تاريخ ابن خلدون

 (اضطراب الثغور ووصول أحمد بن طولون اليها ووفاته)
كان عامل أحمد بن طولون على الثغور طلخشى بن بلذدان، واسمه خلف، وكان نازلا بطرسوس. وكان مازيار [1] الخادم مولى فتح بن خاقان معه بطرسوس وارتاب به طلخشى فحبسه فوثب جماعة من أهل طرسوس، واستقدموا مازيار من يده وولّوه. وهرب خلف وتركوا الدعاء لابن طولون فسار ابن طولون من مصر وانتهى إلى أذنة، وكاتب مازيار واستماله فامتنع، واعتصم بطرسوس فرجع ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها. ثم رجع وحاصره في فصل الشتاء بعد أن بعث إليه يدعوه [2] وانساح على معسكر أحمد وخيمه، وكادوا يهلكون، فتأخّر ابن طولون إلى أذنة، وخرج أهل طرسوس فنهبوا العسكر. وطال مقام أحمد بأذنة في طلب البرد [3] ثم سار إلى المصيصة فأقام بها ومرض هناك. ثم تماسك إلى أنطاكية فاشتدّ وجعه ونهاه الطبيب عن كثرة الغذاء فتناوله سرّا، فكثر عليه الاختلاف، لأنّ أصل علّته هيضة من لبن الجواميس. وثقل عليه الركوب فحملوه على العجلة فبلغ الفرمار، وركب من ساحل الفسطاط إلى داره، وحضره طبيبه فسهّل عليه الأمر وأشار بالحمية فلم يداوم عليها. وكثر الإسهال وحميت كبده من سوء الفكر فساءت أفعاله. وضرب بكار بن قتيبة القاضي، وأقامه للناس في الميدان، وخرق سواده وأوقع بابن هرثمة وأخذ ماله وحبسه. وقتل سعيد بن نوفل مضروبا بالسياط. ثم جمع أولياءه وغلمانه وعهد إلى ابنه أبي الجيش خمارويه. وأوصاهم بإنظاره وحسن النظر فسكنوا إلى ذلك لخوفهم من ابنه العبّاس المعتقل. ثم مات سنة ست وسبعين ومائتين لست وعشرين سنة من إمارته، وكان حازما سائسا وبنى جامعه بمصر وأنفق فيه مائة وعشرين ألف دينار، وبنى قلعة يافا، وكان يميل إلى مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وخلّف من المال عشرة آلاف ألف دينار، ومن الموالي سبعة آلاف.
__________
[1] بازمار: ابن الأثير ج 7 ص 406.
[2] بياض بالأصل في الكامل ج 7 ص 409: وراسله يستميله، فلم يلتفت الى رسالته.
[3] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 7 ص 409: وكان الزمان شتاء ومقتضى السياق: وطال مقام احمد بأذنة بسبب البرد.

(4/395)


ومن الغلمان أربعة آلاف، ومن الخيل المرتبطة مائة، ومن الدواب لركابه مائتين وثلاثين. وكان خراج مصر لأيامه مع ما ينضاف إليها من ضياع الأمراء لحضرة السلطان أربعة آلاف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وعلى المارستان وأوقافه ستين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة والجزيرة وهي المسماة لهذا العهد بقلعة الروضة ثمانين ألف دينار. وخربت بعد موته وجدّدها الصالح نجم الدين بن أيوب. ثم خربت ثانية، ولم يبق منها إلا أطلال دائرة، وكان يتصدّق في كل شهر بألف دينار، ويجري على المسجونين خمسمائة دينار في كل شهر، وكانت نفقة مطابخه وعلوفته ألف دينار في كل يوم.
(ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون)
ولما توفي أحمد بن طولون اجتمع أهل الدولة وخواص الأولياء وكبيرهم أحمد بن محمد الواسطي والغالب على الدولة الحسن بن مهاجر، فاتفقوا على بيعة ابنه أبي الجيش خمارويه، وأحضروا ابنه العبّاس من محبسه وعزّاه الواسطي وهم يبكون. ثم قال بايع لأخيك فأبى، فقام طبارجي وسعد الآيس [1] من الموالي، وسحبوه إلى حجرة في القصر فاعتقلوه بها، وأخرج من الغد ميتا، وأخرجوا أحمد إلى مدفنه وصلى عليه ابنه أبو الجيش، وواراه ورجع إلى القصر مقيما لأمر سلطانه.
(مسير خمارويه الى الشام وواقعته مع ابن الموفق)
ولما توفي أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداج عاملا على الجزيرة والموصل، وابن أبي الساج على الكوفة، وقد ملك الرحبة من يد أحمد بن مالك فطمعا في ملك الشام، واستأذنا الموفّق فأذن لهما ووعدهما بالمدد. وسار إسحاق إلى الرقّة والثغور والعواصم فملكها من يد ابن دعّاس عامل ابن طولون. واستولى إسحاق على حمص وحلب وأنطاكية، ثم على دمشق. وبعث خمارويه العساكر إلى الشام فملكوا دمشق
__________
[1] سعيد الأيسر: ابن الأثير ج 7 ص 415.

(4/396)


وهرب العامل الّذي انتقض بها. ثم سار العسكر إلى شيزر فأقام عليها قبالة إسحاق وابن أبي الساج، وهما ينتظران المدد من العراق. ثم هجم الشتاء فتفرّق عسكر خمارويه في دور شيزر ووصل العسكر من العراق مع أبي العبّاس أحمد بن الموفّق الّذي صارت إليه الخلافة ولقّب المعتضد فكبسوا عسكر خمارويه في دور شيزر وفتكوا فيهم. ونجا الفلّ إلى دمشق والمعتضد في اتباعهم فارتحلوا عنها، وملكها المعتضد في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ولحق عسكر خمارويه بالرملة فأقاموا بها وكتبوا إلى خمارويه بالخبر، وسار المعتضد نحوهم من دمشق. وبلغه وصول خمارويه وكثرة عساكره. فهمّ بالعود ومعه أصحاب خمارويه الذين خالفوا عليه، ولحقوا به وكان ابن كنداج وابن أبي الساج متوحشين من المعتضد لسوء معاملته لهما. والتقى العسكران على الماء الّذي عليه الطواحين بالرملة. فولّى خمارويه منهزما مع عصابة معه ليس لهم دربة بالحرب. ومضى إلى مصر بعد أن أكمن مولاه سعدا الآيس في عسكر. وجاء المعتضد فملك خيام خمارويه وسواده وهو يظنّ الظفر، فخرج سعد الآيس من كمينه وقصد الخيام وظنّ المعتضد أن خمارويه قد رجع فركب وانهزم لا يلوي على شيء. وجاء إلى دمشق فمنعوه الدخول فمضى إلى طرسوس، ولما افتقد سعد الآيس خمارويه نصّب أخاه أبا العشائر لقيادة العساكر، ووضع العطاء، ووصلت البشائر إلى مصر فسرّ خمارويه بالظفر، وخجل من الهزيمة، وأكثر الصدقة وأكرم الأسرى وأطلقهم. وسارت عساكره إلى الشام فارتجعوه كله من أصحابه فأخرجوهم، ولحقوا بالعراق وغزا بالصائفة هذه السنة مازيار صاحب الثغر، وغنم وعاد. ثم غزا كذلك سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
(فتنة ابن كنداج وابن أبي الساج والخطبة لابن طولون بالجزيرة)
كان ابن أبي الساج عاملا على قنّسرين وإسحاق على الجزيرة والموصل فتنافسوا في الأعمال واستظهر ابن أبي الساج بخمارويه، وخطب له بأعماله، وبعث ابنه رهينة إليه، فسار في عساكره بعد أن بعث إليه الأموال وانتهى إلى السنّ، وعبر ابن أبي الساج الفرات ولقي إسحاق بن كنداج على الرقّة فهزمه، وجاز خمارويه من بعده فعبر

(4/397)


الفرات إلى الرافقيّة، ونجا إسحاق إلى ماردين، وحصره ابن أبي الساج. ثم خرج وسار إلى الموصل فصدّه ابن أبي الساج عنها، وهزمه فعاد إلى ماردين. واستولى ابن أبي الساج على الجزيرة والموصل، وخطب في أعمالها لخمارويه، ثم لنفسه بعده. وبعث العساكر مع غلامه فتح لجباية نواحي الموصل فأوقع بالشراة اليعقوبيّة ومكر بهم.
وعلى أصحابهم بما فعل معهم فجاءوا إليه، وهزموه واستلحموا أصحابه، ونجا ابن أبي الساج في فلّ قليل. ثم انتقض ابن أبي الساج على خمارويه سنة خمس وسبعين ومائتين وذلك أنّ إسحاق بن كنداج سار إلى خمارويه بمصر وصار في جملته فانتقض ابن أبي الساج. وسار خمارويه إليه فلقيه على دمشق في المحرّم فانهزم ابن أبي الساج، واستبيح معسكره وكان وضع بحمص خزائنه، فبعث خمارويه عسكرا إلى حمص فمنعوه من دخولها، واستولوا على خزائنه. ومضى ابن أبي الساج إلى حلب، ثم إلى الرقّة وخمارويه في اتباعه. ثم فارق الرقّة الى الموصل، وعبر خمارويه الفرات واحتلّ مدينة بلد، وأقام بها. وسار ابن أبي الساج الى الحديثة. وبعث خمارويه عساكره وقوّاده مع إسحاق بن كنداج في طلب ابن أبي الساج فعبر دجلة، وأقام بتكريت وإسحاق في عشرين ألفا، وابن أبي الساج في ألفين، وأقاموا يترامون في العدوتين. ثم جمع ابن كنداج السفن ليمدّ الجسر للعبور، فخالفهم ابن أبي الساج إلى الموصل ونزل بظاهرها فرحلوا في اتباعه فسار لقتالهم فانهزم إسحاق إلى الرقة وتبعه ابن أبي الساج. وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفرات إلى الشام وأعمال حمازويه فأجابه بالتربص وانتظار المدد. ولما انهزم إسحاق سار إلى خمارويه وبعث معه العسكر، ورجع فنزل على حدّ الفرات من أرض الشام، وابن أبي الساج قبالته على حدود الرقّة، فعبرت طائفة من عسكر ابن كنداج لم يشعروا بهم، وأوقعوا بجمع من عسكر ابن أبي الساج، فلما رأى أن لا مانع لهم من العبور سار إلى الرقّة إلى بغداد، وقدم على الموفّق سنة ست وسبعين ومائتين فأقام عنده إلى أن ولّاه أذربيجان في سنته واستولى ابن كنداج على ديار ربيعة وديار مضر، وأقام الخطبة فيها لخمارويه
.

(4/398)


(عود طرسوس الى ايالة خمارويه)
قد كنا قدّمنا أن مازيار الخادم ثار بطرسوس سنة سبعين ومائتين وحاصره أحمد بن طولون فامتنع عليه، فلمّا ولي خمارويه وفرغ من شواغله، أنفذ إلى مازيار سنة سبع وسبعين ومائتين ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف، واصطنعه فرجع إلى طاعته وخطب له بالثغور. ثم دخل بالصائفة سنة ثمان وسبعين ومائتين وحاصروا أسكند فأصابه منها حجر منجنيق رثه، ورجع إلى طرسوس فمات بها. وقام بأمر طرسوس ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه فأقرّه على ولايتها، ثم عزله واستعمل مكانه محمد ابن عمه موسى بن طولون، وكان من خبره أنّ أباه موسى لما ملك أحمد أخوه مصر تبسّط عليه بدلالة القرابة وذوي الأرحام، فلم يحتمله له أحمد وردّه عليه، وكسر جاهه فانحرف موسى وسخط دولته. ثم خاطبه في بعض مجالسه بمال لا يحتمله السلطان فضربه ونفاه إلى طرسوس، وبعث إليه بمال يتزوّده فأبى من قبوله، وسار إلى العراق. ورجع إلى طرسوس فأقام بها إلى أن مات وترك ابنه محمدا. وولّاه خمارويه وبعث إلى أميرهم راغب فأكرمه خمارويه وأنس به، وطالت مقامته عنده وشاع بطرسوس أن خمارويه حبسه فاستعظم الناس ذلك، وثاروا بأميرهم محمد بن موسى وسجنوه رهينة في راغب. وبلغ الخبر إلى خمارويه فسرّحه إلى طرسوس، فلمّا وصلها أطلقوا أميرهم محمد بن موسى، وقد سخطهم، فسار عنهم إلى بيت المقدس. وعاد ابن عجيف إلى ولايته بدعوة خمارويه. وغزا سنة ثمانين ومائتين بالصائفة ودخل معه بدر الحمامي فظفروا وغنموا ورجعوا. ثم دخل بالصائفة سنة احدى وثمانين ومائتين من طرسوس طغج بن جف الفرغاني من قبل خمارويه في عساكره طرابزون وفتح مكودية.
(صهر المعتضد مع خمارويه)
ولما ولي المعتضد الخلافة بعث إلى خمارويه خاطبا قطر الندى ابنته، وكانت أكمل نساء عصرها في الجمال والآداب. وكان متولّي خطبتها أمينه الخصيّ ابن عبد الله ابن الجصّاص، فزوّجه خمارويه بها، وبعثها مع ابن الجصّاص، وبعث معها من الهدايا

(4/399)


ما لا يوصف. وقدمت سنة تسع وسبعين ومائتين فدخل بها، وتمتع بجمالها وآدابها، وتمكّن سلطانه في مصر والشام والجزيرة إلى أن هلك.
(مقتل خمارويه وولاية ابنه جيش)
كان خمارويه قد سار سنة اثنتين وثمانين ومائتين إلى دمشق فأقام بها أياما، وسعى إليه بعض أهل بيته بأنّ جواريه يتّخذون الخصيان يفترشوهنّ، وأراد استعلام ذلك من بعضهنّ، فكتب إلى نائبة بمصر أن يقرّر بعضهنّ، فلما وصله الكتاب قرّر بعض الجواري وضربهنّ. وخاف الخصيان ورجع خمارويه من الشام، وبات في مخدعه فأتاه بعضهم وذبحه على فراشه في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين. وهرب الذين تولّوا ذلك، فاجتمع القوّاد صبيحة ذلك اليوم، وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه على كرسي سلطانه، وأفيض العطاء فيهم، وسيق الخدم الذين تولّوا قتل خمارويه فقتل منهم نيف وعشرون.
(مقتل جيش بن خمارويه وولاية أخيه هارون)
ولما ولي جيش كان صبيا غرّا فعكف على لذّاته وقرّب الأحداث والسّفلة، وتنكر لكبار الدولة، وبسط فيهم القول، وصرّح لهم بالوعيد، فأجمعوا على خلعه. وكان طغج بن جف مولى أبيه كبار الدولة، وكان عاملا لهم على دمشق فانتقض وخلع طاعته. وسار آخرون من القوّاد إلى بغداد، منهم إسحاق بن كنداج وخاقان المعلجي، وبدر بن جف أبو طغج، وقدموا على المعتضد فخلع عليهم، وأقام سائر القوّاد بمصر على انتقاضهم وقتل قائدا منهم. ثم وثبوا بجيش فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وحرقوه، وبايعوا لأخيه هارون وذلك لتسعة أشهر من ولايته.
(فتنة طرسوس وانتقاضها)
قد تقدّم لنا أن راغبا مولى الموفّق نزل طرسوس للجهاد فأقام بها، ثم غلب عليها بعد ابن عجيف. ولما ولي هارون بن خمارويه سنة ثلاث وثمانين ومائتين ترك الدعاء له،

(4/400)


ودعا لبدر مولى المعتضد، وقطع طرسوس والثغور من عمالة بني طولون. ثم بعث هارون بن خمارويه إلى المعتضد أن يقاطعه على أعماله بمصر والشام بأربعمائة ألف وخمسين ألف دينار، ويسلّم قنسرين والعواصم، وهي الثغور للمعتضد فأجابه إلى ذلك.
وسار من آمد وكان قد ملكها من يد محمد بن أحمد بن الشيخ، فاستخلف ابنه المكتفي عليها، وسار سنة ست وثمانين ومائتين فتسلّم قنّسرين والثغور من يد أصحاب هارون وجعلها مع الجزيرة في ولاية ابنه المكتفي.
(ولاية طغج بن جف على دمشق)
ولما ولي هارون بعد أخيه جيش على ما ولي عليه من اختلاف القوّاد وقوّة أيديهم، خشي أهل الدولة من افتراق الكلمة ففوّضوا أمرها إلى أبي جعفر بن إيام. كان مقدّما عند أحمد وخمارويه فأصلح ما استطاع، وبقي يرتّق الفتق ويجبر الصدع. ثم نظر إلى الجند الذين كانوا خالفوا بدمشق مع طغج بن جف فبعث إليهم بدرا الحمامي والحسين بن أحمد المارداني فأصلحا مورد الشام وأفرد الطغج بن جف بولاية دمشق، واستعملا في سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور مضطربة والقوّاد طوائف لا ينقاد منهم أحد إلى أحد إلى أن وقع ما نذكر.
(زحف القرامطة الى دمشق)
قد تقدّم لنا ابتداء أمر القرامطة وما كان منهم بالعراق والشام، وأنّ ذكرويه بن مهداويه داعية القرامطة لما هزم بسواد الكوفة وأفنى أصحابه القتل، لحق ببني القليص بن كلب بن وبرة في السماوة فبايعوه، ولقبوه الشيخ وسمّوه يحيى. وكنّوه أبا القاسم. وزعم أنه محمد بن عبد الله بن المكتوم بن إسماعيل الإمام فلقّبوه المدّثر.
وزعم أنه المشار إليه في القرآن. ولقّب غلاما من أهله المطوّق. وسار من حمص إلى حماة ومعرّة النعمان إلى بعلبكّ، ثم إلى سلميّة فقتل جميع من فيها حتى النساء والصبيان والبهائم. ونهب سائر القرى من كل النواحي. وعجز طغج بن جف وسائر ابن خلدون م 26 ج 4

(4/401)


جيشه وصاحبه هارون عن دفاعهم. وتوجّه أهل الشام ومصر إلى المكتفي مستغيثين، فسار إلى أهل الشام سنة تسعين ومائتين ومرّ بالموصل، وقدّم بين يديه أبا الأغرّ من بني حمدان في عشرة آلاف رجل، ونزل قريبا من حلب وكبسه القرمطي صاحب الشامة فقتل منهم جماعة ونجا أبو الأغرّ إلى حلب في فلّ من أصحابه. وحاصره القرمطي، ثم أفرج عنه، وانتهى المكتفي إلى الرقّة. وبعث محمد بن سليمان الكاتب في العساكر، ومعه الحسين من بني حمدان، وبنو شيبان فناهضه في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائتين على حماة، وانهزم القرامطة، وأخذ صاحب الشامة أسيرا فبعث به إلى الرقّة وبين يديه المدّثر والمطوّق، وتقدّم المكتفي إلى بغداد ولحقه محمد ابن سليمان بهم، فأمر المكتفي بضربهم وقطعهم، وضرب أعناقهم وحسم دائهم، حتى ظهر منهم من ظهر بالبحرين.
(استيلاء المكتفي على الشام ومصر وقتل هارون وشيّبان ابني خمارويه وانقراض دولة بني طولون)
ونبدأ أوّلا بخبر محمد بن سليمان المتولّي بتحويل دولة بني طولون، كان أصله من ديار مضر من الرقّة اصطنعه أحمد بن طولون وخدّمه في مصر. ثم تنكّر له وعامله في جاهه وأقاربه بما أحفظه، وخشي على نفسه فلحق ببغداد، ولقي بها مبرّة وتكرمة.
واستخدمه الخلفاء وجعلوه كاتبا للجيش، فما زال يغريهم بملك مصر إلى أن ولي هارون بن خمارويه، وفشلت دولة بني طولون بالشام، وعاث القرامطة في نواحيه وعجز هارون عن مدافعتهم، ووصل صريخ أهل الشام إلى المكتفي فقام لدفع ضررهم عن المسلمين، ودفع محمد بن سليمان لذلك، وهو يومئذ من أعظم قوّاده، فسار بالعساكر في مقدمته. ثم أمره المكتفي باتباع القرامطة، وأقام بالرقّة فسار حتى لقيهم وقاتلهم حتى هزمهم واستلحمهم، ودفع عن الشام ضررهم، ورجع بالقرمطي صاحب الشامة وأصحابه أسرى إلى المكتفي بالرقّة فرجع إلى بغداد، وقتلهم هنالك وشفى نفسه ونفس المسلمين منهم. وكان محمد بن سليمان لما تخلّف عن المكتفي عند وصوله إلى بغداد فأمره بالعود، وبعث معه جماعة من القوّاد، وأمدّه بالأموال، وبعث دميانة غلام مازيار في الأسطول، وأمره بالمسير إلى سواحل مصر، ودخول نهر

(4/402)


النيل، والقطع عن أهل مصر ففعل وضيّق عليهم. وسار محمد بن سليمان والعساكر واستولى على الشام وما وراءه، فلما قارب مصر كاتب القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد يستميلهم، فجاء إليه بدر الحمامي وكان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم. وتتابع إليه القوّاد مستأمنين، فبرز هارون لقتالهم فيمن معه من العساكر، وأقام قبالتهم واضطرب عسكره في بعض الأيام من فتنة وقعت بينهم. واقتتلوا فركب هارون ليسكّنهم فأصابته حربة من بعض المغاربة كان فيه حتفه، فقام عمه شيبان بن أحمد بن طولون بعده بالأمر، وبذل الأموال للجند من غير حسبان ولا تقدير، ثم أباح نهب ما بقي منه يصطنعهم بذلك، فنهبوه في ساعة واحدة، وتشوّف إلى جمع المال فعجز عنه واضطرب، وفسد تدبيره، وتسايل إلى محمد بن سليمان جنده، وفاوض أعيان دولته في أمره، فاتفقوا على الاستئمان إلى محمد بن سليمان، فبعث إليه مستأمنا، فسار إليه ثم تبعه قوّاده وأصحابه، فركب محمد إلى مصر واستولى عليها، وقيّد بني طولون وحبسهم، وكانوا سبعة عشر رجلا. وكتب بالفتح فأمره المكتفي بإشخاص بني طولون جميعا من مصر والشام إلى بغداد، فبعث بهم. ثم أمر بإحراق القطائع التي بناها أحمد بن طولون على شرقي مصر، وكانت ميلا في ميل فأحرقت ونهب الفسطاط.
(ولاية عيسى النوشزي على مصر وثورة الخليجي)
ولما اعتزم محمد بن سليمان على الرجوع إلى بغداد وكان المكتفي قد ولاه على مصر، فولّى المكتفي عيسى بن محمد النوشزي، وقدم في منتصف سنة اثنتين وتسعين ومائتين ثم ثار بنواحي مصر إبراهيم الخليجيّ، وكان من قوّاد بني طولون، وتخلّف عن محمد ابن سليمان. وكتب إلى المكتفي عيسى النوشزي بالخبر. وكثرت جموع الخليجي، وزحف إلى مصر، فخرج النوشزي هاربا إلى الإسكندرية وملك الخليجي مصر، وبعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد، وبدر الحمامي وعلى مقدّمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القوّاد، ولقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة ثلاث وتسعين ومائتين فهزمهم. ثم تراجعوا وزحفوا إليه وكانت بينهم حروب فني فيها

(4/403)


أكثر أصحاب الخليجي وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد، ونجا الخليجي إلى الفسطاط واختفى به. ودخل قوّاد المكتفي المدينة وأخذوا الخليجي وحبسوه. وكان المكتفي عند ما بلغته هزيمة ابن كيغلغ، وسار ابن كيغلغ في ربيع وبرز المكتفي من ورائهم يسير إلى مصر، فجاءه كتاب فاتك بالخبر وبحبس الخليجي، فكتب المكتفي بحمله ومن معه إلى بغداد. وبرز من تكريت فبعث فاتك بهم، وحبسوا ببغداد.
ورجع عيسى النوشزي إلى مصر في منتصف ثلاث وتسعين ومائتين فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين لخمس سنين من ولايته وشهرين، وقام بأمره ابنه محمد، وولّى المقتدر على مصر أبا منصور تكين الخزريّ، فقدمها آخر شوّال من سنة سبع وتسعين ومائتين، وقام واليا عليها. واستفحلت دولة العلويّين بالمغرب. وجهّز عبيد الله المهدي العساكر مع ابنه أبي القاسم سنة إحدى وثلاثمائة، فملك برقة في ذي الحجّة آخرها. ثم سار إلى مصر وملك الإسكندرية والفيّوم، وبلغ الخبر إلى المقتدر، فقلّد ابنه أبا العبّاس مصر والمغرب وعمره يومئذ أربع سنين، وهو الّذي ولي الخلافة بعد ذلك ولقّب الراضي. ولما قلّده مصر استخلف له عليها مؤنسا الخادم، وبعثه في العساكر إلى مصر وحاربهم فهزمهم. ورجعوا إلى المغرب فأعاد عبيد الله العساكر سنة اثنتين مع قائده حامسة الكتامي. وجاء في الأسطول فملك الإسكندرية، وسار منها إلى مصر، وجاءه مؤنس الخادم في العساكر فقاتله وهزمه.
ثم كانت بينهم وقعات، وانهزم أصحاب المهدي آخرا في منتصف اثنتين وثلاثمائة.
وقتل منهم نحوا من سبعة آلاف، ورجعوا إلى المغرب فقتل المهدي حامسة وعاد مؤنس إلى بغداد.
(ولاية ذكاء الأعور)
لم يزل تكين الخزري واليا على مصر استخلافا إلى أن صرف آخر اثنتين وثلاثمائة، فولّى المقتدر مكانه أبا الحسن ذكاء الأعور، وقدم منتصف صفر من سنة ثلاث فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي سنة سبع وثلاثمائة لأربع سنين من ولايته
.

(4/404)


(ولاية تكين الخزري ثانية)
لما صرف المقتدر ذكاء، ولّى مكانه أبا منصور تكين الخزري ولاية ثانية، فقدم في شعبان سنة سبع وثلاثمائة وكان عبيد الله المهدي قد جهّز العساكر مع ابنه أبي القاسم، ووصل إلى الإسكندرية في ربيع من سنة سبع وثلاثمائة وملكها. ثم سار إلى مصر وملك الجزيرة والأشمونين من الصعيد وما إليه، وكتب أهل مكة بطاعته، وبعث المقتدر من بغداد مؤنسا الخادم في العساكر فواقع أبا القاسم عدّة وقعات، وجاء الأسطول من إفريقية إلى الإسكندرية في ثمانين مركبا مددا لأبي القاسم، وعليه سليمان بن الخادم، ويعقوب الكتامي، فسار إليهم في أسطول طرسوس في خمسة وعشرين مركبا، وفيها النفط والمدد، وعليها أبو اليمن، فالتقت العساكر في الأساطيل في مرسى رشيد، فظفر أسطول طرسوس بأسطول إفريقية وأسر كثير منهم. وقتل بعضهم وأطلق البعض، وأسر سليمان الخادم فهلك في محبسه بمصر، وأسر يعقوب الكتامي وحمل إلى بغداد فهرب منها إلى إفريقية، واتصل الحرب بين أبي القاسم ومؤنس، وكان الظفر لمؤنس، ووقع الغلاء والوباء في عسكر أبي القاسم ففني كثير منهم بالموت.
ووقع الموتان في الخيل فعاد العسكر إلى المغرب، واتبعهم عساكر مصر حتى أبعدوا فرجعوا عنهم. ووصل أبو القاسم إلى القيروان منتصف السنة. ورجع مؤنس إلى بغداد وقدم تكين إلى مصر كما مرّ، ولم يزل واليا عليها إلى أن صرف في ربيع من سنة تسع وثلاثمائة
(ولاية أحمد بن كيغلغ)
ولّاه المقتدر بعد هلال بن بدر، فقدم في جمادى وصرف لخمسة أشهر من ولايته.
وأعيد تكين المرّة الثالثة، فقدم في عاشوراء سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وأقام واليا عليها تسع سنين إلى أن توفي في منتصف ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وفي أيامه جدّد المقتدر عهده لابنه أبي العبّاس على بلاد المغرب ومصر والشام،

(4/405)


واستخلف له مؤنسا، وذلك سنة ثمان عشرة وثلاثمائة. وقال ابن الأثير: وفي سنة إحدى وعشرين توفي تكين الخزري بمصر فولي عليها مكانه ابنه محمد، وبعث له القاهر بالخلع وثار به الجند فظفر بهم انتهى.
(ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية)
ولّاه القاهر في شوّال سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد أن كان ولّى محمد بن طغج، وهو عامل دمشق وصرفه لشهر من ولايته قبل أن يتسلّم العمل، وردّه إلى أحمد بن كيغلغ كما قلناه، فقدم مصر في رجب سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ثم عزل آخر رمضان من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وولي الراضي الخليفة بأن يدعى على المنبر باسمه ويزاد في ألقابه الإخشيد فقام بولاية مصر أحسن قيام ثم انتزع الشام من يده كما يذكر.
(استيلاء ابن رائق على الشام من يد الإخشيد)
كان محمد بن رائق أمير الأمراء ببغداد وقد مرّ ذكره. ثم نازعه مولاه تحكم [1] وولي مكانه سنة ست وعشرين وثلاثمائة وهرب ابن رائق ثم استتر ببغداد، واستولى عليها، ورجع الخليفة من تكريت بعد أن كان قدم تحكم، ثم كتب إليه واستردّه، وقد عقد الصلح مع ناصر الدولة بن حمدان من قبل أن يسمع بخبر بن رائق. ثم عادوا جميعا إلى بغداد، وراسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح، فأجيب وقلّده الراضي طريق الفرات وديار مضر التي هي حرّان والرّها وما جاورهما، وجند قنّسرين والعواصم، فسار إليها واستقر بها. ثم طمحت نفسه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى ملك الشام، فسار إلى مدينة حمص فملكها، وكان على دمشق بدر بن عبد الله مولى الإخشيد ويلقّب بتدبير فملكها ابن رائق من يده. وسار إلى الرملة يريد مصر. وبرز الإخشيد من مصر فالتقوا بالعريش وأكمن له
__________
[1] جاء اسمه في الكامل بجكم وقد مرّ ذكره معنا من قبل ج 8 ص 346.

(4/406)


الإخشيد، ثم التقيا فانهزم الإخشيد أولا، وملك أصحاب ابن رائق سواده ونزلوا في خيامهم، ثم خرج عليهم كمين الإخشيد فانهزموا، ونجا ابن رائق إلى دمشق في فلّ من أصحابه. فبعث إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في العسكر، فبرز إليهم ابن رائق وهزمهم، وقتل أبو نصر في المعركة، فبعث ابن رائق شلوه إلى مصر مع ابنه مزاحم بن محمد بن رائق وكتب إليه بالعزاء والاعتذار، وأن مزاحما في فدائه، فخلع عليه وردّه إلى أبيه. وتمّ الصلح بينهما على أن تكون الشام لابن رائق ومصر للإخشيد، والتخم بينهما للرملة. وحمل الإخشيد عنها مائة وأربعين ألفا كل سنة، وخرج الشام عن حكم الإخشيد وبقي في عمالة ابن رائق إلى أن قتل تحكم والبريدي.
وعاد ابن رائق من الشام إلى بغداد، فاستدعاه المتّقي وصار أمير الأمراء بها، فاستخلف على الشام أبا الحسن عليّ بن أحمد بن مقاتل. ولما وصل إلى بغداد قاتله كورتكين القائم بالدولة فظفر به، وحبسه، وقاتل عامّة أصحابه من الديلم. وزحف إليهم البريدي من واسط سنة ثلاثين وثلاثمائة فانهزم المتقي وابن رائق، وسار إلى الموصل وكان المتقي قد استنجد ناصر الدولة بن حمدان، فبعث إليه أخاه سيف الدولة ولقيه المتقي بتكريت، ورجع معه إلى الموصل، وقتل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن رائق، وولي إمارة الأمراء للمتقي. فلما سمع الإخشيد بمقتل ابن رائق سار إلى دمشق، ثم استولى يوسف بعد ذلك عليها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وولّى ناصر الدولة بن حمدان في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على أعمال ابن رائق كلّها، وهي طريق الفرات وديار مضر وجند قنسرين والعواصم وحمص أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل، وأنفذه إليها من الموصل في جماعة من القوّاد. ثم ولّى بعده في رجب ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على تلك الأعمال، وامتنع أهل الكوفة من طاعته فظفر بهم وملكها. وسار إلى حلب، وكان المتقي قد سار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة مغاضبا الأمراء توزون فأقام بالموصل عند بني حمدان. ثم سار إلى الرقّة فأقام بها، وكتب إلى الإخشيد يشكو إليه ويستقدمه، فأتاه من مصر، ومرّ بحلب فخرج عنها الحسين بن سعيد بن حمدان، وتخلّف عنه أبو بكر بن مقاتل للقاء الإخشيد فأكرمه، واستعمله على خراج مصر. وولّى على حلب يأنس المؤنسي. وسار الإخشيد من حلب إلى الرقّة في محرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وأهدى له ولوزيره الحسين بن مقلة وحاشيته، وأشار عليه بالمسير إلى مصر

(4/407)


والشام ليقوم بخدمته فأبى فخوّفه من تورون، وأن يلزم الرقّة. وكان قد أنفذ رسله إلى تورون في الصلح وجاءوه بالإجابة فلم يعرج على شيء من إشارته. وسار إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى مصر وكان سيف الدولة بالرقّة معهم فسار إلى حلب وملكها.
ثم سار إلى حمص وبعث الإخشيد عساكره إليها مع كافور مولاه، فلقيهم سيف الدولة إلى قنسرين، والتقيا لك وتحاربا، ثم افترقا على منعة وعاد الإخشيد إلى دمشق وسيف الدولة إلى حلب، وذلك سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وسارت الروم إلى حلب وقاتلهم سيف الدولة فظفر بهم.
(وفاة الإخشيد وولاية ابنه أنوجور واستبداد كافور عليه واستيلاء سيف الدولة على دمشق)
ثم توفي الإخشيد أبو بكر بن طغج بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقيل خمس وولي مكانه أبو القاسم أنوجور وكان صغيرا فاستبدّ عليه كافور، وسار من دمشق إلى مصر فخالفه سيف الدولة، فسار إلى حلب، وزحف أنوجور في العساكر إليه فعبر سيف الدولة إلى الجزيرة، وحاصر أنوجور حلب أياما. ثم وقع الصلح بينهما، وعاد سيف الدولة إلى حلب وأنوجور إلى مصر، ومضى كافور إلى دمشق وولى عليها بدرا الإخشيدي المعروف بتدبير [1] ، فرجع إلى مصر فأقام يدبّر بها سنة، ثم عزل عنها وولي أبو المظفّر طغج وقبض على تدبير.
(وفاة أنوجور ووفاة أخيه علي واستبداد كافور عليه)
ثم علت سن أبي القاسم أنوجور، ورام الاستبداد بأمره وإزالة كافور فشعر به وقتله فيما قيل مسموما سنة [2] ونصّب أخاه عليا للأمر في كفالته، وتحت استبداده إلى أن هلك.
__________
[1] ويعرف ببدير: ابن الأثير ج 8 ص 458
[2] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 342.

