر حرّان. وسأل منه شيعة الطالبيّين أن يبايعوا لبعض آل عليّ لما
رأوه من بني العبّاس ورجالهم وأهل دولتهم وقال: والله لا أبايع
أولاد السوداوات، فيقول: إنه خلقني ورزقني. قالوا:
فبعض بني أمية قال قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل ولو سلم عليّ رجل
مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هو اي في بني العباس، وإنما حاربتهم
لتقديمهم العجم على العرب. ولما سار إليه طاهر نزل الرقّة وأقام
بها وكتب إليه يدعوه إلى الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه وجاء الخبر
إلى طاهر في الرقّة وفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان وأنّ
المأمون حضر جنازته، ونزل الفضل قبره وجاءه كتاب المأمون يعزّيه
فيه. وبعد قتل الأمين كانت الوقعة بالموصل بين اليمانية والنزارية
وكان عليّ بن الحسن الهمدانيّ متغلّبا على الموصل فعسف بالنزارية
وسار عثمان بن نعيم البرجميّ إلى ديار مصر وشكا إلى أحيائهم
واستنفرهم فسار معه من مصر عشرون ألفا وأرسل إليهم عليّ بن الحسن
بالرجوع إلى ما يريدون، فأبى عثمان فخرج عليّ في أربعة آلاف فهزمهم
وأثخن فيهم وعادا إلى البلد.
__________
[1] عقرقوف: ابن الأثير ج 6 ص 296.
[2] لعلها استوثق.
(3/302)
ظهور ابن طباطبا
العلويّ
لما بعث المأمون الحسن بن سهل إلى العراق وولّاه على ما كان افتتحه
طاهر من البلاد والأعمال تحدّث الناس أنّ الفضل بن سهل غلب على
المأمون واستبدّ عليه وحجبه عن أهل بيته وقوّاده، فغضب بنو هاشم
ووجوه الناس واجترءوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة وكان أبو
السرايا السريّ بن منصور يذكر أنه من بني شيبان من ولد هانئ بن
قبيصة بن هانئ بن مسعود، وقيل من بني تميم بالجزيرة وطلب فعبر إلى
شرقي الفرات وأقام هنالك يخيف السابلة، ثم لحق بيزيد بن مزيد
بأرمينية في ثلاثين فارسا فقوّده وقاتل معه الحرمية [1] وأسر منهم
وأخذ منهم غلامه أبا الشوك. ومات يزيد بن مزيد فكان مع ابنه أسد
وعزل أسد فسار إلى أحمد بن مزيد. ولما بعث الأمين أحمد بن مزيد
لحرب هرثمة بعثه طليعة إلى عسكره، فاستماله هرثمة فمال إليه ولحق
به وقصد بني شيبان مع الجزيرة واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة واجتمع
إليه أزيد من ألفي فارس. فلما قتل الأمين تعصى هرثمة عن أرزاقهم
فغضب واستأذن في الحج فأذن له وأعطاه عشرين ألف درهم ففرّقها في
أصحابه ومضى وأوصاهم باتباعه، فاجتمع له منهم نحو مائتين وسار إلى
عين التمر فأخذوا عاملها وقسّموا ماله ولقوا عاملا آخر بمال موقور
على ثلاثة أنفار فاقتسموه وأرسل هرثمة عسكرا خلفه فهزمهم ودخل
البرية ولحق به من تخلّف من أصحابه فكثر جمعه وسار نحو دقوقا
وعليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس فخرج وقاتله فهزمه ورجع إلى
القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان وأخذ أمواله. وسار
إلى الأنبار وعليها إبراهيم الشّرويّ مولى المنصور، فقتله وأخذ ما
فيها وعاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها. ثم قصد الرقّة ومرّ
بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس فأقام عنده أربعة أشهر
يقاتل قيسا بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلى طوق. وسار أبو السرايا
إلى الرقّة فلقي محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن
المثنّى بن الحسن السبط بن عليّ وتلقّب أبوه إبراهيم طباطبا فدعاه
إلى الخروج، وأنفذ إلى الكوفة فدخلاها وبايعهم أهلها على بيعة
الرضا من آل محمد، ونهب أبو السرايا قصر العبّاس بن موسى بن عيسى،
وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر ما لا يحصى، وذلك منتصف جمادى
الأخيرة سنة تسعة
__________
[1] الخرّميّة: ابن الأثير ج 6 ص 303.
(3/303)
وتسعين، وقيل إنّ أبا السرايا مطله هرثمة
بأرزاق أصحابه فغضب ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا. ولما ملك
الكوفة هرع إليه الناس والأعراب من النواحي فبايعوه، وكان عليها
سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل فبعث إليه زهير بن المسيّب
الضبّي في عشرة آلاف وخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه
واستباحوا عسكره وأصبح محمد بن طباطبا من الغد ميتا فنصب أبو
السرايا مكانه غلاما من العلويّة، وهو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد
بن عليّ بن الحسين واستبد عليه، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام
به وبعث الحسن بن سهل عبدوس ابن محمد بن خالد المروروذي في أربعة
آلاف فلقيه أبو السرايا منتصف رجب وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد
كانوا بين قتيل وأسير، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وبعث
جيوشا إلى البصرة وواسط، وولّى على البصرة العبّاس بن محمد بن عيسى
بن محمد الجعفري، وعلى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن عليّ بن زين
العابدين وجعل إليه الموسم. وعلى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر
الصادق، وعلى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى الأهواز
زيد بن موسى الصادق، فسار إلى البصرة وأخرج عنها العبّاس بن محمد
بن داود بن الحسن المثنّى إلى المدائن وأمره أن يأتي بغداد من
الجانب الشرقيّ ففعل. وكان بواسط عبد الله بن سعد الخرشي من قبل
الحسن بن سهل ففرّ أمامهم وبعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه
لحرب أبي السرايا، وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا له، فرجع بعد
امتناع، وسار إلى الكوفة في شعبان وبعث الحسن إلى المدائن وواسط
عليّ بن أبي سعيد وأبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة فوجه
جيشا إلى المدائن فملكوها في رمضان. وتقدّم فنزل نهر صرصر وعسكر
هرثمة بإزائه غدوة. وسار عليّ بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصر
بها أصحاب أبي السرايا، ورجع هو من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة
وهرثمة وأتباعه، ثم حصره وقتل جماعة من أصحابه فانجاز إلى الكوفة
ووثب الطالبيّون على دور بني العبّاس وشيعتهم فنهبوها وخرّبوها
وأخرجوهم واستخرجوا ودائعهم عند الناس، وكان على مكة داود بن عيسى
بن موسى بن محمد بن عليّ، فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني
العبّاس. وكان مسرور الكبير قد حجّ في مائة فارس فتعبّى للحرب ودعا
داود إلى حربهم فقال: لا أستحلّ ذلك في الحرم وخرج إلى العراق
وتبعه مسرور وكان حسين الأفطس بسرف يخاف دخول مكة فبلغه
(3/304)
الخبر ان مكة قد خلت من بني العبّاس عنها
فدخل في عشرة أنفس وطاف وسعى ووقف بعرفة ليلا وأتم الحجّ. وأقام
هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها، واستدعى منصور بن المهدي وكاتب رؤساء
الكوفة وسار عليّ بن سعيد من المدائن إلى واسط فملكها، ثم توجه إلى
البصرة واشتدّ الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في
ثمانمائة فارس ومعه صاحبه الّذي نصبه وهو محمد بن جعفر بن محمد
ودخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوما وولّى عليها غسّان صاحب
الحرس بخراسان وعاد وقصد أبو السرايا القادسية وسار منها إلى السوس
ولقي بخراسان مالا حمل من الأهواز فقسّمه في أصحابه. وكان على
الأهواز الحسن بن علي المأموني، فخرج إليه فقاتله فهزمه وافترق
أصحابه وجاء إلى منزله برأس عين من جلولاء ومعه صاحبه محمد وغلامه
أبو الشوك فظفر بهم حمّاد الكندغوش وجاء بهم إلى الحسن بن سهل في
النهروان فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون، وبصاحبه محمد
معه، ونصب شلوه على جسر بغداد. وسار عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة
فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يسمّى زيد النار
لكثرة ما أحرق من دور العبّاسيين وشيعتهم فاستأمن إليه زيد فأمّنه
وأخذه، وبعث الجيوش إلى مكّة والمدينة واليمن لقتال من بها من
العلويين، وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر بمكة فلما بلغه خبر أبي
السرايا ومقتله ولّى وسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى فهرب إلى
مكة، واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزّار لكثرة قتله
وفتكه. ثم بعث رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحجّ بالناس
وقد جاء لذلك أبو الحسن المعتصم في جماعة من القوّاد فيهم حدوية بن
علي بن عيسى بن ماهان، واليا على اليمن من قبل الحسن بن سهل، فخام
العقيلي عن لقائهم واعترض قافلة الكسوة فأخذها ونهب أموال التجّار
ودخل الحجاج إلى مكة عراة فبعث الخلودي من القوّاد فصبحهم وهزمهم
وأسر منهم وتفقد أموال التجّار وكسوة الكعبة وطيبها وضرب الأسراء
عشرة أسواط لكل واحد وأطلقهم وحجّ المعتصم بالناس.
بيعة محمد بن جعفر بمكة
هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ بن زين العابدين
ويلقّب الديباجة، وكان عالما زاهدا ويروى عن أبيه وكان الناس
يكتبون عنه. ولما ملك الحسين الأفطس
(3/305)
مكة كما ذكرناه عاث فيها ونزع كسوة الكعبة
وكساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة وتتبع ودائع
بني العباس وجعلها ذريعة لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة. وقلع
أصحابه شبابيك الحرم وقلع ما على الأساطين من الذهب واستخرج ما كان
في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه وساء أثره في الناس. فلما قتل
أبو السرايا تنكروا له فخشي على نفسه فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع
له بالخلافة فلم يزل به هو وابنه حسن واستعانا عليه بابنه علي حتى
بايعوه ودعوه بأمير المؤمنين. واستبدّ عليه ابنه عليّ وابن الأفطس
بأسوا مما كان قبل، وأفحشوا في الزنا واللواط واغتصاب النساء
والصبيان، فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يردّ إليهم ابن
القاضي كان مغتصبا ببيت ابنه عليّ، فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه
وسلّم إليهم الغلام.
وجاء إسحاق بن موسى بن عيسى من اليمن فاجتمع الناس وخندقوا مكة
وقاتلهم إسحاق وامتنعوا عليه فسار نحو العراق ولقي الجند الذين
بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي ورجاء بن جميل، وهو ابن عم الحسين
بن سهل. فرجع بهم وقاتل الطالبيّين فهزمهم وافترقوا، واستأمن إليه
محمد بن جعفر فأمّنه وملك مكة وسار محمد ابن جعفر إلى الجحفة، ثم
إلى بلاد جهينة فجمع وقاتل هارون بن المسيّب والي المدينة، فانهزم
محمد وفقئت عينه وقتل خلق من أصحابه ورجع إلى موضعه. ولما انقضى
الموسم استأمن الجلودي ورجاء بن جميل فأمّناه ودخل مكة وخطب واعتذر
عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حيّ، وخلع نفسه وسار إلى
الحسن والي المأمون بمرو فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى
العراق فمات بجرجان في طريقه.
مقتل هرثمة
لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع، وكان الحسن بن سهل بالمدائن فلم
يعرج عليه وسار على عقرقوبا إلى النهروان قاصدا خراسان، ولقيته كتب
المأمون متلاحقة أن يرجع إلى الشام والحجاز، فأبى إلّا لقاءه دالة
عليه بما سبق له من نصحه له ولآبائه.
وكان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيّه الأخبار
عنه وما عند الناس من القلق بذلك، وباستبداده عليه ومقامه بخراسان
وعلم الفضل بذلك فأغرى به المأمون وألقى إليه انه سلّط أبا السرايا
وهو من جنده وقد خالف كتبك وجاء معاندا سيّئ القالة، وإن سومح في
ذلك اجترأ غيره فسخطه المأمون وبقي في
(3/306)
انتظاره، ولما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها
لئلا يطوى خبره عن المأمون، وسأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل
يرعد ويبرق، فاستدعاه وقال هرثمة [1] مالأت العلويين وأبا السرايا
ولو شئت إهلاكهم جميعا لفعلت، فذهب يعتذر فلم يمهله وأمر فربس [2]
بطنه وشدخ أنفه وسحب إلى السجن ثم دسّ إليه من قتله.
انتقاض بغداد على الحسن بن سهل
ولما بلغ خبر هرثمة إلى العراق كتب الحسن بن سهل إلى عليّ بن هشام
والي بغداد من قبله أن يتعلّل على الجند الحربية والبغداديين في
أرزاقهم، لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمون على خلعه
وطرد عمّاله، وولوا عليهم إسحاق بن الهادي خليفة المأمون. فلم يزل
الحسين يتلطّف إليهم ويكاتبهم حتى اختلفوا فأنزل عليّ بن هشام
ومحمد ابن أبي خالد في أحد جانبيها، وزهير بن المسيّب في الجانب
الآخر، وقاتلوا الحربية ثلاثة أيام، ثم صالحهم على العطاء وشرع
فيه. وكان زيد بن موسى ابن جعفر قد أخذه عليّ بن أبي سعيد من
البصرة وحبسه كما ذكرناه قبل، فهرب من محبسه وخرج بناحية الأنبار
ومعه أخ لأبي السرايا. ثم تلاشى أمره وأخذوا [3] إلى عليّ بن هشام
ثم جاء خبر هرثمة وقد انتقض محمد بن أبي خالد على عليّ بن هشام بما
كان يستحق به، وغضب يوما مع زهير بن المسيّب فقنعه بالسوط، فسار
إلى الحربية ونصب لهم الحرب، وانهزم عليّ بن هشام إلى صرصر.
وقيل إنّ ابن هشام أقام الحدّ على عبد الله بن علي بن عيسى فغضب
الحربية وأخرجوه. واتصل ذلك بالحسن بن سهل وهو بالمدائن كما قلناه
فانهزم إلى واسط أوّل سنة إحدى ومائتين، والفضل بن الربيع وقد ظهر
من اختفائه من لدن الأمين. وجاء عيسى بن محمد بن أبي خالد من
الرقّة من عند طاهر، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن وهزموا كل من
تعرّض للقائهم من أصحابه. وكان زهير بن المسيّب عاملا للحسن على
جوخى من السواد وكان يكاتب بغداد فركب إليه محمد بن أبي خالد
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 315: « ... فظنّ هرثمة ان قوله
المقبول فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل عليه قال له المأمون:
مالأت أهل الكوفة العلويين، ووضعت أبا السرايا ولو شئت ان تأخذهم
جميعا لفعلت» .
[2] فديس: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 316: «فبعثوا إليه
فأتي به إلى علي بن هشام» .
