تاريخ ابن خلدون

(ظهور الشيعي بكتامة)
وفي أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة. وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلّيّة. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلة بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بأنكجان يهدده ويحذره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلما قربت أمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم كما قدمناه أظهر التوبة، ومضى إلى صقلّيّة، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع
__________
[1] روطة: اسم أعجمي لقلعة حصينة بجزيرة صقلّيّة بينهما ثمانية أيام، هي بعيدة من البحر فوق جبل وفيها آثار الماء (معجم البلدان) .

(4/261)


قبائل كتامة حتى استولى عليهم واتبعوه، وكان إبراهيم قد أسر لابنه أبي العباس في شأن الشيعي ونهاه عن محاربته، وأن يلحق به إلى صقلّيّة إن ظهر عليه.
(ابنه أبو العباس عبد الله بن إبراهيم أخي محمد أبي الغرانيق)
ولما هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين كما قدمناه، قدم حافده زيادة الله بالجيوش على أبيه أبي العباس عبد الله فقام بأمر إفريقية، وعظم غناؤه، وكتب إلى العمال كتابا يقرأ على الناس بالوعد الجميل والعدل والرّفق والجهاد، واعتقل ابنه زيادة الله هذا لما بلغه عنه من اعتكافه على اللذات واللهو، وأنه يروم التوثب عليه، وولى على صقلّيّة مكانه محمد بن السرقوسي، وكان أبو العباس حسن السيرة عادلا بصيرا بالحروب، وكانت أيامه صالحة، وكان نزوله بتونس. ولما توفي استولى أبو عبد الله الشيعي على كتامة ودخلوا في أمره كافة، وزحف إلى ميلة فافتتحها، وقتل موسى بن عياش.
وكان فتح بن يحيى أمير مسالة من كتامة حارب أبا عبد الله طويلا، ثم غلبه واستولى على قومه، فنزع فتح إلى أبي العباس وحرضه على قتال يكزاخول، وإنما كان يكرّ على جفنة إذا نظر، وزحف إليه من تونس سنة تسع وثمانين ومائتين ودخل سطيف [1] ثم بلزمة [2] ، وقتل من دخل في دعوتهم ولقيه أبو عبد الله الشيعي فانهزم وهرب من تاوزرت إلى أنكجان، وهدم أبو خول قصر الشيعي، ثم قاتلهم يوما إلى الليل، فانهزم عسكر أبي خول ولحق بتونس، ورجع بكتامة إلى مواضعهم. ولما دخل أبو خول بأبيه جدّد له العسكر وأعاده ثانية، وانتظمت إليه القبائل، وسار حتى نزل سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وزحف إليه أبو عبد الله فهزمه، ورجع إلى سطيف. ثم ارتحل منها إلى لقائهم، وفي أثناء ذلك صانع زيادة الله بعض الخدم على قتل أبيه أبي العباس فقتل نائما في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأطلق زيادة الله من اعتقاله.
__________
[1] سطيف: مدينة في جبال كتامة بين تاهرت والقيروان من أرض البربر ببلاد المغرب، وهي صغيرة إلا انها ذات مزارع وعشب عظيم، ومنها خرج ابو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المسمى بالمهديّ (معجم البلدان) .
[2] وفي نسخة أخرى بلزمة، ولم نجد لها مادة في معجم البلدان.

(4/262)


(ابنه أبو مضر زيادة الله)
ولما أطلق زيادة الله من الاعتقال اجتمع أهل الدولة وبايعوا له، فقتل الخصيان الذين قتلوا أباه، وأقبل على اللذات واللهو ومعاشرة المضحكين والصفاعين، وأهمل أمور الملك واستقل وكتب إلى أخيه أبي خول على لسان أبيه يستقدمه، وقدم فقتله وقتل عمومته وإخوته. وقوي أمر الشيعي، وانتقل زيادة الله إلى رقادة ليلا لئلا يخالفه الشيعي إليها. وفتح الشيعي مدينة سطيف فسرّح زيادة الله العساكر لحربه، وعقد عليها لإبراهيم بن حبيش من صنائعه، فخرج في أربعين ألفا، وأقام بقسطيلة ستة أشهر، فاجتمعت إليه مائة ألف، وزحف إلى كتامة، وتلقوه بأجانة فاخترمت عساكره وولت الهزيمة عليه. وانتهى إلى باغاية، ثم انتقل إلى القيروان وافتتح أبو عبد الله مدينة طبنة، وقتل فتح بن يحيى المسالتي وكان بها. ثم فتح بلزمة وهدم سورها. ثم وصل عروبة بن يوسف من أمراء كتامة إلى باغاية، وأوقع بالعساكر التي كانت بها مجمرة لحربهم بنظر هارون بن الطبني. وأرسل أبو عبد الله الشيعي إلى تيحيسن فحاصرها، ثم افتتحها صلحا، وكثر الإرجاف بالقيروان ففتح زيادة الله ديوان العطاء، واستلحق واستركب وأجمع الخروج فخرج إلى الأربس سنة خمس وتسعين، فلما انتهى إليها تخوف غائلة الشيعي، وأشار عليه أهل بيته بالرجوع فرجع إلى رقادة، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من وجوه أهل بيته. ثم زحف أبو عبد الله إلى باغاية ففتحها صلحا وهرب عاملها. ثم سرّب أبو عبد الله الجيوش فبلغت مجانة، وأوقعوا بقبائل نفزة، واستولوا على تيفاش. وزحف ابن أبي الأغلب إلى تيفاش فمنعه أهلها، وهزموا طلائعه فافتتحها، وقتل من كان بها. ثم خرج أبو عبد الله الشيعي في عساكر كتامة إلى باغاية ثم إلى سكاية، ثم إلى سبيبة، ثم إلى حمودة فاستولى على جميعها، وأمن أهلها ورحل ابن أبي الأغلب من الأربس. ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة وقفصة فأمّنهم، ودخلوا في دعوته، وانصرف إلى باغاية، ثم إلى أنكجان. وزحف ابن أبي الأغلب إلى باغاية فقاتلها، وامتنعت عليه ورجع إلى الأربس. ثم زحف أبو عبد الله إلى الأربس سنة ست وتسعين في جمادى، ومرّ بشق بنارية، وأمن أهلها إلى قمودة
.

(4/263)


(خروج زيادة الله الى المشرق)
ولما وصل الحبر إلى زيادة الله بوصول الشيعي إلى قمودة، حمل أمواله وأثقاله ولحق بطرابلس معتزما على الشرق. وأقبل الشيعي إلى إفريقية، وفي مقدمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، ووصل إلى رقادة في رجب سنة ست وتسعين ومائتين وتلقاه أهل القيروان وبايعوا لعبيد الله المهدي كما ذكرناه في أخبارهم ودولتهم. وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر يوما، وانصرف ومعه إبراهيم بن الأغلب، وكان نمي عنه أنه أراد الاستبداد لنفسه بالقيروان بعد خروج زيادة الله فأعرض عنه، واطرحه، وبلغ مصر فمنعه عاملها عيسى البرشدي من الدخول إلا عن أمر الخليفة، وأنزله بظاهر البلد ثمانية أيام وانصرف إلى ابن الفرات وزير المقتدر يستأذن له في الدخول فأتاه كتابه بالمقام في الرقة حتى يأتيه رأي المقتدر فأقام بها سنة.
ثم جاءه كتاب المقتدر بالرجوع إلى إفريقية. وأمر النوشزي بإمداده بالرجال والمال لاسترجاع الدعوة بإفريقية، ووصل إلى مصر فأصابته بها علة مزمنة، وسقط شعره.
ويقال إنه سم وخرج إلى بيت المقدس ومات بها. وتفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيامهم والبقاء للَّه وحده. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(بقية أخبار صقلّيّة ودولة بني أبي الحسن الكلبيين بها من العرب المستبدين بدعوة العبيديين وبداية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
ولما استولى عبيد الله المهدي على إفريقية ودانت له، وبعث العمال في نواحيها، بعث على جزيرة صقلّيّة الحسن بن محمد بن أبي خنزير من رجالات كتامة، فوصل إلى مأزر سنة سبع وتسعين ومائتين في العساكر، فولى أخاه على كبركيت، وولى على القضاء بصقلية إسحاق بن المنهال، ثم سار سنة ثمان وتسعين ومائتين في العساكر إلى ومش، فعاث في نواحيها ورجع. ثم شكى أهل صقلّيّة سوء سيرته وثاروا به

(4/264)


وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولى عليهم أحمد بن قهرب.
وبعث سرية إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي. ثم أرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طرمين المحدثة ليتخذها حصنا لحاشيته وأمواله، حذرا من ثورة أهل صقلّيّة، فحصرها ابنه ستة أشهر. ثم اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامة، وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه. وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى إفريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن بن أبي خنزير فقتلوه، وأحرقوا الأسطول. وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها وانتهوا إلى طرابلس. وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي ثم وصلت الخلع والألوية من المقتدر الى ابن قهرب. ثم بعث الجيش في الأسطول إلى قلورية فعاثوا في نواحيها ورجعوا. ثم بعث ثانية أسطولا إلى إفريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره، وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي. ثم ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر ابن خنزير في جماعة من خاصته. وولى على صقلّيّة أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة فركب إليها البحر فنزل في طرابنة، وعصى عليه أهل صقلّيّة بمن معه من العساكر فامتنعوا عليه، وقاتله أهل كبركيت وأهل طرابنة فهزمهم وقتلهم. ثم استأمن إليه أهل طرابنة فأمنهم وهدم أبوابها. وأمره المهدي بالعفو عنهم. ثم ولى المهدي على صقلّيّة سالم بن راشد، وأمده سنة ثلاث عشرة بالعساكر فعبر البحر إلى أرض أنكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصونا ورجعوا. ثم عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أياما ورحلوا عنها. ولم يزل أهل صقلّيّة يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلّيّة وقلورية، ويعيثون في نواحيها. وبعث المهدي سنة اثنتين وعشرين جيشا في البحر مع يعقوب بن إسحاق، فعاث في نواحي جنوة ورجعوا. ثم بعث جيشه من قابل ففتحوا مدينة جنوة، ومروا بسردانية فأحرقوا فيها مراكب وانصرفوا. ولما كانت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم. واستمد القائم فأمدّه بالعساكر مع خليل بن إسحاق، فلما وصل إلى صقلّيّة شكا إليه أهلها من سالم بن راشد واسترحمته النساء والصبيان. وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلّيّة بمثل ذلك فرق لشكواهم، ودس إليهم سالم بأن خليلا إنما جاء للانتقام منهم بمن قتلوا من

(4/265)


العسكر فعاودوا الخلاف، واختط خليل مدينة على مرسى المدينة، وسماها الخالصة. وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ست وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم، حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة، واجتمع أهل صقلّيّة على الخلاف، واستمدوا ملك القسطنطينية فأمدهم بالمقاتلة والطعام. واستمد خليل القائم فأمده بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلوط، وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين فارتحل عنها وحاصر كبركيت. ثم حبس عليها عسكرا للحصار مع أبي خلف بن هارون ورحل عنها، وطال حصارها إلى سنة تسع وعشرين فهرب كثير من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة.
ثم غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا ورجع خليل إلى إفريقية آخر سنة تسع وعشرين وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجة البحر فغرقوا أجمعين. ثم ولى على صقلّيّة عطاف الأزدي، ثم كانت فتنة أبي يزيد، وشغل القائم والمنصور بأمره، فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلّيّة للحسن ابن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قواده وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم. وكان سبب ولايته أن أهل بليرم [1] كانوا قد استضعفوا عطافا واستضعفهم العدو لعجزه، فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين، وتولى كبر ذلك بنو الطير منهم. ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمده، فولى الحسن بن علي على صقلّيّة وركب البحر إلى مأزر، وأرسى بها فلم يلقه أحد منهم. وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير. وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه فسبق ميعادهم ودخل المدينة، ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين واضطر بنو الطير إلى لقائه، وخرج إليهم [2] كبيرهم إسماعيل ولحق به من انحرف عن بني الطير، فكثر جمعه. ودس إسماعيل بعض غلمانه، فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أن الحسن لا يعاقب مملوكه، فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل
__________
[1] هي بلرم وقد مرت معنا في السابق.
[2] مقتضى السياق: خرج إليه.

(4/266)


واستحلفه على دعواه، وقتل عبده فسر الناس بذلك، ومالوا عن الطبري وأصحابه، وافترق جمعهم وضبط الحسن أمره، وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين. وبعث ملك الروم بطريقا في البحر في عسكر كبير إلى صقلّيّة، واجتمع هو والسردغرس. واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل، وجمع الحسن من كان عنده وسار برا وبحرا. وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها وزحف إليه الروم فصالحه على مال أخذه، وزحف إلى الروم ففروا من غير حرب. ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهرا وصالحهم على مال ورجع بالأسطول إلى مسينى فشتى بها. وجاءه أمر المنصور بالرجوع إلى قلورية فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس فهزمهم، وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة. ثم سار إلى خراجة فحاصرها حتى هادنه ملك الروم قسطنطين. ثم عاد إلى ربو [1] وبنى بها مسجدا وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأن من دخله من الأسرى أمن.
ولما توفي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن، واستخلف على صقلّيّة ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية فغزاها، وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفا مددا. وبعث أحمد يستمد المعز فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن. وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة وزحفوا إلى رمطة، ومقدم الجيوش على حصارها الحسن بن عمار وابن أخي الحسن بن علي فأحاط الروم بهم.
وخرج أهل البلد إليهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقتل جماعة من البطارقة معه. وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي. ثم فتحوا رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلّيّة وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب فحرقوا مراكبهم، وقتل كثير منهم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز، وكانت سنة أربع وخمسين وأسر فيها ألف من عظمائهم ومائة بطريق. وجاءت الغنائم والأسارى إلى مدينة بليرم، حاضرة صقلّيّة،
__________
[1] هي ريو وقد مرت معنا في السابق.

(4/267)


وخرج الحسن للقائهم، فأصابته الحمى من الفرح فمات، وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلّيّة بعد أن ولى المعز عليهم يعيش مولى الحسن فلم ينهض بالأمر، ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل، وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعز فولى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابة عن أخيه أحمد. ثم توفي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين واستبد بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلا محبا. وسار إليه سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها، وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم، فلما قاربهم خام عن اللقاء ورجع، وكان الأفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في اتباعه وأدركه فاقتتلوا، وقتل أبو القاسم في الحرب. وأهم المسلمين أمرهم فاستماتوا، وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة، ونجا بردويل إلى خيامه برأسه، وركب البحر إلى رومة. وولى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابر فرحل بالمسلمين لوقته راجعا، ولم يعرج على الغنائم. وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفا. وكان عادلا حسن السيرة. ولما ولي ابن عمه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور، وحسنت الأحوال. وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم.
وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وولي أخوه عبد الله فاتبع سيرة أخيه إلى أن توفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن، فأنسى بجلائله وفضائله من كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج، وعطل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمائة مع البربر والعبيد، فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله، ونفى البربر والعبيد، واستقامت أحواله. ثم انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني فثار عليه الناس بسببها، وجاءوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفة فتلطف بالناس، وسلم إليهم الباغاني فقتلوه، وقتلوه حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر، ورحل إلى مصر، وولى ابنه ابن جعفر سنة عشرة واربعمائة ولقبه بأسد الدولة بن تاج الدولة. ويعرف بالأكحل فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال، وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده

(4/268)


فأساء ابن جعفر السيرة، وتحامل على صقلّيّة ومال إلى أهل إفريقية. وضج الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان، وأظهروا دعوته، فبعث الأسطول فيه ثلاثمائة فارس مع ولديه عبد الله وأيوب، واجتمع أهل صقلّيّة وحصروا أميرهم الأكحل، وقتل وحمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمائة. ثم ندم أهل صقلّيّة على ما فعلوه وثاروا بأهل إفريقية، وقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة وأخرجوهم. وولوا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت الأمور، وغلب السفلة على الأشراف. ثم ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدموا عليهم ابن الثمنة من رءوس الأجناد، وتلقب القادر باللَّه واستبد بمازر ابنه عبد الله قبل الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقل بملك الجزيرة إلى أن أخذت من يده. ولما استبد ابن الثمنة بصقلية تزوج ميمونة بنت الجراس، فتخيل له منها شيء فسقاها السم. ثم تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها، وأفاقت فندم واعتذر فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها، ووقعت الفتنة. وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس فانتصر ابن الثمنة بالروم. وجاء القمص وجاز ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من إخوته وجمع من الإفرنج، ووعدهم بملك صقلّيّة فداخل في بيع مية. وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى إفريقية عمر بن خلف بن مكي فنزل، وولي قضاءها. ولم يزل الروم يملكونها حتى لم يبق إلا المعاقل. وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة. وتملكها رجار كلها وانقطعت كلمة الإسلام منها ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدّتهم خمس وتسعون سنة. ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه. وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب نزهة المشارق في أخبار الآفاق [1] وسماه قصار رجار علما عليه معروفا به في الشهرة والله مقدر الليل والنهار.
__________
[1] هو كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، صنفه لريشار الثاني صاحب صقلّيّة. قسم منه فيه صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ومعه مقدمة وترجمة وفهرس الأسماء وشرح الكلمات الاصطلاحية الموجودة فيه وكلها باللغة الفرنسية باعتناء الاستاذين دوزي ودي غويه. وسمي الكتاب صفة المغرب والسودان (معجم المطبوعات العربية) .

(4/269)


(الخبر عن جزيرة اقريطش وما كان بها للمسلمين من الملك على يد بني البلوطي الى أن استرجعها العدوّ)
هذه الجزيرة من جزر البحر الرومي ما بين صقلّيّة وقبرس في مقابلة الإسكندرية على يد الجالية أهل الربض. وذلك أن أهل الربض الغربي من قرطبة، وكان محلة متصلة بقصر الحكم بن هشام فنقموا عليه وثاروا به سنة اثنتين ومائتين، فأوقع بهم الوقعة المشهورة واستلحمهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، وأجلى الفلّ منهم إلى العدوة، ونزلوا بفاس وغيرها. وغرب آخرين إلى الإسكندرية فنزلوا وافترقوا في جوانبها. وتلاحى رجل منهم مع جزار من سوقة الإسكندرية فنادوا بالثأر، واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها، وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح، من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم. وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر فزحف إليهم، وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى جزيرة أقريطش فعمروها وأميرهم أبو حفص البلوطي. وتداولها بنوه من بعده مدة من مائة وأربعين سنة إلى أن ملكها أريانوس بن قسطنطين ملك القسطنطينية من يد عبد العزيز بن شعيب من أعقابه سنة خمس وثلاثمائة، وأخرجوا المسلمين منها والله يعيد الكرة ويذهب آثار الكفرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(أخبار اليمن والدول الإسلامية التي كانت فيه للعباسيين والعبيديين وسائر ملوك العرب وابتداء ذلك وتصاريفه على الجملة ثم تفصيل ذلك على مدنه وممالكه واحدة بعد واحدة)
قد كنا قدّمنا في أخبار السير النبويّة كيف صار اليمن في ملكة الإسلام بدخول عامله في الدعوة الإسلامية، وهو باذان عامل كسرى، وأسلم معه أهل اليمن. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على جميع مخاليفها، وكان منزله صنعاء كرسي التبابعة. ولما مات

(4/270)


بعد حجة الوداع قسم النبي صلى الله عليه وسلم اليمن على عمال من قبله، وجعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان. وذكرنا خبر الأسود العنسيّ، وكيف أخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن وزحف إلى صنعاء فملكها. وقتل شهربان بن باذان وتزوج امرأته واستولى على أكثر اليمن، وارتد أكثر أهله. وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وعماله وإلى من ثبت على إسلامه فداخلوا زوجة شهربان بن باذان التي تزوجها في أمره، على يد ابن عمها فيروز. وتولى كبر ذلك قيس بن عبد يغوث المرادي، فبيته هو وفيروز وذاذويه بإذن زوجته فقتلوه. ورجع عمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم، وذلك قبيل الوفاة. واستبدّ قيس بصنعاء وجمع الفل من جند الأسود فولى أبو بكر على اليمن فيروز فيمن إليه من الأبناء، وأمر الناس بطاعته فقاتل قيس بن مكشوح وهزمه. ثم ولّى أبو بكر المهاجر بن أبي أمية فقاتل أهل الردة باليمن، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يبدأ بالمرتدة.
فسار معها وحضر حرب الجمل. وولي على اليمن عبيد الله بن عباس، ثم أخاه عبد الله. ثم ولى معاوية على صنعاء فيروز الديلميّ، ومات سنة ثلاث وخمسين. ثم جعل عبد الملك اليمن في ولاية الحجاج لما بعثه لحرب ابن الزبير سنة اثنتين وسبعين.
ولما جاءت دولة بنى العبّاس، ولىّ السفاح على اليمن عمه داود بن علي حتى إذا توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ولى مكانه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الملك عبد الدار. ثم تعاقب الولاة على اليمن، وكانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون، وظهرت دعاة الطالبيين بالنواحي، وبايع أبو السرايا من بني شيبان بالعراق لمحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم أخو المهدي، النفس الزكية، محمد ابن عبد الله بن حسن. وكثر الهرج وفرق العمال في الجهات، ثم قتل وبويع محمد بن جعفر الصادق بالحجاز. وظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين، ولم يتم أمره، وكان يعرف بالجزار لسفكه الدماء وبعث المأمون عساكره الى اليمن فدوخوا نواحيه وحملوا كثيرا من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن كما نذكره.
(دعوة زياد بالدعوة العباسية)
ولما وفد وجوه أهل اليمن على المأمون، كان فيهم محمد زياد ولد عبد الله بن زياد بن

(4/271)


أبي سفيان فاستعطف المأمون وضمن له حياطة اليمن من العلويين فوصله، وولاه على اليمن، وقدمها سنة ثلاث ومائتين. وفتح تهامة اليمن وهي البلد التي على ساحل البحر الغربي. واختط بها مدينة زبيد، ونزلها وأصارها كرسيا لتلك المملكة. وولى على الجبال مولاه جعفرا، وفتح تهامة بعد حروب من العرب. واشترط على عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل، واستولى على اليمن أجمع. ودخلت في طاعته أعمال حضرموت والشحر وديار كندة، وصار في مرتبة التبابعة. وكان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية، ولهم مع صنعاء سبحان ونجران وجرش. وكان أخوهم أسعد بن يعفر، ثم أخوه قد دخلوا في طاعة ابن زياد، وولي بعده ابنه إبراهيم ثم ابنه زياد بن إبراهيم، ثم أخوه أبو الجيش إسحاق ابن إبراهيم. وطالت مدّته إلى أن أسن وبلغ الثمانين. وقال عمارة ملك ثمانين سنة باليمن وحضرموت والجزائر البحرية. ولما بلغه قتل المتوكل وخلع المستعين، واستبداد الموالي على الخلفاء مع ارتفاع اليمن ركب بالمظلة شأن سلاطين العجم المستبدين. وفي أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي ابن إبراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية، جاء بها من السند، وكان جده القاسم قد فرّ إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا، ومهلكه كما مرّ فلحق القاسم بالسند. وأعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان وثمانين، ونزل صعدة وأظهر دعوة الزيدية، وزحف إلى صنعاء فملكها من يد أسعد بن يعفر، ثم استردّها منه بنو أسعد ورجع إلى صعدة.
وكان شيعته يسمونه الإمام، وعقبه الآن بها. وقد تقدّم خبرهم. وفي أيام أبي الجيش بن زياد أيضا ظهرت دعوة العبيديين باليمن، فأقام بها محمد بن الفضل بعدن لاعة وجبال اليمن إلى جبال المديحرة سنة أربعين وثلاثمائة. وبقي له باليمن من السرجة إلى عدن عشرون مرحلة، ومن مخلافة الى صنعاء خمس مراحل. ولما غلبه محمد بن الفضل بهذه الدعوة امتنع أصحاب الأطراف عليه، مثل بني أسعد بن يعفر بصنعاء، وسليمان بن طرف بعثر، والإمام الرسي بصعدة فسلك معهم طريق المهادنة. ثم هلك أبو الجيش سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة بعد أن اتسعت جبايته وعظم ملكه. قال ابن سعيد: رأيت مبلغ جبايته وهو ألف ألف مكررة مرتين، وثلاثمائة ألف وستة وستون ألفا من الدنانير العشرية ما عدا ضرابية على مراكب السند، وعلى العنبر الواصل بباب المندب وعدن أبين، وعلى مغائص اللؤلؤ، وعلى جزيرة دهلك، ومن بعضها

(4/272)


وصائف. وكانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادونه ويخطبون مواصلته. ولما مات خلف صبيا صغيرا اسمه عبد الله، وقيل إبراهيم وقيل زياد، وكفلته أخته ومولاه رشيد الحبشي واستبد عليهم إلى أن انقرضت دولتهم سنة سبع وأربعمائة. ثم هلك هذا الطفل، فولوا طفلا آخر من بني زياد أصغر منه، وقال ابن سعيد: لم يعرف عمارة اسمه لتوالي الحجبة عليه، ويعني عمارة مؤرخ اليمن، وقيل هذا الطفل الأخير اسمه إبراهيم، وكفلته عمته ومرجان من موالي الحسن بن سلامة. واستبد بأمرهم ودولتهم، وكان له موليان اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، فجعل الطفل المملك في كفالته وأنزله معه بزبيد. وولى نجاحا على سائر الأعمال خارج زبيد ومنها الكرارة واللجم. كان يؤثر قيسا على نجاح، ووقع بينهما تنافر، ورفع لقيس أن عمة الطفل تميل إلى نجاح وتكاتبه دونه فقبض عليها بإذن مولاه مرجان ودفنها حية، واستبد وركب بالمظلة، وضرب السكة. وانتقض نجاح لذلك فزحف في العساكر وبرز قيس للقائه، فكانت بينهما حروب ووقائع، انهزم قيس في آخرها وقتل في خمسة آلاف من عسكره. وملك نجاح زبيد سنة عشرة وأربعمائة ودفن قيسا ومولاه مرجانا مكان الطفل والعمة، واستبد وضرب السكة باسمه. وكاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له على اليمن. ولم يزل مالكا لتهامة قاهرا لأهل الجبال، وانتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة. ولم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله علي الصليحي القائم بدعوة العبيديين على يد جارية بعث بها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فقام بالأمر بعده بزبيد مولاه كهلان. ثم استولى الصليحي على زبيد وملكها من يده كما يذكر.
(الخبر عن بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين باليمن)
كان القاضي محمد بن علي الهمدانيّ ثم الصليحي رئيس حران من بلاد همذان، وينتسب في بني يام، ونشأ له ولد اسمه علي، وكان صاحب الدعوة يومئذ عامر بن عبد الله الزوايي نسبة إلى زواية من قرى حران، ويقال إنه كان عنده كتاب لجعفر من ذخائر أبيهم بزعمهم، فزعموا أن علي ابن القاضي محمد مذكور فيه، فقرأ على علي عامل ابن خلدون م 18 ج 4

(4/273)


الداعي، وأخذ عنه. ولما توسم فيه الأهلية أراه مكان اسمه في الجفر وأوصافه. وقال لأبيه القاضي احتفظ بابنك فيملك جميع اليمن. ونشأ فقيها صالحا، وجعل يحج بالناس على طريق الطائف والسروات خمس عشرة سنة فطار ذكره، وعظمت شهرته، وألقى على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن. ومات الداعي عامر الزوايي، فأوصى له بكتبه، وعهد إليه بالدعوة. ثم حج بالناس سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على عادته، واجتمع بجماعة من قومه همذان كانوا معه، فدعاهم إلى النصرة والقيام معه فأجابوه وبايعوه، وكانوا ستين رجلا من رجالات قومهم، فلما عادوا قام في مسار وهو حصن بذروة جبل حمام، وحصن ذلك الحصن، ولم يزل أمره ينمى.
وكتب إلى المستنصر صاحب مصر يسأله الإذن في إظهار الدعوة فأذن له، وأظهرها وملك اليمن كله. ونزل صنعاء واختط بها القصور وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني طرف ملوك عثرة وتهامة، وأعمل الحيلة في قتل نجاح مولى بني زياد ملك زبيد، حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكرناه سنة اثنتين وخمسين. ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ليمحو منها الدعوة العباسية والإمارة الحسنية. واستخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد، وحمل معه زوجته أسماء بنت شهاب، قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى ابنها المكرم أني حبلى من العبد الأحول فأدركني قبل أن أضع، وإلا فهو العار الّذي لا يمحوه الدهر، فسار المكرم من صنعاء سنة خمس وسبعين في ثلاثة آلاف، ولقي الحبشة في عشرين ألفا فهزمهم. ولحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك، ودخل المكرم إلى أمه وهي جالسة بالطاق الّذي عنده رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما ورفع السيف. وولى خاله أسعد بن شهاب على أعمال تهامة كما كان، وأنزله بزبيد منها، وارتحل بأمه إلى صنعاء وكانت تدبر ملكه. ثم جمع أسعد بن شهاب أموال تهامة وبعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ففرقتها أسماء على وفود العرب. ثم هلكت أسماء سنة سبع وسبعين واربعمائة، وخرجت زبيد من يد المكرم، واستردها سعيد بن نجاح سنة تسع وسبعين واربعمائة، ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة ثمانين واربعمائة، وولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمدانيّ فاستبدّ بها، وتوارثها عقبه، وتسمى ابنه أحمد باسم السلطان واشتهر به، وبعده ابنه حاتم بن أحمد، وليس بعده بصنعاء من له ذكر حتى ملكها بنو سليمان لما غلبهم الهواشم على مكة كما مر في أخبارهم. ولما

(4/274)


انتقل المكرم إلى ذي جبلة وهي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وكان انتقاله بإشارة زوجه سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه أسماء فنزلها، وبنى فيها دار العز، وتحيل على قتل سعيد بن نجاح فتم له كما نذكر في أخبار ابن نجاح. وكان مشغولا بلذاته محجوبا بزوجته. ولما حضرته الوفاة سنة أربع وثمانين عهد إلى ابن عمه المنصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي صاحب معقل أشيح، وأقام بمعقله وسيدة بنت أحمد بذي جبلة، وخطبها المنصور سبا وامتنعت منه فحاصرها بذي جبلة، وجاءها أخوها لأمها سليمان بن عامر وأخبرها أن المستنصر زوجك منه، وأبلغها أمره بذلك، وتلا عليها: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ من أَمْرِهِمْ» 33: 36. وأن أمير المؤمنين زوجك من الداعي المنصور أبي حمير سبا بن أحمد بن المظفر على مائة ألف دينار، وخمسين ألفا من أصناف التحف واللطائف فانعقد النكاح، وسار إليها من معقل أشيح إلى ذي جبلة، ودخل إليها بدار العز، ويقال إنها شبهت بجارية من جواريها فقامت على رأسه ليلها كله، وهو لا يرفع الطرف اليها حتى أصبح فرجع إلى معقلة. وأقامت هي بذي جبلة. وكان المتولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني تام رهط الصليحي، واستدعى عشيرته جنيا. وأنزلهم عنده بذي جبلة فكان يسطو بهم. وكانت سيدة تأتي التعكر في الصيف، وبه ذخائرها وخزائنها، فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة. ثم انفرد المفضل لقتال نجاح فرتب في حصن التعكر فقيها يلقب بالجمل، مع جماعة من الفقهاء أحدهم إبراهيم بن زيد بن عمر عمارة الشاعر، فبايعوا الجمل على أن يمحو الدعوة الإمامية فرجع المفضل من طريقه وحاصرهم، وجاءت خولان لنصرتهم، وضايقهم المفضل وهلك في حصارهم سنة أربع وخمسمائة، فجاءت بعده الحرة سيدة وأنزلتهم على عهد فنزلوا، ووفت لهم به وكفلت عقب المفضل وولده. وصار معقل التعكر في يد عمران بن الذر الخولانيّ وأخيه سليمان. واستولى عمران على الحرة سيدة مكان المفضل. ولما ماتت استبد عمران وأخوه بحصن التعكر، واستولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة حتى باعه من الداعي الذريعي صاحب عدن كما يأتي، واعتصم بمعقل أشيح الّذي كان للداعي المنصور سبا بن أحمد، وذلك أن المنصور توفي سنة ست وثمانين وأربعمائة، واختلف أولاده من بعده، وغلب ابنه علي منهم على المعقل، وكان ينازع

(4/275)


المفضل بن أبي البركات والحرة سيدة، وأعياهما أمره، فتحيل المفضل بسم أودعه سفرجلا أهداه إليه فمات منه، واستولى بنو أبي البركات على بني المظفر في أشيح وحصونه، ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار. ولم يزل يبيع معاقلة حصنا حصنا حتى لم يبق له غير معقل تعز، أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة، وبلغ من العمر مائة سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(الخبر عن دولة بني نجاح بزبيد موالي بني زياد ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
ولما استولى الصليحي على زبيد من يد كهلان بعد أن أهلكه بالسم على يد الجارية التي بعثها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة كما مرّ. وكان لنجاح ثلاثة من الولد معارك وسعيد وجياش، فقتل معارك نفسه، ولحق سعيد وجياش بجزيرة دهلك وأقاما هنالك يتعلمان القرآن والآداب. ثم رجع سعيد إلى زبيد مغاضبا لأخيه جياش، واختفى بها في نفق احتفره تحت الأرض. ثم استقدم أخاه جياشا فقدم وأقاما لك في الاختفاء. ثم إن المستنصر العبيدي الخليفة بمصر قطع دعوته بمكة محمد بن جعفر أميرها من الهواشم، فكتب إلى الصليحي يأمره بقتاله وحمله على إقامة الدعوة العلوية بمكة، فسار علي الصليحي لذلك من صنعاء، وظهر سعيد وأخوه من الاختفاء وبلغ خبرهم الصليحي فبعث عسكرا نحوا من خمسة آلاف فارس، وأمرهم بقتلهما. وقد كان سعيد وجياش خالفا العسكر وسارا في اتباع الصليحي وهو في عساكره فبيتوه في اللجم وهو متوجه إلى مكة فانتقض عسكره وقتل. وتولى قتله جياش بيده سنة ثلاث وسبعين واربعمائة ثم قتل عبد الله الصليحي أخا عليّ في مائة وسبعين من بني الصليحي، وأسر زوجته أسماء بنت عمه شهاب في مائة وخمس وثلاثين من ملوك القحطانيين الذين غلبوا باليمن. وبعث إلى العسكر الذين ساروا لقتل سعيد وجياش فأمنهم واستخدمهم، ورحل إلى زبيد وعليها أسعد بن شهاب أخو زوجة الصليحي، ففرّ أسعد إلى صنعاء ودخل سعيد إلى زبيد، وأسماء زوجة الصليحي أمامه في هودج، ورأس الصليحي وأخيه عند هودجها. وأنزلها بدارها

(4/276)


ونصب الرأسين قبالة طاقها في الدار. وامتلأت القلوب منه رعبا، وتلقب نصير الدولة، وتغلب ولاة الحصون على ما بأيديهم. ودس المكرم بن الصليحي بن سعيد ابن نجاح بصنعاء على لسان بعض أهل الثغور، وضمن له الظفر، فجاء سعيد لذلك في عشرين ألفا من الحبشة. وسار إليه المكرم من صنعاء وهزمه وحال بينه وبين زبيد فهرب إلى جزيرة دهلك، ودخل المكرم زبيد وجاء إلى أمه وهي جالسة بالطاق وعندها رأس الصليحي وأخيه فأنزلهما ودفنهما. وولى على زبيد خاله أسعد سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وكتب المكرم إلى عبد الله بن يعفر صاحب حصن الشعر بأن يغري سعيدا بالمكرم، وانتزاع ذي جبلة من يده لاشتغاله بلذاته، واستيلاء زوجه سيدة بنت أحمد عليه. وأنه بلخ فتمّت الحيلة فسار سعيد في ثلاثين ألفا من الحبشة وأكمن له المكرم تحت حصن الشعر فثاروا به هنالك. وانهزمت عساكره وقتل ونصب رأسه عند الطاق الّذي كان فيها رأس الصليحي بزبيد. واستولى عليها المكرم وانقطع منها ملك الحبشة. وهرب جياش ومعه وزير أخيه خلف بن أبي الظاهر المرواني، ودخلا عدن متنكرين. ثم لحقا بالهند وأقاما بها ستة أشهر، ولقيا هنالك كاهنا جاء من سمرقند فبشرهما بما يكون لهما فرجعا الى اليمن، وتقدم خلف الوزير إلى زبيد، وأشاع موت جياش واستأمن لنفسه، ولحق جياش فأقاما هنالك مختفيين، وعلى زبيد يومئذ أسعد بن شهاب خال المكرم ومعه علي بن القم وزير المكرم، وكان حنقا على المكرم ودولته، فداخله الوزير خلف ولاعب ابنه الحسين الشطرنج. ثم انتقل إلى ملاعبة أبيه فاغتبط به، وأطلعه على رأيه في الدولة، وكان يتشيع لآل نجاح. وانتمى بعض الأيام وهو يلاعب، فسمعه علي بن القم واستكشف أمره، فكشف له القناع واستحلفه، وجياش أثناء ذلك يجمع أشياعه من الحبشة، وينفق فيهم الأموال حتى اجتمع له خمسة آلاف، فثار بهم في زبيد سنة اثنتين وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة ومن على أسعد بن شهاب وأطلقه لزمانة وكانت به.
وبقي ملكا على زبيد يخطب للعباسيين والصليحيون يخطبون للعبيديين، والمكرم يبعث العرب للغارة على زبيد كل حين إلى أن هلك جياش على رأس المائة الخامسة، وكانت كنيته ابن القطاي. وكان موصوفا بالعدل. وولي بعده ابنه الفاتك صبيا لم يحتلم، ودبروا ملكه. وجاء عمه إبراهيم لقتاله، وبرزوا له فثار عبد الواحد بالبلد، وبعث منصور إلى الفضل بن أبي البركات صاحب التعكر فجاء لنصره

(4/277)