(4/408)


(وفاة علي بن الإخشيد وولاية كافور)
ثم توفي علي بن الإخشيد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فأعلن كافور بالاستبداد بالأمر دون بني الإخشيد. وركب بالمظلّة وكتب له المطيع بعهده على مصر والشام والحرمين وكنّاه العالي باللَّه، فلم يقبل الكنية، واستوزر أبا الفضل جعفر بن الفرات، وكان من أعاظم الملوك جوادا ممدوحا سيوسا كثير الخشية للَّه والخوف منه. وكان يداري المعزّ صاحب المغرب ويهاديه، وصاحب بغداد وصاحب اليمن، وكان يجلس للمظالم في كل سبت إلى أن هلك.
(وفاة كافور وولاية أحمد بن علي بن الإخشيد)
ثم توفي كافور منتصف سبع وخمسين وثلاثمائة لعشرة سنين وثلاثة أشهر من استبداده.
منها سنتان وأربعة أشهر مستقلا من قبل المطيع، وكان أسود شديد السواد واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارا. ولما هلك اجتمع أهل الدولة وولّوا أحمد بن علي بن الإخشيد وكنيته أبو الفوارس، وقام بتدبير أمره الحسن ابن عمه عبد الله بن طغج، وعلى العساكر شمول مولى جدّه، وعلى الأموال جعفر بن الفضل، واستوزر كاتبه جابر الرياحي. ثم أطلق ابن الفرات بشفاعة ابن مسلم الشريف، وفوّض أمر مصر إلى ابن الرياحي.
(مسير جوهر الى مصر وانقراض دولة بني طغج)
ولما فرغ المعز لدين الله من شواغل المغرب بعث قائده جوهر الصّقلي الكاتب إلى مصر، وجهّزه في العساكر، وأزاح عللها. وسار جوهر من القيروان إلى مصر، ومرّ ببرقة وبها أفلح مولى المعز فلقيه، وترجّل له فملك الإسكندرية، ثم الجيزة. ثم أجاز إلى مضر وحاصرها، وبها أحمد بن علي بن الإخشيد وأهل دولته. ثم افتتحها سنة

(4/409)


ثمان وخمسين وثلاثمائة وقتل أبا الفوارس، وبعث بضائعهم وأموالهم إلى القيروان صحبة الوفد من مشيخة مصر وقضاتها وعلمائها، وانقرضت دولة بن طغج، وأذّن سنة تسع وخمسين في جامع ابن طولون بحيّ على خير العمل. وتحوّلت الدعوة بمصر للعلويّة، واختطّ جوهر مدينة القاهرة في موضع العسكر. وسيّر جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام فغلب القرامطة عليه كما تقدّم ذلك في أخبارهم.
(الخبر عن دولة بني مروان بديار بكر بعد بني حمدان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان حق هذه الدولة أن نصل ذكرها بدولة بني حمدان كما فعلنا في دولة بني المقلّد بالموصل، وبني صالح بن مرداس بحلب، لأنّ هذه الدول الثلاث إنما نشأت وتفرّعت عن دولتهم، إلا أنّ بني مروان هؤلاء ليسوا من العرب، وإنما هم من الأكراد فأخّرنا دولتهم حتى ننسقها مع العجم. ثم أخّرناها عن دولة بني طولون لأنّ دولة بني طولون متقدّمة عنها في الزمن بكثير. فلنشرع الآن في الخبر عن دولة بني مروان وقد كان تقدّم لنا خبر باد الكردي واسمه الحسين بن دوشك، وكنيته أبو عبد الله وقيل كنيته أبو شجاع، وأنه خال أبي عليّ بن مروان الكردي، وأنه تغلّب على الموصل وعلى ديار بكر، ونازع فيها الديلم ثم غلبوه عليها وأقام بجبال الأكراد. ثم مات عضد الدولة وشرف الدولة. ثم جاء أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن إلى الموصل فملكاها. ثم حدثت الفتنة بينهما وبين الديلم وطمع باد في ملك الموصل، وهو بديار بكر فسار إلى الموصل فغلبه ابنا ناصر الدولة، وقتل في المعركة، وقد مرّ الخبر عن ذلك كله. فلما قتل خلص ابن أخته أبو علي بن مروان من المعركة، ولحق بحصن كيفا، وبه أهل باد وذخيرته، وهو من أمنع المعاقل فتحيل في دخوله بأنّ خاله أرسله، واستولى عليه وتزوّج امرأة خاله. ثم سار في ديار بكر فملك جميع ما كان لخاله باد. وزحف إليه ابنا حمدان وهو يحاصر ميّافارقين فهزمهما. ثم رجعا إليه وهو يحاصر آمد فهزمهما ثانيا، وانقرض أمرهما من الموصل، وملك أبو علي بن مروان ديار بكر وضبطها، واستطال عليه أهل ميّافارقين، وكان شيخها أبو الأصغر فتركهم يوم العيد حتى اصحروا وكبسهم بالصحراء، وأخذ أبا الأصغر فألقاه من السور،

(4/410)


ونهب الأكراد عامّة البلد، وأغلق أبو علي الأبواب دونهم، ومنعهم من الدخول فذهبوا كل مذهب، وذلك كله سنة ثمانين وثلاثمائة.
(مقتل أبي علي بن مروان وولاية أخيه أبي منصور)
كان أبو علي بن مروان قد تزوّج بنت سعد الدولة بن سيف الدولة، وزفّت إليه من حلب وأراد البناء بها بآمد فخاف شيخها أن يفعل به وبهم ما فعل في ميّافارقين فحذّر أصحابه منه، وأشار عليهم أن ينثروا الدنانير والدراهم إذا دخل، ويقصدوا بها وجهه فيضربوه فكان كذلك. ثم أغفله وضرب رأسه واختلط أصحابه، فرمى برأسه إليهم، وكرّ الأكراد راجعين إلى ميّافارقين فاستراب بهم مستحفظها أن يملكوها عليه، ومنعهم من الدخول. ثم وصل مهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميّافارقين فأمكنه المستحفظ من الدخول فملكه، ولم يكن له فيه إلا السكّة والخطبة، ونازعه أخوه أبو نصر فأقام بها مضيّقا عليه فغلبه أبو منصور، وبعثه إلى قلعة أسعرد فأقام بها مضيّقا عليه وأمّا آمد فتغلّب عليها عبد الله شيخهم أياما، وزوّج بنته من ابن دمنة الّذي تولّى قتل أبي علي بن مروان فقتله ابن دمنة، وملك آمد وبنى لنفسه قصرا ملاصقا للسور. وأصلح أمره مع مهد الدولة بالطاعة. وهادي ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك، وانتشر ذكره.
(مقتل مهد الدولة بن مروان وولاية أخيه أبي نصر)
ثم إنّ مهد الدولة [1] أقام بميّافارقين، وكان قائده شروة متحكما في دولته. وكان له مولى قد ولّاه الشرطة. وكان مهد الدولة يبغضه ويهمّ بقتله مرارا. ثم يتركه من أجل شروة، فاستفسد مولاه شروة على مهد الدولة لحضوره. فلمّا حضر عنده قتله وذلك سنة اثنتين وأربعمائة ثم خرج على أصحابه وقرابته يقبض عليهم كأنه بأمر مهد الدولة ثم مضى الى ميافارقين ففتحوا له يظنونه مهد الدولة فملكها، وكتب إلى أصحاب
__________
[1] مهذب الدولة: ابن الأثير ج 9 ص 183 المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 136.

(4/411)


القلاع يستدعيهم على لسان مهد الدولة، وفيهم خواجا أبو القاسم صاحب أرزن الروم، فسار إلى ميّافارقين، ولم يسلم القلعة لأحد. وسمع في طريقه بقتل مهد الدولة فرجع من الطريق إلى أرزن الروم، وأحضر أبا نصر بن مروان من أسعرد، وجاء به إلى أبيهم مروان. وكان قد أضرّ ولزم قبر ابنه أبي علي بأرزن هو وزوجته فأحضره خواجا عنده، واستحلفه عند أبيه وقبر أخيه، وملك أرزن. وبعث شروة من ميّافارقين إلى أسعرد عن أبي نصر بن مروان، ففاته إلى أرزن، فأيقن بانتقاض أمره. ثم ملك أبو نصر سائر ديار بكر، ولقّب نصير الدولة، ودامت أيامه. وأحسن السيرة وقصده العلماء من سائر الآفاق وكثروا عنده. وكان ممن قصده أبو عبد الله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعيّ بديار بكر، وقصده الشعراء ومدحوه وأجزل جوائزهم. وأقامت الثغور معه آمنة، والرعية في أحسن ملكة إلى أن توفي.
(استيلاء نصير الدولة بن مروان على الرها)
كانت مدينة الرّها بيد عطير، وكاتبوا أبا نصر بن مروان أن يملكوه فبعث نائبة بآمد ويسمى زنك فملكها، واستشفع عطير بصالح بن مرداس صاحب حلب إلى ابن مروان فأعطاه نصف البلد، ودخل إلى نصير الدولة بميّافارقين فأكرمه، ومضى إلى الرّها فأقام بها مع زنك. وحضر بعض الأيام مع زنك في صنيع، وحضر ابن النائب الّذي قتله فحمله زنك على الأخذ بثأره فاتبعه لما خرج، ونادى بالثأر واستنفر أهل السوق فقتلوه في ثلاثة نفر. وكمن له بنو نمير خارج البلد وبعثوا من يغير منهم عليها، فخرج زنك في العسكر. ولما جاوز الكمين خرجوا عليه وقاتلوه وأصابه حجر فمات من ذلك فاتح ثمان عشرة وأربعمائة وخلصت الرّها لنصير الدولة. ثم شفع صالح بن مرداس في ابن عطير وابن شبل فردّ إليهما البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم كما يأتي.
(حصار بدران بن مقلد نصيبين)
كانت نصيبين لنصير الدولة بن نصر بن مروان، فسار إليها بدران بن المقلّد في جموع

(4/412)


بني عقيل، وحاصرها فظهر على العساكر الذين بها، وأمدّهم نصير الدولة بعسكر آخر، فبعث بدران من اعترضهم في طريقهم وهزمهم، فاحتفل ابن مروان في الاحتشاد وبعث العساكر إلى نصيبين، فخرجوا عليه فهزموه أوّلا. ثم كرّ عليهم ففتك فيهم، وأقام يقاتلهم حتى سمع بأنّ أخاه قرواش وصل إلى الموصل فخشي منه وارتحل عنها.
(دخول الغز الى ديار بكر)
هؤلاء الغزّ من طوائف الترك، وهم الشعب الذين منهم السلجوقية، وقد تقدّم لنا كيف أجازوا إلى خراسان لمّا قبض محمد بن سبكتكين على أرسلان بن سلجق منهم فحبسه، وما ظهر من فسادهم في خراسان وكيف أوقع بهم مسعود بن سبكتكين من بعد أبيه محمود، ففروا إلى الذين يريدون أذربيجان واللحاق بمن تقدّم منهم هنالك، ويسمون العراقية بعد أن عاثوا في همذان وقزوين وأرمينية. وعاث الآخرون في أذربيجان وقتل وهشوذان صاحب تبريز منهم جماعة. ثم عاثوا في الأكراد واستباحوهم. ثم جاءهم الخبر بأن نيال إبراهيم أخا السلطان طغرلبك سار إلى الريّ فأجفلوا منها سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووصلوا أذربيجان واتصلت الأخبار بأن نيال في أثرهم، فأجفلوا ثانيا خوفا منه، لأنهم كانوا له ولإخوته رعيّة. ولما أجفلوا سلك بهم الدليل في الجبال على الزّوزان [1] ، وأسهلوا إلى جزيرة ابن عمر، فسار بعضهم إلى ديار بكر، ونهبوا قزوين ويا زيدي [2] والحسنية، وبقي آخرون بالجانب الشرقي من الجزيرة، وسار آخرون إلى الموصل. وكان سليمان بن نصير الدولة قيّما بها فراسلهم في الصلح على أن يسير معهم إلى الشام فقبلوا. ثم صنع سليمان صنيعا ودعا إليه ابن غرغلي [3] وقبض عليه وحبسه. وأجفل الغز في كل ناحية واتبعهم عساكر نصير الدولة وقرواش والأكراد البثنويّة [4] . ثم قصدت العرب العراق للمشتى،
__________
[1] وفي نسخة أخرى الزوزون.
[2] بازبدى: ابن الأثير ج 9 ص 386.
[3] غزغلي: ابن الأثير ج 9 ص 386.
[4] البشنوية: المرجع السابق.

(4/413)


وعاد الغزّ الى جزيرة ابن عمر فحصروها، وخرّبوا ديار بكر نهبا وقتلا. وصانعهم نصير الدولة بإطلاق منصور بن غرغلي الّذي حبسه سليمان فلم يكف إطلاقه من فسادهم، وساروا إلى نصيبين وسنجار والخابور، ودخل قرواش الموصل كما نبهنا، واتبعه طائفة منهم فكان من خبره معهم ما قدّمناه في أخباره.
(مسير الروم الى بلد ابن مروان ثم فتح الرها)
ولما كانت الدعوة العلويّة قد انتشرت في الشام والجزيرة، وكان سبب ذلك أنّ وثّابا النميريّ صاحب حرّان والرقّة يخطب لهم، فلمّا ولي الوزيري للعلويّين على الشام، بعث إلى ابن مروان بالتهديد، وأنه يسير إلى بلاده، فاستمدّ ابن مروان قرواش صاحب الموصل وشبيب بن وثّاب صاحب الرقّة، ودعاهما إلى الموافقة، وقطع الدعوة العلويّة، فأجابوه وخطبوا للقائم وقطعوا الخطبة للمستنصر، وذلك سنة ثلاثين وأربعمائة. فقام الوزيري في ركائبه وتهدّدهم، وأعاد ابن وثّاب خطبة العلويّة بحرّان في ذي الحجة آخر السنة.
(مقتل سليمان بن نصير الدولة)
كان نصير الدولة قد ولّى ابنه سليمان، (ويكنّى أبا حرب) الأمور وكان يحاوره في الجزيرة بشرموشك بن المحلي زعيم الأكراد في حصون له هنالك منيعة، ووقعت بينهما منافرة. ثم استماله سليمان ومكر به، وكان الأمير أبو طاهر البثنويّ صاحب قلعة فنك وغيرها، وهو ابن أخت نصير الدولة، وكان صديقا لسليمان فكان مما استماله به موشك أن زوّجه بابنة أبي طاهر فاطمأن موشك إلى سليمان، وسار إلى غزو الروم بأرمينية. وأمدّه نصير الدولة ابن مروان بالعساكر والهدايا، وقد كان خطب له من قبل ذلك، وأطاعه فشفع عنده في موشك فقتله سليمان، وقال لطغرلبك أنه مات.
وشكر له أبو طاهر حيث كان صهره واتخذها ذريعة إلى قتله، فخافه سليمان، وتبرّأ إليه مما وقع فأظهر القبول، وطلب الاجتماع من حصنه فنك لذلك. وخرج سليمان

(4/414)


إليه في قلّة من أصحابه فقتله عبيد الله وأدرك من ثأر أبيه وبلغ الخبر إلى نصير الدولة فبادر بابنه نصير، وبعث معه العساكر لحماية الجزيرة. وسمع قريش بن بدران صاحب الموصل فطمع في ملك جزيرة ابن عمر فسار إليها، واستمال الأكراد الحسنية والبثنوية، واجتمعوا على قتال نصير بن مروان فأحسن المدافعة عن بلده، وقاتلهم وجرح قريش جراحا عديدة، ورجع إلى الموصل وأقام نصير بن مروان بالجزيرة والأكراد على خلافه.
(مسير طغرلبك الى ديار بكر)
ولما انصرف طغرلبك من الموصل وملكها وفرّ قريش عنها ثم عاود الطاعة وذلك سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فسار طغرلبك بعدها إلى ديار بكر وحاصر جزيرة ابن عمر.
وكان ابن مروان في خدمته وهداياه مترادفة عليه في مسيره، الى الموصل وعوده.
فبعث إليه بالمال مفاداة عن الجزيرة، ويذكر ما هو بصدده من الجهاد وحماية الثغر فأفرج عنه طغرلبك، وسار إلى سنجار كما ذكرناه في أخبار قريش.
(وفاة نصير الدولة [1] بن مروان وولاية ابنه نصر)
وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة توفي نصير الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر، وكان لقبه القادر باللَّه، ومات لاثنتين وخمسين سنة من ولايته. وكان قد عظم استيلاؤه، وتوفّرت أمواله، وحسّن في عمارة الثغور وضبطها أثره [2] . وكان يهادي السلطان طغرلبك بالهدايا العظيمة، ومنها حبل الياقوت الّذي كان لبني بويه، اشتراه من أبي منصور بن جلال الدولة، وأرسل معه مائة ألف دينار فحسنت حاله عنده وكان يناغي [3] عظماء الملوك في الترف، فيشتري الجارية بخمسمائة دينار
__________
[1] نصر الدولة بن مروان: ابن الأثير ج 10 ص 17/ المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180.
[2] الأصح أن يقول: وحسن اثره في عمارة الثغور وضبطها.
[3] بمعنى يضاهي.

(4/415)


وأكثر. واجتمع عنده منهنّ للافتراش والاستخدام أزيد من ألف. واقتنى من الأواني والآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار. وجمع في عصمته بنات الملوك، وأرسل طبّاخين الى الديار المصرية، وأنفق عليهم جملة حتى تعلموا الطبخ هنالك. ووفد عليه أبو القاسم بن المغربي من أهل الدولة العلويّة بمصر، وفخر الدولة بن جهير من الدولة العبّاسيّة، فأقبل عليهما واستوزرهما. ووفد عليه الشعراء فوصلهم، وقصده العلماء فحمدوا عنده مقامهم، ولما توفي في [1] كان الظفر فيها لنصر واستقرّ بميّافارقين ومضى أخوه سعيد إلى آمد فملكها واستقرّ الحال بينهما على ذلك.
(وفاة نصر بن نصير الدولة وولاية ابنه منصور)
ثم توفي نظام الدين نصر بن نصير الدولة في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وولي ابنه منصور، ودبّر دولته ابن الأنباري، ولم يزل في ملكه إلى أن قدم ابن جهير وملك البلاد من يده.
(مسير ابن جهير إلى ديار بكر)
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من أهل الموصل، واستخدم لجارية قراوش ثم لأخيه بركة، وسار عنه بالعوائد إلى ملك الروم. ثم استخدم لقريش بن بدران وأراد حبسه، فاستجار ببعض بني عقيل، ومضى إلى حلب فوزر لمعزّ الدولة أبي ثمال بن صالح. ثم مضى إلى عطيّة ولحق منها بنصير الدولة بن مروان، واستوزره وأصلح حال دولته. ولما توفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة دبّر أمر ابنه نصر القائم بعده. ثم هرب إلى بغداد سنة أربع وخمسين وأربعمائة استدعى منها للوزارة فوزر بعد محمد بن منصور بن دؤاد. ثم تداول العزل والولاية مرّات هو وابنه عميد الملك، واستخدم لنظام الملك والسلطان طغرلبك. وكان شفع عند الخليفة، فلما
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد مكان وفاته. وقد ذكر أبي الفداء في كتابه المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 180 ذكر وفاته سنة 453 وكذلك ابن الأثير ج 10 ص 17.

(4/416)


عزل ابنه آخرا بعث عنه السلطان ونظام الملك وعن ابنه وجميع أقاربه، وسار إليه بأصفهان ولقاه مبرة وتكريما. وبعثه في العساكر لفتح ديار بكر، وأخذها من يد بني مروان، وأعطاه الآلات وأذن له أن يخطب لنفسه بعد السلطان، وينقش اسمه على السكّة فسار لذلك سنة ست وسبعين وأربعمائة.
(استيلاء ابن جهير على آمد)
قد ذكرنا مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر إلى ديار بكر، ثم أمدّه السلطان سنة سبع وسبعين وأربعمائة بأرتق بن أكسك [1] في العساكر. واستنجد نصر بن مروان شرف الدولة مسلم بن قريش على أن يعطيه آمد فأنجده، وسار لمظاهرته فأقصر فخر الدولة بن جهير عن حربهم عصبة للعرب. وخالفه أرتق وسار في الترك إليهم وهزمهم، ولحق مسلم بآمد وحاصره بها فبذل المال لأرتق. وخلص من أمره، ولحق بالرقّة وسار ابن جهير إلى ميّافارقين فرجع عنه منصور بن مزيد وابنه صدقة ومن معهما من العرب. وسار فخر الدولة المعروف بالقرم فنزل عليها، وشدّ حصارها ونزل يوما بعض الحامية من السور، وأخلى مكانه فوقف فيه بعض العامّة، ونادى بشعار السلطان، واتبعه سائر الحامية بالسور. وبعثوا إلى زعيم الرؤساء ابن جهير فركب إليهم وملك البلد. وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ونصب أهل البلد بيوت النصارى الذين كانوا يستخدمون لبني مروان في الجبايات، وانتقموا منهم، والله أعلم.
(استيلاء ابن جهير على ميافارقين وجزيرة ابن عمر وانقراض دولة بني مروان)
كان فخر الدولة بن جهير لما بعث ابنه إلى آمد، سار هو إلى ميّافارقين، وأقام على حصارها منذ سنة سبع وسبعين وأربعمائة وجاءه سعد الدولة كوهرايين مددا واشتدّ الحصار، وانثلم السور في بعض الأيام فنادى أهلها بشعار ملك شاه. ودخل فخر
__________
[1] أرتق بن اكسب: ابن الأثير ج 10 ص 134، أما ابو الفداء فقد ذكر اسمه كما ذكره ابن خلدون.
ج 2 ص 197.
ابن خلدون م 27 ج 4

(4/417)


الدولة وملك البلد، واستولى على أموال بني مروان وذخائرهم، وبعثها إلى السلطان ملك شاه مع ابنه زعيم الرؤساء، فوصل أصفهان في شوّال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وسار فخر الدولة وكوهرايين إلى بغداد، وكان قد بعث عسكرا لحصار جزيرة ابن عمر، فحصروها، وثار بها أهل بيت من أعيانها يعرفون ببني رهان، وفتحوا بابا صغيرا للبلد كان منفذا للرجّالة، وأدخلوا العسكر منه، وملكوه بدعوة السلطان ملك شاه. وانقرضت دولة بني مروان ولحق منصور بن نظام الدين نصر بن نصير الدولة بالجزيرة، وأقام في إيالة الغزّ. ثم قبض عليه جكرمش وحبسه بدار يهودي فمات بها سنة تسع وثمانين وأربعمائة والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة بني الصفار ملوك سجستان المتغلبين على خراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان أهل هذه الدولة قوما اجتمعوا بنواحي سجستان، ونصّبوا لقتال الخوارج الشّراة بتلك الناحية عند ما اضطربت الدولة ببغداد لقتل المتوكّل، وسمّوا أنفسهم المتطوّعة، وكان اجتماعهم على صالح بن نصر الكناني، ويقال له صالح المتطوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث الصفّار وغلبوا على سجستان وملكوها. ثم سار إليهم طاهر بن عبد الله أمير خراسان وغلبهم عليها وأخرجهم منها. ثم هلك صالح أثر ذلك، وقام بأمره في المتطوّعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم مضعّفا فتحيّل صاحب خراسان عليه حتى ظفر به، وبعثه إلى بغداد فحبس بها، واجتمع المتطوّعة على يعقوب بن الليث قائده، وكان درهم يكاتب المعتزّ يسأله ولايتها، وأن يقلّده حرب الخوارج فكتب له بذلك، وأحسن الغناء في حرب الشّراة، وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى خراسان سنة ثلاث وخمسين ومائتين وعلى الأنبار ابن أوس فجمع لمحاربة يعقوب. وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس، وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف.

(4/418)


(استيلاء يعقوب الصفّار على كرمان ثم على فارس وعودها)
كان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وكتب إلى المعتز يطلب كرمان، ويذكر عجز ابن طاهر عنها. وكان قد أبطأ عن حرب الخوارج فكتب له المعتز بولاية كرمان، وكتب ليعقوب الصفّار أيضا بولايتها بقصد التضريب بينهما لتتمحّص طاعتهما أو طاعة أحدهما. فأرسل علي بن الحسين من فارس على كرمان طوق بن المفلّس من أصحابه فسبق إليه يعقوب وملكها. وجاء يعقوب فأقام قريبا منها شهرين يترقّب خروج طوق إليه. ثم ارتحل الى سجستان ووضع طوق أوزار الحرب، وأقبل على اللهو واتصل ذلك بيعقوب في طريقه فكرّ راجعا، وأغذّ السير ودخل كرمان، وحبس طوقا. وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز فجمع عسكره ونزل مضيق شيراز. وأقبل يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعّر بين جبل ونهر ضيّق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بأصحابه، وأجاز إلى علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا.
وأخذ عليّ بن الحسين أسيرا، واستولى على سواده، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين وقيل قد وقع بينهما بعد عبور النهر حروب شديدة، وانهزم آخرها عليّ وكان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي والأكراد، فرجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم، وازدحموا في الأبواب، وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف. ثم افترقوا في نواحي فارس وانتهبوا الأموال. ولما دخل يعقوب شيراز وملك فارس امتحن عليا وأخذ منه ألف بدرة ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحصى، وكتب للخليفة بطاعته، وأهدى هدية جليلة منها عشرة بازات بيض، وباز أبلق صيني، ومائة نافجة من المسك، وغير ذلك من الطرف، ورجع إلى سجستان ومعه علي وطوق في اعتقاله، ولما فارق فارس بعث المعتز عماله إليها.
(ولاية يعقوب الصفار على بلخ وهراة)
ولما انصرف يعقوب عن فارس ولّى عليها المعتز من قبله، والخلفاء بعده، وليها

(4/419)


الحرث بن سيما، فوثب به محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي من رجال العرب، وأحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها فقتلاه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين وأظهر دعوة المعتمد، وبعث عليها المعتمد الحسين بن الفيّاض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين ومائتين. وكتب إليه المعتمد بالنكير على ذلك. وبعث إليه الموفّق بولاية بلخ وطخارستان فملكها، وخرّب المباني التي بناها داود بن العبّاس بظاهر بلخ، وتسمّى بأساديانج. ثم سار إلى كابل واستولى عليها، وقبض على رتبيل [1] ، وبعث بالأصنام التي أخذها من كابل، وملّك البلاد إلى المعتمد. وأهدى إليه هدية جليلة المقدار، وعاد إلى بست معتزما على العود إلى سجستان فاحفظه بعض قوّاده بالرحيل قبله فغضب، وأقام منه إلى سجستان. ثم سار إلى خراسان وملك هراة. ثم إلى بوشنج فملكها وقبض على عاملها الحسين بن علي بن طاهر الكبير، وكان كبير بيتهم، وشفع له فيه محمد بن طاهر صاحب خراسان فأبى من إسعافه، وبقي في قلبه، وولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان.
(استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بني طاهر)
كان بسجستان عبد الله السجزيّ ينازع يعقوب بن الليث، فلمّا قوي يعقوب واستفحل، سار عبد الله إلى خراسان، وطمع في ملكها، وحاصر محمد بن طاهر في كرسيّ ولايته نيسابور. ثم تردّد الفقهاء بينهم في الصلح حتى تمّ بينهما، وولّاه محمد الطبسين وقهستان. ثم بعث يعقوب إلى محمد في طلبه فأجاره، وأحفظ ذلك يعقوب فسار إلى محمد بنيسابور، فخام محمد عن لقائه. ونزل يعقوب بظاهر نيسابور، وخرج إليه قرابة محمد وعمومته وأهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وذلك سنة تسع وخمسين ومائتين. وكتب إلى المعتمد بأنّ أهل خراسان استدعوه لعجز ابن طاهر وتفريطه في أمره. وغلبه العلويّ على طبرستان فكتب إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده، وإلّا سلك به سبيل المخالفين. وقيل في ملكه نيسابور غير
__________
[1] زنبيل: ابن الأثير ج 7 ص 247.

(4/420)


ذلك، وهو أنّ محمد بن طاهر لما أصاب دولته العجز والإدبار، كاتب بعض قرابته يعقوب بن الليث الصفّار، واستدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحيته موريا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان. وأنّ المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض لشيء من أمر خراسان. وبعث بعض قوّاده عينا عليه، وعنّفه على الإهمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحوا من مائة وستين رجلا وحملهم جميعا إلى سجستان وذلك لإحدى عشرة سنة من ولاية محمد. واستولى يعقوب على خراسان وهرب منازعة عبد الله السجزيّ إلى الحسين بن يزيد صاحب طبرستان، وقد كان ملكها من لدن سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأجاره الحسين وسار إليه يعقوب سنة ستين ومائتين، وحاربه فانهزم الحسين الى أرض الديلم، واعتصم بجبار طبرستان وملك يعقوب سارية وآمد ورجع في طلب السّجزيّ إلى الريّ وتهدد العامل على دفعه إليه فبعث به وقتله يعقوب.
(استيلاء الصفار على فارس)
تقدّم لنا تغلّب محمد بن واصل على فارس سنة ست وخمسين ومائتين ومسير الصفّار إليه سنة سبع وثلاثمائة ورجوعه عنها، وأنه أعاضه عنها ببلخ وطخارستان. ثم إن المعتمد أضاف فارس إلى موسى بن بغا مع الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، وما بيده من الأعمال، فولّي موسى على فارس من قبله عبد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وامدّه بطاشتمر. وزحفوا إلى ابن واصل وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، فولى على الأهواز مكانه أبا الساج وأمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك، فلقيه عليّ بن أياز قائد الزنج، وهزمه وقتل. وملك الزنج الأهواز وعاثوا فيها وأديل من أبي الساج بإبراهيم بن سيما، وسار لحرب ابن واصل، واضطربت الناحية على موسى بن بغا فاستعفى من ولايتها، وأعفاه المعتمد وطمع يعقوب الصفار في ملك فارس، فسار من سجستان ممدا، ورجع ابن واصل من الأهواز إليه، وترك محاربة ابن سيما، وأغذّ السير ليفجأه على بغتة، ففطن له الصفّار وسار إليهم وفد أعيوا وتعبوا من شدّة السير والعطش، ولما تراءى الجمعان تخاذل أصحاب ابن واصل وانهزموا من غير قتال، وغنم الصفّار في معسكره وما كانوا أصابوا لابن

(4/421)


مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العمّال وأوقع بأهل ذمّ [1] لإعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.
(حروب الصفار مع الموفق)
ولما ملك الصفّار خراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه وملك فارس من يد ابن واصل، وكان المعتمد نهاه عن تلك، فلم ينته، صرّح المعتمد بأنه لم يولّه، ولا فعل ما فعل بإذنه، وأحضر حاجّ خراسان وطبرستان والري، وخاطبهم بذلك فسار الصفّار الى الأهواز سنة اثنتين [2] أصحابه الذين أسروا بخراسان، فأبى إلّا العزم على الوصول إلى الخليفة ولقائه، وبعث حاجبه درهما يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والريّ وجارس [3] والشرطة ببغداد، فولّاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى سجستان وكرمان. وأعاد حاجبه بذلك، ومعه عمرو بن سيما فكتب يقول: لا بدّ من الحضور بباب المعتمد، وارتحل من عسكر مكرم جائيا. وخرج أبو الساج من الأهواز لتلقّيه لدخول الأهواز في أعماله، فأكرمه ووصله. وسار إلى بغداد ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانيّة، ووافاه مسرور البلخيّ من مكانه من مواجهة الزنج، وجاء يعقوب إلى واسط فملكها، ثم سار منها إلى دير العاقول، وبعث المعتمد أخاه الموفّق لمحاربته وعلى ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته موسى البلخيّ، فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفّق وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد. ثم تزاحفوا واشتدّت الحرب وجاء للموفّق محمد بن أوس والدراني [4] مددا من المعتمد، وفشل أصحاب الصفّار، ولما رأوا مدد الخليفة انهزموا، وخرج الصفّار، واتبعهم أصحاب الموفّق، وغنموا من عسكره نحوا من
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 277 زمّ. وهي مدينة ذمّي من قرى سمرقند ينسب اليها أحمد بن محمد السقر الدهقان (معجم البلدان) .
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 290 يذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 262 فيقول: «فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون: إنه لا يرضيه ما كتب به دون ان يسير إلى باب المعتمد» .
[3] هي فارس كما في الكامل ج 7 ص 290.
[4] الديراني: المرجع السابق. ص 291.

(4/422)


عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال والمسك ما يؤد [1] حمله. وكان محمد بن طاهر معتقلا في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلّص ذلك اليوم، وجاء إلى الموفّق، وخلع عليه وولّاه الشرطة ببغداد. وسار الصفّار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وراسله صاحب الزنج على الرجوع، ويعده المساعدة فكتب له: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» 109: 1- 2 السورة. وكان ابن واصل قد خالف الصفّار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث إليه الصفّار جيشا مع عمر بن السري من قواده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي. ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط، واعتزم الموفّق على إتباع الصفّار فقعد به المرض عن ذلك. وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخي، وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد.
(انتقاض الخجستاني بخراسان على يعقوب الصفار وقيامه بدعوة بني طاهر)
كان من أصحاب محمد بن طاهر ورجالاته أحمد بن عبد الله بن خجستان، وكان متولّيا على وهي من جبال سراة وأعمال باذغيس. فلما استولى الصفّار على نيسابور وخراسان، انضم أحمد هذا إلى أخيه علي بن الليث، وكان شركب الحمّال قد تغلّب على مرو ونواحيها سنة تسع وخمسين ومائتين وتغلّب على نيسابور سنة ثلاث وستين ومائتين وأخرج منها الحسين بن طاهر، وكان لشركب ثلاثة من الولد: إبراهيم وهو أكبرهم، وأبو حفص يعمر، وأبو طلحة منصور، وكان إبراهيم قد أبلى في واقعة المغار مع الحسن بن زيد بجرجان، فقدّمه الصفّار، وحسده أحمد الخجستاني فخوّفه عادية الصفّار، وزيّن له الهرب. وكان يعمر أخوه محاصرا لبعض بلاد بلخ، فاتفق إبراهيم وأحمد الخجستاني في الخروج إلى يعمر، وسبقه إبراهيم إلى الموعد ولم يلقه فسار إلى سرخس. ولما عاد الصفّار إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين ولّى
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 296: «كان احمد بن عبد الله الخجستاني من خجستان وهي من جبال هراة من اعمال باذغيس»

(4/423)


على هراة أخاه عمرو بن الليث فاستخلف عليها طاهر بن حفص الباذغيسيّ، وجاء الخجستاني إلى علي بن الليث وزيّن له أن يقيم بخراسان نائبا عنه في أموره وأقطاعه، فطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. فلمّا ارتحلوا عن خراسان جمع أحمد الخجستاني وأخرج علي بن الليث من بلده سنة إحدى وستين ومائتين وملك تونس [1] وأعاد دعوة بني طاهر، وملك نيسابور سنة اثنتين وستين واستقدم رافع بن هرثمة من رجالات بني طاهر فجعله صاحب جيشه وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص وقتله، ثم قتل يعمر بن شركب، واستولى على خراسان ومحا منها دعوة يعقوب بن الليث. ثم جاء الحسن بن طاهر أخو محمد بأصفهان ليخطب له، فأبى فخطب له أبو طلحة بن شركب بنيسابور. وانتقض الخجستاني واضطربت خراسان فتنة. وزحف إليها الحسن بن زيد فقاتلوه وهزموه. ثم ملك نيسابور من يد عمرو بن الليث، وترك الخطبة لمحمد بن طاهر، وخطب للمعتمد ولنفسه من بعده كما هو مشروح في أخبار الخجستانيّ.
(استيلاء الصفار على الأهواز)
قد تقدّم لنا استيلاء الصفّار على فارس بعد خراسان. ثم سار منها إلى الأهواز وكان أحمد بن لسوقة قائد مسرور البلخي على الأهواز قد نزل تستر، فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور وفرّت عساكر السلطان من تلك النواحي. وبعث يعقوب بالخضر ابن العين [2] إلى الأهواز وعليّ بن أبان والزنج يحاصرونها، فتأخروا عنها إلى نهر السّدرة، ودخل الخضر الأهواز وملكها بدعوة الصفّار. وكان عسكره وعسكر الزنج يغير بعضهم على بعض. ثم أوقع الزنج بعسكره ولحق الخضر بعسكر مكرم،
__________
[1] لعلها قومس لأنه ليس لتونس اي مكان في هذه الأحداث. وقومس في الإقليم الرابع وهو تعريب كومس: وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان..
(معجم البلدان) .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 7 ص 307: «وفيها- 263- اقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما بلغ النّوبندجان انصرف احمد بن الليث عن تستر، فلما بلغ يعقوب جنديسابور ونزلها، ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة ووجّه إلى الأهواز رجلا من أصحابه يقال له الخضر بن العنبر» .

(4/424)


واستخرج ابن أبان ما كان في الأهواز، ورجع إلى نهر السّدرة، وبعث يعقوب الأمداد إلى الخضر، وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز فوادع الزنج، وشحن الأهواز بالأقوات وأقام.
(وفاة يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه)
ثم توفي يعقوب الصفّار في شوّال سنة خمس وستين بعد أن افتتح الزنج [1] ، وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده. وكانت مملكة واسعة الحدود. وافتتح زابلستان وهي غزنة وأعمالها. وكان المعتمد قد استماله وولّاه على سجستان والسّند. ثم تغلّب على كرمان وخراسان وفارس، وولّاه المعتمد على جميعها. ولما مات قام مكانه أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولّاه الموفّق من قبل أعمال أخيه، وهي خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد. وبعث إليه بالخلع، فولّى عمرو بن الليث على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى من قبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وخلع عليه الموفّق وعمرو بن الليث وولّى على أصفهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف. وولّى على طريق مكة والحرمين محمد بن أبي الساج.
(مسير عمرو بن الليث الى خراسان لقتال الخجستاني)
قد تقدّم ذكر الخجستاني وتغلّبه على نيسابور وهراة بدعوة بني طاهر سنة اثنتين وستين ومائتين فلما توفي يعقوب سار عمرو إلى خراسان سنة خمس وستين ومائتين واستولى على هراة. وسار الخجستاني بنيسابور فقاتله فانهزم عمرو، ورجع إلى هراة. وكان الفقهاء بنيسابور يشيعون لعمور لولاية الخليفة إياه، فأوقع الخجستاني الفتنة بينهم بالميل إلى بعضهم، وتكرمتهم عن بعض ليشغلهم بها. ثم سار إلى هراة سنة سبع
__________
[1] الزنج: من قرى نيسابور (معجم البلدان) وفي الكامل أنه افتتح الرّخج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده. ج 7 ص 326. والرّخج: كورة ومدينة من نواحي كابل (معجم البلدان) .