(3/307)
وأخذه أسيرا وانتهب ماله وحبسه ببغداد عند
ابنه جعفر. ثم تقدّم إلى واسط وبعثه ابنه هارون إلى النيل فهزم
نائب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط ورجع هارون إلى أبيه وتقدّم
نحو واسط فسار الحسن عنها. واقام الفضل بن الربيع مختفيا بها
واستأمن لمحمد وبعثه إلى بغداد. وسار إلى الحسن على البقية ولقيتهم
عساكر الحسن وقوّاده، وانهزم محمد وأصحابه وتبعهم الحسن إلى تمام
الصلح، ثم لحقوا بجرجايا. ووجه محمد ابن ابنه هارون إلى [1] فأقام
بها وسار محمد ابن ابنه أبو رتيل وهو جريح إلى بغداد فمات بها ودفن
في داره سرّا. ومحمد أبو رتيل إلى زهير بن المسيّب فقتله من ليلته
[2] . وقام خزيمة بن خازم بأمر بغداد، وبعث إلى عيسى بن محمد بأن
يتولّى حرب الحسن مكان أبيه، وبلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى
هارون بالنيل فغلبوا وانتهبوها، ولحق هارون بالمدائن. ثم اجتمع أهل
بغداد وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلوه خليفة
للمأمون ببغداد والعراق انحرافا عن الحسن ابن سهل. وقيل إنّ الحسن
لما ساعد أهل بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد على حربه خام [3] عنه
فلاطفه ووعده بالمصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته
ولأهل بغداد وولاية النواحي [4] ، فقبل وطلب خط المأمون بذلك، وكتب
إلى أهل بغداد إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولّوا رجلا من بني
هاشم، فولّوا المنصور بن المهدي وأحصى عيسى أهل عسكره فكانوا مائة
ألف وخمسة وعشرين ألفا. وبعث منصور غسّان بن الفرج إلى ناحية
الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قوّاد الحسن بن سهل وأخذ أسيرا ونزل
النيل. فبعث منصور بن محمد يقطين في العساكر إلى حميد فلقيه حميد
بكونا [5] فهزمه وقتل من أصحابه ونهب ما حول كوثا ورجع إلى النيل
وأقام ابن يقطين بصرصر.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 6 ص 322: «ووجه محمد ابنه عيسى إلى
عرنايا فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فاشتدت جراحات محمد فحمله
ابنه أبو زنبيل إلى بغداد» .
[2] المعنى غير واضح وفي الطبري ج 10 ص 239: «وأقام محمد بجرجرايا
فلما اشتدت الجراحات خلف قواده في عسكره وحمله ابنه أبو زنبيل حتى
ادخله بغداد، ومات محمد بن أبي خالد من ليلية من تلك الجراحات،
وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيّب فأخرجه من
حبسه فضرب عنقه» .
[3] خام: نكص وجبن.
[4] وولاية أي النواحي أحبّ: ابن الأثير ج 6 ص 323 والطبري ج 10 ص
241.
[5] كوثى: ابن الأثير ج 6 ص 324.
(3/308)
أمر المطوعة
ولما كثر الهرج ببغداد وامتدّت أيدي الدعاوي [1] باذاية الناس في
أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك، فخرجوا إلى القرى
فانتهبوها. «واستعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم فتمشّى
الصلحاء من عمل ريظ وكل بينهم ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة
إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم واشتدّ خالد المدريوش من أهل،
بغداد فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من غير أن يغيروا على السلطان. فشدّ على من كان عندهم من أدعار
وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدّى ذلك إلى غير محلته. ثم قام بعده
سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشيّة من أهل خراسان ويكنّى أبا حاتم
فدعا إلى مثل ذلك وإلى العمل بالكتاب والسنة وعلق في عنقه مصحفا
وعبر على العامّة وعلى أهل الدولة فبايعوه على ذلك وعلى قتال من
خالف» . [2] وبلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي
خالد فنكروا ذلك لأنّ أكثر الدعّار كانوا يشايعونهم على أمرهم،
فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له
ولأهل بغداد، وانتظروا كتاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك، فسهل
عليهم أمر المدريوش وسهل.
__________
[1] وفي الكامل ج 6 ص 324: وفي هذه السنة (201) تجردت المتطوعة
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان سبب ذلك ان فسّاق بغداد
والشطّار آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق، وقطعوا الطريق
وأخذوا النساء والصبيان علانية ... »
[2] العبارات بين القوسين مبهمة والأسماء محوّرة، وفي الكامل ج 6 ص
325: فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب، ومشى بعضهم إلى
بعض، وقالوا: إنّما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وأنتم
أكثر منهم، فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفسّاق، ولعجزوا عن الّذي
يفعلونه، فقام رجل يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته،
على ان يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفأجابوه إلى
ذلك، فشد على من يليه من الفسّاق وحبسهم، ورفعهم إلى السلطان إلا
أنه كان لا يرى ان يغيّر على السلطان شيئا. ثم قام بعده رجل من
الحربيّة يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ويكنّى أبا
حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل
بالكتاب والسنّة، وعلّق مصحفا في عنقه، وأمر أهل محلّته ونهاهم،
فقبلوا منه، ودعا الناس جميعا، الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم،
فأتاه خلق عظيم فبايعوه على ذلك، وعلى القتال معه لمن خالفه، وطاف
ببغداد وأسواقها، وكان قيام سهل لأربع خلون من رمضان، وقيام
الدريوش قبله بيومين أو ثلاثة» .
(3/309)
العهد لعليّ الرضا والبيعة لإبراهيم بن
مهدي
ولما بلغ أهل بغداد أنّ المأمون قد بايع بالعهد لعليّ بن موسى
الكاظم ولقبه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد ولبس
الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد
بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة إحدى ومائتين،
وأمره أن يأخذ من عنده من الجند وبني هاشم بذلك، فأجاب بعض وامتنع
بعض، وكبر عليهم إخراج الخلافة من بني العبّاس.
وتولى كبر ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي وشايعهم عليه المطّلب بن
عبد الله بن مالك والسدّي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلّى ومنعوا
[1] يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن
المهدي ومن بعده لإسحاق بن الهادي. ثم بايعوه في المحرم سنة اثنتين
ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر، واستولى على
الكوفة والسواد، وخرج فعسكر بالمدائن وولّى بها على الجانب الغربيّ
العباس بن الهادي، وعلى الجانب الشرقيّ إسحاق بن الهادي. وكان بقصر
ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل، ومعه القوّاد
سعيد بن الساحور وأبو البطّ وغسّان بن الفرج [2] ومحمد بن إبراهيم
بن الأغلب كانوا منحرفين عن حميد فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن
يهلكوه في قصر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميدا
وخلا لهم الجوّ منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى ابن محمد بن أبي
خالد وملك قصر ابن هبيرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجواريه.
ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العبّاس بن موسى الكاظم وأمره أن
يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته وقالوا: لا حاجة لنا بذكر
المأمون وقعدوا عنه.
وبعث إبراهيم بن المهدي من القوّاد سعيدا وأبا البطّ لقتاله، فسرّح
إليهم العبّاس بن عمه وهو عليّ بن محمد الديباجة فانهزم، ونزل سعيد
وأبو البطّ الحيرة ثم تقدّموا لقتال أهل الكوفة، وقاتلهم شيعة بني
العبّاس ومواليهم. ثم سألوا الأمان للعبّاس وخرجوا من داره. ثم
قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى، وبلغ
الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العبّاس قد نقض ورجع عن الأمان فركب
وجاء إلى
__________
[1] لعلها وجهوا.
[2] غسان بن أبي الفرج: ابن الأثير ج 6 ص 342.
(3/310)
الكوفة وقتل من ظفر به ولقيه أهله فاعتذروا
إليه بأنّ هذا فعل الغوغاء، وأنّ العبّاس باق على عهده. ودخل سعيد
وأبو البطّ ونادوا بالأمان وولّوا على الكوفة الفضل بن محمد بن
الصبّاح الكنديّ، ثم عزلوه وولّوا مكانه غسّان بن الفرج فقتل أخا
السرايا.
ثم عزلوه وولّوا الهول ابن أخي سعيد القائد وقدم حميد بن عبد
الحميد لحربهم بالكوفة، فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى
بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل وكان الحسن
متحصّنا بالمدينة، فسرّح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم،
ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوّع حتى غلبه على
منزله فاختفى في غمار النظّار وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحاق
فقال: كل ما كنت أدعو إليه باطل فقالوا: أخرج فأعلم الناس بذلك
فخرج وقال: قد كنت أدعوكم إلى الكتاب والسّنّة ولم أزل على ذلك
فضربوه وقيّدوه وبعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه، وظهر
أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه.
ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم. وزحف حميد بن عبد
الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه وكان
عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولّي لقتالهم بأمر إبراهيم،
فداخلهم في الغدر بإبراهيم وصار يتعلّل عليه في المدافعة عنه، ونمي
ذلك إلى إبراهيم بن هارون أخي عيسى فتنكر له، ونادى عيسى في الناس
بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر، فأمر به
فضرب وحبس عدّة من قوّاده وأفلت العبّاس خليفته، فمشى بعض الناس
إلى بعض ووافقوا العبّاس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر
والكرخ. وثار الرعاع والغوغاء.
وكتب العبّاس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر وخرج
إليه العبّاس والقوّاد وتواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم
العطاء. وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وإخوته، وسأله قتال
حميد فامتنع. ودخل حميد فصلّى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء
ثم قطعه عنهم فغضب الجند. وعاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد
ومدافعته فقاتل قليلا، ثم استأسر لهم وانفض العسكر راجعين إلى
إبراهيم. وارتحل حميد فنزل في وسط المدينة وتسلّل أصحاب إبراهيم
إلى المدائن فملكوها وقاتل بقيّتهم حميد، وكان الفضل بن الربيع مع
إبراهيم فتحوّل إلى حميد وكاتب المطّلب بن عبد الله بن مالك بأن
يسلّموه إليه. وكان سعيد بن الساحور والبطّ وغيرهم من القوّاد
يكاتبون عليّ بن هشام بمثل ذلك. ولما علم إبراهيم بما اجتمعوا
(3/311)
عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جنّ الليل.
ثم تسرّب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث، وبلغ الخبر
إلى حميد وعليّ بن هشام، فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه، وذلك
لسنتين من بيعته. وأقام عليّ بن هشام على شرقي بغداد وحميد على
غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقرّبه حميد ووصله.
قدوم المأمون إلى العراق
لما وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل ونفور الناس من
استبداده وأخيه على المأمون ثم من العهد لعليّ الرضا بن موسى
الكاظم وإخراج الخلافة من بني العبّاس، وكان الفضل بن سهل يطوي ذلك
عن المأمون ويبالغ في اخفائه حذرا من أن يتغيّر رأي المأمون فيه
وفي أخيه. ولما جاء هرثمة للمأمون وعلم أنه يخبره بذلك وأنّ
المأمون يثق بقوله، أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغيّر له
فقتله ولم يصغ إلى كلامه، فازدادت نفرة الشيعة وأهل بغداد وكثرت
الفتن وتحدث القوّاد في عسكر المأمون بذلك، ولم يقدروا على إبلاغه،
فجاءوا إلى عليّ الرضا وسألوه إنهاء ذلك إلى المأمون، فأخبره بما
في العراق من الفتنة والقتال، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال
المأمون: إنما جعلوه أميرا يقوم بأمرهم! فقال: ليس كذلك وإنّ الحرب
الآن قائمة بين ابن سهل وبينه، وإنّ الناس ينقمون عليك مكان الفضل
والحسن ومكاني وعهدك لي، فقال له المأمون: ومن يعلم هذا غيرك؟ فقال
يحيى بن معاذ وعبد العزيز ابن عمران وغيرهما من وجوه قوّادك.
فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا،
وأنّ الناس بالعراق يتّهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا وأنّ طاهر
ابن الحسين مع علم أمير المؤمنين ببلائه قد دفع إلى الرقّة وضعف
أمره، والبلاد تفتّقت من كل جانب، وإن لم يتدارك الأمر ذهبت
الخلافة منهم. فاستيقن المأمون ذلك وأمر بالرحيل واستخلف على
خراسان غسّان بن عبّاد وهو ابن عم الفضل بن سهل، وعلم الفضل بن سهل
بذلك فشرع في عقاب أولئك القوّاد فلم يغنه. ولما نزل المأمون
شرحبيل وثب بالفضل أربعة نفر فقتلوه في الحمام وهربوا، وجعل
المأمون جعلا لمن جاء بهم، فجاء بهم العبّاس بن الهيثم
الدينَوَريّ. فلما حضروا عند المأمون قالوا له:
أنت أمرتنا بقتله! وقيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم: أمرنا
بقتله ابن أخيه، وقال آخرون بل عبد العزيز بن عمران من القوّاد
وعلي وموسى وغيرهم، وأنكر
(3/312)
آخرون. فأمر المأمون بقتلهم وقتل من أقرّوا
عليه من القوّاد، وبعث إلى الحسن بن سهل وسار إلى العراق. وجاءه
الخبر بأنّ الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا واختلط فبعث دينارا
مولاه ووكّله بأمور العسكر وكان إبراهيم بن المهدي وعيسى بالمدائن
وأبو البطّ وسعيد بالنيل والحرب متصلة بينهم. والمطّلب بن عبد الله
بن مالك قد اعتلّ بالمدائن فرجع إلى بغداد وجعل يدعو إلى المأمون
سرّا وإلى خلع إبراهيم وأن يكون منصور بن المهدي خليفة للمأمون
وداخله في ذلك خزيمة بن خازم وغيره من القوّاد. وكتب إلى عليّ بن
هشام وحميد أن يتقدّما فنزل حميد نهر صرصر وعليّ النهروان، وعاد
إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر، وقبض على منصور
وخزيمة ومنع المطّلب مواليه، فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر،
ونزل حميد وعلي بن هشام المدائن وأقاما بها. وزوّج المأمون في
طريقه ابنته من علي الرضا وبعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على
الموسم، وولّاه اليمن وكان به حمدويه بن عليّ ابن عيسى بن ماهان قد
غلب عليه. ولما نزل المأمون مدينة طوس مات عليّ الرضا فجأة آخر صفر
من سنة ثلاث من عنب أكله، وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل بذلك،
وإلى أهل بغداد وشيعته يعتذر من عهده إليه، وأنه قد مات ويدعوهم
إلى الرجوع لطاعته. ثم سار إلى جرجان وأقام بها أشهرا وعقد على
جرجان لرجاء بن أبي الضحّاك قاعدا وراء النهر، ثم عزله سنة أربع
وعقد لغسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان وجرجان
وطبرستان وسجستان وكرمان وروبان ودهارير، ثم عزله بطاهر كما نذكره.
ثم سار إلى النهروان فلقيه أهل بيته وشيعته والقوّاد ووجوه الناس
وكان قد كتب إلى طاهر أن يوافيه بها، فجاء من الرقّة ولقيه هنالك.