مضمرا للغدر به. ثم بلغه انتقاض أهل التعكر عليه فرجع، ولم يزل منصور في ملكه بزبيد إلى أن وزر له أبو منصور عبيد الله فقتله مسموما سنة سبع عشرة وخمسمائة، ونصب فاتكا ابنه طفلا صغيرا. واستبد عليه، وقام بضبط الملك وهان عليه التعرض لآل نجاح حتى هربت منه أم فاتك هذا، وسكنت خارج المدينة، وكان قرما شجاعا، وله وقائع مع الأعداء. وحاربه ابن نجيب داعي العلوية فامتنع عليه، وهو الّذي شيد المدارس للفقهاء بزبيد واعتنى بالحاج. ثم راود مفارك بنت جياش، ولم تجد بدّا من إسعافه فأمكنته حتى إذا قضى وطره مسحت ذكره بمنديل مسموم فنثر لحمه. وذلك سنة أربع وعشرين وخمسمائة. وقام بأمر فاتك بعده زريق من موالي نجاح. قال عمارة: كان شجاعا فاتكا قرما، وكان من موالي أم فاتك المخصين بها.
قال عمارة: وفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة توفي فاتك بن المنصور، وولي بعده ابن عمه وسميه فاتك بن محمد بن فاتك، وسرور قائم بوزارته وتدبير دولته ومحاربة أعدائه. وكان يلازم المسجد إلى أن دس عليه علي بن مهدي الخارجي من قتله في المسجد وهو يصلي العصر يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وثار السلطان بالقاتل فقتل جماعة من أهل المسجد، ثم قتل واضطرب موالي نجاح بالدولة وثار عليهم ابن مهدي الخارجي وحاربهم مرارا، وحاصرهم طويلا واستعانوا بالشريف المنصور أحمد بن حمزة السليماني، كان يملك صعدة فأغاثهم على أن يملكوه ويقتلوا سيدهم فاتك بن محمد، فقتلوه سنة ثلاث وخمسين، وملكوا عليهم الشريف أحمد، فعجز عن مقاومة ابن مهدي، وفرّ تحت الليل، وملكها علي بن مهدي سنة أربع وخمسين وخمسمائة وانقرض أمر آل نجاح والملك للَّه.
(الخبر عن دولة بني الزريع بعدن من دعاة العبيديين باليمن وأولية أمرهم ومصايره)
وعدن هذه من أمنع مدائن اليمن، وهي على ضفة البحر الهندي. وما زالت بلد تجارة من عهد التبابعة، وأكثر بنائهم بالأخصاص، ولذلك يطرقها تجار الحرير كثيرا، وكانت صدر الإسلام دار ملك لبني معن ينتسبون إلى معن بن زائدة، ملكوها من

(4/278)


أيام المأمون، وامتنعوا على بني زياد، قنعوا منهم بالخطبة والسكة. ولما استولى الداعي علي بن محمد الصليحي رعى لهم ذمام العروبية، وقرر عليهم ضريبة يعطونها. ثم أخرجهم منها ابنه أحمد المكرم. وولّى عليها بني المكرم من عشيرة جسم ابن يام من همذان، وكانوا أقرب عشائره إليه، فأقامت في ولايتهم زمنا. ثم حدثت بينهم الفتنة وانقسموا إلى فئتين بني مسعود بن المكرم وبني الزريع بن العباس بن المكرم. وغلب بنو الزريع بعد حروب عظيمة. قال ابن سعيد: وأول مذكور منهم الداعي بن أبي السعود بن الزريع، أول من اجتمع له الملك بعد بني الصليحي، وورثه عنه بنوه، وحاربه ابن عمه علي بن أبي الغارات بن مسعود بن المكرم صاحب الزعازع، فاستولى على عدن من يده بعد مقاساة ونفقات في الأعراب.
ومات بعد فتحها بسبعة أشهر سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وولي ابنه الأغر وكان مقيما بحصن الدملوة المعقل الّذي لا يرام. وامتنع عليه بعده ابن بلال بن الزريع من مواليه، وخشي محمد بن سبا على نفسه ففرّ إلى منصور بن المفضل من ملوك الجبال الصليحيين بذي جبلة. ثم مات الأغر قريبا فبعث بلال عن محمد بن سبا فوصل إلى عدن، وكان التقليد جاء من مصر باسم الأغر، فكتب مكانه محمد بن سبا وكان نعوته الداعي المعظم المتوج المكنى بسيف أمير المؤمنين فوقعت كلها عليها.
وزوجه بلال بنته ومكنه من الأموال التي كانت في خزائنه. ثم مات بلال عن مال عظيم، وورثه محمد بن سبا وأنفقه في سبيل الكرم المروءات. واشترى حصن ذي جبلة من منصور بن المفضل بن أبي البركات كما ذكرناه. واستولى عليه وهو دار ملك الصليحيين، وتزوج سيدة بنت عبد الله الصليحي، وتوفي سنة ثمان وأربعين. وولي ابنه عمران بن محمد بن سبا. وكان ياسر بن بلال يدبر دولته، وتوفي سنة ستين وخمسمائة، وترك ولدين صغيرين، وهما محمد وأبو السعود فحبسهما ياسر بن بلال في القصر، واستبد بالأمر. وكان ياسر محمد كثير العطية للشعراء ومن وفد عليه ومدحه ابن قلاقس شاعر الإسكندرية ومن قصائده في مدحه:
سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
وهو آخر ملوك الزريعيين. ولما دخل سيف الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن سنة ست وستين وستمائة، واستولى عليها جاء إلى عدن فملكها وقبض على ياسر بن بلال، وانقطعت دولة بني زريع. وصار اليمن للمعز، وفيه ولاتهم بنو أيوب كما نذكر في

(4/279)


أخبارهم. وكانت مدينة الجدة قرب عدن اختطها ملوك الزريعيين، فلما جاءت دولة بنى أيوب تركوها ونزلوا تعز من الجبال كما يأتي ذكره.
(أخبار ابن مهدي الخارجي وبنيه وذكر دولتهم باليمن وبدايتها وانقراضها)
هذا الرجل من أهل العثرة من سواحل زبيد، وهو علي بن مهدي الحميري. كان أبوه مهدي معروفا بالصلاح والدين، ونشأ ابنه على طريقته فاعتزل ونسك. ثم حج ولقي علماء العراق وأخذ الوعظ من وعاظهم، وعاد إلى اليمن واعتزل ولزم الوعظ.
وكان حافظا فصيحا، ويخبر بحوادث أحواله فيصدق، فمال إليه الناس واغتبطوا به، وصار يتردّد للحج سنة إحدى وستين، ويعظ الناس في البوادي. فإذا حضر الموسم ركب على نجيب له ووعظ الناس ولما استولت أم فاتك على بني جياش أيام ابنها فاتك بن منصور، أحسنت فيه المعتقد وأطلقت له ولقرابته وأصهاره خرجهم فحسنت أحوالهم، وآثروا وركبوا الخيول. وكان يقول في وعظه: دنا الوقت! يشير إلى وقت ظهوره. واشتهر ذلك عنه، وكانت أم فاتك تصل أهل الدولة عنه، فلما ماتت سنة خمس وأربعين جاءه أهل الجبال وحالفوه على النصرة. وخرج من تهامة سنة ثمان وثلاثين وقصد الكودا فانهزم وعاد إلى الجبال، وأقام إلى سنة إحدى وأربعين. ثم أعادته الحرّة أم فاتك إلى وطنه، وماتت سنة خمس وأربعين فخرج إلى هوازن، ونزل ببطن منهم يقال له حيوان في حصن يسمى الشرف، وهو حصن صعب ليس يرتقي على مسيرة يوم من سفح الجبل، في طريقه أو عار في واد ضيق عقبة كئود.
وأصحابه سماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة المهاجرين. وأمر للأنصار رجلا اسمه سبا وللمهاجرين آخر اسمه شيخ الإسلام واسمه النوبة واحتجب عمن سواهما. وجعل يشن الغارات على أرض تهامة، وأعانه على ذلك خراب النواحي بزبيد فأخرب سابلتها ونواحيها، وانتهى إلى حصن الداثر على نصف مرحلة من زبيد، وأعمل الحيل في قتل مسرور مدبر الدولة فقتل كما مرّ، وأقام يخيف زبيد بالزحوف. قال عمارة: زاحفها سبعين زحفا، وحاصرها طويلا، واستمدوا الشريف أحمد بن حمزة السليماني صاحب صعدة فأمدهم وشرط عليهم قتل سيدهم فاتك

(4/280)


فقتلوه سنة ثلاث وخمسين. وملك عليهم الشريف ثم عجز وهرب عنهم. واستولى علي بن مهدي عليها في رجب سنة أربع وخمسين، ومات لثلاثة أشهر من ولايته.
وكان يخطب له بالإمام المهدي أمير المؤمنين. وقامع الكفرة والملحدين، وكان على رأي الخوارج يتبرأ من علي وعثمان ويكفر بالذنوب، وله قواعد وقواميس في مذهبه يطول ذكرها. وكان يقتل على شرب الخمر. قال عمارة: كان يقتل من خالفه من أهل القبلة، ويبيح نساءهم وأولادهم، وكانوا يعتقدون فيه العصمة، وكانت أموالهم تحت يده ينفقها عليهم في مؤنهم ولا يملكون معه مالا ولا فرسا ولا سلاحا.
وكان يقتل المنهزم من أصحابه ويقتل الزاني وشارب الخمر وسامع الغناء، ويقتل من تأخر عن صلاة الجماعة ومن تأخر عن وعظه يوم الإثنين والخميس. وكان حنفيا في الفروع. ولما توفي تولى بعده ابنه عبد النبي، وخرج من زبيد واستولى على اليمن أجمع، وبه يومئذ خمس وعشرون دولة فاستولى على جميعها ولم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية. ولما دخل شمس الدولة تور شاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة ست وستين وخمسمائة، واستولى على الدولة التي كانت باليمن، فقبض على عبد النبي وامتحنه وأخذ منه أموالا عظيمة، وحمله إلى عدن فاستولى عليها. ثم نزل زبيد واتخذها كرسيا لملكه. ثم استوخمها وسار في الخيال ومعه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء ليتخذ فيه سكناه، فوقع اختيارهم على مكان تعز، فاختط به المدينة ونزلها.
وبقيت كرسيا لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكر في أخبارهم. وبانقراض دولة بني المهدي انقرض ملك العرب من اليمن وصار للغز ومواليهم.
(قواعد اليمن)
(ولنذكر الآن) طرفا من الكلام على قواعد اليمن ومدته واحدة واحدة كما أشار إليه ابن سعيد (اليمن) من جزيرة العرب يشتمل على كراسي سبعة للملك تهامة والجبال، وفي تهامة مملكتان: مملكة زبيد ومملكة عدن. ومعنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة

(4/281)


البحر الهندي. قال ابن سعيد: وجزيرة العرب في الإقليم الأول ويحيط بها البحر الهندي من جنوبها، وبحر السويس من غربها، وبحر فارس من شرقها. وكانت اليمن قديما للتبابعة وهي أخصب من الحجاز، وأكثر أهلها القحطانية، وفيها من عرب وائل وملكها لهذا العهد لبني رسول موالي بني أيوب، ودار ملكهم تعز، بعد أن نزلوا الحرة أولا وبصعدة من اليمن أئمة الزيدية، وبزبيد وهي مملكة اليمن شمالها الحجاز وجنوبها البحر الهندي وغربها بحر السويس، اختطها محمد بن زياد أيام المأمون سنة أربع ومائتين. وهي مدينة مسورة تدخلها عين جارية، تحلها الملوك. وعليها غيطان يسكنونها أيام الغلة، وهي الآن من ممالك بني رسول، وبها كان ملك بني زياد ومواليهم، ثم غلب عليها بنو الصليحي وقد مر خبرهم. (عثر وحلى والسرجة) من أعمال زبيد في شمالها، وتعرف بأعمال ابن طرف، مسيرة سبعة أيام في يومين من السرجة إلى حلى، ومكة ثمانية أيام. وعثر هي منبر الملك وهي على البحر، وكان سليمان بن طرف ممتنعا بها على أبي الجيش بن زياد. وكان مبلغ ارتفاعه خمسمائة ألف دينار، ثم دخل في طاعته وخطب له وحمل المال. ثم صارت هذه المملكة للسليمانيين من بني الحسن من أمراء مكة حين طردهم الهواشم عن مكة. وكان غالب ابن يحيى منهم يؤدي الإتاوة لصاحب زبيد وبه استعان محمد مفلح الفاتكي من سرور. ثم هلك بعدها. ثم عيسى بن حمزة من بنيه. ولما ملك الغز اليمن، أخذ يحيى أخو عيسى أسيرا وسيق إلى العراق فحاول عليه عيسى فتخلصه من الأسر.
ورجع إلى اليمن فقتل أخاه عيسى وولى مكانه المهجم من أعمال زبيد على ثلاثة مراحل عليها، وعربها من العسيرة من حكم وجعفر قبيلتين منهم. ويجلب منها الزنجبيل. (السرير) آخر أعمال تهامة من اليمن وهي على البحر دون سور، وبيوتها أخصاص وملكها راجح بن قتادة سلطان مكة أعوام الخمسين وستمائة. وله قلعة على نصف مرحلة منها. (الزرائب) من الأعمال الشمالية من زبيد، وكانت لابن طرف واجتمع له فيها عشرون ألفا من الحبشة الذين معه جميعا. وقال ابن سعيد في أعمال زبيد والأعمال التي في الطريق الوسطى بين البحر والجبال. وهي في خط زبيد في شماليها، وهي الجادة إلى مكة. قال عمارة: هي الجادة السلطانية منها إلى البحر يوم أو دونه، وكذلك إلى الجبال. ويجتمع الطريقان الوسطى والساحلية في السرير ويفترقان. (عدن) من ممالك اليمن في جوف زبيد وهي كرسي عملها،

(4/282)


وهي على ضفة البحر الهندي. وكانت بلد تجارة منذ أيام التبابعة، وبعدها عن خط الاستواء ثلاث عشرة درجة، ولا تنبت زرعا ولا شجرا ومعاشهم السمك، وهي ركاب الهند من اليمن وأول ملكها لبني معن بن زائدة، استقاموا لبني زياد وأعطوهم الإتاوة. ولما ملك الصليحيون أقرهم الداعي. ثم أخرجهم ابنه أحمد المكرم وولاها بني المكرم من جشم بن يام رهطه بهمدان، وصفا الملك فيها لبني الزريع منهم، وقنع منهم بالإتاوة حتى ملكها من أيديهم شمس الدولة بن أيوب كما تقدم.
(عدن أبين) من بينات المدن وهي إلى جهة الشحر. (الزعزاع) باودية ابن أيوب عدن، وكانت لبني مسعود بن المكرم المقارعين لبني الزريع (الجوة) اختطها ملوك الزريعيين قرب عدن، ونزلها بنو أيوب ثم انتقلوا إلى تعز. (حصن ذي جبلة) من حصون مخلاف جعفر اختطه عبد الله الصليحي أخو الداعي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وانتقل إليه ابنه المكرم من حصن صنعاء. وزوجه سيدة بنت أحمد المستبدة عليه، وهي التي تحكمت سنة ثمانين. ومات المكرم وقد فوض الأمر في الملك والدعوة إلى سبا بن أحمد بن المظفر الصليحي، وكان في معقل أشيح، وكانت تستظهر بقبيل جنب، وكانوا خاملين في الجاهلية فظهروا بمخلاف جعفر. ثم وصل من مصر ابن نجيب الدولة داعيا ونزل مدينة جند، واعتضد بهمذان فحاربته السيدة بجنب وخولان إلى أن ركب البحر وغرق. وكان يتولى أمورها المفضل ابن أبي البركات بعد زوجها المكرم، واستولى عليها (التعكر) من مخلاف جعفر، كان لبني الصليحي، ثم لسيدة من بعدهم ثم طلبه منها المفضل بن أبي البركات فسلمته إليه، وأقام فيه إلى أن سار إلى زبيد وحاصر فيها بني نجاح، وطالت غيبته فثار بالتعكر جماعة من الفقهاء وقتلوا نائبة وبايعوا لإبراهيم بن زيدان منهم، وهو عمارة الشاعر. واستظهروا بخولان فرجع المفضل وحاصرهم كما ذكرنا ذلك من قبل. (حصن خدد) كان لعبد الله بن يعلي الصليحي وهو من مخلاف جعفر، وكان المفضل قد أدخل من خولان في حصون المخلاف عددا كثيرا في بني بحر وبني منبه ورواح وشعب. فلما مات المفضل وفي كفالته سيدة كما مرّ، وثب مسلم بن الذر من خولان في حصن خدد وملكه من يد عبد الله بن يعلى الصليحي، ولحق عبد الله بحصن مصدود ورشحته سيدة لمكان المفضل، واستخلصته الدولة من مدينة الجند ومن اليمن بأمرها. (حصن مصدود) : من حصون مخلاف جعفر وهي

(4/283)


خمسة: [1] ذو جبلة والتعكر وحصن خدد. ولما غلبت خولان على حصن خدد من يد عبد الله الصليحي، ولحق بحصن مصدود واستولى عليه منهم زكريا بن شكير البحري، وكان بنو الكردي من حمير ملوكا قبل بني الصليحي باليمن، وانتزع بنو الصليحي ملكهم، وكان لهم مخلاف بحصونه ومخلاف مغافر ومخلاف الجند، وحصن سمندان. ثم استقرت لمنصور بن المفضل بن أبي البركات وباعها من بني الزريع كما مرّ. (صنعاء) قاعدة التبابعة قبل الإسلام، وأول مدينة اختطت باليمن، وبنتها فيما يقال عاد، وكانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم. وقصر غمدان قريب منها أحد البيوت السبعة، بناه الضحّاك باسم الزهرة، وحجّت إليه الأمم، وهدمه عثمان. وصنعاء أشهر حواضر اليمن، وهي فيما يقال معتدلة، وكان فيها أول المائة الرابعة بنو يعفر من التبابعة ودار ملكهم كحلان، ولم يكن لها نباهة في الملك إلى أن سكنها بنو الصليحى وغلب عليها الزيدية، ثم السليمانيون من بعد بني الصليحي.
(قلعة كحلان) من أعمال صنعاء لبني يعفر من التبابعة بناها قرب صنعاء إبراهيم وكانت له صعدة ونجران. واعتصم بنو يعفر بقلعة كحلان، وقال البيهقي: سيد قلعة كحلان أسعد بن يعفر، وحارب بني الرسي وبني زياد أيام أبي الجيش. (حصن الصمدان) من أعمال صنعاء كانت فيه خزائن بني الكردي الحميريين إلى أن ملكه علي الصليحي ورد عليهم المكرم بعض حصونهم إلى أن انقرض أمرهم على يد علي ابن مهدي. وكان لهم مخلاف [2] جعفر الّذي منه مدينة ذي جبلة، ومعقل التعكر وهو مخلاف الجند، ومخلاف معافر مقرّ ملكهم السمدان وهو أحصن من الدولة.
(قلعة منهاب) من قلاع صنعاء بالجبال ملكها بنو زريع واستبدّ بها منهم الفضل ابن علي بن راضي بن الداعي محمد بن سبا بن زريع، نعته صاحب الجزيرة بالسلطان، وقال: كانت له قلعة منهاب وكان حيا سنة ست وثمانين وخمسمائة، وصارت بعده لأخيه الأغر أبي علي (جبل الدبجرة) وهو بقرب صنعاء وقد اختط جعفر مولى بني زياد سلطان اليمن مخلاف جعفر فنسب إليه. (عدن لاعة) بجانب الدبجرة، أول موضع ظهرت فيه دعوة الشيعة باليمن، ومنها محمد
__________
[1] ذكر اربعة وهي خمسة والظاهر ان الخامس هو حصن مصدود.
[2] في لسان العرب: وقال الليث: يقال فلان من مخلاف كذا وكذا وهو عند اليمن كالرستاق والجمع مخاليف.

(4/284)


ابن المفضل الداعي. ووصل إليها أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب. وفيها قرأ على علي بن محمد الصليحي صبيا وهي دار دعوة اليمن. كان محمد بن المفضل داعيا على عهد أبي الجيش بن زياد وأسعد بن يعفر. (بيجان) ذكرها عمارة في المخاليف الجبلية وملكها نستوان بن سعيد القحطاني. (تعمر) من أجلّ معاقل الجبال المطلة على تهامة، ما زال حصنا للملوك، وهو اليوم كرسي لبني رسول ومعدود في الأمصار، وكان به من ملوك اليمن منصور بن المفضل بن أبي البركات، وبنو المظفر، وورثها عنه ابنه منصور ثم باعها حصنا حصنا من الداعي بن المظفر والداعي الزريعي، إلى أن بقي بيده حصن تعمر فأخذه منه ابن مهدي. (معقل أشيح) من أعظم حصون الجبال وفيه خزائن بني المظفر من الصليحيين صارت له بعهد المكرم ابن عمه صاحب ذي جبلة، وقلده المستنصر الدعوة وتوفي سنة ست وثمانين وأربعمائة. وغلب ابنه عليّ على معقل الملك أشيح. وأعيا المفضل أمره إلى أن تحيل عليه وقتله بالسم، وصارت حصون بني المظفر إلى بني أبي البركات. ثم مات المفضل وخلف ابنه منصورا. واستقل بملك أبيه بعد حين وباع جميع الحصون تباع ذا جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار، وحصن صنبر بعد أن كان حلف بالطلاق من زوجته أنه يستبقيه، وطلق زوجته الحرة وتزوجها الزريعي، وطال عمره. ملك ابن عشرين وبقي في الملك ثمانين، وأخذ منه معقل علي بن مهدي. (صعدة) مملكتها تلو مملكة صنعاء، وهي في شرقيها، وفي هذه المملكة ثلاثة قواعد صعدة وجبل قطابة وحصن تلا وحصون أخرى، وتعرف كلها ببني الرسي، وقد تقدم ذكر خبره. وأما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطئ الّذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا، بعد أن استولى عليها بنو سليمان، فأوى إلى جبل قطابة. ثم بايعوا لأحمد الموطئ سنة، خمس وأربعين وستمائة، وكان فقيها عابدا وحاصره نور الدين بن رسول في هذا الحصن سنة جمر عليه عسكرا للحصار. ثم مات ابن رسول سنة ثمان وأربعين واشتغل ابنه المظفر بحصار حصن الدمولة، فتمكن الموطئ وملك حصون اليمن، وزحف إلى صعدة وبايعه السليمانيون وإمامهم أحمد المتوكل كما مر في أخبار بني الرسي، وأما قطابة فهو جبل شاهق مشرف على صعدة إلى أن كان ما ذكرناه. (حران ومسار) أما حران فهو إقليم من بلاد همذان، وحران بطن من بطونهم، كان منهم الصليحي، وحصن مسار هو الّذي ظهر فيه الصليحي

(4/285)


وهو من إقليم حران. قال البيهقي: بلادهم شرقية بجبال اليمن وتفرّقوا في الإسلام ولم يبق لهم قبيلة وفرقة إلا في اليمن، وهو أعظم قبائل اليمن وبهم قام الموطئ، وملكوا جملة من حصون الجبال، ولهم بها إقليم بكيل وإقليم حاشد، وهما ابنا جشم بن حيوان أنوق بن همذان. قال ابن حزم: ومن بكيل وحاشد افترقت قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع أصحاب السلطنة والدعوة في عدن والجوة، ومنهم بنو يام من قبائل همذان انتهى. ومن همذان بنو الزريع سبعة وهم الآن في نهاية من التشيع ببلادهم وأكثرهم زيدية. (بلاد خولان) قال البيهقي: هي شرقية من جبال اليمن، ومتصلة ببلاد همذان، وهي حصون خدد والتعكر وغيرهما. وهم أعظم قبائل اليمن مع همذان ولهم بطون كثيرة. وافترقوا على بلاد الإسلام ولم يبق منهم وبرية إلا باليمن (مخلاف بني أصح) هو بوادي سحول وذو أصح الّذي ينسبون إليه قد تقدم ذكره في أنساب حمير من التبابعة والأقيال، ومخلاف يحصب مجاور له وهو أخو أصبح. (مخلاف بني وائل) مدينة هذا المخلاف شاحط وصاحبها أسعد بن وائل وبنو وائل بطن من ذي الكلاع. وذو الكلاع من سبا تغلبوا على هذه البلاد عند مهلك الحسن بن سلامة، حتى عادوا إلى الطاعة واختط مدينة الكدد على مخلاف سهام، ومدينة المعقل على وادي دوال، ومات سنة اثنتين وأربعمائة. (بلاد كندة) وهي من جبال اليمن مما يلي حضرموت، وجبال الرمل وكان لهم بها ملوك وقاعدتهم دمون ذكرها أمرؤ القيس في شعره [1] . (بلاد مذحج) موالي جهات الجند من الجبال وينزلها من مذحج عنس وزبيد ومراد. ومن عنس بإفريقية فرقة وبرية مع ظواعن أهلها، ومن زبيد بالحجاز بنو حرب بين مكة والمدينة. وبنو زبيد الذين بالشام والجزيرة فهم من طيِّئ وليسوا من هؤلاء. (بلاد بني نهد) في أجواف السروات وتبالة [2] والسروات بين تهامة والجبال ونجد من اليمن والحجاز كسوأة الفرس. وبنو نهد من قضاعة سكنوا اليمن جوار خثعم وهم كالوحوش، والعامة تسميهم السرو، وأكثرهم أخلاط من جبلة وخثعم. ومن بلادهم تبالة يسكنها قوم من نهير وائل ولهم بها صولة، وهي التي وليها الحجاج واستحقرها فتركها. (البلاد المضافة
__________
[1] تطاول الليل علينا دمون. ودمون بلدة بحضرموت على ما جاء في الوسيط.
[2] وهي البلدة التي وليها الحجاج أول أمره، وقد ولاه إياها عبد الملك بن مروان مكافأة له بعد ان ابرع في حشد الجند الى العراق.

(4/286)


إلى اليمن) أولها الثمامة. قال البيهقي: هو بلد منقطع بعمله والتحقيق أنه من الحجاز كما هي نجران من اليمن. وكذا قال ابن حوقل وهي دونها في المملكة، وأرضها تسمى العروض لاعتراضها بين الحجاز والبحرين. وفي شرقيها البحرين وغربيها أطراف اليمن والحجاز، وجنوبها نجران، وشمالها نجد من الحجاز. وفي أطرافها عشرون مرحلة، وهي على أربعة أميال من مكة. وقاعدتها حجر «بالفتح» . وبلد اليمامة كانت مقرا لملوك بني حنيفة. ثم اتخذ بنو حنيفة حجرا وبينهما يوم وليلة، وبظواهرها أحياء من بني يربوع من تميم، وأحياء من بني عجل. قال البكري: واسمها جو، وسميت باسم زرقاء اليمامة، سماها بذلك تبع الآخر، وهي في الإقليم الثاني مع مكة، وبعدهما عن خط الاستواء [1] واحد، منازلها توضيح [2] وقرقرا. وقال الطبري: إن رمل عالج من اليمامة والشحر وهي من أرض وبار. وكانت اليمامة والطائف لبني مزان بن يعفر والسكسك، وغلبتهم عليها طسم وجديس. ثم غلبتهم بنو مزان آخرا وملكوا اليمامة وطسم وجديس في تبعهم، وآخر ملوك بني طسم عمليق. ثم غلبت جديس ومنهم باليمامة التي سميت مدينة جو بها، وأخبارها معروفة. ثم استولى على اليمامة بعد طسم وجديس بنو حنيفة، وكان منهم هودة بن علي ملك اليمامة وتتوج. ويقال: إنما كانت خرزات هودة بن علي ملك اليمامة، على عهد النبوة، وأسر وأسلم وثبت عند الردة. وكان منهم مسيلمة وأخباره معروفة، قال ابن سعيد: وسألت عرب البحرين وبعض مذحج لمن اليمامة اليوم؟ فقالوا العرب من قيس عيلان، وليس لبني حنيفة بها ذكر. (بلاد حضر موت) قال ابن حوقل: هي في شرقي عدن بقرب البحر ومدينتها صغيرة، ولها أعمال عريضة، وبينها وبين عمان من الجهة الأخرى رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وكانت مواطن لعاد.
وبها قبر هود عليه السلام، وفي وسطها جبل بشام، وهي في الإقليم الأول. وبعدها عن خط الاستواء اثنتا عشرة درجة، وهي معدودة من اليمن، بلد نخل وشجر ومزارع. وأكثر أهلها يحكمون بأحكام علي وفاطمة، ويبغضون عليا للتحكيم [3] ،
__________
[1] كذا بياض بالأصل ويظهر ان المعنى كامل لا نقص فيه ويمكن العجارة ان تكون: «وبعدهما عن خط الاستواء بعد واحد» .
[2] توضيح اسم موضع وقد ذكرها امرؤ القيس في شعره: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها.
[3] لا بد ان هؤلاء من الخوارج لأن هذه هي عقيدتهم.

(4/287)


وأكبر مدينة بها الآن قلعة بشام فيها خيل الملك، وكانت لعاد مع الشحر وعمان، وغلبهم عليها بنو يعرب بن قحطان. ويقال إن الّذي دل عادا على جزيرة العرب هو رقيم بن إرم، كان سبق إليها مع بني هود فرجع إلى عاد ودلهم عليها، وعلى دخولها بالجوار، فلما دخلوا غلبوا على من فيها. ثم غلبهم بنو يعرب بن قحطان بعد ذلك، وولى على البلاد فكانت ولاية ابنه حضر موت على هذه البلاد، وبه سميت الشحر من ممالك جزيرة العرب مثل الحجاز واليمن. وكان معقلا عن حضر موت وعمان والّذي يسمى الشحر قصبته، ولا زرع فيه ولا نخل، إنما أموالهم الإبل والمعز، ومعاشهم من اللحوم والألبان، ومن السمك الصغار، ويعلفونها للدواب. وتسمى هذه البلاد أيضا بلاد مهرة، وبها الإبل المهرية، وقد يضاف الشحر إلى عمان وهو ملاصق لحضرموت، وقيل هو بسائطها. وفي هذه البلاد يوجد اللبان، وفي ساحله العنبر الشحري وهو متصل في جهة الشرق. ومن غربيها ساحل البحر الهندي الّذي عليه عدن، وفي شرقيها بلاد عمان وجنوبها بحر الهند مستطيلة عليه، وشمالها حضر موت كأنها ساحل لها، ويكونان معا لملك واحد. وهي في الإقليم الأول وأشد حرا من حضر موت. وكانت في القديم لعاد وسكنها بعدهم مهرة من حضر موت أو من قضاعة، وهم كالوحوش في تلك الرمال ودينهم الخارجية على رأي الإباضية منهم.
وأول من نزل بالشحر من القحطانية مالك بن حمير، خرج على أخيه مالك وهو ملك بقصر غمدان فحاربه طويلا، ومات مالك فولي بعده ابنه قضاعة بن مالك فلم يزل السكسك يحاربه إلى أن قهره، واقتصر قضاعة على بلاد مهرة. وملك بعده ابنه أطاب ثم مالك بن الحاف، وانتقل إلى عمان وبها كان سلطانه. قال البيهقي: وملك مهرة ابن حيدان بن الحاف بلاد قضاعة وحارب عمه مالك بن الحاف صاحب عمان حتى غلبهم عليها، وليس لهم اليوم في غير بلادهم ذكر. وببلاد الشحر مدينة مرياط وضفان على وزن نزال وضفان دار ملك التبابعة، ومرياط بساحل الشحر، وقد خربت هاتان المدينتان. وكان أحمد بن محمد بن محمود الحميري، ولقبه الناخودة، وكان تاجرا كثير المال يعبر إلى صاحب مرياط بالتجارة. ثم استوزره ثم هلك فملك أحمد الناخودة. ثم خرّبها وخرب ضفان سنة تسع عشرة وستمائة، وبنى على الساحل مدينة ضفا بضم الضاد المعجمة وسماها الأحمدية باسمه، وخرب القديمة لأنها لم يكن لها مرسى. (نجران) قال صاحب الكمائم: هي صقع منفرد عن اليمن،

(4/288)


وقال غيره هي من اليمن قال البيهقي مسافتها عشرون مرحلة وهي شرقي صنعاء وشماليها وتوالي الحجاز وفيها مدينتان نجران وجرش، متقاربتان في القدر والعادية غالبة عليها، وسكانها كالأعراب، وبها كعبة نجران بنيت على هيئة عمدان كعبة اليمن، وكانت طائفة من العرب تحج إليها وتنهر [1] عندها، وتسمى الدير. وبها قس بن ساعدة، كان يتعبد فيها. ونزلها من القحطانية طائفة من جرهم ثم غلبهم عليها حمير. وصاروا ولاة للتبابعة. وكان كل ملك منهم يسمى الأفعى. وكان منهم أفعى نجران واسمه القلمس بن عمرو بن همذان بن مالك بن شهاب بن زيد بن وائل بن حمير، وكان كاهنا، وهو الّذي حكم بين أولاد نزار لما أتوه حسبما هو مذكور. وكان واليا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان عليه السلام، وآمن وبث دين اليهودية في قومه وطال عمره. ويقال إن البحرين والمسلل كانتا له. قال البيهقي: ثم نزل نجران بنو مذحج، واستولوا عليها. ومنهم الحرث بنو كعب. وقال غيره: لما خربت اليمانية في سيل العرم مرّوا بنجران فحاربتهم مذحج ومنها افترقوا. قال ابن حزم: ونزل في جوار مذحج بالصلح الحرث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. ثم غلبوا عليها مذحجا وصارت لهم رياستها. ودخلت النصرانية نجران من قيمون، وخبره معروف في كتب السير، وانتهت رياسة بني الحرث فيها إلى بني الريان. ثم صارت إلى بني عبد المدان. وكان يزيد منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يد خالد بن الوليد، ووفد مع قومه ولم يذكره ابن عبد المؤمن وهو مستدرك عليه، وابن أخيه زياد بن عبد الرحمن بن عبد المدان خال السفاح، ولاه نجران واليمامة، وخلف ابنيه محمدا ويحيى. ودخلت المائة الرابعة والملك بها لبني أبي الجود بن عبد المدان، واتصل فيهم. وكان بينهم وبين الفاطميين حروب. وربما يغلبونهم بعض الأحيان على نجران. وكان آخرهم عبد القيس الّذي أخذ علي بن مهدي الملك من يده، ذكره عمارة وأثنى عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
[1] مقتضى السياق تنحر، ولعلها تحريف من الناسخ ابن خلدون م 19 ج 4

(4/289)


(الخبر عن دولة بني حمدان المستبدين بالدعوة العباسية من العرب بالموصل والجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان بنو ثعلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، ولهم محل في الكثرة والعدد، وكانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة، وكانوا على دين النصرانية في الجاهلية، وصاغيتهم مع قيصر. وحاربوا المسلمين مع غسّان وهرقل أيام الفتوحات في نصارى العرب يومئذ من غسّان وإياد وقضاعة وزابلة وسائر نصارى العرب. ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم. وفرض عليهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجزية. فقالوا يا أمير المؤمنين لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل. وكان قائدهم يومئذ حنظلة بن قيس بن هرير من بني مالك ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب وكان من رهطه عمرو بن بسطام صاحب السند أيام بني أمية. ثم كان منهم بعد ذلك في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطّاب العدويّ، وآل هارون المغمر، وآل حمدان ابن حمدون بن الحرث ابن لقمان بن أسد. ولم يذكر ابن حزم هؤلاء البيوت الثلاثة في بطون بني ثعلب في كتاب الجمهرة. ووقفت على حشية في هذا الموضع من كتابه فيها ذكر هؤلاء الثلاثة كالاستلحاق عليه، وقال في بني حمدان: وقيل إنهم موالي بني أسد. ثم قال آخر الحاشية إنه من خط المصنّف يعني ابن حزم. ولما فشا دين الخارجيّة بالجزيرة أيام مروان بن الحكم وفرّق جموعه ومحا آثار تلك الدعوة. ثم ظهر في الجزيرة بعد حين أثر من تلك الدعوة، وخرج مساور بن عبد الله بن مساور البجليّ من السرات أيام الفتنة بعد مقتل المتوكّل واستولى على أكثر أعمال الموصل، وجعل دار هجرته الحديثة. وكان على الموصل يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الّذي ولّى المنصور جدّه محمدا على إفريقية، وعليه خرج مساور. ثم ولي على الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي سنة أربع وخمسين، واستخلف عليه ابنه الحسن فسار إلى مساور في جموع قومه، وفيهم حمدون بن الحرث فهزموا الخوارج وفرّقوا جمعهم. ثم ولي أيام المهتدي عبد الله بن سليمان بن عمران الأزديّ فغلبه

(4/290)


الخوارج، وملك مساور الموصل ورجع إلى الحديثة. ثم انتقض أهل الموصل أيام المعتمد سنة تسع وخمسين، وأخرجوا العامل وهو ابن أساتكين الهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدويّ من بني ثعلب، فامتنعوا عليه وولّوا مكانه إسحاق بن أيوب من آل الخطّاب، فزحف ومعه حمدان بن حمدون وحاصرها مدّة. ثم كانت فتنة إسحاق ابن كنداجق وانتقاضه على المعتمد، واجتمع لمدافعته عليّ بن داود صاحب الموصل، وحمدان بن حمدون وإسحاق بن أيوب فهزمهم إسحاق بن كنداجق، وافترقوا فاتبع إسحاق بن أيوب إلى نصيبين ثم إلى آمد. واستجار فيها بعيسى بن الشيخ الشيبانيّ وبعث إلى المعزّ موسى بن زرارة صاحب أرزن فامتنع بانجادهما. ثم ولّى المعتمد ابن كنداجق على الموصل سنة سبع وستين فاجتمع لحربه إسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبو العزّ بن زرارة وحمدان بن حمدون في ربيعة وثعلب فهزمهم ابن كنداجق، وحاصره هو ولجئوا إلى آمد عند عيسى بن الشيخ الشيبانيّ، وحاصرهم بها وتوالت عليهم الحروب وهلك مساور الخارجيّ أثناء هذه الفتن في حربه مع العساكر سنة ثلاث وستين. واجتمع الخوارج بعده على هارون بن عبد الله البجليّ واستولى على الموصل وكثر تابعه. وخرج عليه محمد بن خردان من أصحابه فغلبه على الموصل، فقصد حمدان بن حمدون مستنجدا به، فسار معه وردّه إلى الموصل ولحق محمد بالحديثة، ورجع أصحابه إلى هارون. ثم سار هارون من الموصل إلى محمد فأوقع به وقتله وعاث في الأكراد الجلاليّة أصحابه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل رجله يأخذ الزكاة والعشر. ثم زحف بنو شيبان لقتاله سنة اثنتين وسبعين، فاستنجد بحمدان بن حمدون، وانهزم قبل وصوله إليه. ثم كانت الفتنة بين إسحاق بن كنداجق ويوسف بن أبي الساج، وأخذ ابن أبي الساج بدعوة ابن طولون، وغلب على الجزيرة والموصل، ثم عاد وملكها لابن كنداجق وولّى عليها هارون بن سيما سنة تسع وسبعين ومائتين. فطرده أهلها، واستنجد ببني شيبان فساروا معه إلى الموصل، واستمدّ أهلها الخوارج وبني ثعلب فسار لإمدادهم هارون الساري وحمدان فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل الموصل من ابن سيما فبعثوا إلى بغداد، وولّى عليهم المعتمد عليّ بن داود الأزديّ. ولما بلغ المعتضد ممالأة حمدان بن حمدون لهارون الساري، وما فعله بنو شيبان، وقد كان خرج لإصلاح الجزيرة، وأعطاه بنو شيبان رهنهم على الطاعة، زحف إلى حمدان وهزمه فلحق بماردين وترك

(4/291)