(4/425)


وستين ومائتين، وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر بشيء فتركه، وخالفه إلى سجستان. ووثب أهل نيسابور بنائبه عليهم، وأمدّهم عمرو بن الليث بجنده فقبضوا على نائب الخجستاني وأقاموا بها. ورجع الخجستاني من سجستان فأخرجهم وملكها. وكان أبو منصور طلحة بن شركب محاصرا لبلخ من قبل ابن طاهر، وكاتبه عمرو بن الليث واستقدمه، وأعطاه أموالا واستخلفه على خراسان، ورجع إلى سجستان. وبقي أبو طلحة بخراسان والخجستاني يقاتله إلى أن قتل الخجستاني سنة ثماني وستين ومائتين قتله بعض مواليه كما مر في أخباره مع رافع بخراسان. كان رافع بن هرثمة من قوّاد بني طاهر بخراسان، فلمّا ملكها يعقوب سار إليه واستقرّ في منزله بتامين من قرى باذغيس. فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش على رافع وهو بهراة فأقرّوه عليهم. وكان أبو طلحة بن شركب قد سار من جرجان إلى نيسابور. فسار إليه رافع وحاصرها، وخرج عنها أبو طلحة إلى مرو، وخطب بها وبهراة لمحمد بن طاهر، وولّى على هراة من قبله. ثم زحف إليه عمرو بن الليث فغلبه عليها، وولّى عليها محمد بن سهل بن هاشم. ورجع وبعث أبو طلحة إلى إسماعيل بن أحمد يستنجده فأنجده بعسكر سار بهم إلى مرو، وأخرج منها محمد بن سهل وخطب لعمرو بن الليث وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. ثم عزل المعتمد عمرو بن الليث عن سائر أعمال خراسان وقلّدها الموفّق محمد بن طاهر، وهو مقيم ببغداد، فاستخلف محمد عليها رافع بن هرثمة، وأقرّ نصر بن محمد أحمد الساماني على ما وراء النهر، فسار رافع إلى إسماعيل يستنجده على أبي طلحة فجاءه في أربعة آلاف مددا. واستقدم رافع أيضا عليّ بن الحسين المروروذي، وساروا جميعا إلى أبي طلحة وهو بمرو سنة اثنتين وسبعين ومائتين وغلبوه عليها ولحق بهراة، وعاد إسماعيل إلى خوارزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
(حروب عمرو مع عساكر المعتمد ومع الموفق)
ولما عزل المعتمد عمرو بن الليث عن خراسان أمر بلعنه على المنابر، وأعلم حاجّ خراسان بذلك، وقلّد محمد بن طاهر أعمالها فاستخلف عليها رافع بن الليث، وكتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بعزله عن أصفهان والريّ. وبعث

(4/426)


إليه العساكر لقتاله سنة إحدى وسبعين ومائتين فزحف إليه عمرو في خمسة عشر ألفا من المقاتلة فهزمه أحمد بن عبد العزيز والعساكر واستباحوا معسكره، ودفعوه عن أصفهان والري. وكان المعتمد لمّا عزله ولعنه بعث صاعد بن مخلّد في العساكر إلى فارس لقتال عمرو بن الليث وإخراجه من فارس، فسار لذلك ولم يظفر. ورجع سنة اثنتين وسبعين ومائتين. ثم سار الموفّق سنة أربع وسبعين ومائتين إلى فارس لحرب عمرو ابن الليث، فسيّر عمرو قائده عبّاس بن إسحاق إلى شيراز، وابنه محمد بن عمرو إلى أرّجان وبعث على مقدّمته أبا طلحة بن شركب صاحب جيشه، فاستأمن أبو طلحة إلى الموفّق وفتّ ذلك في عضد عمرو، وخام عن لقائه. وسار الموفّق إلى شيراز وارتاب بأبي طلحة فقبض عليه، وملك الموفّق فارس، وعاد عمرو إلى كرمان فسار الموفّق في طلبه، فلحق بسجستان على المفازة، وتوفي ابنه محمد بن عمرو بها. وامتنعت كرمان وسجستان على الموفّق فعاد إلى بغداد. وارتاب عمرو بن الليث بأخيه عليّ فحبسه بكرمان، وحبس معه ابنه المعدل والليث فهربوا من محبسهم، ولحقوا برافع ابن الليث عند ما ملك طبرستان وجرجان من محمد بن زيد العلويّ سنة سبع وسبعين ومائتين فأقاموا عنده، وهلك عليّ بن الليث وبقي ولداه عنده. ثم رضي المعتمد عن عمرو بن الليث وولّاه الشرطة ببغداد، وكتب اسمه على الأعلام والترسة سنة ست وسبعين ومائتين واستخلف في الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، ثم سخطه لسنة ومحا اسمه من الأعلام.
(ولاية عمرو بن الليث على خراسان ثانيا ومقتل رافع بن الليث)
ثم سخط المعتمد رافع بن الليث لامتناعه عن تخلية قرى السلطان بالريّ بعد أن أمره بذلك، فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الريّ. وكتب إلى عمرو بن الليث بولاية خراسان. وحارب أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين فقاتل أخويه عمر وبكر ابني عبد العزيز فهزمهما إلى أصفهان، وأقام بالري باقي سنته. ثم سار إلى أصفهان فملكها سنة إحدى وثمانين ومائتين وعاد إلى جرجان، ووافى عمرو بن الليث خراسان واليا عليها بجموعه.

(4/427)


وتورّط رافع بن الليث ورجع إلى مصالحة محمد بن زيد، ويعيد إليه طبرستان فصالح محمد بن زيد، وخطب له بطبرستان سنة اثنتين وثمانين ومائتين على أن يمدّه بأربعة آلاف من الديلم. وسار عن طبرستان إلى نيسابور سنة ثلاث وثمانين ومائتين فحاربه عمرو وهزمه إلى أبيورد، وأخذ منه المعدل والليث ابني أخيه. ثم أراد رافع المسير إلى هراة فأخذ عليه عمرو الطريق لسرخس وسرّب رافع في المضايق ونكب عن جمهور الطريق فدخل نيسابور وحاصره فيها عمرو بن الليث. ثم برز للقائه واستأمن بعض قوّاد رافع إلى عمرو، فانهزم رافع وأصحابه. وبعث إلى محمد بن وهب [1] يسنمدّه كما شرط له. وكان عمرو قد حذّر محمد بن زيد من إمداده فأقصر من ذلك. وتفرّق عن رافع أصحابه وغلمانه، وكانوا أربعة آلاف غلام. وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل بن سمّان ببخارى، وخرج رافع منهزما إلى خوارزم في فلّ من العسكر، وحمل بقية المال والآلة، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين. فلما رآه صاحب خوارزم أبو سعيد الغرغاني في قلة من العسكر، غدر به وقتله في أوّل شوّال، وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور فأنفذه عمرو إلى بغداد. فكتب إليه المعتضد بولاية الريّ مضافة إلى خراسان، وأنفذ له الألوية والخلع سنة أربع وثمانين ومائتين.
(استيلاء بني سامان على خراسان وهزيمة عمرو بن الليث وحبسه ثم مقتله)
لما بعث عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد، طلب ولاية ما وراء النهر فولّاه وبعث إليه بالخلع واللواء، فسرّح عمرو الجيوش من نيسابور مع قائده محمد بن بشير وغيره من قوّاده لمحاربة إسماعيل بن أحمد، وانتهوا إلى آمد فعبر إسماعيل جيحون وهزمهم، وقتل محمد بن بشير وغيره من قوّاده، ورجع الفلّ إلى عمرو بنيسابور.
وعاد إسماعيل إلى بخارى وتجهّز [2] للسير إلى إسماعيل، وسار إلى بلخ. وبعث إليه
__________
[1] هو محمد بن زيد كما تقدم من قبل وكما يظهر فيما بعد وفي الطبري ج 11 ص 348: محمد بن زيد الطالبي. وفي الكامل ج 7 ص 483: محمد بن زيد العلويّ.
[2] يبدو أنه سقطت كلمة عمرو. كما يقتضي سياق المعنى

(4/428)


إسماعيل: إنك قد حزت الدنيا العريضة فاتركني في هذا الثغر فأبى. وعبر إسماعيل وأخذ عليه الجهات فصار محصورا، وندم وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل، وقاتله فانهزم عمرو ونكب عن طريق العسكر إلى مضيق ينفرد فيه وتوارى في أجمة فوحلت به دابته، ولم يتفطّن له أصحابه، فأخذ أسيرا وبعث به إسماعيل إلى المعتضد، بعد أن خيّره فاختار المسير إليه، ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس. وبعث المعتضد إلى إسماعيل بولايته خراسان إلى أن توفي المعتضد.
وجاء المكتفي إلى بغداد، وكان في نفسه اصطناعه، وكره ذلك الوزير القاسم بن عبيد الله فوضع عليه من قتله سنة تسع وثمانين ومائتين.
(ولاية طاهر بن محمد بن عمرو على سجستان وكرمان ثم على فارس)
ولما أسر عمرو وسار إلى محبسه، قام مكانه بسجستان وكرمان حافده طاهر بن محمد ابن عمرو، وهو الّذي مات أبوه محمد بمفازة سجستان عند ما هرب عمرو أمام الموفّق من فارس، ثم سار طاهر إلى فارس، وسار إليها في الجيوش سنة ثمان وثمانين ومائتين واعترضه بدر، فعاد طاهر الى سجستان، وملك بدر فارس وجبى أموالها. ثم بعث طاهر بن محمد سنة تسع وثمانين ومائتين يطلب المقاطعة على فارس بمال يحمله، وكان المعتضد قد توفي، فعقد له المكتفي عليها، وتشاغل طاهر بالصيد واللهو، ومضى إلى سجستان فغلب على الأمر بفارس الليث ابن عمه علي بن الليث، وسبكرى مولى جدّه عمرو، وكان معهما أبو قابوس قائد طاهر، فلحق بالخليفة المكتفي وكتب طاهر ردّه بما جباه من المال، ويحتسب له من جملته فلم يجب إلى ذلك.
(استيلاء الليث على فارس ثم مقتله واستيلاء سبكرى)
ولما تغلّب سبكرى على فارس لحق الليث بن علي بطاهر ابن عمه وزحف طاهر إلى فارس فهزمه السبكري وأسره، وبعث به وبأخيه يعقوب إلى المقتدر سنة سبع وتسعين

(4/429)


ومائتين وضمن فارس بالحمل الّذي كان قرّره فولّاه على فارس. ثم زحف إليه الليث ابن علي بن الليث فملك فارس [1] الليث للقائهم وجاءه الخبر بأنّ الحسين ابن حمدان صار من قمّ مددا لمؤنس، فركب لاعتراضه، وتاه الدليل عن الطريق فأصبح على معسكر مؤنس فثاروا واقتتلوا وانهزم عسكر الليث، وأخذ أسيرا، وأشار أصحاب مؤنس بأن يقبض على سبكر معه. ويملك بلاد فارس، ويقرّه الخليفة فوعدهم بذلك، ودسّ إلى سبكرى بأن يهرب إلى شيراز. وأصبح يلوم أصحابه على ظهور الخبر من جهتهم، وعاد بالليث إلى بغداد واستولى سبكر على فارس، واستبدّ كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على أموره، فسعى فيه أصحابه عند سبكرى حتى قبض عليه، وحملوه على العصيان فمنع الحمل، فكتب هو من محبسه إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه بأمرهم. وكتب ابن الفرات إلى مؤنس وهو بواسط يأمره بالعود إلى فارس ويعاتبه حيث لم يقبض على سبكرى فسار مؤنس إلى الأهواز، وراسله سبكرى وهاداه. وعلم ابن الفرات بميل مؤنس إليه فأنفذ وصيفا وجماعة من القوّاد ومعهم محمد بن جعفر وأمرهم بالتعويل عليه في فتح فارس. وكتب إلى مؤنس باستصحاب الليث إلى بغداد ففعل، وسار محمد بن جعفر إلى فارس ورافع سبكرى على شيراز فهزمه، وحاصره بها وحاربه ثانية فهزمه ونهب أمواله، ودخل سبكرى مفازة خراسان فظفرت به جيوش خراسان وأسروه، وبعثوا به إلى بغداد. وولّى على فارس فتح [2] خادم الأفشين.
(انقراض ملك بني الليث من سجستان وكرمان)
وفي سنة ثمان وتسعين ومائتين توفي فتح صاحب فارس، فولّى المقتدر مكانه عبد الله ابن إبراهيم المسمعي وأضاف إليه كرمان من أعمال بني الليث. وسار أحمد بن إسماعيل
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 56: «وفي هذه السنة- 297- سار الليث بن علي بن الليث من سجستان الى فارس في جيش فأخذها، واستولى عليها، وهرب سبكرى عنها الى أرجان. فلما بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنسا الخادم وسيّره الى فارس، معونة لسبكرى فاجتمعا بأرّجان، وبلغ خبر اجتماعهما الليث، فسار اليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين بن حمدان من قمّ الى البيضاء» .
[2] قنبج: ابن الأثير ج 8 ص 58.

(4/430)


ابن سامان إلى الريّ فبعث منها جيوشه إلى سجستان سنة ثمان وتسعين ومائتين مع جماعة من قواده وعليهم الحسن بن علي المروروذيّ. وكانت سجستان لما أسر طاهر سنة سبع وتسعين ومائتين ولي بها بعده الليث بن علي بن الليث. فلما أسر الليث كما تقدّم ولي بعده أخوه المعدّل بن عليّ بن الليث، فلما بلغه مسير هذه العساكر إليه من قبل أحمد ابن إسماعيل بعث أخاه أبا علي بن الليث محمد بن علي بن الليث إلى بست والرخّج ليجبيهما، ويبعث منهما إلى سجستان بالميرة، فسار إليه أحمد بن إسماعيل بن سامان، وعلى سجستان أبو صالح منصور ابن عمه إسحاق بن أحمد بن سامان لما بلغه مسير سبكر من فارس إلى سجستان في المفازة، فبعث إليه جيشا فأخذه، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بالخبر وبالفتح، فأمره بحمل سبكر والليث، فبعث بهما إلى بغداد وحبسهما.
(ثورة أهل سجستان بأصحاب ابن سامان ودعوتهم الى بني عمرو بن الليث بن الصفار ثم عودهم الى طاعة أحمد بن إسماعيل بن سامان)
كان محمد بن هرمز ويعرف بالمولى الصندليّ خارجيا وهو من أهل سجستان. خرج أيام بني سامان وأقام ببخارى، وسخط بعض الأعيان بها فسار إلى سجستان، واستمال جماعة من الخوارج رئيسهم ابن الحفّار فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق عاملهم من بني سامان وحبسوه، وولّوا عليهم عمرو بن يعقوب بن محمد بن الليث، وخطبوا له، فبعث أحمد بن إسماعيل الجيوش ثانيا مع الحسين بن علي سنة ثلاثمائة، وحاصرها ستة أشهر، ومات الصندلي فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن علي، وخرج منصور بن إسحاق من محبسه. واستعمل أحمد ابن إسماعيل على سجستان سيمجور الدواني، ورجع الحسين بالجيوش إلى الأمير أحمد ومعه يعقوب وابن الحفّار في ذي الحجة سنة ثلاثمائة.

(4/431)


(استيلاء خلف بن أحمد بن علي على سجستان ثم انتقاضهم عليه)
كان خلف بن أحمد من ذرية عمرو بن الليث الصفّار، وهو بسطة برسمه بانوا [1] ولما فشل أمر بني سامان استولى على سجستان وكان من أهل العلم ويجالسهم. ثم حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. واستخلف على أعماله طاهر بن الحسين من أصحابه. فلما عاد من الحج انتقض عليه طاهر بن الحسين من أصحابه، فسار خلف إلى بخارى مستجيشا بالأمير منصور بن سامان، فبعث معه العساكر وملك سجستان، وكثرت أمواله وجنوده. وقطع ما كان يحمله إلى بخارى، فسارت العساكر إليه ومقدّمهم [2] وحاصروا خلف بن أحمد في حصن أوّال من أمنع الحصون وأعلاها. ولما اشتدّ به الحصار وفنيت الأموال والآلات، كتب إلى نوح بن منصور صاحب بخارى بأن يستأمنه، ويرجع إلى دفع الحمل، فكتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور عامله على خراسان وقد عزل [3] بالمسير إلى حصار خلف، فسار من قهستان إلى سجستان وحاصر خلف، وكانت بينهما مودّة، فأشار عليه سيمجور بتسليم حصن أوّال [4] للحسن لتتفرّق الجيوش عنه إلى بخارى، ويرجع هو إلى شأنه مع صاحبه، فقبل خلف مشورته. ودخل سيمجور إلى حصن أوّال وخطب فيه للأمير نوح. ثم سلمه للحسن بن طاهر وانصرف إلى بخارى، وكان هذا أول وهن دخل على بني سامان من سوء طاعة أصحابهم.
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 563: «وفي هذه السنة- 354- عصى أهل سجستان على أميرهم خلف بن أحمد، وكان خلف هذا هو صاحب سجستان حينئذ، وكان عالما محبا لأهل العلم، فاتّفق انه حج سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة» .
[2] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 564: «وجهّزت العساكر إليه، وجعل مقدّمها الحسين بن طاهر بن الحسين المذكور، فساروا إلى سجستان وحصروا خلف بن أحمد بحصن أرك، وهو من أمنع الحصون وأعلاها محلا وأعمقها خندقا» .
[3] كان ابو الحسن بن سيمجور عامل خراسان من قبل نوح بن منصور قد عزل عن عمله. ثم أعيد إليه.
ويبدو هنا انه سقط بعض الكلمات أثناء النسخ.
[4] هو حصن أرك كما مرّ معنا.

(4/432)


(استيلاء خلف بن أحمد على كرمان ثم انتزاع الديلم لها)
ولما استفحل أمر خلف بسجستان حدّث نفسه بملك كرمان، وكانت في أيدي بني بويه وملكهم يومئذ عضد الدولة، فلمّا وهن أمرهم، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة ابني عضد الدولة، جهّز العساكر إلى كرمان وعليهم عمرو ابنه وقائدهم يومئذ تمرتاش من الديلم. فلما قاربها عمرو هرب تمرتاش إلى بردشير [1] وحمل ما أمكنه، وغنم عمرو الباقي وملك كرمان وجبى الأموال. وكان صمصام الدولة صاحب فارس، فبعث العساكر إلى تمرتاش مع أبي جعفر وأمره بالقبض عليه لاتهامه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة، فسار وقبض عليه، وحمله إلى شيراز. وسار بالعساكر إلى عمرو بن خلف فقاتله عمرو بدار زين وانهزم الديلم وعادوا على طريق جيرفت، وبعث صمصام الدولة عسكرا آخر مع العبّاس بن أحمد من أصحابه، فلقوا عمرو بن خلف بالسيرجان في المحرّم سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فهزموه وعاد إلى أبيه بسجستان مهزوما، ووبّخه ثم قتله. ثم عزل صمصام الدولة العبّاس عن كرمان فأشاع خلف بأن أستاذ هرمز سمّه، واستنفر الناس لغزو كرمان، وبعثهم مع ابنه طاهر، فانتهوا إلى برماشير [2] وملكوها من الديلم، ولحق الديلم بجيرفت واجتمعوا بها، وبعثوا بها [3] إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان ومصرها فحصرها طاهر ثلاثة أشهر، وضيّق على أهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يستمدّونه قبل أن يغلبهم عليها طاهر، فخاطر بنفسه، وركب إليهم المضايق والأوعار حتى دخلها، وعاد طاهر إلى سجستان واستنفر الناس لغزو الديلم بجيرفت، واجتمعوا بها وبعثوا إلى بردشير حامية من العسكر، وهو أصل بلاد كرمان، وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
__________
[1] بردسير: ابن الأثير ج 9 ص 82.
[2] نرماسير: ابن الأثير ج 9 ص 84.
[3] يبدو ان «بها» زائدة ولا لزوم لها حسب سياق المعنى.
ابن خلدون م 28 ج 4

(4/433)


(استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنها ومقتله)
كان طاهر بن خلف من العقوق لأبيه على عظيم [1] وانتقض عليه وجرت بينهما وقائع كان الظفر بها لخلف، ففارق طاهر سجستان وسار إلى كرمان. وبها الديلم عسكر بهاء الدولة فصعد إلى جبالها، واحتمى بقوم هنالك كانوا عصاة، ونزل على جيرفت فملكها، ولقيه الديلم فهزمهم، واستولى على الكثير مما بأيديهم فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر بن أستاذ هرمز، فغلب طاهرا على كرمان فعاد إلى سجستان، وقاتل أباه فهزمه، وملك البلاد وامتنع أبوه خلف ببعض حصونه، وكان الناس قد سئموا منه لسوء سيرته، فرجع إلى مخادعة ابنه، فتواعد اللقاء تحت القلعة، وأكمن له بالقرب كمينا، فلما لقيه الكمين واستمكن منه أبوه خلف فقتله أبوه.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على سجستان ومحو آثار بني الصفار منها)
كان خلف بن أحمد قد بعث ابنه طاهرا إلى قهستان فملكها. ثم إلى بوشنج كذلك.
وكانت هي وهراة لبغراجق عمّ محمود، وكان محمود مشتغلا بالفتنة مع قوّاد بني سامان، فلما فرغ منها استأذنه عمّه في إخراج طاهر بن خلف فأذن له. وسار إليه سنة تسعين وثلاثمائة ولقيه بنواحي بوشنج فهزمه، ولجّ في طلبه فكرّ عليه طاهر وقتله، فساء ذلك محمودا وجمع عساكره وسار إلى خلف بن أحمد، وحاصره بحصن أصبهيل، وضيّق عليه حتى بذل له أموالا جليلة، وأعطاه الرهن عليها فأفرج عنه.
ثم عهد خلف بملكه إلى ابنه، وعكف على العبادة والعلم خوفا من محمود بن سبكتكين فلما استولى طاهر على الملك عقّ أباه وكان من أمره ما تقدّم. ولما قتل طاهر تغيّرت نيّات عساكره، وساءت فيه ظنونهم، واستدعوا محمود بن سبكتكين وملّكوه مدينتهم. وقعد خلف في حصنه وهو حصن الطاق، له سبعة أسوار محكمة، وعليها
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 166: «وكان سبب مسيره إليها- كرمان- انه قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه» .

(4/434)


خندق عتيق له جسر يرفع ويحط عند الحاجة، فحاصره محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وطمّ الخندق بالأعواد والتراب في يوم واحد، وزحف لقتاله بالفيول. وتقدّم عظيمها فاقتلع باب الحصن بنابه وألقاه، وملك محمود السور الأوّل ودفع عنه أصحاب خلف إلى السور الثاني. ثم إلى الثالث كذلك فخرج خلف واستأمن.
وحضر عنده محمود وخيّره في المقام حيث شاء من البلاد فاختار الجوزجان، وأقام بها أربع سنين. ثم نقل عنه الخوض في الفتنة، وأنه راسل أيلد خان يغريه بمحمود، فنقله الى جردين وحبسه لك إلى أن هلك سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وورثه ابنه أبو حفص. ولما ملك محمود سجستان واستنزل خلف من حصن الطاق، ولّى على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه. ثم انتقض أهل سجستان فسار إليهم محمود سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في ذي الحجة، وحصرهم في حصن أوّال [1] واقتحمه عليهم عنوة وقتل أكثرهم وسبى باقيهم حتى خلت سجستان منهم، وصفا ملكها له فأقطعها أخاه نصرا مضافة إلى نيسابور، وانقرض ملك بني الصفّار وذويهم من سجستان والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة بني سامان ملوك ما وراء النهر المقيمين بها الدولة العباسية وأولية ذلك ومصائره)
أصل بني سامان هؤلاء من العجم، كان جدّهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها، وينتسبون في الفرس إلى بهرام حشيش الّذي ولّاه كسرى أنوشروان مرزبان أذربيجان. وبهرام حشيش من أهل الريّ ونسبهم إليه هكذا أسد بن سامان خذاه بن جثمان بن طغان بن نوشردين بن بهرام نجرين بن بهرام حشيش. ولا وثوق لنا بضبط هذه الأسماء. وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى والياس، وأصل دولتهم هذه فيما وراء النهر أنّ المأمون لمّا ولي خراسان اصطنع بني أسد هؤلاء، وعرف لهم حق سلفهم واستعملهم. فلمّا انصرف إلى العراق ولّى على خراسان غسّان بن عبّاد من قرابة الفضل بن طاهر، مكان ابنه إسحاق ومحمد بن الياس. ثم مات
__________
[1] حصن أرك.

(4/435)


أحمد بن أسد بفرغانة سنة إحدى وستين. وكان له من الولد سبعة: نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد، وكنيته أبو الأشعث، وحميد وكنيته أبو غانم. ولما توفي أحمد وكانت سمرقند من أعماله، استخلف عليها ابنه نصرا، وأقام في ولايتها أيام بني طاهر وبعدهم. وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أمر بني طاهر واستولى الصفّار على خراسان.
(ولاية نصر بن أحمد على ما وراء النهر)
ولما استولى الصفّار على خراسان، وانقرض أمر بني طاهر، عقد المعتمد لنصر بن أحمد على أعمال ما وراء النهر، فبعث جيوشه إلى شطّ جيحون مسلحة من عبور الصفّار فقتل مقدّمهم، ورجعوا إلى بخارى. وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها.
وولوا عليهم ثم عزلوا، ثم ولّوا ثم عزلوا، فبعث نصر أخاه إسماعيل على شط بخارى.
وكان يعظم محلّه ويقف في خدمته. ثم ولّى على غزنة أبا إسحاق بن التكين. ثم ولّى على خراسان من بعد ذلك رافع بن هرثمة بولاية بني طاهر وأخرج عنها الصفّار.
وحصلت بينه وبين إسماعيل أعمال خوارزم فولّاه إياها، وفسد ما بين إسماعيل وأخيه نصر، وزحف إليه سنة اثنتين وسبعين فأرسل قائده حمويه بن عليّ إلى رافع يستنجده، فسار إليه بنفسه منها، وأصلح بينهما ورجع إلى خراسان. ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسماعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيل وقبّل يده وردّه إلى كرسي إمارته بسمرقند. وأقام نائبا عنه ببخارى، وكان إسماعيل خيّرا مكرما لأهل العلم والدين.
(وفاة نصر بن أحمد وولاية أخيه إسماعيل على ما وراء النهر)
ثم توفي نصر سنة تسع وسبعين ومائتين، وقام مكانه في سلطان ما وراء النهر أخوه إسماعيل وولّاه المعتضد، ثم ولّاه خراسان سنة سبع وثمانين ومائتين. وكان سبب ولايته

(4/436)


على خراسان أنّ عمرو بن الليث كان المعتضد ولّاه خراسان. وأمره بحرب رافع بن هرثمة فحاربه وقتله، وبعث برأسه إلى المعتضد، وطلب منه ولاية ما وراء النهر، فولّاه وسير العساكر لمحاربة إسماعيل بن أحمد مع محمد بن بشير من خواصه، فانتهوا إلى آمد بشط جيحون. وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتل محمد بن بشير، ورجع إلى بخارى فسار عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ يريد العبور إلى ما وراء النهر، فبعث إليه إسماعيل يستعطفه بأنّ الدنيا العريضة في يدك وإنما لي هذا الثغر فأبى ولجّ، وعبر إسماعيل النهر وأحاط به، وهو على نجد فصار محصورا وسأل المحاجزة فأبى إسماعيل وقاتله فهزمه، وأخذه بعض العسكر أسيرا، وبعث به إلى سمرقند. ثم خيّره في إنفاذه إلى المعتضد فاختاره، فبعث به إليه. ووصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين وأدخل على جمل وحبس وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان كما كانت لهم فاستولى عليها، وصارت بيده. ولما قتل عمرو بن الليث طمع محمد بن زيد العلويّ صاحب طبرستان والديلم في ملك خراسان، فسار إليها وهو يظن أن إسماعيل بن أحمد لا يريدها ولا يتجاوز عمله، فلما سار إلى جرجان وقد وصل كتاب المعتضد إلى إسماعيل بولاية خراسان، فكتب إليه ينهاه عن المسير إليها فأبى، فسرّح إليه محمد بن هارون قائد رافع، وكان قد فارقه عند هزيمته ومقتله. ولحق بإسماعيل فسرّحه في العساكر لقتل محمد بن زيد العلويّ ولقيه على جرجان فانهزم محمد بن زيد وغنم ابن هارون عسكره، وأصابت محمد بن زيد جراحات هلك لأيام منها. وأسر ابنه زيد فأنزله إسماعيل بخارى وأجرى عليه، وسار محمد بن هارون إلى طبرستان فملكها، وخطب فيها لإسماعيل وولّاه إسماعيل عليها.
(استيلاء إسماعيل على الري)
كان محمد بن هارون قد انتقض في طبرستان على إسماعيل وخلع دعوة العبّاسيّة وكان الوالي على أهل الري من قبل المكتفي أغرتمش التركي، وكان سيّئ السيرة فيهم فاستدعوا محمد بن هارون من طبرستان فسار إليها، وحارب أغرتمش فقتله، وقتل ابنين له وأخاه كيغلغ من قواد المكتفي. واستولى على الري فكتب المكتفي إلى إسماعيل

(4/437)


بولاية الريّ، وسار إليها فخرج محمد بن هارون عنها إلى قزوين وزنجان وعاد إلى طبرستان، واستعمل إسماعيل بولاية الذين على جرجان فارس الكبير [1] وألزمه بإحضار محمد بن هارون. فكاتبه فارس، وضمن له إصلاح حاله، فقبل قوله وانصرف عن حسّان الديلميّ إلى بخارى في شعبان سنة تسعين ومائتين. ثم قبض في طريقه وأدخل إلى بخارى مقيّدا، فحبس بها ومات لشهرين.
(وفاة إسماعيل بن أحمد وولاية ابنه أحمد)
ثم توفي إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف سنة خمس وتسعين ومائتين، وكان يلقّب بعد موته بالماضي، وولي بعده أبو نصر أحمد، وبعث إليه المكتفي بالولاية، وعقد له لواءه بيده، وكان إسماعيل عادلا حسن السيرة حليما.
وخرجت الترك في أيامه سنة احدى وتسعين ومائتين الى ما وراء النهر في عدد لا يحصى، يقال كان معهم سبعمائة قبّة، وهي لا تكون إلا للرؤساء، فاستنفر لهم إسماعيل الناس، وخرج من الجند والمتطوّعة خلق كثير. وخرجوا إلى الترك وهم غارّون فكبسوهم مصبحين، وقتلوا منهم ما لا يحصى وانهزم الباقون. واستبيح عسكرهم.
ولما مات ولي ابنه أبو نصر أحمد واستوثق أمره ببخارى بعث عن عمّه إسحاق بن أحمد من سمرقند فقبض عليه وحبسه. ثم عبر إلى خراسان ونزل نيسابور، وكان فارس الكبير [2] مولى أبيه عاملا على جرجان. وكان ظهر له أنّ أباه عزله عن جرجان بفارس [2] هذا، وكان فارس قد ولي الريّ وطبرستان، وبعث إلى إسماعيل ابن أحمد بثمانين حملا من المال [3] ، فلما سمع بوفاة إسماعيل استردّها من الطريق.
وحقد له أبو نصر ذلك كله، فخافه فارس. فلما نزل أبو نصر نيسابور كتب فارس إلى المكتفي يستأذنه في المسير إليه، وسار في أربعة آلاف فارس، وأتبعه أبو نصر فلم
__________
[1] هكذا بالأصل والعبارة غير واضحة وفي الكامل ج 7 ص 527: «فاستعمل إسماعيل بن أحمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرا» .
[2] هو بارس الكبير.
[3] هذه الأموال من خراج الريّ وطبرستان وجرجان. جمعها بارس وأرسلها الى إسماعيل، ولما بلغ وفاته استرد المال ...

(4/438)


يدركه. وتحصّن منه عامل أبي نصر بالريّ، ووصل إلى بغداد فوجد المقتدر قد ولي بعد المكتفي، وقد وقعت حادثة ابن المعين فولّاه المقتدر ديار ربيعة، وبعثه في طلب بني حمدان، وخشي أصحاب المقتدر أن يتقدّم عليهم فوضعوا عليه غلاما له فسمّه ومات بالموصل، وتزوّج الغلام امرأته.
(استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان)
كانت سجستان في ولاية الليث بن علي بن الليث، وخرج إلى طلب فارس فأسره مؤنس الخادم، وحبس ببغداد وولى على سجستان أخوه المعدّل، ثم سار أبو نصر أحمد بن إسماعيل سنة سبع وتسعين من بخارى إلى الري، ثم إلى هراة وطمع في ملك سجستان، فبعث إليه العسكر في محرّم سنة ثمان وتسعين مع أعيان قوّاده:
أحمد بن سهل ومحمد بن المظفّر وسيمجور الدواتيّ والحسين بن علي المروروذيّ. فلما بلغ الخبر إلى المعدّل بعث أخاه محمد بن علي إلى بست والزنج [1] فحاصرته العساكر بسجستان وسار أحمد بن إسماعيل إلى بست فملكها، وأسر محمد بن علي، وبلغ الخبر الى المعدّل فاستأمن إلى الحسين فملكها، وحمل المعدّل معه إلى بخارى. وولّى الأمير على سجستان أبا صالح منصور بن عمّه إسحاق بن أحمد، وكان قد قبض على إسحاق لأوّل ولايته. ثم أطلقه الآن وأعاده إلى سمرقند وفرغانة. وقد كان سبكرى هزمته عساكر المقتدر بفارس، وخرج إلى مفازة سجستان فبعث الحسين عسكرا لاعتراضه، وأخذ أسيرا، وبعثوا به وبمحمد بن علي إلى بغداد. وبعث المقتدر إلى أحمد بالخلع والهدايا. ثم انتقض أهل سجستان على سيمجور الدواتي وولّوا منصور ابن عمه إسحاق على نيسابور.
(مقتل أبي نصر أحمد بن إسماعيل وولاية ابنه نصر)
ثم قتل أبو نصر أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر آخر جمادى الآخرة سنة إحدى
__________
[1] الزّنج: من قرى نيسابور وفي الكامل ج 8 ص 60: الرخّج

(4/439)


وثلاثمائة، وكان مولعا بالصيد، فخرج إلى برير [1] متصيّدا وكان له أسد يربط كل ليلة على باب خيمته فأغفل ليلة، فعدا عليه بعض غلمانه وذبحوه على سريره. وحمل إلى بخارى فدفن بها ولقّب الشهيد، وقتل من وجد من أولئك الغلمان. وولي الأمير مكانه ابنه أبا الحسن [2] نصر بن أحمد، وهو ابن ثمان سنين، ولقّب السعيد. وتولّى الأمور له أصحاب أبيه ببخارى، وحمله على عاتقه أحمد بن الليث مستولي الأمور، وانتقض عليه أهل سجستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بسمرقند. وابناه منصور والياس ومحمد بن الحسين ونصر بن محمد وأبو الحسين بن يوسف والحسن بن علي المروروذيّ وأحمد بن سهل وليلى بن النعمان من الديلم صاحب العلويّين بطبرستان، ومعه سيمجور وأبو الحسين بن الناصر الأطروش وقراتكين، وخرج عليه إخوته يحيى ومنصور وإبراهيم بنو أبيه، وجعفر بن داود ومحمد بن الياس، ومرداويج ووشمكير ابنا زياد من أمراء الديلم، وكان السعيد نصر مظفّرا على جميعهم.
(انتقاض سجستان)
ولما قتل أحمد بن إسماعيل انتقض أهل سجستان وبايعوا للمقتدر، وبعثوا إليه وأخرجوا سيجور الدواتي [3] ، فأضافها المقتدر إلى بدر الكبير، وأنفذ إليها الفضل بن حميد وأبا يزيد من قبل السعيد نصر وسعيد الطالقانيّ بغزنة كذلك فقصدها الفضل وخالد واستوليا على غزنة وبسنة وقبضا على سعيد الطالقانيّ وبعثا به إلى بغداد وهرب عبيد الله الجهستاني ثم اعتل الفضل وانفرد خالد بالأمور [4] . ثم انتقض فأنفذ إليه
__________
[1] فربر: ابن الأثير ج 8 ص 77.
[2] هكذا بالأصل والعبارة الصحيحة وولي الأمر مكانه ابنه ابو الحسن نصر ابن أحمد.
[3] سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 79
[4] العبارات غير واضحة ومبتورة وفي الكامل ج 8 ص 79: «فولّاها المقتدر باللَّه بدرا الكبير، فأنفذ إليها الفضل بن حميد، وابا يزيد بن خالد بن محمد المروزيّ، وكان عبيد الله بن أحمد الجيهانيّ ببست، والرخّج، وسعد الطالقانيّ بغزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل وخالد، وانكشف عنهما عبيد الله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه الى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبست، ثم اعتلّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور» .