وسار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعة فنزل الرصافة ثم
نزل قصره بشاطئ دجلة، وبقي القوّاد في العسكر وانقطعت الفتن وبقي
الشيعة يتكلّمون في لبس الخضرة، وكان المأمون قد أمر طاهر بن
الحسين أن يسأل حوائجه فأوّل شيء سأل لبس السواد فأجابه، وقعد
للناس وخلع عليه وعليهم الثياب السود واستقامت الأمور [1] كانت
الفتنة قد وقعت بالموصل بين بني شامة وبني ثعلبة وكان علي بن الحسن
الهمدانيّ متغلبا عليها في قومه فاستجارت ثعلبة بأخيه محمد فأمرهم
بالخروج إلى البرية ففعلوا، وتبعهم بنو شامة في ألف رجل وحاصروهم
بالقوجاء
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 357: وذلك لسبع بقين
من صفر.
(3/313)
ومعهم بنو ثعلب، وبعث علي ومحمد إليهم
بالمدد فقتلوا جماعة من بني شامة وأسروا منهم، ومن بني ثعلب، فجاء
أحمد بن عمر بن الخطّاب الثعلبي إلى عليّ فوادعه وسكنت الفتنة. ثم
إنّ عليّ بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسفا في الحكم
عليهم، وقال لهم يوما: ألحقوا بعمان. فاجتمعت الأزد إلى السيد بن
أنس كبيرهم وقاتلوه. وكان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج
فادخله عليّ ابن الحسين وبايعه وصلّى بالناس، واشتدّت الحرب. ثم
كانت اصرا [1] على عليّ وأصحابه وأخرجهم الأزد عن البلد إلى
الحديثة ثم اتبعوهم فقتلوا عليّا وأخاه أحمد في جماعة، ولجأ محمد
إلى بغداد وملك السيد بن أنس والأزد الموصل وخطب للمأمون.
ولما قدم المأمون بغداد وفد عليه السيّد بن أنس فشكاه محمد بن
الحسين بن صالح واستعداءه عليه بقتل أخويه وقومه، فقال: نعم يا
أمير المؤمنين! أدخلوا الخارجي بلدك وأقاموه على منبرك وأبطلوا
دعوتك فأهدر المأمون دماءهم.
ولاية طاهر على خراسان ووفاته
كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولّى طاهر بن الحسين الجزيرة
والشرطة بجانبي بغداد والسواد، ودخل عليه يوما في خلوته فأذن له
بالجلوس وبكى ففداه. فقال المأمون أبكي لأمر ذكره ذلّ وستره حزن،
ولن يخلو أحد من شجن، وقضى طاهر حديثه وانصرف. وكان حسين الخادم
حاضرا فدسّ إليه على يد كاتبه محمد بن هارون أن يسأل المأمون عن
مكاتبته على مائة ألف درهم ومثلها للكاتب، وخلا حسين بالمأمون
وسأله ففطن وقال له: إنّ الثناء مني ليس برخيص، والمعروف عندي ليس
بضائع فعيبي عن غير المأمون [2] . فأجابه وركب إلى المأمون وفاوضه
في أمر خراسان وأنها يخشى عليها من الترك وأنّ غسّان بن عبّاد ليس
بكفء لها. فقال: لقد فكّرت في ذلك فمن ترى يصلح لها؟ قال: طاهر بن
الحسين قال: هو خالع، قال: أنا ضامنه. فاستدعاه وعقد له من مدينة
السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان، وعسكر من يومه
خارج بغداد وأقام شهرا تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة
صاحب خراسان. وولّى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عبد الله، وكان
__________
[1] الإصر: الكسر.
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 361: « ... فركب طاهر إلى
احمد بن أبي خالد فقال له:
ان الثناء مني ليس برخيص، وان المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبني عن
عينه (أي عين المأمون) » .
(3/314)
ينوب عن أبيه بالشرطة، فحملها إلى ابن عمه
إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وخرج إلى عمله ونزل الرقّة لقتال نصر بن
شيث. ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس ومائتين. وقيل
في سبب ولاية طاهر خراسان أنّ عبد الرحمن المطوّع جمع جموعا كثيرة
بنيسابور لقتال الحروريّة، ولم يستأذن غسّان بن عبّاد وهو الوالي
على خراسان، فخشي أن يكون ذلك من المأمون فاضطرب وتعصّب له الحسن
بن سهل. وخشي المأمون على خراسان فولّى طاهرا وسار إلى خراسان
فأقام بها إلى سنة سبع، ثم اعتزم على الخلاف وخطب يوما فأمسك عن
الدعاء للمأمون ودعا بصلاح الأمّة، وكتب صاحب البريد بذلك إلى
المأمون بخلعه، فدعا بأحمد بن أبي خالد فقال: أنت ضمنته! فسر
وائتني به ثم جاء من الغد الخبر بموته فقال المأمون للبريد ونعم
الحمد للَّه الّذي قدّمه وأخّرنا، وولّى طلحة من قبله وبعث إليه
المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر
وافتتح أشر وسنة وأسر كاووس بن خالد حدّد وابنه الفضل، وبعث بهما
إلى المأمون ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم
وعروضا بألف ألف ولمكاتبته خمسمائة ألف درهم. ثم خالف الحسين بن
الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد وأتى به إلى
المأمون فعفا عنه.
ولاية عبد الله بن طاهر الرقة ومصر
ومحاربته نصر بن شيث
وفي سنة ست ومائتين بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة،
وأنه استخلف ابنه أحمد، فولّى المأمون عبد الله بن طاهر مكانه وجعل
له ما بين الرقّة ومصر، فأمره بحرب نصر بن شيث وقيل ولّاه سنة خمس،
وقيل سنة سبع، واستخلف على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن
الحسين بن مصعب وهو ابن عمّه، وكتب إليه أبو طاهر كتابا بالوصية
جمع فيه محاسن الآداب والسياسة ومكارم الأخلاق، وقد ذكرناه في
مقدّمة كتابنا، فسار عبد الله بن طاهر لذلك وبعث الجيوش لحصار نصر
ابن شيث بكيسوم في نواحي جانب، ثم سار إليه بنفسه سنة تسع ومائتين،
وأخذ بمخنقه. وبعث إليه المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى
الطاعة، فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده. فتوقف المأمون وقال: ما
باله ينفر مني؟ فقال أبو جعفر: لما
(3/315)
تقدّم من ذنبه. فقال: أفتراه أعظم ذنبا من
الفضل بن الربيع وقد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال
والسلاح وذهب مع القوّاد إلى أخي، وأسلمني وأفسد عليّ حتى كان ما
كان، ومن عيسى بن أبي خالد وقد خالف عليّ ببلدي وأخرب داري، وبايع
لإبراهيم دوني فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق
ودالّة يبقون بها، ونصر ليست له في دولتكم سابقة وإنما كان من جند
بني أمية، وأنا لا أجيب إلى هذا الشرط، ولحّ نصر في الخلاف حتى
جهده الحصار واستأمن فأمّنه عبد الله بن طاهر وخرج إليه سنة عشرة
وبعث به إلى المأمون وأخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره ورجع عبد
الله بن طاهر إلى الرقّة ثم قدم بغداد سنة إحدى عشرة فتلقّاه
العبّاس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس.
الظفر بابن عائشة وبإبراهيم بن المهدي
كان إبراهيم بن محمد بن عبد الوهّاب بن إبراهيم الإمام ويعرف بابن
عائشة ممن تولّى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي ومعه إبراهيم بن
الأغلب ومالك بن شاهين وكانوا قد اختفوا عند قدوم المأمون في نواحي
بغداد. ولما وصل نصر بن شيث وخرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك
اليوم ثم غلبهم بعض الناس فأخذوا في صفر من سنة عشرة، ثم ضربوا حتى
أقرّوا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون وحبسهم فضاق
عليهم المحبس وأرادوا أن ينقبوه، فركب المأمون بنفسه وقتلهم وصلب
ابن عائشة ثم صلّى عليه ودفنه. ثم أخذ في هذه السنة إبراهيم بن
المهدي وهو متنقب في زيّ امرأة يمشي بين امرأتين واستراب به بعض
العسس وقال أين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في
يده فازداد ريبة ورفعهنّ إلى صاحب المسلحة، وجاء بهنّ إلى صاحب
الجسر فذهب به إلى المأمون، وأحضره والغل في عنقه والملحبة [1] على
صدره ليراه بنو هاشم والناس. ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ثم
أخرجه معه عند ما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح، فشفع فيه الحسن
وقيل ابنته بوران، وقيل إنّ إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار المعتصم
وكان عند المأمون فأدخله عليه وأنّبه فيما كان منه. واعتذر بمنظوم
من الكلام ومنثور أتى فيه من وراء الغاية وهو منقول في كتب التاريخ
فلا نطيل بنقله.
__________
[1] الملحبة: كل ما يقطع به.
(3/316)
انتقاض مصر
والاسكندرية
كان السريّ بن محمد بن الحكم واليا على مصر وتوفي سنة خمس ومائتين،
وبقي ابنه عبد الله، فانتقض وخلع الطاعة وأنزل بالإسكندرية جالية
من الأندلس أخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة وغرّبهم إلى
المشرق. ولما نزلوا بالإسكندرية ثاروا وملكوها وولّوا عليهم أبا
حفص عمر البلوطي. وفشل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شيث،
فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم، وقدّم قائدا من قوّاده ولقيه ابن
السريّ وقاتله وأغذّ ابن طاهر المسير فلحقهم وهم في القتال، وانهزم
ابن السريّ إلى مصر وحاصره عبد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان،
وذلك سنة عشرة. ثم بعث إلى الجالية الذين ملكوا الاسكندرية بالحرب،
فسألوا الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحر الروم مما
يلي الاسكندرية ففعل. ونزلوا جزيرة أقريطش واستوطنوها وأقامت في
مملكة المسلمين من أعقابهم دهرا إلى أن غلب عليها الإفرنجة.
العمّال بالنواحي
لما استقرّ المأمون ببغداد وسكن الهيج وذلك سنة أربع، ولّى على
الكوفة أخاه أبا عيسى، وعلى البصرة أخاه صالحا، وعلى الحرمين عبد
الله بن الحسين بن عبد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب، وعلى
الموصل السيّد بن أنس الأزدي، وولّى على الشرطة ببغداد ومعاون
السواد طاهر بن الحسين استقدمه من الرقّة، وكان الحسن بن سهل ولّاه
عليها فقدم واستخلف ابنه عبد الله عليها. ثم ولّاه المأمون سنة خمس
خراسان وأعمال المشرق كلّها واستقدم ابنه عبد الله فجعله على
الشرطة ببغداد مكان أبيه. وولّى يحيى بن معاذ على الجزيرة وعيسى بن
محمد بن أبي خالد على أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. ومات عامل
مصر السري بن محمد بن الحكم فولّى ابنه عبيد الله مكانه. ومات داود
بن يزيد عامل السند فولّى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف
درهم كل سنة. ثم مات يحيى بن معاذ سنة ست واستخلف ابنه أحمد فعزله
المأمون وولّى مكانه عبد الله بن طاهر وضاف إليه مصر، وسيّره
لمحاربة نصر بن شيث وولّى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزطّ سنة
خمس، ثم عزله سنة ست وولّى داود بن منحور [1] مع أعمال البصرة وكور
دجلة واليمامة والبحرين، وولّى
__________
[1] داود بن ماسحور: ابن الأثير ج 6 ص 379، وفي الطبري ج 10 ص 258
داود بن ماسجور.
(3/317)
في سنة سبع محمد بن حفص على طبرستان
والرويان ودنباوند. وفيها أوقع السيد بن أنس بجماعة من عرب بني
شيبان ووديعة بما فشا من إفسادهم في البلاد، فكبسهم بالدسكرة
واستباحهم بالقتل والنهب. وفي سنة تسع ولّى صدقة بن عليّ ويعرف
بزريق على أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك، وقام بأمره أحمد
بن الجنيد الاسكافي فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل
أذربيجان. وكان على جبال طبرستان شهريار بن شروين فمات سنة عشر
وقام مكانه ابنه سابور، فقتله مازيار بن قارن في حرب أسره فيها
وملك جبال طبرستان وفي سنة إحدى عشرة قتل زريق بن عليّ بن صدقة
الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل، وقد كان زريق تغلّب على الجبال
ما بين الموصل وأذربيجان وولّاه المأمون عليها، فجمع وقصد الموصل
لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف فاشتدّ القتال بينهم وقتل السيد
في المعركة فغضب المأمون لقتله، وولّى محمد بن حميد الطوسي على
الموصل وأمره بحرب زريق وبابك الخرّمي فسار إلى الموصل واستولى
عليها سنة اثنتي عشرة. ومات موسى بن حفص عامل طبرستان فولّى
المأمون مكانه ابنه، وولّى حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه وبين
بشر بن داود صاحب السند حرب، وانهزم بشر إلى كرمان ثم قتل محمد بن
حميد الطوسي سنة أربع عشرة قتله بابك الخرّمي وذلك أنه لما فرغ من
أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد
وتجاوز إليه المضايق ووكل بحفظها حتى انتهى إلى الجبل، فصعد وقد
أكمن بابك الرجال في الشعراء فلما جاز ثلاثة فراسخ خرجت عليهم
الكمائن فانهزموا وثبت محمد بن حميد حتى إذا لم يبق معه إلّا رجل
واحد فتسلل يطلب النجاة فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من
أصحابه فقصدوه وقتلوه، وعظم ذلك على المأمون واستعمل عبد الله بن
طاهر على خراسان لأنه كان بلغه أن أخاه طلحة بن طاهر مات وقام عليّ
أخوه مكانه خليفة لعبد الله، وعبد الله بالدينور يجهّز العساكر إلى
بابك فولّى على نيسابور محمد بن حميد فكثر عيث الخوارج بخراسان
فأمره المأمون بالمسير إليها فسار ونزل نيسابور وسأل عن سيرة محمد
بن حميد فسكتوا فعزله لسكوتهم وفي سنة اثنتي عشرة خلع أحمد بن محمد
العمريّ، يعرف بالأحمر العين باليمن، فولّى المأمون ابنه العبّاس
على الجزيرة والثغور والعواصم وأخاه أبا إسحاق المعتصم على الشام
ومصر وسيّر عبد الله بن طاهر إلى خراسان وأعطى لكل واحد منهم
خمسمائة ألف درهم، وبعث المعتصم أبا عميرة
(3/318)
الباذغيسي عاملا على مصر فوثب به جماعة من
القيسية واليمانية فقتلوه سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر
فقاتلهم وافتتح مصر وولّى عليها واستقامت الأمور.