بها ابنه الحسين. وهرب فسار مع وصيف ونصر القسوري، ومروا بدير الزعفران وبه الحسين بن حمدان فاستأمن لهم، وبعثوا به إلى المعتضد وأمر بهدم القلعة، ولقي وصيف حمدان فهزمه، وعبر إلى الجانب الغربي. ثم سار إلى معسكر المعتضد، وكان إسحاق بن أيوب الثعلبيّ قد سبق إلى طاعة السلطان وهو في معسكره، فقصد خيمته ملقيا بنفسه عليه، فأحضره عند المعتضد فحبسه. ثم سار نصر القسوري في اتباع هارون فهزم الخوارج، ولحق بأذربيجان. واستأمن آخرون إلى المعتضد ودخل هارون البريّة. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون وبعث في مقدمته وصيفا وسرّح معه الحسين بن حمدان بن يكرين، واشترط له إطلاق ابنه إن جاء بهرون. فاتبعه وأسره وجاء به إلى المعتضد فخلع عليه وعلى إخوته وطوّقه وفك القيود عن حمدان ووعده بإطلاقه. ومات إسحاق بن أيوب العدويّ وكان على ديار ربيعة، فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمد.
(مبدأ لدولة وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل)
ولما ولّي المكتفي عقد لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل وأعمالها، وكان الأكراد الهدبانيّة قد عاثوا في نواحيها ومقدمهم محمد بن سلّال فقاتلهم وعبر وراءهم إلى الجانب الشرقي، وقاتلهم على الخازر، وقتل مولاه سيما ورجع. ثم أمدّه الخليفة فسار في أثرهم سنة أربع وتسعين وقاتلهم على أذربيجان وهزم محمد بن سلال بأهله وولده، واستباحهم ابن حمدان. ثم استأمن محمد وجاءه إلى الموصل، واستأمن سائر الأكراد الحميديّة، واستقام أمر أبي الهيجاء. ثم كانت فتنة الخلع ببغداد سنة ست وتسعين، وقتل الوزير العبّاس بن الحسن، وخلع المقتدر وبويع عبد الله بن المعتز يوما أو بعض يوم، وعاد المقتدر كما مرّ ذلك كله في أخبار الدولة العبّاسية. وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة وكان ممن تولّى كبر هذه الفتنة مع القوّاد، وباشر قتل الوزير مع من قتله فهرب. وطلبه المقتدر وبعث في طلبه القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فلم يظفروا به، فكتب إلى أبي الهيجاء وهو على الموصل فسار مع القاسم

(4/292)


ولقيهم الحسين عند تكريت فانهزم واستأمن فأمّنه المقتدر، وخلع عليه وولّاه أعمال قمّ وقاشان. ثم ردّه بعد ذلك إلى ديار ربيعة.
(انتقاض أبي الهيجاء ثم الحسين بن حمدان)
ولما كانت سنة تسع وتسعين ومائتين خالف أبو الهيجاء بالموصل إلى سنة اثنتين وثلاثمائة، وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة كما قدّمناه، فطالبه الوزير عيسى بن عيسى بحمل المال فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى العمّال فامتنع، فجهّز إليه الجيش فهزمهم. فكتب إلى مؤنس العجليّ، وهو بمصر يقاتل عساكر العلويّة، بأن يسير إلى قتال الحسين بعد فراغه من أمره، فسار إليه سنة ثلاث وثلاثمائة، فارتحل بأهله إلى أرمينية وترك البلاد. وبعث مؤنس العساكر في أثره فأدركوه، وقاتلوه فهزموه وأسر هو وابنه عبد الوهاب وأهله وأصحابه، وعاد به إلى بغداد فأدخل على جمل، وقبض المقتدر يومئذ على أبي الهيجاء وجميع بني حمدان فحبسهم جميعا. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وثلاثمائة بعدها وقتل الحسين سنة ست، وولّى إبراهيم بن حمدان سنة سبع على ديار ربيعة، وولّى مكانه داود بن حمدان.
(ولاية أبي الهيجاء ثانية على الموصل ثم مقتله)
ثم ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة أربع عشرة وثلاثمائة فبعث ابنه ناصر الدولة الحسين عليها، وأقام هو ببغداد. ثم بلغه إفساد العرب والأكراد في نواحيها وفي نواحي عمله الآخر بخراسان، فبعث إلى أبيه ناصر الدولة فأوقع بالعرب في الجزيرة ونكّل بهم. وجاءه في العساكر إلى تكريت فخرج ورحل بهم إلى شهرزور، وأوقع بالأكراد الجلاليّة حتى استقاموا على الطاعة. ثم كان خلع المقتدر سنة سبع عشرة وثلاثمائة بأخيه القاهر. ثم عاد ثاني يوم وأحيط بالقاهر في قصره فتذمّم بأبي الهيجاء، وكان عنده يومئذ، وأطال المقام يحاول على النجاة به فلم يتمكن من ذلك، وانقض الناس على القاهر ومضى أبو الهيجاء يفتّش عن بعض

(4/293)


المنافق [1] في القصر يتخلّص منه فاتبعه جماعة وفتكوا به وقتلوه منتصف المحرّم من السنة. وولّى المقتدر مولاه تحريرا على الموصل.
(ولاية سعيد ونصر ابني حمدان على الموصل)
ثم ان أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة، وما بيد ناصر الدولة فولاه الراضي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وسار الى الموصل فخرج ناصر الدولة لتلقيه، وخالفه أبو العلاء إلى بيته وفعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقتلوه. وبلغ الخبر إلى الراضي فأعظم ذلك، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار إليها، وارتحل ناصر الدولة واتبعه الوزير إلى جبل السن، ورجع عنه، وأقام بالموصل. واحتال بعض أصحاب ابن حمدان ببغداد على ابن الوزير وبذل له عشرة آلاف دينار على أن يستحث أباه ففعل، وكتب إليه بأمور أزعجته فاستعمل على الموصل من وثق به من أهل الدولة. ورجع إلى بغداد في منتصف شوّال. ورجع ناصر الدولة إلى الموصل فاستولى عليها وكتب إلى الراضي في الصفح، وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك واستقرّ في ولايته.
(مسير الراضي إلى الموصل)
وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة تأخر ضمان البلاد من ناصر الدولة فغضب الراضي، وسار ومدبر دولته تحكم [2] . وسار إلى الموصل، وتقدم تحكم إلى تكريت فخرج إليه ناصر الدولة فانهزم أصحابه، وسار إلى نصيبين، واتبعه تحكم فلحق به وكتب تحكم إلى الراضي بالفتح فسار في السفن يريد الموصل. وكان ابن رائق مختفيا ببغداد منذ غلبه ابن البريدي على الدولة، فظهر عند ذلك واستولى على بغداد. وبلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البرّ، واستقدم تحكم من نصيبين واستعاد ناصر
__________
[1] لعلها الإنفاق
[2] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371.

(4/294)


الدولة ديار ربيعة وهو يعلم بخبر ابن رائق. وبعث في الصلح على تعجيل خمسمائة ألف درهم فأجابه إلى ذلك. وسار الراضي وتحكم إلى بغداد، ولقيهم أبو جعفر محمد ابن يحيى بن سريق رسولا من ابن رائق في الصلح، على أن يولي ديار مضر، وهي حران والرها والرقة. وتضاف إليها قنسرين والعواصم فأجيب إلى ذلك وسار عن بغداد إلى ولايته ودخل الراضي وتحكم بغداد ورجع ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل.
(مسير المتقى الى الموصل وولاية ناصر الدولة امارة الأمراء)
كان ابن رائق بعد مسيره إلى ديار مضر والعواصم سار إلى الشام وملك دمشق من يد الإخشيد، ثم الرملة ثم لقيه الإخشيد على عريش مصر وهزمه، ورجع إلى دمشق ثم اصطلحا على أن يجعلا الرملة تخما بين الشام ومصر وذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم توفي الراضي سنة تسع وعشرين، وولي المتقي وقتل تحكم وجاء البريدي إلى بغداد، وهرب الأتراك التحكمية إلى الموصل، وفيهم توزون وجحجح.
ثم لحقوا بأبي بكر محمد بن رائق واستحثوه إلى العراق، وغلب بعدهم على الخلافة الأتراك الديلمية، وجاء أبو الحسن البريدي من واسط فأقام ببغداد أربعة وعشرين يوما أمير الأمراء. ثم شغب عليه الجند فرجع إلى واسط وغلب كورتكين. ثم حجر المتقي وكتب إلى ابن رائق يستدعيه فسار من دمشق في رمضان سنة تسع وعشرين، واستخلف عليها أبا الحسن أحمد بن علي بن حمدان على أن يحمل إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، وغلب كورتكين والديلمية وحبس كورتكين بدار الخلافة. ثم شغب عليه الجند وبعث أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسن إلى بغداد في العساكر فغلبوا عليها، وهرب المتقي وابنه أبو منصور، وزاد في المبرة فنثر الدراهم على ابن الخليفة، وبالغ في مبرته حتى ركب للانصراف. وأمسك ابن رائق للحديث معه فاستدعاه المتقي، وخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة. وكان قتل ابن رائق لتسع بقين من رجب، وولاية ناصر الدولة مستهل شعبان من سنة ثمانين، ثم سار

(4/295)


الإخشيدي من مصر إلى دمشق فملكها من يد عامل ابن رائق، وسار ناصر الدولة مع المتقي إلى بغداد.
(أخبار بني حمدان ببغداد)
ولما قتل ابن رائق وأبو الحسن البريدي على بغداد، وقد سخطه العامة والخاصة فهرب جحجح [1] إلى المتقي، وأجمع توزون وأصحابه إلى الموصل، واستحثوا المتقي وناصر الدولة فأنجدوهم إلى بغداد، وولى على الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن خلف بن طياب، وكان عليها أبو الحسن علي بن أحمد بن مقاتل من قبل ابن رائق، فقاتله ابن طياب وقتله. ولما قرب المتقي وناصر الدولة من بغداد هرب أبو الحسن بن البريدي إلى واسط بعد مقامه مائة يوم وعشرة أيام، ودخل المتقي بغداد ومعه بنو حمدان، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال من السنة. ثم سار بنو حمدان إلى واسط فنزل ناصر الدولة بالمدائن، وبعث أخاه سيف الدولة إلى قتال البريدي، وقد سار من واسط إليهم فقاتلوه تحت المدائن ومعهم توزون وجحجح والأتراك فانهزموا أولا. ثم أمدهم ناصر الدولة بمن كان معه من المدائن فانهزم البريدي إلى واسط، وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة وبين يديه الأسرى من أصحاب البريدي. وأقام سيف الدولة بموضع المعركة حتى اندملت جراحة وذهب وهنه. ثم سار إلى واسط فلحق البريدي بالبصرة، واستولى على واسط فأقام بها معتزما على اتباع البريدي إلى البصرة، واستمد أخاه ناصر الدولة في المال فلم يمده، وكان للأتراك عليه استطالة وخصوصا توزون وجحجح ثم جاء أبو عبد الله الكوفي بالمال من قبل ناصر الدولة ليفرقه في الأتراك فاعترضه توزون وجحجح. وأراد البطش به فأخفاه سيف الدولة عنهما وردّه إلى أخيه. ثم ثار الأتراك بسيف الدولة سلخ شعبان فهرب من معسكره الى بغداد ونهب سواده قتل جماعة من أصحابه وكان أبو عبد الله الكوفي لما وصل إلى ناصر الدولة وأخبره خبر أخيه، أراد أن يسير إلى الموصل فركب المتقي إليه واستمهله، وعاد إلى قصره فأغذ السير إلى الموصل بعد ثلاثة عشر شهرا من إمارته. وثار الديلم والأتراك
__________
[1] خجخج: ابن الأثير ج 8 ص 396.

(4/296)


ونهبوا داره. ولما هرب سيف الدولة من معسكره بواسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، وولوا توزون أميرا وجحجح صاحب جيش، ولحق سيف الدولة ببغداد منتصف رمضان بعد مسير أخيه، وبلغه خبر توزون. ثم اختلف الأتراك وقبض توزون على جحجح وسمله، وسار سيف الدولة ولحق بأخيه بالموصل وولى توزون إمارة الأمراء ببغداد.
(خبر عدل التحكمي بالرحبة)
كان عدل هذا مولى تحكم [1] ، ثم صار مع ابن رائق واصعد معه الى الموصل. ولما قتل ابن رائق صار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فبعثه مع علي بن خلف بن طياب إلى ديار مضر فاستولى ابن طياب عليها، وقتل نائب ابن رائق وكان بالرحبة من ديار مضر رجل من قبل ابن رائق يقال له مسافر بن الحسين فامتنع بها، وجبى خراجها واستولى على تلك الناحية، فأرسل إليه ابن طباب عدلا التحكمي [2] فاستولى عليها، وفر مسافر عنها. واجتمع التحكمية إلى عدل واستولى على طريق الفرات وبعض الخابور. ثم استنصر مسافر بجمع من بني نمير وسار إلى قرقيسيا وملكها وارتجعها عدل من يده. ثم اعتزم عدل على ملك الخابور وانتصر أهله ببني نمير فأعرض عدل عن ذلك حينا حتى أمنوا. ثم أسرى إلى فسيح سمصاب وهي من أعظم قرى خابور فقاتلها ونقب السور وملكها. ثم ملك غيرها. وأقام في الخابور ستة أشهر وجبى الأموال وقوي جمعه واتسعت حاله. ثم طمع في ملك بني حمدان، فسار يريد نصيبين لغيبة سيف الدولة عن الموصل وبلاد الجزيرة، ونكب عن الرحبة وحران لأن يأنس المؤنسي كان بها في عسكر، ومعه جمع من بني نمير فحاد عنها إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فجمع وسار إليه، فلما التقى الجمعان استأمن أصحاب عدل إلى ابن حمدان، ولم يبق معه إلا القليل فقبض عليه وسمله، وبعث به مع ابنه إلى بغداد في آخر شعبان سنة إحدى
__________
[1] بجكم: ابن الأثير ج 8 ص 371 وقد مرّ معنا من قبل
[2] البجكمي نسبة إلى بجكم كما عند الأثير ج 8 ص 394

(4/297)


وثلاثين ومائتين [1] .
(مسير المتقي الى الموصل وعوده)
ولما انصرف ناصر الدولة وسيف الدولة عن المتقي من بغداد جاء توزون من واسط واستولى على الدولة. ثم رجع إلى واسط ووقعت بينه وبين ابن البريدي بالبصرة مواصلة وصهر استوحش لها المتقي. وكان بعض أصحاب توزون منافرا له، فأكثر فيه السعاية عند المتقي والوزير ابن مقلة، وخوفهما اتصال يده بابن البريدي. وقارن ذلك اتصال ابن شيرزاده بتوزون ومسيره إليه بواسط، فذكروا الخليفة بما فعل ابن البريدي معه في المرّة الأخرى وخوّفوه عاقبة أمرهم، فكتب الى ابن حمدان أن ينفذ إليه عسكرا يسير صحبته إليهم فأنفذ مع ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، ووصلوا إلى بغداد سنة اثنتين وثلاثين وخرج المتقي معهم بأهله وأعيان دولته، ومعه الوزير ابن مقلة، وانتهى إلى تكريت فلقيه سيف الدولة لك. وجاء ناصر الدولة فأصعد المتقي إلى الموصل. ولما بلغ الخبر إلى توزون سار نحو تكريت فلقيه سيف الدولة عندها فقاتله ثلاثة أيام. ثم هزمه توزون ونهب سواده وسواد أخيه. وسار سيف الدولة إلى الموصل وتوزون في اتباعه، فخرج ناصر الدولة والمتقي وجملته إلى نصيبين، ثم إلى الرقة، ولحقهم سيف الدولة إليها. وملك توزون الموصل. وبعث إليه المتقي يعاتبه على اتصاله بابن البريدي، وأنه إنما استوحش من ذلك فإن آثر رضاه واصل ابن حمدان فأجاب توزون إلى ذلك، وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف. وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقي بالرقة. ثم أحس من ابن حمدان ضجرا به، وبلغ سيف الدولة أن محمد بن نيال الترجمان أغرى المتقي بسيف الدولة، وهو الّذي كان أفسد بين المتقي وتوزون فقبض عليه سيف الدولة وقتله، وارتاب المتقي بذلك فكتب إلى توزون يستصلحه.
وكتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فسار إليه الإخشيد. ولما وصل إلى حلب وعليها من قبل سيف الدولة ابن عمهم أبو عبد الله سعيد بن حمدان
__________
[1] الصحيح سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة كما في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 394.

(4/298)


فرحل عنها، وتخلف عنه ابن مقاتل الّذي كان بدمشق مع ابن رائق. ولما وصل الإخشيد إلى حلب لقيه ابن مقاتل فأكرمه واستعمله على خراج مصر. ثم سار إلى المتقي بالرقة فلقيه منتصف ثلاث وثلاثين فبالغ المتقي في إكرامه وبالغ هو في الأدب معه، وحمل إليه الهدايا وإلى وزيره وحاشيته، وسأله المسير إلى مصر أو الشام فأبى، فأشار عليه أن لا يرجع إلى توزون فأبى. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في دولته، وخوفه من توزون فلم يعمل، وجاءهم رسل توزون في الصلح وأنهم استحلفوه للخليفة والوزير، فانحدر المتقي إلى بغداد آخر المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر. ولما وصل المتقي إلى هيت لقيه توزون فقبل الأرض ورأى أنه تحلل عن يمينه بتلك الطاعة. ثم وكل به وسمل المتقي ورجع، إلى بغداد فبايع للمستكفي [1] . ولما ارتحل المتقي عن الرقة ولى عليها ناصر الدولة ابن عمه أبا عبد الله بن سعيد بن حمدان، وعلى طريق الفرات وديار مضر وقنسرين وجند والعواصم وحمص. فلما وصل إلى الرقة طمع أهلها فيه فقاتلهم وظفر بهم ورجع إلى حلب وقد كان ولى على هذه البلاد قبله أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل.
(استيلاء سيف الدولة على حلب وحمص)
ولما ارتحل المتقي من الرقة، وانصرف الإخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصد سيف الدولة وملكها من يده. ثم سار إلى حمص فلقيه بها كافور مولى الإخشيد فهزمه سيف الدولة وسار إلى دمشق فامتنعوا عليه فرجع، وجاء الإخشيد من مصر إلى الشام، وسار في اتباع سيف الدولة فاصطفا بقنسرين، ثم تحاجزوا ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة والإخشيد إلى دمشق. ثم سار سيف الدولة إلى حلب فملكها وسارت عساكر الروم إليها فقاتلهم وظفر بهم. ثم بلغ ناصر الدولة بن حمدان
__________
[1] المعنى غير واضح تماما وفي الكامل ج 8 ص 419: «فنزل توزون وقبّل الأرض وقال: ها انا قد وفيت بيميني والطاعة لك، ثم وكّل به وبالوزير وبالجماعة، وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي، ثم كحله فأذهب عينيه، فلما سمله صاح، وصاح من عنده من الحرم والخدم، وارتجت الدنيا، فأمر توزون بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهم، فخفيت أصواتهم، وعمي المتقي للَّه، وانحدر توزون من الغد الى بغداد والجماعة في قبضته.»

(4/299)


ما فعله توزون من سمل المتقي وبيعة المستكفي، فامتنع من حمل المال وهرب إليه غلمان توزون فاستخدمهم ونقض الشرط في ذلك. وخرج توزون والمستكفي قاصدين الموصل، وترددت الرسل بينهما في الصلح، فتم ذلك آخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعاد المستكفي وتوزون إلى بغداد فتوفي توزون إثر عوده، وولي الأمور بعده ابن شيرزاده [1] ، واستعمل على واسط قائدا، وعلى تكريت آخر. فأمّا الّذي على واسط فكاتب معز الدولة ابن بويه، واستقدمه فقدم بغداد واستولى على الدولة، فخلع المستكفي وبايع للمطيع، وأما الّذي على تكريت فسار إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل وسار معه وولاه عليها من قبله.
(الفتنة بين ابن حمدان وابن بويه)
ولما خلع معز الدولة بن بويه المستكفي عند استيلائه على بغداد امتعض ناصر الدولة ابن حمدان لذلك وسار من الموصل إلى العراق. وبعث معز الدولة بن بويه قواده، فالتقى الجمعان بعكبرا، واقتتلوا وخرج معز الدولة مع المطيع إلى عكبرا وكان ابن شيرزاده ببغداد وأقام بها، ولحق بناصر الدولة بن حمدان. وجاء بعساكره إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي، وناصر الدولة بالجانب الشرقي، ووقع الغلاء في معسكر معز الدولة، والخليفة لانقطاع الميرة. وبقي عسكر ابن حمدان في رخاء من العيش لاتصال الميرة من الموصل. واستعان ابن شيرزاده بالعامة والعمارين على حرب معز الدولة والديلم، وضاق الأمر بمعز الدولة حتى اعتزم على الرجوع إلى الأهواز. ثم أمر أصحابه بالعبور من قطر بال بأعلى دجلة، وتسابق أصحاب ناصر الدولة إلى مدافعتهم ومنعهم، وبقي في خف من الناس، فأجاز إليه شجعان الديلم من أقرب الأماكن فهزموه، وملك معز الدولة الجانب الشرقي، وأعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ورجع ناصر الدولة إلى عكبرا وأرسل في الصلح، فوقف الأتراك التورونية الذين معه على خبر رسالته فهموا بقتله، فأغذ السير إلى الموصل ومعه ابن شيرزاده وأحكم الصلح مع معز الدولة.
__________
[1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 448.

(4/300)


(استيلاء سيف الدولة على دمشق)
وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة توفي الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب مصر والشام، فنصب للأمر بعده ابنه ابو القاسم أنوجور، واستولى عليه كافور الأسود وخادم أبيه، وسار بهما إلى مصر. وجاء سيف الدولة إلى دمشق فملكها، وارتاب به أهلها فاستدعوا كافورا فجاءهم، وخرج سيف الدولة إلى حلب، ثم اتبعوه فعبر إلى الجزيرة وأقام أنوجور على حلب. ثم اتفقوا واصطلحوا، وعاد أنوجور إلى مصر وسيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق قليلا، ثم عاد إلى مصر واستعمل على دمشق بدرا الإخشيد ويعرف ببدير. ثم عزله بعد سنة وولى أبا المظفر طغج.
(الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين تكين والأتراك)
كان مع ناصر الدولة جماعة من الأتراك أصحاب توزون فرّوا إليه كما قدّمنا، فلما وقعت المراسلة بينه وبين معز الدولة في الصلح ثاروا به، وهرب منهم وعبر إلى الجانب الغربي ونزل الموصل واستجار القرامطة فأجاروه، وبعثوا معه إلى مأمنه، وفي جملته ابن شيرزاده فقبض ناصر الدولة عليه، واجتمع الأتراك بعده فقدموا عليهم تكين الشيرازي، وقبضوا على من تخلف من أصحاب ناصر الدولة واتبعوه إلى الموصل فسار عنها إلى نصيبين ودخل الأتراك الموصل. وبعث ناصر الدولة إلى معز الدولة يستصرخه، فبعث إليه الجيوش مع وزيره أبي جعفر الصيمري وخرج الأتراك من الموصل في اتباع ناصر الدولة إلى نصيبين فمضى إلى سنجار ثم إلى الحديثة إلى السن، وهم في اتباعه. وبقي هنالك العساكر فقاتلوا الأتراك وهزموهم، وسيق قائدهم تكين إلى ناصر الدولة فسمله لوقته ثم حبسه. وسار مع الصيمري إلى الموصل فأعطاه ابن شيرزاده وارتحل به إلى بغداد.

(4/301)


(انتقاض جمان بالرحبة ومهلكه)
كان جمان هذا من أصحاب توزون وسار إلى ناصر الدولة بن حمدان، فلما كان في محاربة معز الدولة ببغداد، استراب بمن معه من الديلم وجمعهم على جمان هذا وأخرجه إلى الرحبة واليا فعظم أمره. وانتقض سنة ست وثلاثين وثلاثمائة على ناصر الدولة، وحدثته نفسه بالتغلب على ديار مضر، فسار إلى الرقة وحاصرها سبعة عشر يوما، وانهزم عنها. ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله فقتلوهم لسوء سيرتهم، وجاء من الرقة فأثخن فيهم وبعث ناصر الدولة بن حمدان حاجبه باروخ [1] مع عسكر فاقتتلوا على الفرات وانهزم جمان فغرق في الفرات واستأمن أصحابه إلى باروخ فأمنهم ورجع إلى ناصر الدولة.
(فتنة ناصر الدولة مع معز الدولة)
ثم وقعت الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة ابن بويه وسار إليه معز الدولة من بغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فسار هو من الموصل الى نصيبين وملك معز الدولة الموصل فظلم الرعايا وأخذ أموالهم، وأجمع الاستيلاء على بلاد ابن حمدان كلها، فجاءه الخبر بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان والريّ. وبعث أخوه ركن الدولة يستمده فصالح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة والشام على ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، وعلى أن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة، وعاد إلى بغداد في ذي الحجة آخر سبع وثلاثين وثلاثمائة.
(غزوات سيف الدولة)
كان أمر الثغور راجعا إلى سيف الدولة بن حمدان ووقع الفداء سنة خمس وثلاثين
__________
[1] ياروخ: ابن الأثير ج 8 ص 475.

(4/302)


وثلاثمائة في ألفين من الأسرى على يد نصر النملي، ودخل الروم سنة اثنتين وثلاثين مدينة واسرغين ونهبوها وسبوها وأقاموا بها ثلاثا وهم في ثمانين ألفا مع الدمشق [1] ثم سار سيف الدولة سنة سبع وثلاثين غازيا إلى بلاد الروم فقاتلوه وهزموه. ونزل الروم على مرعش فأخذوها وأوقعوا بأهل طرسوس. ثم دخل سنة ثمان وثلاثين وتوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة وغنم وسبى. ولما قفل أخذت الروم عليه المضايق وأثخنوا في المسلمين قتلا وأسرا واستردوا ما غنموه. ونجا سيف الدولة في فل قليل. ثم ملك الروم سنة إحدى وأربعين مدينة سروج واستباحوها. ثم دخل سيف الدولة سنة ثلاث وأربعين إلى بلاد الروم فأثخن فيها وغنم وقتل قسطنطين بن الدمشق فيمن قتل، فجمع الدمشق عساكر الروم والروس وبلغار وقصد الثغور، فسار إليه سيف الدولة بن حمدان والتقوا عند الحرث [2] فانهزم الروم واستباحهم المسلمون قتلا وأسرا، وأسر صهر الدمشق، وبعض أسباطه وكثير من بطارقته ورجع سيف الدولة بالظفر والغنيمة. ثم دخل بلاد الروم النصرانية ثم رجع إلى أذنة، وأقام بها حتى جاءه نائبة على طرسوس فخلع عليه، وعاد إلى حلب وامتعض الروم لذلك فرجعوا إلى بلادهم. ثم غزا الروم طرسوس والرها وعاثوا في نواحيها سبيا وأسرا ورجعوا. ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة ست وأربعين وأثخن فيها وفتح عدة حصون وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم والسبي، وانتهى إلى خرسنة [3] ورجع وقد أخذت الروم عليه المضايق، فقال له أهل طرسوس: ارجع معنا فإن الدروب التي دخلت منها قد ملكها الروم عليك فلم يرجع إليهم. وكان معجبا برأيه فظهر الروم عليه في الدرب واستردوا ما أخذوا منهم ونجا في فلّ قليل يناهزون الثلاثمائة ثم دخل سنة خمسين قائد من موالي سيف الدولة إلى بلاد الروم من ناحية ميافارقين فغنم وسبى وخرج سالما.
__________
[1] الدمشق: هكذا بالأصل وهو تحريف واسمه الحقيقي دمستق كما في كتب التاريخ وقد ورد اسمه في شعر المتنبي وكذلك في الكامل لابن الأثير ج 8 ص 508.
[2] الحدث: ابن الأثير ج 8 ص 508
[3] هي مدينة خرشنة (معجم البلدان) .

(4/303)


(الفتنة بين ناصر الدولة ومعز الدولة بن بويه)
قد تقدم لنا ما وقع من الصلح بين ناصر الدولة وبين معز الدولة بن بويه، وطالبه في المال فانتقض. وسار إليه معز الدولة إلى الموصل منتصف السنة وملكها، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين وحمل نوابه ومن يعرف وجوه المال وحمايته، وأنزلهم في قلاعه مثل الزعفرانيّ وكواشي ودس إلى العرب بقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فرحل معز الدولة إلى نصيبين لما بها من الغلات السلطانية، واستخلف سبكتكين الحاجب الكبير على الموصل، وبلغه في طريقه أن أبا الرجاء وعبد الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فقصدهما فهربا، وخلفا أثقالهما وانتهب العسكر خيامهما. ثم عادا إلى معسكر معز الدولة وهم غازون فنالوا منهم، ورجعوا إلى سنجار، وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، واستأمن كثير من أصحابه إلى معز الدولة، فسار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فقام بخدمته وباشرها بنفسه. وأرسل إلى معز الدولة في الصلح بينه وبين أخيه، فامتنع معز الدولة من قبول ناصر الدولة لانتقاضه وإخلافه، فضمن سيف الدولة البلاد بألفي ألف وتسعمائة ألف درهم، وأطلق معز الدولة أسرى أصحابهم.
وتم ذلك في محرم سنة ثمان وأربعين ورجع معز الدولة إلى العراق وناصر الدولة إلى الموصل.
(استيلاء الروم على عين زربة ثم على مدينة حلب)
وفي المحرم من سنة إحدى وخمسين نزل الدمستق في جموع الروم على عين زربة وملك الجبل المطل عليها، وضيق عليها حصارها ونصب عليها المنجنيقات. وشرع في النقب فاستأمنوا ودخل المدينة. ثم ندم على تأمينهم لما رأى من اختلال أحوالهم، فنادى فيهم أن يخرجوا بجميع أهاليهم إلى المسجد فمات منهم في الأبواب بكض الزحام خلق، ومات آخرون في الطرقات، وقتل من وجدوا آخر النهار، واستولى الروم على أموالهم وأمتعتهم وهدموا سور المدينة، وفتحوا في نواحي عين زربة أربعة وخمسين

(4/304)


حصنا. ورحل الدمستق بعد عشرين يوما بنية العود، وخلف جيشه بقيسارية وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، واعترضه الدمستق في بعض مذاهبه فأوقع به، وقتل أخاه وأعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة، وألقى ابن الزيات نفسه في النهر فغرق. ثم رجع الدمستق إلى بلاد الثغور، وأغذ السير إلى مدينة حلب، وأعجل سيف الدولة عن الاحتشاد فقاتله في خف من أصحابه فانهزم سيف الدولة، واستلحم آل حمدان واستولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال والسلاح. وخرب الدار وحصر المدينة، وأحس أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل حيوش [1] ثم انطلقت أيدي الدعار بالبلد على النهب، وقاتلهم الناس على متاعهم، وخربت الأسوار من الحامية فجاء الروم ودخلوها عليهم وبادر الأسرى الذين كانوا في حلب وأثخنوا في الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية واحتمل الروم ما قدروا عليه وأحرقوا الباقي.
ولحأ المسلمون إلى قصبة البلد فامتنعوا بها، وتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة يحاصرها فرماه حجر منجنيق فمات وقتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفا ومائتين. وارتحل الدمستق عنهم ولم يعرض لسواد حلب وأمرهم بالعمارة على أنه يعود ابن عمه عن قريب فخيب الله ظنه. وأعاد سيف الدولة عين زربة وأصلح أسوارها وغزا حاجبه مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فأثخنوا فيها ورجعوا. فجاء الروم إلى حصن سبة فملكوه وملكوا أيضا حصن دلوكة وثلاثة حصون مجاورة لهم. ثم سار نجا غلام سيف الدولة إلى حصن زياد فلقيهم جمع من الروم فانهزم الروم وأسر منهم خمسمائة رجل. وفي هذه السنة أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان وكان عاملا على منبج وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة إقريطش، وبعث إليهم المعز بالمدد فأسر الروم وانهزم من بقي منهم. ثم ثار الروم في اثنتين وخمسين بعدها بملكهم فقتلوه وملكوا غيره وصار ابن السميسرة دمستقا.
__________
[1] جبل جوشن: ابن الأثير ج 8 ص 540.
ابن خلدون م 20 ج 4

(4/305)


(انتقاض أهل حران)
كان سيف الدولة قد ولى هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة [1] غيرها من ديار مضر، فساء أثره فيهم وطرح الأمتعة على التجار وبالغ في الظلم فانتظروا به غيبته عند عمه سيف الدولة وثاروا بعماله ونوابه فطردوهم، فسار هبة الله إليهم وحاصرهم شهرين وأفحش في القتل فيهم. ثم سار سيف الدولة فراجعوا الطاعة وأدخلوا هبة الله وأفحش في القتل واستقاموا.
(انتقاض هبة الله)
وفي هذه السنة بعث سيف الدولة الصوائف إلى بلاد الروم، فدخل أهل طرسوس من درب ومولاه نجا من درب، وأقام هو ببعض الدروب لأنه كان أصابه الفالج قبل ذلك بسنتين، فكان يعالج منه شدّة إذا عاوده وجعه، وتوغّل أهل طرسوس في غزوتهم وبلغوا قونية، وعادوا فعاد سيف الدولة إلى حلب واشتدّ وجعه، فأرجف الناس بموته فوثب عبد الله ابن أخيه، وقتل ابن نجا النصراني من غلمان سيف الدولة ولما تيقن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها، وبعث سيف الدولة غلامه فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين وخمسين، وصادر أهلها على ألف ألف درهم وأخذها منهم في خمسة أيام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتى أملقوا، وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلط العيارون على أهلها.
(انتقاض نجا بميافارقين وأرمينية واستيلاء سيف الدولة عليها)
ولما فعل نجا بأهل حران ما فعل، واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى
__________
[1] يذكر ابن الأثير في حوادث سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة: «وفي هذه السنة في صفر امتنع أهل حرّان على صاحبها هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وعصوا عليه. وسبب ذلك انه كان متقلدا لها ولغيرها من ديار مضر من قبل عمه سيف الدولة، فعسفهم نوّابه وظلموهم، وطرحوا الأمتعة على التجار من أهل حران، وبالغوا في ظلمهم.

(4/306)


ميافارقين، وقصد بلاد أرمينية. وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يعرف بأبي الورد فغلبه نجا على ما ملك منها، وأخذ قلاعه وبلاده فملك خلاط وملازكرد وأخذ كثيرا من أموال أبي الورد وقتله، ثم انتقض على سيف الدولة. واتفق أن معز الدولة بن بويه استولى على الموصل ونصيبين فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان. ثم صالحه ناصر الدولة، ورجع إلى بغداد فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه، فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته. ثم وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين.
(مسير معز الدولة الى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة)
كان الصلح قد استقرّ بين ناصر الدولة ومعز الدولة على ألف ألف درهم في كل سنة.
ثم طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي ثعلب المظفر [1] في اليمن على زيادة بذلها، وامتنع سيف الدولة من ذلك وسار إلى الموصل منتصف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ولحق ناصر الدولة بنصيبين وملك معز الدولة الموصل، وسار عنها في اتباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين وملكها معز الدولة. وخالفه أبو ثعلب إلى الموصل وعاث في نواحيها، وهزمه قوّاد معز الدولة بالموصل فسكنت نفس معز الدولة. وأقام ببر قعيد يترقب أخباره، وخالف ناصر الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم، وأسر قواده واستولى على مخلفه من المال والسلاح وحمل ذلك كله إلى قلعة كواشي. وبلغ الخبر إلى معز الدولة فلحق بالنواب، وأعيا معز الدولة أمرهم. ثم أرسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل وديار ربيعة، وجميع أعماله بمقرّها المعلوم، وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معز الدولة ورجع معز الدولة إلى بغداد.
__________
[1] أبي تغلب فضل الله الغصنفر ابن الأثير ج 8 ص 553 وكذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.

(4/307)


(حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها)
وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة خرج الدمشق [1] في جموع الروم فنازل المصيصة، وشدّ حصارها وأحرق رساتيقها، وبلغ إلى نقب السور فدافعه أهلها أشد مدافعتهم.
ثم رحل إلى أذنة وطرسوس، وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد، وقلت الأقوات. وعاود مرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم، وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة، فارتحل بسببهم للمدافعة فوجد الروم انصرفوا ففرّق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوما. وبعث الدمشق إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس يتهددهم بالعود، ويأمرهم بالرحيل من البلاد. ثم عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال وأسروا بطريقا من بطارقته وسقط الدمشق إلى أهل المصيصة ورجعوا إلى بلادهم. ثم سار يعفور [2] ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلها، وجهز عليها العساكر وبعث أهل المصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع، وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوة واستباحها، ونقل أهلها إلى بلاد الروم وكانوا نحوا من مائتي ألف. ثم سار إلى طرسوس واستنزل أهلها على الأمان، وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث حامية من الروم يبلغونهم أنطاكية، وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها. ثم عاد إلى القسطنطينية وأراد الدمشق بن شمسيق [3] ان يقصد سيف الدولة في ميافارقين ومنعه الملك من ذلك.
(انتقاض أهل انطاكية وحمص)
ولما استولى الروم على طرسوس لحق الرشيق النعيمي [4] من قوادهم وأولي الرأي فيهم
__________
[1] اسمه الحقيقي الدمستق، وقد مرّ معنا في مكان آخر من هذا الكتاب.
[2] اسمه نقفور، قد مرّ معنا من قبل.
[3] الدمستق بن شمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 555- 561.
[4] الرشيق النسيمي: ابن الأثير ج 8 ص 562.

(4/308)


بأنطاكيّة في عدد وقوة، فاتصل به ابن أبي الأهوازي من الجباة بأنطاكيّة، وحسن له العصيان وأراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام بما هو فيه من الزمانة، وأعانه بما كان من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض، وملك أنطاكية وسار إلى حلب وبها عرقوبة [1] وجاء الخبر الى سيف الدولة بأن رشيقا أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلا من الديلم اسمه وزير [2] ولقبه الأمير وأوهم أنه علوي وتسمى هو بالأشاد [3] وأساء السيرة في أهل أنطاكية، وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثم جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب وخرج إلى أنطاكية، وقاتل وزير وابن الأهوازي أياما. وجيء بهما إليه أسيرين فقتل وزير وحبس ابن الأهوازي أياما وقتله، وصلح أمر أنطاكية. ثم ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة، وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين، وبعث إليه عرقوبة مولاه بدرا بالعساكر فكانت بينهما عدة حروب أصيب فيها مروان بسهم فأثبت، وبقي أياما يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر، وأسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان وعاش بعده أياما ثم مات وصلح أمرهم.
(خروج الروم الى الثغور واستيلاؤهم على دارا)
وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة خرجت جموع الروم إلى الثغور فحاصروا آمد ونالوا من أهلها قتلا وأسرا فامتنعت عليهم فانصرفوا إلى دارا قريبا من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين وسيف الدولة يومئذ بها فهم بالهروب، وبعث عن العرب ليخرج معهم ثم انصرف الروم وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدة، وعاثوا في جهاتها فامتنعت فعاد الروم إلى طرسوس.
__________
[1] قرغوية: ابن الأثير ج 8 ص 562 وفي تجارب الأمم قرغوية أيضا.
[2] اسمه دزير: ابن الأثير ج 8 ص 562.
[3] وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 562: الأستاذ.