(4/440)


المقتدر أخا نجح الطولونيّ فهزمه خالد. وسار إلى كرمان، فأنفذ إليه بدر الجيش فأخذ أسيرا ومات، وحمل إلى بغداد.
(انتقاض إسحاق العمّ وابنه الياس)
كان إسحاق بن أحمد عم الأمير أحمد بن إسماعيل واليا على سمرقند، فلما بلغه مقتل الأمير أحمد، وولاية ابنه السعيد نصر، دعا لنفسه بسمرقند، وتابعه ابنه الياس على ذلك. وساروا إلى بخارى فبرز إليهم القائد حمويه بن عليّ فهزمهم إلى سمرقند. ثم جمعوا وعادوا فهزمهم ثانية، وملك سمرقند من أيديهم عنوة. واختفى إسحاق وجدّ حمويه في طلبه فضاق به مكانه، واستأمن إلى حمويه وحمله إلى بخارى وأقام بها إلى أن هلك. ولحق الياس بفرغانة فأقام بها إلى أن خرج ثانية كما يأتي.
(ظهور الأطروش واستيلاؤه على طبرستان)
قد تقدّم لنا في أخبار العلويّة شأن دولة الأطروش وبنيه بطبرستان، وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو بن علي بن الحسن السبط، وأنه استعمل الأمير أحمد على طبرستان مكانه أبا العبّاس أحمد عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة، وعدل في الرعية وأكرم العلويّة وبالغ في الإكرام والإحسان إليهم. واستمال رؤساء الديلم وهاداهم، وكان الحسن الأطروش قد دخل إليهم بعد قتل محمد بن زيد وأقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ملكهم ابن حسّان، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا إليه، وبنى في بلادهم المساجد، ودعاهم للمسير معه إلى طبرستان فلم يجيبوه إلى ذلك. ثم عزل أبو العبّاس، وتولّى سلام فلم يحسن سياسة الديلم فخرجوا عليه، وقاتلوه فهزمهم، واستعان بالأمير أحمد السعيد، فأعاد الأمير أحمد إليها ابن نوح، فاستعمل عليها أبا العبّاس محمد بن إبراهيم صعلوك، ففسد ما بينه وبين الديلم بإساءة السيرة وعدم السياسة. فطلبهم الأطروش في الخروج معه فخرجوا، ولقيهم ابن صعلوك على

(4/441)


مرحلة من سالوس وهي ثغر طبرستان فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلاف، وحصر الأطروش الباقين. ثم أمّنهم وعاد إلى آمد وسار إليهم الحسن بن القاسم العلويّ الداعي صهر الأطروش فقتلهم متعلّلا عليهم فأنه لم يحضر لعهدهم. واستولى الأطروش على طبرستان سنة إحدى وثلاثمائة أيام السعيد نصر، وخرج صعلوك إلى الريّ متعلّلا عليهم، ومنها إلى بغداد. وكان الذين أسلموا على يد الأطروش الديلم من وراء أسفيجاب [1] إلى آمد، فيهم شيعة زيدية. وكان الأطروش زيديّا، وخرجت طبرستان يومئذ من ملك بني سامان.
(انتقاض منصور بن إسحاق العم والحسين والمروروذي)
كان الأمير أحمد بن إسماعيل لما افتتح سجستان ولّى عليها منصور ابن عمّه إسحاق، وكان الحسين بن عليّ هو الّذي تولّى فتحها وطمع في ولايتها. ثم افتتحها ثانيا كما ذكرنا فوليا [2] سيجور الدواتي، فاستوحش الحسين لذلك، وداخل منصور بن إسحاق في الانتقاض، على أن تكون إمارة خراسان لمنصور والحسين بن علي خليفته على أعماله. فلما قتل الأمير أحمد انتقض الحسين بهراة، وسار إلى منصور بنيسابور فانتفض أيضا، وخطب لنفسه سنة اثنتين وثلاثمائة وسار القائد حمويه [3] بن علي من بخارى في العساكر لمحاربتهما، ومات منصور قبل وصوله. فلما قارب حمويه نيسابور سار الحسين عنها إلى هراة، وأقام بها. وكان محمد بن جند على شرطته [4] من مدّة طويلة، وبعث من بخارى بالنكير، فخشي على نفسه، وعدل عن الطريق إلى هراة فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نيسابور، بعد أن استخلف عليها أخاه منصورا فملك نيسابور، فسار إلى محاربته من بخارى أحمد بن سهل فحاصر هراة وملكها من منصور على الأمان. ثم سار إلى نيسابور فحاصر بها الحسين وملكها عنوة، وأسر الحسين سنة اثنتين وثلاثمائة. وأقام أحمد بن سهل بنيسابور وجاءه ابن
__________
[1] اسفيدروز: ابن الأثير ج 8 ص 82.
[2] مقتضى السياق فوليها، وسيجور هو سيمجور كما في الكامل ج 8 ص 87.
[3] حمويه بن علي: المرجع السابق.
[4] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 88: «وكان محمد بن حيد على شرطة بخارى مدة طويلة» .

(4/442)


جيد مزمر [1] وقبض عليه وسيّره والحسين بن علي إلى بخارى فأمّا ابن جيد مزمر فسيّر إلى خوارزم ومات بها، وأمّا الحسين فحبس. ثم خلّصه أبو عبد الله الجهانيّ مدبّر الدولة، وعاد إلى خدمة السعيد نصر.
(انتقاض أحمد بن سهل بنيسابور وفتحها)
كان الأمير أحمد بن سهل من قوّاد إسماعيل، ثم ابنه أحمد، ثم ابنه نصر بن أحمد.
قال ابن الأثير: وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكان بن يزدجرد بن شهربان الملك. قال: وكان كامكان دهقان بنواحي مرو قال: وكان لأحمد إخوة ثلاثة وهم: محمد والفضل والحسين قتلوا في عصبيّة العرب والعجم وكان خليفة عمرو بن الليث على مرو فسخطه وحسبه بسجستان. ثم فرّ من محبسه ولحق بمرو فملكها واستأمن إلى أحمد بن إسماعيل، وقام بدعوته فاستدعاه إلى بخارى وأكرمه ورفع منزلته. ونظّمه في طبقة القوّاد وبقي في خدمته وخدمة بنيه، فلما انتقض الحسين بن علي بنيسابور على السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل سنة اثنتين وثلاثمائة، سار إليه أحمد بن سهل في العساكر وظفر به كما مرّ. وولّى السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل على نيسابور قراتكين مولاهم.
(مقتل ليلى بن النعمان ومهلكه)
كان ليلى بن النعمان من كبار الديلم، ومن قوّاد الأطروش، وكان الحسن بن القاسم الداعي قد ولّاه على جرجان سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان أولاد الأطروش يحلّونه في كتابهم بالمؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كريما شجاعا. ولمّا ولي جرجان سار إليه قراتكين وقاتله على عشرة فراسخ من جرجان، فانهزم قراتكين، واستأمن غلامه فارس إلى ليلى في ألف رجل من أصحابه، فأمّنه
__________
[1] ورد اسمه من قبل محمد بن جند وفي الكامل محمد بن حيد ولعله كله تحريف من الناسخ.

(4/443)


وأكرمه وزوّجه أخته، واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت سهل، وحرّضه على المسير إلى نيسابور وبها قراتكين، وكان أجناده قد كثروا وضاقت عليهم الأموال فاستأذن الداعي في المسير إلى نيسابور، فأذن له، وسار إليها في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثمائة فملكها، وأقام بها الخطبة للداعي الحسين بن القاسم، وأنفذ السعيد نصر العساكر من بخارى مع حمويه بن علي ومحمد بن عبيد الله البلغميّ وأبي جعفر صعلوك، وخوارزم شاه وسيجور الدواتيّ، فانهزم أكثر أصحاب حمويه وثبت القوّاد، وجالت العساكر جولة فانهزم ليلى ودخل آمد. ولحقه بقراخان ملك الترك جاء مع العساكر مددا فقبض على ليلى في آمد، وبعث إلى حمويه بذلك، فبعث إليه من قطع رأس ليلى في ربيع سنة تسع وثلاثمائة. وبعث به إلى بخارى وطلب قوّاد الديلم الذين كانوا مع ليلى الأمان فأمّنوهم بعد أن أشار حمويه بقتلهم والراحة منهم، فلم يوافقوه. وهؤلاء القوّاد هم الذين خرجوا بعد ذلك على الجهات وملكوها مثل:
أسفار ومرداويح [1] وشبكين وبني بويه وستأتي أخبارهم وبقي فارس [2] غلام قراتكين بجرجان واليا عليها. ثم جاءه قراتكين واستأمن إليه غلامه فارس فأمّنه. ثم قتله سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان.
(حرب سيجور [3] مع ابن الأطروش)
ولما قتل قراتكين غلامه سنة ست عشرة وثلاثمائة وانصرف عن جرجان سار إليها أبو الحسن بن ناصر الأطروش من أستراباذ فملكها، وأنفذ السعيد لحربه سيجور الدواتي في أربعة آلاف فارس فنزل على فرسخين من جرجان، وخرج إليه أبو الحسن في ثمانية آلاف راجل من الديلم فاقتتلا، وكان سيجور قد أكمن لهم وأبطأ عليه الكمين فانهزم واتبعه سرخاب [4] . وشغل عسكر أبي الحسن بالنهب. ثم خرج عليهم الكمين بعد ساعة فانهزم أبو الحسن وقتل من عسكره نحو من أربعة آلاف، وركب البحر إلى
__________
[1] هو مرداويج بن زيار من الديلم (المختصر في اخبار البشر ج 2 ص 73) .
[2] هو بارس كما مرّ معنا من قبل.
[3] ورد اسمه في الكامل سيمجور وقد مرّ معنا من قبل.
[4] هو سرخاب بن وهسوذان ابن عم ما كان بن كالي الديلميّ.

(4/444)


أستراباذ واجتمع إليه فلّ من أصحابه، وجاءه سرخاب بعد أن رجع عن سيجور، وجمع عيال أصحابه ومخلفهم وقدم بهم وأقام سيجور بجرجان. ثم مات سرخاب ورجع ابن الأطروش إلى سارية بعد أن استخلف ما كان بن كالي على أستراباذ، واجتمع إليه الديلم وأمّروه. ثم سار إلى أستراباذ ومعه محمد [1] ليظهر غناؤهم فخرج من سارية، وولّوا عليها بقراخان، ووصلوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور ورجع ما كان إلى أستراباذ مع جرجان ولحق بقراخان بنيسابور [2] . وهذا كان مبتدأ أمر ما كان بن كالي وستأتي أخباره.
(خروج الياس بن إسحاق)
قد تقدّم لنا انتقاض إسحاق وابنه الياس بسمرقند سنة إحدى وثلاثمائة، وكيف غلبهم القائد حمويه. وسار بإسحاق إلى بخارى ومات بها. ولحق ابنه الياس بفرغانة فأقام بها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأجمع المسير إلى سمرقند واستظهر بمحمد بن الحسين بن مت [3] من قوّاد بني سامان، واستمدّ أهل فرغانة من الترك فأمدّوه، واجتمع إليه ثلاثون ألف فارس، وقصد سمرقند وبعث السعيد للمدافعة عنها أبا عمرو ومحمد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة راجل. فلما ورد الياس كمنوا له بين الشجر حتى إذا اشتغلت عساكره بضرب الأبنية خرجوا عليه، فانهزم الحسن بن ست [4] ولحق بأسفيجاب [5] ومنها إلى ناحية طراز وكريت [6] فلقيه دهقان الناحية فقتله،
__________
[1] بياض في الأصل وفي الكامل ج 8 ص 132: «ثم سار محمد بن عبيد الله البلغميّ وسيمجور إلى باب أستراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي فلما طال مقامهم اتفقوا معه على أن يخرج عن أستراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالا ليظهر للناس انهم قد افتتحوها» .
[2] العبارة غير واضحة في الكامل ج 8 ص 132: «وجعلوا بغرا بأستراباذ، فلما سارا عنها عاد اليها ما كان ابن كالي، ففارقها بغرا إلى جرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بغرا إلى نيسابور، وأقام ما كان بجرجان» .
[3] محمد بن الحسين بن متّ: ابن الأثير ج 8 ص 133.
[4] اسمه الصحيح محمد بن الحسين بن مت كما سبق.
[5] أسبيجاب: المرجع السابق.
[6] هكذا بالأصل وفي الكامل: «ومنها الى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها وأطمع، وقبض عليه وقتله» .

(4/445)


وأنفذ رأسه إلى بخارى. ثم استمدّ الياس صاحب الشاش، وهو أبو الفضل بن أبي يوسف فأمدّه بنفسه وبعث إليه أليسع بالمدد، وعاود محاربة الوالي بسمرقند، فانهزم إلى كاشغر، وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها. وسار الياس إلى كاشغر وصاحبها طغاتكين [1] من ملوك الترك فصاهره بابنته وأقام معه.
(استيلاء السعيد على الري)
كان المقتدر قد عقد على الريّ ليوسف بن أبي الساج، وسار إليه سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فملكه من يد أحمد بن علي أخي صعلوك، وقد كان فارق أخاه صعلوكا وسار إلى المقتدر فولّاه على الري. ثم انتقض على المقتدر ووصل يده بما كان بن كالي قائد الديلم وأولاد الأطروش وهم بطبرستان وجرجان. وفارق طاعة المقتدر، فسار إليه يوسف بن أبي الساج وحاربه فقتله، واستولى على الريّ ثم استدعاه المقتدر سنة أربع عشرة وثلاثمائة إلى واسط لقتال القرامطة، وكتب إلى السعيد نصر بن أحمد بولاية الريّ فاستخلف عليها [2] وأمره بالمسير إليها، وأخذها فاتك مولى يوسف بن أبي الساج فسار نصر السعيد لذلك أوّل سنة أربع عشرة وأربعمائة فلما وصل إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من الاجتياز به، فبذل له ثلاثين ألف دينار واسترضاه.
وسار إلى الريّ فخرج عنها فاتك، واستولى عليها السعيد منتصف السنة، وأقام بها شهرين. ثم عاد عنها إلى بخارى واستعمل عليها محمد بن علي الملقّب صعلوك، فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة، ومرض فكاتب الداعي وما كان بن كالي في القدوم ليسلّم لهم الريّ. فقدموا واستولوا على الريّ وسار صعلوك عنها فمات في طريقه. وأقام الحسن الداعي بالريّ مالكا لها. واستولى معها على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ ومعه ما كان. وكان أسفار قد استولى على طبرستان، فسار الداعي وما كان إليه، والتقوا على سارية فانهزم، وقتل الداعي كما مرّ في أخبار العلويّة بطبرستان.
__________
[1] طغاتكين: المرجع السابق.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 166: «وولى عليها سيمجور الدواتي وعاد عنها ثم استعمل عليها محمد بن علي صعلوك، وسار نصر إلى بخارى»

(4/446)


(ولاية أسفار على جرجان والري)
كان أسفار بن شيرويه من أعيان الديلم وكان من أصحاب ما كان بن كالي. وقد تقدّم لنا أنّ أبا الحسن بن الأطروش ولّى ما كان على أستراباذ وأنّ الديلم اجتمعوا إليه وأمّروه، وأنّه ملك جرجان واستولى بعدها على طبرستان، وولّى أخاه أبا الحسن بن كالي على جرجان. وكان أسفار بن شيرويه من قوّاده، فانصرف مغاضبا عنه سنة خمس عشرة وثلاثمائة إلى بكر بن محمد بن أليسع بنيسابور فبعثه بكر إلى جرجان ليفتحها، واضطرب أمر جرجان لأن ما كان ابن كالي اعتقل بها أبا علي الأطروش بنظر أخيه ابن كالي، فوثب الأطروش على أخيه أبي الحسن وقتله وملك جرجان [1] . واستقدم أسفار بن شيرويه فقدم وضبط أمره، وسار إليهم ما كان من طبرستان في جيوشه فهزموه، واتبعوه إلى طبرستان فملكوها، وأقاموا بها. وهلك أبو علي ابن الأطروش بطبرستان، فعاد ما كان بن كالي وأخرج أسفار بن شيرويه من طبرستان.
ثم زحف أسفار إلى الداعي وما كان والتقوا على السيّاريّة فانهزم الداعي وما كان وقتل الداعي. واستولى أسفار على طبرستان وجرجان والريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ. ودعا للسعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان واستعمل على آمد هارون ابن بهرام يريد استخلاصه لنفسه، لأن هارون كان يخطب لأبي جعفر من ولد الأطروش فولّاه آمد وزوّجه ببعض نساء الأعيان بها. وحضر عرسه أبو جعفر وغيره من العلويّين، فهجم عليه أسفار يوم العرس فقبض على أبي جعفر والعلويّين وحملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها، واستفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد صاحب خراسان وعلى الخليفة المقتدر. وسار السعيد من بخارى إلى نيسابور لمحاربته وأشار عليه وزيره محمد بن مطرّف الجرجاني بطاعة السعيد، وخوّفه منه، فقبل إشارته ورجع إلى طاعة السعيد، وقبل شروطه من حمل المال وغيره. ثم انتقض عليه
__________
[1] العبارة غير واضحة وغير صحيحة وفي الكامل ج 8 ص 175- 176: «وكان ما كان بن كالي ذلك الوقت بطبرستان، وأخوه ابو الحسن بن كالي بجرجان، وقد اعتقل ابا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده، فشرب ابو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه فغرّقهم، وبقي في بيت هو والعلويّ، فقام الى العلويّ ليقتله، فظفر به العلويّ وقتله» .

(4/447)


مرداويح [1] واستدعى ما كان من طبرستان وهزم أسفار وقتله. وملك ما بيده من الأعمال كما يذكر في أخبار الديلم. ثم ملك طبرستان وجرجان من يد ما كان، فاستمدّ ما كان السعيد فأمدّه بأبي علي بن محمد المظفّر فهزمهما مرداويح، وعاد أبو علي إلى نيسابور وما كان إلى خراسان.
(خروج أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل على أخيهم السعيد)
كان السعيد نصر بن أحمد لمّا ولي استراب بإخوته، وكانوا ثلاثة أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم أولاد الأمير أحمد بن إسماعيل، فحبسهم في القندهان ببخارى ووكّل بهم. فلما سار السعيد إلى نيسابور سنة خمس عشرة فتقوا السجن وخرجوا منه على يد رجل خبّاز من أصفهان يسمّى أبا بكر، داخلهم في محبسهم بتسهيل نفقتهم التي كانت على يده. وجاء إلى القندهان قبل يوم الجمعة الّذي كان ميقاتا لفتحه، وأقام عندهم مظهرا للزهد والدين، وبذل للبوّاب دنانير على أن يخرجه ليلحق الصلاة في الجماعة، ففتح له الباب وقد أعدّهم جماعة للوثوب، فحبسوا البواب، وأخرجوا أولاد الأمير أحمد ومن معهم في الحبس من العلويّين والديلم والعيّارين. واجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر والقوّاد ورأسهم شروين الجبليّ، وبايعوا يحيى ابن الأمير أحمد، ونهبوا خزائن السعيد وقصوره. وقدّم يحيى أبا بكر الخبّاز، وبلغ الخبر الى السعيد فعاد من نيسابور إلى بخارى. وكان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقيما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي وصاهره، وولّاه نيسابور فسار إليها. ولما جاء السعيد إلى بخارى اعترضه أبو بكر الخبّاز عند النهر فهزمه السعيد، وأسره ودخل بخارى فعذّبه وأحرقه في تنوره الّذي كان يخبز فيه. ولحق يحيى بسمرقند ثم مرّ بنواحي الصغانيان، وبها أبو علي بن أحمد بن أبي بكر بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان مقبما بجرجان، فاستدعى ما كان بن كالي إلى جرجان، ولقوا بها محمد بن الياس،
__________
[1] مرداويج كما مرّ معنا في السابق.

(4/448)


وقوي أمره، فلما جاء يحيى إلى نيسابور خطب له وأظهر دعوته. ثم قصدهم السعيد فافترقوا، ولحق ابن الياس بكرمان، ولحق يحيى وقراتكين ببست والرخّج، ووصل السعيد إلى نيسابور سنة عشرين وثلاثمائة واصطلح قراتكين وأمّنه وولّا، بلخ، وذهبت الفتنة. وأقام السعيد بنيسابور إلى أن استأمن إليه أخواه يحيى ومنصور وحصرا عنده وهلكا، وفرّ إبراهيم إلى بغداد، ومنها إلى الموصل. وهلك قراتكين ببست، وصلحت أمور الدولة. وكان جعفر بن أبي جعفر بن داود واليا لبني سامان على الختّل، فاستراب به السعيد، وكتب إلى أبي علي أحمد بن أبي بكر محمد بن المظفّر وهو بالصغانيان أن يسير إليه، فسار إليه وحاربه وكسره، وجاء به إلى بخارى فحبس بها، فلما فتق السجن خرج مع يحيى وصحبهم. ثم لما رأى تلاشي أموره استأذنه في المسير إلى الختّل فأذن له فسار إليها، وأقام بها، ورجع إلى طاعة السعيد سنة ثمان عشرة وصلح حاله. (والختل بخاء معجمة مضمومة وتاء مثناة فوقانية مشددة مفتوحة) .
(ولاية ابن المظفر على خراسان)
كان أبو بكر محمد بن المظفّر واليا للسعيد نصر على جرجان. ولما استفحل أمر مرداويح بالريّ كما يأتي في أخبار الديلم، خرج عنها ابن المظفّر ولحق بالسعيد نصر في نيسابور وهو مقيم بها، فسار السعيد في عساكره نحو جرجان، ووقعت المكاتبة بين محمد بن عبيد الله البلغميّ مدبّر دولته، وبين مطرّف بن محمد، واستماله محمد فمال إليه مطرّف وقتله سلطانه مرداويح. ثم بعث محمد ينتصح لمرداويج ويذكره نعمة السعيد عنده في اصطناعه وتوليته، وتطوّق العار في ذلك المطرف الوزير الهالك ويهوّل عليه أمر السعيد ويخوّفه ويشير عليه بمسالمة جرجان إليه. وصالحه السعيد عليها ولما فرغ السعيد من أمر جرجان وأحكمه استعمل محمد بن المظفّر بن محتاج على جيوش خراسان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وردّ إليه تدبير الأمور بجميع نواحيها.
وسار إلى كرسي ملكه ببخارى واستقرّ بها.
ابن خلدون م 29 ج 4

(4/449)


(استيلاء السعيد على كرمان)
كان محمد بن الياس من أصحاب السعيد، ثم سخطه وحبسه، وشفع فيه محمد بن عبيد الله البلغمي فأطلقه، وسيّره محمد بن المظفّر إلى جرجان. ثم سار إلى يحيى وإخوته عند ما توثبوا ببخارى فكان معه في الفتنة، وخطب له بنيسابور كما مرّ. فلمّا زحف السعيد إليهم فارق يحيى ولحق بكرمان، واستولى عليها. ثم خرج إلى بلاد فارس وبها ياقوت مولى الخلفاء فوصل إليه بإصطخر يريد ان يستأمن له، وأطلع ياقوت على مكره، فرجع إلى كرمان ثم بعث السعيد ما كان بن كالي في العساكر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وقاتل ابن الياس وهزمه وملك كرمان بدعوة السعيد نصر بن أحمد وسار الياس إلى الدّينور. ثم رجع ما كان عن كرمان على ما نذكره بعد، فرجع إليها ابن الياس، وسبب خروج ما كان أنّ السعيد بعد قتل مرداويح كتب إليه وإلى محمد بن المظفّر صاحب خراسان أن يقصد جرجان والريّ وبها وشمكير أخو مرداويح، فجاء ما كان على المفازة ووصل إلى نيسابور بعد أن كان محمد بن المظفّر قد استولى عليها، بعث إليه مددا فهزمتهم عساكر وشمكين فأقصر ما كان عن حربهم، وأقام بنيسابور وجعلت ولايتها له، وذلك أوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم صفت كرمان لمحمد بن الياس بعد حروب مع جيش نصر كان له الظفر فيها آخرا.
(استيلاء ماكان على كرمان وانتقاضه)
لما ملك مانحين جرجان وأقام ما كان بنيسابور وجعلت ولايتها له وهلك مانحين لأيام من دخوله جرجان، استنفر محمد المظفّر ما كان للمسير إلى جرجان فاعتلّ بالخروج بجميع أصحابه وسار إلى أسفراين، فأنفذ عسكرا إلى جرجان واستولى عليها. ثم انتقض وسار إلى نيسابور وبها محمد بن المظفّر وكان غير مستعدّ للحرب فسار نحو سرخس، ودخل ما كان نيسابور سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم رجع عنها خوفا من اجتماع العساكر.

(4/450)


(ولاية علي بن محمد على خراسان وفتحه جرجان)
كان أبو بكر محمد بن المظفّر بن محتاج صاحب خراسان من ولاة السعيد عليها سنة احدى وعشرين وثلاثمائة فلمّا كانت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة اعتلّ أبو بكر وطال به مرضه، وقصد السعيد راحته فاستقدم ابنه أبا علي من الصغانيان، وبعثه أميرا على خراسان واستدعى أباه أبا بكر فلقي ابنه أبا عليّ على ثلاث مراحل من نيسابور فوصّاه وحمّله حملا من سياسته. وسار إلى بخارى ودخل ابنه أبو علي نيسابور من السنة فأقام بها أياما. ثم سار في محرّم سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى جرجان وبها ما كان بن كالي مستنقضا على السعيد، وقد غوّروا المياه في طريقه فسلك إليهم غمرة حتى نزل على فرسخ من جرجان، وحاصرها وضيّق عليها وقطع الميرة عنها حتى جهدهم الحصار. وبعث ما كان بن كالي إلى وشمكير وهو بالريّ، فأمدّه بقائد من قوّاده فلما وصل إلى جرجان شرع في الصلح بينهما لينجو فيه ما كان فتمّ ذلك، وهرب ما كان إلى طبرستان واستولى أبو علي على جرجان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة واستخلف عليها إبراهيم بن سيجور الدواتي.
(استيلاء أبي علي على الريّ وقتل ما كان بن كالي)
ولما ملك أبو علي جرجان أصلح أمورها. ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيجور وسار إلى الريّ في ربيع سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وبها وشمكير بن زياد أخو مرداويح قد تغلّب عليها من بعد أخيه. وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي صاحب خراسان، ويستحثّانه لقصد الريّ بأنّ أبا عليّ لا يقيم بها لسعة ولايته فتصفو لهما. فلمّا سار أبو علي لذلك بعث وشمكير إلى ما كان بن كالي يستنجده، فسار إليه من طبرستان وسار أبو علي، وجاءه مدد ركن الدولة بن بويه والتقوا بنواحي الريّ فانهزم وشمكير وما كان. ثم ثبت ما كان، ووقف مستميتا فأصابه سهم فقتله، وهرب وشمكير إلى طبرستان فأقام بها واستولى أبو علي على الريّ سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وأنفذ رأى ما كان والأسرى معه إلى بخارى فأقاموا حتى دخل وشمكير في

(4/451)


طاعة بني سامان. وسار إلى خراسان سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوهبهم الأسرى فأطلقوا له وبقي الرأس ببخارى ولم يحمل إلى بغداد.
(استيلاء أبي عليّ على بلد الجبل)
ولما ملك أبو علي بن محتاج صاحب خراسان بلد الريّ والجبل من يد وشمكير، وأقام بها دعوة السعيد نصر بعث العساكر إلى بلد الجبل ففتحها، واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرخ وهمذان ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى الأموال. وكان الحسن بن الفيرزان بسارية وهو ابن عم ما كان بن كالي وكان وشمكير يطمع في طاعته له وهو يتمنع، فقصده وشمكير وحاصره بسارية وملكها عليه. واستنجد الحسن أبا عليّ بن محتاج فسار معه لحصار وشمكير بسارية سنة ثلاثين وثلاثمائة، وضيّق عليه حتى سأل الموادعة، فصالحه أبو علي على طاعة السعيد نصر، وأخذ رهنه، ورحل عنه إلى جرجان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ثم بلغه موت السعيد فعاد أبو عليّ إلى خراسان فملكها وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله وردّ عليه ابنه سلار الرهينة ليستعين به على الخراسانية، فوعده وأطمعه. ولما ملك وشمكير الريّ طمع فيه بنو بويه لأنه كان قد اختلّ أمره بحادثته مع أبي علي، فسار الحسن بن الفيرزان إلى الريّ، وقاتل وشمكير فهزمه، واستأمن إليه الكثير من جنده. وسار وشمكير إلى الريّ فاعترضه الحسن بن الفيرزان من جرجان وهزمه إلى خراسان، وراسل الحسن ركن الدولة وتزوّج بنته واتصل ما بينهما.
(وفاة السعيد نصر وولاية ابنه نوح)
ثم أصاب السعيد نصرا صاحب خراسان وما وراء النهر مرض السلّ، فاعتلّ ثلاثة عشرة شهرا ومات في شعبان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة لثلاثين سنة من ولايته. وكان يؤثر عنه الكرم والحلم، وأخلص في مرضه التوبة إلى أن توفي. ولما مات ولي مكانه ابنه نوح، وكان يؤثر الكرم والحلم عنه، وبايعه الناس ولقّب الحميد، وقام بتدبير

(4/452)


ملكه أبو الفضل أحمد بن حوية [1] وهو من أكابر أصحاب أبيه، كان أبوه السعيد ولّى ابنه إسماعيل بخارى في كفالة أبي الفضل وولايته، فأساء السيرة مع نوح وحقد له ذلك. وتوفي إسماعيل في حياة أبيه، وكان يؤثر أبا الفضل فحذّره من ابنه نوح.
فلما ولي نوح سار أبو الفضل من بخارى وعبر جيحون إلى آمد. وكان بينه وبين أبي علي بن محتاج صهر، فبعث إليه يخبره بقدومه فنهاه عن القدوم عليه. ثم كتب له نوح بالأمان وولّاه سمرقند وكان [2] على الحاكم صاحب الدولة ولا يلتفت إليه، والآخر يحقد عليه ويعرض عنه. ثم انتقض عبد الله بن أشكام بخوارزم على الأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وبعث إليه جيشا مع إبراهيم بن فارس [3] فمات في الطريق. واستجار ابن أشكام بملك الترك، وكان ابنه محبوسا ببخارى فبعث إليه نوح بإطلاق ابنه على أن يقبض على ابن أشكام، وأجابه ملك الترك لذلك. ولما علم بذلك ابن أشكام عاد إلى طاعة نوح وعفا عنه وأكرمه.
(استيلاء أبي علي على الريّ ودخول جرجان في طاعة نوح)
ثم إنّ الأمير نوحا سار إلى مرو وأمر أبا علي بن محتاج أن يسير بعساكر خراسان إلى الريّ وينتزعها من يد ركن الدولة بن بويه فسار لذلك، ولقي في طريقه وشمكير وافدا على الأمير نوح فبعثه إليه. وسار أبو علي إلى بسطام فاضطرب جنوده، وعاد عنه منصور بن قراتكين من أكابر أصحاب نوح، فقصدوا جرجان وصدّهم الحسن بن الفيرزان فانصرفوا الى نيسابور. وسار إلى الأمير نوح بمرو فأعاده وأمده بالعساكر. وسار من نيسابور في منتصف ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وعلم ركن الدولة بكثرة جموعه، فخرج من الري واستولى أبو علي عليها، وعلى سائر أعمال الجبال. وأنفذ نوّابه إلى الأعمال
__________
[1] هو ابو الفضل محمد بن أحمد الحاكم.
[2] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 404: «وكان ابو الفضل معرضا عن محمد بن أحمد الحاكم، ولا يلتفت إليه» .
[3] إبراهيم بن بارس: ابن الأثير ج 8 ص 415.

(4/453)


وذلك في رمضان من سنته. ثم سار الأمير نوح من مرو إلى نيسابور، وأقام بها، ووضع [1] جماعة من الغوغاء والعامّة يستغيثون من أبي علي ويشكون سوء السيرة منه ومن نوّابه، فولّى على نيسابور إبراهيم بن سيجور [2] وعاد عنها وقصد أن يقيم أبو علي بالري لحسن دفاعه عنها وينقطع طمعه عن خراسان، فاستوحش أبو علي للعزل وشق عليه. وبعث أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وخلافة العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور، واستولى عليها واستأمن إليه رؤساء الأكراد بتلك النواحي، وأعطوا رهنهم على الطاعة وكان وشمكير لما وفد على الأمير نوح بمرو كما قدّمناه استمدّه على جرجان، فأمدّه بعسكر، وبعث إلى أبي علي بمساعدته، فلقي أبا علي منصرفه في المرّة الأولى من الري إلى نيسابور، فبعث معه جميع من بقي من العسكر، وسار وشمكير إلى جرجان وقاتل الحسن بن الفيرزان فهزمه واستولى على جرجان بدعوة نوح بن السعيد وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
(انتقاض أبي علي وولاية منصور بن قراتكين على خراسان)
قد تقدم لنا أنّ الأمير نوحا عزل أبا علي بن محتاج عن خراسان، وكان من قبلها عزله عن ديوان الجند وهو لنظره، وبعث من يستعرض الجند فمحا وأثبت وزاد في العطاء ونقص فاستوحش لذلك كله، واستوحش الجند من التعرّض إليهم بالإسقاط، ولأرزاقهم بالنقصان. وخلص بعضهم إلى بعض بالشكوى، واتفقوا في سيرهم إلى الريّ وهم بهمذان على استقدام إبراهيم بن أحمد أخي السعيد الّذي كان قد هرب أمامه إلى الموصل كما تقدم. وظهر أبو علي على شأنهم، فنكر عليهم فتهدّدوه، وكاتبوا إبراهيم واستدعوه، وجاء إليهم بهمذان في رمضان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وكاتبه أبو علي، وكتب أخوه الفضل سرا إلى الأمير نوح بذلك، ونمي خبر كتابه إلى أخيه أبي
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 444: «ثم ان الأمير نوحا سار من مرو الى نيسابور فوصل اليها في رجب وأقام بها خمسين يوما، فوضع أعداء أبي علي جماعة من الغوغاء والعامّة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوابه» .
[2] إبراهيم بن سيمجور (المرجع السابق) .

(4/454)


علي فقبض عليه، وعلى متولي الديوان. وسار إلى نيسابور، واستخلف على الريّ والجبل، وبلغ الخبر إلى الأمير نوح، فنهض إلى مرو واضطرب الناس عليه، وشكوا من محمد بن أحمد الحاكم مدبّر ملكه، ورأوا أنه الّذي أوحش أبا عليّ وأفسد الدولة، فنقموا ذلك عليه، واعتلّوا عليه فدفع إليهم الحاكم فقتلوه منتصف خمس وثلاثين وثلاثمائة. ووصل أبو علي إلى نيسابور وبها إبراهيم بن سيجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القوّاد فاستمالهم، وساروا معه، ودخلها في محرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ثم ارتاب بمنصور بن قراتكين فحبسه، وسار من نيسابور ومعه العم إبراهيم إلى مرو، وهرب أخوه الفضل في طريقه من محبسه، ولحق بقهستان. ولما قاربوا مرو اضطرب عسكر الأمير نوح، وجاء إليهم أكثرهم. واستولى عليها وعلى طخارستان، وبعث نوح العساكر من بخارى مع الفضل أبي علي إلى الصغانيان فأقاموا بها، ودسّ إليهم أبو عليه فقبضوا على الفضل وبعثوا به الى بخارى وعاد أبو علي من طخارستان إلى الصغانيان فأقاموا بها في ربيع سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وقاتل العساكر فغلبوه، ورجع إلى الصغانيان. ثم تجاوزها وأقام قريبا منها، ودخلتها العساكر فخرّبوا قصوره ومساكنه، وخرجوا في اتباعه، فرجع وأخذ عليهم المسالك، فضاقت أحوالهم، وجنحوا إلى الصلح معه على أن يبعث بابنه أبي المظفّر عبد الله إلى الأمير نوح رهينة، فانعقد ذلك منتصف سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. وبعث بابنه إلى بخارى فأمر نوح بلقائه، وخلع عليه وخلطه بندمائه، وسكنت الفتنة. قال ابن الأثير: هذا الّذي ذكره مؤرخو خراسان في هذه القصة، وأمّا أهل العراق فقالوا: إنّ أبا علي لمّا سار نحو الريّ استمدّ ركن الدولة بن بويه أخاه عماد الدولة فكتب يشير عليه بالخروج عن الريّ وملكها أبو علي، وكتب عماد الدولة إلى نوح سرّا يبذل له في الريّ في كل سنة مائة ألف دينار وزيادة على ضمان أبي علي، ويعجّل له ضمان سنة وسجله عليه. ثم دسّ عماد الدولة إلى نوح في القبض على أبي علي وخوّفه منه، فأجاب الأمير نوح إلى ذلك، وبعث تقرير الضمان، وأخذ المال. ودسّ ركن الدولة إلى أبي علي بهمذان ورجع به على خراسان. وعاد ركن الدولة إلى الريّ واضطربت خراسان، ومنع عماد الدولة مال الضمان خوفا عليه في طريقه من أبي علي. وبعث إلى أبي علي يحرّضه على اللقاء ويعده بالمدد. وفسد ما بينه وبين إبراهيم، وانقبض عنه، وأنّ الأمير نوحا سار إلى بخارى عند مفارقتها أبي علي.

(4/455)


وحارب إبراهيم العم ففارقه القوّاد إلى الأمير نوح فأخذ أسيرا وسمله الأمير نوح وجماعة من أهل بيته والله أعلم.
(انتقاض ابن عبد الرزاق بخراسان)
كان محمد بن عبد الرزاق عاملا بطوس وأعمالها وكان أبو علي استخلفه بنيسابور عند ما زحف منها إلى الأمير نوح، فلما راجع الأمير نوح ملكه انتقض ابن عبد الرزاق بخراسان. وولّى الأمير نوح على خراسان محمد بن عبد الرزاق [1] واتفق وصول وشمكير منهزما من جرجان أمام الحسن الفيرزان، واستمدّ الأمير نوحا فأخرج معه منصورا في العساكر وأمرهما بمعاجلة ابن عبد الرزاق، فخرج سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى أستراباذ ومنصور في اتباعه فلحق بجرجان واستأمن إلى ركن الدولة بن بويه ومضى إلى الريّ. وسار منصور بن قراتكين إلى طوس، وحاصر رافع إلى قلعة أخرى [2] فحاصره منصور بها حتى استأمن إليه، وجمع ما معه فأنهبه أصحابه.
وخرج معهم فافترقوا في الجبال واحتوى منصور على ما وجد بالحصن وحمل عيال محمد بن عبد الرزاق وأمّه إلى بخارى فاعتقلوا بها. ولما وصل محمد بن عبد الرزاق إلى ركن الدولة بن بويه أفاض عليه العطاء وسرّحه إلى محاربة المرزبان بأذربيجان كما يأتي.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 470: «كان محمد بن عبد الرزاق بطوس وأعمالها، وهي في يده ويد نوّابه، فخالف على الأمير نوح بن نصر السامانيّ، وكان منصور بن قراتكين، صاحب جيش خراسان، بمرو عند نوح، فوصل اليها وشمكير منهزما من جرجان، قد غلبه عليها الحسن بن الفيرزان» .
[2] هكذا بالأصل والمعنى غير واضح وفي الكامل: «وسار منصور من نيسابور الى طوس، وحصروا رافع بن عبد الرزاق بقلعة شميلان، فاستأمن بعض أصحاب رافع إليه، فهرب رافع من شميلان الى حصن درك، فاستولى منصور على شميلان، وأخذ ما فيها من مال وغيره واحتمى رافع بدرك، وبها أهله ووالدته، وهي على ثلاثة فراسخ من شميلان، فأخرب منصور شميلان، وسار إلى درك فحاصرها، وحاربهم عدة أيام فتغيّرت المياه بدرك، فاستأمن أحمد بن عبد الرزاق الى منصور ... » .