وفي سنة ثلاث عشرة ولّى المأمون غسّان بن عبّاس على السند لما بلغه
خلاف بشر بن داود. وفي سنة أربع عشرة استقدم المأمون أبا دلف وكان
بالكرخ من نواحي همذان منذ سار مع عيسى بن ماهان لحرب طاهر، وقتل
عيسى فعاد إلى همذان وراسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنع. وقال له
ولا أكون مع أحد وأقام بالكرخ. فلما خرج المأمون إلى الريّ أرسل
إليه يدعوه فسار نحوه وجلا بعد أن أغرى عليه أصحابه الامتناع. وفي
سنة أربع عشرة قتل باليمن. وفيها ولّى المأمون عليّ بن هشام الجبل
وقمّ وأصبهان وأذربيجان وخلع أهل قم وكانوا سألوا الحطيطة من
خراجهم وهو ألف ألف درهم لأنّ المأمون لما جاء من العراق أقام
بالريّ أياما وخفّف عنهم من الخراج فطمع أهل قم في مثلها فأبى
فامتنعوا من الأداء فسرّح إليهم عليّ بن هشام وعجيف بن عنبسة
وظفروا بهم وقتلوا يحيى بن عمران وهدموا سورها وجبوها على سبعة
آلاف ألف. وفي سنة ست عشرة ظهر عبدوس الفهريّ بمصر وقتل بعض عمّال
المعتصم، فسار المأمون إلى مصر وأصلحها وأتى بعبدوس فقتله وقدم من
برقة وأقام بمصر وفيها غضب المأمون على علي بن هشام ووجّه عجيفا
وأحمد بن هشام لقبض أمواله وسلامه لما بلغه من عسفه وظلمه وأراد
قتل عجيف واللحاق ببابك فلم يقدر وظفر به عجيف وجاء به إلى المأمون
فأمر بقتله وطيف برأسه في الشام والعراق وخراسان ومصر ثم ألقي في
البحر. وقدم غسّان بن عبّاد من السند ومعه بشر بن داود مستأمنا،
فولّى على السند عمران بن موسى العكيّ وهرب جعفر بن داود القمي إلى
قم فخلع وكان محبوسا بمصر منذ عزله المأمون عن قمّ فهرب الآن وخلع
فغلبه عليّ بن عيسى القميّ وبعث به إلى المأمون فقتل.
الصوائف
وفي سنة مائتين قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين ونصف من ملكه،
وأعادوا ميخاييل بن جرجس المخلوع، وبقي عليهم تسع سنين. ثم مات سنة
خمس عشرة وملك ابنه نوفل وفتح عبد الله بن حرداويه والي طبرستان
البلاد والسيرن من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار
بن شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون وأسرا ياليل ملك
الديلم وذلك سنة إحدى ومائتين. وفيها ظهر بابك الخرّمي في
(3/319)
الجاوندانيّة أصحاب جاوندان سهل، وتفسيره
الدائم الباقي وتفسير خرم فرح، وكانوا يعتقدون مذاهب المجوس وفي
سنة أربع عشرة خرج أبو بلال الصابي الشاري، فسرّح إليه المأمون
ابنه العبّاس في جماعة من القوّاد وقتلوه. وفي سنة خمس عشرة دخل
المأمون بلاد الروم بالصائفة وسار عن بغداد في المحرّم واستخلف
عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو ابن عم طاهر، وولّاه السواد
وحلوان وكور دجلة، ولما وصل تكريت لقيه محمد بن عليّ الرضا فأجازه
وزفّ إليه ابنته أمّ الفضل، وسار إلى المدينة فأقام بها وسار
المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق، ثم أنطاكية ثم المصيصة
وطرطوس. ودخل من هناك فافتتح حصن قرّة عنوة وهدمه.
وقيل بل فتحه على الأمان، وفتح قبله حصن ماجد كذلك. وبعثه أشناس
إلى حصن سدس، ودخل ابنه العبّاس ملطية ووجه المأمون عجيفا وجعفر
الخيّاط إلى حصن سنان فأطاع. وعاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل
الموصل، ولقيه العبّاس ابنه برأس عين. وجاء المأمون منصرفه من
العراق إلى دمشق، ثم بلغه أنّ الروم أغاروا على طرطوس والمصيصة
وأثخنوا فيهم بالقتل. وكتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم
وافتتح كثيرا من معاقلهم وأناخ على هرقلة حتى استأمنوا وصالحوه،
وبعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا منها مطمورة، وبعث يحيى بن أكثم
فأثخن في البلاد وقتل وحرق وسبى. ثم رجع المأمون إلى كيسوم فأقام
بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق.
وفي سنة سبع عشرة رجع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة
فحاصرها مائة يوم، ثم رحل عنها وخلّف عجيفا على حصارها. وجاء نوفل
ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد فارتحل نوفل واستأمن
أهل لؤلؤة إلى عجيف، وبعث نوفل في المهادنة والمأمون على سلوين فلم
يجبه. ثم رجع المأمون سنة ثمان عشرة وبعث ابنه العبّاس إلى بناء
طوانة فبنى بها ميلا في ميل ودورها أربعة فراسخ، وجعل لها أربعة
أبواب ونقل إليها الناس من البلدان.
وفاة المأمون وبيعة المعتصم
ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتدّ مرضه ودخل العراق وهو مريض
فمات بطرسوس وصلّى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته، وعهد
لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته، وذلك منتصف
رجب من سنة ثمان عشرة
(3/320)
ومائتين. وشغب الجند وهتفوا باسم العبّاس
بن المأمون فأحضره وبايع فسكتوا وخرّب لوقته ما كان بناه من مدينة
طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الآلة وأحرق
الباقي.
ظهور صاحب الطالقان
وهو محمد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ زين العابدين بن
الحسين، كان ملازما للمسجد بالمدينة فلزمه شيطان من أهل خراسان
وزيّن له أنه أحق بالإمامة، وصار يأتيه بحجّاج خراسان يبايعونه. ثم
خرج به إلى الجوزجان وأخفاه وأقبل على الدعاء له، ثم حمله على
إظهار الدعوة للرضا من آل محمد على عادة الشيعة في هذا الإبهام كما
قدّمناه. وواقعه قوّاد عبد الله بن طاهر بخراسان المرّة بعد المرّة
فهزموه وأصحابه، وأخرج ناجيا بنفسه ومرّ بنسا، فوشي به إلى العامل
فقبض عليه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فبعثه إلى المعتصم منتصف
ربيع أوّل سنة تسع عشرة، فحبسه عند الخادم مسرور الكبير، ووكّل
بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر.
حرب الزطّ
وهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا
البلاد وولّوا عليهم رجلا منهم اسمه محمد بن عثمان، وقام بأمره آخر
منهم اسمه سماق. وبعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة
في جمادى الآخرة فسار إلى واسط وحاربهم، فقتل منهم في معركة
ثلاثمائة وأسر خمسمائة، ثم قتلهم وبعث برءوسهم إلى باب المعتصم
وأقام قبالتهم سبعة أشهر. ثم استأمنوا إليه في ذي الحجة آخر السنة
وجاءوا بأجمعهم في سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا
فعبّاهم عجيف في السفن على هيئتهم في الحرب ودخل بهم بغداد في
عاشوراء سنة عشرين، وركب المعتصم إلى الشماسة في سفينة حتى رآهم،
ثم غرّبهم إلى عين زربة فأغارت عليهم الروم فلم يفلت منهم أحد.
بناء سامرا
كان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر وسمّاهم المطاربة
وقوما من
(3/321)
سمرقند وأشر وسنّة وفرغانة وسمّاهم
الفرغانة، وأكثر من صبيانهم، وكانوا يركضون الدواب في الطرق
ويختلفون بها ركضا، فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم،
وربما انفرد بعضهم فقتلوه وتأذى الناس من ذلك ونكروه وربما أسمعوا
النكير للمعتصم، فعمد إلى بناء القاطون، وكانت مدينة بناها الرشيد
ولم يستتمها وخربت، فجدّدها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سرّ
من رأى فرخّمها الناس سامرا وسارت دارا لملكهم من لدن المعتصم ومن
بعده واستخلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق.
نكبة الفضل بن مروان
كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقاني [1] ، واتصل
به الفضل بن مروان وهو من البردان، وكان حسن الخط. فلما هلك
الجرمقاني استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى. ولما استخلف
المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال ثم صار
يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفّذها، واختلفت فيه السعايات
عند المعتصم ودسّوا عليه عنده من ملأ مجلسه ومساخره من يعيّر
المعتصم باستبداده عليه وردّ أوامره فحقد له ذلك. ثم نكبه سنة
عشرين وصادره وجميع أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن
الزيات وغرّب الفضل إلى بعض قرى الموصل [2] قد تقدّم لنا حديث بابك
الخرّمي (محاربة بابك الخرمي) وظهوره سنة اثنتين ومائتين بدعوة
جاوندان بن سهل، واتّخذ مدينة البرّ [3] لامتناعه وولى المأمون
حروبه، فهزم عساكره وقتل جماعة من قوّاده وخرب الحصون فيما بين
أردبيل وزنجان، فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى
الحصون التي خرّبها وشحنها بالرجال والأقوات، وحفظ السابلة لجلب
الميرة. وبينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج
في طلبهم واستنقذ ما أخذوه، وقتل كثيرا وأسر أكثر، وبعث بالرءوس
والأسرى إلى المعتصم. وكان ابن البعيث أيضا في قلعة له حصينة من
كور أذربيجان ملكها من يد
__________
[1] الجرمقاني: ابن الأثير ج 6 ص 453.
[2] بياض في الأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 454: «فنفى الفضل
إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسنّ وصار محمد وزيرا كاتبا.»
[3] وفي نسخة اخرى مدينة البذّ (وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص
457.)
(3/322)
ابن الرواد، وكان يصانع بابك ويضيف سراياه
إذا مرّوا به. ومرّ به في هذه الأيام قائده عصمة، وأضافه على
العادة، ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم، فسأله عن
عورات بلاد بابك فدلّه عليها. ثم حبسه وعقد لقائده الأفشين حيدر بن
كاوس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك، فسار إليها ونزل بساحتها وضبط
الطرقات ما بينه وبين أردبيل، وأنزل قوّاده في العساكر ما بينه
وبين أردبيل يتلقّون الميرة من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل
عسكر الأفشين. وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن
إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه. ثم إنّ المعتصم بعث بغا الكبير
بمدد الأفشين بالنفقات وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه وأخبر الأفشين
بذلك بعض جواسيسهم، فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهر قيلا [1]
ثم يرجع إلى أردبيل ففعل ذلك. وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين
في يوم مواعدته لبغا واغذّ المسير، وخرجت سريّة بابك فلقيت قافلة
النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم
المال. ولقوا في طريقهم الهيثم من قوّاد الأفشين فهزموه وامتنع
بحصنه، ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشين قد وصل، فأوقع بهم
وقتل الكثير من جنده، ونجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره في
البرّ فلحقت به، وخرج معهم من موقان إلى البذّ. ولما رجع الأفشين
إلى عسكره استمرّ على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر
النواحي، ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك
فأخذوها، ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرّقه في العساكر،
وأمر الأفشين قوّاده فتقدّموا ليضيّقوا الحصار على بابك في حصن
البذّ، ونزل على ستة أميال منه. وسار بغا الكبير حتى أحاط بقرية
البذّ وقاتلهم وقتلوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من
القوّاد، وبعث إلى الأفشين في المدد، فبعث إليه أخاه الفضل وأحمد
بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بن سهل، وأمره
بمناجزتهم إلى الحرب في يوم عيّنه له، فركبوا في ذلك اليوم، وقصدوا
البذّ وأصابهم برد شديد ومطر، وقاتل الأفشين فغلب من بإزائه من
أصحاب بابك واشتدّ عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلا أشرف به على
جبل يطل منه على الأفشين ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم.
وعمد بابك إلى الأفشين ففضّ معسكره وضجر أصحاب بغا من مقامهم في
رأس الجبل فارتحل بهم ولا يعلم
__________
[1] هو اسم الحصن.
(3/323)
ما تمّ على الأفشين، وقصد حصن البذّ فتعرّف
خبر الافشين ورجع على غير الطريق الّذي دخلوا منه لكثرة مضايقه
وعقباته وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه.
وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس
جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهم وبيّتهم بابك ففضهم ونهبوا ما كان
معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأوّل في أسفل الجبل
وأقام بغا هنالك. وكان طرخان كبير قوّاد بابك قد استأذنه أن يشتوا
بقرية في ناحية مراغة، فأرسل الأفشين إلى بعض قوّاده بمراغة فأسرى
إليه وقتله وبعث برأسه. ودخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر
الخيّاط بالعساكر مددا للأفشين، وبعث إتياخ بثلاثين ألف ألف درهم
لنفقات الجند فأرسلها وعاد، ورحل الأفشين لأوّل فصل الربيع، ودنا
من الحصن وخندق على نفسه. وجاءه الخبر بأنّ قائد بابك واسمه أدين
[1] قد عسكر بإزائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل، فبعث الأفشين
بعض قوّاده لاعتراضهم فسلكوا مضايق وتملّقوا وأغاروا إلى أن لقوا
العيال فأخذوهم وانصرفوا، وبلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم وحاربهم
واستنقذ بعض النساء. وعلم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها
إن رأى بهم ريبا فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا
القوم، وتقدّم الأفشين قليلا قليلا إلى حصن البذّ وكان يأمر الناس
بالركوب ليلا للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب وارتاد في
رءوس تلك الجبال أماكن يتحصّن فيها الرجالة فوجد ثلاثة فأنزل فيها
الرجالة بأزوادهم وسدّ الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم. وكان
يصلّي الصبح بغلس، ثم يسير زحفا ويضرب الطبول الناس لزحفه في
الجبال والأودية على مصافهم، وإذا أمسك وقفوا وكان إذا أراد أن
يتقدّم المضيق الّذي أتى منه عام أوّل خلّف به عسكرا على رأس
العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرسة منه عليهم. وكان بابك متى زحفوا
عليه كمن عسكرا تحت تلك العقبة، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان
الكمين فلم يطق وكان يأمر أبا سعيد وجعفرا لخيّاط وأحمد بن الخليل
بن هشام فيتقدّمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس، ويجلس على تلك ينظر
إليهم وإلى قصر بابك ويقف بابك قبالته في عسكر قليل وقد أكمن بقية
العسكر فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني، فإذا صلّى الأفشين الظهر
رجع إلى خندقه بروذالروذ مصافا بعد مصاف، الأقرب إلى العدوّ ثم
الّذي يليه،
__________
[1] آذين: ابن الأثير ج 6 ص 461.