(4/309)


(وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة)
وفي صفر من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة توفي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحمل إلى ميافارقين فدفن بها وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف. ثم في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو ثعلب فضل الله الغضنفر [1] وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنه كبر وساءت أخلاقه، وخالف أولاده وأصحابه في المصالح، وضيق عليهم فضجروا منه، ولما بلغهم معز الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق فنهاهم ناصر الدولة، وقال لهم اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلا استظهر عليكم وظفر بكم فلجوا في ذلك، ووثب به أبو ثعلب بموافقة البطانة، وحبسه بالقلعة، ووكل بخدمته. وخالفه بعض إخوته في ذلك واضطرب أمره. واضطر إلى مداراة بختيار بن معز الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتج به على إخوته فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة.
(ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس)
ولما مات سيف الدولة كما ذكرناه ولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عند ما خلصه من الأسر الّذي أسره الروم في منبج فاستفداه في الفداء الّذي بينه وبين الروم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولاه على حمص. فلما مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده ففارق حمص، ونزل في صدد قرية في طرف البرية قريبا من حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه فجاء إلى صدد، واستأمن له أصحاب أبي فراس، وكان في جملتهم فأمر به عرقوبة فقتل، واحتمل رأسه إلى أبي المعالي وكان أبو فراس خاله.
__________
[1] مر من قبل ابو ثعلب المظفر ولعل هذا تحريف من الناسخ واسمه الحقيقي ابو تغلب الغضنفر.

(4/310)


(أخبار أبي ثعلب مع اخوته بالموصل)
كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية، وهي أم أبي ثعلب [1] وهي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه، فلما حبس ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلصه مما هو فيه. وظفر أبو ثعلب بالكتاب، فنقل أباه إلى قلعة كواشي واتصل ذلك بحمدان، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها. ولما اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين وجمع الجموع، وبعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه، وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهرا، ثم اصطلحا وعاد كل منهما إلى مكانه. ثم مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ودفن بالموصل.
وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيرا ببختيار، فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته، وحمل إليه الهدايا وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وفارقه أبو البركات، ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانيا في العساكر، فخرج حمدان إلى البرية، وترك الرحبة فملكها أبو البركات واستعمل عليها. وسار إلى الرقة، ثم إلى عرابان. وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات، وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه. ثم ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه. وحمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه. وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدم أخاه أبا فراس محمدا إلى نصيبين، ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان ومالأه عليه، فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخوه إبراهيم والحسن، ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعا إلى سنجار. وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فخاموا [2] عن لقائه، واستأمن
__________
[1] كثيرا ما يذكر ابن خلدون ابن تغلب باسم ابن ثعلب، كما يذكر التغالبة باسم الثعالبة.
[2] بمعنى أحجموا عن لقائه.

(4/311)


إليه أخوه إبراهيم والحسن خديعة ومكرا فأمنهما، ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان. وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه فهربا منه. ثم استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائبا بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب فرجع حمدان إلى الرحبة، وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا، وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات، واستولوا عليها، ونجا حمدان بنفسه، ولحق بسنجار مستجيرا به، ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما وأقاما عنده. ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين وثلاثمائة.
(خروج الروم الى الجزيرة والشام)
وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة دخل ملك الروم الشام فسار في نواحيها، ولم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس، وكان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله، ثم حاصر الروم عرقة فملكوها ونهبوها. ثم قصدوا حمص وقد انتقل أهلها عنها فأحرقوها، ورجعوا إلى بلاد السواحل وملكوا منها ثمانية عشر بلدا، واستباحوا عامة القرى، وساروا في جميع نواحي الشام ولا مدافع لهم، إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم. ثم رجع ملك الروم مجمعا حصار حلب وأنطاكية، وبلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده ومعه من السبي مائة ألف رأس. وكان بحلب قرعوية [1] مولى سيف الدولة فمانعهم، وبعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرتوثا وعاثوا في نواحيها، ولم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم.
(استبداد قرعوية بحلب)
كان قرعوية غلام سيف الدولة، وهو الّذي أخذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته،
__________
[1] مرّ معنا من قبل باسم فرعوبة وهذا تحريف واضح. اما اسمه الحقيقي قرغوية.

(4/312)


فلما كان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة انتقض على أبي المعالي وأخرجه من حلب واستبد بملكها. وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها، فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس. ولحق أصحابه بأبي ثعلب، وبلغ أمه بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياما من الدخول، حتى استوثقت لنفسها وأذنت له ولمن رضيته، وأطلقت لهم الأرزاق ومنعت الباقين وسار أبو المعالي لقتال قرعوية بحلب فامتنع عليه، ثم لحق أبو المعالي بحماة، وأقام بها وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم.
(مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين)
ولما سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعوية، سار إليها وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقر الأمر بينهما على أن تحمل إليه مائتي ألف درهم. ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلا، ونالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب، وحملت إليه مائة ألف درهم وأطلقت الأسارى فرجع عنها.
(استيلاء الروم على انطاكية ثم حلب ثم ملازكرد)
وفي سنة تسع وخمسين خرج الروم إلى انطاكية فمروا بحصن الوفاء [1] بقربها، وهم نصارى فحاصروهم، واتفقوا على أن يرحلوا إلى أنطاكية، فإذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل. وانتقل أهل الوفاء ونزلوا بجبل أنطاكية. وجاء بعد شهرين أخو يعفور [2] ملك الروم في أربعين ألفا من جموع الروم، ونازل أنطاكية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم، وملكوا البلد وسبوا منها عشرين ألفا. ثم أنفذ ملك الروم جيشا
__________
[1] حصن لوقا: ابن الأثير ج 8 ص 603.
[2] نقفور: ابن الأثير ج 8 ص 603.

(4/313)


كثيفا إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي، وقصد البرية وملك الروم حلب. وتحصن قرعوية وأهل البلد بالقلعة فحاصروها مدّة، ثم ضربوا الهدنة بينهم على مال يحمله قرعوية، وعلى أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها. ودخل في هذه الهدنة حمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرى، وأعطاهم رهنهم على ذلك الروم، وأفرج الروم عن حلب. وكان ملك الروم قد بعث جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية فحاصروها وفتحوها عنوة، ورعب أهل الثغور منهم في كل ناحية.
(مقتل يعفور ملك الروم)
كان يعفور ملكا بالقسطنطينية، وهي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد، وكان من يليها يسمى الدمشق [1] . وكان يعفور هذا شديدا على المسلمين، وهو الّذي أخذ حلب أيام سيف الدولة. وملك طرسوس والمسينة [2] وعين زربة. وكان قتل الملك قبله وتزوج امرأته، وكان له منها ابنان فكفلهما يعفور وكان كثيرا ما يطرق بلاد المسلمين ويدوخها في ثغور الشام والجزيرة، حتى هابه المسلمون وخافوه على بلادهم. ثم أراد أن يجب [3] ربيبيه ليقطع نسلهما فغرقت [4] أمهما من ذلك، وأرسلت إلى الدمشق بن الشمشيق [5] وداخلته في قتله. وكان شديد الخوف من يعفور. وهذا كان أبوه مسلما من أهل طرسوس يعرف بابن العفاش تنصر ولحق بالقسطنطينية. ولم يزل يترقى في الأطوار إلى أن نال من الملك ما ناله. وهذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها، ولا ينال الملك من كان عريقا في السوقة، وفقيدا [6] للعصابة بالكلية وبعيدا عن نسب أهل الدولة، فقد تقدم من ذلك في مقدمة الكتاب ما فيه كفاية.
__________
[1] الدمستق كما مر من قبل.
[2] المصيصة: ابن الأثير ج 8 ص 607.
[3] بمعني يخصي ابني الملك ليقطع نسلهما.
[4] لا معنى لها ومقتضى السياق وقلقت أمهما من ذلك.
[5] اسمه الدمستق بن الشمشقيق وقد مر معنا من قبل.
[6] الفقيد: بمعنى المفقود في اللغة، ويظهر ان ابن خلدون يقصد الفاقد وقد كرر هذا المعنى مرات عديدة.

(4/314)


(استيلاء أبي ثعلب على حران)
وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحوا من شهر، ثم جنح أهلها إلى مصالحته واضطربوا في ذلك، ثم توافقوا عليه وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة، ودخل في إخوانه وأصحابه فصلى الجمعة ورجع الى معسكره. واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي، وكان من أكابر أصحاب بني حمدان.
وبلغه الخبر بأن نميرا عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود.
(مصالحة قرعوية لابي المعالي)
قد تقدم لنا استبداد قرعوية بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وخروج أبي المعالي ابن سيف الدولة منها، وأنه لحق بأمه بميافارقين. ثم رجع لحصار قرعوية بحلب. ثم رجع إلى حمص ونزل بها. ثم وقع الاتفاق بينه وبين قرعوية على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعا للمعز العلويّ صاحب مصر.
(مسير الروم إلى بلاد الجزيرة)
وفي سنة إحدى وستين سار الدمشق في جموع الروم إلى الجزيرة فأغار على الرها ونواحيها، ثم تنقل في نواحي الجزيرة، ثم بلغ نصيبين واستباحها ودوخها. ثم سار في ديار بكر ففعل فيها مثل ذلك. ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم، وسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وجلسوا إلى الناس في المساجد والمشاهد يصفون ما جرى على المسلمين، وخوفوهم عاقبة أمرهم فتقدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفة، فأرادوا الهجوم عليه فأغلقت دونهم الأبواب فأعلنوا بشتمه، ولحق آخرون من أهل بغداد ببختيار وهو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم، فوعدهم بالجهاد، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره

(4/315)


بالتجهيز للغزو، وأن يستنفر العامة. وكتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة والعلوفات والتجهيز، وأنه عازم على الغزو. ووقعت بسبب ذلك فتنة في بغداد من قبل اشتغال العامة بذلك أدت إلى القتل والنهب بين عصائب الفتيان والعيارين.
(أسر الدمشق وموته)
ولما فعل الدمشق في ديار مضر والجزيرة ما فعل، قوي طمعه في فتح آمد فسار إليه أبو ثعلب، وقدم أخاه أبا القاسم هبة الله، واجتمعا على حرب الدمشق ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستين. وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أهبة فانهزموا، وأخذ الدمشق أسيرا، فلم يزل محبوسا عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات.
(استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب)
قد تقدم لنا ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنهما سارا إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره، وهرب إبراهيم ورجع إلى أخيه أبي ثعلب فتحرّك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار، ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد، ولم يحدث فيها حدثا من نهب ولا غيره، وإنما قاتل أهل بغداد فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامتها. واضطرب أمرهم وخصوصا الجانب الغربي. وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين في الضاحية، وتأخر أبو ثعلب عن بغداد وحاربه يسيرا. ثم داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على

(4/316)


مال يضمنه ويرد على أخيه حمدان إقطاعه ما سوى ماردين، وكتبوا بذلك إلى بختيار. وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد، ثم سار. وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمة وعسفه، وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار. ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض وقتل بعضا من أصحاب بختيار عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم، فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعا إلى الموصل. وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه. وتم الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل.
(عود أبي المعالي بن سيف الدولة الى حلب)
قد تقدم لنا أن قرعوية مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه، وأخرجه من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، فسار إلى والدته بميافارقين. ثم إلى حماة فنزلها وكانت الروم قد أمنت حمص، وكثر أهلها. وكان قرعوية قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب، وملكها سنين فكتب أصحاب قرعوية إلى أبي المعالي واستدعوه، فسار وحاصرها أربعة أشهر، وملكها وأصلح أحوالها، وازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر.
(استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل وسائر ملوك بني حمدان)
ولما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار ابن عمه معز الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل على الشام، وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرض

(4/317)


لأبي ثعلب لمودة بينهما فنكث وقصدها. ولما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح، وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه، وسار بختيار إلى الحديثة ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوال سنة ست وستين فهزمهما عضد الدولة، وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة، وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة، وبث السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان ابن بختيار وأخواله أبو إسحاق وظاهر ابنا معز الدولة ووالدتهم. وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه. وسار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيرة ابن عمر ولحق أبو ثعلب بنصيبين. ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها، وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى تدليس [1] وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه، ونقل منها ذخيرته، وعاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحاصرها.
واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع، فسار إليه ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده طغان إلى تدليس فهرب منها أبو ثعلب واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وكان منازعا لملكهم الأعظم في الملك، فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب، وصاهره ليستعين به واتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة، وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم. ونجا فلّهم إلى حصن زياد ويسمى خرت برت. وأرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر. ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيس أبو ثعلب من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين. وكان أبو الوفاء لما رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين، والوالي عليها هزارمرد فضبط البلد ودافع أبا الوفاء ثلاثة أشهر. ثم مات وولى أبو ثعلب مكانه مؤنسا من موالي الحمدانية، ودس أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله فبعث له في الناس رغبة. وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد واستأمن، وملك أبو الوفاء البلد وكان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر
__________
[1] تدليس: مدينة بالمغرب الأقصى على البحر المحيط وهي غير مقصوده هنا والمقصود بدليس: بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ذات بساتين كثيرة ... (معجم البلدان) لابن الأثير ج 8 ص 693.

(4/318)


ديار بكر وأمن أصحاب أبي ثعلب وأحسن إليهم ورجع إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبة من دار الحرب فقصد الرحبة. وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليه فامتنع. ثم استولى عضد الدولة على ديار مضر وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشا من حلب فحاربوها وامتنعت عليهم، وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه فبعث عضد الدولة النقيب أبا احمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلمها بعد حروب. وأخذ لنفسه منها الرقة، ورد باقيها على سعد الدولة فصارت له ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه. واستولى على جميع أعماله واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش، وصلبهم على جانبي طريق الموصل.
(مقتل أبي ثعلب بن حمدان)
ولما أيس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة، والرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام، وكان على دمشق قسّام داعية العزيز العلويّ غلب عليها بعد أفتكين وقد تقدم ذلك، وكيف ولي أفتكين على دمشق. فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد فأقام بظاهرها، وكاتب العزيز، وجاءه الخبر بأنه يستقدمه، فرحل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام. وجاء الفضل قائد العزيز لحصار قسام بدمشق، ومر بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكل جميل. ثم حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الّذي يحاصر دمشق. ثم ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرم سنة تسع وتسعين، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا الحربة ففر بنو عقيل عنه، وبقي في سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه، وولى منهزما فلحقه الطلب فوقف يقاتل، فضرب وأسر وحمل إلى دغفل، وأراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل

(4/319)


بأفتكين فقتله، وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها.
(وصول ورد المنازع لملك الروم الى ديار بكر مستجيرا)
كان ملك الروم أرمانوس لما توفي خلف ولدين صغيرين وهما بسيل وقسطنطين، ونصب أحدهما للملك وعاد حينئذ الدمشق يعفور [1] من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها وبالغ في النكاية، فاجتمع إليه الروم ونصبوه للنيابة عن ابني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق [2] على الدمشقية، وقبض على لاوون أخي دمشق وعلى ابنه ورديس بن لاوون واعتقلهما في بعض القلاع. وسار إلى بلاد الشام وأعظم فيها النكاية. ومرّ بطرابلس فحاصرها، وكان لوالده الملك أخ خصي وهو يومئذ وزير، فوضع على ابن الشميشق من سقاه السم، وأحس به من نفسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه. وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر، وصاهر أبا ثعلب بن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور، وقصد الروم ووالى عليهم الهزائم فخافه الملكان، وأطلقا ورديس بن لاوون وبعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم إلى ديار بكر سنة تسع وستين وثلاثمائة، ونزل بظاهر ميافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصرا به. وبعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما، وأمر بالقبض على ورد وأصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر، وعلى ولده وأخيه وأصحابه وأردعهم السجن بميافارقين. ثم بعثهم إلى بغداد فحبسوا بها إلى أن أطلقهم بهاء الدولة بن عضد الدولة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وشرط عليه إطلاق عدد من المسلمين وإسلام سبعة من الحصون برساتيقها، وأن لا يتعرّض لبلاد المسلمين ما عاش. وجهزه فسار وملك في طريقه ملطية وقوي بما فيه وصالحه ورديس بن لاوون على أن يكون قسطنطينية وجانب الشمال من الخليج له وحاصر قسطنطينية، وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل
__________
[1] اسمه الصحيح الدمستق نقفور.
[2] اسمه ابن الشمشقيق.

(4/320)


وقسطنطين في ملكها، وأقرّا وردا على ما بيده قليلا. ثم مات وتقدم بسيل في الملك ودام عليه ملكه وحارب البلغار خمسا وثلاثين سنة، وظفر بهم وأجلاهم عن بلادهم وأسكنها الروم.
(ولاية بكجور على دمشق)
قد قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة وأنه عمرها وكان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام. وما وقع بها من الغلاء والوباء، وكان بكجور يحمل الأقوات من حمص تقربا إلى العزيز صاحب مصر، وكاتبه في ولايتها فوعده بذلك. ثم استوحش من أبي المعالي سنة ثلاث وسبعين، وأرسل إلى العزيز يستنجز وعده في ولاية دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به، وكان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام وساء أثر ابن كلس في الدولة، واجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس ودعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه، وولى بكجور مكانه فدخلها في رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وأساء السيرة فيها وعاث في أصحاب الوزير بن كلس وأقام على ذلك ستا. وعجز أهل دمشق منه وجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، وكوتب نزال والي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر، وجمع بكجور عسكرا من العرب وغيرهم، وخرج للقائه فهزمه منير واستأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه، ورحل إلى الرقة واستولى عليها، وتسلم منير دمشق وأقام بكجور بالرقة واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة، وراسل بهاء الدولة بن عضد الدولة بالطاعة وباد الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص، فلم يحبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي، ويستميلهم في الغدر به فأجابوه، وأخبروه أن أبا المعالي مشغول بلذاته فاستمد حينئذ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدوه ويكونوا في تصرفه. ودس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزير قبله، ابن خلدون م 21 ج 4

(4/321)


وتجديدها مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم، وأخلفه وسار بكجور من الرقة وبلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب ومعه لؤلؤ الكبير مولى أبيه، وكتب إلى بكجور يستميله ويذكره الحقوق، وأن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل وكتب أبو المعالي إلى صاحب أنطاكية يستمده فأمده بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء. فلما التقى العسكران وشغل الناس بالحرب، عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه، ووقف مكانه خشية عليه. وحمل ذلك فلما انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ وضربه فأثبته. وأحاط به أصحابه فولى منهزما وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه فقبل شرطه، وأحضر فقتله وسار إلى الرقة، وبها سلامة الرشقي مولى بكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم ونزلوا عن الرقة فملكها واستكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك، وبكجور لا يملك شيئا ولا حنث عليك. فاستصفى مالهم أجمع وشفع فيهم العزيز فأساء عليه الردّ، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي.
(خبر باد الكردي ومقتله على الموصل)
كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل ومن رؤسائهم رجل يعرف بباد، وقيل باد لقب له، واسمه أبو عبد الله الحسين بن ذوشتك، وقيل باد اسمه وكنيته أبو شجاع ابن ذوشتك. وإنما أبو عبد الله الحسين أخوه. وكان له بأس وشدّة وكان يخيف السابلة، ويبذل ما تجمع له من النهب في عشائره فكثرت جموعه. ثم سار إلى مدينة أرمينية فملك مدينة أرجيش. ثم رجع إلى ديار بكر، فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده في جملة الوفود وخافه على نفسه فعدا وأبعد في مذهبه، وبلغ عضد الدولة أمره فطلبه فلم يظفر به. ولما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد وميافارقين.
ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد ابن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب وعساكره، وقتل

(4/322)


كثير من الديلم. ولحق الحاجب سعيد بالموصل وباد في اتباعه. وثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه، ودخل باد الموصل سنة ثلاث وسبعين وقوي أمره وسما إلى طلب بغداد وأهم صمصام الدولة أمره ونظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه وأنفذ كبير القواد زياد بن شهرا كونه. فتجهز لحربه وبالغوا في مدده وإزاحة علله فلقيهم في صفر سنة أربع وسبعين. وانهزم باد وقتل كثير من أصحابه وأسر آخرون، وطيف بهم في بغداد. واستولى الديلم على الموصل، وأرسل زياد القائد عسكرا إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم. وكتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر، وإدخالها في عمله، فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أياما ورجعوا إلى حلب. وبعث سعد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته وضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة.
ثم بعث باد إلى زياد القائد، وسعد الحاجب بالموصل بطلب الصلح فأتمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد، والنصف من طور عبدين. فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ وانحدر زياد القائد إلى بغداد، وأقام سعد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين، فطمع باد في الموصل، وبعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاده في العساكر، فزحف إليه باد وتأخر المدد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل وبني نمير لمدافعة باد، وأقطعهم البلاد. واستولى باد على طور عبدين آخر الجبال ولم يضجر، وأرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل، وانهزم عسكره وأقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه، فزحف خواشاده إلى الموصل وقامت العرب بالصحراء وباد بالجبال.
(عود بني حمدان الى الموصل ومقتل باد)
كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب بالعراق، وكانا ببغداد، واستقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة، فلما تولى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها. ثم أنكر ذلك

(4/323)


عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما، فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا، وأغذا السير إلى الموصل حتى نزلا بظاهرها. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم فانهزموا وقتل منهم خلق، وامتنع باقيهم بدار الإمارة ومن معه على الأمان إلى بغداد، وملكوا الموصل. وتسايل اليهم العرب من كل ناحية. وأراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيرا.
واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمد بن المسيب أمير بني عقيل يستنصرانه. وشرط عليهما جزيرة ابن عمر ونصيبين فقبلا شرطه. وسار أبو عبد الله صريخا، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل وباد يحاصره. وزحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر، وجاءوا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه، والتحم القتال ونكب بباد فرسه فوقع طريحا، ولم يطق الركوب وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب، وحمل رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة.
(مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل)
لما هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر، وكان أبو علي بن مروان الكردي، وهو ابن أخت باد قد خلص من المعركة، ولحق كيفا، وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل فتزوج امرأة خاله، واستولى على ماله وعلى الحصن. وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليدا. وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر عبد الله منهما. ثم أطلقه ولحق بأخيه أبي طاهر وهو يحاصر آمد، فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى

(4/324)


أن هلك. وأما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه، وبها أبو الدرداء محمد ابن المسيب أمير بني عقيل وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملا من قبله، فبعث إليها قائدا كان تصرفه عن أبي الدرداء، ولم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء واستغنى عن العامل، وانقرض ملك بني حمدان من الموصل والبقاء للَّه.
(ملك سعد الدولة بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل واستبداد لؤلؤ عليه)
ولما هزم سعد الدولة مولاه بكجور، وقتله حين سار إليه من الرقة، رجع إلى حلب فأصابه فالج وهلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل، وأخذ له العهد على الأجناد، وتراجعت إليهم العساكر. وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر، وأغراه بملك حلب فبعث إليها قائده منجوتكين في العساكر وحاصرها، ثم ملك البلد، واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة، وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولا بقتال البلغار، فأرسل إلى نائبة بأنطاكيّة أن يسير إليهم، فسار في خمسين ألفا ونزل جسر الحديد على وادي العاصي، فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى أنطاكية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال، وأحرق الباقي. وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب. وبعث لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الوساطة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين، ورحل إلى دمشق حجرا من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز، وكتب إليه يوبخه ويأمره بالعود لحصار حلب فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم وحرّضوه على انطاكية، وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد، ورجع إلى حلب. وبلغ الخبر إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيه، وجاء ملك الروم وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا، ورحل

(4/325)


ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما. وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة. ثم رحل عائدا إلى بلده.
(انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها)
ثم إنّ أبا نصر لؤلؤا مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية، وخطب للحاكم العلويّ بمصر ولقبه مرتضى الدولة. ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة وأميرهم يومئذ صالح بن مرداس وتقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب، كان فيهم صالح فاعتقله مدّة وضيق عليه. ثم فرّ من محبسه ونجا إلى أهله وزحف إلى حلب ولؤلؤ فيها وكانت بينه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها، وأسره سنة ستين وأربعمائة. وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه، ورجع إلى حلب واتهم مولاه فتحا، وكان نائبة على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته. ونمي إليه الخبر، فكاتب الحاكم العلويّ وأظهر دعوته، وانتقض على لؤلؤ فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم ولحق فتح بصيداء.
واستعمل الحاكم على حلب من قبله، وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع، وبقيت حلب في ملك العبيديين. ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه، وورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم.
(الخبر عن دولة بني عقيل بالموصل وابتداء أمرهم بأبي الدرداء وتصاريف أحوالهم)
كان بنو عقيل وبنو كلاب وبنو نمير وبنو خفاجة، وكلهم من عامر بن صعصعة وبنو طيِّئ من كهلان، قد انتشروا ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات. وكانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات وينفرون معهم في الحروب. ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان، وساروا إلى ملك البلاد. ولما انهزم أبو طاهر بن

(4/326)


حمدان أمام علي بن مروان بديار بكر كما قدمناه سنة ثمانين وثلاثمائة ولحق بنصيبين وقد استولى عليها أبو الدرداء محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر بن عمر بن مهند أمير بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر، فقتل أبا طاهر وأصحابه وسار إلى الموصل فملكها. وبعث إلى بهاء الدولة بن بويه المستبد على الخليفة بالعراق، في أن يبعث عاملا على الموصل فبعث عاملا من قبله، والحكم راجع لأبي الدرداء. وأقام على ذلك سنتين. وبعث بهاء الدولة سنة اثنتين وثمانين عساكره إلى الموصل مع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فغلب عليها أبا الدرداء، وملكها. وزحف لحربه أبو الدرداء في قومه ومن اجتمع إليه من العرب فكانت بينهم حروب ووقائع، وكان الظفر فيها للديلم.
(مهلك أبي الدرداء وولاية أخيه المقلد)
ثم مات أبو الدرداء سنة ست وثمانين وولي إمارة بني عقيل مكانه أخوه عليّ بعد أن تطاول إليها أخوهما المقلد بن المسيب، وامتنع بنو عقيل لأن عليا كان أسن منه فصرف المقلد وجهه إلى ملك الموصل، واستمال الديلم الذين فيها مع أبي جعفر بن هرمز فمالوا إليه، وكتب إلى بهاء الدولة أن يضمنه الموصل بألفي ألف درهم كل سنة. ثم أظهر لأخيه علي وقومه أن بهاء الدولة قد ولاه، واستمدهم فساروا معه ونزلوا على الموصل، وخرج إلى المقلد من كان استماله من الديلم واستأمن إليهم أبو جعفر قائد الديلم فأمنوه، وركب السفن إلى بغداد واتبعوه فلم يظفروا منه بشيء وتملك المقلد ملك الموصل.
(فتنة المقلد مع بهاء الدولة بن بويه)
2 كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات وكان له ببغداد نائب فيه تهور وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة. وكان بهاء الدولة مشغولا بفتنة أخيه، فكتب نائب المقلد إليه يشكو من أصحاب بهاء الدولة، فجاء في العساكر، وأوقع بهم، ومد يده

(4/327)


إلى جباية الأموال، وخرج نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو أبو علي بن إسماعيل عن ضمان القصر وغيره فغالط بهاء الدولة، وأنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز للقبض على أبي علي بن إسماعيل ومصالحة المقلد بن المسيب، فصالحه على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ويخطب له ولأبي جعفر بعده، ويأخذ من البلاد رسم الحماية، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية ويلقب حسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين وجلس له ولأبي جعفر القادر باللَّه فاستولى على البلاد، وقصده الأعيان والأماثل، وعظم قدره وقبض أبو جعفر على أبي علي بن إسماعيل ثم هرب ولحق بمهذب الدولة.
(القبض على عليّ بن المسيب)
كان المقلد بن المسيب قد وقعت المشاجرة بين أصحابه وأصحاب أخيه في الموصل قبل مسيره إلى العراق، فلما عاد إلى الموصل أجمع [1] الانتقام من أصحاب أخيه. ثم نوى أنه لا يمكنه ذلك مع أخيه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، وأحضر عسكره من الديلم والأكراد. وورى بقصر دقوقا واستحلفهم على الطاعة. ثم نقب دار أخيه وكانت ملاصقة له، ودخل إليه فقبض عليه وحبسه، وبعث زوجته وولديه قراوش [2] وبدران إلى تكريت. واستدعى رؤساء العرب وخلع عليهم وأقام فيهم العطاء فاجتمعت له زهاء ألفي فارس، وخرجت زوجة أخيه بولديها إلى أخيها الحسن ابن المسيب، وكانت أحياؤه قريبا من تكريت، فاستجاش العرب على المقلد وسار إليه في عشرة آلاف، فخرج المقلد عن الموصل واستشار الناس في محاربة أخيه.
فأشار رافع بن محمد بن مغز [3] بالحرب، وأشار أخوه غريب بن محمد بالموادعة وصلة الرحم. وبينما هو في ذلك إذ جاءت أخته رميلة [4] بنت المسيب شافعة في أخيها عليّ فأطلقه، ورد عليه ماله وتوادع الناس، وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز
__________
[1] بمعنى عزم على الانتقام.
[2] قرواش: ابن الأثير ج 9 ص 134.
[3] رافع بن محمد بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 134.
[4] رهيلة: المرجع السابق.

(4/328)


لقتال علي بن مزيد الأسدي بواسط، لأنه كان مغضبا لأخيه الحسن، فلما قصد الحلة خالفه علي إلى الموصل فدخلها وعاد إليه المقلد، وتقدمه أخوه الحسن مشفقا عليه من كثرة جموع المقلد فأصلح ما بينهما، ودخل المقلد إلى الموصل وأخواه معه.
ثم خاف علي فهرب. ثم وقع الصلح بينهما على أن يكون أحدهما بالبلد. ثم هرب علي فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة فهرب إلى العراق، واتبعه المقلد فلم يدركه ورجع عنه. ثم سار المقلد إلى بلد علي بن مزيد فدخله ثانية ولحق ابن مزيد بمهذب الدولة صاحب البطيحة فأصلح ما بينهما.
(استيلاء المقلد على دقوقا)
ولما فرغ المقلد من شان أخويه وابن مزيد، سار إلى دقوقا فملكها. وكانت لنصرانيين قد استعبدا أهلها وملكها من أيديهما جبريل بن محمد من شجعان بغداد، أعانه عليها مهذب الدولة صاحب البطيحة، وكان مجاهدا يحب الغزو فملكها. وقبض على النصرانيين وعدل في البلد. ثم ملكها المقلد من يده، وملكها بعده محمد بن نحبان، ثم بعده قراوش بن المقلد. ثم انتقلت إلى فخر الملك أبي غالب فعاد جبريل واستجاش بموشك بن حكويه من أمراء الأكراد. وغلب عليها عمال فخر الدولة. ثم جاء بدران بن المقلد فغلب جبريل وموشك عليها وملكها.
(مقتل المقلد وولاية ابنه قراوش)
كان للمقلّد موال من الأتراك فهربوا منه، واتبعهم فظفر بهم، وقتل وقطع وأفحش في المثلة، فخاف إخوانهم منه، واغتنموا غفلته فقتلوه فيها بالأنبار سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وكان قد عظم شأنه وطمع في ملك بغداد. ولما قتل كان ولده الأكبر قراوش غائبا وكانت أمواله بالأنبار، فخاف نائبة فيها عبد الله بن إبراهيم بن شارويه بادرة عمّه الحسن، وراسل أبا منصور بن قراد، وكان بالسنديّة، وقاسمه في مخلّف المقلّد على أن يدافع الحسن إن قصده، فأجابه إلى ذلك، وأرسل عبد الله إلى

(4/329)


قراوش يستحثه فوصل، ووفّى لابن قراد بما عاهده عليه نائبة عبد الله، وأقام ابن قراد عنده. ثم إنّ الحسن بن المسيّب جاء إلى مشايخ بني عقيل شاكيا مما فعله قراوش وابن قراد عنده، فسعوا بينهم في الصلح، واتفق الحسن وقراوش على الغدر بابن قراد، وأن يسير أحدهما إلى الآخر متحاربين، فإذا تلاقيا قبضا على ابن قراد ففعلا ذلك. فلما تراءى الجمعان نمي الخبر إلى ابن قراد فهرب، واتبعه قراوش والحسن ولم يدركاه، ورجع قراوش إلى بيوته فأخذها بما فيها من الأموال، فوجه الأموال إلى أن أخذها أبو جعفر الحجّاج بن هرمز.
(فتنة قراوش مع بهاء الدولة بن بويه)
ولما كانت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة بعث قراوش بن المقلّد جمعا من بني عقيل إلى المدائن فحصروها، فبعث أبو جعفر بن الحجّاج بن هرمز نائب بهاء الدولة ببغداد عسكرا إليهم فدفعوهم عنها. فاجتمعت عقيل وبنو أسد وأميرهم عليّ بن مزيد.
وخرج أبو جعفر إليهم واستجاش بخفاجة، وأحضرهم من الشام فانهزم واستبيح عسكره، وقتل وأسر من الأتراك والديلم كثير. ثم جمع العساكر ثانيا ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم، وقتل وأسر وسار إلى أحياء بني مزيد، ونهب منها ما لا يقدّر قدره.
ثم سار قراوش إلى الكوفة سنة سبع وتسعين، وكانت لأبي علي بن تمال الخفاجي، وكان غائبا عنها فدخل قراوش الكوفة وصادرهم. ثم قتل أبو علي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وكان الحاكم صاحب مصر قد ولّاه الرحبة فسار إليها، وخرج إليه عيسى ابن خلاط العقيليّ فقتله وملكها. ثم ملكها بعده غيره إلى أن ولي أمرها صالح بن مرداس الكلابيّ صاحب حلب.
(قبض قراوش على وزرائه)
كان معتمد الدولة قراوش بن المقلّد قد استوزر أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، وكان من خبره أنّ أباه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فذهب عنه

(4/330)


إلى مصر وولي بها الأعمال. وولد ابنه أبا القاسم ونشأ هنالك. ثم قتله الحاكم فلحق أبو القاسم بحسّان بن مفرّج بن الجرّاح الطائي بالشام، وأغراه بالانتقاض والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة ففعل ذلك، ولم يتم أمر أبي الفتوح ورجع إلى مكة ولحق أبو القاسم المغربي بالعراق، واتصل بفخر الملك فارتاب به القادر لانتسابه إلى العلويّة فأبعده فخر الملك، فقصد قراوش بالموصل فاستوزره. ثم قبض عليه سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وصادره على مال زعم أنه ببغداد والكوفة فأحضره، وترك سبيله فعاد إلى بغداد ووزر لشرف الدولة بن بويه بعد وزيره مؤيد الملك الرجيحي، وكان مداخلا لعنبر الخادم الملقّب بالأثير المستولي على الدولة يومئذ. ثم سخطه الأتراك وسخطوا الأبهر [1] فأشار عليه بالخروج عن بغداد فخرج الوزير وأبو القاسم معه إلى السندية وبها قراوش فأنزلهم، وساروا إلى أوانا وبعث الأتراك إلى الأثير عنبر بالاستعتاب فاستعتب، ورجع وهرب أبو القاسم المغربي إلى قراوش سنة خمس عشرة واربعمائة لعشرة أشهر من وزارته. ثم وقعت فتنة بالكوفة كان منشؤها من صهره ابن أبي طالب، فأرسل الخليفة إلى قراوش في إبعاده عنه، فأبعده وسار إلى ابن مروان إلى ديار بكر، ولك يذكر بقية خبره. ثم قبض معتمد الدولة قراوش على أبي القاسم سليمان بن فهر عامل الموصل له ولأبيه، وكان من خبره أنه كان يكتب في حداثته بين يدي أبي إسحاق الصابي، ثم اتصل بالمقلّد بن المسيّب، وأصعد معه إلى الموصل واقتنى بها الضياع. ثم استعمله قراوش على الجبايات فظلم أهلها وصادرهم فحبسه، وطالبه بالمال فعجز وقتل.
(حروب قراوش مع العرب وعساكر بغداد)
وفي سنة إحدى عشرة واربعمائة اجتمع العرب على فتن قراوش، وسار إليه دبيس
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ويذكر ابن الأثير في تاريخه الكامل ج 9 ص 335: «في هذه السنة- 415- تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المغربيّ، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربيّ الملك مشرّف الدولة في الانتزاح الى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعا ومعهم جماعة من مقدّمي الديلم الى السّنديّة، وبها قراوش، فأنزلهم ثم ساروا كلّهم الى أوانا» .

(4/331)


ابن علي بن مزيد الأسديّ وغريب بن معن، وجاءهم العسكر من بغداد فقاتلوه عند سرّ من رأى، ومعه رافع بن الحسين فانهزم ونهبت أثقاله وخزائنه، وحصل في أسرهم، وفتحوا تكريت عنوة من أعماله. ورجعت عساكر بغداد إليها واستجار قراوش بغريب بن معن فأطلقه، ولحق بسلطان بن الحسن من عمّال أمير خفاجة واتبعه عسكر من الترك وقاتلهم غربي الفرات، وانهزم هو وسلطان، وعاث العسكر في أعماله فبعث إلى بغداد بمراجعة الطاعة وقبل. ثم كانت الفتنة بينه وبين أبي أسد وخفاجة سنة سبع عشرة وأربعمائة لأنّ خفاجة تعرّضوا لأعماله بالسواد، فسار إليهم من الموصل وأميرهم أبو الفتيان منيع بن حسّان، فاستجاش بدبيس بن علي بن مزيد فجاءه في قومه بني أسد، وعسكر من بغداد والتقوا بظاهر الكوفة، وهو يومئذ لقراوش، فخاف قراوش عن لقائهم وأجفل ليلا للأنبار، واتبعوه فرحل عنها إلى حلله، واستولى القوم على الأنبار وملكوها. ثم فارقوها، وافترقوا فاستعادها قراوش، ثم كانت الحرب بينه وبين بني عقيل في هذه السنة، وكان سببها أن الأثير عنبر الخادم حاكم دولة بني بويه انتقض عليه الجند، وخافهم على نفسه فلحق بقراوش فجاء قراوش وأخذ له أقطاعه وأملاكه بالقيروان، فجمع مجد الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا كبيرا من بني عقيل وانضم اليهم بدران أخو قراوش وساروا لحربه وقد اجتمع هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأمدّهم ابن مروان فكانوا في ثلاثة عشر ألفا، والتقوا عند بلدهم فلما تصافوا والتحم القتال خرج بدران بن المقلّد إلى أخيه قراوش فصالحه وسط المصاف، وفعل ثوران بن قراد كذلك مع غريب بن معن فتوادعوا جميعا واصطلحوا. وأعاد قراوش الى أخيه بدران مدينة الموصل. ثم وقعت الحرب بين قراوش وبين خفاجة ثانيا. وكان سببها أنّ منيع بن حسّان أمير خفاجة وصاحب الكوفة سار إلى الجامعين بلد دبيس ونهبها فخرج دبيس في طلبه إلى الكوفة فقصد الأنبار، ونهبها هو وقومه، فسار قراوش إليهم ومعه غريب بن معن [1] الأنبار. ثم مضى في اتباعهم إلى القصر فخالفوه إلى الأنبار ونهبوها وأحرقوها.
واجتمع قراوش ودبيس في عشرة آلاف وخاموا عن لقاء خفاجة فلم يكن من قراوش إلّا بناء السور على الأنبار. ثم سار منيع بن حسّان الخفاجي إلى الملك كيجار والتزم
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 352: «وعلم قراوش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلا جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا الى الأنبار» .