(4/456)


استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان ومسير العساكر إلى جرجان والصلح مع الحسن بن الفيرزان
ولما وقع من الاضطراب ما وقع بخراسان، اجتمع ركن الدولة بن بويه والحسن بن الفيرزان، وقصدوا بلاد وشمكير فهزموه، وملك ركن الدولة طبرستان. وسار إلى جرجان فملكها، وأقام بها الحسن بن الفيرزان. واستأمن قوّاد وشمكير إليهم فأمّنوهم وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بصاحب خراسان، فسار معه منصور بن قراتكين في عساكر خراسان إلى جرجان، وبها الحسن بن الفيرزان. واسترهن ابنه، ثم أبلغه عن الأمير نوح ما أقلعه فأعاد على الحسن ابنه، وعاد إلى نيسابور وأقام وشمكير باورن [1]
(مسير ابن قراتكين الى الريّ وعوده اليه)
ثم سار منصور بن قراتكين سنة تسع وثمانين وثلاثمائة [2] إلى الريّ بأمر الأمير نوح لغيبة ركن الدولة بن بويه في نواحي فارس، فوصل إلى الريّ، واستولى عليها وعلى الجبل إلى قرميسين فكبس الذين بها من العسكر وهم غارون وأسروا مقدّمهم محكما وحبس ببغداد، ورجع الباقون إلى همذان. فسار سبكتكين نحوهم، وجاء ركن الدولة إثر الانهزام، وشاور وزيره أبا الفضل بن العميد فأشار عليه بالثبات. ثم أجفل عسكر خراسان إلى الريّ لانقطاع الميرة عنهم، وكان ذلك سواء بين الفريقين، إلّا أنّ الديلم كانوا أقرب إلى البداوة، فكانوا أصبر على الجوع والشظف، فركب ركن الدولة واحتوى على ما خلفه عسكر خراسان.
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 478: «وأقام الحسن بزوزن وبقي وشمكير بجرجان» .
[2] يذكر ابن الأثير هذه الحوادث سنة 339 وهو الصحيح وليس تسع وثمانين كما يذكر ابن خلدون.

(4/457)


(وفاة ابن قراتكين ورجوع أبي عليّ بن محتاج إلى ولاية خراسان)
ثم توفي منصور بن قراتكين صاحب خراسان بالريّ بعد عوده من أصفهان في ربيع سنة أربعين، وحملت جنازته إلى أسفيجاب فدفن بها عند والده، فولّى الأمير نوح على خراسان أبا علي بن محتاج، وأعاده إلى نيسابور. وقد كان منصور يستقيل من ولاية خراسان لما يلقى بها من جندها، ويستعفي نوحا المرّة بعد المرّة، وكان نوح يعد أبا علي بعوده إلى ولايته. فلما توفي منصور بعث إليه بالخلع واللواء، وأمره بالمسير وأقطعه الريّ وأمره بالمسير إليها فسار عن الصغانيان في رمضان سنة أربعين وثلاثمائة واستخلف مكانه ابنه أبا منصور وانتهى إلى مرو فأقام إلى أن أصلح امر خوارزم وكانت شاغرة. ثم سار إلى نيسابور فأقام بها. ولما كانت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة كتب وشمكير إلى الأمير نوح يأمر أبا علي ابن محتاج بالمسير معه في عساكر خراسان، فساروا في ربيع من السنة، وخام ركن الدولة عن لقائهم، فامتنع بطزل [1] وأقام عليه أبو علي عدّة شهور يقاتله حتى سئم العسكر، وعجفت دوابهم فمال إلى الصلح، وسعى بينهما فيه محمد بن عبد الرزاق المقدّم ذكره، فتصالحا على مائتي ألف دينار ضريبة يعطيها ركن الدولة في كل سنة، ورجع أبو علي إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ أبا علي لم ينصح في الحرب، وأنّ بينه وبين ركن الدولة مداخلة. وسار ركن الدولة بعد انصراف أبي علي نحو وشمكير فانهزم إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان.
(عزل الأمير أبي علي عن خراسان ومسيره الى ركن الدولة وولاية بكر بن مالك مكانه)
ولما تمكنت سعاية وشمكير من أبي علي عند الأمير نوح، كتب إليه بالعزل عن خراسان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وكتب إلى القواد بمثل ذلك. واستعمل على
__________
[1] هو حصن من حصون فارس.

(4/458)


الجيوش مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، وبعث أبو علي يعتذر فلم يقبل وأرسل جماعة من أعيان نيسابور يسألون إبقاءه فلم يجيبوا، فانتقض أبو علي وخطب لنفسه بنيسابور وكتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بأن يتفقا ويتعاضدا على أولياء ركن الدولة حيث كانوا ففعلا ذلك، فارتاب أبو علي بأمره ولم يمكنه العود إلى الصغانيان، ولا المقام بخراسان، فصرف وجهه إلى ركن الدولة واستأذنه في المسير إليه فأذن. وسار أبو علي إلى الريّ سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فأكرمه ركن الدولة وأنزله معه واستولى بكر على خراسان.
(وفاة الأمير نوح وولاية ابنه عبد الملك)
ثم توفي الأمير نوح بن نصر ولقبه الحميد في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وولي بعده ابنه عبد الملك. وقام بأمره بكر بن مالك الفرغاني فلمّا قرّر أمر دولته، وثبت ملكه، أمر بكرا بالمسير إلى خراسان فكان من شأنه مع أبي علي ما قدّمناه.
(مسير العساكر من خراسان الى الري وأصفهان)
ثم زحفت عساكر خراسان إلى الريّ سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وبها ركن الدولة بن بويه قدم إليها من جرجان، واستمدّ أخاه معزّ الدولة ببغداد، فأمدّه بالحاجب سبكتكين. وبعث بكر عسكرا آخر من خراسان مع محمد بن ما كان على طريق المفازة إلى أصفهان. وكان بأصفهان أبو منصور علي بن بويه بن ركن الدولة فخرج عنها مجرم أبيه وخزائنه. وانتهى الى خالنجان، ودخل محمد بن ماكان أصفهان وخرج في اتباع ابن بويه، وأدرك الخزائن فأخذها وسار فأدركه. ووافق وصول أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة في تلك الساعة فقاتله ابن ماكان وهزم أصحابه، وثبت ابن العميد، وشغل عسكر ابن ما كان بالنهب، فاجتمع على ابن العميد لمة من العسكر فاستمات، وحمل على عسكر ابن ما كان فهزمهم وأسر ابن

(4/459)


ما كان. وسار ابن العميد إلى أصفهان فملكها، وأعاد حرم ركن الدولة وأولاده إلى حيث كانوا من أصفهان. ثم بعث ركن الدولة إلى بكر بن مالك صاحب الجيوش بخراسان وقرّر معه الصلح على مال يحمله ركن الدولة إليه على الريّ وبلد الجيل، فتقرّر ذلك بينهما، وبعث إليه من عند أخيه ببغداد بالخلع واللواء بولاية خراسان، فوصلت إليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
(وفاة عبد الملك بن نوح صاحب ما وراء النهر وولاية أخيه منصور)
ثم توفي الأمير عبد الملك لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، لسبع سنين من ولايته. وولي بعده أخوه أبو الحرث منصور بن نوح، واستولى ركن الدولة لأوّل أيامه على طبرستان وجرجان فملكهما. وسار وشمكير عنها فدخل بلاد الجبل.
(مسير العساكر من خراسان الى الري ووفاة وشمكير)
قد ذكرنا من قبل أنّ وشمكير كان يقدح في عمّال بني سامان بأنهم لا ينصحون لهم، ويداخلون عدوّهم من الديلم. ووفد أبو علي بن الياس صاحب كرمان على الأمير أبي الحرث منصور مستجيشا به علي بني بويه، فحرّضه على قصد الريّ وحذّره من الاستمالة في ذلك إلى عمّاله كما أخبره وشمكير، وبعث إلى الحسن بن الفيرزان بالنفير مع عساكره. ثم أمر صاحب جيوش خراسان أبا الحسن بن محمد بن سيجور الدواني [1] بالمسير إلى الريّ وأوصاه بالرجوع إلى رأي وشمكير. وبلغ الخبر إلى ركن الدولة، فاضطرب وبعث بأهله وولده إلى أصفهان. واستمدّ ابنه عضد الدولة بفارس، وبختيار ابن أخيه عزّ الدولة ببغداد، فبادر عضد الدولة إلى إمداده.
وبعث العساكر على طريق خراسان يريد قصدها لخلوّها من العسكر، فأجحفت
__________
[1] وفي الكامل سيمجور الدواتي وقد مرّ معنا من قبل. ابن الأثير ج 8 ص 578.

(4/460)


عساكر خراسان، وانتهوا إلى الدامغان، فأقاموا. وبرز ركن الدولة نحوهم في عساكره من الريّ، وبينما هم في ذلك ركب وشمكير يوما ليتصيّد فاعترضه خنزير، فأجفل فرسه وسقط الى الأرض وانهشم ومات، وذلك في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وانتقض ما كانوا فيه، وقام يسنون [1] بن وشمكير مقام أبيه، وراسل ركن الدولة وصالحه، فأمدّه ركن الدولة بالمال والرجال.
(خبر ابن الياس بكرمان)
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة بني سامان، واستبدّ بها وأصابه فالج وأزمن به. وكان له ثلاثة من الولد: اليسع والياس وسليمان فعهد إلى اليسع وبعده الياس وأمر سليمان بالعود إلى أرضهم ببلاد الصغد، يقيم بها فيما لهم هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان واليسع فخرج سليمان لذلك، واستولى على السيرجان، فأنفذ إليه أبوه أبو علي ابنه الآخر في عسكر، وأمره بإجلائه عن البلاد، ولا يمكنه من قصد الصغد إن طلبها، فسار وحاصره. ولما ضاق الحصار على سليمان جمع أمواله ولحق بخراسان. وملك اليسع السيرجان وسار إلى خراسان. ثم لحق أبو علي ببخارى ومعه ابنه سليمان فأكرمه الأمير أبو الحرث وقرّبه. وأغزاه أبو علي بالريّ، وتجهيز العساكر إليه كما ذكرناه، وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة كما نذكر في أخباره. ولحق اليسع ببخارى فأقام بها، ثم سعى سليمان عند الأمير أبي الحرث منصور في المسير إلى كرمان وأطمعه في ملكها، وأنّ أهلها في طاعته، فبعث معه عسكرا. ولما وصل أطاعه أهل نواحيها من القمص والبولص وجميع المنتقضين على عضد الدولة، واستفحل أمره فسار إليه كوركين عامل عضد الدولة بكرمان، وحاربه ونزعت عساكره عنه، فانهزم وقتل معه ابنا أخيه اليسع وهما بكر والحسين وكثير من القوّاد وصارت كرمان للديلم.
__________
[1] بيستون: المرجع السابق.

(4/461)


(انعقاد الصلح بين منصور بن نوح وبين بني بويه)
ثم انعقد الصلح بين الأمير أبي الحرث منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وزوّجه ابنته، وحمل إليه الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله.
وكتب بينهم كتاب الصلح، شهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق. وتمّ ذلك على يد أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب الجيوش بخراسان من جهة الأمير أبي الحرث في سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
(وفاة منصور بن نوح وولاية ابنه نوح)
ثم توفي الأمير أبو الحرث منصور ببخارى منتصف سنة ست وستين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم نوح صبيا لم يبلغ الحلم، فاستوزر أبا الحسن العتبي، وجعل على حجابة بابه مولاه أبا العبّاس قاسما، وكان من موالي أبي الحسن العتبي فأهداه إلى الأمير أبي صالح وشركهما في أمر الدولة أبو الحسن فائق، وأقرّ على خراسان أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور واطردت أمور الدولة على استقامتها.
(عزل ابن سيجور عن خراسان وولاية أبي العباس تاش)
قد تقدّم لنا شأن خلف بن أحمد الليثي صاحب سجستان وانتصاره بالأمير منصور ابن فرج على قريبه طاهر بن خلف بن أحمد بن الحسين المنتقض عليه لسنة أربع وخمسين وثلاثمائة وأنه مدّه بالعسكر وردّه إلى ملكه. ثم انتقض طاهر ثانيا بعد انصراف العسكر عن خلف، وبعث مستجيشا فأمدّه ثانيا. وقد هلك طاهر وولي ابنه الحسين فحاصره خلف، وأرهقه الحصار فنزل لخلف عن سجستان ولحق بالسعيد نوح بن منصور. وأقام خلف دعوة نوح في سجستان وحمل المال متقرّرا عليه

(4/462)


كل سنة. ثم قصر في الطاعة والخدمة، وصار يتلقى الأوامر بالإعراض والإهمال فرمي بالحسين بن طاهر في جيوش خراسان وحاصره بقلعة أرك وطال انحصاره وأمدّه العتبي الوزير بجماعة القوّاد كالحسن بن مالك وبكتاش فأقاموا عليه سبع سنين حتى فنيت الرجال والأموال. وكان ابن سيجور صاحبه فلم يغن عليه، وعوتب في ذلك، وعزل عن خراسان بأبي العبّاس تاش فكتب يتعذر ورحل إلى قهستان ينتظر جواب كتابه، فجاءه كتاب الأمير نوح بالمسير إلى سجستان فسار، واستنزل خلفا من معقلة للحسين بن طاهر، وسار خلف إلى حصن الطاق، وداخله ابن سيجور وأقام خطبة لرضا نوح به وانصرف. ولمّا ولّى الأمير نوح الحاجب أبا العبّاس تاش قيادة خراسان سار إليها سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فلقي هنالك فخر الدولة ابن ركن الدولة، وشمس المعالي قابوس بن وشمكير ناجين من جرجان، وكان من خبرهما أنّ عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة وهزمه، ولحق فخر الدولة بقابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه ترغيبا وترهيبا فأجاره قابوس، وبعث عضد الدولة في طلبه أخاه مؤيد الدولة في العساكر إليهم، ولقيهم قابوس فهزموه فسار إلى بعض قلاعه، واحتمل منها ذخائره ولحق بنيسابور. ولحق به فخر الدولة ناجيا من المعركة فأكرمهم أبو العبّاس تاش، وأنزلهم خير منزل، وأقاموا عنده واستولى مؤيد الدولة على جرجان وطبرستان.
(مسير أبي العباس في عساكر خراسان الى جرجان ثم مسيره إلى بخارى)
ولما وصل قابوس بن وشمكير وفخر الدولة بن ركن الدولة إلى أبي العبّاس تاش مستجيرين بالأمير نوح على استرجاع جرجان وطبرستان من يد مؤيّد الدولة، كتب بذلك إلى الأمير نوح ببخارى فأمره بالمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، فسار معهما لذلك في العساكر، ونازلوا جرجان شهرين حتى ضاق عليهم الحصار، وداخل مؤيد الدولة فائقا من قوّاد خراسان ورغّبه فوعده بالانهزام. ثم خرج مؤيد الدولة من جرجان في عساكره مستميتا فهزمهم، ورجعوا إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأجابهم الأمير نوح بالوعد. واستنفر العساكر من جميع الجهات إلى نيسابور للمسير

(4/463)


مع قابوس وفخر الدولة، فاجتمعوا لك. ثم جاء الخبر بقتل الوزير أبي الحسن العتبي، وكان زمام الدولة بيده، فيقال إنّ أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور وضع عليه من قتله، وذلك سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ولما قتل كتب الأمير نوح بن منصور إلى الحاجب أبي العبّاس تاش يستدعيه لتدبير دولته ببخارى، فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسن.
(ردّ أبي العباس الى خراسان ثم عزله وولاية ابن سيجور)
ولما سار أبو العبّاس إلى بخارى وكان أبو الحسن بن سيجور من حين سار إلى سجستان كما مرّ مقيما بها. ثم رجع آخرا إلى قهستان. فلما سار أبو العبّاس تاش إلى بخارى، وكتب ابن سيجور إلى فائق يطلب مظاهرته على ملك خراسان، أجابه إلى ذلك، واجتمعا بنيسابور واستوليا على خراسان، وسار إليهما أبو العبّاس تاش في العساكر. ثم تراسلوا كلّهم واتفقوا على أن يكون بنيسابور، وقيادة العساكر لأبي العبّاس تاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي الحسن بن سيجور، وانصرف كل واحد إلى ولايته. وكان فخر الدولة بن بويه خلال ذلك معهما بنيسابور ينتظر النجدة إلى أن هلك أخوه مؤيد الدولة بجرجان في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. واستدعاه أهل دولته للملك فكاتبه الصاحب ابن عبّاد وغيره فسار إليهم، واستولى على ملك أخيه بجرجان وطبرستان، وكان الأمير نوح لما سار أبو العبّاس من بخارى إلى نيسابور استوزر مكانه عبد الله بن عزيز، وكانت بينه وبين أبي الحسن العتبي منافسة وعداوة. ثم لمّا ولي الوزارة تقدّم على عزل أبي العبّاس عن خراسان وكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بخراسان بولاية نيسابور.
(انتقاض أبي العباس وخروجه مع ابن سيجور ومهلكه)
ولما عزل أبو العبّاس تاش عن خراسان كتب إلى الأمير نوح يستعطفه فلم يجبه،

(4/464)


فانتقض. وكتب إلى فخر الدولة يستمدّه على ابن سيجور فأمدّه بالأموال والعسكر مع أبي محمد عبد الله بن عبد الرزاق، وسار إلى نيسابور في عساكره وعساكر الديلم، وتحصّن ابن سيجور بنيسابور، وجاءه [1] مدد آخر من فخر الدولة وبرز ابن سيجور للقائهم فهزموه وغنموا منه. واستولى أبو العبّاس على نيسابور، وكتب إلى الأمير نوح يستعطفه، ولجّ ابن عزيز في عزله. ثم ثاب لابن سيجور رأيه، وعادت إليه قوّته.
وجاءه الأمراء من بخارى مددا. وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة بفارس يستمدّه فأمده بألفي فارس مراغمة لعمّه فخر الدولة. فلمّا كثف جمعه زحف إلى أبي العبّاس وقاتله فهزمه، ولحق بفخر الدولة ابن بويه بجرجان فأكرمه وعظّمه، وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ إقطاعا. وسار عنها إلى الري، وبعث إليه من الأموال والآلات ما يخرج عن الحدّ. وأقام أبو العبّاس بجرجان. ثم جمع العساكر وسار إلى خراسان، فلم يقدر على الوصول إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ومات سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وقام أهل جرجان بأصحابه لما كانوا يحقدون عليهم من سوء السيرة فقاتلهم أصحابه، واستباحوهم حتى استأمنوا وكفّوا عنهم. ثم افترق أصحابه وسار أكثرهم وهم كبار الخواص والغلمان إلى خراسان، وقد كان صاحبها أبو الحسن سيجور مات فجأة. وقام بأمرها مكانه ابنه أبو علي، وأطاعه إخوته وكبيرهم أبو القاسم، ونازعه فائق الولاية فلحق به أصحاب أبي العبّاس واستكثر بهم لشأنه.
(ولاية أبي علي بن سيجور على خراسان)
قد تقدم اتفاق أبي الحسن بن سيجور وأبي العبّاس تاش وفائق على أن تكون نيسابور وقيادة خراسان لتاش، وبلخ لفائق، وهراة لأبي علي بن أبي الحسن سيجور. ثم عزل تاش بسعاية الوزير ابن عزيز وولي أبو الحسن وكانت بينهما الحرب التي مرّ ذكرها. وانهزم تاش إلى جرجان فاستقرّ أبو علي بهراة وفائق ببلخ، وكان ابن عزيز يستحثّ الحسن لقصد جرجان. ثم عزل ابن عزيز ونفي إلى خوارزم، وقام
__________
[1] الضمير هنا عائد الى ابن سيمجور ومقتضى السياق الضمير يقتضي ان يعود لابن تاش.
ابن خلدون م 30 ج 4

(4/465)


مكانه أبو علي محمد بن عيسى الدامغانيّ. ثم عجز لما نزل بالدولة من قلّة الخراج وكثرة المصاريف، فصرف عن الوزارة بابي نصر بن أحمد بن محمد بن أبي يزيد. ثم عزل وأعيد أبو علي الدامغانيّ. وهلك أبو الحسن بن سيجور خلال ذلك، وقام ابنه أبو علي مقامه. وكاتب الأمير نوح بن منصور يطلب أن يعقد له الولاية كما كانت لأبيه فأجيب إلى ذلك ظاهرا، وكتب لفائق بولاية خراسان، وبعث إليه بالخلع والألوية. وكان أبو علي يظنّ أنّها له، فلمّا بدا له من ذلك ما لم يحتسب، جمع عسكره وأغذ السير، وأوقع بفائق ما بين هراة وبوشنج، فانهزم فائق إلى مروالروذ، وملك أبو علي مرو، ووصله عهد الأمير نوح بقيادة الجيوش وولاية نيسابور وهراة وقهستان ولقّبه عماد الدولة، ثم رقّاه الأمير نوح. واستولى على سائر خراسان، واستبدّ بها على السلطان حتى طلبه نوح في بعض أعمالها لنفقته فمنعه، وأقام مظهرا لطاعته، وخشي غائلة السلطان من طلبة نوح فكاتب بقراخان ملك الترك ببلاد كاشغر وشاغور يغريه ويستحثّه لملك بخارى وما وراء النهر على أن يستقرّ هو بخراسان.
(خبر فائق)
وأقام بعد انهزامه أمام أبي علي بمروالروذ حتى اندملت جراحة، واجتمع إليه أصحابه. وسار إلى بخارى قبل أن يستأذن، فارتاب به الأمير نوح فسرّح إليه العساكر مع أخي الحاجب، وفكنزرون [1] فانهزم وعبر النهر إلى بلخ، فأقام بها أياما، وسار إلى ترمذ وكاتب بقراخان يستحثّه. وكتب الأمير نوح إلى والي الجوزجان أبي الحرث أحمد بن محمد الفيرقوني بقصد فائق، فقصده في جموعه، وسرّح فائق إليه بعض عسكره فهزمه وعاد إلى بلخ. وكان طاهر بن الفضل قد ملك الصغانيان على أبي المظفّر محمد بن أحمد، وهو واحد خراسان فانقطع أبو المظفّر إلى فائق صريخا، فأمدّه وسار إلى طاهر بعسكر فائق، واقتتلوا فانهزم طاهر وقتل، وصارت الصغانيان لفائق.
__________
[1] وفي نسخة اخرى بكثرزون وفي الكامل ج 9 ص 129: بكتوزون.

(4/466)


(استيلاء الترك على بخارى)
ولما خرج الأمير نوح عن بخارى عبر النهر واستقر بآمل الشط، وكاتب أبا علي بن سيجور يستحثّه للنصرة، وكاتب فائقا أيضا يستصرخه فلم يصرخه أحد منهما. وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وعاود الجلوس على كرسي ملكه، وتباشر الناس بقدومه. ثم بلغه مهلك بقراخان فتزايد سرورهم، ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى ندم أبو علي على ما فرّط فيه من نصرته، وأجمع الاستظهار بفائق، فأزاحوه عن ملكه وملكوها، ولحق فائق بأبي علي بن سيجور، وتظاهرا على الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
(عزل أبي علي بن سيجور عن خراسان وولاية سبكتكين)
ولما اجتمع أبو علي بن سيجور وفائق على منافرة الأمير نوح وعصيانه، كتب الأمير نوح الى سبكتكين، وكان أميرا على غزنة ونواحيها يستقدمه لنصره منهما، وإنجاده عليهما، وولّاه خراسان. وكان سبكتكين في شغل عن أمرهم بما هو فيه من الجهاد مع كفّار الهند. فلما جاءه كتاب نوح ورسوله بادر إليه، وتلقّى أمره في ذلك، وعاد إلى غزنة فجمع العساكر، وبلغ الخبر أبا علي وفائقا، فبعثا إلى فخر الدولة بن بويه يستنجدانه، واستعانا في ذلك بوزيره الصاحب بن عبّاد، فبعث إليهما مددا من العساكر. ثم سار سبكتكين وابنه محمود نحو خراسان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وسار الأمير نوح واجتمعوا ولقوا أبا علي وفائقا بنواحي هراة، وكان معهما دارا بن قابوس بن وشمكير، فنزع إلى الأمير نوح، وانهزم أصحاب أبي علي وفائق وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، فلحقا بجرجان، وتلقّاهما فخر الدولة بالهدايا والتحف والأموال، وأنزلهما بجرجان. واستولى نوح على نيسابور، واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقّبه سيف الدولة. ولقّب أباه

(4/467)


سبكتكين ناصر الدولة، وعاد نوح إلى بخارى وترك سبكتكين بهراة ومحمود بنيسابور.
(عود ابن سيجور الى خراسان)
لما افترق نوح وسبكتكين طمع أبو علي وفائق في خراسان، فسار عن جرجان إلى نيسابور في ربيع سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وبرز محمود للقائهما بظاهر نيسابور، وأعجلوه عن وصول المدد من أبيه سبكتكين. وكان في قلّة، وانهزم إلى أبيه، وغنموا اسواده. وأقام أبو علي بنيسابور وكان الأمير نوح يستميله ويتلطّف في العذر مما كان سبكتكين فلم يجيباه إلى ما طلب.
(ظهور سبكتكين وابنه محمود على أبي علي وفائق ومقتل أبي علي)
ولما دخل أبو علي نيسابور، وانهزم عنها محمود، جمع سبكتكين العساكر وسار إليه، فالتقوا بطوس، وجاء محمود على أثره مددا، فانهزم هو وفائق إلى أبيورد، فاتبعهما سبكتكين بعد أن استخلف ابنه محمودا بنيسابور فلحقا بمرو، ثم آمل الشطّ، وكتبا إلى الأمير نوح يستعطفانه، فشرط على أبي علي أن ينزل بالجرجانيّة ويفارق فائقا ففعل. ونزل قريبا من خوارزم بالجرجانية، فأكرمه أبو عبد الله خوارزم شاه وسكن إليه، وبعث من ليلته من جاء به واعتقله وأعيان أصحابه. وبلغ الخبر إلى مأمون بن محمد صاحب الجرجانية فاستعظم ذلك. وسار بعساكره إلى خوارزم شاه وافتتح مدينته وتسمّى كاش [1] عنوة، وخلّص أبا علي من محبسه، وعاد إلى الجرجانية واستخلف بعض أصحابه على بلاد خوارزم. ولما عاد إلى الجرجانية أخرج خوارزم شاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيجور، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في أبي علي
__________
[1] كاث: ابن الأثير ج 9 ص 108. ومعنى الكاث بلغة أهل خوارزم الحائط في ... الصحراء من غير ان يحيط به شيء، وهي بلدة كبيرة من نواحي خوارزم (معجم البلدان) .

(4/468)


فشفعه. واستدعى أبا علي إلى بخارى فسار إليها وأمر الأمراء والعساكر بتلقيه، فلما دخل عليه أمر بحبسه. وشف سبكتكين فيه فهرب ولحق بفخر الدولة، وأقام عنده. وأمّا فائق فلما فارقه أبو علي كما شرط عليه الأمير نوح سار إلى إيلك خان ملك الترك بكاشغر، فأكرمه وكتب إلى نوح يشفع فيه فقبل شفاعته وولّاه عليها وأقام بها.
(وفاة الأمير نوح وولاية ابنه منصور وولاية بكثرزون على خراسان)
ثم توفي الأمير نوح بن منصور منتصف سبع وثمانين وثلاثمائة لإحدى وعشرين سنة من ملكه، وانتقض بموته ملك بني سامان وصار إلى الانحلال. ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور، وتابعه أهل الدولة واتفقوا على طاعته، وقام بتدبير دولته بكثرزون. واستوزر أبا طاهر محمد بن إبراهيم، وبلغ خبر وفاة نوح إلى إيلك خان، فطمع في ملكهم، وسار إلى سمرقند، وبعث من هنالك فائقا والخاصة إلى بخارى فاضطرب منصور وهرب عن بخارى وقطع النهر. ودخل فائق بخارى وأعلم الناس أنه إنما جاء لخدمة الأمير منصور، فبعث مشايخ بخارى بذلك إلى منصور ودخل. واستقدموه بعد أن أخذوا له مواثيق العهد من فائق، فاطمأن وعاد الى بخارى، وأقام فائق بتدبير أمره وتحكّم في دولته وأبعد بكثرزون إلى خراسان أميرا، وقد كان سبكتكين توفي في شعبان من هذه السنة، ووقعت الفتنة بين ابنيه إسماعيل ومحمود فقدم بكثرزون أيام فتنتهما واستولى على خراسان.
(عود أبي القاسم بن سيجور الى خراسان وخيبته)
قد ذكرنا مسير بكثرزون إلى خراسان عند مفرّه أيام محمود بن سبكتكين من خراسان وأقام عند فخر الدولة، وعند أبيه مجد الدولة واجتمع عنده أصحاب أبيه، وكتب إليه فائق من بخارى يغريه ببكثرزون ويأمره بقصد خراسان ويخرج بكثرزون منها فسار عن جرجان إلى نيسابور، وبعث جيشا إلى أسفراين فملكوها من يد أصحاب بكثرزون، ثم تردّد السفراء بينهما، ووقع الصلح والصهر وعاد بكثرزون إلى نيسابور
.

(4/469)


(انتقاض محمود بن سبكتكين وملكه نيسابور ثم خروجه عنها)
لما فرغ محمود بن سبكتكين من أمر الفتنة بينه وبين أخيه إسماعيل، واستولى على ملك غزنة، وعاد إلى بلخ وجد بكثرزون واليا على خراسان كما ذكرناه فبعث إلى الأمير منصور بن نوح يذكر وسائله في الطاعة والمحاباة، ويطلب ولاية خراسان، فاعتذر له عنها وولّاه ترمذ وبلخ وما وراءهما من أعمال بست. فلم يرض ذلك، وأعاد الطلب فلم يجب، فسار إلى نيسابور وهرب منها بكثرزون وملكها محمود سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فسار الأمير منصور من بخارى إليه فخرج عنها إلى مروالروذ وأقام بها.
(خلع الأمير منصور وولاية أخيه عبد الملك)
ولما سار الأمير منصور عن بخارى إلى خراسان لمدافعة محمود بن سبكتكين عن نيسابور، سار بكثرزون للقائه فلقيه بسرخس، ثم لم يلق من قبوله ما كان يؤمّله، فشكا ذلك إلى فائق فألفاه واجدا مثل ذلك فخلصا في نجواهما، واتفقا على خلعه وإقامة أخيه عبد الملك مقامه، ووافقهما على ذلك جماعة من أعيان العسكر، ثم قبضوا عليه وسملوه أوّل سنة تسعين لعشرين شهرا من ولايته، وولي مكانه أخوه عبد الملك. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون يقبّح عليهما فعلهما. وسار نحوهما طامعا في الاستيلاء على الملك.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان)
ثم سار محمود بن سبكتكين إلى فائق وبكثرزون ومعهما عبد الملك الصبي الّذي نصّبوه فساروا إليه، والتقوا بمرو سنة تسعين وثلاثمائة وقاتلهم فهزمهم وافترقوا. ولحق عبد الملك ببخارى ومعه فائق، ولحق بكثرزون بنيسابور، ولحق أبو القاسم بن سيجور

(4/470)


بقهستان وقصد محمود نيسابور، وانتهى إلى طرسوس فهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث في إثره أرسلان الحاجب [1] إلى أن وصل جرجان، ورجع فاستخلفه محمود على طرسوس، وسار إلى هراة فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها. ورجع إليها محمود فأجفل عنها، ومرّ بمرو فنهبها ولحق ببخارى واستقرّ محمود بخراسان وأزال عنها ملك بني سامان، وخطب فيها للقادر العبّاسي، واستدعى الولاية من قبله فبعث إليه بالعهد عليها والخلع لبني سيجور، وأنزله نيسابور وسار هو إلى بلخ كرسي أبيه فافتقده [2] واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته مثل آل أفريقون بالجوزجان والشاه صاحب غرسيان وبني مأمون بخوارزم.
(استيلاء ايلك خان على بخارى وانقراض دولة بني سامان)
ولما ملك محمود خراسان ولحق عبد الملك ببخارى اجتمع إليه فائق وبكثرزون وغيرهما من الأمراء، وأخذوا في جمع العساكر لمناهضة محمود بخراسان. ثم مات فائق في شعبان من هذه السنة فاضطربوا ووهنوا لأنه كان المقدّم فيهم، وكان خصيّا من موالي نوح بن نصر فطمع ايلك خان في الاستيلاء على ملكهم، كما ملكه بقراخان قبله، فسار في جموع الترك يظهر المدافعة لعبد الملك عنه فاطمأنوا لذلك، وخرج بكثرزون وغيره من الأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم جميعا. ودخل بخارى عاشر ذي القعدة. ونزل دار الإمارة واختفى عبد الملك فبعث العيون عليه حتى ظفر به وأودعه السجن في أرزكند [3] فمات. وحبس معه أخاه أبا الحرث منصور المخلوع وإخوته الآخرين أبا إبراهيم إسماعيل وأبا يعقوب، وأعمامه أبا زكريا وأبا سليمان وأبا صالح القاري وغيرهم من بني سامان. وانقرضت دولتهم بعد أن كانت انتشرت في الآفاق ما بين حلوان وبلاد الترك، ووراء النهر، وكانت من أعظم الدول وأحسنها سياسة.
__________
[1] أرسلان الجاذب: ابن الأثير ج 9 ص 146.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 146: «وسار هو الى بلخ «مستقرّ والده، فاتخذها دار ملك واتفق أصحاب الاطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون.»
[3] بافكند: ابن الأثير ج 9 ص 149.

(4/471)


(خروج إسماعيل بن نوح بخراسان)
ثم هرب أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه في زيّ امرأة كانت تتعاهد خدمته فاختفى ببخارى. ثم لحق بخوارزم وتلقّب المنتصر، واجتمع إليه بقايا القوّاد والأجناد. وبعث قابوس عسكرا مع ابنيه منوجهر ودارا. ووصل إسماعيل إلى نيسابور في شوّال سنة إحدى وتسعين، وجبى أموالها. وبعث إليه محمود مع الترنتاش الحاجب الكبير صاحب هراة، فلقيهم فانهزم المنتصر إلى أبيورد وقصد جرجان فمنعه قابوس منها فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها في ربيع سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
فأرسل إليها محمود العساكر مع منصور، والتقوا فانهزم إسماعيل وأسر أبو القاسم بن سيجور في جماعة من أعيان العسكر، فبعث بهم منصور إلى غزنة، وسار إسماعيل حائرا فوافى أحياء الغزّ بنواحي بخارى فتعصّبوا عليه، وسار بهم إلى إيلك خان في شوّال سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة فلقيه بنواحي سمرقند. وانهزم ايلك واستولى الغز على سواده وأمواله، وأسرى من قوّاده ورجعوا إلى أحيائهم وتفاوضوا في إطلاق الأسرى من أصحاب ايلك خان، وشعر بهم إسماعيل فسار عنهم خائفا وعبر النهر إلى آمل الشطّ، وبعث إلى مرو ونسا وخوارزم فلم يقبلوه، وعاودوا العبور إلى بخارى وقاتله واليها فانهزم إلى دبوسية وجمع بها. ثم عاد فانهزم من عساكر بخارى وقاتله واليها.
وجاءه جماعة من فتيان سمرقند فصاروا في جملته. وبعث إليه أهله بأموال وسلاح ودواب، وسار إليه ايلك خان بعد أن استوعب في الحشد ولقيه بنواحي سمرقند في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وظاهر الغزّ إسماعيل فكانت الدبرة على ايلك خان، وعاد إلى بلاد الترك فاحتشد، ورجع إلى إسماعيل وقد افترقت عنه أحياء الغزّ إلى أوطانهم، وخفّ جمعه، فقاتلهم بنواحي مروسية فهزموه وفتك الترك في أصحابه.
وعبر إسماعيل النهر إلى جوزجان فنهبها، وسار إلى مرو وركب المفازة إلى قنطرة راغول، ثم إلى بسطام، وعساكر محمود في اتباعه مع أرسلان الحاجب صاحب طوس، وأرسل إليه قابوس عسكرا مع الأكراد الشاهجانية فأزعجوه عن بسطام، فرجع إلى ما وراء النهر وأدرك أصحابه الكلل والملال ففارقه الكثير منهم، وأخبروا أصحاب ايلك خان وأعلموهم بمكانه فكبسه الجند فطاردهم ساعة، ثم دخل في حيّ من

(4/472)


أحياء العرب بالفلاة من طاعة محمود بن سبكتكين يعرف أميرهم بابن بهيج، وقد تقدم إليهم محمود في طلبه فأنزله [1] عندهم حتى إذا جنّ الليل وثبوا عليه وقتلوه وذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وانقرض أمر بني سامان وانمحت آثار دولتهم.
والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن دولة بني سبكتكين ملوك غزنة وما ورثوه من الملك بخراسان وما وراء النهر عن مواليهم وما فتحوه من بلاد الهند وأوّل أمرهم ومصاير أحوالهم
هذه الدولة من فروع دولة بني سامان وناشئة عنها، وبلغت من الاستطالة والعزّ المبالغ العظيمة، واستولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون وما وراء النهر، وخراسان، وعراق العجم، وبلاد الترك. وزيادة بلاد الهند. وكان مبدأ أمرهم عن غزنة. وذلك أنّ سبكتكين من موالي بني ألتيكين. وكان ألتيكين من موالي بني سامان. وكان في جملته، وولّاه حجابته، وورد بخارى أيام السعيد منصور بن نوح وهو إذ ذاك حاجبه، ثم تفوي ألتيكين هذا وعقد له السعيد منصور بن نوح سنة خمس وستين وثلاثمائة، وولّى ابنه نوح ويكنّى أبا القاسم واستوزر أبا الحسن العتبي، وولّى على نيسابور أبا الحسن محمد بن سيجور. وكان سبكتكين شديد الطاعة له، والقيام بحاجاته. وطرقت دولة بني سامان النكبة من الترك، واستولى بقراخان على بخارى من يد الأمير نوح. ثم رجع إليها، ومات أبو الحسن بن سيجور وولي مكانه بخراسان ابنه أبو علي. واستبدّ على الأمير نوح في الاستيلاء على خراسان عند نكبة الترك. فلما عاد الأمير نوح إلى كرسيه وثبت في الملك قدمه، كاشفه أبو علي في خراسان بالانتقاض، واستدعى أبا منصور سبكتكين يستمده على أبي علي ويستعين به في أحوال الدولة فبادر لذلك، وكان له المقام المحمود فيه.
وولّاه الأمير نوح خراسان، فدفع عنها أبا علي. ثم استبد بعد ذلك على بني سامان بها. ثم غلبهم على بخارى وما وراء النهر، ومحا أثر دولتهم وخلفهم أحسن خلف،
__________
[1] مقتضى السياق فأنزلوه.