(3/324)
وآخرين ترجع العسكر الّذي عقبه المضيق حتى
ضجرت الخرّمية من المطاولة، وانصرف بعض الأيام وتأخر جعفر فخرج
الخرّمية من البذّ على أصحابه فردّهم جعفر على أعقابهم، وارتفع
الصياح ورجع الأفشين وقد نشبت الحرب. وكان مع أبي دلف من أصحاب
جعفر قوم من المطوعة فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذّ،
وبعث جعفر إلى الأفشين يستمدّه خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له
وأمره بالتحيّل في الانصراف، وتعلق أولئك المطّوعة بالبذّ وارتفع
الصياح وخرج الكمناء من تحت العقبة، وتبين الأفشين أماكنهم واطّلع
على خدعتهم. وانصرف جعفر إلى الأفشين وعاتبه فاعتذر إليه يستأمن
الكمين وأراه مكانه، فانصرف عن عتابه وعلم أنّ الرأي معه. وشكا
المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الانصراف وتناولوه
بألسنتهم، ثم طلبوه في المناهضة فأذن لهم ووادعهم ليوم معلوم،
وجهّز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجان، وتقدّم إلى مكانه
بالأمس وجهّز العسكر على العقبة على عادته، وأمر جعفرا بالتقدّم
بالمطوعة وأن يأتوا من أسهل الوجوه وأطلق يده بمن يريده من الناشبة
والنفاطين، وتقدّم جعفر إلى مكانه بالأمس والمتطوعة معه، فقاتلوا
وتعلّقوا بسور البذّ حتى ضرب جمعهم ما به وجاء الفعلة بالفئوس وطيف
عليهم بالمياه والأزودة ثم جاء الخرّمية من الباب وكسروا على
المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن
الحرب، ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الافشين بالانصراف وداخلهم
اليأس من الفتح تلك السنة، وانصرف أكثر المطوعة. ثم عاود الأفشين
الحرب بعد أسبوعين وبعث من جوف الليل ألفا من الناشبة إلى الجبل
الّذي وراء البذّ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على
الخرّمية. وبعث عسكرا آخر كمينا تحت ذلك الجبل الّذي وراء البذّ،
وركب هو من الغداة إلى المكان الّذي يقف فيه على عادته. وتقدّم
جعفر الخيّاط والقوّاد حتى صاروا جميعا حول ذلك الجبل، فوثب كمين
بابك من أسفل الجبل بالعسكر الّذي جاء إليه لما فضحهم الصبح،
وانحدر الناشبة من الجبل وقد ركّبوا الأعلام على رماحهم، وقصدوا
جميعا أدين قائد بابك في جفلة، فانحدر إلى الوادي، فحمل عليه جماعة
من أصحاب القوّاد فرمى عليهم الصخور من الجبل وتحدّرت إليهم ولما
رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذّ، وبينما
هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذّ، وأنّ الناس صعدوا
بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل واديا هنالك
(3/325)
وأحرق الأفشين قصور بابك وقتل الخرّمية عن
آخرهم، وأخذ أمواله وعياله، ورجع إلى معسكره عند المساء، وخالفه
بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال والطعام وجاء الأفشين من
الغد فهدم القصور وأحرقها وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء
العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به، ثم عثر على بابك بعض العيون
في واد كثير الغياض يمرّ من أذربيجان إلى أرمينية فبعث من يأتي به
فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر. وجاء كتاب المعتصم بأمانه
فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبوله.
وقتل بعضهم، ثم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عبد الله ومعاوية وأمّه
يريدون أرمينية، ورآهم الحرس الذين جاءوا لأخذه وكان أبو السفاح هو
المقدّم عليهم فمرّوا في اتباعهم وأدركوهم على بعض المياه، فركب
ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأمّ بابك وبعث بهم إلى الأفشين وسار
بابك في جبال أرمينية مختفيا وقد أذكوا عليه العيون حتى إذا مسّه
الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة.
وبعث إلى سهل بن ساباط [1] فجاء واجتمع بصاحب بابك الّذي كانت
حراسة الطريق عليه، ودلّه على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه
وبعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة
ابن ساباط، فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيد وخرج
معه فخرج القائدان من الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما
معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه ووكّل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم،
وآتى سهلا ألف ألف درهم ومنطقة مفرّقة بالجوهر. وبعث إلى عيسى بن
يوسف بن أسطقانوس [2] ملك البيلقان يطلب منه عبد الله أخا بابك،
وقد كان لجأ إلى حصنه عند ما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه، وحبسه
الأفشين مع أخيه. وكتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما وذلك في
شوّال من سنة اثنتين وعشرين، وسار الأفشين بهما إلى سامرا فكان
يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة وفرس. ولما قرب من سامرا
تلقّاه الواثق وكبّر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة،
وتوّج الأفشين وألبسه وشاحين ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف
ألف درهم يفرّقها في عسكره، وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين. وجاء
أحمد ابن أبي داود إلى بابك متنكرا وكلّمه، ثم جاء المعتصم أيضا
__________
[1] سهل بن سنباط: ابن الأثير ج 6 ص 473.
[2] عيسى بن يونس بن اصطفانوس: المرجع السابق ص 474.
(3/326)
متنكّرا فرآه. ثم عقد من الغد واصطف
النظارة سماطين وجيء ببابك راكبا على فيل، فلما وصل أمر المعتصم
بقطع أطرافه ثم بذبحه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب شلوه بسامراء
وبعث بأخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك
ففعل. وكان الّذي أنفق الأفشين في مدّة حصاره لبابك سوى الأرزاق
والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته، وخمسة
آلاف يوم قعوده.
وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسين
ألف [1] ، وهزم من القوّاد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد
وأحمد ابن الجنيد وزريق بن عليّ بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي
وإبراهيم بن الليث.
وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة والّذي استنقذ من
يديه من المسلمات وأولادهنّ سبعة آلاف وستمائة إنسان جعلوا في
حظيرة، فمن أتى من أوليائهم وأقام بيّنة على أحد منهم أخذه، والّذي
صار في يد الأفشين من بني بابك وعياله سبعة عشر رجلا وثلاثا وعشرين
امرأة.
فتح عمّورية
وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل [2] ملك الروم إلى بلاد
المسلمين، فأوقع بأهل زبطرة، لأنّ بابك لما أشرف على الهلاك كتب
إليه أنّ المعتصم قد وجّه عساكره حتى خيّاطه يعني جعفر بن دينار
وطبّاخه يعنى إيتاخ ولم يبق عنده أحد، فانتهز الفرصة ثلاثا أو
دونها. وظنّ بابك أنّ ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب
الروم، فيخفّ عنه ما هو فيه، فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من
المجمّرة [3] الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحاق بن إبراهيم
بن مصعب فلحق بالروم، وبلغ زبطرة فاستباحها قتلا وسبيا وأعاد على
ملطية وغيرها، ومثّل بالأسرى. وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه
وبلغه أنّ هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وا معتصماه! فأجاب وهو
على سريره لبيك، لبيك! ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته
واحتقب شكالا وسكة من حديد فيها رداؤه. وجمع العساكر وأحضر قاضي
بغداد عبد الرحمن بن إسحاق ومعه ابن سهل في ثلاثمائة
__________
[1] وفي الكامل ج 6 ص 478: مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمس مائة
إنسان» .
[2] توفيل بن ميخائيل. ابن الأثير ج 6 ص 479.
[3] المحمّرة.
(3/327)
وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من
الضياع، ثلثا لولده وثلثا لمواليه، وثلثا لوجه الله. وسار فعسكر
بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى وبعث عجيف بن عنبسة وعمر
الفرغانيّ وجماعة من القوّاد مددا لأهل زبطرة، فوجدوا الروم قد
ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس واطمأنوا. ولما ظفر ببابك
سأل أيّ بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمّورية، فتجهّز إليها بما
لا يماثله أحد قبله من السلاح والآلة والعدد، وحياض الأدم والقرب
والروايا وجعل مقدّمته أشناس، وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى
الميمنة إيتاخ، وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخيّاط، وعلى القلب
عجيف بن عنبسة، وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقيّة على نهر السنّ
قريبا من البحر، وعلى مسيرة يوم من طرطوس [1] وبعث الأفشين إلى
سروج وأمره بالدخول من درب الحرث [2] وبعث أشناس من درب طرطوس
وأمره بانتظاره بالصفصاف، وقدّم وصيفا في أثر أشناس وواعدهم يوم
اللقاء. ورحل المعتصم لست بقين من رجب. وبلغه الخبر أنّ ملك الروم
عازم على كبس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام
ليلحق به. ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قوّاده من يأتيه بخبر الروم
وملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس، فطاف في البلاد وأحضر
جماعة عند أشناس أخبروه بأنّ ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة
ليواقعها إذ جاءه الخبر بأنّ العساكر دخلت من جهة أرمينية [3] يعني
عسكر الأفشين، فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية
فوجه أشناس بهم إلى المعتصم. وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام
حذرا عليه وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم، وأوغل في بلاد
الروم فلم يدركه الكتاب. وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدّم
والمعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس
في طريقه جماعة من الروم فقتلهم، وقال لهم شيخ منهم: أنا أدلك على
قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام والشعيرة فبعث معه مالك بن كرد [4]
في خمسمائة فارس فدلّ بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا
فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين، وقالوا: لما استخلف
على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا
__________
[1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[2] درب الحدث: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[3] الارمذياق: ابن الأثير ج 6 ص 481.
[4] مالك بن كيدر: ابن الأثير ج 6 ص 482.
(3/328)
المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا
رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم، ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا
وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا، ورجعنا إلى العسكر فوجدناه
قد انتقض وجاء الملك من الغد فقتل نائبة الّذي استخلفه، وكتب إلى
بلاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها.
ووجّه خصيّا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك
بالمسير إلى عمّورية، فوعى مالك ابن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة
والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الّذي دلّه. وكتب أشناس بذلك إلى
المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة، وأنّ الوقعة
كانت لخمس بقين من شعبان. وقدم الأفشين على المعتصم بأنقرة ورحل
بعد ثلاث والأفشين في ميمنته وأشناس في ميسرته وهو في القلب، وبين
كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمرهم بالتخريب والتحريق ما بين أنقرة
وعمّورية. ثم وافى عمّورية وقسّمها على قوّاده، وخرج إليه رجل من
المنتصرة فدلّه على عورة من السور بني ظاهره وأخلّ باطنه فضرب
المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق، فتصدّع السور. وكتب
بطريقها باطيس [1] والخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور
وغيره، فوقع في يد المسلمين مع رجلين. وفي الكتاب أنّ باطيس عازم
على أن يخرج ليلا ويمرّ بعسكر المسلمين ويلحق بالملك فنادى المعتصم
حرسه، ثم انثلمت فوهة من السور بين برجين وقد كان الخندق طمّ
بأوعية الجلود المملوءة ترابا ثم ضرب بالذبالات [2] عليها فدحرجها
الرجال إلى السور فنشبت في تلك الأوعية وخلص من فيها بعد الجهد.
ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة
وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة وحارب في
اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب إزاء الثلمة، وأشناس وأفشين
وخواص الخدّام معه.
ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم وتقدّم اتياخ [3]
بالمغاربة والأتراك واشتدّ القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم
الجراحات، ومشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم، وشكا إليهم
واستمدّهم فأبوا. فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمّنه وخرج من الغد إلى
المعتصم وكان اسمه وبدوا [4] فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عبد
الوهاب
__________
[1] ناطيس: ابن الأثير ج 6 ص 485.
[2] لعلها الدبابات كما في الكامل ج 6 ص 485.
[3] ايتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 487.
[4] وندوا: ابن الأثير ج 6 ص 487.
(3/329)
ابن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول
فافتتحوا من الثلمة ورآهم وبدوا فخاف فقال له المعتصم: كل شيء
تريده هو لك. ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها
فأحرقها المسلمون عليهم. وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى
استنزله المعتصم بالأمان، وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب،
واصطفى الأشراف وقتل من سواهم وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحرق
الباقي.
ووثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار
نحوهم فكفئوا بعمورية فهدمت وأحرقت وحاصرها خمسة وخمسين يوما من
سادس رمضان إلى آخر شوّال، وفرّق الأسرى على القوّاد ورجع نحو
طرطوس [1] . ولم يزل نوفل مملكا على الروم إلى أن هلك سنة تسع
وعشرين ومائتين في ولاية الواثق، ونصبوا ابنه ميخاييل في كفالة
أمّه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من
أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين.
حبس العباس بن المأمون ومهلكه
كان المعتصم يقدّم الأفشين على عجيف بن عنبسة ولما بعثه إلى زبطرة
لم يطلق يده في النفقات كما أطلق للأفشين وكان يستقصر شأن عجيف
وأفعاله، فطوى عجيف على النكث ولقي العباس بن المأمون فعذله على
قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم وأغراه قبلا في
ذلك فقبل العباس منه، ودسّ رجلا من بطانته يقال له السّمرقندي
قرابة عبد الله بن الوضّاح وكان له أدب ومداراة فاستأمن له جماعة
من القوّاد ومن خواص المعتصم فبايعوه وواعد كل واحد منهم أن يثب
بالقائد الّذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم والأفشين وأشناس
بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك وقال: لا أفسد العراق. فلما فتحت
عمّورية وصعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم
فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا. وركب فلم يتجاسروا
عليه. وكان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم فجلس مع
ندمان الفرغاني تلك الليلة وقص عليهم ركوب المعتصم فأشفق الفرغاني
وقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، وإن
سمعت هيعة فلا
__________
[1] طرسوس: ابن الأثير ج 6 ص 487.
(3/330)
تخرج فأنت غلام غرّ. ثم ارتحل المعتصم إلى
الثغور وتغيّر أشناس على عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل وأساء
عليهما فطلبا من المعتصم أن يضمّهما إلى من شاء وشكيا من أشناس
فقال له المعتصم أحسن أدبهما فحبسهما وحملهما على بغل، فلما صار
بالصفصاف حدّث الغلام ما سمع من قريبه عمر الفرغاني فأمر بغا أن
يأخذه من عند أشناس ويسأله عن تأويل مقالته فأنكر وقال إنه كان
سكران، فدفعه إلى إتياخ. ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس [1] عنده
نصيحة للمعتصم وأخبره خبر العبّاس بن المأمون والقوّاد والحرث
السّمرقندي فأنفذ أشناس إلى الحرث وقيّده وبعث به إلى المعتصم،
وكان في المقدمة فأخبر الحرث المعتصم بجلية الأثر فأطلقه وخلع
عليه، ولم يصدقه على القواد لكثرتهم. ثم حضر العبّاس بن المأمون
واستحلفه أن لا يكتم عنه شيئا فشرح له القصة فحبسه عند الأفشين
وتتبع القوّاد بالحبس والتنكيل وقتل منهم المشاء بن سهيل [2] ثم
دفع العبّاس للأفشين، فلما نزل منبج طلب الطعام فأطعم ومنع الماء.
ثم أدرج في نبج [3] فمات. ولما وصل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر
الفرغاني بئرا وطمت عليه، ولما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما
قتل به العبّاس واستلحم جميع القوّاد في تلك الأيام وسمّوا العبّاس
اللعين. ولما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا.
انتقاض مازيار وقتله
كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز [4] صاحب طبرستان وكان منافرا
لعبد الله بن طاهر فلا يحمل إليه الخراج وقال: لا أحمله إلا
للمعتصم فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه ويدفعه إلى وكيل عبد
الله بن طاهر يردّه إلى خراسان. وعظمت الفتنة بين مازيار وعبد الله
وعظمت سعاية عبد الله في مازيار عند المعتصم حتى استوحش منه.