(4/332)


الطاعة وخطب له بالكوفة وأزال حكم بني عقيل عن سقي الفرات. ثم سار بدران بن المقلّد في جموع من العرب إلى نصيبين وحاصرها وهي لنصير الدولة بن مروان فجهّز لهم الجند، وبعثهم إليها فقاتلوا بدران فانهزم أولا. ثم عطف عليهم فانهزموا وأثخن فيهم، وبلغه الخبر أنّ أخاه قراوش قد وصل الى الموصل فأجفل خوفا منه.
(استيلاء الغز على الموصل)
كان هؤلاء الغزّ من شعوب الترك بمفازة بخارى، وكثر فسادهم في جهاتها فأجاز إليهم محمود بن سبكتكين، وهرب صاحب بخارى وحضر عنده أميرهم أرسلان بن سلجوق فقبض عليه وحبسه بالهند، ونهب أحياءهم وقتل كثيرا منهم فهربوا الى خراسان وأفسدوا ونهبوا فبعث إليهم العساكر فأثخنوا فيهم وأجلوهم عن خراسان.
ولحق كثير منهم بأصبهان وقاتلوا صاحبها وذلك سنة عشرين وأربعمائة. ثم افترقوا فسارت طائفة منهم إلى جبل بكجار عند خوارزم ولحقت طائفة أخرى بأذربيجان وأميرها يومئذ وهشوذان فأكرمهم، ووصلهم ليكفّوا عن فسادهم فلم يفعلوا. وكان مقدّموهم أربعة: توقا وكوكناش ومنصور ودانا فدخلوا مراغة سنة تسع وعشرين [وأربعمائة] ونهبوها وأثخنوا في الأكراد الهدبانيّة، وسارت طائفة منهم الى الريّ فحاصروها وأميرها علاء الدين بن كاكويه واقتحموا عليه البلد وأفحشوا في النهب والقتل، وفعلوا كذلك في الكرخ وقزوين. ثم ساروا إلى أرمينية وعاثوا في نواحيها وفي أكرادها. ثم عاثوا في الدينور سنة ثلاثين. ثم أوقع وهشوذان صاحب تبريز لجماعة منهم في بلده وكانوا ثلاثين ومقدّمهم، فضعف الباقون وأكثر فيهم القتل. واجتمع الغز الذين بأرمينية، وساروا نحو بلاد الأكراد الهكّاريّة من أعمال الموصل فأثخنوا فيهم، وعاثوا في البلاد. ثم كرّ عليهم الأكراد فنالوا منهم وافترقوا في الجبال وتمزّقوا.
وبلغهم مسير نيال أخي السلطان طغرلبك وهم في الريّ وكانوا شاردين منه فأجفلوا من الريّ، وقصدوا ديار بكر والموصل سنة ثلاث وثلاثين واربعمائة ونزلوا جزيرة ابن عمر، ونهبوا باقردى وبازبدى والحسنية وغدر سليمان بن نصير الدولة بن مروان بأمير منهم، وهو منصور بن عزعنيل فقبض عليه وحبسه، وافترق أصحابه في كل جهة.

(4/333)


وبعث نصير الدولة بن مروان عسكرا في اتباعهم، وأمدهم قراوش صاحب الموصل بعسكر آخر، وانضم إليهم الأكراد البثنويّة أصحاب فتك فأدركوهم فاستمات الغزّ وقاتلوهم. ثم تحاجزوا، وتوجّهت العرب إلى العراق للمشتى، وأخربت الغزّ ديار بكر، ودخل قراوش الموصل ليدفعهم عنها لما بلغه أن طائفة منهم قصدوا بلده. فلما نزلوا برقعيد عزم على الإغارة عليهم، فتقدّموا إليه فرجع إلى مصانعتهم بالمال على ما شرطوه. وبينما هو يجمع لهم المال وصلوا الى الموصل فخرج قراوش في عسكره وقاتلهم عامّة يومه. وعادوا للقتال من الغد فانهزمت العرب وأهل البلد، وركب قراوش سفينة في الفرات، وخلّف جميع ماله. ودخل الغزّ البلد ونهبوا ما لا يحصى من المال والجوهر والحلي والأثاث، ونجا قراوش إلى السند، وبعث إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن عليّ بن مزيد وأمراء العرب والأكراد يستمدّهم، وأفحش الغزّ في أهل الموصل قتلا ونهبا وعيثا في الحرم. وصانع بعض الدروب والمحال منها عن أنفسهم بمال ضمنوه فكفّوا عنهم وسلموا. وفرضوا على أهل المدينة عشرين ألف دينار فقبضوها، ثم فرضوا أربعة آلاف أخر وشرعوا في تحصيلها فثار بهم أهل الموصل. وقتلوا من وجدوا منهم في البلد. ولما سمع إخوانهم اجتمعوا ودخلوا البلد عنوة منتصف سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ووضعوا السيف في الناس واستباحوها اثني عشر يوما، وانسدت الطرق من كثرة القتلى حتى واروهم جماعات في الحفائر. وطلبوا الخطبة للخليفة ثم لطغرلبك، وطال مقامهم بالبلد، فكتب الملك جلال الدولة بن بويه ونصير الدولة بن مروان إلى السلطان طغرلبك يشكون منهم، فكتب إلى جلال الدولة معتذرا بأنهم كانوا عبيدا وخدما لنا فأفسدوا في جهات الريّ فخافوا على أنفسهم وشردوا. ويعده بأنه يبعث العساكر إليهم، وكتب إلى نصير الدولة بن مروان يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك فصانعتهم بالمال، وأنت صاحب ثغور ينبغي أن تعطي ما تستعين به على الجهاد، ويعده أنه يرسل من يدفعهم عن بلاده.
ثم سار دبيس بن مزيد إلى قراوش مددا، واجتمعت إليه بنو عقيل، وساروا من السنّ إلى الموصل فتأخر الغزّ إلى تل أعفر، وأرسلوا إلى أصحابهم بديار بكر ومقدمهم ناصفلي وبوقا فوصلوا إليهم وتزاحفوا مع قراوش في رمضان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فقاتلوهم إلى الظهر، وكشفوا العرب عن حللهم. ثم استماتت العرب فانهزمت الغزّ وأخذهم السيف ونهب العرب أحياءهم، وبعثوا برءوس القتلى إلى

(4/334)


بغداد واتبعهم قراوش إلى نصيبين ورجع عنهم. وقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم أرزن الروم كذلك ثم أذربيجان، ورجع قراوش إلى الموصل.
(استيلاء بدران بن المقلد على نصيبين)
قد تقدّم لنا محاصرة بدران نصيبين ورحيله عنها من أخيه قراوش. ثم اصطلحا بعد ذلك واتفقا وتزوّج نصير الدولة ابنة قراوش فلم يعدل بينها وبين نسائه، وشكت إلى أبيها فبعث عنها. ثم هرب بعض عمّال ابن مروان إلى قراوش وأطمعه في الجزيرة فتعلّل عليه قراوش بصداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار. وطلب الجزيرة ونصيبين لأخيه بدران فامتنع ابن مروان من ذلك، فبعث قراوش جيشا لحصار الجزيرة وآخر مع أخيه بدران لحصار نصيبين. ثم جاء بنفسه وحاصرها مع أخيه، وامتنعت عليه وتسلّلت العرب والأكراد إلى نصير الدولة بن مروان بميّافارقين. وطلب منه نصيبين فسلّمها إليه، وأعطى قراوش من صداق ابنته خمسة عشر ألف دينار. وكان ملك ابن مروان في دقوقا، فزحف إليه أبو الشوك من أمراء الأكراد فحاصره بها، وأخذها من يده عنوة، وعفا عن أصحابه. ثم توفي بدران سنة خمس وعشرين وأربعمائة وجاء ابنه عمر إلى قراوش فأقرّه على ولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحاصروه، فسار إليهم ودافعهم عنها.
(الفتنة بين قراوش وغريب بن معن)
كانت تكريت لأبي المسيّب رافع بن الحسين من بني عقيل، فجمع غريب جمعا من العرب والأكراد، وأمدّه جلال الدولة بعسكر، وسار إلى تكريت فحاصرها.
وكان رافع بن الحسين عند قراوش بالموصل، فسار لنصره بالعساكر، ولقيه غريب في نواحي تكريت فانهزم، واتبعه قراوش ورافع، ولم يتعرّضوا لمحلّته وماله. ثم تراسلوا واصطلحوا.

(4/335)


(فتنة قراوش وجلال الدولة وصلحهما)
كان قراوش قد بعث عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت، واستجار خميس بجلال الدولة فبعث إليه بالكفّ عنه فلم يفعل، فسار بنفسه يحاصره، وكتب إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم عن جلال الدولة. وسار جلال الدولة إلى الأنبار فامتنعت عليه، وسار قراوش للقائه وأعوزت عساكر جلال الدولة الأقوات. ثم اختلفت عقيل على قراوش، وبعث إلى جلال الدولة بمعاودة الطاعة، فتحالفا وعاد كل إلى بلده.
(أخبار ملوك القسطنطينية لهذه العصور)
كان بسيل وقسطنطين قد تزوّج أبوهما أمّهما في يوم عيد، ركب إلى الكنيسة فرآها في النظارة فشغف بها. وكان أبوها من أكابر الروم فخطبها منه، وتزوّجها وولدت الولدين ومات أبوهما وهما صغيران. وتزوّجت بعده بمدّة نقفور، وملك وتصرّف وأراد أن يجبّ [1] ولديها. وأغرت الدمشق [2] بقتله فقتله وتزوّجت به. وأقامت معه سنة، ثم خافها وأخرجها بولديها إلى دير بعيد فأقامت فيه سنة أخرى. ثم دسّت إلى بعض الرهبان ليقتل الدمشق، فأقام بكنيسة الملك يتحيّل لذلك، حتى جاء الملك واستطعمه القربان في العيد من يده، فدسّ له معه سمّا ومات. وجاءت هي قبل العيد بليال الى القسطنطينية فملك ولدها بسيل واستبدّت عليه لصغره. فلما كبر سار لقتال البلغار في بلادهم، وبلغه وهو لك وفاتها فأمر خادما له بتدبير الأمر في غيبته بالقسطنطينية. وأقام في قتال البلغار أربعين سنة. ثم انهزم وعاد إلى القسطنطينية وتجهّز ثانية، وعاد إليهم فظفر بهم وقتل ملكهم وملك بلادهم. ونقل أهلها إلى بلاد الروم. قال ابن الأثير: وهؤلاء البلغار الذين ملك بلادهم بسيل غير الطائفة المسلمة
__________
[1] أي ان يخصيهما.
[2] هو الدمستق: ابن الأثير ج 9 ص 497.

(4/336)


منهم، وهؤلاء أقرب من أولئك إلى بلاد الروم بشهرين، وكلاهما بلغار انتهى.
وكانت بسيل عادلا حسن السيرة، وملك على الروم نيفا وسبعين سنة. ولما مات ملك أخوه قسطنطين، ثم مات وخلّف بناتا ثلاثا فملكت الكبرى وتزوّجت بأرمانوس من بيت ملكهم، وهو الّذي ملك الرّها من المسلمين، وكان له من قبل الملك رجل يخدمه من السوقة الصيارفة اسمه ميخاييل فاستخلصه وحكّمه في دولته، فمالت زوجة أرمانوس إليه، وأعملا الحيلة في قتل الملك أرمانوس فقتلاه خنقا وتزوجته على كره من الروم. ثم عرض لميخائيل هذا مرض شوّه خلقته فعهد بالملك إلى ابن أخيه واسمه ميخاييل، فملك بعده وقبض على أخواله وإخوتهم وضرب الدنانير باسمه سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم أحضر زوجته بنت الملك وحملها على الرهبانية والخروج له عن الملك، وضربها ونفاها إلى جزيرة في البحر. ثم اعتزم على قتل البطرك للراحة من تحكّمه، فأمره بالخروج إلى الدير لعمل وليمة يحضرها عنده، وأرسل جماعة من الروم وبلغار لقتله، فبذل لهم البطرك مالا على الإبقاء، ورجع إلى بيعته، وحمل الروم على عزل ميخاييل، فأرسل إلى زوجته الملكة من الجزيرة التي نفاها إليها فلم تفعل، وأقبلت على رهبانيتها فخلعها البطرك من الملك، وملكت أختها الصغيرة بدرونة، وأقاموا من خدم أبيها من يدبّر ملكها، وخلعوا ميخاييل، وقاتل أشياعه أشياع بدرونة فظفر بهم أشياع بدرونة ونهبوهم. وفزع الروم إلى التماس ملك يدبّرهم، وقارعوا بين المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين فملّكوه وتزوّجته الملكة الكبرى، ونزلت لها الصغيرة عن الملك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم خرج خارجي من الروم اسمه ميناس وكثر جمعه وبلغ عشرين ألفا، وجهّز قسطنطين إليه العساكر فقتلوه وسيق رأسه إليه، وافترق أصحابه. ثم ورد على القسطنطينية سنة خمس وثلاثين مراكب للروم ووقعت منها محاورات نكرها الروم فحاربوهم، وكانوا قد فارقوا مراكبهم إلى البرّ فأحرقوها وقتلوا الباقين.
(الوحشة بين قراوش والأكراد)
كان للأكراد عدّة حصون تجاور الموصل، فمنها للحميديّة قلعة العقر وما إليها، ابن خلدون م 22 ج 4

(4/337)


وصاحبها أبو الحسن بن عكشان وللهدبانيّة قلعة إربل وأعمالها، وصاحبها أبو الحسن ابن موشك، [1] ونازعه أخوه أبو علي بن أربل فأخذها منه بإعانة ابن عكشان، وأسر أخاه أبا الحسن. وكان قراوش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل مشغولين بالعراق فنكرا ذلك لمّا بلغهما. ورجعا إلى الموصل، فطلب قراوش من الحميديّ والهدبانيّ النجدة على نصير الدولة بن مروان، فجاء الحميدي بنفسه، وبعث الهدباني أخاه.
وأصلح قراوش ونصير الدولة. ثم قبض على عكشان وصالحه على إطلاق أبي الحسن ابن موشك، وامتنع أخوه أبو علي وكان عكشان عونا عليه، فأجاب ورهن في ذلك ولده. ثم أرسل أبا علي في ذلك الأمر، وحضر بالموصل ليسلّم أربل إلى أخيه أبي الحسن، وسلّم قراوش إليه قلاعه. وخرج ابن عكشان وأبو علي ليسلّما إربل إلى أبي الحسن بن موشك، فغدرا به وقبضا على أصحابه، وهرب هو إلى الموصل وتأكّدت الوحشة بينهما وبين قراوش.
(خلع قراوش بأخيه أبي كامل ثم عوده)
ثم وقعت الفتنة بين معتمد الدولة قراوش وأخيه زعيم الدولة أبي كامل، وكان سببها أنّ قريشا ابن أخيهما بدران فتن عمّه أبا كامل، وجمع عليه الجموع وأعانه عمّه الآخر. واستمدّ قراوش بنصير الدولة بن مروان فبعث إليه بابنه سليمان. وأمدّه الحسن ابن عكشان وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلابا [2] فنهبوها وأحرقوها. ثم اقتتلوا في المحرّم سنة إحدى وأربعين يوما وثانيا، ووقفت الأكراد ناحية عن المصاف ولم يغشوا المجال. وتسلّل عن قراوش بعض جموعه من العرب إلى أخيه، وبلغه أنّ شيعة أخيه أبي كامل بالأنبار ووثبوا فيها وملكوها فضعف أمره، وأحس من نفسه الظهور عليه.
ولم يبرح فركب أخوه أبو كامل وقصد حلّته، فركب قراوش للقائه، وجاء به أبو كامل لحلّته ثم بعث به إلى الموصل ووكّل به. وملك أبو كامل الموصل واشتطّ عليه
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 549: «وكان للحميد به عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميديّ، وصاحب إربل ابو الحسن بن موسك الهذبانيّ» .
[2] معلثايا: ابن الأثير ج 9 ص 553.

(4/338)


العرب فخاف العجز والفضيحة أن يراجعوا طاعة أخيه فسبقهم إليها، وأعاده إلى ملكه وبايعه على الطاعة. ورجع قراوش إلى ملكه. وكان أبو كامل قد أحدث الفتنة بين البساسيريّ كافل الخلافة ببغداد، وملك الأمراء بها لما فعله بنو عقيل في عراق العجم من التعرّض لإقطاعه، فسار إليهم البساسيري، وجمع أبو كامل بني عقيل ولقيه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا. فلما رجع قراوش إلى ملكه نزع جماعة من أهل الأنبار إلى البساسيري شاكرين شاكين سيرة قراوش، وطلبوا أن يبعث معهم عسكرا وعاملا إلى بلدهم ففعل ذلك، وملكها من يد قراوش وأظهر فيهم العدل.
(خلع قراوش ثانية واعتقاله)
كان قراوش لمّا أطاعه أخوه أبو كامل بقي معه كالوزير يتصرّف، إلّا أن قراوش أنف من ذلك وأعمل الحيلة في التخلّص منه، فخرج من الموصل سائرا إلى بغداد، وشقّ ذلك على أخيه أبي كامل فأرسل إليه أعيان قومه ليردّوه طوعا أو كرها فلاطفوه أوّلا، وشعر منهم بالدخيلة فأجاب إلى العود وشرط سكنى دار الإمارة، فلما جاء إلى أبي كامل قام بمبرّته وإكرامه ووكّل به من يمنعه [1] التصرّف.
(وفاة أبي كامل وولاية قريش بن بدران)
لما ملك قريش بن بدران وحبس عمّه بقلعة الجراحيّة، ارتحل يطلب العراق سنة أربع وأربعين وأربعمائة فانتقض عليه أخوه المقلّد، وسار إلى نور الدولة دبيس بن مزيد فنهب قريش حلله، وعاد إلى الموصل، واختلف العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بنواحي العراق. ثم استمال قريش العرب عليه، ونهب عمّال الملك الرحيم ما كان لقريش بن المسيّب صاحب الحظيرة مخالفا عليه. وبعث قريش بعض أصحابه فلقيهم، وأوقع بهم فسار إليه قريش، ولقيه فهزمهم واتبعه إلى حلل بلاد ابن غريب ونبهبها. ودخل العراق وبعث إلى عمّال الملك الرحيم
__________
[1] مقتضى السياق: فيمنعه. ولعله تحريف من الناسخ لأنه لا معنى ليمنعه هنا.

(4/339)


بالطاعة وضمان ما كان عليه في أعماله فأجابوه إلى ذلك لشغل الملك الرحيم بخوزستان فاستقرّ أمره وقوي. (وفاة قراوش) وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة هذه توفي معتمد الدولة أبو منيع قراوش بن المقلّد بمحبسه في قلعة الجراحيّة وحمل الى الموصل ودفن بها ببلد نينوى شرقيها، وكان من رجال العرب.
(استيلاء قريش على الأنبار)
وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة زحف قريش بن بدران من الموصل ففتح مدينة الأنبار وملكها من يد عمال البساسيري. وسار البساسيري إلى الأنبار فاستعادها.
(حرب قريش بن بدران والبساسيري ثم اتفاقهما وخطبة قريش لصاحب مصر)
كان قريش بن بدران قد بعث بطاعته إلى طغرلبك وهو بالريّ، وخطب له بجميع أعماله، وقبض على الملك الرحيم. وكان قريش معه فنهب معسكره واختفى، وسمع به السلطان فأمّنه ووصل إليه فأكرمه وردّه إلى عمله. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم عند مسيره من واسط إلى بغداد، ومسير طغرلبك من حلوان. وقصد نور الدولة دبيس بن مزيد للمصاهرة بينهما. وكان سبب مفارقة البساسيري للملك الرحيم كتاب القائم له بإبعاده لاطلاعه على كتابه إلى خليفة مصر، فلما وصل قريش بن بدران إلى بغداد وعظم استيلاء السلطان طغرلبك على الدولة، بعث جيشا وزحف البساسيري للقائهم ومعه نور الدولة دبيس، فالتقوا بسنجار، فانهزم قريش وقطلمش وأصحابهما، وقتل كثير منهم وعاث أهل سنجار فيهم، وسار بهم إلى الموصل وخطب بها للمستنصر خليفة مصر، وقد كانوا بعثوا إليه بطاعتهم من قبل، فبعث إليهم بالخلع ولقريش جملتهم.

(4/340)


(استيلاء طغرلبك على الموصل وولاية أخيه نيال عليها ومعاودة قريش الطاعة)
كان السلطان طغرلبك لمّا طال مقامه ببغداد، ساء أثر عساكره في الرعايا، فبعث القائم وزيره رئيس الرؤساء أن يحضر عميد الملك المكندريّ وزير طغرلبك ويعظه في ذلك، ويهدّده برحيل القائم عن بغداد فبلغه خلال ذلك شأن الموصل، فرحل إليها وحاصر تكريت ففتحها وقبل من صاحبها نصر بن عيسى من بني عقيل ما لا بدّ له منه. ورحل عنه فمات نصر وولي بعده أبو الغنائم البحلبان [1] فأصلح حاله مع رئيس الرؤساء، ورحل السلطان من البواريج [2] وكان في انتظار أخيه ياقوتي بن تنكير [3] . ثم توجه السلطان إلى نصيبين وبعث هزارسب إلى البريّة لقتال العرب وفيهم قريش ودبيس وأصحاب حرّان والرقّة من نمير فأوقع بهم، ونال منهم وأسر جماعة فقتلهم.
وعاد إلى السلطان طغرلبك فبعث إليه قريش ودبيس بطاعتهما، وأن يتوسط لهما عند السلطان، فعفا السلطان عنهما، وقال للبساسيري: ردّهما إلى الخليفة فيرى ما عندهما. فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه إنزال بغداد ومقبل بن المقلّد وجماعة من بني عقيل، وبعث السلطان إلى قريش ودبيس هزارسب بن تنكير ليقضي ما عندهما ويحضرهما، وكان ذلك بطلبهما ثم خافا على أنفسهما، فبعث قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر ودبيس ابنه بهاء الدولة منصورا فقبلهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش من الأعمال: الموصل ونصيبين وتكريت وأوانا ونهر بيطر وهيت والأنبار وبادرون ونهر الملك. ثم قصد السلطان ديار بكر ووصل إليه أخوه إبراهيم نيال، وأرسل هزارسب إلى قريش ودبيس يحذّرهما منه. وسار لسنجار لأجل واقعته مع قريش ودبيس، فبعث العساكر إليها واستباحوها وقتل أميرها علي بن مرحا وخلق كثير من أهلها رجالا ونساء، وشفع إبراهيم نيال في الباقين فكفّ
__________
[1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 9 ص 627
[2] البوازيج: المرجع السابق وقد مرّ ذكرها من قبل.
[3] كذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 627- 628: «فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم الى الموصل، وأقطع مدينة بلد لهزارسب بن بنكير، فأجفل البلاد الى بلد ... » .

(4/341)


عنهم، وأقطع سنجار والموصل وتلك الأعمال كلها لأخيه إبراهيم نيال، وعاد إلى بغداد فدخلها في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
(مفارقة نيال الموصل وما كان لقريش فيها وفي بغداد مع البساسيري وحبسهما القائم)
وفي سنة خمسين وأربعمائة خرج إبراهيم نيال [1] من الموصل إلى بلاد الروم، فخشي طغرلبك أن يكون منتقضا، وبادر بكتابه وكتاب الخليفة إليه، فرجع وخرج الوزير الكندريّ للقائه. وخالفه البساسيري وقريش إلى الموصل فملكها وحاصر القلعة حتى استأمن أهلها على يد ابن موسك وصاحب أربد فأمّناهم وهدما القلعة. وسار السلطان طغرلبك من وقته إلى الموصل ففارقها، واتبعهما إلى نصيبين ففارقه أخوه نيال في رمضان سنة خمسين وأربعمائة. وسار السلطان طغرلبك في أثره وحاصره بهمذان، وجاء البساسيري إلى بغداد وكان هزارسب بواسط، ودبيس ببغداد قد استدعاه الخليفة للدفاع فسئم المقام، ورجع إلى بلده، وجاء البساسيري وقريش ووزير بني بويه أبو الحسن بن عبد الرحيم ونزلوا بجوانب بغداد، ونزل عميد العراق بالعسكر قبالة البساسيري ورئيس الرؤساء وزير الخليفة قبالة الآخرين. وخطب البساسيري للمستنصر صاحب مصر بجوامع بغداد وأذّن بحيّ على خير العمل. ثم استعجل رئيس الرؤساء الحرب فاستجده القوم، ثم كرّوا عليه فهزموه واقتحموا حريم الخلافة، وملكوا القصور بما فيها، وركب الخليفة فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران فاستأمن هو كذلك، وأمّنهما قريش وأعادهما. وعذله البساسيري في الانفراد بذلك دونه، وقد تعاهدا على خلاف ذلك فاستعتب له بالوزير رئيس الرؤساء، ودفعه إليه وأقام الخليفة والعميد عنه، فقتل البساسيري الوزير ابن عبد الرحيم، وبعث قريش بالخليفة القائم مع ابن عمّه مهارش بن نجلى [2] إلى حديثة عانة فأنزله بها مع أهله وحرمه وحاشيته، حتى إذا فرغ السلطان
__________
[1] اسمه نيال وقد مرّ معنا في السابق. ابن الأثير ج 9 ص 639.
[2] مهارش بن المجلي: ابن الأثير ج 9 ص 643.

(4/342)


طغرلبك من أمر أخيه نيال وقتله ورجع إلى بغداد بعث البساسيري وقريش في إعادة القائم إلى داره فامتنع، وأجفل عن بغداد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وشمل النهب مدينة بغداد وضواحيها من بني شيبان وغيرهم، وبعث السلطان طغرلبك الإمام أبا بكر محمد بن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة وبابنة أخيه زوجة الخليفة أرسلان خاتون، وأنه بعث ابن فورك لإحضارهما، وكتب قريش إلى مهارش ابن عمّه بأن يلحق به هو والخليفة في البريّة فأبى، وسار بالخليفة إلى العراق وجعل طريقه على الريّ، ومرّ ببدر بن مهلهل فخدم القائم وخرج السلطان للقاء الخليفة، وقدّم إليه الأموال والآلات، وعرضه أرباب الوظائف ولقيه بالنهروان، وجاء معه إلى قصره كما تقدّم في أخباره. وبعث السلطان خبارتكين الطّغرائيّ في العساكر لاتباع البساسيري والعرب، وجاء إلى الكوفة واستصحب سرايا ابن منيع ببني خفاجة. وسار السلطان في أثرهم وصبحت السريّة البساسيري في حلّة دبيس بن مزيد من الكوفة فنهبوها، وفرّ دبيس، وقاتل البساسيري وأصحابه فقتل في المعركة.
(وفاة قريش بن بدران وولاية ابنه مسلم)
ثم توفي قريش بن بدران سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ودفن بنصيبين، وجاء فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من دارا وجمع بني عقيل على ابنه أبي المكارم مسلم بن قريش فولّوه عليهم، واستقام أمره وأقطعه السلطان سنة ثمان وخمسين الأنبار وهيت وحريم والسّن والبواريح، ووصل إلى بغداد فركب الوزير ابن جهير في المركب للقائه. ثم سار سنة ستين وأربعمائة إلى الرّحبة فقاتل بها بني كلاب وهم في طاعة المستنصر العلويّ فهزمهم وأخذ أسلابهم، وبعث بأشلائهم وعليها سمات العلويّة فطيف بها منكّسة ببغداد.
(استيلاء مسلم بن قريش على حلب)
وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل إلى

(4/343)


مدينة حلب فحاصرها، ثم أفرج عنها فحاصرها تتش بن آلب أرسلان، وقد كان ملك الشام سنة إحدى وسبعين قبلها فأقام عليها أياما. ثم أفرج عنها وملك بزاغة والبيرة، وبعث أهل حلب الى مسلم بن قريش بأن يمكّنوه من بلدهم ورئيسها يومئذ ابن الحسين العبّاسيّ، فلما قرب منهم امتنعوا من ذلك فترصّد لهم بعض التركمان وهو صاحب حصن بنواحيها. وأقام كذلك أياما حتى صادف ابن الحسين يتصيّد في ضيعته فأسره، وبعث به إلى مسلم بن قريش فأطلقه على أن يسلّموا له البلد، فلما عاد إلى البلد تمّم له ذلك، وسلّم له البلد. فدخله سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابغا ووثّابا ابني محمد بن مرداس، وبعث ابنه إبراهيم وهو ابن عمّة السلطان إلى السلطان يخبره بملك حلب وسأل أن يقدّر عليه ضمانه فأجابه السلطان إلى ذلك، وأقطع ابنه محمدا مدينة بالس. ثم ساره مسلم إلى حرّان وأخذها من بني وثّاب النميريّين وأطاعه صاحب الرّها ونقش السكة باسمه.
(حصار مسلم بن قريش دمشق وعصيان أهل حران عليه)
وفي سنة ست وسبعين وأربعمائة سار شرف الدولة إلى دمشق فحاصرها، وصاحبها تتش فخرج في عسكره وهزم مسلم بن قريش فارتحل عنها راجعا إلى بلاده. وقد كان استمدّ أهل مصر فلم يمدّوه، وبلغه الخبر بأنّ أهل حرّان نقضوا الطاعة، وأنّ ابن عطيّة وقاضيها ابن حلية عازمون على تسليم البلد للترك، فبادر الى حرّان وصالح في طريقه ابن ملاعب صاحب حمص، وأعطاه سليمة ورفسة [1] ، وحاصر حرّان وخرّب أسوارها، واقتحمها عنوة وقتل القاضي وابنه.
__________
[1] كذا بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 10 ص 129: «في هذه السنة- 476 عصى أهل حرّان على شرف الدولة مسلم بن قريش، وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة، وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبق، أمير التركمان، وكان شرف الدولة على دمشق يحاصر تاج الدولة تتش بها، فبلغه الخبر، فعاد إلى حرّان وصالح ابن ملاعب صاحب حمص وأعطاه سلميّة ورفنيّة. وبادر بالمسير الى حرّان» .

(4/344)


(حرب ابن جهير مع مسلم بن قريش واستيلاؤه على الموصل ثم عودها إليه)
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن أحمد بن جهير من أهل الموصل، واتصل بخدمة بني المقلّد ثم استوحش من قريش بن بدران واستجار ببعض رؤساء بني عقيل فأجاروه منه. ومضى إلى حلب فاستوزره معزّ الدولة أبو ثمال بن صالح. ثم فارقه إلى نصير الدولة بن مروان بديار بكر فاستوزره. ولما عزل القائم وزيره أبا الفتح محمد بن منصور بن دارس استدعاه للوزارة، فتحيّل في المسير إلى بغداد، واتبعه ابن مروان فلم يدركه. ولما وصل إلى بغداد استوزره القائم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وطغرلبك يومئذ هو السلطان المستبد على الخلفاء. واستمرّت وزارته وتخلّلها العزل في بعض المرّات إلى أن مات القائم، وولي المقتدي، وصارت السلطنة إلى ملك شاه فعزله المقتدي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بشكوى نظام الملك إلى الخليفة به، وسؤاله عزله فعزله، وسار ابنه عميد الدولة إلى نظام الملك بأصفهان واستصلحه وشفع فيه إلى المقتدي، فأعاد ابنه عميد الدولة. ثم عزله سنة ست وسبعين وأربعمائة فبعث السلطان ملك شاه ونظام الملك الى المقتدي بتخلية سبيل بني جهير إليه فوفدوا عليه بأصفهان، ولقوا منه مبرّة وتكرمة. وعقد السلطان ملك شاه لفخر الدولة على ديار بكر، وبعث معه العساكر وأمره أن يأخذ البلاد من ابن مروان، وأن يخطب لنفسه بعد السلطان وينقش اسمه على السكة كذلك فسار لذلك، وتوسّط ديار بكر.
ثم أردفه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بالعساكر مع الأمير أرتق جد الملوك بماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان عند ما أحسّ بمسير العساكر إليه، بعث إلى شرف الدولة مسلم بن قريش يستنجده على أن يعطيه آمد من أعماله. فجاء إلى آمد وفخر الدولة بنواحيها، وقد ارتاب من اجتماع العرب على نصرة ابن مروان ففتر عزمه عن لقائهم، وسارت عساكر الترك الذين معه فصبّحوا العرب في أحيائهم فانهزموا، وغنموا أموالهم ومواشيهم، ونجا شرف الدولة إلى آمد، وحاصره فخر الدولة فيمن معه من العساكر. وبعث مسلم بن قريش إلى الأمير أرتق يقضي عنه في الخروج من آمد على مال بذله له فأغضى له وخرج إلى الرقّة. وسار أحمد بن جهير الى ميّافارقين

(4/345)


بلد ابن مروان لحصارها، ففارقه بهاء الدولة منصور بن مزيد وابنه سيف الدولة صدقة إلى العراق، وسار ابن جهير إلى خلاط وكان السلطان ملك شاه لما بلغه انحصار مسلم بن قريش بآمد، بعث عميد الدولة آقسنقر جدّ الملك العادل محمود في عساكر الترك، ولقيهم الأمير أرتق في طريقهم سائرا إلى العراق فعاد معهم وجاءوا إلى الموصل فملكوها، وسار السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش وانتهى إلى البواريح، وقد خلص مسلم بن قريش من الحصار بآمد، ووصل إلى الرّحبة، وقد ملكت عليه الموصل، وذهبت أمواله فراسل مؤيد الملك بن نظام الملك فتوسّل به فتقبل وسيلته وأذن له في الوصول الى السلطان بعد أن أعطاه من العهد ما رضي به.
وسار مسلم بن قريش من الرّحبة فأحضره مؤيّد الملك عند السلطان، وقدّم هديّة فاخرة من الخيل وغيرها، ومن جملتها فرسه الّذي نجا عليه، وكان لا يجارى فوقع من السلطان موقعا وصالحه وأقرّه على بلاده فرجع إلى الموصل وعاد السلطان إلى ما كان بسبيله.
(مقتل مسلم بن قريش وولاية ابنه إبراهيم)
قد قدّمنا ذكر قطلمش قريب السلطان طغرلبك، وكان سار إلى بلاد الروم فملكها، واستولى على قونية وأقصراي، ومات فملك مكانه ابنه سليمان، وسار إلى أنطاكية سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وأخذها من يد الروم كما نذكر في أخباره. وكان لشرف الدولة مسلم بن قريش بأنطاكيّة جزية يؤدّيها إليه صاحبها الفردروس [1] من زعماء الروم، فلمّا ملكها سليمان بن قطلمش بعث إليه يطالبه بتلك الجزية، ويخوّفه معصية السلطان فأجابه بأني على طاعة السلطان وأمري فيها غير خفي، وأمّا الجزية فكانت مضروبة على قوم كفّار يعطونها عن رءوسهم، وقد أدال الله منهم بالمسلمين ولا جزية عليهم فسار شرف الدولة، ونهب جهات انطاكية. وسار سليمان فنهب جهات حلب وشكت إليه الرعايا فردّ عليهم. ثم جمع شرف الدولة جموع العرب وجموع التركمان مع أميرهم جقّ، وسار إلى أنطاكية فسار سليمان للقائه والتقيا في أعمال أنطاكية في صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ولما التقوا مال الأمير جقّ بمن
__________
[1] اسمه الحقيقي الكسندروس.

(4/346)


معه من التركمان إلى سليمان فاختلّ مصاف مسلم بن قريش، وانهزمت العرب عنه وثبت فقتل في أربعمائة من أصحابه، وكان ملكه قد اتسع من نهر عيسى وجميع ما كان لأبيه وعمّه قراوش من البلاد. وكانت أعماله في غاية الخصب والأمن، وكان حسن السياسة كثير العدل. ولما قتل مسلم اجتمع بنو عقيل وأخرجوا أخاه إبراهيم من محبسه، بعد أن مكث فيه سنين مقيّدا حتى أفسد القيد مشيته، فأطلقوه وولّوه على أنفسهم مكان أخيه مسلم. ولما قتل مسلم سار سليمان بن قطلمش إلى أنطاكية وحاصرها شهرين فامتنعت عليه ورجع. وفي سنة تسع وسبعين وأربعمائة بعدها بعث عميد العراق عسكرا إلى الأنبار فملكها من يد بني عقيل. وفيها أقطع السلطان ملك شاه مدينة الرّحبة وأعمالها وحرّان وسروج والرقّة والخابور لمحمد بن شرف الدولة مسلم ابن قريش، وزوّجه بأخته خاتون زليخة فتسلّم جميع هذه البلاد، وامتنع محمد بن المشاطر من تسليم حرّان فأكرهه السلطان على تسليمها.
(نكبة إبراهيم وتنازع محمد وعلي ابني مسلم بعده على ملك الموصل ثم استيلاء علي عليها)
لم يزل إبراهيم بن قريش ملكا بالموصل وأميرا على قومه بني عقيل، حتى استدعاه السلطان ملك شاه سنة اثنتين وثمانين فلمّا حضر اعتقله، وبعث فخر الدولة ابن جهير على البلاد فملك الموصل وغيرها، وأقطع السلطان عمّته صفيّة مدينة بلد، وكانت زوجا لمسلم بن قريش ولها منه ابنه عليّ، وتزوّجت بعده بأخيه إبراهيم. فلما مات ملك شاه ارتحلت صفيّة الى الموصل ومعها ابنها عليّ بن مسلم، وجاءه أخوه محمد بن مسلم وتنازعا في ملك الموصل وانقسمت العرب عليهما. واقتتلوا على الموصل فانهزم محمد وملك عليّ ودخل الموصل وانتزعها من يد ابن جهير.
(عود إبراهيم الى ملك الموصل ومقتله)
لما مات ملك شاه واستبدّت تركمان خاتون بعده بالأمور، وأطلقت إبراهيم من

(4/347)


الاعتقال، فبادر الى الموصل، فلما صار بها سمع أنّ عليّ ابن أخيه مسلم قد ملكها ومعه أمّه صفيّة عمّة ملك شاه فبعث إليها، وتلطّف بها فدفعت إليه ملك الموصل فدخلها وكان تتش صاحب الشام أخو ملك شاه قد طمع في ملك العراق. واجتمع إليه الأمراء بالشام وجاء آق سنقر صاحب حلب، وسار إلى نصيبين فملكها وبعث إلى إبراهيم أن يخطب له ويسهّل طريقه إلى بغداد، فامتنع إبراهيم من ذلك فسار تتش ومعه آق سنقر وجموع الترك. وخرج إبراهيم للقائه في ثلاثين ألفا. والتقى الفريقان بالمغيم فانهزم إبراهيم، وقتل وغنم الترك حللهم وقتل كثير من نساء العرب أنفسهنّ خوفا من الفضيحة، واستولى تتش على الموصل.
ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم استيلاء كربوقا وانتزاعه إياها من يده وانقراض أمر بني المسيب من الموصل
ولما قتل إبراهيم وملك تتش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش فدخلها مع أمّه صفيّة عند ملك شاه، واستقرّت هي وأعمالها في ولايته. وسار تتش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه، وتقاتلا فانهزم تتش، وقام بماكنه ابنه رضوان، وملك حلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حرّان فملكها، وكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه ثوران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على عليّ بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقا، وعاد إلى حصار الموصل. واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه منجدا له. وبعث كربوقا إليه عسكرا مع أخيه التوتناش فردّه مهزوما إلى الجزيرة فتمسّك بطاعة كربوقا، وجاء مددا له على حصار الموصل. واشتدّ الحصار بعليّ بن مسلم فخرج من الموصل، ولحق بصدقة بن مزيد بالحلّة، وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيّب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغزّ من السلجوقية أمراؤهم والبقاء للَّه وحده.