(4/473)


وأورث ذلك بنيه، واتصلت دولتهم في تلك الأعمال إلى أن ظهر الغزّ، وملك الشرق والغرب بنو سلجوق منهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا تلك الأعمال جميعا من أيديهم حسبما يذكر ذلك كله. ولنبدأ الآن بسبكتكين من الجهاد في بلاد الهند قبل ولايته خراسان. ثم نأتي بأخبارهم.
(فتح بست)
كانت بست هذه من أعمال سجستان وفي ولايتها ولما فسد نظام تلك الولاية بانقراض دولة بني الصفّار واخترقت تلك العمالات طوائف فانفرد ببست أمير اسمه طغان. ثم غلبه عليها آخر اسمه كان، يكنّى بأبي ثور فاستصرخ طغان سبكتكين على مال ضمنه على الطاعة والخدمة، فسار سبكتكين إلى بست وفتحها، وأخذ الوزير أبا الفتح علي بن محمد البستيّ الشاعر المشهور فأحضره واستكتبه، وكتب لابنه محمود من بعده. ثم استخلف سبكتكين وسار إلى قصدار من ورائها فملكها وتقبض على صاحبها. ثم أعاده إلى ملكه على مال يؤدّيه وطاعة يبذلها له.
(غزو الهند)
ثم سار سبكتكين بعد ما فتح بست وقصد غازيا بلاد الهند، وتوغل فيها حتى افتتح بلادا لم يدخلها أحد من بلاد الإسلام. ولما سمع به ملك الهند سار إليه في جيوشه وقد عبّى العساكر والفيلة على عادتهم في ذلك بالتعبية المعروفة بينهم، وانتهى إلى لمغان من ثغورة وتجاوزه، وزحف إليه سبكتكين من غزنة في جموع المسلمين، والتقى الجمعان ونصر الله المسلمين، وأسر ملك الهند وفدّى نفسه على ألف ألف درهم، وخمسين فيلا ورهن في ذلك من قومه. وبعث معه رجالا لقبض ذلك فغدر بهم في طريقه، وتقبّض عليهم، فسار سبكتكين في تعبيته إلى الهند، فقبض كل من لقيه من جموعهم، وأثخن فيهم. وفتح لمغان وهدمها وهي ثغر الهند مما يلي غزنة، فاهتز لذلك جميال واحتشد، وسار إلى سبكتكين، فكانت بينهم حرب

(4/474)


شديدة، وانهزم جميال وجموع الكفر، وخمدت شوكتهم، ولم يقم لملوك الهند بعدها معه قائمة. ثم صرف وجهه إلى إعانة سلطانه الأمير نوح كما نذكر.
(ولاية سبكتكين على خراسان)
قد قدّمنا أنّ الأمير نوح بن منصور لما طرقته النكبة ببخارى من الترك، وملكها عليه بقراخان عبر النهر إلى آمل الشطّ، واستصرخ ابن سيجور صاحب خراسان وفائقا صاحب بلخ، فلم يصرخاه، وبلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذّ السير إليها، وارتجع ملكه كما كان. وهلك بقراخان فثبت قدمه في سلطانه. وارتاب أبو علي وفائق بأمرهم عنده، وغلط فائق بالمبادرة إلى بخارى للتهنئة والتقدّم في الدولة من غير إذن في ذلك، فسرّح الأمير نوح غلمانه ومواليه فحاربوه، وملكوا بلخا من يده، ولحق بأبي علي بن سيجور، فاستظهر به على فتنة الأمير نوح وذلك سنة أربع وثمانين، فكتب الأمير نوح عند ذلك إلى سبكتكين يستدعيه للنصرة عليهما، وعقد له على خراسان وأعمالها، وكان في شغل شاغل من الجهاد بالهند كما ذكرناه فبادر لذلك.
وسار إلى نوح فلقيه واتفق معه. ثم رجع إلى غزنة واحتشد وسار هو وابنه محمود ولقيا الأمير نوحا بخراسان في الموضع الّذي تواعد معه، ولقيهم أبو علي بن سيجور وفائق فهزمهما. وفتك فيهم أصحاب سبكتكين واتبعوهم إلى نيسابور، ثم صدّوهم عنها إلى جرجان واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين وأنزله بها، ولقّبه سيف الدولة، وأنزل أباه سبكتكين بهراة ولقّبه ناصر الدولة ورجع إلى بخارى.
(الفتنة بين سيجور وفائق بخراسان وظهور سبكتكين وابنه محمود عليهم)
ولما رجع نوح إلى بخارى وطمع أبو علي بن سيجور وفائق في انتزاع خراسان من يد سبكتكين وابنه. وبادروا إلى محمود بن سبكتكين بنيسابور سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وأعجلوه عن وصول المدد إليه من ابنه سبكتكين. وكان في قلّة فانهزم إلى أبيه بهراة،

(4/475)


وملك أبو علي نيسابور، وسار إليه سبكتكين في العساكر، والتقوا بطوس، فانهزم أبو علي وفائق حتى انتهيا إلى آمل الشطّ. واستعطف أبو علي الأمير نوحا فاستدعاه وحبسه. ثم بعث به إلى سبكتكين وحبسه عنده، ولحق فائق بملك الترك ايلك خان في كاشغر، وشفع فيه إلى الأمير نوح فولّاه سمرقند كما مر ذلك كله في أخبارهم.
وكان أبو القاسم أخو أبي علي قد نزع إلى سبكتكين يوم اللقاء فأقام عنده مدّة مديدة. ثم انتقض وزحف الى نيسابور فجاء محمود بن سبكتكين فهرب ولحق بفخر الدولة بن بويه فأقام عنده، واستولى سبكتكين على خراسان.
(مزاحفة سبكتكين وايلك خان)
كان ايلك خان ولي بعد بقراخان على كاشغر وشاغور، وعلى أمم الترك وطمع في أعمال الأمير نوح كما طمع أبوه، ومدّ يده إليها شيئا فشيئا. ثم اعتزم على الزحف إليه فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين بخراسان يستجيشه على ايلك خان، فاحتشد وعبر النهر وأقام بين نسف وكشف حتى لحقه ابنه محمود بالحشود من كل جهة، ولك وصله أبو علي بن سيجور مقيّدا، بعث به إليه الأمير نوح فأبى من ذلك، وجمع ايلك خان أمم الترك من سائر النواحي. وبعث سبكتكين إلى الأمير نوح يستحثّه فخام عن اللقاء، وبعث قوّاده وجميع عساكره، وجعلهم لنظره وفي تصريفه فألحّ عليه سبكتكين، وبعث أخاه بغراجق وابنه محمودا لاستحثاثه فهرب الوزير بن عزيز خوفا منهم، وتفادى نوح من اللقاء فتركوه، وفتّ ذلك في عزم سبكتكين، وبعث ايلك خان في الصلح فبادر سبكتكين وبعث أبا القاسم. ثم ارتاب به عند عبوره إلى ايلك خان، فحبسه مع أبي علي وأصحابه حتى رجع سبكتكين من طوس إلى بلخ، فبلغ الخبر بمقتلهم، ووصل نعي مأمون بن محمد صاحب الجرجانية بخوارزم غدر به صاحب جيشه في صنيع أعدّه له وقتله، ووصل خبر الأمير نوح أثرهما وأنه هلك منتصف رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
(أخبار سبكتكين مع فخر الدولة بن بويه)
كان أبو علي بن سيجور وفائق لمّا هزمهما سبكتكين لحقا بجرجان عند فخر الدولة بن

(4/476)


بويه، ثم لمّا أجلب أبو القاسم على خراسان، وسار إليه محمود بن سبكتكين، وعمّه بغراجق وكان معه أبو نصر بن محمود الحاجب فهربا إلى فخر الدولة وأقاما في نزله وتحت حرابه بقومس والدّامغان وجرجان وأتاخ سبكتكين على طوس.
ثم وقعت المهاداة بينه وبين فخر الدولة بن بويه صاحب الريّ، وكان آخر هديّة من سبكتكين جاء بها عبد الله الكاتب من ثغابة. ونمي إلى فخر الدولة أنه يتجسّس عدد الجند، وغوامض الطرق، فبعث إلى سبكتكين بالعتاب في ذلك. ثم ضعف الحال بينهما، واتصل ما بين فخر الدولة والأمير نوح على يد سبكتكين.
(وفاة سبكتكين وولاية ابنه إسماعيل)
ولما فرغ سبكتكين من أمر ايلك خان ورجع إلى بلخ، وأقام بها قليلا طرقه المرض، فبادر به إلى غزنة، وهلك في طريقه في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة لعشرين سنة من ملكه في غزنة وخراسان، ودفن بغزنة. وكان عادلا خيرا حسن العهد محافظا على الوفاء كثير الجهاد. ولما هلك بايع الجند لابنه إسماعيل بعهده إليه، وكان أصغر من محمود فأفاض فيهم العطاء وانعقد أمره بغزنة.
(استيلاء محمود بن سبكتكين على ملك أبيه وظفره بأخيه إسماعيل)
ولما ولي إسماعيل بغزنة استضعفه الجند واستولوا عليه، واشتطوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه، وكان أخوه محمود بنيسابور فبعث إليه أن يكتب له بالأعمال التي لنظره مثل بلخ فأبى، وسعى أبو الحرب والي الجوزجان في الإصلاح بينهما فامتنع إسماعيل، فسار محمود إلى هراة معتزما عليه، وتحيّز معه عمه بغراجق. ثم سار إلى بست وبها أخوه نصر فاستماله، وساروا جميعا إلى غزنة، وقد كتب إليه الأمراء الذين مع إسماعيل واستدعوه ووعدوه بالطاعة. وأغذّ السير ولقيه إسماعيل بظاهر غزنة فاقتتلوا قتالا

(4/477)


شديدا. وانهزم إسماعيل واعتصم بقلعة غزنة، واستولى محمود على الملك وحاصر أخاه إسماعيل حتى استنزله على الأمان فأكرمه وأشركه في سلطانه، وذلك لسبعة أشهر من ولاية إسماعيل، واستقامت الممالك لمحمود ولقّب بالسلطان، ولم يلقّب به أحد قبله.
ثم سار إلى بلخ.
(استيلاء محمود على خراسان)
لما ولي أبو الحرث منصور بعد نوح استوزر محمد بن إبراهيم، وفوّض أمره إلى فائق كفالة وتدبيرا لصغره. وكان عبد الله بن عزيز قد هرب من بخارى عند قدوم محمد إليها في استحثاث الأمير نوح للقاء ايلك خان كما مرّ، فلما مات الأمير نوح وولي ابنه منصور أطمع عزيز أبا منصور محمد بن الحسين الاسبيجابي في قيادة الجيش بخراسان وحمله على الانحدار به إلى بخارى مستغيثا بايلك خان على غرضه، فنهض ايلك خان لمصاحبتهما وسار بهما كأنه يريد سمرقند. ثم قبض على أبي منصور وابن عزيز، وأحضر فائقا وأمره بالمسير على مقدّمته إلى بخارى، فهرب أبو الحرث وملك فائق بخارى ورجع ايلك خان. واستدعى فائق أبا الحرث فاطمأنّ، وبعث من مكانه بكثرزون الحاجب الأكبر على خراسان ولقّبه بستان الدولة، ورجع إلى بخارى فتلقّاه فائق، وقام بتدبير دولته. وكانت بينه وبين بكثرزون ضغن فأصلح أبو الحرث بينهما، وأقام بكثرزون وجبى الأموال، وزحف إليه ابو القاسم بن سيجور، وكانت بينهما الفتنة التي مرّ ذكرها. وجاء محمود إلى بلخ بعد فراغه من فتنة أخيه إسماعيل، فبعث إلى أبي الحرث منصور رسله وهداياه، فعقد له على بلخ وترمذ وهراة وبست. واعتذر عن نيسابور فراجعه مع ثقته أبي الحسن الحمولي فاستخلصه أبو الحرث لوزارته، وقعد عن رسالة صاحبه فأقبل محمود إلى نيسابور، وهرب عنها بكثرزون فنهض ابو الحرث إلى نيسابور، فخرج محمود عنها إلى مروالروذ، وجمع أبو الحرث وكحلة بكثرزون، وبايعوا لأخيه عبد الملك بن نوح. وبعث محمود إلى فائق وبكثرزون بالعتاب على صنيعهما بالسلطان، وزحف إليهما فبرزا من مرو للقائه، ثم سألوه الإبقاء فأجاب وارتحل عنهم، وبعض أوباشهم في أعقابه فرجع إليهم.

(4/478)


وحشدوا الناس للقائه فهزمهم وافترقوا، فسار عبد الملك إلى بخارى وبكثرزون إلى نيسابور وكان معهم أبو القاسم بن سيجور، ولحق بقهستان واستولى محمود على خراسان وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار إلى طوس وهرب بكثرزون إلى جرجان، وبعث محمود أرسلان الحاجب في أثره فأخرجه من نواحي خراسان، فولّى أرسلان على طوس وسار إلى هراة لمطالعة أحوالها، فخالفه بكثرزون إلى نيسابور وملكها، ورجع فطرده عنها أبو القاسم بن سيجور وملكها. وولّى محمود أخاه نصر ابن سبكتكين قيادة الجيوش بخراسان وأنزله بنيسابور، ثم سار إلى بلخ فأنزل بها سريره. ثم استراب بأخيه إسماعيل فاعتقله ببعض القلاع موسعا عليه، وكتب بالبيعة للقادر الخليفة من بني العبّاس [1] ، فبعث إليه بالخلع والألوية على العادة. وقام بين يديه السماطان واستوثق له ملك خراسان وبقي يردّد الغزو إلى الهند كل سنة.
(استيلاء محمود على سجستان)
كان خلف بن أحمد صاحب سجستان في طاعة بني سامان ولما شغل عنه بالفتن استفحل أمره، وشغل للاستبداد. فلما سار سبكتكين للقاء ملك الهند كما مرّ، اغتنم الفرصة من بست وبعث إليها عسكرا فملكوها وجبوها. ولما رجع سبكتكين من الهند ظافرا تلقّاه بالمعاذير والتعزية والهدايا والطاعة فقبل وأعرض عنه، وارتهن عنده على طاعته، وسار معه الحرث أبو علي بن سيجور بخراسان فملأ يده ويد عسكره بالعطاء، وبتفدّمه لقتال ايلك خان بما وراء النهر كما مرّ، فدسّ إلى ايلك خان يغريه بسبكتكين. واعتزم سبكتكين على غزو سجستان، ثم أدركه الموت فاغتنم خلف الفرصة وبعث طاهرا إلى قهستان وبوشنج فملكها، وكاتب البغراجق أخا سبكتكين. فلما فرغ محمود من شأن خراسان بعث لبغراجق عمه بانتزاع قهستان وبوشنج، فسار إلى طاهر فهزمه واتبعه، وكرّ عليه طاهر فقتله وانهزم الفريقان، وزحف محمود إلى خلف سنة تسعين وثلاثمائة، فامتنع في أحصن بلد [2] وهي قلعة
__________
[1] وكان يخطب سابقا للطائع للَّه.
[2] هو حصن اصبهبد.

(4/479)


عالية منيعة، وحاصره بها حتى لاذ بالطاعة. وبذل مائة ألف دينار فأفرج عنه وسار إلى الهند فتوغّل فيها، وانتهى في اثني عشر ألف فارس وثلاثين ألف راجل، فاختار محمود من عساكره خمسة عشر ألفا، وسار لقتال جميال [1] فهزمه وأسره في بنيه وحفدته وكثير من قرابته. ووجد في سلبه مقلد من فصوص يساوي مائة ألف دينار وأمثال ذلك، فوزّعها على أصحابه، وكان الأسرى والسبي خمسمائة ألف رأس وذلك سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وفتح من بلاد الهند بلادا أوسع من بلاد خراسان. ثم فادى جميال ملك الهند نفسه بخمسين رأسا من الفيلة ارتهن فيها ابنه وحافده وخرج إلى بلده، فبعث إلى ابنه أندبال وشاهينة وراء سيجور فأعطوه تلك الفيلة، وسار لا يعود له ملك [2] ، وسار السلطان محمود الى ويهند فحاصرها وافتتحها، وبعث العساكر لتدويخ نواحيها فأثخنوا في القتل في أوباش كانوا مجتمعين للفساد مستترين بخمر الغياض فاستلحموهم. ورجع السلطان محمود الى غزنة وكان خلف بن أحمد عند منصرف السلطان عنه أظهر النسك، وولّى ابنه طاهرا على سجستان، فلما طالت غيبة السلطان أراد الرجوع إلى ملكه فلم يمكّنه ابنه، فتمارض وبعث إليه بالحضور للوصيّة والاطلاع على خبايا الذخيرة، فلما حضر اعتقله ثم قتله كما مرّ. وبلغت ضمائر [3] قوّاده لذلك، وخافوه، وبعثوا للسلطان محمود بطاعتهم ما بقيت له الدعوة في سجستان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وسار السلطان محمود إلى خلف فامتنع منه في معقلة بحصن الطاق، وهو في رأس شاهق تحيط به سبعة أسوار عالية، ويحيط به خندق بعيد المهوى، وطريقه واحدة على جسر، فجثم عليه أشهرا. ثم فرض على أهل العسكر قطع الشجر التي تليه وطمّ بها الخندق، وزحف إليه وقدّم الفيول بين يديه على تعبيتها فحطم الفيل الأعظم على باب الحصن فقلعه ورمى به، وفشا القتل في أصحاب خلف وتماسكوا داخل الباب يتناضلون بأحجار المجانيق والسهام والحراب، فرأى خلف هول المطلع فأثاب [4] واستأمن، وخرج إلى السلطان وأعطاه كثيرا من الذخيرة، فرفع من قدره وخيّره في مقاماته فاختار الجوزجان فأذن له في
__________
[1] جيبال: ابن الأثير ج 9 ص 169.
[2] من عادة الهند انه من وقع أسيرا في ايدي المسلمين لا ينعقد له لواء بعد ذلك.
[3] اي جزعت نفوس قواده.
[4] لا معنى لها ولعلها أناب أي تاب.

(4/480)


المسير إليها على ما بينه وبين ايلك خان من المداخلة. ثم هلك خلف سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأبقى السلطان على ولده عمر، وكان خلف كثير الغاشية من الوافدين والعلماء، وكان محسنا لهم، ألّف تفسيرا جمع له العلماء من أهل إيالته، وأنفق عليهم عشرين ألف دينار، ووضعه في مدرسة الصابوني بنيسابور. ونسخه يستغرق عمر الكاتب، إلّا أن يستغرق في النسخ. واستخلف السلطان على سجستان أحمد الفتحي من قوّاد أبيه ورجع إلى غزنة. ثم بلغه انتقاض أحمد بسجستان فسار إليهم في عشرة آلاف، ومعه أخوه صاحب الجيش أبي المظفّر نصر والتوتناش الحاجب، وزعيم العرب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي فحاصرهم، وفتحها ثانية، وولى عليها أخاه صاحب الجيش نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور فاستخلف عليها وزيره أبا منصور نصر بن إسحاق. وعاد السلطان محمود إلى بلخ مضمرا غزو الهند.
هكذا مساق خبر السلطان محمود مع خلف بن أحمد وخبر سجستان عند العيني.
وأمّا عند ابن الأثير فعلى ما وقع في أخبار دولة بني الصفّار.
(غزوة بهاطية والملتان وكوكبر)
ولما فرغ السلطان محمود من سجستان اعتزم على غزو بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء الملتان، مدينة حصينة عليها أنطاق من الأصبوان وآخر من الخنادق، بعيدة المهوى. وكانت مشحونة بالمقاتلة والعدّة، واسم صاحبها بجير، فعبر السلطان إليها جيحون وبرز إليه بجير فاقتتلوا بظاهر بهاطية ثلاثة أيام. ثم انهزم بجير وأصحابه في الرابع وتبعهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من أمامهم ومن ورائهم فبلغ القتل والسبي والسلب والنهب فيهم مبالغه. وسار بجير في رءوس الجبال فستر في شعابها وبعث السلطان سرية في طلبه فأحاطوا به، وقتلوا من أصحابه. ولما أيقن بالهلكة قتل نفسه بخنجر معه. وأقام السلطان محمود في بهاطية حتى أصلح أمورها، واستخلف عليها من يعلّم أهلها قواعد الإسلام، ورجع إلى غزنة فلقي في طريقه شدّة من الأمطار في الوحل وزيادة المدد في الأنهار، وغرق كثير من عسكره. ثم بلغه عن أبي الفتوح والي الملتان أنه ملحد، وأنه يدعو أهل ولايته إلى مذهبه فاعتزم على جهاده، وسار كذلك ومنعه سيجور من العبور لكثرة المدد، ابن خلدون م 31 ج 4

(4/481)


فبعث السلطان إلى أندبال ملك الهند في أن يبيح له العبور إلى بلاده لغزو الملتان فأبى، فبدأ بجهاده، وسار في بلاده ودوّخها وفرّ أندبال بين يديه، وهو في طلبه إلى أن بلغ كشمير. ونقل أبو الفتوح أمواله على الفيول إلى سرنديب، وترك الملتان فقصدها السلطان، وامتنع أهلها فحاصرهم حتى افتتحها عنوة، وأغرمهم عشرين ألف ألف درهم عقوبة لهم على عصيانهم. ثم سار إلى كوكبر واسم صاحبها بيدا، وكان بها ستمائة صنم فافتتحها وأحرق أصنامها. وهرب صاحبها إلى قلعته وهي كاليجار وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة وعشرون ألف راية، وهو مشحون بالأقوات والمسالك إليه متعذرة بخمر الشجر، وملتف الغياض، فأمر بقطع الأشجار حتى اتضحت المسالك. واعترضه دون الحصن واد بعيد المهوى، فطمّ منه عشرين ذراعا بالأجربة المحشوة بالتراب، وصيّره جسرا، ومضى منه إلى القلعة، وحاصرها ثلاثة وأربعين يوما حتى جنح صاحبها إلى السلم.
وبلغ السلطان أن ايلك خان مجمع غزو خراسان، فصالح ملك الهند على خمسين فيلا، وثلاثة آلاف من الفضة، وخلع عليه السلطان فلبس خلعته وشدّ منطقته. ثم قطع خلعته وأنفذها إلى السلطان، وتبعه بما عقد معه وعاد السلطان إلى خراسان بعد أن كان عازما على التوغّل في بلاد الهند.
(مسير ايلك خان الى خراسان وهزيمته)
كان السلطان محمود لما ملك ايلك خان بخارى كما مرّ، وكتب إليه مهنيا، وتردّد السفراء بينهما في الوصلة، وأوفد عليه سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي إمام الحديث، ومعه طغان جقّ والي سرخس في خطبة كريمته بهدية فاخرة من سبائك العقيان واليواقيت والدرّ والمرجان والوشي والحمر، وصواني الذهب مملوءة بالعنبر والكافور والعود والنصول، وأمامه الفيول تحت الخروج المغشّاة، فقوبلت الهدية بالقبول، والوافد بالتعظيم له ولمن أرسله، وزفّت المخطوبة بالهدايا والألطاف، واتحدت الحال بين السلطانين. ولم يزل السعاة يغرون ما بينهما حتى فسد ما بينهما، فلما سار السلطان محمود إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة، وبعث سباسي تكين قريبه وقائد جيشه إلى خراسان، وبعث معه أخاه جعفر تكين وذلك سنة تسعين وثلاثمائة فملك

(4/482)


بلخا وأنزل بها جعفر تكين، وكان أرسلان الحاجب بهراة أنزله السلطان بها، وأمره إذا دهمه أن ينحاز إلى غزنة. وقصد سباسي هراة وسكنها، وندب الحسين بن نصر إلى نيسابور فملكها، ورتّب العمّال، واستخرج الأموال. وطار الخبر إلى السلطان بالهند، وقصد بلخ فهرب جعفر تكين إلى ترمذ، واستقرّ السلطان ببلخ، وسرّح أرسلان الحاجب في عشرة آلاف من العساكر إلى سباسي تكين بهراة فسار سباسي إلى مرو، واعترضه التركمان، وقاتلهم فهزمهم وأثخن فيهم. ثم سار إلى أبيود، ثم إلى نسا وأرسلان في اتباعه حتى انتهى إلى جرجان فصدّ عنها، وركب قلل الجبال والغياض، وتسلط الكراكلة على أثقاله ورجاله، واستأمن طوائف من أصحابه إلى قابوس لعدم الظهر. ثم عاد إلى نسا وأصدر ما معه إلى خوارزم شاه أبي الحسن علي ابن مأمون، وديعة لايلك خان، واقتحم المفازة إلى مرو، فسار السلطان لاعتراضه ورماه محمد بن سبع بمائة من القوّاد حملوا الى غزنة. ونجا سباسي تكين في فلّ من أصحابه، فعبر النهر إلى ايلك خان، وقد كان ايلك خان بعث أخاه جعفر تكين في ستة آلاف راجل إلى بلخ ليفتر من عزيمة السلطان عن قصد سباسي تكين فلم يفتر ذلك من عزمه، حتى أخرج سباسي من خراسان. ثم قصدهم فانهزموا أمامه، وتبعهم أخوه نصر بن سبكتكين صاحب جيش خراسان إلى ساحل جيحون، فقطع دابرهم. ولما بلغ الخبر إلى ايلك خان قام في ركائبه وبعث بالصريخ إلى ملك الختّل وهو قدرخان بن بقراخان لقرابة بينهما وصهر، فجاءه بنفسه ونفر معه، واستجاش أحياء النزل ودهاقين ما وراء النهر، وعبر النهر في خمسين ألفا، وانتهى إلى السلطان خبره وهو بطخارستان فقدم إلى بلخ، واستعدّ للحرب، واستنفر جموع الترك والجند والخلنجيّة والأفقانية والفربوية. وعسكر على أربعة فراسخ من بلخ، وتزاحفوا على التعبية، فجعل السلطان في القلب أخاه نصرا صاحب الجيش بخراسان، وأبا نصر ابن أحمد الفريغوني صاحب الجوزجان، وأبا عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطائي في كماة الأكراد والعرب والهنود، وفي الميمنة حاجبه الكبير أبا سعيد التمرتاشي، وفي الميسرة أرسلان الحاجب. وحصّن الصفوف بخمسمائة من الفيلة. وجعل ايلك خان على ميمنته قدرخان ملك الختّل وعلى ميسرته أخاه جعفر تكين، وهو في القلب. وطالت الحرب، واستمات الفريقان ونزل السلطان وعفّر خدّه بالأرض متضرعا. ثم ركب وحمل في فيلته على القلب فأزاله عن مكانه، وانهزم الترك،

(4/483)


واتبعوهم يقتلون ويأسرون إلى أن عبروا بهم النهر. وأكثر الشعراء تهنئة السلطان بهذا الفتح وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. ولما فرغ السلطان من هذه الحرب سار للهند للإيقاع بنواسه شاه أحد أولاد الملوك، كان أسلم على يده واستخلفه على بعض المعاقل التي افتتحها، فارتد ونبذ الإسلام، فأغذّ السير إليه ففرّ أمامه، واحتوى على المعاقل التي كانت في يده من أصحابه، وانقلب إلى غزنة ظافرا وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.
(فتح بهيم نقرا [1] )
ثم سار السلطان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة في ربيع منها غازيا إلى الهند فانتهى الى سبط وبهند، فلقيه لك ابن هزبال [2] ملك الهند في جيوش لا تحصى، فصدقهم السلطان القتال فهزمهم، واتبعهم إلى قلعة بهيم نقرا وهي حصن على حصن عالية اتخذها أهل الهند خزانة للصنم، ويودعون به أنواع الذخائر والجواهر التي يتقرّب بها للصنم، فدافع عنه وعن خزنته أياما. ثم استأمنوا وأمكنوا السلطان من القلعة، فبعث عليه أبا نصر الفريغوني وحاجبه الكبير ابن التمرتاش، وواسع تكين، وكلّفهما بنقل ما في الخزائن، فكان مبلغ المنقول من الوزن سبعين ألف ألف شامية، ومن الذهبيات والفضيات موزونة، والديباج السوسي ما لا عهد بمثله، ووجد في جملتها بيت من الفضّة الخالصة طوله ثلاثون ذراعا في خمسة عشر، صفائح مضروبة ومعالق للطهي والنشر، وشراع من ديباج طوله أربعون ذراعا في عرض عشرين بقائمتين من ذهب، وقائمتين من فضة، فوكّلهما بحفظ ذلك. ومضوا إلى غزنة فأمر بساحة داره ففرشه بتلك الجواهر، واجتمعت وفود الأطراف لمشاهدتها، وفيهم رسول طغان أخي ايلك خان.
(خبر الفريغون واستيلاء السلطان على الجوزجان)
وكان بنو فريغون هؤلاء ولاة على الجوزجان أيام بني سامان يتوارثونها، وكان لهم
__________
[1] غزوة بهيم نغر: ابن الأثير ج 9 ص 206.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل «فانتهى الى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال» .

(4/484)


شهرة مكارم. وكان أبو الحرث أحمد بن محمد غرّتهم. وكان سبكتكين خطب كريمته لابنه محمود وأنكح كريمته أخت محمود لابنه أبي نصر فالتحم بينهما. وهلك أبو الحرث فأقرّ السلطان محمود ابنه أبا نصر على ولايته إلى أن مات سنة إحدى وأربعمائة، وكان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف بالبديع يؤلّف له التآليف ويجعلها باسمه، ونال عنده بذلك فوق ما أمّل.
(غزوة بارين [1] )
ثم سار السلطان محمود على رأس المائة الرابعة لغزو بلاد الهند فدوّخها واستباحها، وأوقع بملكها، ورجع إلى غزنة فبعث إليه ملك الهند في الصلح على جزية مفروضة، وعسكر مقرّر عليه، وعلى تعجيل مال عظيم، وهديّة فيها خمسون فيلا، وتقرّر الصلح بينهما على ذلك.
(غزوة الغور وقصران)
بلاد الغور هذه تجاور بلاد غزنة، وكانوا يفسدون السابلة ويمتنعون بجبالهم وهي وعرة ضيّقة، وأقاموا على ذلك متمرّدين على كفرهم وفسادهم، فامتعض السلطان محمود، وسار لحسم عللهم سنة إحدى وأربعمائة وفي مقدمته الترنتاش الحاجب والي هراة وأرسلان الحاجب والي طوس. وانتهوا الى مضيق الجبل وقد شحنوه بالمقاتلة فنازلتهم الحرب ودهمهم السلطان فارتدّوا على أعقابهم، ودخل عليهم لبلادهم ولملكها. ودخل حصنا في عشرة آلاف واستطرد لهم السلطان الى فسيح من الأرض.
ثم كرّ عليهم فهزمهم وأثخن فيهم وأسر ابن سوري وقرابته وخواصه، وملك قلعتهم وغنم جميع أموالهم، وكانت لا يعبّر عنها. وأسف ابن سوري على نفسه فتناول سما كان معه ومات. ثم سار السلطان سنة اثنتين وأربعمائة لغزو قصران [2] وكان صاحبها
__________
[1] نارين: ابن الأثير ج 9 ص 213.
[2] قصدار: ابن الأثير ج 9 ص 227.

(4/485)


يحمل ضمانه كل سنة، فقطع الحمل وامتنع بموالاة ايلك خان، وسار إليه فبادر باللقاء وتنصّل واعتذر، وأهدى عشرين فيلا وألزمه السلطان خمسة عشر ألف درهم، ووكّل بقبضها ورجع إلى غزنة.
(خبر اليشار واستيلاء السلطان على غرشستان)
كان اسم أليشار عند الأعاجم لقبا على ملك غرشستان، كما أن كسرى على ملك الفرس وقيصر على ملك الروم ومعناه الملك الجليل. وكان أليشار أبو نصر محمد بن إسماعيل بن أسد ملكها إلى أن بلغ ولده محمد سن النجابة فغلب على أبيه، وانقطع أبو نصر للنظر في العلوم لشغفه بها، وصاحب خراسان يومئذ أبو علي بن سيجور. ولما انتقض على الرضى نوح خطبهم لطاعته وولايته فأبوا من ذلك لانتقاضه على سلطانه، فبعث العساكر إليهم وحاصرهم زمانا. ثم نهض سبكتكين إلى أبي علي بن سيجور، وانضاف أليشار إلى سبكتكين في تلك الفتنة كلّها، فلما ملك السلطان محمود خراسان وأذعن له ولاة الأطراف والأعمال بعث إليهم في الخطبة فأجابوه. ثم استنفر محمد بن أبي نصر في بعض غزواته فقعد عن النفير، فلمّا رجع السلطان من غزوته بعث حاجبه الكبير أبا سعيد الترنتاش في العساكر وأردفه بأرسلان الحاجب والي طوس لمناهضة أليشار ملك غرشستان. واستصحبا معهما أبا الحسن المنيعي الزعيم بمروالروذ لعلمه بمخادع تلك البلاد، فأمّا أبو نصر فاستأمن إلى الحاجب، وجاء به إلى هراة مرفّها محتاطا عليه. وأمّا ابنه محمد فتحصّن بالقلعة التي بناها أيام ابن سيجور فحاصروها طويلا، واقتحموها عنوة وأخذا أسيرا، فبعث به إلى غزنة، واستصفيت أمواله وصودرت حاشيته. واستخلف الحاجب على الحصن ورجع إلى غزنة فامتحن الولد بالسياط، واعتقله مرفّها واستقدم أباه أبا نصر من هراة فأقام عنده في كرامة إلى أن هلك سنة ست وأربعمائة.
(وفاة ايلك خان وصلح أخيه طغان خان مع السلطان)
كان ايلك خان بعد هزيمته بخراسان يواصل الأسف، وكان أخوه طغان يكبر عليه

(4/486)


على فعلته، وينقضه العهد مع السلطان. وبعث الى السلطان يتبرّأ ويعتذر فنافره ايلك خان بسبب ذلك وزحف إليه. ثم تصالحها. ثم هلك ايلك خان سنة ثلاثة وأربعمائة وولّى مكانه أخوه طغان خان فراسل السلطان محمود وصالحه. وقال له اشتغل أنت بغزو الهند، وأنا بغزو الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك فأجابه إلى ذلك. وانقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال. ثم خرجت طوائف الترك من جانب الصين في مائة ألف [1] خركاة وقصدوا بلاد طغان، فهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان من الترك أزيد من مائة ألف، واستقبل جموع الكفرة فهزمهم وقتل نحوا من مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. وهلك طغان إثر ذلك، وملك بعده أخوه أرسلان خان سنة ثمان وأربعمائة، وخلّص ما بينه وبين السلطان محمود، وخطب بعض كرائمه للسلطان مسعود ولده فأجابه. وعقد السلطان لابنه على هراة فسار اليها سنة ثمان وأربعمائة.
(فتح بارين [2] )
ثم سار السلطان سنة ثمان وأربعمائة عند ما فصل الشتاء غازيا إلى الهند، وتوغّل فيها مسيرة شهرين، وامتنع عظيم الهند في جبل صعب المرتقى ومنع القتال، واستدعى الهنود وملك عليهم الفيلة وفتح الله بارين وكثرت الأسرى والغنائم ووجد به في بيت البدجي [3] حجر منقوش، قال التراجمة كتابته إنه مبنيّ منذ أربعين ألف سنة. ثم عاد إلى غزنة وبعث إلى القادر يطلب عهد خراسان وما بيده من الممالك.
__________
[1] في ثلاثمائة ألف خركاة: ابن الأثير ج 9 ص 297.
[2] ناردين: ابن الأثير ج 9 ص 244.
[3] هو بيت البد اي بيت الصم.