ولما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله عند المعتصم وطمع في ولاية
خراسان ظن أنّ انتقاض مازيار وسيلة لذلك فجعل يستميل مازيار
ويحرّضه على عداوة ابن طاهر وإن
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 491: «وسار المعتصم،
فأنفذ احمد بن الخليل إلى أشناس يقول له: ان عندي نصيحة لأمير
المؤمنين.»
[2] الشاه بن سهل: ابن الأثير ج 6 ص 492.
[3] في مسح: ابن الأثير ج 6 ص 492.
[4] مازيار بن قارن بن ونداد هرمز: ابن الأثير ج 6 ص 495.
(3/331)
أدّت إلى الخلاف ليبعثه المعتصم لحربه
فيكون ذلك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظنّا بأنّ ابن طاهر لا
ينهض لمحاربته. فانتقض مازيار وحمل الناس على بيعته كرها وأخذ
رهائنهم وعجّل جباية الخراج فأستكثر منه وخرّب سور آمد وسور سابة
[1] وفتل [2] أهلها إلى جبل يعرف بهرمازا بارونى [3] وسرخاشان سور
طمس منها إلى البحر على ثلاثة أميال وهي على حد جرجان وكانت تبنيه
سدّا بين الترك وطبرستان [4] وجعل عليه خندقا ومن أهل جرجان إلى
نيسابور، وأنفذ عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين في جيش كثيف
لحفظ جرجان، فعسكر على الخندق، ثم بعث مولاه حيّان بن جبلة إلى
قومس فعسكر على جبال شروين، وبعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم
بن مصعب وبعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري، وبعث ابا
الساج إلى دنباوند وأحاطت العساكر بحياله من كل ناحية، وداخل أصحاب
الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان [5] في تسليم سورهم وليس بينهما إلا
عرض الخندق، فكلّموه وسار الآخرون إليه على حين غفلة من القائدين،
وركب الحسن بن الحسين وقد ملك أصحابه السور ودخلوا منه فهرب
سرخاشان وقبضوا على أخيه شهريار فقتل. ثم قبض على سرخاشان على خمسة
فراسخ من معسكره وجيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضا. ثم وقعت
بين حيّان بن جبلة وبين فارق بن شهريار [6] وهو ابن أخي مازيار ومن
قوّاده، مداخلة استمالت حيّان، فأجاب أن يسلّم مدينة سارية إلى حد
جرجان على أن يملّكوه جبال آبائه، وبعث حيّان إلى ابن طاهر فسجل
لقارن بما سأل، وكان قارن في جملة عبد الله بن قارن أخي مازيار ومن
قوّاده فأحضر جميعهم لطعامه وقبض عليهم، وبعث بهم إلى حيّان فدخل
جبال قارن في جموعه واعتصم [7] لذلك مازيار، وأشار عليه أخوه
القوهيار أن يخلّي سبيل من عنده من أصحاب ينزلون من الجبل إلى
مواطنهم لئلا يؤتى من قبلهم، فصرف
__________
[1] وأمر بتخريب سور آمل، وسور سارية، وسور طميس، فخرّبت الأسوار:
ابن الأثير ج 6 ص 496.
[2] لعلها ونقل أهلها.
[3] هرمزاباذ: ابن الأثير ج 6 ص 496.
[4] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 496: «وبنى سرخاستان سورا
من طميس إلى البحر، مقدار ثلاثة أميال، كانت الاكاسرة بنته لتمنع
الترك من الغارة على طبرستان.»
[5] سرخاستان: ابن الأثير ج 6 ص 496.
[6] قارن بن شهريار: ابن الأثير ج 6 ص 498.
[7] مقتضى السياق واغتمّ.
(3/332)
صاحب شرطته وخراجه وكاتبه حميدة، فلحقوا
بالسهل ووثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين فهرب ودخل
حيّان سارية. ثم بعث قوهيار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل
طبرستان وكانوا قد حبسوه عند انتقاضهم، فبعثه إلى حيّان ليأخذ له
الأمان وولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار، وعذل قوهيار
بعض أصحابه في عدو له بالاستئمان عن الحسن إلى حيّان فرجع إليهم
وكتبوا إلى الحسن يستدعونه قوهيار من أخيه مازيار [1] فركب من
معسكره بطمس وجاء لموعدهم ولقي حيّان على فرسخ فردّه إلى جبال
شروين التي افتتحها، ووبخه على غيبته عنها فرجع الى سارية وتوفي،
وبعث عبد الله مكانه بن الحسين بن مصعب وعهد إليه أن لا يمنع قارن
ما يريده، ولما وصل الحسن إلى خرّم آباذ وسط جبال مازيار لقيه
قوهيار هنالك، واستوثق كل منهما من صاحبه، وكاتب محمد بن إبراهيم
ابن مصعب من قوّاد المعتصم قوهيار بمثل ذلك، فركب قاصدا إليه، وبلغ
الحسن خبره فركب في العسكر وحازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار
فسبقه ولقي قوهيار وقد جاء بأخيه مازيار فقبض عليه وبعثه مع اثنين
من قوّاده إلى خرّم آباذ ومنها إلى مدينة سارية. ثم ركب واستقبل
محمد بن إبراهيم بن مصعب وقال: أين تريد؟
فقال: إلى المازيار فقال هو بسارية، ثم حبس الحسن أخوي المازيار
ورجع إلى مدينة سارية فقيّد المازيار بالقيد الّذي قيّد به محمد بن
محمد بن موسى بن حفص، وجاء كتاب عبد الله بن طاهر بأن يدفع
المازيار وأخويه وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى
المعتصم. وسأل الحسن المازيار عن أمواله فذكر أنها عند قوم من وجوه
سارية سمّاهم وأمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال، وسار إلى
الجبل ليحملها، فوثب به مماليك المازيار من الديلم وكانوا ألفا
ومائتين فقتلوه بثأر أخيه وهربوا إلى الديلم، فاعترضتهم جيوش محمد
بن إبراهيم وأخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية.
وقيل إنّ الّذي غدر بالمازيار ابن عمّ له كان يتوارث جبال طبرستان
والمازيار يتوارث سهلها، وكانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل فلما انتقض
واحتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل وولّاه على أصعبها وظنّ
أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن وأطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار
وداخله [2] في الفتك على أن يولّيه ما كان لآبائه، وأنّ المازيار
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 6 ص 500: «وكتب احمد بن الصقر
ومحمد بن موسى بن حفص الى الحسن بن الحسين وهو بطميس: أن أقدم
علينا لندفع إليك مازيار والخيل وإلّا فاتك ... »
[2] داخله: شاوره.
(3/333)
لما ولّاه الحسن بن سهل طبرستان انتزع
الجبل من يده فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر وتوثق له فيه، وأوعده
ليوم معلوم ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عمّ مازيار وحاصروه
حتى نزل على حكمه. ويقال أخذه أسيرا في الصيد. ومضى الحسن به ولم
يشعر صاحب الجبل الآخر وأقام في قتاله لمن كان بإزائه فلم يشعر
إلّا والعساكر من ورائه فانهزم، ومضى إلى بلاد الديلم فأتبعوه
وقتلوه. ولما صار المازيار في يده طلبت منه كتب الأفشين فأحضرها،
وأمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم، فلما وصل إلى المعتصم
ضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك وذلك سنة أربع وعشرين.
ولاية ابن السيد على الموصل
وفي سنة أربع وعشرين ولّى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن
أنس الأزدي وكان سبب ولايته أنّ رجلا من مقدّمي الأكراد يعرف بجعفر
بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصل، وتبعه خلق كثير من الأكراد
وغيرهم، وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيد بن
أنس فقاتله وغلبه [1] وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها ولحق
بجبل دانس وامتنع بأعاليه، وقاتله عبد الله وتوغّل في مضايق ذلك
الجبل، فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابه بالقتل، وقتل إسحاق بن أنس
عم عبد الله فبعث المعتصم مولاه إتياخ في العساكر إلى الموصل سنة
خمس وعشرين وقصد جبل داسن فقاتل جعفرا وقتله وافترق أصحابه، وأوقع
بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت.
نكبة الأفشين ومقتله
كان الأفشين من أهل اشروسنة تبوّأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم
محلّه عنده ولما حاصر بابك كان يبعث إلى أشر وسنة بجميع أمواله،
فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم، فيأمره المعتصم بأن يجعل عيونه
عليه في ذلك. وعثر مرّة ابن طاهر على تلك الأموال فأخذها وصرفها في
العطاء، وقال له حاملوها: هذا مال الأفشين، فقال: كذبتم لو كان ذلك
لأعلمني أخي أفشين به، وإنما أنتم لصوص، وكتب إلى
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 6 ص 506: وكان جعفر
بمانعيس قد استولى عليها.
(3/334)
الأفشين بذلك بأنه دفع المال إلى الجند
ليوجّههم إلى الترك فكتب إليه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد،
وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهما وتتابعت
السعاية فيه من طاهر، وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن
خراسان فطمع في ولايتها، وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو
المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار. فكان من أمر
مازيار ما ذكرناه وسيق إلى بغداد مقيّدا، وولّى المعتصم الأفشين
على أذربيجان فولّى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى
على مال عظيم لبابك. وكتب به صاحب البريد إلى المعتصم فكذّبه
منكجور وهمّ بقتله، فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم، وسمع ذلك المعتصم
فأمر الأفشين بعزل منكجور وبعث قائدا في عسكره مكانه، فخلع منكجور
وخرج من أردبيل فهزمه القائد ولحق ببعض حصون أذربيجان كان بابك
خرّبه، فأصلحه وتحصّن فيه شهرا ثم وثب فيه أصحاب وأسلموه إلى
القائد، فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتّهم الأفشين في أمره
وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأنّ القائد كان بغا الكبير وأنه خرج
إليه بالأمان انتهى ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على
الفرار واللحاق بأرمينية، وكانت في ولايته ويخرج منها إلى بلاد
الخزر ويرجع إلى بلاد أشر وسنّة، وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم
أمره فأراد أن يتّخذ لهم صنيعا يشغلهم فيه نهارهم، ثم يسير من أوّل
الليل. وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه وكان سيّئ الملكة
فأيقن مولاه بالهلكة، وجاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم وخبّره
الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوسق، وكان ابنه الحسن عاملا على بعض
ما وراء النهر فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال
عليه، وكان يشكو من نوح بن أسد صاحب بخارى. فكتب ابن طاهر إلى
الحسن بولاية بخارى وكتب إلى نوح بذلك وأن يستوثق منه إذا وصل إليه
ويبعث به، ثم يبعث به إلى ابن طاهر، ثم إلى المعتصم. ثم أمر
المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه، فأحضر عند الوزير
محمد بن عبد الملك بن الزيّات وعنده القاضي أحمد بن أبي دواد
وإسحاق بن إبراهيم وجماعة القوّاد والأعيان، وأحضر المازيار من
محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش [1] أحد ملوك الصغد، ورجلان من
أهل الصغد يدّعيان أنّ الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد.
فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من
__________
[1] الموبذ، والمرزبان بن بركش: ابن الأثير ج 6 ص 513.
(3/335)
اللحم، فقال ابن الزيات للأفشين: ما بال
هذين؟ قال: عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها، واتخذ
البيت مسجدا فعاقبتهما على ذلك. وقال ابن الزيات: ما بال الكتاب
المحلى بالذهب والجوهر عندك وفيه الكفر؟ وقال: كتاب ورثته من آبائي
وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم، ولم أحتج
إلى نزع حلبته، وما ظننت أنّ مثل هذا يخرج عن الإسلام. ثم قال
المؤيد أنه يأكل لحم المخنقة ويحملني على أكلها ويقول: هو أرطب من
لحم المذبوحة! ولقد قال لي يوما حملت على كل مكروه لي حتى أكلت
الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، إلى هذه الغاية لم أختتن ولم تسقط
عني شعرة العانة. فقال الأفشين: أثقة هذا عندكم في دينه؟ وكان
مجوسيّا قالوا: لا! قال: فكيف تقبلونه عليّ؟ ثم قال للمؤيد: أنت
ذكرت أني أسررت إليك ذلك، فلست بثقة في دينك ولا بكريم في عهدك ثم
قال له المرزبان: كيف يكاتبك أهل أشر وسنّة؟ قال: ما أدري! قال:
أليس يكاتبونك بما تفسّره بالعربي إلى إله الآلهة من عبده فلان؟
قال: بلى! فقال ابن الزيات: فمات أبقيت لفرعون؟ قال هذه عادة منهم
لأبي وجدّي ولي قبل الإسلام، ولو منعتهم لفسدت عليّ طاعتهم. ثم قال
له: أنت كاتبت هذا وأشار إلى المازيار. كتب أخوه إلى أخي قوهيار
أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك، فأما بابك فقد قتل
نفسه بجمعه، ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلّا خنقه، وأنت إن خالفت لم
يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة، وإن توجهت إليك لم يبق أحد
يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك، والعربيّ كلب تناوله لقمة
وتضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك لهم صدمة ثم تجول الخيل
جولة فتأتي عليهم، ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم.
فقال الأفشين: هذا يدعى أن أخي كتب إلى أخيه فما يجب عليّ؟ ولو كتب
فأنا أستميله مكرا به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر،
فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين: ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى
تقتل جماعة فقال: أمتطهّر أنت؟ قال: لا! قال: فما يمنعك وهو شعار
الإسلام؟ قال: خشيت على نفسي من قطعه! قال: فكيف وأنت تلقى الرماح
والسيوف؟ قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه. فقال ابن أبي
دؤاد لبغا الكبير: قد بان لكم أمره يا بغا عليك به. فدفعه بيديه
وردّه إلى محبسه، وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منها، وطلب أفشين
من المعتصم أن
(3/336)
ينفذ إليه من يثق به، فبعث حمدون بن
إسماعيل فاعتذر له عن جميع ما قيل فيه وحمل إلى دار إتياخ فقتل بها
وصلب على باب العامة، ثم أحرق وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين،
وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات.
ظهور المبرقع
كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين، وأراد بعض
الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي، وجاء فشكت
إليه بفعل الجندي، فسار إليه وقتله، ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام
به واختفى ببرقع على وجهه وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي، واجتمع له قوم من تلك الناحية
وقالوا: هو السفياني ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن
بهيس [1] وكان مطاعا في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألف، وسرّح
المعتصم رجاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائه لكثرة من معه،
وعسكر قبالته ينتظر أوان الزراعة وانصراف الناس عنه لأعمالهم.
وبينما هم في الانصراف توفي المعتصم وثارت الفتنة بدمشق، فأمره
الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع، ففعل وقاتله فأخذه
أسيرا وابن بهيس معه، وقتل من أصحابه عشرين ألفا وحمله وذلك سنة
سبع وعشرين ومائتين.