(4/348)


(الخبر عن دولة بني صالح بن مرداس بحلب وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان ابتداء أمر صالح بن مرداس ملك الرّحبة، وهو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومجالاتهم بضواحي حلب. وقال ابن حزم أنه من ولد عمرو بن كلاب، وكانت مدينة الرّحبة لأبي علي بن ثمال الخفاجيّ، فقتله عيسى بن خلاط العقيلي وملكها من يده، وبقيت له مدّة. ثم أخذها منه بدران بن المقلّد. وزحف لؤلؤ الساري نائب الحاكم بدمشق فملك الرقّة، ثم الرّحبة من يد بدران، وعاد إلى دمشق. وكان رئيس الرّحبة ابن مجلكان فاستبدّ بها، وبعث إلى صالح بن مرداس يستعين به على أمره فأقام عنده مدّة. ثم فسد ما بينهما، وقاتله صالح. ثم اصطلحا، وزوّجه ابن مجلكان ابنته ودخل البلد. ثم انتقل ابن مجلكان إلى عانة بأهله وماله بعد أن أطاعوه وأخذ رهنهم. ثم نقضوا وأخذوا ماله وسار إليهم ابن مجلكان مع صالح فوضع عليه صالح من قتله، وسار إلى الرّحبة فملكها واستولى على أموال ابن مجلكان وأقام دعوة العلويّين بمصر.
(ابتداء أمر صالح في ملك حلب)
قد قدّمنا أن لؤلؤا مولى أبي المعالي بن سيف الدولة استبدّ بحلب على ابنه أبي الفضائل، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العبّاسية وخطب للحاكم العلويّ بمصر. ثم فسد حاله معه وطمع صالح بن مرداس في ملك حلب. وذكرنا هنالك ما كان بين صالح ولؤلؤ من الحروب، وأنه كان له مولى اسمه فتح وضعه في قلعة حلب حافظا لها، فاستوحش وانتقض على لؤلؤ بممالأة صالح بن مرداس، وبايع للحاكم على أن يقطعه صيدا وبيروت، وسوّغه ما كان في حلب من الأموال. ولحق لؤلؤ بأنطاكيّة وأقام عند الروم. وخرج فتح بحرم لؤلؤ وأمّه وتركهنّ في منبج. وترك حلب وقلعتها إلى نوّاب الحاكم وتداولت في أيديهم حتى وليها بعض بني حمدان من قبل الحاكم يعرف بعزيز الملك، اصطنعه الحاكم وولّاه حلب ثم عصى على ابنه الظاهر،

(4/349)


وكانت عمّته بنت الملك مدبّرة لدولته، فوضعت على عزيز الملك من قتله، وولّوا على حلب عبد الله بن عليّ بن جعفر الكتامي، ويعرف بابن شعبان الكتامي وعلى القلعة صفيّ الدولة موصوفا الخادم.
(استيلاء صالح بن مرداس على حلب)
ولما ضعف أمر العبيديّين بمصر من بعد المائة الرابعة وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة، تطاولت العرب إلى الاستيلاء على البلاد فاستولى بنو عقيل على الجزيرة، واجتمع عرب الشام فتقاسموا البلاد على أن يكون لحسّان بن مفرّج بن دغفل وقومه طيِّئ من الرملة إلى مصر، ولصالح بن مرداس وقومه بني كلاب من حلب إلى عانة ولحسّان بن عليان وقومه [1] دمشق وأعمالها وكان العامل على هذه البلاد من قبل الظاهر خليفة مصر أنوشتكين إلى عسقلان، وملكها ونهبها حسّان.
وسار صالح بن مرداس إلى حلب فملكها من يد ابن شعبان، وسلّم له أهل البلد ودخلها. وصعد ابن شعبان إلى القلعة فحصرهم صالح بالقلعة حتى جهدهم الحصار، واستأمنوا وملك القلعة وذلك سنة أربع وعشرين وأربعمائة، واتسع ملكه ما بين بعلبكّ وعانة.
(مقتل صالح وولاية ابنه أبي كامل)
ولم يزل صالح مالكا لحلب إلى سنة عشرين وأربعمائة فجهّز الظاهر العساكر من مصر إلى الشام لقتال صالح وحسّان، وعليهم أنوشتكين الدريديّ فسار لذلك، ولقيهما
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 230: «وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان وتحالفوا واتفقوا على ان يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة الى مصر لحسّان ودمشق لسنان، فسار حسان الى الرملة فحصرها وبها انوشتكين، فسار عنها الى عسقلان، واستولى عليها حسّان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة اربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة قصره» .

(4/350)


على الأردنّ بطبريّة، وقاتلهما فانهزما، وقتل صالح وولده الأصغر، ونجا ولده الأكبر أبو كامل نصر بن صالح إلى حلب، وكان يلقّب شبل الدولة. ولما وقعت هذه الواقعة طمع الروم أهل أنطاكية في حلب فزحفوا إليها في عدد كثير.
(مسير الروم الى حلب وهزيمتهم)
ثم سار ملك الروم إلى حلب في ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزل قريبا من حلب ومعه ابن الدوقس من أكابر الروم، وكان منافرا له، فخالفه وفارقه في عشرة آلاف مقاتل، ونمي إليه أنّه يروم الفتك به، وأنه دسّ عليه فكرّ راجعا، وقبض على ابن الدوقس واضطرب الروم واتبعهم العرب وأهل السواد الأرمن، ونهبوا أثقال الملك أربعمائة حمل، وهلك أكثر عسكره عطشا. ثم أشرف بعض العرب على معسكره فهربوا وتركوا سوادهم وأموالهم وأكرم الله المسلمين بالفتح.
(مقتل نصر بن صالح واستيلاء الوزيري على حلب)
وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف الوزيري [1] من مصرفي العساكر الى حلب وخليفتهم يومئذ المستنصر، وبرز إليه نصر فالتقوا عند حماة، وانهزم نصر وقتل وملك الوزيري حلّب في رمضان من هذه السنة.
(مهلك الوزيري وولاية ثمال بن صالح)
ولما ملك الوزيري حلب واستولى على الشام عظم أمره، واستكثر من الأتراك في الجند، ونمي عنه إلى المستنصر بمصر ووزيره الجرجاي أنه يروم الخلاف فدس الجرجاي [2] إلى جانب الوزيري والجند بدمشق في الثورة به، وكشف لهم عن سوء
__________
[1] الدزبري: ابن الأثير ج 9 ص 500.
[2] ابو القاسم الجرجرائي: ابن الأثير ج 9 ص 500

(4/351)


رأي المستنصر فثاروا به، وعجز عن مدافعتهم فاحتمل أثقاله، وسار إلى حلب، ثم إلى حماة فمنع من دخولها فكاتب صاحب كفر طاب فسار إليه وتبعه إلى حلب ودخلها، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ولما توفي فسد أمر الشام وانحل النظام وتزايد طمع العرب. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بالرحبة منذ مهلك أبيه وأخيه فقصد حلب، وحاصرها فملك المدينة وامتنع أصحاب الوزيري بالقلعة.
واستمدوا أهل مصر وشغل الوالي بدمشق بعد الوزيري، وهو الحسين بن حمدان الحرب حسان بن مفرج صاحب فلسطين، فاستأمن أصحاب الوزيري إلى ثمال بن صالح بعد حصاره إياها حولا فأمنهم، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فلم يزل مملكا عليها إلى أن زحفت إليه العساكر من مصر مع أبي عبيداض بن ناصر الدولة بن حمدان، وبلغت جموعهم خمسة آلاف مقاتل فخرج إليهم ثمال، وقاتلهم وأحسن دفاعهم، وأصابهم سيل كاد يذهب بهم فأفرجوا عن حلب، وعادوا إلى مصر. ثم عادت العساكر ثانية من مصر سنة إحدى وأربعين مع رفق الخادم فقاتلهم ثمال وهزمهم، وأسر الخادم رفقا ومات عنده.
(رغبة ثمال عن حلب ورجوعها لصاحب مصر وولاية ابن ملهم عليها)
لم تزل العساكر تتردد من مصر إلى حلب، وتضيق عليها حتى سئم ثمال بن صالح إمارتها، وعجز عن القيام بها، فبعث إلى المستنصر بمصر وصالحه على أن ينزل له عن حلب، فبعث عليها مكين الدولة أبا عليّ الحسن بن ملهم، فتسلمها آخر سنة تسع وأربعين. وسار ثمال إلى مصر ولحق أخوه عطية بن صالح بالرحبة، واستولى ابن ملهم عليها.
(ثورة أهل حلب بابن ملهم وولاية محمود بن نصر بن صالح)
وأقام ابن ملهم بحلب سنتين أو نحوها، بلغه عن أهل حلب أنهم كاتبوا محمود بن نصر

(4/352)


بن صالح فقبض عليه، فثار به أهل حلب وحصروه بالقلعة، وبعثوا إلى محمود فجاء منتصف اثنتين وخمسين وأربعمائة وحاصره معهم بالقلعة. واجتمعت معه جموع العرب واستمد ابن ملهم المستنصر، فكتب إلى أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان أن يسير إليه في العساكر، فسار إلى حلب وأجفل محمود عنها، ونزل ابن ملهم إلى البلد ودخلها ناصر الدولة ونهبتها عساكره، وابن ملهم. ثم تواقع محمود وناصر الدولة بظاهر حلب فانهزم ناصر الدولة بن حمدان وأسر فرجع به محمود إلى البلد وملكها وملك القلعة في شعبان من هذه السنة، وأطلق أحمد بن حمدان وابن ملهم فعاد إلى مصر.
(رجوع ثمال بن صالح الى ملك حلب وفرار محمود بن نصر عنها)
لما هزم محمود بن حمدان وأخذ القلعة من يد ابن ملهم. وكان معز الدولة ثمال بن صالح بمصر منذ سلمها للمستنصر سنة تسع وأربعين فسرحه المستنصر الآن، وأذن له في ملك حلب من ابن أخيه، فحاصره في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة واستنجد محمود بخاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران، فأمده بنفسه، وجاء لنصره فأفرج ثمال عن حلب وسار إلى البرية في محرم سنة ثلاث وخمسين. ثم عاد منيع إلى حران وملك ثمال حلب في ربيع سنة ثلاث وخمسين وغزا بلاد الروم فظفر وغنم.
(وفاة ثمال وولاية أخيه عطية)
ثم توفي ثمال بحلب قريبا من استيلائه، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة وعهد بحلب لأخيه عطية بن صالح وكان بالرحبة من لدن مسير ثمال إلى مصر فسار وملكها.
ابن خلدون م 23 ج 4

(4/353)


(عود محمود الى حلب وملكه إياها من يد عطية)
ولما ملك عطية حلب وكان ذلك عند استيلاء السلجوقية على ممالك العراق والشام وافتراقهم على العمالات. ونزل به قوم منهم فاستخدمهم وقوي بهم. ثم خشي أصحابه غائلتهم فأشاروا بقتلهم، فسلط أهل البلد عليهم فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا محمود بن نصر بحران فاستنهضوه لملك حلب. وجاءهم فحاصرها وملكها في رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة واستقام أمره. ولحق عطية عمه بالرقة، فملكها إلى أن أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فسار إلى بلد الروم سنة خمس وستين وأربعمائة واستقام أمر محمود ابن نصر في حلب. وبعث الترك الذين جاءوا في خدمته مع أميرهم ابن خان سنة ستين وأربعمائة إلى بعض قلاع الروم فحاصروها وملكها. وسار محمود إلى طرابلس فحاصرها وصالحوه على مال فأفرج عنهم. ثم سار إليه السلطان البارسلان بعد فراغه من حصار ديار بكر وآمد والرها، ولم يظفر بشيء منها كما نذكر في أخبارهم. وجاء إلى حلب وحاصرها وبها محمود بن نصر. وجاءت رسالة الخليفة القائم بالرجوع إلى الدعوة العباسية فأعادها وسأل من الرسول أزهر أبو الفراس طراد الزيني أن يعفيه السلطان من الحصور عنده فأبى السلطان من ذلك، واشتد الحصار على محمود وأضربهم حجارة المجانيق، فخرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب متطارحين على السلطان، فخلع على محمود في حلب آخر ثمان وستين وأربعمائة وعهد لابنه شبيب إلى الترك الذين ملكوا أباه وهم بالحاضر، وقد بلغه عنهم العيث والفساد، فلما دنا من حللهم تلقوه فلم يجبهم، وقاتلهم وأصيب بسهم في تلك الجولة ومات.
(مهلك نصر بن محمود وولاية أخيه سابق)
ولما هلك نصر ملك أخوه سابق. قال ابن الأثير: وهو الّذي أوصى له أبوه بالملك، فلم ينفذ عهده لصغره، فلما ولي استدعى أحمد شاه مقدم التركمان الذين قتلوا أباه فخلع عليه، وأحسن إليه وبقي فيها ملكا.

(4/354)


(استيلاء مسلم بن قريش على حلب من يد سابق وانقراض دولة بني صالح بن مرداس)
ولما كانت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة زحف تتش بعد أن ملك دمشق إلى حلب فحاصرها أياما ووجل أهل حلب من ولاية الترك فبعثوا الى مسلم بن قريش ليملكوه ثم بدا لهم في أمره ورجع من طريقه، وكان مقدمهم يعرف بابن الحسين العباسي وخرج ولده متصيدا في ضيعة له فأرسل له بعض أهل القلاع بنواحي حلب من التركمان، وأسره وأرسله إلى مسلم بن قريش فعاهده على تمكينه من البلد، وعاد إلى أبيه فسلم البلد إلى مسلم بن قريش وملكها سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ولحق سابق بن محمود وأخوه وثاب إلى القلعة واستنزلهما بعد أيام على الأمان واستولى على نواحيها. وبعث إلى السلطان ملك شاه بالفتح، وأن يضمن البلد على العادة فأجابه إلى ذلك، وصارت في ولاية مسلم بن قريش إلى أن ملكها السلطان من بعده.
(استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية آق سنقر عليها)
قد تقدم لنا أن مسلم بن قريش قتله سليمان بن قطلمش كما مر في أخبار مسلم، فلما قتله أرسل إليه ابن الحسين العباسي مقدم أهل حلب يطلب تسليمها إليه. وكان تتش أيضا قد حاصرها وضيق عليها يطلب ملكها فوعد كلا منهما. ونمي الخبر إلى تتش فسار إلى حلب، وجاءه سليمان بن قطلمش فاقتتلا، وقتل سليمان سنة تسع وسبعين وأربعمائة وبعث برأسه إلى ابن الحسين، فكتب أنه يشاور السلطان ملك شاه في ذلك، فغضب تتش وحاصره، وداخله بعض أهل البلد فغدر به وأدخله ليلا فملك تتش مدينة حلب، وشفع الأمير أرتق بن أكسك من أمراء تتش في ابن الحثيثي وامتنع بالقلعة سالم بن مالك بن بدران ابن المقلد فحاصره تتش وكان ابن الحثيثي قد كاتب السلطان ملك شاه واستدعاه لملك حلب عند ما خاف من أخيه تاج الدولة تتش، فسار إليها من أصفهان سنة تسع وأربعين وأربعمائة ومر بالموصل. ثم تسلم حران

(4/355)


من يد ابن الشاطر، وأقطعها لمحمد بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها من يد الروم.
وكانوا اشتروها من ابن عطية، وسار إلى قلعة جعفر [1] فملكها وقتل من بها من بني قشير وأخذ صاحبها جعفرا شيخا أعمى وولدين له، وكانوا يفسدون السابلة ويرجعون إليها. ثم سار إلى منبج فملكها وسار إلى حلب وأخوه تتش يحاصر القلعة سبعة عشر يوما من حصارها، وعاد إلى دمشق وملك السلطان مدينة حلب وقاتل القلعة ساعة من نهار رشقا بالسهام، فأذعن سالم بن مالك بن بدران بالطاعة والنزول عنها على أن يقطعه قلعة جعفر، فأقطعها له السلطان فلم تزل بيده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد [2] . وبعث نصر بن علي بن منقذ الكتاني صاحب شيزر بالطاعة، وولى على حلب قسيم الدولة آق سنقر جد العادل نور الدين الشهيد، وارتحل عائدا إلى العراق. وسأله أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فاستصلحه، وأرسله إلى ديار بكر فنزلها إلى أن توفي على حال شديدة من الفقر والاملاق. والله مالك الأمور لا رب غيره.
(الخبر عن دولة بني مزيد ملوك الحلة وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
كان بنو مزيد هؤلاء من بني أسد، وكانت محلاتهم من بغداد إلى البصرة إلى نجد وهي معروفة. وكانت لهم النعمانية، وكانت بنو دبيس من عشائرهم في نواحي خوزستان في جزائر معروفة بهم. وكان كبير بني مزيد أبو الحسن علي بن مزيد وأخوه أبو الغنائم.
وسار أبو الغنائم إلى بني دبيس فأقام عندهم، وفر فلم يدركوه، ولحق بناحية أبي الحسن فسار إليهم أبو الحسن، واستمد عميد الجيوش فأمده بعسكر من الديلم في البحر، ولقيهم فانهزم أبو الحسن وقتل أبو الغنائم وذلك سنة إحدى وأربعمائة. فلما كانت سنة خمس وأربعمائة جمع أبو الحسن وسار إليهم لإدراك الثأر بأخيه، وجمع بني دبيس وهم مضر وحسان ونبهان وطراد فاجتمع إليهم العرب ومن في نواحيهم من
__________
[1] قلعة جعبر: ابن الأثير ج 9 ص 149، قلعه على الفرات بين بالس والرقة قرب صفين (معجم البلدان) .
[2] هو نور الدين محمود بن زنكي.

(4/356)


الأكراد الشاهجان والحادانية، وتزاحفوا ثم انهزم بنو دبيس، وقتل حسان ونبهان واستولى أبو الحسن بن مزيد على أموالهم وحللهم. ولحق الفل منهم بالجزيرة وقلده فخر الدولة أمر الجزيرة الدبيسية واستثنى منها الطيب وقرقوب. وأقام أبو الحسن هناك. ثم جمع مضر بن دبيس جمعا وكبسه فنجا في فل يسير ولحق ببلد النيل منهزما، واستولى مضر على أمواله وعلى الجزيرة وملكها.
(وفاة علي بن مزيد وولاية ابنه دبيس)
ثم توفي أبو الحسن بن مزيد سنة ثمان وأربعمائة وقام بالأمر مكانه ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وقد كان أبوه عهد لأخيه في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته. فلما ولي بعد أبيه نزع أخوه المقلد إلى بني عقيل فأقام بينهم، وكانت بسبب ذلك بين دبيس وقراوش أميري بني عقيل فتن وحروب. وجمع دبيس عليه بني خفاجة، وملك الأنبار من يده سنة سبع عشرة وأربعمائة ثم انتقض خفاجة على دبيس وأميرهم منيع بن حسان وسار إلى الجامعين فنهبها وملك الكوفة. وصار أمر دبيس وقراوش إلى الوفاق واستوى الأمر على ذلك ومنعت خفاجة بني عقيل من سقي الفرات.
(استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية)
كانت الجزيرة الدبيسية قد استقرت لطراد بن دبيس، وكان منصور بن الحسين من شعوب بني أسد تغلب عليها، وأخرج طراد بن دبيس عنها سنة ثمان عشرة وأربعمائة ثم مات طراد فسار ابنه أبو الحسن إلى جلال الدولة ببغداد، وكان منصور بن الحسين قد خطب للملك أبي كليجار، وقطع الخطبة لجلال الدولة فسأل منه علي بن طراد أن يبعث معه عسكرا ليخرج منصورا من الجزيرة، فأنفذ معه العسكر، وسار إلى واسط. ثم أغذ السير وكان منصور جمع للقائه، وأعانه بعض أمراء الترك، وهو أبو صالح كركبر. وكان قد هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأعان منصورا على

(4/357)


شأنه، ولقوا علي بن طراد فهزموه، وقتلوه وجماعة من الترك الذين بعثهم جلال الدولة لنصرته. واستقر ملك الجزيرة الدبيسية لمنصور بن الحسين.
(فتنة دبيس مع جلال الدولة وحروبه مع قومه)
كان المقلد أخو دبيس بن مزيد قد لحق ببني عقيل كما ذكرناه، وكانت بينه وبين نور الدولة دبيس عداوة، فسار إلى منيع بن حسان أمير خفاجة، واجتمعا على قتال دبيس على خلافة جلال الدين، وخطب لأبي كليجار واستقدمه للعراق فجاء إلى واسط، وبها ابن جلال الدولة ففارقها وقصد النعمانية ففجر عليه البثوق من بلده.
وأرسل أبو كليجار إلى قراوش صاحب الموصل، والأثير عنبر الخادم أن ينحدروا إلى العراق فانحدروا إلى الكحيل. ومات بها الأثير عنبر وجمع جلال الدولة عساكره واستنجد أبا الشوك صاحب بلاد الأكراد، فأنجده وانحدر إلى واسط، وأقام بها وتتابعت الأمطار والأوحال فسار جلال الدولة إلى الأهواز بلد أبي كليجار لينهبها.
وبعث أبو كليجار إليه بأن عساكر محمود بن سبكتكين قد قصدت العراق ليردّه عن الأهواز فلم يلتفت إلى ذلك، وسار ونهب الأهواز، وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فسار إلى مدافعته، وتخلف عنه دبيس خوفا على حلله من خفاجة. والتقى أبو كليجار وجلال الدولة فانهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه كثير. واستولى جلال الدولة على واسط وأعاد إليها ابنه عبد العزيز كما كان. ولما فارق دبيس أبا كليجار وجد جماعة من عشيرته قد خالفوا عليه، وعاثوا في نواحي الجامعين فقاتلهم وظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم: أبو عبد الله الحسين ابن عمه أبي الغنائم، وشبيب وسرايا ووهب بنو.
عمه حماد بن مزيد وحبسهم بالجوسق. ثم جمع المقلد أخوه جموعا من العرب واستمدّ جلال الدولة فأمدّه بعسكر، وقصدوا دبيس فانهزم وأسر جماعة من أصحابه، ونزل المعتقلون بالجوسق فنهبوا حلله. ولحق دبيس بالشريد منهزما فسار به إلى مجد الدولة، وضمن عنه المال المقرّر في ولايته فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه، واستقام حاله. وذهب المقلّد مع جماعة من خفاجة فنهبوا مطيرآباد والنيل أقبح نهب، وعاثوا في منازلها، ولم تكن الحلّة بنيت يومئذ. وعبر المقلّد دجلة إلى أبي الشوك فأقام عنده حتى أصلح أمره
.

(4/358)


(الفتنة بين دبيس وأخيه ثابت)
كان أبو قوام ثابت بن علي بن مزيد متصلا بالبساسيري سنة أربع وعشرين وأربعمائة وتزحزح لهم دبيس عن البلاد وملك ثابت النيل وأعمال دبيس. وبعث دبيس طائفة من أصحابه لقتال ثابت فانهزموا فسار دبيس عن البلاد، وتركها لثابت حتى رجع البساسيري إلى بغداد فسار في جموع بني أسد وخفاجة، ومعه أبو كامل منصور بن قراد وتركوا حللهم بين حصني وجرى. وساروا جريدة ولقيهم ثابت عند جرجرا، فاقتتلوا مليا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتا بعض تلك الأعمال، وتحالفوا على ذلك وافترقوا وجاء البساسيري منجدا لثابت فبلغه الخبر بالنعمانيّة فرجع.
(الفتنة بين دبيس وعسكر واسط)
كان الملك الرحيم قد أقطع دبيس بن مزيد سنة إحدى وأربعين واربعمائة حماية نهر الصلة ونهر الفضل، وهي من إقطاع جند واسط فسخطوا ذلك، واجتمعوا وبعثوا إليه بالتهديد فراجعهم إلى حكم الملك الرحيم، فغضبوا وزحفوا إليه فلقيهم وأكمن لهم فهزمهم وأثخن فيهم، وغنم أموالهم ودوابهم ورجعوا إلى واسط يستنجدون جند بغداد، ويرغبون من البساسيري في المدافعة ويعطه [1] نهر الصلة ونهر الفضل.
(إيقاع دبيس بخفاجه)
وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة قصد بنو خفاجة الجامعين من أعمال دبيس فعاثوا فيها من غربي الفرات، وكان دبيس في شرقيه فاستنجد البساسيري فجاء بنفسه، وعبر
__________
[1] الأصح ان يقول ويعطونه لأنه لا وجوب لحذف النون، أو ان يقول: وان يعطوه ...

(4/359)


دبيس الفرات معه وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين فسلكوا البرية، ورجع عنهم. ثم عادوا للفساد فعاد إليهم فدخلوا البرية فاتبعهم إلى حصن خفان فأوقع بهم، وأثخن فيهم وحاصر خفان ثم اقتحمه، وأخرجهم ورجع إلى بغداد ومعه أسارى من خفاجة فصلبوا. ثم سار إلى جرى [1] فحاصرها ووضع عليهم سبعة [2] آلاف دينار فالتزموها وأمنهم.
(حرب دبيس مع الغز وخطبته للعلوي صاحب مصر ومعاودته الطاعة)
ولما انقرض أمر بني بويه وغلب عليهم الغز، وصارت الدولة للسلطان طغرلبك سلطان السلجوقية، وجاء السلطان طغرلبك إلى بغداد، واستولى على الخليفة، وخطب له على منابر الإسلام، وقبض على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه حسما ذلك كله مذكور في أخبارهم. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم قبل مسيره من واسط إلى بغداد للقاء طغرلبك مجمعا على الخلاف على الغز مع قطلمش ابن عم طغرلبك جدّ الملوك ببلاد الروم أولاد قليج أرسلان [3] ، ومعه متمم الدولة أبو الفتح عمر، وسار معهم قريش بن بدران صاحب الموصل فلقيهم دبيس والبساسيري على سنجار، وهزمهم ورجع قريش إلى دبيس جريحا فخلع عليه، وسار معهم وذهب بهم إلى الموصل. وخرج دبيس وقريش والبساسيري إلى البرية، ومعهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة. واتبعهم عساكر السلطان مع هزارسب من أمراء السلجوقية فأوقع بهم، ورجع بالغنائم والأسرى. وأرسل دبيس وقريش إلى هزارسب أن يستعطف بهم السلطان ففعل. وبعث دبيس ابنه بهاء الدولة مع وافد قريش فأكرمهما السلطان طغرلبك. ثم انتقض عليه أخوه نيال بهمذان فسار لحربه. وترك بغداد وخالفه البساسيري إليها وبعث الخليفة القائم عن دبيس ليقيم عنده ببغداد، فاعتذر
__________
[1] حربي: ابن الأثير ج 9 ص 600- بليدة في أقصى دجيل بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة (معجم البلدان) .
[2] تسعة آلاف دينار: المرجع السابق.
[3] قلج ارسلان: ابن الأثير ج 9 ص 625.

(4/360)


بأن العرب لا تقيم، وطلب الخليفة في الخروج إليه حتى يجتمع عليه هو وهزارسب، ويدافعوا عن بغداد. وجاء البساسيري ودخل بغداد ومعه قريش بن بدران فملكها سنة خمسين وأربعمائة وخطب فيها للعلويّين واستذم الخليفة القائم بقريش بن بدران فأذمه، وبعثه إلى عانة عند مهاوش العقيلي من بني عمه وفعل البساسيري وجموعه في بغداد الأفاعيل، وأطاعه دبيس بن علي بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين صاحب الجزيرة الدبيسية، وكان ولي بعد أبيه وقد تقدم ذكر هذا كله. ثم رجع السلطان من همذان بعد قتل أخيه، وقضى أشغاله فأجفل البساسيري وأصحابه من بغداد، ولحق ببلاد دبيس وفارقه صدقة بن منصور إلى هزارسب بواسط. وأعاد طغرلبك الخليفة إلى داره، وسار السلطان في اتباعه وفي مقدمته خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس، ومعه سرايا بن منيع الخفاجي فصبحت المقدمة دبيس بن مزيد والبساسيري، فهرب دبيس ووقف البساسيري فقتل وذلك سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ورجع السلطان إلى بغداد ثم انحدر إلى واسط. وجاءه هزارسب بن تنكين [1] فأصلح عنده حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، وحضرا عند السلطان وجاءا في ركابه إلى بغداد فخلع عليهما وردهما إلى عمالتهما.
(وفاة دبيس وامارة ابنه منصور)
ولم يزل دبيس على أعماله إلى أن توفي سنة اربع وسبعين وأربعمائة لسبع وخمسين سنة من إمارته، وكان ممدوحا. ورثاه الشعراء بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته. ولما مات ولي في أعماله وعلى بني أسد ابنه أبو كامل منصور، ولقب بهاء الدولة. وسار إلى السلطان ملك شاه فأقره على أعماله وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة فأحسن السيرة.
(وفاة منصور بن دبيس وولاية ابنه صدقة)
ثم توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل
__________
[1] هزارسب بن بنكير: ابن الأثير ج 9 ص 644 وقد مر ذكره من قبل.

(4/361)


وغيرهما في ربيع الأول سنة تسع وسبعين، فأرسل الخليفة نقيب العلويين أبا الغنائم إلى ابنه سيف الدولة صدقة يعزيه. وسار صدقة إلى السلطان ملك شاه فخلع عليه وولاه مكان أبيه.
(انتقاض صدقة بن منصور بن دبيس على السلطان بركيارق)
وكان السلطان بركيارق قد خرج عليه أخوه محمود بن ملك شاه ينازعه في الملك، وكانت بينهما عدة وقعات، ولم يزل صدقة بن منصور على طاعته ويحضر حروبه تارة بنفسه، وتارة يبعث إليه العساكر مع ابنه إلى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. فبعث إليه وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن الدهستاني يطلبه فبما تخلف عنده من المال، وهو ألف ألف دينار، ويتهدده عليه فقطع صدقة الخطبة لبركيارق، وعاد إلى بغداد في هذه السنة منهزما أمام أخويه محمد وسنجر، فبعث الأمير أياز من أكبر أصحابه، وطرد نائب السلطان عن الكوفة واستضافها إليه.
(استيلاء صدقة على واسط وهيت)
كان السلطان محمد في سنة ست وتسعين وأربعمائة مستوليا على بغداد والخطبة بها وشحنته فيها أبو الغازي بن أرتق، وصدقة بن دبيس على طاعته ومظاهرته. ثم ظهر في هذه السنة بركيارق على محمد، وحاصره بأصفهان فامتنع عليه فأفرج عنه إلى همذان، وبعث كمستكين القصيري شحنة إلى بغداد فاستدعى أبو الغازي أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستعين به في مدافعة كمستكين. وجاء كمستكين إلى بغداد وخطب بها لبركيارق وخرج أبو الغازي وسقمان إلى دجيل فأقاما به بجرى [1] وجاء صدقة بن مزيد إلى صرصر بعد أن جاءه رسول الخليفة في طاعة أبي الغازي
__________
[1] حربي وقد مر ذكرها من قبل.

(4/362)


وسقمان فعادا وعاثت عساكرهما في نواحي دجيل، وتقدما إلى بغداد وبعث معهما صدقة ابنه دبيسا فخيموا بالرملة، وقاتلهم العامة وكثر الهرج، وبعث الخليفة إلى صدقة يعظم عليه الأمر فأشار بإخراج كمستكين القيصري من بغداد لتصلح الأحوال، فأخرج إلى النهروان في ربيع سنة ست وتسعين وأربعمائة وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ولحق القيصري بواسط، وخطب بها لمحمد فسار إليه صدقة وأخرجه وجاء أبو الغازي واتبعوا القيصري واستأمن إلى صدقة فأكرمه وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وأبي الغازي. وولى كل واحد منهما ولده على واسط، وذهب أبو الغازي إلى بغداد وعاد صدقة إلى الحلة، وأرسل ابنه منصورا مع أبا الغازي إلى المستنصر ليستظهر رضاه فرضي عنه. ثم استولى صدقة على هيت، وكان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة توران بن تهيبة [1] وكان مقيما في جماعة من بني عقيل عند صدقة. ثم تشاجرا ومال بنو عقيل إلى صدقة، وحج عقب ذلك، ورجع فوكل به صدقة. وبعث ابنه دبيس ليتسلم هيت فمنعه نائب توران بها، وهو محمد بن رافع بن رفاع بن منيعة [2] بن مالك بن المقلد. فلما أخذ صدقة واسطا سار إلى هيت وبها منصور بن كثير نائبا عن عمه توران، فلقي صدقة وحاربه. ثم انتقض جماعة من أهل البلد وفتحوا لصدقة فملكها، وخلع على منصور وأصحابه وعاد إلى الحلة. واستخلف على هيت ابن عمه ثابت بن كامل. ثم اصطلح السلطان محمد وبركيارق وسار صدقة في شوال إلى واسط فملكها وأخرج الترك الذين كانوا بها وأحضر مهذب الدولة بن أبي الخير فضمنه البلد لثلاثة أشهر بقيت من السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة.
(استيلاء صدقة بن مزيد على البصرة)
كانت البصرة منذ سنين في ولاية إسماعيل بن أرسلان جق من السلجوقية، أقام فيها عشر سنين وعظم تمكنه للخلاف الواقع بين بركيارق ومحمد. وكان يظهر طاعة صدقة
__________
[1] ثروان بن وهب بن وهيبة: ابن الأثير ج 10 ص 358.
[2] بن ضبيعة: المرجع السابق ص 359.

(4/363)


وموافقته. فلما صفا الأمر لمحمد رغب إليه صدقة في إبقائه فابقاه. وبعث السلطان محمد عاملا على خاصة البصرة فمنعه إسماعيل، فأمر السلطان صدقة بأخذ البصرة منه. وأظهر منكبرس الخلاف فشغلوا عن البصرة، وبعث إليه صدقة بتسليم الشرطة إلى مهذب الدولة بن أبي الخير فمنع من ذلك، فسار صدقة إليه، وحصن إسماعيل القلاع التي استجدها حوالي البصرة، واعتقل وجوه البلد من العباسيين والعلويين، والقاضي والمدرس والأعيان، وحاصرها صدقة وخرج إسماعيل لقتاله، وخالفه طائفة من أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد فاقتحموها، وانهزم إسماعيل إلى قلعة الجزيرة فامتنع بها، ونهبت البلد. وانحدر المهذب بن أبي الخير في السفن فأخذ القلعة التي كانت لإسماعيل بمطارا. ثم استأمن إسماعيل إلى صدقة فأمنه. وجاء صدقة فأمن أهل البصرة ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة منتصف تسع وتسعين وأربعمائة لستة عشر يوما من مقامه بالبصرة. وسار إسماعيل نحو فارس فطرقه المرض في رامهرمز ومات وكان صدقة قد استعمل على البصرة مملوك جده دبيس، واسمه اليونشاش ورتب معه مائة وعشرين فارسا، فاجتمعت ربيعة والمتقن [1] وقصدوا البصرة فدخلوها بالسيف، وأسروا اليونشاش وأقاموا بها شهرا ينهبون ويخربون، وبعث صدقة عسكرا فوصل بعد خروجهم من البلد فانتزع السلطان البصرة من صدقة وبعث إليها شحنة وعميدا واستقام أمرها.
(استيلاء صدقة على تكريت)
كانت تكريت لبني معن من بني عقيل، وكانت إلى آخر سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن معن، فلما مات وليها ابن أخيه أبو منعة بن ثعلب بن حماد [2] ووجد بها خمسمائة ألف دينار. وتوفي سنة خمس وثلاثين، ووليها ابنه أبو غشام إلى سنة أربع وأربعين فوثب عليه أخوه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال. فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه، ومات عيسى إثر
__________
[1] الصحيح المنتفق وما يزال هذا الاسم يطلق على مدينة الناصرية وعشائرها في جنوب العراق بين الديوانية والبصرة.
[2] هو ابو منعة خميس بن تغلب بن حماد: ابن الأثير ج 10 ص 419.

(4/364)


ذلك وخافت زوجته من عود أخيه أبي غشام إلى الملك فقتله في محبسه. وولت على القلعة أبا الغنائم بن المجلبان [1] فسلمها إلى أصحاب طغرلبك، وسارت هي إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه. وأخذ مسلم بن قريش مالها. وولى طغرلبك على قلعة تكريت أبا العباس الرازيّ، فمات لستة أشهر، فولي عليها المهرباط وهو أبو جعفر محمد بن غشام [2] من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة، ومات فوليها ابنه سنتين، وأخذتها من [3] تركمان خاتون وولت عليها كوهوايين الشحنة. ثم مات ملك شاه فملكها قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمستكين الجاندار، فولى عليها رجلا يعرف بأبي نصر المصارع، ثم عادت إلى كوهوايين إقطاعا. ثم أخذها منه محمد الملك الباسلاني [4] فولى عليها لمقا بن هزارشب الديلميّ [5] وأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما أجاز به سقمان بن ارتق سنة ست وتسعين وأربعمائة فنهبها، وكان كيقباد [6] ينهبها ليلا وسقمان ينهبها نهارا. فلما استقر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباد الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر من هذه السنة، وتسلمها منه. وانحدر البرسقي ولم يملكها ومات كيقباد بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة ورام بن أبي قريش بن ورام [7] وكان كيقباد ينسب الى البطانية.
(الخلف بين صدقة وصاحب البطيحة)
قد كنا قدمنا أن السلطان محمدا أقطع صدقة بن مزيد مدينة واسط، فضمنها صدقة
__________
[1] ابن المحلبان: ابن الأثير ج 10 ص 420 وقد مر ذكره من قبل.
[2] بن خشنام: المرجع السابق.
[3] مقتضى السياق أخذتها منه تركمان خاتون وولت عليها كوهرائين الشحنة.
[4] مجد الملك البلاساني: ابن الأثير ج 10 ص 420.
[5] كيقباذ بن هزارسب الديلميّ: المرجع السابق.
[6] هو كيقباذ.
[7] ورّام بن أبي فراس بن ورام: المرجع السابق.