(4/487)


(غزوة تنيشرة [1] )
كان صاحب تنيشرة عاليا في الكفر والطغيان، وانتهى الخبر إلى السلطان في ناحيته من الفيلة فيلة من الفيتلمان [2] الموصوفة في الحروب، فاعتزم السلطان على غزوة، وسار إليه في مسالك صعبة وعرة بين أودية وقفارات حتى انتهى إلى نهر طام قليل المخاضة وقد استندوا من ورائه إلى سفح جبل، فسرّب إليهم جماعة من الكماة خاضوا النهر وشغلوهم بالقتال حتى تعدّت بقية العسكر. ثم قاتلوهم وانهزموا، واستباحهم المسلمون وعادوا إلى غزنة ظافرين ظاهرين. ثم غزا السلطان على عادته فضل الأدلاء طريقهم فوقع السلطان في مخاضات من المياه غرق فيها كثير من العسكر، وخاض الماء بنفسه أياما حتى تخلّص ورجع إلى خراسان.
(استيلاء السلطان على خوارزم)
كان مأمون بن محمد صاحب الجرجانية من خوارزم، وكان مخلصا في طاعة الرضى نوح أيام مقامه في آمد كما مرّ، فأضاف نسا إلى عمله فلم يقبلها المودّة بينه وبين أبي علي ابن سيجور. وكان من خبره مع ابن سيجور واستنقاذه إياه من أسر خوارزم شاه سنة ست وثمانين وثلاثمائة ما مرّ ذكره، وصارت خوارزم كلها له. ثم هلك وملك مكانه أبو الحسن علي. ثم هلك وملك مكانه ابنه مأمون، وخطب إلى السلطان محمود بعض كرائمه فزوّجه أخته. واتحد الحال بينهما الى أن هلك، وولّي مكانه أبو العبّاس مأمون، ونكح أخته كما نكحها أخوه من قبله. ثم دعاه إلى الدخول في طاعته، والخطبة له، كما دعا الناس، فمنعه أصحابه وأتباعه، وتوجّس الخيفة من السلطان في ذلك، فرجعوا إلى الفتك به، فقتلوه وبايعوا ابنه داود. وازداد خوفهم من السلطان في ذلك، فتعاهدوا على الامتناع ومقدّمهم التكين البخاريّ. وسار
__________
[1] تانيسر: ابن الأثير ج 9 ص 247.
[2] الصليمان: ابن الأثير ج 9 ص 247.

(4/488)


إليهم السلطان في العساكر حتى أناخ عليهم وبيّتوا محمد بن إبراهيم الطائي، وكان في مقدّمة السلطان فقاتلهم إلى أن وصل السلطان فهزمهم، وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وركب التكين السفن ناجيا فغدره الملّاحون وجاءوا به إلى السلطان فقتله في جماعة من القوّاد الذين قتلوا مأمونا على قبره. وبعث بالباقين الى غزنة، فأخرجوا في البعوث إلى الهند وأنزلوا هنالك في حامية الثغور وأجريت لهم الأرزاق، واستخلف على خوارزم الحاجب الترنتاش ورجع إلى بلاده.
(فتح قشمير [1] وقنوج)
ولما فرغ السلطان من أمر خوارزم، وانضافت إلى مملكته، عدل إلى بست، وأصلح أحوالها ورجع إلى غزنة. ثم اعتزم على غزو الهند سنة تسع وأربعمائة، وكان قد دوّخ بلادها كلها، ولم يبق عليه إلّا قشمير ومن دونها الفيافي والمصاعب، فاستنفر الناس من جميع الجهات من المرتزقة والمتطوّعة. وسار تسعين مرحلة وعبر نهر جيحون وحيلم وخيالا [2] ، هو وامراؤه. وبثّ عساكره في أودية لا يعبر عن شدّة جريها وبعد أعماقها، وانتهى إلى قشمير. وكانت ملوك الهند في تلك الممالك تبعث إليه بالخدمة والطاعة، وجاءه صاحب درب قشمير وهو جنكي بن شاهي وشهي فأقرّ بالطاعة، وضمن دلالة الطريق، وسار أمام العسكر إلى حصن مأمون لعشرين من رجب، وهو خلال ذلك يفتتح القلاع إلى أن دخل في ولاية هردت، أحد ملوك الهند فجاء طائعا مسلما. ثم سار السلطان إلى قلعة كلنجد من أعيان ملوكهم، فبرز للقائه، وانهزم، واعترضهم أنهار عميقة سقطوا فيها وهلكوا قتلا وغرقا، يقال: هلك منهم خمسون ألفا. وغنم السلطان منهم مائة فيل وخمسة إلى غير ذلك مما جلّ عن الوصف ثم عطف إلى سقط التقيذ [3] وهو بيت مبني بالصخور الصمّ يشرّع منها
__________
[1] هي كشمير.
[2] وفي الكامل لابن الأثير: وعبر نهر سيحون وجيلوم وهما نهران عميقان شديدا الجرية فوطئ أرض الهند، وأثاه رسل ملوكها بالطاعة.
[3] وفي الكامل: ثم سار نحو بيت متعبد لهم- وهو من مهرة الهند وهو من أحصن الأبنية على نهر ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة بالجواهر.

(4/489)


بابان إلى الماء المحيط، موضوعة أبنيته فوق التلال، وعن جنبتيه ألف قصر مشتملة على بيوت الأصنام. وفي صدر البلد بيت أصنام منها خمسة من الذهب الأحمر مضروبة على خمسة أذرع في الهواء قد جعلت عينا كل واحدة منهما ياقوتتان تساوين خمسين ألف دينار، وعين الآخر قطعة ياقوت أزرق تزن أربعمائة وخمسين مثقالا، وفي وزن قدمي الصنم الواحد أربعة آلاف وأربعمائة مثقال، وجملة ما في الأشخاص من الذهب ثمانية وتسعون ألف مثقال. وزادت شخوص الفضّة على شخوص الذهب في الوزن، فهدمت تلك الأصنام كلّها، وخرّبت. وسار السلطان طالبا قنوج، وخرّب سائر القلاع في طريقه، ووصل إليها في شعبان سنة تسع وأربعمائة وقد فارقها نزوجبال حين سمع بقدومه. وعبر نهر الغانج الّذي تغرق الهنود فيه أنفسهم ويذرون فيه رماد المحرقين منهم. وكان أهل الهند واثقين بقنوج وهي سبع قلاع موضوعة على ذلك الماء، فيها عشرة آلاف بيت للأصنام، تزعم الهنود أن تاريخها منذ مائتي ألف سنة، أو ثلاثمائة ألف سنة، وأنها لم تزل متعبّدا لهم. فلمّا وصلها السلطان ألفاها خالية قد هرب أهلها، ففتحها كلّها في يوم واحد، واستباحها أهل عسكره. ثم أخذ في السير منها الى قلعة لنج، وتعرف بقلعة البراهمة، فقاتلوا ساعة، ثم تساقطوا من أعاليها على سنا الرماح وضياء الصفاح. ثم سار إلى قلعة أسا وملكها جندبال فهرب وتركها، وأمر السلطان بتخريبها. ثم عطف على جندراي من أكابر الهنود في قلعة منيعة. وكان جميال ملك الهند من قبل ذلك يطلبه للطاعة والألفة فيمتنع عليه. ولحق جميال بنهوجد أحد المغرورين بحصانة المعقل، فنجا بنفسه.
ورام جندراي المدافعة وثوقا بامتناع قلعته. ثم تنصّح له بهميال ومنعه من ذلك، فهرّب إليه أمواله وأنصاره إلى جبال وراء القلعة، وافتتحها السلطان وحصل منها على غنائم. وسار في أتباع جندراي وأثخن فيهم قتلا ونهبا، وغنم منهم أموالا وفيولا، وبلغت الغنائم ثلاثة آلاف ألف درهم ذهبا وفضّة، ويواقيت والسبي كثير، وبيع بدرهمين إلى عشرة. وكانت الفيول تسمّى عندهم جنداي داد. ثم قضى السلطان جهاده ورجع إلى غزنة فابتنى مسجدها الجامع وجلب إليه جذوع الرخام من الهند، وفرشه بالمرمر، وأعالي جدرانه بالأصباغ وصباب الذهب المفرغة من تلك الأصنام، واحتضر بناء المسجد بنفسه، ونقل إليه الرخام من نيسابور، وجعل أمام البيت مقصورة تسع ثلاثة آلاف غلام، وبنى بإزاء المسجد مدرسة احتوت فيها الكتب من

(4/490)


علوم الأوّلين والآخرين، وأجريت بها الأرزاق، واختصّت لنفسه يفضي منه إليه في أمن من العيون، وأمر القوّاد والحجّاب وسائر الخدّام فبنوا بجانب المسجد من الدور ما لا يحصى. وكانت غزنة تحتوي على مربط ألف فيل يحتاج كل واحد منها لسياسته ومائدته خطّة واسعة.
(غزوة الأفقانية)
لما رجع السلطان إلى غزنة راسل بيدو والي قنوج واسمه راجبان بدلحه وطال بينهما العتاب وآل إلى القتال فقتل والي قنوج، واستلحمت جنوده. وطغى بيدو، وغلب على الملوك الذين معه، وصاروا في جملته، ووعدهم بردّ ما غلبهم عليه السلطان محمود، ونمي الخبر بذلك إليه فامتعض، وسار إلى بيدو فغلبه على ملكه. وكان ابتداؤه في طريقه بالأفقانية طوائف من كفّار الهند معتصمون بقلل الجبال، ويفسدون السابلة، فسار في بلادهم ودوّخها، وعبر نهر كنك، وهو واد عميق، وإذا جيبال من ورائه، فعبر إليه على عسر العبور فانهزم جيبال، واسر كثير من أصحابه.
وخلص جريحا واستأمن إلى السلطان فلم يؤمّنه إلا أن يسلم، فسار ليلحق ببيدو فغدر به بعض الهنود وقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى السلطان في الطاعة على الإتاوة، وسار إلى مدينة باري من أحصن بلاد الهند فألفاها خالية، فأمر بتخريبها وعشر قلاع مجاورة لها، وقتل من أهلها خلقا وسار في طلب بيدو، وقد تحصّن بنهر أدار ماءه عليه من جميع جوانبه، ومعه ستة وخمسون ألف فارس وثمانون ألف راجل وسبعمائة وخمسون فيلا، فقاتلهم لك يوما، وحجز بينهم الليل فأجفل بيدو، وأصبحت دياره بلاقع، وترك خزائن الأموال والسلاح فغنمها المسلمون وتتبعوا آثارهم فوجدوهم في الغياض والآكام، فأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدو بذماء نفسه، ورجع السلطان إلى غزنة ظافرا.
(فتح سومنات)
كان للهند صنم يسمّونه سومنات، وهو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل

(4/491)


البحر بحيث تلتقفه أمواجه والصنم مبنى في بيته على ستة وخمسين سارية من الساج المصفّح بالرصاص، وهو من حجر طوله خمسة أذرع، منها ذراعان غائصان في البناء وليس له صورة مشخّصة. والبيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق، وعنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرّك بأدوار معلومة من الليل فيقوم عباد البرهميّين لعبادتهم بصوت الجرس. وعنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبا وفضة، عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب، تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار. وكانوا يحجّون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر فتجتمع إليه عوالم لا تحصى.
وتزعم الهنود أن الأرواح بعد المفارقة تجتمع إليه فيبثّها فيمن شاء بناء على التناسخ، والمدّ والجزر عندهم هو عبادة البحر. وكانوا يقرّبون إليه كل نفيس، وذخائرهم كلّها عنده ويعطون سدنته الأموال الجليلة. وكان له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة.
وكان نهرهم المسمّى كنك الّذي يزعمون أنّ مصبه في الجنّة، ويلقون فيه عظام الموتى من كبرائهم، وبينه وبين سومنات مائتا فرسخ. وكان يحمل من مائه كل يوم لغسل هذا الصنم، وكان يقوم عند الصنم من عبّاد البرهميّين ألف رجل في كل يوم للعبادة، وثلاثمائة لحلق رءوس الزوّار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنّون ويرقصون، ولهم على ذلك الجرايات الوافرة، وكان كلّما فتح محمود بن سبكتكين من الهند فتحا أو كسر صنما، يقول أهل الهند: إن سومنات ساخط عليهم، ولو كان راضيا عنهم لأهلك محمودا دونه. فاعتزم محمود بن سبكتكين إلى غزوة، وتكذيب دعاويهم في شأنه، فسار من غزنة في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوّعة، وقطع القفر إلى الملتان وتزوّد له من القوت والماء قدر الكفاية، وزيادة عشرين ألف حمل. وخرج من المفازة إلى حصون مشحونة بالرجال قد غوّروا آبارهم مخافة الحصار، فقذف الله الرعب في قلوبهم، وفتحها وقتل سكانها وكسر أصنامها، واستقى منها الماء. وسار إلى أنهلوارن وأجفل عنها صاحبها بهيم، وسار إلى بعض حصونه، وملك السلطان المدينة، ومرّ إلى سومنات ووجد في طريقه حصونا كثيرة فيها أصنام وضعوها كالنقباء والخدمة لسومنات، ففتحها وخرّبها وكسّر الأصنام. ثم سار في قفر معطش، واجتمع من سكانه عشرون ألفا لدفاعه، فقاتلهم سراياه، وغنموا أموالهم، وانتهوا إلى دبلواه على مرحلتين من سومنات، فاستولى عليها وقتل رجالها. ووصل الى سومنات منتصف ذي القعدة، فوجد أهلها مختفين في

(4/492)


أسوارهم، وأعلنوا بكلمة الإسلام فوقها، فاشتدّ القتال حتى حجز بينهم الليل. ثم أصبحوا إلى القتال وأثخنوا في الهنود، وكانوا يدخلون إلى الصنم فيعنّفونه ويبكون ويتضرّعون إليه، ويرجعون إلى القتال. ثم انهزموا بعد أن أفناهم القتل، وركب فلّهم السفن فأدركوا، وانقسموا بين النهب والقتل والغرق، وقتل منهم نحو من خمسين ألفا. واستولى السلطان على جميع ما في البيت. ثم بلغه أنّ بهيم صاحب أنهلوارن اعتصم بقلعة له تسمّى كندهة في جزيرة على أربعين فرسخا من البرّ، فرام خوض البحر إليها، ثم رجع عنها وقصد المنصورة، وكان صاحبها ارتدّ عن الإسلام، ففارقها وتسرّب في غياض هناك، فأحاطت عساكر السلطان بها، وتتبّعوهم بالقتل، فأفنوهم. ثم سار إلى بهاطية فدان أهلها بالطاعة ورجع إلى غزنة في صفر سنة سبع عشرة وأربعمائة.
(دخول قابوس صاحب جرجان وطبرستان في ولاية السلطان محمود)
قد قدّمنا وفادة قابوس على الأمير نوح بن منصور بن سامان، وعامله بخراسان أبي العبّاس تأس مستصرخا على بني بويه عند ما ملكوا طبرستان وجرجان من يده سنة إحدى وسبعين، وأقام بخراسان ثماني عشرة سنة وهم يعدونه بالنصرة والمدد حتى يئس منهم. ولما جاء سبكتكين وعده بمثل ذلك. ثم شغله شغل بني سيجور، ثم وعده السلطان محمود وشغلته فتنة أخيه، واستولى أبو القاسم بن سيجور على جرجان بعد مهلك فخر الدولة بن بويه. ثم أمر من بخارى بالمسير إلى خراسان، فسار إلى أسفراين واستمدّ قابوس رجال الديلم والجبل، فأمدّوه وظاهروه على أمره حتى غلب على طبرستان وجرجان، وملكها كما يذكر في أخبار الديلم والجبل. وكان نصر بن الحسن بن الفيرزان وهو ابن عمّ ما كان بن كالي ينازعه فيهما، فآل الحال بنصر إلى أن اعتقله بنو بويه بالريّ، واستقلّ قابوس بولاية جرجان وطبرستان وديار الديلم كلّها من ممالك محمود
.

(4/493)


(استيلاء السلطان محمود على الري والجبل)
كان مجد الدولة بن فخر الدولة صاحب الريّ، وكان قد ضعف أمره وأدبرت دولته، وكان يتشاغل بالنساء والكتاب نسخا ومطالعة. وكانت أمّه تدبّر ملكه، فلما توفيت انتقضت أحواله وطمع فيه جنده، وكتب إلى محمود يشكو ذلك ويستدعي نصرته، فبعث إليه جيشا عليهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف عند وصوله. وطيّر بالخبر إلى السلطان، فسار في ربيع من سنة عشرين وأربعمائة ودخل المريّ وأخذ أموال مجد الدولة، وكانت ألف ألف دينار، ومن الجواري قيمة خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات ما لا يحصى. ووجد له خمسين زوجة ولدن نيفا وثلاثين ولدا، فسئل عن ذلك فقال: هذه عادة. وأحضر مجد الدولة وعنّفه، وعرض له بتسفيه رأيه في الانتصار عن جندراي منه، وبعثه إلى خراسان فحبس بها. ثم ملك السلطان قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآوه، وصلب أصحاب مجد الدولة من الباطنية ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة والاعتزال والنجوم، وأخذ مما سوى ذلك من الكتب مائة حمل. وتحصّن منه منوجهر بن قابوس ملك الجبل بالجبال الوعرة فقصده فيها، ولم تصعب عليه فهرب منوجهر وتحصّن بالغياض، وبعث له بخمسمائة ألف دينارا استصلاحا فقبله ورجع عنه إلى نيسابور. وتوفّي منوجهر عقب ذلك، وولي بعده ابنه أنوشروان فأقرّه السلطان على ولايته، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار ضريبة. وخطب للسلطان محمود في بلاد الجبل إلى أرمينية. وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر من يد إبراهيم السيلار بن المرزبان من عقب شوذان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وجميع قلاعه، ولم يبق بيده إلّا شهرزان، قرّر عليه فيها ضريبة، كما يأتي في أخبار الديلم. ثم أطاعه علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، وخطب له، وعاد السلطان إلى خراسان، واستخلف بالريّ ابنه مسعودا فقصد أصفهان وملكها من علاء الدولة، واستخلف مسعود عليها بعض أصحابه وعاد عنها فثار أهلها بعامله وقتلوه، فرجع إليهم واستباحهم. ثم عاد إلى الريّ فأقام بها
.

(4/494)


(استيلاء السلطان محمود على بخارى ثم عوده عنها)
كان ايلك خان ملك الترك وصاحب تركستان لما ملك بخارى من يد بني سامان سنة تسعين وثلاثمائة، ولّى عليها ورجع إلى بلاده كما مرّ، وكان الغزّ أحياء بادية بضواحي بخارى وزعيمهم أرسلان بن سلجوق عمّ السلطان طغرلبك. وكان بينه وبين ايلك خان وأخيه بقراخان حروب وفتن بسبب استظهار بني سامان بهم. فلما ملك ايلك خان بخارى عرف لأرسلان بن سيجور حقّه ورفع محلّه، وهو مع ذلك مستوحش.
وكان على تكين أخو ايلك خان، وحبس أرسلان ولحق ببخارى فاستولى عليها، وطلب موالاة أرسلان بن سيجور فوالاه، واستفحل أمرهما، ونهض إليهما ايلك خان وقاتلهما فهزماه. واستوثق أمر تكين في بخارى وكان يسيء جوار السلطان محمود بن سبكتكين في أعماله، ويعترض رسله المتردّدين إلى ملوك الترك فأحفظ ذلك السلطان، وأجمع المسير إليه، فنهض من بلخ سنة عشرين وأربعمائة، وعبر النهر وقصد بخارى، فهرب منها على تكين ولحق بايلك خان. ودخل السلطان بخارى وملك سائر أعمالها، وأخذ الجزية من سمرقند، وأجفلت أحياء الغزّ وأرسلان بن سلجوق، وتلطف في استدعائه. فلما حضر عنده تقبّض عليه، وبعثه إلى بعض قلاع الهند وحبسه بها. وسار إلى أحياء الغزّ فنهبهم، وأثخن فيهم قتلا وأسرا، ورجع إلى خراسان.
(خبر السلطان محمود مع الغز بخراسان)
لمّا حبس السلطان أرسلان بن سلجوق، ونهب احياءهم، أجلاهم عن ضواحي بخارى، فعبروا نهر جيحون إلى خراسان، وامتدّت فيهم أيدي العمّال بالظلم والتعدّي في أموالهم وأولادهم فتفرّقوا، وجاءت منهم طائفة في أكثر من ألفي خركاة إلى كرمان، ثم إلى أصفهان، وكان يسمّون العراقية. وطائفة إلى جبل بكجان عند خوارزم القديمة، وعاث كل منهم فيما سار فيه من البلاد. وبعث السلطان إلى علاء الدولة بأصفهان لردّ الذين ساروا إليه إلى الريّ وقبلهم، وحاول ذلك بالغدر فلم

(4/495)


يستطع، وحاربهم فهزموه وساروا عنه إلى أذربيجان، وأفسدوا ما ساروا عليه وصانعهم وهشوذان صاحب أذربيجان وآنسهم. وكان مقدّموهم: بوقا وكوكاش ومنصور ودانا. وأمّا الذين ساروا إلى خوارزم القديمة فكثر عيثهم في تلك النواحي.
وأمر السلطان محمود صاحب طوس أرسلان الحاجب أن يسير في طلبهم فاتبعهم سنتين. ثم جاء السلطان على أثره فشرّدهم على نواحي خراسان، واستخدم بعضهم.
وكان أمراؤهم: كوكاش وبوقا وقزل ويغمروتا صغلي.
ولمّا مات السلطان محمود استخدمهم ابنه مسعود أيضا، وساروا معه من غزنة إلى خراسان فسألوه فيمن بقي منهم بجبل بكجان عند خوارزم فأذن لهم أن يسهلوا الى البسائط على شرط الطاعة. ثم انتقض أحمد نيال عامل الهند فسار مسعود إليه، وولى على خراسان تاش، وكثر عيث هؤلاء الغز في البلاد فأوقع بهم تاش، وقتل أميرهم يغمر. وبعث السلطان مسعود من إجلائهم عن البلاد، ومثّل بهم بالقتل والقطع والصلب. فساروا إلى الريّ طالبين أذربيجان للحاق بالعراقية منهم كما مرّ ذكرهم فملكوا الدامغان ونهبوها، ثم سمنان. ونهبوا جوار الريّ وايجاباذ ومشكوبة من أعمال الريّ، وخرّبوا كل ما مرّوا عليه من القرى والضياع فاجتمع لحربهم تاش وأبو سهل الحمدونيّ صاحب الريّ. وسار إليهم تاش في العساكر والفيلة على التعبية، ولقوة مستميتين، وسبق إليه أحياؤهم فهزموه وقتلوه.
ثم ساروا الى الريّ فهزموا أبا سهل الحمدونيّ وعسكره، ولحق بقلعة طبول، ونهبوا الريّ واستباحوا أموالها، وجاء عسكر من جرجان فاعترضوه وكبسوه، وأثخنوا فيهم قتلا وأسرا، ومضوا إلى أذربيجان ليجتمعوا بالعراقية. ثم رجع علاء الدولة بن كاكويه إلى أصفهان بعد مسيرهم من الريّ، وطلبوا مولاه أبا سهل على طاعة مسعود فلم يتم وعاث الغز في أذربيجان وأوقع بهم ففارقوها إشفاقا من نيال وأخيه طغرلبك، وافترقوا بين الموصل وديار بكر فملكوها ونهبوها وعاثوا في نواحيها كما مرّ ذكره في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر.
هذه أخبار أرسلان بن سلجوق مفصلة إلّا مفصلة إلّا ما اختصر منها بالريّ وأذربيجان فإنه يأتي في مواضعه من دولة الديلم. وأمّا طغرلبك وإخوته داود ...
وبيقو وأخوه لأمه نيال المسمى بعد الإسلام إبراهيم فانهزموا وأقاموا بعد سلجوق ببلاد ما وراء النهر. وكان بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى حروب ظهر عليهم فيها

(4/496)


فعبروا جيحون إلى خوارزم وخراسان، وكان من أخبارهم فيها وما آل أمرهم إلى الملك والدولة ما يأتي ذكره.
(افتتاح نرسى من الهند)
كان السلطان محمود قد استخلف على الهند من مواليه أحمد نيال تكين، فغزا سنة إحدى وعشرين مدينة نرسى من أعظم مدن الهند في مائة ألف مقاتل، فنهب وخرّب الأعمال واستباحها. وجاء إلى المدينة فدخلها من أحد جوانبها، واستباحها يوما ولم يستوعبها حتى خرجوا فباتوا بظاهرها خوفا على أنفسهم من أهل البلد.
وقسّموا الأموال كيلا، وأرادوا العود من الغد فدافعهم أهلها، ورجع أحمد نيال بعساكره إلى بلده.
(وفاة السلطان محمود وولاية ابنه محمد)
ثم توفي السلطان محمود في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكان ملكا عظيما استولى على كثير من الممالك الإسلامية، وكان يعظّم العلماء ويكرّمهم، وقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلا في رعيته رفيقا بهم محسنا إليهم، وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة. ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لابنه محمد وهو ببلخ، وكان أصغر من مسعود إلّا أنه كان مقبلا عليه ومعرضا عن مسعود. فلمّا توفي بعث أعيان الدولة إلى محمد بخبر الوصية واستحثّوه، وخطب له في أقاصي الهند إلى نيسابور، وسار إلى غزنة فوصلها لأربعين يوما، واجتمعت العساكر على طاعته وقسّم فيها الأعطيات.
(خلع السلطان محمد ابن السلطان محمود وولاية ابنه الآخر مسعود الأكبر)
ابن خلدن م 32 ج 4

(4/497)


لما توفي السلطان محمود كان ابنه مسعود بأصفهان، فسار إلى خراسان، واستخلف على أصفهان، فثار أهلها بخليفته وعسكره فقتلوهم، فعاد إليهم مسعود وحصرها وافتتحها عنوة واستباحها. ثم استخلف عليها وسار إلى الريّ ومنها إلى نيسابور، وكتب إلى أخيه محمد بالخبر وأنه لا ينازعه، ويقتصر على فتحه من طبرستان وبلد الجبل وأصفهان، ويطلب تقديمه على محمد في الخطبة فأحفظه ذلك، واستحلف العساكر. وسار إلى مسعود، وكان أكثر العساكر يميلون الى مسعود لقوّته وشجاعته وعلوّ سنه. وأرسل التوتناش صاحب خوارزم، وكان من أصحاب السلطان محمود يشير على محمد بترك الخلاف فلم يسمع، وسار فانتهى إلى بكياباد أوّل رمضان من سنته، وأقام، وكان مشتغلا باللعب عن تدبير الملك، فتفاوض جنده في خلعه والادالة منه بأخيه مسعود. وتولّى كبر ذلك عمّه يوسف بن سبكتكين، وعلى حشاوند صاحب أبيه. وحبسوا محمدا بقلعة بكياباد وكتبوا بالخبر إلى مسعود، وارتحلوا إليه بالعساكر فلقوه بهراة فقبض على عمّه وعلى صاحب أبيه، وعلى جماعة من القوّاد. واستقرّ في ملك أبيه شهر ذي القعدة من سنته، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن السيمندي من محبسه وفوّض إليه الوزارة وأمور المملكة.
وكان أبوه قبض عليه سنة ست عشرة واربعمائة وصادره على خمسة آلاف دينار. ثم سار إلى غزنة فوصلها منتصف اثنتين وعشرين واربعمائة ووفدت عليه رسل جميع الملوك من جميع الآفاق، واجتمع له ملك خراسان وغزنة والهند والسند وسجستان وكرمان ومكران والريّ وأصفهان والجبل، وعظم سلطانه.
(عود أصفهان الى علاء الدولة بن كاكويه ثم رجوعها للسلطان مسعود)
كان قناخر مجد الدولة بن بويه صاحب أصفهان، وملكها السلطان محمود من يده فهرب عنها، وامتنع بحصن قصران. وأنزل السلطان محمود ابنه مسعودا بأصفهان، وأنزل معه علاء الدولة بن كاكويه فاستقل بها، وسار عنه مسعود. ثم زحف إليه وملكها من يده. ولحق علاء الدولة بخوزستان يستنجد أبا كليجار بن سلطان الدولة. وسار عنه إلى تستر ليستمدّ له من أخيه جلال الدولة العساكر لمعاودة

(4/498)


أصفهان. وكان ذلك عقب فتنة وحرب بين أبي كليجار وأخيه جلال الدولة فوعده أبوه بذلك إذا اصطلحا، وأقام عنده إلى أن توفي السلطان محمود. ولما توفي السلطان محمود جمع قناخر جمعا من الديلم والأكراد، وقصد الريّ وقاتله نائبة مسعود فهزمه، ودفعه عن الريّ وفتك في عسكره قتلا وأسرا. وعاد قناخر إلى بلده، وبلغ الخبر إلى علاء الدولة بموت السلطان محمود وهو عند أبي كليجار بخوزستان، وقد أيس من النصر، فبادر إلى أصفهان فملكها، ثم همذان. وقصد الريّ فقاتله نائب مسعود، ورجع إلى أصفهان. ثم اقتحموا عليه البلد عنوة ونجا علاء الدولة إلى قلعة قردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان. وخطب لمسعود بالريّ وجرجان وطبرستان.
(فتح التيز ومكران وكرمان ثم عود كرمان لأبي كليجار)
كان صاحب التيز ومكران لما توفي خلّف ولدين أبا العساكر وعيسى، واستبدّ عيسى منهما بالملك فسار أبو العساكر إلى خراسان مستنجدا بمسعود فبعث معه عسكرا ودعوا عيسى إلى الطاعة فامتنع، وقاتلوه فاستأمن كثير من أصحابه إلى أبي العساكر فانهزم عيسى وقتل في المعركة. واستولى أبو العساكر على البلاد وملكها، وخطب فيها للسلطان مسعود، وذلك سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وفي هذه السنة ملك السلطان مسعود كرمان وكانت للملك أبي كليجار بن سلطان الدولة فبعث إليها السلطان مسعود عساكر خراسان فحاصروا مدينة بردسير، وشدّوا في حصارها، واستبدّ إلى أطراف البلاد، ثم وصل عسكر أبي كليجار إلى جيرفت واتبعوا الخراسانية بأطراف البلاد فعاود هزيمتهم، ودخلوا المفازة إلى خراسان وعادت العساكر الى فارس.
(فتنة عساكر السلطان مسعود مع علاء الدولة بن كاكويه وهزيمته)
قد تقدّم لنا هزيمة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه من الريّ ونجاته إلى قلعة

(4/499)


قردخان. ثم سار منها إلى يزدجرد ومعه فرهاد بن مرداويح مددا له. وبعث صاحب الجيوش بخراسان عسكرا مع ابن عمران الديلميّ لاعتراضهما، فلما قاربهما العسكر فرّ فرهاد إلى قلعة شكمين، ومضى علاء الدولة إلى سابور خرات، وملك علي بن عمران يزدجرد. ثم أرسل فرهاد إلى الأكراد الذين مع علي بن عمران وداخلهم في الفتك به، وشعر بذلك فسار إلى همذان، ولحقه فرهاد فاعتصم بقلعة في طريقه منيعة، وكادوا يأخذونه لولا عوائق الثلج والمطر في ذلك اليوم، وكانوا ضاحين من الخيام فتركوه ورجعوا عنه. وبعث ابن عمران الى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان يستمدّه في العسكر إلى همذان، وبعث علاء الدولة يستدعي أبا منصور ابن أخيه من أصفهان بالسلاح والأموال ففعل. وسار علي بن عمران من همذان لاعتراضه، فكبسه بجرباذقان وغنم ما معه وقتل كثيرا من عسكره وأسره، وبعث به إلى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان. وسار إلى همذان وزحف إليه علاء الدولة وفرهاد، فانقسموا عليه وجاءوه من ناحيتين، فانهزم علاء الدولة ونجا إلى أصفهان وفرّ هاربا الى قلعة شكمين فتحصّن بها.
(مسير السلطان مسعود إلى غزنة والفتن بالري والجبل)
لما استولى السلطان على أمره سار من غزنة إلى خراسان لتمهيد أمورها، وكان عامله وعامل أبيه على الهند أحمد نيال تكين [1] قد استفحل فيها أمره، وحدّثته نفسه بالاستبداد فمنع الحمل وأظهر الانتقاض. فسار السلطان إلى الهند ورجع أحمد نيال الى الطاعة، وقام علاء الدولة بأصفهان وأظهر الانتقاض، ومعه فرهاد بن مرادويح، فزحف إليهم أبو سهل وهزمهم، وقتل فرهاد ونجا علاء الدولة إلى جبال أصفهان وجرباذقان فامتنع بها، وسار ابو سهل إلى أصفهان فملكها سنة خمس وعشرين وأربعمائة ونهب خزائن علاء الدولة وحمل كتبه إلى غزنة وأحرقها الحسين الغوري بعد ذلك.
__________
[1] ينالتكين: ابن الأثير ج 9 ص 441.

(4/500)


(عود أحمد نيال تكين إلى العصيان)
ولما عاد السلطان إلى خراسان لقتال الغزّ، عاد أحمد نيال تكين إلى العصيان بالهند، وجمع الجموع فبعث السلطان سنة ست وعشرين وأربعمائة إليه جيشا كثيفا، وكتب إلى ملوك الهند بأخذ المذاهب عليه. فلما قاتله الجيوش انهزم ومضى هاربا إلى ملتان، وقصد منها بهاطية وهو في جمع فلم يقدر ملك بهاطية على منعه. وأراد عبور نهر السند في السفن، فهيّأ له الملك ليعبر إلى جزيرة وسط النهر ظنّها متصلة بالبر، وأوصى الملك الملّاحين أن ينزلوه بها ويرجعوا عنه. وعلموا أنها منقطعة، فضعفت نفوسهم وأقاموا بها سبعة أيام، ففنيت أزوادهم وأكلوا دوابهم، وأوهنهم الجوع. وأجاز إليهم ملك بهاطية فاستوعبهم بالقتل والغرق والأسر وقتل أحمد نفسه.
(فتح جرجان وطبرستان)
كانت جرجان وطبرستان وأعمالهما لدارا بن منوجهر بن قابوس، وكان السلطان مسعود قد أقرّه عليها، فلمّا سار السلطان إلى الهند وانتشر الغزّ في خراسان منع الحمل، وداخل علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن ماكان في العصيان. فلمّا عاد مسعود من الهند وأجلى الغزّ عن خراسان سار إلى جرجان سنة ست وعشرين وأربعمائة فملكها ثم سار إلى آمد فملكها وفارقها أصحابها، وافترقوا في الغياض فتبعهم، وقتل منهم وأسر. ثم راسله دارا في الصلح وتقرير البلاد عليه، وحمل ما بقي عليه، فأجابه السلطان إلى ذلك ورجع إلى خراسان.
(مسير علاء الدولة الى أصفهان وهزيمته)
كان أبو سهل الحمدونيّ قد أنزله السلطان بأصفهان [1] ودلّهم على النواحي
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 446: «سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير-

(4/501)


القريبة من علاء الدولة فأوقع بهم وغنم ما معهم، وقوي طمعه بذلك في أصفهان، فجمع الجموع، وسار إليها، فخرج إليهم أبو سهل وقاتلهم. وتحيّز من كان مع علاء الدولة من الأتراك إلى أبي سهل، فانهزم علاء الدولة، ونهب سواده، وسار إلى بروجرد، ثم إلى الطّرم فلم يقبله ابن السلّار صاحبها.
(استيلاء طغرلبك على خراسان)
كان طغرلبك وأخواه بيقو وحقربيك، واسم طغرلبك محمد، ولما أسر السلطان محمود أرسلان بن سلجوق وحبسه كما مرّ وأجاز أحياء من الغزّ إلى خراسان فكان من أخبارهم ما قدّمناه، وأقام طغرلبك وإخوته في أحيائهم بنواحي بخارى. ثم حدثت الفتنة بينهم وبين علي تكين صاحب بخارى، وكانت بينهم حروب ووقائع، وأوقعوا بعساكره مرارا فجمع أهل البلاد عليهم، وأوقع بهم واستلحمهم واستباحهم، فانحازوا إلى خراسان سنة ست وعشرين وأربعمائة، واستخدموا لصاحب خوارزم وهو هارون بن التوتناش. وغدر بهم، فساروا عنه إلى مفازة نسا، ثم قصدوا مرو وطلبوا الأمان من السلطان مسعود على أن يضمنهم أمان السابلة، فقبض على الرسل ولم يجبهم على ما سألوا. وبعث العساكر فأوقعوا بهم على نسا، ثم طار شررهم في البلاد وعمّ ضررهم. وسار السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور ففارقها أبو سهل الحمدونيّ فيمن معه، واستولى عليها داود. وجاء أخوه طغرلبك على أثره ولقيهم رسل الخليفة إليهم وإلى العراقية الذين قتلهم بالريّ وهمذان، يعنّفهم وينهاهم عن الفساد ويطمعهم، فتلقوا الرسل بالإعظام والتكرمة. ثم امتدّت عين داود إلى نهب نيسابور فمنعه طغرلبك، وعرض له بشهر رمضان، ووصية الخليفة، فلجّ فقوي طغرلبك في المنع وقال: والله لئن نهبت لأقتلنّ نفسي، فكفّ داود عن ذلك. وقسّطوا على أهل
__________
[ (-) ] أبي سهل الحمدونيّ بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطمعهم في الامتيار من النواحي القريبة منه، فساروا إليها ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم» .