وفاة المعتصم وبيعة الواثق
وتوفي المعتصم أبو إسحاق محمد بن المأمون بن الرشيد منتصف ربيع
الأوّل سنة سبع وعشرين لثمان سنين وثمانية أشهر من خلافته، وبويع
ابنه هارون الواثق صبيحته وتكنّى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم
وحاصروه وعسكروا بمرج واسط [2] وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال
المبرقع، فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وقتل
منهم نحو ألف وخمسمائة ومن أصحابه نحو ثلاثمائة، وصلح أمر دمشق،
ورجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيرا [3] بيعة
__________
[1] ابن بيهس: ابن الأثير ج 6 ص 522.
[2] مرج راهط: ابن الأثير ج 6 ص 528.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 9: «وفي هذه السنة (528) اعطى
الواثق أشناس تاجا ووشاحين» .
(3/337)
الواثق توّجه أشناس ووشحه وكان للواثق سمر
يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة
واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة
الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال. فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين
ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب كاتب إتياخ أربعمائة
ألف، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفا، ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه
مائة ألف، ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفا وكان على اليمن إتياخ
وولّاه عليها المعتصم بعد ما عزل جعفر بن دينار، وسخطه وحبسه ثم
رضي عنه وأطلقه، فلما ولي الواثق ولّى إتياخ على اليمن من قبله سار
بأميان، فسار إليها وكان الحرس إسحاق بن يحيى بن معاذ ولّاه
المعتصم بعد عزل الأفشين، وولّى الواثق على المدينة سنة إحدى
وعشرين محمد بن صالح بن العبّاس وبقي محمد بن داود على مكة، وتوفي
عبد الله بن طاهر سنة ثلاثين وكان على خراسان وكرمان وطبرستان
والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولّى الواثق على أعماله كلها
ابنه طاهرا.
وقعة بغا في الاعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلّطون على الناس في
أموالهم وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة، وبعث محمد بن صالح إليهم
مسلحة المدينة ومعهم متطوّعة من قريش والأنصار فهزمهم بنو سليم
وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين
مكّة والمدينة وانقطع الطريق، فبعث الواثق بغا الكبير، وقدم
المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلا وأسر مثلها،
واستأمنوا له على حكم الواثق، فقبض على ألف منهم ممن يعرف بالفساد
فحبسهم بالمدينة وذلك سنة ثلاثين. ثم حجّ وسار إلى ذات عرق وعرض
على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلاثمائة رجل
وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين. ثم خرج بغا إلى بني مرّة فنقب
أولئك الأسرى الحبس وقتلوا الموكّلين، فاجتمع عليهم أهل المدينة
ليلا ومنعوهم من الخروج فقاتلوهم إلى الصبح ثم قتلوهم، وشق ذلك على
بغا وكان سبب غيبته أنّ فزارة وبني مرّة تغلبوا على فدك، فخرج
إليهم وقدّم رجلا من قوّاده يعرض عليهم الأمان، فهربوا من سطوته
إلى الشام واتّبعهم إلى تخوم الحجاز من الشام، وأقام أربعين ليلة
ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم. وجاءه قوم من بطون غفار وفزارة
وأشجع وثعلبة فاستحلفهم على الطاعة ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في
(3/338)
ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفا
بالمدينة وأطلق الباقين، وأمره الواثق سنة اثنين وثلاثين بالمسير
إلى بني نمير باليمامة وما قرب منها لقطع فسادهم، فسار إليهم ولقي
جماعة الشريف منهم فحاربهم وقتل منهم خمسين وأسر أربعين. ثم سار
إلى مرّة وبعث إليهم في الطاعة فامتنعوا وساروا إلى جبال السند وطف
اليمامة [1] وبعث سراياهم فأوقع بهم في كل ناحية ثم سار إليهم في
ألف رجل فلقيهم قريبا من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في
عسكره بالقتل والنهب. ثم ساروا تحت الليل وهو في اتباعهم يدعوهم
إلى الطاعة وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة،
فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره، وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد
جاءوا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا
رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالتهم أحد، وقتل
منهم نحو ألف وخمسمائة، وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم
فقيّدهم وحبسهم بالبصرة. وقدم عليه واجن الأشروسنيّ في سبعمائة
مقاتل مددا فبعثه إلى اتباعهم إلى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن
ورجع، وسار بغا إلى بغداد بمن معه منهم وكانوا نحو ألفي رجل ومائتي
رجل، وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم
فجاء بهم وسلّموا جميعا.
مقتل أحمد بن نصر
وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدّم وكان أحمد هذا نسيبة
لأهل الحديث ويغشاه جماعة منهم مثل ابن حصين وابن الدورقي وأبي
زهير، ولقّن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القرآن. ثم تعدّى
ذلك إلى الشتم وكان ينعته بالخنزير والكافر، وفشا ذلك عنه وانتدب
رجلان ممن كان يغشاه هما أبو هارون السرّاج وطالب وغيرهما فدعوا
الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرّقوا
الأموال في الناس دينارا لكل رجل، وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من
سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم. واتفق أنّ رجالا ممن بايعهم
من بني الأشرس جاءوا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر فضربوا
الطبل وصاحب الشرطة إسحاق بن إبراهيم غائب، فارتاع خليفته محمد
أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد [2]
__________
[1] وسار بعضهم إلى جبال السّود، وهي خلف اليمامة: ابن الأثير ج 7
ص 27.
[2] الصحيح: فلم يجد.
(3/339)
أحد، وأتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في
الحمّام فدلّهم على بني الأشرس وعلى أحمد بن نصر وعلى أبي هارون
وطالب، ثم سيق خادم أحمد بن نصر فذكر القصة، فقبض عليه وبعث بهم
جميعا إلى الواثق بسامراء مقيّدين، وجلس لهم مجلسا عامّا وحضر فيه
أحمد بن أبي دؤاد، ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق
القرآن فقال: هو كلام الله. ثم سأله عن الرؤية فقال: جاءت بها
الأخبار الصحيحة ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره، فقال عبد الرحمن بن
إسحاق قاضي الجانب الغربيّ:
هو حلال الدّم! وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب. فدعا الواثق
بالصمصامة فانتضاها ومشى إليه فضربه على حبل عاتقه ثم على رأسه، ثم
وخزه في بطنه، ثم أجهز سيما الدمشقيّ عليه وحزّوا رأسه ونصب ببغداد
وصلب شلوه عند بابها.
الفداء والصائفة
وفي سنة إحدى وثلاثين عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة
على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم،
وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القرآن والرؤية. وجاء الروم
بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس
[1] وكان عدّة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين والنساء
والصبيان ثمانمائة وأهل الذمّة مائة. فلما فرغوا من الفداء غزا
أحمد بن سعيد بن مسلم شاتيا وأصاب الناس ثلج ومطر وهلك منهم مائة
نفس، وأسر منهم نحوها وخرق بالنبل قرون خلق، ولقيه بطريق من الروم
فخام عن لقائه ثم غنم ورجع، فعزله الواثق وولّى مكانه نصر بن حمزة
الخزاعي.
وفاة الواثق وبيعة المتوكل
وتوفي الواثق أبو جعفر هارون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة
اثنتين وثلاثين، وكانت علّته الاستسقاء وأدخل في تنور مسجر [2]
فلقي خفة، ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأوّل فأخرج في محفّة
فمات فيها، ولم يشعروا به. وقيل إن ابن أبي دؤاد غمّضه ومات لخمس
سنين وتسعة أشهر من خلافته، وحضر في الدار أحمد بن أبي
__________
[1] هي طرسوس.
[2] مسخّن: ابن الأثير ج 7 ص 29.
(3/340)
دؤاد وإتياخ [1] ووصيف وعمر بن فرح وابن
الزيّات، وأراد البيعة لمحمد بن واثق وهو غلام إمّر [2] فألبسوه،
فإذا هو قصير فقال وصيف: أما تتقون الله تولّون الخلافة مثل هذا!
ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد
الطويلة وعمّمه وسلّم عليه بامارة المؤمنين ولقبه المتوكل، وصلّى
على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وولّى على
بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن محمد
الطويس فأقرّه وعزل ابن العبّاس محمد بن صول عن ديوان النفقات وعقد
لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف.
نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه
كان محمد بن عبد الملك بن الزيّات قد استوزره الواثق فاستمكن من
دولته وغلب على هؤلاء، وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقّه، وغضب
الواثق عليه مرّة فجاء إلى ابن الزيّات ليستنزله فأساء معاملته في
التحية والملاقاة فقال: اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك. وقام عنه
حزينا فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد [3] فلم يدع شيئا من البرّ إلا
فعله وحيّاه وفدّاه، وخطب حاجته فقال: أحب أن ترضي عني أمير
المؤمنين فقال: أفعل ونعمة عين! ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه. وكان
ابن الزيّات كتب إلى الواثق عند ما خرج عنه المتوكل أنّ جعفرا
أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنّثين، فأمره الواثق أن
يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجّاما أخذ من
شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له. ولما ولي الخلافة بقي
شهرا ثم أمر إتياخ أن يقبض عليه ويقيّده بداره ويصادره، وذلك في
صفر سنة ثلاث وثلاثين، فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلّط عليه
أنواع العذاب، ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة
وتزعج من فيه لضيقه، ثم مات منتصف ربيع الأوّل، وقيل إنه مات من
الضرب وكان لا يزيد على التشهّد وذكر الله. وكان عمر بن الفرح
الرحجي [4] يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له، ولما استخلف قبض عليه
في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف.
__________
[1] اسمه الحقيقي إيتاخ وقد مرّ معنا في فصل سابق من هذا الكتاب.
[2] أمرد: ابن الأثير ج 7 ص 33.
[3] هو أحمد بن أبي دؤاد.
[4] عمر بن الفرج الرخّجي: ابن الأثير ج 7 ص 39.
(3/341)
نكبة اتياخ ومقتله
كان اتياخ مولى السلام الأبرص [1] وكان عنده ناخوريا طبّاخا، وكان
شجاعا فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة
الواثق ابنه وكان له المؤنة بسامراء مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.
وكانت نكبة العظماء في الدولة على يديه وحبسهم بداره، مثل أولاد
المأمون وابن الزيّات وصالح وعجيف وعمر بن الفرج وابن الجنيد
وأمثالهم، وكان له البريد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك.
وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إتياخ وهمّ إتياخ بقتله، ثم
غدا عليه فاعتذر له ودسّ عليه من زيّن له الحجّ فاستأذن المتوكل
فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمرّ به. وسار لذلك في ذي
القعدة سنة أربع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وسار العسكر بين يديه
وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم ولما عاد إتياخ من الحج بعث إليه
المتوكل بالهدايا والالطاف، وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب
يأمره بحبسه.
فلما قارب بغداد كتب إليه إسحاق بأنّ المتوكل أمر أن يدخل بغداد
وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر
للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك، ووقف إسحاق على باب
الدار فمنع أصحابه من الدخول إليه ووكّل بالأبواب ثم قبض على ولديه
منصور ومظفّر وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد، وبعث إتياخ
إليه يسأله الرّفق بالولدين ففعل، ولم يزل إتياخ مقيدا بالسجن إلى
أن مات فقيل إنهم منعوه الماء وبقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما
المنتصر بعد المتوكل.
شأن ابن البغيث [2]
كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعا في حصونه بأذربيجان وأعظمها
مرند، واستنزل من حصنه أيام المتوكّل وحبس بسامراء فهرب من حبسه
ولحق بمرند، وقيل إنه في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وشفع فيه
بغا الشرابيّ، فأطلقه إسحاق في كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد
الشيبانيّ، وكان يتردّد إلى سامرّا حتى
__________
[1] الأبرش: ابن الأثير ج 7 ص 43.
[2] ابن البعيث: ابن الأثير ج 7 ص 47.
(3/342)
مرض المتوكّل ففرّ ولحق بمرند وشحنها
بالأقوات، وجاءه أهل الفتنة من ربيعة وغيرهم فاجتمع له نحو ألفين
ومائتي رجل، والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم ابن هرثمة فلم
يقامعه فعزله المتوكل وولى حمدويه بن علي بن الفضل السعديّ، فسار
إليه وحاصره بمرند مدّة وبعث إليه المتوكل بالمدد، وطال الحصار فلم
يقن [1] فيه، فبعث بغا الشرابي في ألفى فارس فجاء لحصاره. وبعث
إليه عيسى ابن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا
على حكم المتوكل، فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو
هاربا، ونهبت منازله وأسرت نساؤه وبناته. ثم أدرك بطريقة وأتي به
أسيرا وبأخويه صقر وخالد وأبنائه حليس وصقر والبغيث، وجاء بهم بغا
إلى بغداد وحملهم على الحجال [2] يوم قدومه حتى رآهم الناس وحبسوا.
ومات البغيث لشهر من وصوله سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية
مع عبد الله بن يحيى خاقان.
بيعة العهد
وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكّل البيعة والعهد وكانوا
ثلاثة محمدا وطلحة وإبراهيم، ويقال في طلحة ابن الزبير وجعل محمدا
أوّلهم ولقبه المستنصر وأقطعه إفريقية والمغرب وقنّسرين والثغور
الشاميّة والخزريّة، وديار مضر وديار ربيعة، وهيت والموصل وغانة
والخابور، وكور دجلة والسواد والخرمين [3] وحضرموت والحرمين [4]
والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلّات بسامراء وماء
الكوفة وماء البصرة. وجعل طلحة ثانيهم ولقبه المعتزّ وأقطعه أعمال
خراسان وطبرستان والريّ وأرمينية وأذربيجان وأعمال فارس، ثم أضاف
إليه سنة أربعين [5] خزن الأموال ودور الضرب في جميع الآفاق وأمر
أن يرسم اسمه في السكة. وجعل الثالث إبراهيم [6] وأقطعه حمص ودمشق
وفلسطين وسائر الأعمال الشامية وفي هذه السنة أمر الجند بتغيير
__________
[1] أوقف الرجل إذا اصطاد الطير من وقته وهي محضنة.
[2] مقتضى السياق: الجمال.
[3] الجزرية- عانة- الحرمين: ابن الأثير ج 7 ص 49.
[4] البحرين: المرجع السابق.
[5] اي سنة أربعين ومائتين.
[6] ولقبه المؤيد.
(3/343)
الزي فلبسوا الطيالسة العسلية وشدّوا
الزنانير في أوساطهم [1] وجعلوا الطراز في لباس المماليك ومنع من
لباس المناطق وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمّة ونهى أن يستغاث
بهم في الأعمال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان وأمر أن يجعل على
أبوابهم صور شياطين من الخشب.