(4/365)


لمهذب الدولة بن أبي الخير، وولى في أعمالها أولاده، فبذروا الأموال، وطالبه صدقة عند انقضاء السنة بالمال وحبسه. وسعى في خلاصه بدران بن صدقة، وكان صهرا لمهذب الدولة، وأعاده إلى البطيحة. وضمن حماد والمختم محمد والد مهذب الدولة كانا أخوين وهما ابنا أبي الخير [1] وكانت لهما رياسة قومهما. وهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه. وهلك المختم [2] محمد وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، ونازعا إبراهيم صاحب البطيحة حتى غلبه مهذب الدولة وقبض عليه، وسلمه إلى كوهوايين، فحمله إلى أصفهان فهلك في الطريق. وعظم أمر مهذب الدولة وصير كوهوايين أمير البطيحة، وصارت جماعته لحكمه. وكان حماد شابا، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، وهو يضمر نقضه، فلما مات كوهوايين انتقض حماد عن مهذب الدولة وأظهر ما في نفسه، واجتهد مهذب الدولة في استصلاحه، فلم يقدر وجمع ابنه القيسر [3] وقصد حمادا فهرب إلى صدقة بالحلة، وبعث معه مددا من العسكر. وحشد مهذب الدولة وسار في العساكر برا وبحرا.
وأكمن حماد لهم وأصحابه واستطردوا بين أيديهم. ثم خرجت عليهم الكمائن فانهزموا. وأرسل حماد يستمد صدقة فبعث إليه مقدم جيشه، وجمعوا السفن وكان مهذب الدولة جوادا، فبعث إلى مقدم الجيش بالإنعامات والصلات فمال إليه، وأشار عليه أن يبعث ابن النفيس [4] إلى صدقة فرضي عنه وأصلح بينه وبين حماد ابن عمه، وذلك آخر المائة الخامسة.
(مقتل صدقة وولاية ابنه دبيس)
كان صدقة بن منصور بن مزيد شيعة للسلطان محمد بن ملك شاه على أخيه بركيارق، ومن أعظم أنصاره. ولما هلك بركيارق واستبد السلطان محمد بالملك رعى
__________
[1] المعنى غير واضح والجملة مبتورة، وفي الكامل ج 10 ص 435 «وضمن حماد بن بي الجبر واسط، فانحلّ على مهذّب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر الى الاختلاف بعد الاتفاق. فإن المصطنع إسماعيل، جدّ حمّاد، والمختص محمدا، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر ... » .
[2] المختصّ: المرجع السابق.
[3] النفيس بن مهذب الدولة: ابن الأثير 10 ص 436.
[4] مقتضى السياق: ان يبعث ابنه النفيس إلى صدقة.

(4/366)


وسائله في ذلك، وأقطعه واسطا وأذن له في ملك البصرة، وأنزله منزل المصافاة حتى كان يجبر عليه. وسخط مرة على سرخاب بن كيخس [1] صاحب سارة فلجأ إليه مستجيرا به فأجاره، وطلبه السلطان فمنعه. وكان العميد أبو جعفر يستبد له السلطان لكثرة السعاية، ويغريه به وينكر دالته وتبسطه فتعين [2] السلطان وسار إلى العراق وأرسل إلى صدقة فاستشار صدقة أصحابه فأشار ابنه دبيس بملاطفته واستعطافه بالهدايا، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيشه بالمحاربة، فجنح إلى رأيه واستطال في الخطاب وجمع الجند وأفاض فيهم العطاء واعترضهم فكانوا عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل. وبعث إليه المستظهر مع علي بن طراد الزيني [3] نقيب النقباء يعظه في المخالفة، ويحضه على لقاء السلطان، فاعتذر بالخوف منه ثم بعث إليه السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي ليؤمنه، ويستنفره لجهاد الفرنج في جملته فامتنع، ووصل السلطان إلى بغداد في ربيع من سنة إحدى وخمسمائة، ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك، فقدم البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء فنزلوا بصرصر مسلحة لقلّة عسكر السلطان. وإنه إنما جاء في ألفي فارس للإصلاح والاستئلاف، فلما تبين له لجاج صدقة أرسل إلى الأمراء بأصفهان بأن يستجيشوا ويقدموا، فكتب صدقة إلى الخليفة بالمقاربة وموافقة السلطان. ثم رجع صدقة عن رأيه، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد مددته بالأموال والرجال لجهاده. واما الآن عساكره متصلة فلا وفاق عندي، وقد أرسل إلى جاولي سكاوو، وصاحب الموصل وإيلغازي بن أرتق [4] صاحب ماردين بالانتقاض على السلطان وأيس السلطان من استقامته. ووصل إليه ببغداد قراوش شرف الدولة وكروباوى [5] بن
__________
[1] شرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة وآبه: ابن الأثير ج 10 ص 441.
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 10 ص 441: «وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه الى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الّذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل» .
[3] علي بن طراد الزينبي: المرجع السابق.
[4] ايلغازي بن أرتق: ابن الأثير ج 10 ص 443.
[5] قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني: ابن الأثير ج 10 ص 443.

(4/367)


خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن خادم بن الجرج [1] الطائي، وكان آباؤه أصحاب البلقاء وبيت المقدس، ومنهم حسان بن مفرج، وطرده كفرتكين أتابك [2] دمشق لما كان عليه من الأجلاب تارة مع الفرنج، وتارة مع أهل مصر.
فلجأ إلى صدقة وقبله وأكرمه، وأجزل له العطاء سبعة آلاف دينار. فلما كانت هذه الحادثة رغب عن صدقة وسار في طلائعه فهرب إلى السلطان فخلع عليه وعلى أصحابه، وسوغه دار صدقة عن الهروب. وأذن له فعبر من الأنبار وكان آخر العهد به. ثم أنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط، الأمير محمد بن بوقا التركماني فملكها وأخرج منها أصحاب صدقة، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان من أعمال صدقة، فنهبه وأقام أياما، حتى بعث صدقة ابن عمه ثابت بن سلطان في عسكر، فخرج منها الأمير محمد وملكها ثابت. وأقاموا على دجلة وخرج ثابت لقتالهم فهزموه واقتحموا البلد، ومنعهم الأمير محمد من النهب ونادى بالأمان، وأمر السلطان الأمير محمدا بنهب بلاد صدقة، فسار إليها وأقطع مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي ثم سار السلطان من بغداد آخر رجب ولقيه صدقة واشتد القتال وتخاذلت عنه عبادة وخفاجة. ورفع صوته بالابتهال بالناشرة بالعرب، ورغب الأكراد بالمواعد، ثم غشيه الترك فحمل عليهم وهو ينادي: أنا ملك العرب أنا صدقة فأصابه سهم أثبته وتعلق به غلام تركي يسمى برغش فجذبه إلى الأرض. فقال: يا برغش: ارفق فقتله وحمل رأسه إلى السلطان فأنفذه إلى بغداد، وأمر بدفن شلوه. وقتل من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون، ومن بني شيبان نحو مائة، وأسر ابنه دبيس، ونجا ابنه بدران إلى الحلة، ومنها إلى البطيحة عند صهره مهذب الدولة، وأسر سرجان بن كيخسرو والمستجير بصدقة على السلطان، وسعيد بن حميد العمدي صاحب الجيش. وكان مقتل صدقة لإحدى وعشرين سنة من إمارته وهو الّذي بنى الحلة بالعراق، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره بين الملوك، وكان جوادا حليما صدوقا عادلا في رعيته. وكان يقرأ ولا يكتب، وكانت له خزانة كتب منسوبة الخط ألوف مجلدات، ورجع السلطان إلى بغداد من دون الحلة، وأرسل أمانا لزوج صدقة فجاءت إلى بغداد، وأمر السلطان الأمراء بتلقيها، وأطلق لها ولدها دبيسا، واعتذر
__________
[1] ابن الجراح: المرجع السابق.
[2] طغتكين أتابك: المرجع السابق.

(4/368)


لها من قتل صدقة، واستحلف دبيسا على الطاعة، وأن لا يحدث حدثا. وأقام في ظله وأقطعه السلطان إقطاعا كثيرا. ولم يزل دبيس مقيما عند السلطان محمد إلى أن توفي، وملك ابنه محمود سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فرغب دبيس من السلطان محمود أن يسرحه إلى بلده، فسرحه، وعاد إليها فملكها واجتمع عليه خلق كثير من العرب والأكراد واستقام أمره.
(خبر دبيس مع البرسقي ومع الملك مسعود)
لما توفي الخليفة المستظهر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وبويع ابنه المسترشد خاف ابنه الآخر من غائلة أخيه وانحدر في البحر إلى المدائن، وسار منها إلى الحلّة فأبى أن يكرهه فتلطّف عليّ بن طراد لأخي الخليفة فأجاب، وتكفل دبيس بما يطلبه، وبينما هو في خلال ذلك برز البرسقيّ من بغداد مجلبا على دبيس الجموع، وسار أخو الخليفة إلى واسط فملكها في صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقوي أمره وكثرت جموعه فبعث الخليفة إلى دبيس في شأنه، وأنه خرج عن جواره فلقي أمره بالطاعة، وبعث إليه وهو بواسط عسكرا من قبله فتلقاه وقبض عليه، وبعثه إلى أخيه المسترشد. وكان مسعود أخو السلطان محمد بالموصل ومعه أتابكه حيوس بك [1] ، فاعتزما على قصد العراق لغيبة السلطان محمود عنه، فسار لذلك ومعه وزيره فخر الملك أبو عليّ بن عمّار صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آق سنقر أبو المعالي أبو الملك العادل، وكروباوي بن خراسان التركماني صاحب البواريح [2] وأبو الهيجاء صاحب إربل وصاحب سنجار، فلما قاربوا بغداد خاف البرسقي شأنهم وبعث إليه الملك مسعود وحيوس بك أنهم إنما جاءوا نجدة على دبيس. وكان البرسقيّ إنّما ارتاب من حيوس بك فصالحهم، ودخل مسعود بغداد ونزل دار المملكة. وجاء منكبرس في العساكر فسار البرسقيّ عن بغداد لمحاربته ودفاعه فمال إلى النعمانيّة، وعبر دجلة واجتمع مع دبيس بن صدقة. وكان دبيس قد صانع مسعودا وصاحبه بالهدايا والألطاف مدافعة عن نفسه، فلما لقيه منكبرس اعتضد به، وسار الملك مسعود
__________
[1] أتابكه أي أبه جيوش بك: ابن الأثير ج 10 ص 539.
[2] البوازيج وقد مرّ ذكرها من قبل.
ابن خلدون م 24 ج 4

(4/369)


والبرسقيّ وحيوس بك الى المدائن للقائهما. ثم خاموا عن لقائهما لكثرة جموعهما، ونكبوا عن المدائن وعبروا نهر صرصر، وأكثروا النهب في تلك النواحي من الطائفتين.
وبعث إليهم المسترشد بالموعظة ويأمرهم بالموادعة والمصالحة فأجابوا إلى ذلك. ثم بلغهم أنّ دبيسا ومنكبرس قد بعثا العساكر مع منصور أخي دبيس وحسين بن أوزبك ربيب منكبرس ليخالفوهم إلى بغداد فخلوها من الحامية، فأغذّ البرسقي السير إلى بغداد وترك ابنه عزّ الدين مسعود على العسكر وصحبه عماد الدين زنكي بن آق سنقر وانتهى إلى ديالى، ومنع العسكر من العبور. ثم جاءه الخبر ليومين بصلح الفريقين كما أشار الخليفة ففتر نشاطه وعبر إلى الجانب الغربيّ من بغداد. وجاء في أثره منصور أخو دبيس وحسين ربيب منكبرس فنزلا في الجانب الشرقي من بغداد. وأغار البرسقي على نعم الملك مسعود فأخذها، وعاد فخيم بجانب آخر من بغداد، وخيّم مسعود وحيوس بك من جانب آخر ودبيس ومنكبرس من جانب ومعهما عز الدولة بن البرسقيّ منفردا عن أبيه. وكان حيوس بك قد بعث إلى السلطان محمود بطلب الزيادة له وللملك مسعود فجاء كتاب مع رسوله يذكر أنّ السلطان كان أقطعهم أذربيجان، حتى إذا بلغه مسيرهم إلى بغداد تثاقل عن ذلك، وقد جهّز العساكر إلى الموصل. ووقع الكتاب بيد منكبرس فبعث إلى حيوس بك وضمن له إصلاح الحال. وكان يؤثر مصلحته إذ كان متزوّجا بأمّه فتمّ الصلح وافترق عن البرسقي أصحابه، وبطل ما كان يحدّث به نفسه من الاستبداد بالعراق. وصار مع الملك مسعود واستقرّ منكبرس شحنة ببغداد، ورجع دبيس الى الحلّة.
(فتنة دبيس مع السلطان محمود واجلاؤه عن بغداد ثم معاودته الطاعة)
كان دبيس بن صدقة كثيرا ما يكاتب حيوس بك أتابك الملك مسعود، ويعريهم بطلب السلطنة ويعدهم بالمساعدة ليحصل له بذلك علوّ اليد كما كان لأبيه مع بركيارق ومحمد ابني ملك شاه. وكان قسيم الدولة البرسقي شحنة بغداد قد سار للملك مسعود، وأقطعه مراغة مع الرحبة. وكانت بينه وبين دبيس عداوة مستحكمة فأغراهم دبيس بالقبض عليه، ففارقهم البرسقي إلى السلطان محمود فأكرمه. ثم

(4/370)


اتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن عليّ الأصفهاني الطغرائي بالملك مسعود، وكان ولده أبو المؤيد محمد يكاتب الطغرائي عن الملك مسعود. فلمّا وصل أبوه عزل أبا عليّ بن عمّار صاحب طرابلس واستوزره. وحسن لهم ما أشار به دبيس فعزموا عليه. ونمي الخبر إلى السلطان محمود فكاتبهم بالوعيد فأظهروا أمرهم وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس. وبلغهم أن عساكر محمود متفرّقة فأغذّوا السير لمحاربته، والتقوا عند عقبة أستراباد في ربيع سنة أربع عشرة، وأبلى البرسقيّ وكان في مقدمته. ثم انهزم مسعود وأمر [1] كثير من أصحابه، وجيء بالوزير أبي إسماعيل الطغرائي فأمر بقتله لسنة من ولايته، وكان حسن الكتابة والشعر وله تصانيف في صنعة الكيمياء. وسار مسعود يطلب الموصل بعد أن استأمن البرسقيّ وأدركه فردّه إلى أخيه، وعفا عنه وعطف عليه. ولحق حيوس بك بالموصل. ثم بلغه فعل السلطان محمود ومعه ألف سفينة لعبوره، فبادر دبيس لطلب الأمان بعد أن أرسل حرمه إلى البطيحة. وسار بأمواله عن الحلّة وأمر بنهبها. ولحق بأبا الغازي بن أرتق بماردين، ووصل السلطان إلى الحلّة فوجدها خاوية على عروشها فرجع عنها. وأرسل دبيس أخاه منصورا من قلعة صفد في عسكر إلى العراق فمرّ بالحلّة والكوفة، وانحدر إلى البصرة وبعث إلى برتقش الزكويّ في صلاح حالهما مع السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس وولده، وحبسهما ببعض القلاع حذاء الكرخ. ثم أذن دبيس لجماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فمنعهم أتراك واسط، فبعث إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر، وأمر مظفّر بن أبي الخير فساعده، واستمدّ أهل واسط البرسقي فأمدّهم بعسكر. وسار مهلهل للقائهم قبل مجيء المظفّر فهزم وأخذ أسيرا في جماعة من أصحابه. وأصعد المظفر من البطيحة ينهب ويفسد حتى قارب واسط. وسمع بالهزيمة فأسرع منحدرا ووقع على كتاب بخط دبيس إلى مهلهل يأمره بالقبض على مظفّر بن أبي الخير، ومطالبته بالأموال، فبعثوا به إلى المظفّر. وسار معهم وبلغ دبيسا أنّ السلطان كحّل أخاه فلبس السواد، ونهب البلاد، وأخذ للمسترشد بنهر الملك، وأجفل الناس إلى بغداد وسار عسكر واسط إلى النعمانيّة، فأوقعوا بمن لك من عساكر دبيس وأجلوهم
__________
[1] مقتضى السياق وفرّ كثير من أصحابه.

(4/371)


عنها. وكان دبيس قد أسر في واقعة البرسقي عفيفا خادم الخليفة فأطلقه، وحمله إلى المسترشد عقابا ووعيدا على كحل أخيه فغضب الخليفة، وتقدّم إلى البرسقيّ بالخروج لحرب دبيس، وخرج بنفسه في رمضان سنة عشرة وخمسمائة وأتاه سليمان ابن مهارش من الحديثة في جماعة من بني عقيل وقريش بن مسلم صاحب الموصل في كافة بني عقيل. وأمر المسترشد باستنفار الجند كافة، وفرّق فيهم الأموال والسلاح، وجاء دبيسا ما لم يكن يحتسبه فرجع إلى الاستعطاف وبرز الخليفة آخر ذي الحجّة، وعبر دجلة وهو في أكمل زيّه، ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب الطالبيّين ونقيب النقباء عليّ بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل. وبلغ البرسقي مسير المسترشد فعاد إلى خدمته ونزل معه بالحديثة. ثم سار إلى الموصل على سبيل التعبية والبرسقي في المقدّمة، وعبّى دبيس أصحابه صفا واحدا. وجعل الرجّالة بين يدي الخيّالة. وقد كان وعد أصحابه بنهب بغداد وسبي حريمها، فالتقى الفريقان فانهزم عسكر دبيس وأسر جماعة من أصحابه فقتلوا صبرا وسبيت حرمه، ورجع المسترشد إلى بغداد يوم عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة. ونجا دبيس وعبر الفرات، وقصد غزنة من عرب نجد مستنصرا بهم فأبوا عليه، فسار إلى المنتقى [1] وحالفهم على أخذ البصرة فدخلوا ونهبوا أهلها، وقتل مقدّم عسكرها.
وبعث المسترشد إلى البرسقي بالعتاب على إهمال أمر البصرة، فتجهّز البرسقي للانحدار إليها ففارقها دبيس، ولحق بقلعة حعبر وصار مع الفرنج وأطمعهم في حلب وسار معهم لحصارها سنة ثمان عشرة وخمسمائة فامتنعت عليهم فعادوا عنها، ولحق هو بالملك طغرلبك ابن السلطان بن محمد فأغراه بالمسير إلى العراق كما نذكر.
(مسير دبيس إلى الملك طغرل)
لما سار دبيس من الشام إلى الملك طغرل بأذربيجان تلقّاه بالمبرّة والتكرمة، وأنظمه في خواصّه ووزرائه. وأغراه دبيس بالعراق، وضمن له ملكه فسار معه لذلك، وانتهوا
__________
[1] وفي نسخة اخرى المنتفق وكذلك في كتاب الكامل وقد مرّت معنا من قبل.

(4/372)


إلى دقوقا في عساكر كثيرة. وكتب مجاهد الدين مهروز [1] صاحب تكريت إلى المسترشد بالخبر فتجهّز لمدافعتهم، وجمع العساكر فبلغوا اثني عشر ألف فارس، وبرز من بغداد في صفر سنة تسع عشرة وخمسمائة وفي مقدّمته برتقش الذكوي [2] ونزل الخالص. وانتهى إلى طغرل خروج المسترشد فعدل إلى طريق خراسان ونزل جلولاء، وتفرّق أصحابه للنهب. وبرز إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كبير فنزل الدّسكرة، ولحقه المسترشد وكان معه. ورحل طغرل ودبيس إلى الهارونيّة.
ثم سارا إلى تامرّا ليقطعا جسر النهروان فحفظ دبيس المعابر، وتقدّم طغرل إلى بغداد وتملكها ونهبها. ثم رحل دبيس من تامرّا وأقام طغرل لحمّى أصابته، وحالت بينهما الأمطار والسيول. ثم أخذ دبيس ثقلا جاء للخليفة فيه ملبوس وطعام كثير، وكان لحقه الجوع والتعب والبرد فأخذ من ذلك الملبوس ولبسه، وأكل من الطعام كثيرا.
واستقبل الشمس فأخذه النوم ورقد. وأمّا الخليفة لمّا بلغه الخبر بأخذ الثقل رجع إلى بغداد، ففي حال سيره عثر على دبيس وهو نائم فوقف وأيقظه، فحلّ عينيه ورأى الخليفة فبادر بتقبيل الأرض على العادة، وسأل العفو، فرقّ له الخليفة وثناه الوزير ابن صدقة عن ذلك، ووقف دبيس إزاء عسكر برتقش يحادثهم. ثم مدّوا الجسر آخر النهار للعبور فتسلل دبيس عنهم، ولحق بالملك طغرل، وسار معه إلى عمه الملك سنجر، وعاثوا في أعمال همذان واتبعهم السلطان محمود فلم يظفر بهم.
(مسير دبيس الى السلطان سنجر)
لما أيس طغرل من ملك العراق عند ما سار إليه مع دبيس عاد منه، وسار هو ودبيس إلى السلطان سنجر، وهو يومئذ صاحب خراسان، والمتقدّم على بني ملك شاه، فشكى إليه طغرل ودبيس من المسترشد، وبرتقش الشحنة، ووعدهم النصفة منهم.
ثم داخله دبيس وأطمعه في ملك العراق. وخيّل له أن المسترشد والسلطان محمود متفقان على مباعدته، ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب [3] حتى حرّك حفيظته
__________
[1] مجاهد الدين بهروز: ابن الأثير ج 10 ص 626.
[2] يرنقش الزكوي: ابن الأثير ج 10 ص 626.
[3] هذا مثل سائر، يقال لمن يبالغ في القول بغية الاقناع.

(4/373)


لذلك، وسار إلى العراق سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فوصل إلى الريّ، واستدعى السلطان محمودا من همذان يختبر ما خيّل له دبيس. فجاء محمود مبادرا وأكذب دبيسا فيما خيّل. وأمر السلطان سنجر العساكر بتلقي السلطان محمود، وأجلسه معه على التخت. وأقام عنده إلى آخر سنة اثنتين وعشرين ثم عاد إلى خراسان وأوصاه بإعادة دبيس إلى بلده، فرجع السلطان محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد في محرّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة وأنزل دبيس بداره، واسترضى له الخليفة فرضي عنه، وامتنع من ولايته، وبذل دبيس مائة ألف دينار لذلك فلم يقبله، وعاد السلطان محمود إلى همذان منتصف السنة.
(فتنة دبيس مع محمود واسره)
كانت زوجة السلطان محمود وهي ابنة عمّه سنجر تعين بأمر دبيس، فماتت عند رحيل السلطان إلى همذان فانحل أمره. ثم مرض السلطان فأخذ دبيس ابنه الصغير، وقصد العراق فجمع المسترشد لمدافعته. وكان بهروز شحنة بغداد بالحلّة فهرب عنها، وملكها دبيس في رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وبلغ الخبر إلى السلطان محمود، فأحضر الأمير ابن قزل والأحمديليّ، وكانا ضمنا دبيس فطالبهما بالضمان فسار الاحمديلي في أثره. وجاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بهدايا عظيمة كان فيها مائتا ألف دينار، وثلاثمائة فرس بسروج مثقلة بالذهب. ثم جاء إلى البصرة ونهبها وأخذ ما في بيوت الأموال. وبعث السلطان في أثره العساكر فدخل البريّة، وجاءه عند مفارقته البصرة قاصدا من صرصر يستدعيه، وكان صاحبها خصيّا فتوفي في هذه السنة، وخلف سرية له فاستولت على القلعة، وأرادت أن تتم أمرها برجل له قوّة ونجدة فوصف لها دبيس، وحاله في العراق وكثرة عشيرته، فكتبت تستدعيه لتتزوّج به، وتملّكه القلعة بما فيها فلحقه الكتاب بعد مفارقته البصرة. وقفل من العراق إلى الشام ومعه الأدلّاء ومرّ بدمشق فحبسه واليها عنده، وبعث فيه عماد الدين زنكي، وكان عدوّه. وكان عنده ابن تاج الملوك مأسورا في واقعة كانت بينهما، فطلب أن يبعث إليه دبيس، ويفادي به ابنه والأمراء الذين معه ففعل ذلك تاج الملوك، وحصل دبيس في يد زنكي، وقد أيقن بالهلاك فأطلقه زنكي وحمل له

(4/374)


الأموال والدواب والسلاح وخزائن الأمتعة كما يفعل مع أكابر الملوك. وبلغ المسترشد خبره فبعث سديد الدين بن الأنبار يطلبه من تاج الملوك فسار لذلك من جزيرة ابن عمر، وبلغه في طريقه أنه بعثه إلى زنكي وأنه فاته القصد منه.
(مسير دبيس الى بغداد مع زنكي وانهزامهما)
لما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين وخمسمائة وولي بعده داود، ونازعه عمومته مسعود وسلجوق، ثم استقرّت السلطة لمسعود، وكان أخوهما طغرل عند عمّه سنجر بخراسان، وكان كبير بيت أهل السلجوقيّة، وله الحكم على ملوكهم فنكر على السلطان محمود لقتاله سلجوق وطغرل، وسار به إلى العراق، وانتهى الى همذان.
وبعث إلى عماد الدين زنكي فولّاه شحنة بغداد، وإلى دبيس بن صدقة وهو عند زنكي فأقطعه الحلّة وتجهّز السلطان محمود لقتال سنجر وطغرل، واستدعى الخليفة للحضور معه فخرج من بغداد وعاجلهم، ورجع المسترشد إلى بغداد وقد سمع بوصول زنكي ودبيس إليها ولقيهم بالعبّاسيّة فهزمهم، وقتل من عسكرهم ودخل بغداد وسار دبيس إلى بلاد الحلّة. وكانت بيد أقيال خادم المسترشد فبعث إليها بالمدد فهزموا دبيس ونجا من المعركة. ثم جمع جمعا وقصدوا واسط وانضمّ إليه عسكرها وابن أبي الخير صاحب البطيحة، وملكها إلى سنة سبع وعشرين وخمسمائة فبعث أقيال الخادم وبرتقش الشحنة العساكر إلى دبيس فلقيهم في عسكر واسط، وانهزم وسار إلى السلطان مسعود فأقام عنده.
(مقتل دبيس وولاية ابنه صدقة)
لم يزل دبيس مقيما عند السلطان مسعود إلى أن حدثت الفتنة بينه وبين المسترشد، ومات أخوه طغرل كما هو مذكور في أخبارهم. وسار مسعود إلى همذان بعد موت أخيه طغرل فملكها، وفارقه جماعة من أعيان أمرائه، ومعهم دبيس بن صدقة مستوحشين منه. واستأمنوا للخليفة فحذر من دبيس، ولم يقبلهم فمضوا إلى

(4/375)


خوزستان، واتفقوا مع برسق بن برسق. ثم تدارك الخليفة رأيه وبعث إلى الأمراء الذين مع دبيس بالأمان، وكانوا لما ردّهم الخليفة بسبب دبيس أجمعوا القبض عليه، وخدمة الخليفة به. وشعر بهم وهرب إلى السلطان مسعود. وبرز الخليفة من بغداد في رجب من سنة تسع وعشرين وخمسمائة لقتال مسعود، وكتب إليه أكثر أهل الأعمال بالطاعة. وأرسل إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد المسترشد الدّينور ليحضر داود حربه فأبى، وسار على التعبية حتى بلغ وأعرج [1] فالتقوا هنالك. وانهزمت عساكر المسترشد وأخذ أسيرا ومعه وزيره شرف الدين عليّ بن طراد، وقاضي القضاة، وابن الأنباري، وجماعة من أعيان الدولة. وغنم ما في عسكره وعاد السلطان إلى بغداد. وبعث الأمير بكاية شحنة إلى بغداد، وكثر العويل والبكاء والضجيج ببغداد على الخليفة، وجعل الخليفة في خيمة ووكّل به، وراسله السلطان مسعود في الصلح، وشرط عليه مالا يؤدّيه، ولا يجمع العساكر ولا يخرج من داره ما بقي، وانعقد ذلك بينهما. وبينما هما في ذلك وصل رسول السلطان سنجر فركب السلطان مسعود للقائه، وافترق المتوكّلون بالمسترشد فدخل عليه خيمته آخر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة جماعة الباطنية، وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. ولما قتل المسترشد اتهم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة دسّ أولئك النفر عليه فأمر بقتله، وقصده غلام فوقف على رأسه عند باب خيمته، وهو ينكث الأرض بإصبعه فأطار رأسه وهو لا يشعر. وبلغ الخبر إلى ابنه صدقة وهو بالحلّة، فاجتمعت إليه عساكر أبيه ومماليكه، واستأمن إليه الأمير قطلغ تكين وأمر السلطان مسعود الشحنة بك آيه بمعاجلته، وأخذ الحلّة من يده إلى أن قدم السلطان بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده صدقة وأصلح حاله معه ولزم بابه.
(مقتل صدقة وولاية ابنه محمد)
ولما قتل المسترشد ولي ابنه الراشد بإشارة السلطان مسعود، ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان مسعود، وأغراه بها عماد الدين زنكي صاحب الموصل، ومعه الراشد.
__________
[1] دايمرج: ابن الأثير ج 11 ص 25.

(4/376)


وبايع السلطان مسعود للمقتفي سنة ثلاثين وخمسمائة وخلع الراشد ففارق الموصل، وسار الأمراء الذين كانوا مع داود إلى السلطان مسعود، ورضي عنهم. ورجع إلى همذان وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم، وتمسّك بصدقة بن دبيس وزوّجه ابنته. وسار الراشد من الموصل إلى أذربيجان قاصدا الملك، واجتمع إليه صاحب فارس وخوزستان وجماعة الأمراء، فسار إليهم السلطان مسعود وهزمهم. وأخذه صاحب فارس الأمير منكبرس فقتله صبرا. وتسلّل صاحب خوزستان وعبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال إلى السلطان مسعود وهو في خف من الناس فحملوا عليه وهزموه، وقبضوا على جماعة من الأمراء الذين معه فقتلهم منكبرس فيهم صدقة بن دبيس وعنبر بن أبي العسكر. وذهب داود إلى همذان فملكها، واستقال السلطان مسعود من عثرته، وولّى على الحلّة محمد بن دبيس، وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا نمير بربره، واستقام أمره بالحلّة، وكان من شأن الراشد والسلجوقية ما نذكره في أخبارهم.
(تغلب عليّ بن دبيس على الحلّة وملكه إياها من أخيه محمد)
ثم خرج على السلطان مسعود سنة ست وأربعين وخمسمائة بوزابة صاحب فارس وخوزستان وبايع للسلطان محمد ابن السلطان محمود، وسار معهم عبّاس صاحب الريّ، وملكوا كثيرا من البلاد، فسار السلطان مسعود إليهم من بغداد واستخلف بها الأمير مهلهل ابن أبي العسكر ونظر الخادم، وأشار مهلهل على السلطان مسعود عند رحيله من بغداد أن يحبس عليّ بن دبيس بقلعة تكريت. ونمي إليه الخبر فهرب في نفر قليل، ومضى إلى بني أسد فجمعهم فسار الى الحلّة فبرز إليه محمد أخوه فهزمه عليّ، وملك الحلّة واستهان السلطان أمره أوّلا فاستفحل وضمّ إليه جمعا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، وضربوا عليه مصافا وكسرهم، وعادوا منهزمين إلى بغداد. وكان أهلها يتعصّبون لعليّ بن دبيس فكانوا يعيّطون إذا ركب مهلهل أو بعض أصحابه يا عليّ كله. فكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب، ويد عليّ فوق كل يد

(4/377)


في أوضاع الأمراء بالحلّة [1] وتصرّف فيها وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، ووضع الخليفة الحامية على الأسوار وأرسل إلى عليّ يحضّه على الاستقامة فأجاب بالآمال والطاعة فسكن الناس.
(أخذ السلطان الحلة من يد عليّ وعوده اليها)
كان عليّ بن دبيس كثير العسف بالرعية والظلم لهم، وارتفعت شكوى الرعية به إلى السلطان مسعود سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فأشكاهم، وأقطع الحلّة سلاركرد فسار إليها من همذان. وجمع عسكرا من بغداد وقصد الحلّة، واحتاط على أهل عليّ، وأقام بالحلّة في مماليكه وأصحابه. ورجعت عنه العساكر ولحق عليّ بن دبيس بالتقشكنجر [2] وكان في أقطاعه باللّحف متجنيا على السلطان مسعود، فاستنجده عليّ فأنجده، وسار معه إلى واسط، وسار معهما الطرنطاي صاحب واسط فانتزعوا الحلّة من سلاركرد ورجع إلى بغداد آخر اثنتين وأربعين، واستولى عليّ على الحلّة.
(نكبة عليّ بن دبيس)
ثم انتقض على السلطان مسعود سنة أربع وأربعين وخمسمائة جماعة من الأمراء منهم التقشكنجر والطرنطاي وعليّ بن دبيس، وبايعوا ملك شاه ابن السلطان محمود، وساروا به إلى العراق، وراسلوا المقتفي في الخطبة له فامتنع، وجمع العساكر وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود بالخبر فشغل عنهم بلقاء عمّه السلطان سنجر، كان سار إليه بالريّ. ولما علم التقشكنجر بذلك نهب النهروان وقبض على عليّ بن دبيس، وهرب الطرنطاي إلى النعمانيّة. ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد فرحل التقشكنجر من النهروان وأطلق عليّ بن دبيس فسار إلى السلطان مسعود فلقيه ببغداد واستعطفه فرضي عنه.
__________
[1] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 11 ص 105: «ومدّ علي يده في أقطاع الأمراء بالحلّة، وتصرّف فيها على وجل منه» وقد ذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 540.
[2] البقش كون خر: ابن الأثير ج 11 ص 122.

(4/378)


(وفاة عليّ بن دبيس وانقراض بني مزيد)
ثم توفي عليّ بن دبيس صاحب الحلّة عليلا بسعدآباد، واتهم طبيبه محمد بن صالح بالادهان فيه فمات بعده بقليل. ثم مات السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقيّة الأعاظم. وبويع ملك شاه ابن أخيه محمود بعهده. واستبدّ المقتفي على ملوك السلجوقية بعده. وبعث السلطان ملك شاه سلاركرد إلى الحلّة فملكها، ولحق به مسعود بلاك شحنة بغداد، وهرب منها عند موت السلطان مسعود، وأظهر لسلاركرد الوفاق. ثم قبض عليه وغرّقه، واستبدّ بالحلّة، وبعث المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فبرز مسعود بلاك للقائهم، فانهزم وعاد إلى الحلّة فمنعه أهلها من الدخول، فسار إلى تكريت، وملك ابن هبيرة الحلّة، وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها. ثم جاءت عساكر السلطان ملك شاه إلى واسط، وخرجت منها عساكر المقتفي إلى واسط فملكها، ثم إلى الحلّة كذلك. ثم عاد إلى بغداد آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم قبض الأمراء على ملك شاه سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وبايعوا لأخيه محمد وطلب الخطبة من المقتفي فمنع منها، فسار السلطان محمد بن محمود إلى العراق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. واضطرب الناس ببغداد واهتم المقتفي بالاحتشاد، وجاءته عساكر واسط، وبعث السلطان مهلهل بن أبي العسكر إلى الحلّة فملكها، وحاصر السلطان محمد بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وامتنعت عليه فرجع، وتوفي المقتفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة وبويع ابنه المستنجد، واستبدّ بأمره كما كان أبوه. ومنع خطبة السلجوقيّة من بغداد، وكان في نفسه شيء من بني أسد لاجلابهم على بغداد مع مهلهل بن أبي العسكر، أيام حصار السلطان محمد لها، فأمر بردن بن قماج بقتالهم وإجلائهم، وكانوا منتشرين في البطائح، ولا يقدر عليهم، وجمع عساكره وبعث عن ابن معروف مقدّم المنتفق من أرض البصرة فجاءه في جمع كبير، وحاصرهم حتى انحسر الماء عنهم. وأبطأ أمرهم على المستنجد فبعث إلى بردن يعاتبه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع فجهد هو وابن معروف في قتالهم، وسدّ مسالكهم في الماء، واستسلموا فقتل منهم أربعة آلاف، ونودي عليهم بالجلاء من الحلّة فافترقوا في البلاد، ولم يبق منهم

(4/379)


بالعراق من يعرف، وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف والمنتفق وانقرضت دولة بني مزيد والبقاء للَّه.
(الخبر عن ملوك العجم القائمين بالدعوة العباسية في ممالك الإسلام والمستبدّين على الخلفاء ونبدأ منهم أولا بدولة ابن طولون بمصر وبداية أمرهم ومصاير أحوالهم)
قد تقدّم لنا عند ذكر الفتوحات فتح مصر على يد عمرو بن العاص سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بإذنه، وولّاه عليها، وافتتح ما وراءها في المغرب إلى طرابلس وودان وغذامس حسبما ذلك مذكور هنالك، وأقام عمرو في ولايتها أيام عمر كلّها وولّى عثمان على الصعيد عبد الله بن أبي سرح، وأفردها بالولاية، وكان يعدو على عمرو فغضب عمرو، وأبى من الرجوع إلى ولاية مصر، فضمّها عثمان لعبد الله بن أبي سرح وولّاه عليها. وكانت في أيامه غزوة الصواري، جاءت مراكب الروم من القسطنطينية في ألف مركب ونزلوا بسواحل الإسكندريّة. وانتقض أهل القرى، ورغب أهل الإسكندرية من عثمان أن يمدّهم بعمرو بن العاص فبعثه، وزحف إليهم في العرب ومعه المقوقس في القبط، وخرجوا من البحر ومعهم من انتقض من أهل القرى، ففتح الله على المسلمين، وهزموا الروم إلى الإسكندريّة. وأمضى عمرو في قتلهم وردّ على أهل القرى ما غنم المسلمون منهم، وعذرهم بالإكراه، ورجع إلى المدينة وأقام عبد الله في ولايتهم، وغزا إفريقية وافتتحها. ثم غزا بلد النوبة، ووضع عليهم الجزية المعروفة الباقية على الأيام وذلك سنة إحدى وثلاثين. ثم كان من بعد ذلك يبعث معاوية بن خديج فيفتح ويثخن إلى أن استملك فتح إفريقية. ووفد على عثمان آخر أيامه عند ما اهتاجت الفتنة، وكثر الطعن عليه من جماعة جند مصر يتعلّلون بالشكوى من ابن أبي سرح مع وفد من الجند شاكين من عمّالهم بالأمصار. وعزله عثمان يسترضيهم به فكانت قضية الكتاب المنسوب إلى مروان وحصارهم عثمان بداره. وخرج عبد الله من مصر

(4/380)


مددا لعثمان فخالفه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى مصر وانتزى بها.
ورجع عبد الله من طريقه فمنعه الدخول فسار إلى عسقلان، وأقام بها حتى قتل عثمان. ثم سار إلى الرملة وكانت من مهماته فأقام بها هربا من الفتنة حتى مات، ولم يبايع عليا ولا معاوية. ثم قتل عمرو بن العاص محمد بن أبي حذيفة، وفي كيفية قتله إياه اضطراب. ثم ولّى عليّ على مصر قيس بن سعد بن عبادة، وكان ناصحا له شديدا على عدوّه، واستماله معاوية فأساء في الردّ عليه. وأشاع معاوية خلاف ذلك عنه فعزله عليّ من أجل ذلك، وولى ذلك الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحرث بن يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحرث بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع. وسار إليها فمات بالقلزم قريبها منها سنة سبع وثلاثين، فولّى عليّ مكانه محمد ابن أبي بكر، وكان نشأ في حجره. ثم بعث معاوية إلى عمرو بن العاص وهو بفلسطين قد اعتزل الناس بعد مقتل عثمان، واستماله واجتمع معه على قتال عليّ وولّاه مصر فسار إليها بعد انقضاء أمر صفّين وأمر الحكمين. وطلب معاوية الخلافة وقد اضطرب الأمر على محمد بن أبي بكر وخرج عليه معاوية بن خديج السّكونيّ مع جماعة من العثمانية [1] بنواحي مصر فكاتب عمرو العثمانية، وسرّح الكتائب إلى مصر، وفي مقدّمتها معاوية بن خديج فهزموا عساكر محمد، وافترق عنه أصحابه وقتل كما هو معروف في أخباره. ودخل عمرو بن العاص الفسطاط، وملك مصر، إلى سنة ثلاث وأربعين ومائة فتوفي، وملك مكانه ابنه عبد الله. ثم عزله معاوية وولّى أخاه عتبة بن أبي سفيان، وتوفي سنة أربع وأربعين وولّى مكانه عقبة بن عامر الجهنيّ، ثم عزله سنة سبع وأربعين ومائة وولّى مكانه معاوية بن خديج. ثم اقتطع عنه إفريقية سنة خمسين وولّى عليها عقبة بن نافع. ثم جمع مصر وإفريقية لمسلمة بن مخلد الأنصاري، فبعث مسلمة على إفريقية مولاه أبا المهاجر، وأساء عزل عقبة كما هو معروف. ثم مات معاوية وولي ابنه يزيد، واضطربت الأمور، وبويع عبد الله بن الزبير بمكة، وانتشرت دعوته في الممالك الإسلامية فبعث على مصر عبد الرحمن بن جحدم القرشيّ، وهو عبد الرحمن بن عقبة بن إياس بن الحرث بن عبد بن أسد بن جحدم الفهريّ، ثم بويع مروان وانتقض ابن الزبير وسار مروان الى
__________
[1] نسبة الى الخليفة عثمان بن أبي عفّان.

(4/381)


مصر فأخرج منها عبد الرحمن بن جحدم وولّى عليها عمر بن سعيد الأشدق. ثم بعثه للقاء مصعب بالشام، وولّى مكانه على مصر ابنه عبد العزيز بن مروان. ثم هلك سنة خمس وكان مروان قد مات فولي مكانه ابنه عبد الله ابن عبد الملك [1] . ثم عزله الوليد سنة تسع وثمانين وولّى عليها مرّة بن شريك بن مرثد بن الحرث العبسيّ، ومات سنة خمس وتسعين فولّى الوليد مكانه عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين، وكان قد استخلفه عند موته. ويقال بل ولي قبله أسامة بن زيد التنّوخيّ. ثم عزل عمر بن عبد العزيز عبد الملك بن رفاعة سنة تسع وتسعين وولّى مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكرم بن أبرهة بن الصبّاح الأصبحي. ثم عزله يزيد بن عبد الملك، وولى مكانه بشر بن صفوان، وأقرّه يزيد، ثم عزله هشام بن عبد الملك وولّى [2] بن رفاعة وتوفي بعد خمس عشرة ليلة. واستخلف أخاه الوليد بن رفاعة، وأقرّه هشام فأقام سبعة أشهر، ثم عزله وولّى حنظلة بن صفوان في المحرّم سنة أربع وعشرين ومائة وأقرّه هشام. ثم استعفى مروان بن محمد حين ولي فأعفاه، وولّى مكانه حسّان بن عتامة بن عبد الرحمن السجيني، وكان بالشام فاستخلف حمير بن نعيم الحصري بمصر. ثم قدم ورفض ولايتها، فولّى مكانه حفص بن الوليد لستة عشر يوما من ولايته. وبقي حفص شهرين، ثم ولّى مروان الحوثرة بن سهل بن العجلان الباهليّ في محرّم سنة ثمان وعشرين ومائة ثم صرف عنها في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة، وولي المغيرة بن عبد الله بن مسعود الفزاريّ. ثم مات في جمادى سنة ست وثلاثين، واستخلف ابنه الوليد. وولّى مروان بن عبد الملك موسى بن نصير فأمر باتخاذ المنابر في الكور، وإنما كانوا يخطبون على العصي. ثم قدم مروان بن محمد إلى مصر، وكان فيها مهلكه كما هو معروف. ثم جاءت الدولة العبّاسيّة فولّى السفاح على مصر عمّه صالح بن عليّ سنة أربع وثلاثين ومائة، وبقيت في ولايته يستخلف عليها، فاستخلف أولا محصن بن فاني الكنديّ ثمانية أشهر. ثم أبا عون
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة مشوشة وغير واضحة أما عبد العزيز بن مروان فقد توفي في جمادى الأولى في مصر سنة 85 هـ. أما بعد موت مروان بن الحكم فقد وليّ الخلافة من بعده ابنه عبد الملك بن مروان كما هو معروف وكانت ولاية العهد من بعده لشقيقه عبد العزيز بن مروان ولكن هذا توفي في عهد عبد الملك سنة 85 كما ذكرنا فضم عبد الملك ولاية مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وقد بقي في ولايتها الى ان عزله الوليد بن عبد الملك.
[2] هكذا بياض بالأصل والمعروف من كتب التاريخ انه ولّى عبد الملك بن رفاعة.

(4/382)


عبد الملك بن يزيد مولى مناه ثمانية أشهر. وولّى داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة في محرّم سنة أربع وسبعين. ثم عزله في محرّم سنة خمس وسبعين لسنة من ولايته، وأعاد إليها موسى بن عيسى. ثم صرفه في ربيع سنة ست وسبعين وولّى ابن عمّه إبراهيم بن صالح وتوفي لثلاثة أشهر من ولايته، وقام بالأمر بعده ابنه صالح فولّى الرشيد عبد الله ابن المسيّب بن زهير الضّبيّ في رمضان سنة ستة وسبعين ومائة ثم عزله بعد الحول، وولّى هرثمة بن أعين. ثم أمره بالمسير إلى إفريقية لثلاثة أشهر من ولايته سلخ ثمان وسبعين ومائة، وولّى أخاه عبيد الله بن المسيّب. ثم أعاد موسى بن عيسى في رمضان سنة تسع وسبعين ومائة فاستخلف ابنه يحيى. ثم صرف موسى في منتصف سنة ثمانين لعشرة أشهر من ولايته، وأعيد عبيد الله بن المهدي. ثم صرفه في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة وأعيد إسماعيل بن صالح بن عليّ من العمومة فاستخلف، ثم صرف في منتصف اثنتين وثمانين ومائة وأعيد لعشرة أشهر من ولايته. وولّى الليث بن الفضل من أهل أسبورد فوليها أربع سنين ونصفا وعزل. ثم ولّى الرشيد من قرابته أحمد بن إسماعيل بن عليّ منتصف سبع وثمانين ومائة فبقي عليها سنتين وشهرين. ثم ولّى مكانه عبد الله بن محمد بن الإمام إبراهيم بن محمد ويعرف بابن زينب، وصرفه عنها آخر شعبان من سنة تسعين ومائة لسنة وشهرين من ولايته. وولّى حاتم بن هرثمة بن أعين، فقدم في شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم صرفه الأمير منتصف خمس وتسعين ومائة لسنة وثلاثة أشهر من ولايته، وولّى جابر بن الأشعث بن يحيى بن النعمان الطائي منتصف خمس وتسعين ومائة فأخرجه الجند منها سنة وست وتسعين ومائة لسنة من ولايته. ثم ولّى المأمون عليها عباد بن محمد بن حيّان البلخيّ مولى كندة، ويكنى أبا نصر. ثم عزله لسنة ونصف من ولايته في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولى المطلب بن عبد الله بن مالك ابن الهيثم الخزاعيّ، وقدمها من مكة في منتصف ربيع الأوّل. ثم صرفه في شوّال لثمانية أشهر من ولايته، وولّى من عمومته العبّاس بن موسى بن عيسى فبعث عليها ابنه عبد الله، ومعه الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، فأقام عليها شهرين ونصفا، فقتله الجند يوم النحر سنة ثمان وتسعين ومائة، وولوا عليهم المطلب بن عبد الله. ثم جرت بينه وبين السدّي وبين الحكم بن يوسف مولى بني ضبّة من أهل بلخ من قوم يقال لهم الزطّ، وجرت بينه وبين أهل المطّلب حروب، وخرج هاربا إلى مكة بعد سنة وثمانية أشهر من ولايتها

(4/383)


ووليها السري بإجماع الجند في رمضان سنة مائتين. ثم وثب به الجند بعد ستة أشهر وولّوا سليمان بن غالب بن جبريل بن يحيى بن قرّة العجليّ في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين. وولّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مولى خزاعة فأقام عشرة. ثم ولّى المأمون عليها أخاه أبا إسحاق الملقّب في خلافته بالمعتصم، فأقرّ عيسى الجلودي، وبعده عمير بن الوليد التميمي في صفر سنة أربع عشرة ومائتين ثم قتل بعد شهرين، واستخلف ابنه محمد بن عمير شهرا، ثم أعاد عيسى الجلودي. ثم جاء أبو إسحاق المعتصم إلى الفسطاط، وعاد إلى الشام، واستخلف عبدويه بن جبلة في المحرّم فاتح [1] خمس عشرة فأقام سنة، وولّى عيسى بن منصور بن موسى الخراساني الرّافعي مولى بني نصر بن معاوية. ثم قدم المأمون مصر لسنة من ولايته، فسخط على عيسى بن منصور، وعمّر المقياس وجسرا آخر بالفسطاط، وولّى كندر بن عبد الله ابن نصر الصّفدىّ، ويكنّى أبا مالك، ورجع إلى العراق ومات كندر في ربيع سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر. ولما صارت الخلافة للمعتصم ولّى على مصر مولاه أشناس، ويكنّى أبا جعفر في رجب سنة ثمان عشرة، فاستخلف عليها موسى بن أبي العبّاس ثابت من بني حنيفة من أهل الشاش في رمضان سنة تسع عشرة ومائتين، واستخلف ابنه المظفّر فأقام مستخلفا لأشناس أربع سنين ونصفا. ثم عزله بعد سنتين، واستخلف مالك ابن كيد [2] بن عبد الله الصّفديّ، فقدم في ربيع سنة أربع وعشرين ومائتين ثم عزله بعد سنتين واستخلف عليّ بن يحيى الأرمني، وقدم في ربيع سنة ست وعشرين ومائتين. ثم عزله بعد سنتين وثمانية أشهر، واستخلف عيسى بن منصور الّذي كان مستخلفا للمعتصم أيام المأمون، وسخطه المأمون عند قدومه مصر فقدم عيسى في محرّم سنة تسع وعشرين ومائتين. ثم مات أشناس بعد الثلاثين، وقد استخلف على مصر أتياخ مولى المعتصم وأقيم اتياخ [3] مكان أشناس فأقرّ الواثق إتياخ على مصر، فأقرّ إتياخ عيسى بن منصور في ربيع سنة ست وثلاثين ومائتين فبقي أربعة أشهر. ثم استخلف إتياخ هرثمة بن النضر الجبليّ فقدم منتصف سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وأقام سنة، ثم مات سنة أربع وثلاثين
__________
[1] اي بداية سنة خمس عشرة. وفاتحة كل شيء أوله (قاموس) .
[2] هكذا بالأصل والصحيح كندر.
[3] إيتاخ: ابن الأثير ج 6 ص 507.

(4/384)


ومائتين، وقام بأمره ابنه حاتم رضي الله تعالى عنه، فاستخلف إتياخ على بني يحيى الأرمني في رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين. ثم صرف إتياخ عن ولاية مصر في محرم سنة خمس وثلاثين ومائتين بعد وفاة المعتصم. وولّى المتوكل على مصر ابنه المستنصر فاستخلف عليها إسحاق بن يحيى بن معاذ الختّليّ، وقدم في ذي القعدة من سنته.
وفي أيامه أخرج ولد عليّ من مصر إلى العراق. ثم صرف في ذي القعدة من سنة ست وثلاثين ومائتين، واستخلف المستنصر عليها عبد الرحمن بن يحيى بن منصور بن طلحة وريق، وهو ابن عم طاهر بن الحسين، وقدم في ذي القعدة سنة ست وثلاثين ومائتين. ثم صرفه واستخلف عنبسة بن إسحاق بن عبس بن عبسة من أهل هراة. ويكنّى أبا حاتم في صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين. وفي ولايته كبس الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين. واستخلف يزيد بن عبد الله بن دينار من مواليهم، ويكنّى أبا خالد. وفي أيامه منع العلويّون من ركوب الخيل واقتناء العبيد. ثم ولي المستنصر الخلافة في شوّال سنة سبع وأربعين ومائتين فأقرّ يزيد على ولاية مصر. ثم صرف عنها في ربيع سنة ثلاث وخمسين لعشر سنين من ولايته، وولّى المعتز مكانه مزاحم بن خاقان [1] بن عزطوج التركي في ربيع سنة أربع وخمسين، وعهد الى أزجور بن أولغ طرخان التركي فأقام خمسة أشهر وخرج حاجّا في رمضان سنة أربع وخمسين. وولي أحمد بن طولون، واستفحل بها أمره، وكانت له ولبنيه بها دولة كما نذكر الآن أخبارها.
(الخبر عن دولة أحمد بن طولون بمصر وبنيه ومواليه بني طغج وابتداء أمرهم وتصاريف أحوالهم)
قال ابن سعيد ونقله من كتاب ابن الداية في أخبار بني طولون: كان طولون أبو أحمد من الطغزغز، وهم التتر. حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون في وظيفته من المال والرقيق والبراذين. وولد له أحمد سنة عشرين ومائتين من جارية اسمها ناسم.
وتوفي طولون سنة أربعين ومائتين، وكفله رفقاء أبيه بدار الملك حتى ثبتت مرتبته، وتصرّف في خدمة السلطان، وانتشر له ذكر عند الأولياء فاق به على أهل طبقته،
__________
[1] توفي سنة 253 كما في الكامل ج 7 ص 183 فكيف يكون ولي مصر سنة 254؟
ابن خلدون م 25 ج 4

(4/385)


وشاع بين الترك صونه ودينه وأمانته على الأسرار والأموال والفروج. وكان يستصغر عقول الأتراك، ويرى أنهم ليسوا بأهل للرتب. وكان يحبّ الجهاد. وطلب من محمد بن أحمد بن خاقان أن يسأل من عبد الله الوزير أن يكتب لهما بأرزاقهما إلى الثغر، ويقيما لك مجاهدين. وسار إلى طرسوس، وأعجبه ما عليه أهل الحقّ من تغيير المنكر وإقامة الحقّ فأنس، وعكف على طلب الحديث. ثم رجع إلى بغداد وقد امتلأ علما ودينا وسياسة. ولما تنكّر الأتراك للمستعين وبايعوا المعتزّ، وآل أمر المستعين إلى الخلع والتغريب إلى واسط، وكّلوا به أحمد بن طولون فأحسن عشرته، ووسّع عليه، وألزمه أحمد بن محمد الواسطيّ يومه، وكان حسن العشرة فكه المجالسة. ولمّا اعتزموا على قتله بعثوا إلى أحمد بن طولون أن يمضي ذلك فتفادى منه، فبعثوا سعيدا الحاجب فسمله، ثم قتله. ودفنه ابن طولون وعظم محلّه بذلك عند أهل الدولة، انتهى كلام ابن سعيد. وقال ابن عبد الظاهر: وقفت على سيرة للإخشيذ قديمة عليها خطّ الفرغاني وفيها أن أحمد هو ابن النج من الأتراك، كان طولون صديق أبيه ومن طبقته. فلما مات النج ربّاه طولون وكفله، فلمّا بلغ من الحداثة مشى مع الحشوية وغزا، وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار معدودا في الثقات. وولي مصر واستقرّ بها. قال صدر الدين بن عبد الظاهر: ولم أر ذلك لغيره من المؤرخين انتهى. ولما وقع اضطراب الترك ببغداد وقتل المستعين وولي المعتز واستبدّ عليه الأتراك وزعيمهم يومئذ باك باك [1] وولّاه المعتزّ مصر، ونظر فيمن يستخلفه عليها، فوقع اختياره على أحمد بن طولون فبعثه عليها، وسار معه أحمد بن محمد الواسطي، ويعقوب بن إسحاق، ودخلها في رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين وعلى الخوارج [2] بها أحمد بن المدبّر، وعلى البريد سفير مولى قبيجة [3] فأهدى له ابن المدبّر، ثم استوحش منه، وكاتب المعتز بأنّ ابن طولون يروم العصيان وكاتب صاحب البريد بمثل ذلك، فسطا بسفير صاحب البريد ومات من غده. ثم قتل المعتزّ وولي المهتدي فقتل باك باك، ورتّب مكانه يارجوج [4] ، وولّاه مصر. وكانت
__________
[1] بابكيال: ابن الأثير ج 7 ص 187.
[2] مقتضى السياق الخراج، وليس للخوارج اي محل هنا.
[3] الصحيح قبيحة وهي أم المعتزّ وقد سمّاها بهذا الاسم المتوكّل لحسنها وجمالها.
[4] ياركوج التركي: ابن الأثير ج 7 ص 187.

(4/386)


بينه وبين أحمد بن طولون مودّة أكيدة، فاستخلفه على مصر، وأطلق يده على الإسكندرية والصعيد بعد أن كان مقتصرا على مصر فقط. وجعل إليه الخراج فسقطت رتبة ابن المدبّر. ثم أعاده المعتمد فلم ينهض إلى مساماة ابن طولون ولا منازعته. ثم كتب إليه المعتمد بضبط عيسى بن شيخ الشيبانيّ، وكان يتقلّد فلسطين والأردن، وتغلّب على دمشق، وطمع في مصر ومنع الحمل. واعترض حمل ابن المدبّر، وكان خمسة وسبعين حملا من الذهب فأخذها، فكتب إليه المعتمد يومئذ بولاية أعماله فادّعى العجز، وأنكر مال الحمل ونزع السواد، وأنفذ أناجور من الحضرة في العساكر إلى دمشق سنة سبع وخمسين. ثم خرج أحمد بن طولون إلى الإسكندرية ومعه أخوه موسى وكان يتجنى عليه، ويرى أنه لم يوف بحقّه، وظهر ذلك منه في خطابه فأوقع به ونفاه، وحبس كاتبه إسحاق بن يعقوب، واتهمه بأنه أفضى بسرّه إلى أخيه. وخرج أخوه حاجّا، وسار من هنالك إلى العراق، ووصف أخاه بالجميل فحظي بذلك عند الموفّق. واستفحل أمر أحمد واستكثر من الجند وخافه أناجور بالشام. وكتب الموفّق يغريه بشأنه وأنه يخشى على الشام منه.
فكتب الموفّق إلى ابن طولون بالشخوص إلى العراق لتدبير أمر السلطان، وأن يستخلف على مصر فشعر ابن طولون بالمكيدة في ذلك، فبعث كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى يارجوج وإلى الوزير، وحمل إليهما الأموال والهدايا. وكان يارجوج متمكّنا في الدولة فسعى في أمره، وأعفاه من الشخوص وأطلق ولده وحرمه، واشتدّت وطأة ابن طولون وخافه أحمد بن المدبّر، فكتب إلى أخيه إبراهيم أن يتلطّف له في الانصراف عن مصر فورد الكتاب بتقليده خراج دمشق وفلسطين والأردن، وصانع ابن طولون بضياعه التي ملكها، وسار إلى عمله بمصر وشيّعه ابن طولون ورضي عنه وذلك سنة ثمان وخمسين ومائتين وولي الوزير على الخراج من قبله، وتقدّم لابن طولون باستحثاثه، فتتابع حمل الأموال إلى المعتمد. ثم كتب ابن طولون بأن تكون جباية الخراج له فأسعف بذلك، وأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليده خراج مصر وضريبتها، وخراج الشام. وبعث إليه نفيس الخادم ومعه صالح بن أحمد بن حنبل قاضي الثغور، ومحمد بن أحمد الجزوعي قاضي واسط شاهدين بإعفائه ما زاد على الرسم من المال والطراز. ومات يارجوج في رمضان سنة تسع وخمسين وكان صاحب مصر، ومن أقطاعه. ويدعى له قبل ابن طولون، فلمّا مات استقل

(4/387)


أحمد بمصر.
(فتنة ابن طولون مع الموفق)
لما استأمن الزنج وتغلّبوا على نواحي البصرة، وهزموا العساكر بعث المعتمد إلى الموفّق، وكان المهتدي نفاه إلى مكة، فعهد له المعتمد بعد ابنه المفوّض، وقسّم ممالك الإسلام بينهما. وجعل الشرق للموفّق ودفعه لحرب الزنج، وجعل الغرب للمفوّض، واستخلف عليه موسى بن بغا، واستكتب موسى بن عبيد الله بن سليمان بن وهب. وأودع كتاب عهدهما في الكعبة. وسار الموفّق لحرب الزنج، واضطرب الشرق، وقعد الولاة عن الحمل، وشكا الموفق الحاجة إلى المال. وكان ابن طولون يبعث الأموال إلى المعتمد يصطنعه بذلك، فأنفذ الموفّق نحريرا خادم المتوكّل إلى أحمد بن طولون يستحثّه لحمل الأموال والطراز والرقيق والخيل، ودسّ إليه أن يعتقله واطلع على الكتب، وقتل بعض القوّاد وعاقب آخرين وبعث مع نحرير ألفي ألف ومائتي ألف دينار ورقيقا وطرزا. وجمع الرسم وبعث معه من أسلمه إلى ثقة أناجور صاحب الشام. ولما فعل ابن طولون بنحرير ما فعل، كتب الموفّق إلى موسى بن بغا بصرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها أناجور. فكتب إلى أناجور بتقليدها فعجز عن مناهضة أحمد، فسار موسى بن بغا ليسلّم إليه مصر، وبلغ الرقّة واستحثّ أحمد في الأموال، فتهيّأ أحمد لحربه، وحصّن الجزيرة معقلا لحربه وذخيرته. وأقام موسى بالرقّة عشرة أشهر، واضطرب عليه الجند وشغبوا وطالبوه بالأرزاق واختفى كاتبه موسى بن عبيد الله بن وهب، فرجع وتوفي سنة أربع وستين ومائتين ثم كتب الموفّق إلى ابن طولون باستقلال ما حمله من المال، وعنّفه وهدّده فأساء ابن طولون جوابه، وأنّ العمل لجعفر بن المعتمد ليس لك فأحفظ ذلك الموفّق، وسأل من المعتمد أن يولّي على الثغور من يحفظها، وأنّ ابن طولون لا يؤمن عليها لقلّة اهتمامه بأمرها، فبعث محمد بن هارون التغلبيّ عامل الموصل، وركب السفن فألقته الريح بشاطئ دجلة، فقتله الخوارج أصحاب مسا والساري
.

(4/388)


(ولاية أحمد بن طولون على الثغور)
وكانت أمهات الثغور يومئذ أنطاكية وطرسوس والمصيصة وملطية، وكان على أنطاكية محمد بن عليّ بن يحيى الأرمني، وعلى طرسوس سيما الطويل وإليه أمر الثغور. وجاء في بعض أيامه إلى أنطاكية فمنعه الأرمني من الدخول فدسّ إلى أهل البلد بقتله فقتلوه، وأحفظ ذلك الموفّق فولّى على الثغور أرجون بن أولغ طرخان التركي، وأمره بالقبض على سيما الطويل فقام بالثغور، وأساء التصرّف، وحبس الأرزاق عن أهلها. وكانت قلعة لؤلؤة من قلاع طرسوس في نحر العدوّ، وأهمّ أهل طرسوس أمرها، فبعثوا إلى حاميتها خمسة آلاف دينار رزقا من عندهم، فأخذها أرجون لنفسه، وضاعت حاميتها وافترقوا. وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله وكتب الموفّق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور، وأن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله طحشي بن بكروان، وحسنت حالهم وطلب منه ملك الروم الهدنة. واستأذن في ذلك ابن طولون فمنعه، وقال: إنما حملهم على ذلك تخريبكم لقلاعهم وحصونهم فيكون في الصلح راحة لهم فحاش للَّه منه، وأمره برمّ الثغور وأرزاق الغزاة.
(استيلاء أحمد بن طولون على الشام)
قد تقدّم لنا ولاية أناجور [1] على دمشق سنة سبع وخمسين ومائتين وما وقع بينه وبين أحمد بن طولون. ثم توفي أناجور في شعبان سنة أربع وستين ومائتين ونصّب ابنه عليّ مكانه. وقام يدبّر أمره أحمد بن بغا وعبيد الله بن يحيى بن وهب. وسار إلى الشام موريا بمشارفة الثغور، واستخلف ابنه العبّاس على مصر، وضمّ إليه أحمد بن محمد الواسطي، وعسكر في مينة الإصبع، وكتب إلى عليّ بن أناجور بإقامة الميرة للعساكر فأجاب الآمال. وسار ابن طولون إلى الرملة، وبها محمد بن أبي رافع من
__________
[1] أماجور: ابن الأثير ج 7 ص 316- والمختصر في اخبار البشر ج 2 ص 48.

(4/389)


قبل أناجور، ومدبّر دولته أحمد بن [1] لك منذ نفاه المهتدي فأكرمه.
ثم سار عن دمشق، واستخلف عليها أحمد بن دوغياش، ورحل الى حمص وبها أكبر قوّاد أناجور فشكت الرعية منه فعزله، وولّى يمتا التركي. ثم سار إلى أنطاكية وقد امتنع بها سيما الطويل بعد أن كتب بالطاعة، وأن ينصرف عنه فأبى وحاصرها وشدّ حصارها. وضجر أهلها من سيما فداخل بعضهم أحمد بن طولون ودلّوه على بعض المسارب فدخلها منه في فاتحة خمس وستين وقتل سيما الطويل وقبض على أمرائه وكاتبه. ثم سار إلى طرسوس فملكها، ودخلها في خلق كثير، وشرع في الدخول إلى بلاد الروم للغزو. وبينما هو يروم ذلك جاءه الخبر بانتقاض ابنه العبّاس الّذي استخلفه بمصر فرجع، وبعث عسكرا إلى الرقّة وعسكرا إلى حرّان، وكانت لمحمد بن أناشر [2] فأخرجوه عنها وهزموه. وبلغ الخبر إلى أخيه موسى، فسار إلى حرّان وكان شجاعا. وكان مقدّم العسكر بحرّان ابن جيعونه [3] فأهمه أمرهم، فقال له أبو الأغرّ من العرب: أنا آتيك بموسى واختار عشرين فارسا من الشجعان وسار إلى معسكر موسى فأكمن بعضهم ودخل بالباقين بعض الخيام فعقدت، واهتاج العسكر، وهرب أبو الأغرّ واتبعوه فخرج عليهم الكمين فهزموهم وأسر موسى، وجاء به أبو الأغرّ إلى ابن جيعونة قائد ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر سنة ست وستين ومائتين
(الخبر عن انتقاض العبّاس بن أحمد بن طولون على أبيه)
لما رحل أحمد بن طولون إلى الشام واستخلف ابنه العبّاس، وكان أحمد بن الواسطي محكما في الدولة. وكان للعبّاس بطانة يدارسونه الأدب، والنحو وأراد أن يولّي بعضهم الوظائف، ولم يكونوا يصلحون لها، فمنع الواسطي من ذلك خشية الخلل في الأعمال، فحمل هؤلاء البطانة عليه عند العبّاس وأغروه به. وكتب هو إلى أحمد
__________
[1] كان مدبر دولة علي بن اماجور أحمد بن بغا
[2] محمد بن أتامش: ابن الأثير ج 7 ص 318.
[3] هو أحمد بن جيعويه: المرجع السابق.

(4/390)


يشكوهم فأجابه بمداراة الأمور إلى حين وصوله. وكان محمد بن رجاء كاتب أحمد مداخلا لابنه العبّاس فكان يبعث إليه بكتب الواسطي يتنزّل له، فاطّلع على جواب أبيه عن كتبه بالمداراة، فازداد خوفا وحمل ما كان هنالك من المال والسلاح، وهو ألف ألف دينار. وتسلّف من التجّار مائتي ألف أخرى، واحتمل أحمد بن محمد الواسطي وأيمن الأسود مقيّدين، وسار إلى برقة. ورجع أحمد إلى مصر وبعث له جماعة فيهم القاضي أبو بكرة بكّار بن قتيبة والصابوني القاضي وزياد المرّيّ مولى أشهب، فتلطّفوا به بالموعظة حتى لان، ثم منعه بطانته وخوّفوه فقال لبكّار:
ناشدتك الله هل تأمنه عليّ؟ فقال: هو قد حلف، وأنا لا أعلم فمضى على ريبته.
ورجع القوم إلى أبيه وسار هو إلى إفريقية يطلب ملكها، وسهّل عليه أصحابه أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحبها، وكتب إليه بأنّ المعتمد قلّده إفريقية، وأنه أقرّه عليها. وانتهى إلى مدينة لبدة [1] فخرج عليه عامل ابن الأغلب فقبض عليه، ونهب البلد وقتل أهله، وفضح نساءهم فاستغاثوا بإلياس بن منصور كبير نفوسة ورئيس الإباضيّة، وقد كان خاطبه يتهدّده على الطاعة. وبلغ الخبر إلى ابن الأغلب فبعث العساكر مع خادمه بلاغ، وكتب إلى محمد بن قهرب عامل طرابلس بأن يظاهر معه على قتال العبّاس فسار ابن قهرب وناوشه القتال من غير مسارعة. ثم صحبهم الياس في اثني عشر ألفا من قومه. وجاء بلاغ الخادم من خلفه فأجفل، واستبيح أمواله وذخائره، وقتل أكثر من كان معه، وأفلت بحاشيته. وانطلق أيمن الأسود من القيد ورجع إلى مصر. وجاء العبّاس إلى برقة مهزوما وكان قد أطلق أحمد الواسطي بعد أن ضمن حزب برقة إحضاره، فلما رجع أعاده إلى محبسه فهرب من المحبس، ولحق بالفسطاط ووجد أحمد بن طولون قد سار إلى الإسكندرية عازما على الرحيل إلى برقة، فهوّن أمره، ومنعه من الرحيل بنفسه، وخرج طبارجي وأحمد الواسطي فجاءوا به مقيّدا على بغل، وذلك سنة سبع وستين ومائتين وقبض على كاتبه محمد بن رجاء وحبسه لما كان يطلع ابنه العبّاس على كتبه، ثم ضرب ابنه وهو باك عليه وحبسه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى لبلة، ولبلة هي قصبه كورة بالأندلس وليست معنية هنا. والصحيح لبدة وهي مدينة بين برقة وافريقية، وقيل بين طرابلس وجبل نفوسة. (معجم البلدان) .

(4/391)


(خروج الصوفي والعمري بمصر)
كان أبو عبد الرحمن العمريّ بمصر، وهو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، مقيما بالقاصية من الصعيد، وكان البجاة يغيرون في تلك الأعمال ويعيثون فيها. وجاءوا يوم عيد فنهبوا وقتلوا، فخرج هذا العمري غضبا للَّه، وأكمن لهم في طريقهم ففتك بهم، وسار في بلادهم حتى أعطوه الجزية، واشتدّت شوكته.
وزحف العلويّ للقائه فهزمه العمري، وذلك سنة ستين ومائتين وكان من خبر هذا العلويّ أنه ظهر بالصعيد سنة سبع وخمسين ومائتين وذكر أنّ اسمه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، ويعرف بالصوفيّ، فملك مدينة أسنا ونهبها، وعاث في تلك الناحية. وبعث إليه ابن طولون جيشا فهزمهم، وأسر مقدّم الجيش فقطعه فأعاد إليه جيشا آخر، وانهزم إلى الواحات. ثم عاد إلى الصعيد سنة تسع وخمسين ومائتين وسار إلى الأشمونين. ثم سار للقاء العمري وانهزم إلى أسوان، وعاث في جهاتها. وبعث إليه ابن طولون العسكر فهرب إلى عيذاب، وعبر البحر إلى مكة فقبض عليه الوالي بمكة، وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدّة، ثم أطلقه ومات بالمدينة. ثم بعث ابن طولون العسكر إلى العمري فلقي قائدهم وقال:
إني لم أخرج بالفساد ولا يؤذى مسلم ولا ذمي [1] وإنما خرجت للجهاد فشاور أميرك في فأبى، وناجزه الحرب فانهزم العسكر، ورجعوا إلى ابن طولون فأخبروه بشأنه فقال: هلّا كنتم شاورتموني فيه؟ فقد نصره الله عليكم ببغيكم. ثم وثب عليه بعد مدّة غلامان له فقتلاه وجاءا برأسه إلى أحمد بن طولون فقتلهما.
(انتقاض برقة)
وفي سنة إحدى وستين ومائتين وثب أهل برقة بعاملهم محمد بن فرج الفرغاني
__________
[1] مقتضى السياق: ولم أؤذ مسلما ولا ذميا.

(4/392)


فأخرجوه، ونقضوا طاعة ابن طولون فبعث إليهم العساكر مع غلامه لؤلؤ، وأمره بالملاينة فحاصرهم أياما وهو يلين لهم حتى طمعوا فيه، ونالوا من عسكره فبعث إلى أحمد بخبره فأمره بالاشتداد فشدّ حصارهم، ونصب عليهم المجانيق فاستأمنوا، ودخل البلد وقبض على جماعة من أعيانهم فضربهم وقطعهم، ورجع إلى مصر واستعمل عليهم مولى من مواليه، وذلك قبل خلاف العبّاس على أبيه.
(انتقاض لؤلؤ على ابن طولون)
كان ابن طولون قد ولّى مولاه لؤلؤا على حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وأنزله الرقّة، وكان يتصرّف عن أمره. ومتى وقع في مخالفته عاقب ابن سليمان كاتب لؤلؤ فسقط لؤلؤ في المال، وقطع الحمل عن أحمد بن طولون. وخاف الكاتب مغبّة ذلك، فحمل لؤلؤا على الخلاف، وأرسل إلى الموفّق بعد أن شرط على المعتمد شروطا أجابه الموفق إليها، وسار إلى الرقّة وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه وملكها منه وسلّمها إلى أحمد بن مالك بن طوق. وسار إلى الموفّق فوصل إليه بمكانه من حصار صاحب الزنج وأقبل عليه، واستعان به في تلك الحروب، وولّاه على الموصل. ثم قبض عليه سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصادره على أربعمائة ألف دينار فافتقر وعاد إلى مصر آخر أيام هارون بن خماروي فقيرا فريدا.
(مسير المعتمد الى ابن طولون وعوده عنه من الشام)
كان ابن طولون يداخل المعتمد في السرّ ويكاتبه، ويشكو إليه المعتمد ما هو فيه من الحجر والتضييق عليه من أخيه الموفّق، والموفّق بسبب ذلك ينافر ابن طولون ويسعى في إزالته عن مصر. ولما وقع خلاف لؤلؤ على ابن طولون خاطب المعتمد وخوّفه الموفّق واستدعاه إلى مصر، وأنّ الجيوش عنده لقتال الفرنج. فأجابه المعتمد إلى ذلك، وأراد لقاءه بجميع عساكره فمنعه أهل الرأي من أصحابه، وأشاروا عليه بالعدول عن المعتمد جملة، وأنّ أمره يؤل معه إلى أكثر من أمر الموفّق، من أجل بطانته التي

(4/393)


يؤثرها على كل أحد. واتصلت الأخبار بأنّ الموفّق شارف القبض على صاحب الزنج، فبعث ابن طولون بعض عساكره إلى الرقة لانتظار المعتمد، واغتنم المعتمد غيبة الموفّق وسار في جمادى سنة ثمان وستين ومائتين ومعه جماعة من القواد الذين معه فقبض عليهم وقيّدهم. وقد كان ساعد بن مخلّد وزير الموفّق خاطبه في ذلك عن الموفّق فأظهر طاعتهم حين صاروا إلى عمله، وسار معهم إلى أوّل عمل أحمد بن طولون فلم يرحل معهم حين رحلوا [1] . ثم جلس معهم بين يدي المعتمد وعذلهم في المسير إلى ابن طولون ودخولهم تحت حكمه وحجره. ثم قام بهم عند المعتمد ليناظرهم في خلوة فلما دخلوا خيمته قبض عليهم. ثم رجع إلى المعتمد فعذله في الخروج عن دار خلافته، وفراق أخيه وهو في قتال عدوّه. ثم رجع بالمعتمد والذين معه حتى أدخلهم سرّ من رأى. وبلغ الخبر إلى ابن طولون فقطع خطبة الموفّق ومحا اسمه من الطرز، فتقدّم الموفّق إلى المعتمد بلعن ابن طولون في دار العامّة، فأمر بلعنه على المنابر وعزله عن مصر [2] وفوّض إليه من باب الشاتية إلى إفريقية، وبعث إلى مكة بلعنه في المواسم فوقعت بين أصحاب ابن طولون وعامل مكة حرب، ووصل عسكر الموفق مع جعفر الباعردي، فانهزم فيها أصحاب ابن طولون وسلبوا وأمر جعفر المصريّين وقرءوا الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون.
__________
[1] المقطع كله غير واضح ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة 269: وفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمها، ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا كثير، وكان الحكم كله للموفق، والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك، وأنف منه، فكتب الى أحمد بن طولون يشكو إليه حاله سرا من أخيه الموفق، فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر، ووعده النصرة، وسيّر عسكرا الى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتنم المعتمد غيبة الموفق عنه، فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصبّر.
فلما سار الى عمل إسحاق بن كنداجيق، وكان عامل الموصل وعامّة الجزيرة، وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم ... وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق. وكان سبب وصوله الى قبضهم أنه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد، إذ هو الخليفة، ولقيهم لما صاروا الى عمله، وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الاتباع والغلمان الذين مع المعتمد، وقوّاده ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون ... ابن الأثير ج 7 ص 394.
[2] كذا بياض بالأصل، وفي تاريخ أبي الفداء المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 53 «وفي هذه السنة- 269- أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وانما أمر المعتمد بذلك مكرها لأن هواه كان مع ابن طولون» . أما في الكامل لابن الأثير ج 7 ص 397 «وفيها- 269- لعن المعتمد احمد بن طولون في دار العامة وأمر بلعنه على المنابر، وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون، وفوّض اليه من باب الشّمّاسيّة الى افريقية، وولّي شرطة الخاصة»

(4/394)