ملك محمد بن إبراهيم
كان محمد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس، وهو ابن أخي
طاهر وكان أخوه إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام
المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وكان ابنه محمد بباب الخليفة
بسامراء نائبا عنه. فلما مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ولّاه المتوكل
وضمّ إليه أعمال أبيه، واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة
وحمل إلى المتوكّل وبنيه من الجواهر والذخائر كثيرا، وبلغ ذلك محمد
بن إبراهيم فتنكّر للخليفة ولمحمد بن أخيه، وشكا ذلك محمد إلى
المتوكّل فسرّحه إلى فارس وولّاه مكان عمه محمد، فسار وعزل عمّه
محمدا وولّى مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن مصعب، وأمره بقتل
عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات.
انتقاض أهل أرمينية
كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط [2]
وهو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى
المتوكل، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة
وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثين،
وخرج لقتالهم فقتلوه ومن كان معه. فسرّح المتوكل بغا الكبير فسار
على الموصل والجزيرة وأناخ على أردن [3] حتى أخذها وحمل موسى
وإخوته إلى المتوكّل وقتل منهم ثلاثين ألفا وسبى خلقا وسار إلى
مدينة دبيل فأقام بها شهرا ثم سار إلى تفليس فحاصرها، وبعث في
مقدمته ربزك التركي [4] وكان بتفليس
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 52: «وركوب السروج بالركب الخشب،
وعمل كرتين في مؤخر السروج» .
[2] بقراط بن أشوط: ابن الأثير ج 7 ص 58.
[3] أرزن: ابن الأثير ج 7 ص 59.
[4] زيرك التركي: ابن الأثير ج 7 ص 67.
(3/344)
إسحاق بن إسماعيل بن إسحاق مولى بني أمية
فخرج وقاتلهم، وكانت المدينة كلّها مشيدة من خشب الصنوبر، فأمر بغا
أن يرمى عليها بالنفط فاضطرمت النار في الخشب، واحترقت قصور إسحاق
وجواريه وخمسون ألف إنسان وأسر الباقون، وأحاطت الأتراك والمغاربة
بإسحاق فأسروه وقتله بغا لوقته، ونجا أهل إسحاق بأمواله إلى صعدنيل
[1] مدينة حذاء تفليس على نهر الكرّمن [2] من شرقيه بناها أنوشروان
وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيها فاستباحها بغا، ثم بعث الجند إلى
قلعة أخرى بين بردعة وتفليس ففتحوها وأسروا بطريقها. ثم سار إلى
عيسى بن يوسف في قلعة كيس [3] من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل
معه جماعة من البطارقة، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم
وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه
وحبس أولاده، فحمل أبو الوليد منهم مائة وعشرين ألف دينار وجواهر
تساوي عشرين ألفا، ثم صولح عن ستة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم
ببيع أملاكهم وفلح أحمد، فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولّاه قضاء
القضاء، وولّى أبا الوليد بن أبي دؤاد المظالم ثم عزله. وولّى أبا
الربيع محمد بن يعقوب ثم عزله، وولّى يحيى بن أكثم على المظالم ثم
عزله سنة أربعين، وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف
حربو [4] ، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن
عليّ. وتوفي في هذه السنة أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد
بعشرين يوما وكان معتزليّا أخذ مذهبهم عن بشر المريسيّ وأخذه بشر
عن جهم بن صفوان وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلّم مروان.
__________
[1] صغدبيل: ابن الأثير ج 7 ص 68.
[2] نهر الكرّ: المرجع السابق.
[3] قلعة كبيش: المرجع السابق.
[4] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 74: «وفي هذه السنة (240) عزل
يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار،
وأربعة آلاف جريب بالبصرة.» وفي الطبري ج 11 ص 50: «وفيها عزل يحيى
بن أكثم عن القضاء في صفر وقبض منه ما كان له ببغداد ومبلغه خمسة
وسبعون ألف دينار وفي أسطوانة في داره ألف دينار واربعة آلاف جريب
بالبصرة.» والجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة (لسان
العرب) .
(3/345)
انتقاض أهل حمص [1]
وفي سنة سبع وثلاثين وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن
إبراهيم الرافعيّ بسبب أنه قتل بعض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من
أصحابه، فولّى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهم وعسف
فيهم فوثبوا به، وأمره المتوكّل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم
وقتل منهم جماعة، وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة
في الجامع كانت تجاوره.
اغارة البجاة على مصر
كانت الهدنة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح، وكان في بلادهم
معادن الذهب يؤدّون منها الخمس إلى أهل مصر، فامتنعوا أيام
المتوكّل وقتلوا من وجدوه من المسلمين بالمعادن، وكتب صاحب البريد
بذلك إلى المتوكّل فشاور الناس في غزوهم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء
وأن بين بلادهم وبلاد المسلمين مسيرة شهر ولا بدّ فيها من الزاد،
إن فنيت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهم. وخاف أهل الصغد [2] من
شرّهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمّيّ على أسوان وقفط
والأقصر وأستا وأرمنت، وأمره بحرب البجاة. وكتب إلى عنبسة بن إسحاق
الضبّيّ عامل مصر بتجهيز العساكر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين
ألفا من الجند والمتطوّعة، وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر
والأدم إلى سواحل بلاد البجاة وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم. وزحف
إليه ملكهم واسمه علي بابا في أضعاف عساكرهم على المهاري [3] ،
وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرّقها
القمّيّ في أصحابه، فناجزهم البجاة الحرب وكانت إبلهم نفورة، فأمر
القمّيّ جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم. ثم حملوا عليهم فانهزموا
وأثخن فيهم قتلا وأسرا حتى استأمنوا على أداء الخراج لما سلف ولما
يأتي وأن يرد إلى مملكته، وسار مع القمّيّ إلى المتوكل واستخلف
ابنه، فخلع القمّيّ عليه وعلى أصحابه، وكسا أرجلهم الجلال
__________
[1] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة 240 وسنة 241.
[2] مقتضى السياق: أهل الصعيد كما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 78.
[3] المهاري: إبل فره.
(3/346)
المديحة وولّاهم طريق ما بين مصر ومكة،
وولّى عليهم سعدا الإتياخي [1] الخادم فولى سعد محمد القمّيّ فرجع
معهم واستقامت ناحيتهم.
الصوائف
وفي سنة ثمان وثلاثين ورد على دمياط اسطول الروم في مائة مركب [2]
فكبسوها وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب
المعونة عنبسة بن إسحاق الضبيّ فانتهزوا الفرصة في مغيبهم وانتهبوا
دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبيا ومتاعا، وذهبوا إلى
تنّيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا. وغزا بالصائفة في هذه السنة
علي بن يحيى الأرميني [3] صاحب الصوائف. وفي سنة إحدى وأربعين كان
الفداء بين الروم وبين المسلمين وكانت تدورة ملكة الروم قد حملت
أسرى المسلمين على التنصّر فتنصّر الكثير منهم. ثم طلبت المفاداة
فيمن بقي فبعث المتوكل سيفا [4] الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد
جعفر بن عبد الواحد واستخلف على القضاء ابن أبي الشوارب وكان
الفداء على نهر اللامس ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة [5] فأسروا
من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم ولما رجع علي بن يحيى
الأرميني من الصائفة خرجت الروم في ناحية سميساط فانتهوا إلى آمد
واكتسحوا نواحي الثغور والخزرية [6] نهبا وأسروا نحوا من عشرة آلاف
ورجعوا واتبعهم قرشاس [7] وعمر بن عبد الأقطع وقم من المتطوّعة فلم
يدركوهم وأمر المتوكّل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة
ففعل. وفي سنة أربع وأربعين جاء المتوكل من بغداد إلى دمشق وقد
اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين، ثم استوبأها ورجع
بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الروم فدوّخها
واكتسحها من سائر النواحي ورجع. وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم
على
__________
[1] الإيتاخي: ابن الأثير ج 7 ص 79.
[2] ثلاثمائة مركب: ابن الأثير ج 7 ص 68.
[3] علي بن يحيى الأرمني: ابن الأثير ج 7 ص 70.
[4] شنيفا الخادم: ابن الأثير ج 7 ص 77.
[5] عين زربة: ابن الأثير ج 7 ص 80.
[6] وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 81: «خرجت الروم من ناحية سميساط
بعد خروج عليّ بن يحيى الارمني من الصائفة، حتى قاربوا آمد، وخرجوا
من الثغور والجزرية ... » وكذلك في الطبري ج 11 ص 55.
[7] قريباس: ابن الأثير ج 7 ص 81، قريباس: الطري ج 11 ص 55.
(3/347)
سميساط فغنموا وغزا علي بن يحيى الأرمني
بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه وسلّموه إلى
بعض موالي المتوكّل، فأطلق ملك الروم في فداء البطريق ألف أسير من
المسلمين وفي سنة ست وأربعين غزا عمر بن عبيد الله الأقطع بالصائفة
فجاءوا بأربعة آلاف رأس [1] ، وغزا قرشاس فجاء بخمسة آلاف رأس،
وغزا الفضل بن قاران في الاسطول بعشرين مركبا فافتتح حصن أنطاكية
وغزا ملكها دورهم وسبى، وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن
الظهر بعشرة آلاف وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين
وثلاثمائة من الأسرى.
الولاية في النواحي
ولّى المتوكل سنة اثنتين على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب
وكان على الموصل غانم بن حميد الطوسي، واستوزر لأوّل خلافته محمد
بن عبد الله بن الزيّات. وولّى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان
الخراساني مولى الأزد وعزل الفضل بن مروان. وولّى على ديوان
النفقات إبراهيم بن محمد بن حتول. وولّى سنة ثلاث وثلاثين على
الحرمين واليمن والطائف ابنه المستنصر، وعزل محمد بن عيسى.
وولّى على حجابة بابه وصيفا الخادم عند ما سار إتياخ للحج. وفي سنة
خمس وثلاثين عهد لأولاده كما مرّ، وولّى على الشرطة ببغداد إسحاق
بن إبراهيم بن الحسين ابن مصعب مكان ابنه إبراهيم عند ما توفي،
وكانت وفاته ووفاة الحسن بن سهل في سنة واحدة. وفي سنة ست وثلاثين
استكتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم استوزره بعد ذلك، وولّى على
أرمينية وأذربيجان حربا وخراجا يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف
المروذوذي [2] عند ما توفي أبوه فجاءه فسار اليها وضبطها، وأساء
إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مرّ وقتلوه. وبعث المتوكّل
بغا الكبير في العساكر فأخذ ثأره منهم، وولّى معادن السواد عبد
الله بن إسحاق بن إبراهيم. وفي سنة تسع وثلاثين عزل ابن أبي دؤاد
عن القضاء وصادره، وولّى مكانه يحيى بن أكثم. وقدم محمد بن عبد
الله بن طاهر من خراسان فولّاه الشرطة والجزية وأعمال السواد، وكان
على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحجّ بالناس، ثم ولّى
مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى.
وولّى على الأحداث بطريق مكة
__________
[1] وفي الكامل لابن الأثير سبعة عشر ألف رأس (ج 7 ص 93) .
[2] المروزيّ: ابن الأثير ج 7 ص 56.
(3/348)
والمواسم جعفر بن دينار، وكان على حمص أبو
المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين، فولّى
مكانه محمد بن عبدويه. وفي سنة تسع وثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن
القضاء، وولّى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان وفي سنة
اثنتين وأربعين ولّى على مكة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم
الإمام، وولّى على ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجرّاح عند ما
توفي إبراهيم بن العبّاس الصوليّ وكان خليفته فيها من قبل. وفي سنة
خمس وأربعين اختط المتوكل مدينته وأنزلها القوّاد والأولياء وأنفق
عليها ألف ألف دينار، وبنى فيها قصر اللؤلؤة لم ير مثله في علوّه
وأجرى له الماء في نهر احتفره وسمّاها المتوكليّة وتسمى الجعفري
والماخورة وفيها ولّى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار
لوفاته تلك السنة. وولّى على ديوان الضياع والتوقيع نجاح بن سلمة
وكانت له صولة على العمّال، فكان ينام المتوكل فسعى عنده في الحسن
بن مخلد وكان معه على ديوان الضياع ولّى موسى بن عقبة عبد الملك
وكان على ديوان الخراج، وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفا.
وأذن المتوكل وكانا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان، فتلطّف عند
نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين، وأشار إليه بأخذ ما فيهما معا
وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلّات
والفرش والضياع، ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على
أموال جمة.
مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لما كان يتوهّم
فيه من استعجاله الأمر لنفسه، وكان يسمّيه المنتصر والمستعجل لذلك.
وكان المنتصر تنكّر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من
مذهب الاعتزال والتشيّع لعليّ، وربما كان الندمان في مجلس المتوكّل
يفيضون في ثلب عليّ فينكر المنتصر ذلك ويتهدّدهم ويقول للمتوكل:
إنّ عليّا هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بدّ ثالبه
فتولّ ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفّاعين سبيلا إلى ذلك فيستخف
به ويشتمه، ويأمر وزيره عبيد الله بصفعه ويتهدّده بالقتل ويصرّح
بخلعه. وربما استخلف ابنه الحبر [1] في الصلاة والخطبة مرارا وتركه
فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قد
__________
[1] المعتزّ: ابن الأثير ج 7 ص 95.
(3/349)
استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير
ودواجن، فأفسدوا عليه الموالي.
وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط
لتعهّد الصوائف، فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار وكان
ابن خالة المتوكل، واستخلف على الستر بغا الشرابي الصغير. ثم تغيّر
المتوكل لوصيف وقبض ضياعه بأصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان،
فتغيّر وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكّل، وأعدّ لذلك جماعة
من الموالي بعثهم مع ولده صالح وأحمد وعبد الله ونصر، وجاءوا في
الليلة اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته، وأخذ زرافة
الخادم معه، وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا
الفتح وأربعة من الخاصّة، وأغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه
الرجال وأحس المتوكل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم، واستماتوا
وابتدروا إليه فقتلوه.
والقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعث إلى المنتصر وهو ببيت
زرافة فأخبره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر، وبايع له زرافة وركب
إلى الدار فبايعه من حضر وبعث إلى وصيف إنّ الفتح قتل أبي فقتلته،
فحضر وبايع. وبعث عن أخويه المعتز والمؤيد فحضرا وبايعا له. وانتهى
الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتزّ فلم
يجده واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل، وأغروه
بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك، وأصبح المنتصر فأمر
بدفن المتوكّل والفتح، وذلك لأربع خلون من شوّال سنة سبع وأربعين
ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم [1] وركب
بعضهم بعضا، وقصدوا باب السلطان فخرج إليهم بعض الأولياء فأسمعوه،
ورجع فخرج المنتصر بنفسه وبين يديه المغاربة فشرّدوهم عن الأبواب
فتفرّقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 7 ص 105: «ولما أصبح
الناس شاع الخبر في الماخورة، وهي المدينة التي كان بناها
المتوكّل، وفي أهل سامرّاء بقتل المتوكل فتوافى الجند والشاكرية
بباب العامّة وبالجعفرية، وغيرهم من الغوغاء والعامّة، وكثر الناس
وتسامعوا وركب بعضهم بعضا ... »
(3/350)
|