(4/502)


نيسابور ثلاثين ألف دينار، فرّقوها في أصحابهم. وجلس طغرلبك على سرير ملك مسعود بدار الملك، وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على عادة ولاة خراسان، وكانوا يخطبون للملك مسعود مغالطة وإيهاما.
(مسير السلطان مسعود من غزنة إلى خراسان واجلاء السلجوقية عنها)
ولما بلغ الخبر إلى السلطان مسعود باستيلاء طغرلبك والسلجوقية على نيسابور، جمع عساكره من غزنة وسار إلى خراسان فنزل بلخ في صفر سنة ثلاثين وأربعمائة وأصهر إلى بعض ملوك الخانية دفعا لشرّه. وأقطع خوارزم ولحق إسماعيل بطغرلبك. ثم أراح السلطان مسعود وفرغ من خوارزم والخانية، فبعث السلطان سباسي، فسار إليهم في العساكر فلم يشف نفسه، ونزل سرخس، وعدلوا عن لقائه، ودخلوا المفازة التي بين مرو وخوارزم، واتبعهم السلطان مسعود وواقعهم في شعبان من هذه السنة، فهزمهم فما بعدوا حتى عادوا في نواحيه، فأوقع بهم أخرى. وكان القتلى فيها منهم ألفا وخمسمائة، وهربوا إلى المفازة. وثار أهل نيسابور بمن عندهم وقتلوهم، ولحق فلّهم بأصحابهم في المفازة. وعدل السلطان إلى هراة ليجهّز العساكر ليطلبهم، فبلغه الخبر بأنّ طغرلبك سار إلى أستراباذ، وأقام بها في فصل الشتاء يظن أنّ الثلج يمنعهم عنه، فسار السلطان إليه هنالك، ففارقها طغرلبك وعدل عن طوس إلى جبال الريّ التي كان فيها طغرلبك وأصحابه، وقد امتنعوا بحالهم خوفا من السلطان لما كان منهم من موالاة السلجوقية، فاغذّ إليهم السير، وصبحهم فتركوا أهلهم وأموالهم واعتصموا بوعر الجبل، وغنمت عساكره جميع ما استولوا عليه. ثم صعد إليهم بنفسه وعساكره وهلك كثير من العسكر بالثلج في شعاب الجبل ثم ظفروا بهم في قلّة الجبل واستلحموهم، وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ليريح ويخرج في فصل الربيع لطلبهم في المفاوز. ثم عاد طغرلبك وأصحابه من المفازة وبعث إليهم السلطان بالوعيد. فيقال إنّ طغرلبك قال لكاتبه أكتب إليه:
«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ» 3: 26 الآية. ولا تزده عليها. ولما ورد الكتاب على السلطان مسعود، كتب إليه «وآنسه بالمواعيد» وبعث إليه بالخلع، وأمره بالرحيل إلى آمل

(4/503)


الشطّ على جيحون، وأقطع نسا لطغرلبك ودهستان لداود وبدارة لبيقو، وسمّى كل واحد منهما بالدهقان، فلم يقبلوا شيئا من ذلك ولا وثقوا به. وأكثروا من العيث والفساد. ثم كفّوا عن ذلك، وبعثوا إلى السلطان مسعود يخادعونه بالطاعة ببلخ، ورغّبوه في أن يسرّح إليهم أخاهم أرسلان المحبوس بالهند، فبعث إليه السلطان مسعود وجاءوا بأرسلان من الهند، ولمّا لم يتم بينهم أمر بإعادته إلى محبسه.
(هزيمة السلطان مسعود واستيلاء طغرلبك على مدائن خراسان وأعمالها)
ولما تغلّبت السلجوقية على نواحي خراسان. وفضّوا عساكر السلطان وهزموا الحاجب سباسي [1] ، اهتز السلطان لذلك، وأجمع لخراسان الحشد وبثّ العطاء، وأزاح العلل، وسار من غزنة في الجيوش الكثيفة والفيلة العديدة على التعبية المألوفة، ووصل إلى بلخ، ونزل بظاهرها، وجاء داود بأحيائه فنزل قريبا منه، وأغار يوما على معسكره فساق من باب الملك مسعود عدّة من الجنائب المقرّبات، معها الفيل الأعظم، وارتاع الملك لذلك، وارتحل مسعود من بلخ في رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف مقاتل. ومرّ بالجوزجان فصلب الوالي الّذي كان بها للسلجوقية، وانتهى إلى مرو الشاهجان. ومضى داود إلى سرخس واجتمع معه أخوه طغرلبك وبيقو، وبعث إليهم السلطان في الصلح، فوفد عليه بيقو فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأجابه هو عن أصحابه بالامتناع من الصلح للخوف من السلطان.
وسار من عند السلطان فسقط في يده [2] وسار في اتباعهم من هراة إلى نيسابور، ثم سرخس. كلّما تبعهم إلى مكان هربوا منه إلى آخر، حتى أظلهم فصل الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون انسلاخه فانسلخ، والسلطان عاكف على لهوه غافل عن شأنه حتى انقضى زمن الربيع. واجتمع وزراؤه وأهل دولته وعذلوه في إهمال أمر عدوّه، فسار من نيسابور إلى مرو في طلبهم فدخلوا المفازة، فدخل وراءهم مرحلتين وقد ضجر العسكر من طول السفر وعنائه. وكانوا منذ ثلاث سنين منقلبين فيه منذ سفرهم مع
__________
[1] هو سباشي: ابن الأثير ج 9 ص 457.
[2] العبارة مشوشة وغير واضحة ولم نهتد الى تصويبها في المراجع التي بين أيدينا.

(4/504)


سباسي فنزل بعض الأيام في منزلة على قليل من الماء، وازدحم الناس على الورود واستأثر به أهل الدولة والحاشية، فقاتلهم عليه الجمهور، ووقعت في العساكر لذلك هيعة. وخالفهم الدعرة إلى الخيام ينهبون ويتخطّفون. وكان داود وأحياؤه متابعا للعسكر على قرب يتخطّف الناس من حولهم، فشعر بتلك الهيعة فركب في قومه وصدم العساكر وهم في تلك الحال فولّوا منهزمين، والسلطان والوزير ثابتان في موقفهما يحرّضان الناس على الثبات، فلم يثبت أحد، فانصرفا مع المنهزمين في فلّ وأتبعهم داود وأثخن فيهم بالقتل. ثم رجع إلى العسكر وقد غنمه أصحابه فآثرهم بالغنائم، وقسّم فيهم ما حصل له وقعد على كرسيّ السلطان، وأقام عسكره ثلاثة أيام ولياليها على ظهر خشية من كرّ العسكر السلطانية عليهم. ونجا السلطان إلى غزنة فدخلها في شوّال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على سباسي وغيره من الأمراء، وسار طغرلبك إلى نيسابور فملكها آخر إحدى وثلاثين وأربعمائة، ونهب عسكره أهلها، وكان بها هرج عظيم من الدعرة. وكانوا ينالون من الناس بالنهب والزنا والقتل فارتدعوا لذلك لهيبة طغرلبك، وسكن الناس. وملك السلجوقية البلاد فسار بيقو إلى هراة فملكها وسار داود إلى بلخ وبها الحاجب التوتناش فاستخلفه السلطان عليها، فأرسل إليه داود في الطاعة فسجن الرسل، وحاصره داود. وبعث السلطان مسعود جيشا كثيفا لإمداده، ودفع السلجوقية عن البلاد، فسار فريق منهم إلى الرخّج، فدفعوا من كان بها من السلجوقية وهزموهم، وأفحشوا في قتلهم وأسرهم.
وسار فريق منهم إلى بيقو في هراة فقاتلوه ودفعوه عنها ثم بعث السلطان ابنه مودود بعساكر أخرى، وجعل معه وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبّره، فسار عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فلما قارب بلخ وداود يحاصرها، بعث داود جماعة من عسكره فلقوا طلائع مودود فهزمهم، فلمّا وصلت منهزمة تأخّر مودود عن نهايته، وأقام وسمع التوتناش بأحجام مودود عنه فأطاع داود وخرج إليه.
(خلع السلطان مسعود ومقتله وولاية أخيه محمد مكانه)
ولما بعث السلطان ولده مودود إلى خراسان لمدافعة السلجوقية عنها، وأقام بعده سبعة

(4/505)


أيام، وخرج من غزنة في ربيع سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة يريد الهند للمشتى به على عادة أبيه، ويستنفر الهنود لقتال السلجوقية. واستصحب أخاه محمدا المسمول معه.
وكان أهل الدولة قد ضجروا منه فتفاوضوا في خلعه وولاية أخيه محمد، وأجمعوا ذلك. فلما عبروا نهر سيحون وتقدّم بعض الخزائن فتخلّف أنوش تكين البلخيّ في جماعة من الغلمان الفداوية، ونهبوا بقية الخزائن، وبايعوا لمحمد المسمول وذلك في منتصف ربيع الآخر من السنة. وافترق العسكر واقتتلوا وعظم الخطب وانهزم السلطان مسعود، وحاصروه في رباط هناك. ثم استنزلوه على الأمان وخيّره أخوه محمد في السكنى فاختار مسعود قلعة كيدي فبعث إليها، وأمر بإكرامه، ورجع محمد بالعساكر إلى غزنة. وفوّض إلى ابنه أحمد أمر دولته وكان أهوج فاعتزم على قتل عمّه مسعود، وداخل في ذلك عمّه يوسف، وعلي خشاوند فوافقوه عليه، وحرّضوه فطلب من أبيه خاتمه ليختّم به بعض خزائنهم، وبعث به إلى القلعة مع بعض خدمه ليؤدّي رسالة مسعود، وهو بخراسان يعتذر بأن أولاد أحمد نيال تكين قتلوا السلطان مسعود قصاصا بأبيهم، فكتب إليه يتوعّده. ثم طمع الجند في السلطان محمد ومدّو أيديهم إلى الرعايا ونهبوها، وخربت البلاد وارتحل عنها محمد. وكان السلطان مسعود شجاعا كريما غزير الفضل حسن الخط، سخيّا محبا للعلماء مقرّبا لهم محسنا إليهم وإلى غيرهم من ذوي الحاجات، كثير الصلات والعطاء والجوائز للشعراء، حليت تصانيف العلوم باسمه، وكثرت المساجد في البلاد بعمارته. وكان ملكه فسيحا، ملك أصفهان وهمذان والريّ وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الدارون وكرمان وسجستان والسند والرخّج وغزنة وبلاد الغور، وأطاعه أهل البرّ والبحر وقد صنّف في أخباره ومناقبه.
(مقتل السلطان محمد وولاية مودود ابن أخيه مسعود)
لما بلغ الخبر بمقتل السلطان مسعود إلى ابنه مودود بخراسان سار مجدّا في عساكره إلى غزنة فلقيه عمّه محمد في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وانهزم محمد وقبض عليه وعلى أبيه أحمد وعبد الرحمن، وعلى أنوش تكين البلخيّ الخصيّ، وعلى علي

(4/506)


خشاوند وقتلهم أجمعين، إلّا عبد الرحمن لرفقه بأبيه مسعود عند القبض عليه.
وقتل كل من داخل في قبض أبيه وخلعه، وسار سيرة جدّه محمود، وبلغ الخبر إلى أهل خراسان فثار أهل هراة بمن عندهم من السلجوقية فأخرجوهم، وتشوّف أهل خراسان للنصر على الغزّ من قبل مودود، وكان أبوه السلطان مسعود قد بعث ابنه الآخر إلى الهند أميرا عليها سنة ست وعشرين وأربعمائة فلمّا بلغه موت أبيه بايع لنفسه وقفل إلى لهاور والملتان فملكهما، وأخذ الأموال وجمع العساكر وأظهر الخلاف على أخيه مودود. وحضر عيد الأضحى فأصبح ثالثه ميتا بلهاور، بعد أن كان مودود يجّهز العساكر من غزنة لقتاله، وهو في شغل شاغل من أمره، ففرغ عن الشواغل ورسخت قدمه في ملكه، وخالفه السلجوقية بخراسان وخاطبه خان الترك من وراء النهر بالانقياد والمتابعة.
(استيلاء طغرلبك على خوارزم)
كانت خوارزم من ممالك محمود بن سبكتكين وابنه مسعود من بعده، وكان عليها التوتناش حاجب محمود من أكابر أمرائه، ووليها لهما معا، ولما شغل مسعود بفتنة أخيه محمد عند مهلك أبيهما أغار على تكين صاحب بخارى من أطراف البلاد وغيرهما.
فلمّا فرغ مسعود من مراجعة محمد واستقل بالملك بعث إلى التوتناش بالمسير إلى أعمال علي وانتزاع بخارى وسمرقند منه، وأمدّه بالعساكر فعبر جيحون سنة أربع وعشرين وأربعمائة وأخذ من بلاد تكين كثيرا فأقام بها، وهرب تكين بين يديه. ثم دعته الحاجة إلى الأموال للعساكر، ولم يكن في جبايته تلك البلاد. وجاء بها فاستأذن في العود إلى خوارزم، وعاد واتبعه علي تكين وكبسه على غرّة، فثبت وانهزم علي تكين ونجا إلى قلعة دبوسية. وحاصره التوتناش وضيّق عليه فبعث إليه واستعطفه فأفرج عنه، وعاد إلى خوارزم، وكانت به جراحة من هذه الوقعة، فانتقض عليه ومات وترك من الولد ثلاثة وهم: هارون ورشيد وإسماعيل، وضبط وزيره أحمد بن عبد الصمد البلد والخزائن حتى جاء هارون الأكبر من الولد من عند السلطان بعهده على خوارزم، ثم توفي المتميدي وزير السلطان مسعود، وبعث على أبي نصر لوزارته، واستناب أبو نصر عند هارون بخوارزم ابنه عبد الجبّار. ثم استوحش من هارون

(4/507)


وسخطه وأظهر العصيان في رمضان سنة خمس وعشرين وأربعمائة فاختفى عبد الجبّار خوفا من غائلته، وسعى عند السلطان مسعود. وكتب مسعود إلى شاه ملك بن علي أحد ملوك الأطراف بنواحي خوارزم بالمسير لقتال إسماعيل فسار وملك البلد فهزمهما، وهرب إسماعيل وشكر إلى طغرلبك وداود صريخين، فسار داود إلى خوارزم فلقيهما شاه ملك وهزمهما. ثم قتل مسعود وملك ابنه مودود فدخل شاه ملك بأمواله وذخائره في المفاوز إلى دهستان ثم إلى طبس، ثم إلى نواحي كرمان ثم إلى أعمال البتر ومكران. وقصد أرتاش أخا إبراهيم نيال وهو ابن عم طغرلبك في أربعة آلاف فارس، فأسره وسلّمه إلى داود واستأثر هو بما غنم من أمواله. ثم أعاد أرتاش إلى باذغيس، وأقام على محاصرة هراة على طاعة مودود بن مسعود فامتنعوا منه خوفا من معرّة هجومه عليهم.
(مسير العساكر من غزنة الى خراسان)
ولما ملك الغزّ خراسان واستولوا على سائر أملاكها وأعمالها. واستولى طغرلبك على جرجان وطبرستان وخوارزم، وإبراهيم نيال على همذان وعلى الريّ والجبل، وولّى على خراسان وأعمالها داود بن ميكائيل، وبعث السلطان أبو الفتح مودود عساكره مع بعض حجّابه إلى خراسان سنة خمس وثلاثين، فسرّح إليهم داود ابنه آلب أرسلان في العساكر فاقتتلوا، وكان الغلب لألب أرسلان. وعاد عسكر غزنة مهزوما، وسار عسكر من الغز إلى نواحي بست. وعاثوا وأفسدوا، فبعث أبو الفتح مودود إليهم عسكرا فقاتلهم، وانهزموا وظفر عسكر مودود بهم وأثخنوا فيهم.
(مسير الهنود لحصار لهاور وامتناعها وفتح حصون اخرى من بلادهم)
وفي سنة خمس وثلاثين اجتمع ثلاثة من ملوك الهند على لهاور، فجمع مقدّم العساكر الإسلامية هناك عسكره وبعثهم للدفاع عنها. وبعث إلى السلطان مودود

(4/508)


وحاصرها الثلاثة ملوك. ثم أفرج الآخران وعادا إلى بلادهما. وسارت عساكر الإسلام في اتباع أحدهما وهو دوبالي هربابة فانهزم منهم، وامتنع بقلعة له هو وعساكره، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل، وحاصرهم المسلمون حتى استأمنوا وسلّموا ذلك الحصن وجميع الحصون التي من أعمال الملك، وغنموا أموالهم، وأطلقوا من كان في الحصون من أسرى المسلمين بعد أن أعطوهم خمسة آلاف، ثم ساروا إلى ولاية الملك الآخر واسمه باس الريّ فقاتلوه وهزموه، وقتل في المعركة هو وخمسة آلاف من قومه، وأسر الباقون، وغنم المسلمون ما معهم. وأذعن ملوك الهند بعدها بالطاعة، وحملوا الأموال وطلبوا الأمان والإقرار على بلادهم فأجيبوا.
(وفاة مودود وولاية عمه عبد الرشيد)
ثم توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بغزنة لعشر سنين من ولايته في رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وقد كان كاتب فأجابوه [1] وجمع كليجار صاحب أصفهان العساكر، وسار في المفازة لنصره فمرض في طريقه ورجع. وسار خاقان إلى ترمذ لنصره، وطائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم. وسار مودود من غزنة فعرض له بعد رحيله من غزنة مرض القولنج، فعاد إلى غزنة، وبعث إلى وزيره أبي الفتح عبد الرزاق بن أحمد المتميدي في العساكر إلى سجستان لانتزاعها من الغزّ. ثم اشتدّ وجعه فمات ونصّب ابنه للأمر خمسة أيام. ثم عدل الناس عنه إلى عمّه عليّ بن مسعود، وكان مسعود لأوّل ولايته قبض على عمّه عبد الرشيد أخي محمود وحبسه بقلعة بطريق بست. فلمّا قاربها الوزير أبو الفتح وبلغه وفاة مودود، نزل عبد الرشيد الى العسكر فبايعوا له ورجعوا به إلى غزنة فهرب عليّ بن مسعود، واستقرّ الأمر لعبد الرشيد. ولقّب سيف الدولة وقيل جمال الدولة. واستقام أمر السلجوقيّة بخراسان، واندفعت العوائق عنهم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 558: «وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد» .

(4/509)


(مقتل عبد الرشيد وولاية فرخزاد)
كان لمودود صاحب اسمه طغرل، وجعله حاجبا ببابه، وكان السلجوقيّة قد ملكوا سجستان وصارت في قسم بيقو أخي طغرلبك، وولّى عليها أبا الفضل من قبله، فأشار طغرلبك على عبد الرشيد بانتزاعها منهم، وألحّ عليهم في ذلك، فبعث إليها طغرل في ألف فارس، فحاصر حصن الطاق أربعين يوما. وكتب أبو الفضل من سجستان يستنجده، وسار طغرل، ولمّا سمع أصوات البوقات والدبادب، وأخبر أنه بيقو، فتحاجزوا، وعلم أنه تورط ولقيهم مستميا فهزمهم وسار إلى هراة. واتبعهم طغرل فرسخين وعاد إلى سجستان فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بالخبر، واستمدّه لغزو خراسان فأمدّه بالعساكر. ثم حدّثته نفسه بالملك، فاغذّ السير إلى غزنة حتى كان على خمسة فراسخ منها، كتب إلى عبد الرشيد باستيجاش العسكر وطلبهم الزيادة في العطاء، فشاور أصحابه فكشفوا له وجه المكيدة في ذلك وحذّروه من طغرل، فصعد إلى قلعة غزنة وتحصّن بها. وجاء طغرل من الغد فنزل في دار الإمارة، وراسل أهل القلعة في عبد الرشيد فأسلموه إليه فقتله واستولى على ملكهم، وتزوّج ابنة السلطان عبد الرشيد [1] ويحضّهم على الأخذ بثأره فأجابوا ودخلوا عليه في مجلسه [2] ، وقتلوه وجاء ذخير الحاجب لخمسة أيام من مقتله، وجمع وجوه القوّاد وأعيان البلد، وبايع قرخاد ابن السلطان مسعود، وقام بتدبير دولته وقتل الساعين في [3] إلى غزنة ولقي الغزّ وهزمهم. ودخل غزنة فملكها
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «فقتله واستولى على البلد، وتزوج ابنة مسعود كرها، وكان في الأعمال الهندية أمير يسمّى خرخيز، ومعه عسكر كثير، فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر، كتب إليه ودعاه الى الموافقة والمساعدة على إنجاح الأعمال من ايدي الغزّ، ووعده على ذلك وبذل البذول الكثيرة فلم يرض فعله، وأنكره وامتعض منه، وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل ووجوه القوّاد ينكر ذلك عليهم، ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم، ويحثّهم على الأخذ بثأره» .
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل: «فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطهم. ودخل جماعة منهم على طغرل ووقفوا بين يديه فضربه أحدهم بسيفه» .
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 584: «وجمع وجوه القوّاد وأعيان أهل البلد وقال لهم: قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة، وأنا تابع، ولا بدّ للأمر من سائس فاذكروا ما عندكم من-

(4/510)


من أيديهم. ثم سار إلى كرمان وسنوران فملكها وكرمان هذه بين غزنة والهند، وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى نهر السند ليعبر إلى لهاور كرسي خسرو شاه بن بهرام شاه، فبادر خسرو شاه ومنعه العبور فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعمال الأنبار. وولّى على غزنة أخاه شهاب الدين ورجع الى فيروزكوه.
(استيلاء الغورية على لهاور ومقتل خسرو شاه وانقراض دولة بني سبكتكين)
ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وأربعمائة في عسكر غزنة والغور، وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك. وأقام شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه، وخذله أهل البلد، فبعث القاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبقي شهرين ينتظر المعونة من يد غيّاث الدين، فأنقذ خسرو شاه إليه فارتاب من ذلك، وأمّنه شهاب الدين وحلف له، وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم. فلمّا وصلوا بلد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به. وانقرضت دولة بني سبكتكين بموته، وكان مبدؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فتكون مدّة الدولة مائتين وثلاث عشرة سنة.
__________
[ (-) ] ذلك فأشاروا بولاية فرخزاد بن مسعود بن محمود، وكان محبوسا في بعض القلاع فأحضر وأجلس بدار الامارة. وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور، وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله، فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جمع عساكره، وسار إلى غزنة فخرج إليه خرخيز ومنعه، وقاتله فانهزم داود، وغنم ما كان معه. ولما استقر ملك فرخزاد وثبت قدمه جهّز جيشا جرارا إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ وهو من أعظم الأمراء فقاتلهم، وصبر لهم فظفروا به، وانهزم أصحابه عنه، وأخذ أسيرا، وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم. فجمع ألب أرسلان عسكرا كثيرا، وسيّر والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الّذي أسروا كلسارغ فقاتلهم وهزمهم، وأسر جماعة من أعيان العسكر فأطلق فرخزاد الأسرى، وخلع على كلسارغ وأطلقه» .

(4/511)


(دولة الترك الخبر عن دولة الترك في كاشغر وأعمال تركستان وما كان لهم من الملك في الملة الإسلامية بتلك البلاد وأوّلية أمرهم ومصاير أحوالهم)
كان هؤلاء الترك ملوك تركستان، ولا أدري أولية أمرهم بها إلّا أنّ أوّل من أسلم منهم سبق قراخان، وتسمّى عبد الملك، وكانت له تركستان وقاعدتها كاشغر، وبلاساغون وخيمو وما يتصل بها إلى أوان المفازة المتّصلة بالصين في ناحية الشمال عنهم، أعمال طراز والشاش وهي للترك أيضا. إلّا أنّ ملوك تركستان أعظم ملكا منهم بكثير. وفي المغرب عنهم بلاد ما وراء النهر التي كان ملكها لبني سامان وكرسيّهم بخارى. ولما أسلم ملكهم عبد الكريم سبق أقام على ملكه بتلك الناحية، وكان يطيع بني سامان هو وعقبه يستنفرونهم في حروبهم إلى أن ملك عهد الأمير نوح بن منصور في عشر التسعين والثلاثمائة على حين اضطراب دولة بني سامان، وانتقاض عمّالهم بخراسان.
وانتقض أبو علي بن سيجور فراسل بقراخان وأطمعه في ملك بخارى فطمع بقراخان في البلاد. ثم قصد أعمال بني سامان وملكها شيئا فشيئا. وبعث الأمير نوح إليه العساكر مع قائده أنج فلقيهم بقراخان وهزمهم، وأسر أنج وجماعة من القوّاد. وسار فائق إلى بقراخان واختصّ به، وصار في جملته، ورجع الأمير نوح إلى بخارى كما مرّ من قبل، وهلك بقراخان في طريقه.
(وفاة بقراخان وملك أخيه ايلك خان سليمان)
ولما ارتحل بقراخان من بخارى وهو على ما به من المرض، أدركه الموت في طريقه فمات سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وكان ديّنا عادلا حسن السيرة، محبّا للعلماء وأهل الدين مكرّما لهم، متشيّعا سنيا. وكان مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4/512)


ولمّا مات ولي بعده أخوه ايلك خان سليمان، ولقبه شهير الدولة. واستوثق ملكه بتركستان وأعمالها، ووفد عليه فائق بعد حروبه بخراسان مع جيوش الأمير نوح وسبكتكين وابنه محمود، ولحق به مستصرخا فأكرمه ووعده، وكتب إلى الأمير نوح يشفع في فائق وأن يولّيه سمرقند فولّاه عليها وأقام بها.
(استيلاء ايلك خان على ما وراء النهر)
لما عاد بقراخان على بخارى وعاد إليها الأمير نوح، وقد كان من أبي علي بن سيجور وإجلائه عن خراسان ماكان، استدعى الأمير نوح مولاه سبكتكين بعد ذلك، واختلف ابناه بكثرزون ومنصور كما تقدّم ذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم هلك سبكتكين كما تقدّم ذلك كله قبل. ثم استوحش بكثرزون من منصور واتفق مع فائق على خلعه، فخلعه وسمله بخراسان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكان فائق خصيّا من موالي نوح بن منصور. وهذه الأخبار كلّها مستوفاة في دولة بني سامان. ثم بلغ الخبر إلى أيلك خان، فطمع في ملك بخارى وأعمالها، وسار في جموع الترك إلى بخارى موريا بالمحامات عن عبد الملك والنصرة له. وخرج بكثرزون والأمراء والقوّاد للقائه فقبض عليهم، وسار فدخل بخارى عاشر ذي القعدة من سنة تسع وثمانين واربعمائة ونزل دار الإمارة، وظفر بعبد الملك فحبسه فانكدر حتى مات. وحبس معه أخاه المخلوع أبا الحرث منصور، وأخويه الآخرين إسماعيل ويوسف ابني نوح، وأعمامه محمودا وداود وغيرهم. وانقرضت دولة بني سامان والبقاء للَّه.
(ثورة إسماعيل الى بخارى ورجوعه عنها)
قد تقدّم لنا أنّ إسماعيل فرّ من محبسه ولحق بخوارزم، واجتمع إليه قوّادهم وبايعوه ولقّبوه المستنصر. وبعث قائدا من أصحابه إلى بخارى ففرّ من كان بها من عساكر ايلك خان فهزمهم، وقتل منهم وحبس. وكان النائب بها جعفر تكين أخي ايلك خان فحبسه، واتبع المنهزمين إلى سمرقند، ولحق إسماعيل بأحياء الغزّ، وجمعوا عليه.
ابن خلدون م 33 ج 4

(4/513)


وجاء ايلك خان في جيوشه، والتقوا فانهزم ايلك خان وأسروا قوّاده، وغنموا سواده ورجعوا إلى بلادهم. وتشاوروا في الأسرى فارتاب بهم إسماعيل، وعبر النهر وانضمّت إليه فتيان سمرقند. واتصل الخبر بايلك خان فجمع والتقى هو وإسماعيل وهزمه بنواحي أسروشنة، وعبر النهر إلى نواحي الجوزجان. ثم إلى مرو، وبعث محمود العساكر في أثره من خراسان، وكذلك قابوس من جرجان فعاد إلى ما وراء النهر وقد ضجر أصحابه، ونزل بحيّ من العرب فأمهلوه الليل وقتلوه. واستقرّت بخارى في ملك ايلك خان، وولّى عليها أخوه علي تكين.
(عبور ايلك خان الى خراسان)
قد تقدم لنا ما كان انعقد بين ايلك خان ومحمود من المواصلة. ثم دبّت عقارب السعاية بينهما، وأكثر محمود من غزو بلاد الهند. ولمّا سار إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة في خراسان وبعث سباسي تكين صاحب جيشه وأخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء وأرسلان الحاجب. فسار أرسلان إلى غزنة وملك سباسي هراة وأقام بها، وبعث إلى نيسابور عسكرا فاستولى عليها وبادر محمود بالرجوع من الهند، وفرّق العطايا وأزاح العلل واستنفر الأتراك الخلنجيّة. وسار إلى جعفر تكين ببلخ ففارقها إلى ترمذ، وبعث العساكر إلى سباسي بهراة، ففارقها إلى مرو ليعبر النهر، فاعترضه التركمان فأوقع بهم، وسار إلى أبيورد والعساكر في اتباعه. ثم سار إلى خراسان فاعترضه محمود وهزمه، وأسر أخاه وجماعة من قوّاده، وعبر النهر إلى ايلك، وأجلى عساكره وأصحابه عن خراسان، فبعث ايلك خان إلى قراخان ملك الختّل، فاستنفر الترك الغزّية والخلنجيّة والهنود، وعسكر على فرسخين من بلخ، وتقدّم ايلك وقراخان في عساكرهما، ونزلوا قبالته، واقتتلوا يوما إلى الليل، ومن الغد اشتدّت الحرب ونزل الصبر. ثم حمل محمود في الفيلة على ايلك خان في القلب، فاختلّ المصاف، وانهزم الترك، واتبعهم عساكر محمود وأثخنوا فيهم القتل والأسر إلى أن عبر النهر، وانقلب ظافرا غانما وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.

(4/514)


(وفاة ايلك خان وولاية أخيه طغان خان)
ثم هلك ايلك خان سنة ثلاث وأربعمائة وكان مواليا للسلطان محمود ومظاهرا له على أخيه طغان خان. فلما ولي تجدّد ما بينه وبين السلطان من الولاية، وصلحت الأحوال وانمحت آثار الفتنة في خراسان وما وراء النهر.
(وفاة طغان خان وولاية أخيه أرسلان خان)
ثم توفي طغان خان ملك الترك سنة ثمان وأربعمائة بعد أن كان له جهاد خرجوا من الصين في زهاء ثلاثمائة ألف وقصدوا بلاده في ساعون [1] وهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان طوائف المسلمين وغيرهم، واستقبلهم فهزمهم، وقتل منهم نحو مائة ألف وأسر مثلها، ورجع الباقون منهزمين. ومات طغان إثر ذلك، وولي بعده أخوه أرسلان.
وكان من الغريب الدال على قصد إيمان طغان، أنه كان عند خروج الترك إلى بلاساغون عليلا، فلمّا بلغه الخبر تضرّع للَّه أن يعافيه حتى ينتقم من هؤلاء الكفرة ويدفعهم عن البلاد، فاستجاب الله دعاءه. وكان محبا لأهل العلم والدين. ولما توفي واصل أرسلان خان الولاية مع السلطان محمود، وأصهر إلى ابنه مسعود في بعض كرائمه فاستحكم الاتصال بينهما.
(انتقاض قراخان على أرسلان وصلحه)
كان أرسلان خان قد ولّى على سمرقند قراخان يوسف بن بقراخان هارون الّذي ملك بخارى، فانتقض عليه سنة تسع وأربعمائة وكاتب السلطان محمود صاحب خراسان يستظهر به على أرسلان خان فعقد السلطان على جيحون جسرا من السفن محكمة
__________
[1] بلاساغون: ابن الأثير ج 9 ص 297.

(4/515)


الربط بسلاسل الحديد وعبر إليه. ثم خام عن لقائه فعاد إلى خراسان، وانقطعت الموالاة بينه وبين أرسلان خان، وتصالح مع قراخان واتفقا على محاربة السلطان محمود، والمسير إلى بلاده، فسار إلى بلخ، وقاتلهما السلطان قتالا شديدا حتى انهزم الترك، وعبروا النهر إلى بلادهم، وكان من غرق أكثر ممن نجا وعبر السلطان في أثرهم
(أخبار قراخان)
الّذي يظهر من كلام ابن الأثير: أن قراخان ولي بلاد الترك بتركستان وبلاساغون، فإنه ذكره عقب هذا الخبر بالعدل وحسن السيرة وكثرة الجهاد. ثم قال عقب كلامه:
فمن فتوحاته ختن بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء. ثم قال: وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها. ولمّا توفي خلّف ثلاثة بنين:
أرسلان خان وكنيته أبو شجاع ولقبه شرف الدولة، وبقراخان، ولم يذكر الثالث.
والظاهر أنه شرف الدولة. قال: وكان لأرسلان كاشغر وختن وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان عادلا مكرّما للعلماء وأهل الدين، محسنا لهم. وقصده كثير منهم فأكرمهم. قال: وكان لبقراخان طراز وأسبيجاب، ووقعت الفتنة بين بقراخان وأرسلان فغلبه بقراخان وحبسه وملك بلاده. وقال في موضع آخر: كان يقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة فقسّم البلاد بينهم، وأعطى أخاه أرسلان تكين كثيرا من بلاد الترك، وأعطى أخاه طراز وأسبيجاب، وأعطى عمّه طغان خان فرغانة بأسرها، وأعطى ابنه علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما. وقنع هو ببلاساغون وكاشغر.
قال: وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة أسلم كثير من كفّار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر، ويعيثون فيها ويصيّفون ببلاد بلغار فأسلموا وافترقوا في البلاد، وبقي من لم يسلم، التتر والخطا في نواحي الصين انتهى. ورجع إلى بقراخان الأوّل وقال فيه حبس أخاه أرسلان خان وملك بلاده. ثم عهد بالملك لولده الأكبر واسمه حسين جعفر تكين. وكان له ولد آخر أصغر من حسين اسمه إبراهيم، فغارت أمّه لذلك، وقتلت بقراخان بالسم، وخنقت أخاه أرسلان في محبسه. ثم استلحمت وجوه أصحابه وأمرائه، وملكت ابنها إبراهيم سنة تسع وثلاثين

(4/516)


وأربعمائة وبعثته في العساكر إلى برسخان، مدينة بنواحي تركستان، وكان صاحبها يسمّى نيال تكين. فانهزم إبراهيم وظفر به نيال تكين وقتله. واختلف أولاد بقراخان وفسد أمرهم، وقصدهم طقفاج خان صاحب سمرقند وفرغانة، فأخذ من أولاد بقراخان الملك من أيديهم [1] .
(الخبر عن طقفاج خان وولده)
كان بسمرقند وفرغانة أيام بني بقراخان وإخوته ملك من الترك الخانية اسمه نصر ايلك، ويلقّب عماد الدولة ويكنّى أبا المظفّر. ثم فلج سنة اثنتين وأربعمائة ومات، وقد عهد بملكه لابنه شمس الدولة نصر، فقصده أخوه طغان خان ابن طقفاج وحاصره بسمرقند وبيّته شمس الدولة فهزمه وظفر به. وكان ذلك في حياة أبيهما. ثم جاء بعد مماته إلى محاربة شمس الدولة بقراخان هارون بن قدرخان يوسف وطغرك خان، وكان طقفاج قد استولى على ممالكها وحاصره بسمرقند، ولم يظفروا به ورجعوا عنه، وصارت أعمال الخانية كلّها في أيديهما، والأعمال المتاخمة لسيحون لشمس الدولة، والتخم بينهما خجندة. وكان السلطان آلب أرسلان قد تزوّج بابنة قدرخان، وكانت قبله زوجا لمسعود بن محمود بن سبكتكين. وتزوّج شمس الدولة بابنة آلب أرسلان شمس الملك، وذلك سنة خمس وستين وأربعمائة وملكها [2] ونقل ذخائرها إلى سمرقند. وخاف أهل بلخ منه فاستأمنوا إليه وخطبوا له فيها، لأن أرباس [3] آلب أرسلان سار إلى الجوزجان، وجاء إليها التكين، وولّى عليها وعاد إلى ترمذ فثار أهل بلخ بأصحابه وقتلوهم فرجع إليهم، وأمر بإحراق المدينة ثم عفا عنهم وصادر التجّار، وبلغ الخبر إلى آلب أرسلان فعاد من الجوزجان وسار في العساكر إلى
__________
[1] العبارة هكذا غير صحيحة والصواب: فأخذ الملك من ايدي أولاد بقراخان.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 77: «فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها الى سمرقند» .
[3] كلمة أرباس زائدة ولا معنى لها وفي الكامل ج 10 ص 77: «وكان أياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا الى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها وورد إليها، فنهب عسكره شيئا من أموال الناس، وعاد الى ترمذ» .

(4/517)


ترمذ في منتصف سنة خمس وستين واربعمائة فلقيه التكين وهزمه وغرق كثير من أصحابه في النهر. ثم استقامت الأمور للسلطان ملك شاه فسار إلى ترمذ سنة ست وستين وأربعمائة وحاصرها ورماها بالمنجنيق، وطمّ خندقها حتى استأمن أهلها واعتصم بقلعتها أخو التكين. ثم استأمن وأطلقه السلطان إلى أخيه. ثم سار ملك شاه إلى سمرقند ففارقها، وبعث أخوه السلطان في الصلح فأجابه وردّه إلى سمرقند.
ورجع السلطان إلى خراسان انتهى. قال ابن الأثير: ثم مات شمس الدولة وولّي بعده أخوه خضرخان. ثم مات خضرخان فولي بعده ابنه أحمد خان. وكان أحمد هذا أسره ملك شاه في سمرقند لما فتحها، ووكّل به جماعة من الديلم، فلقّن عنهم معتقدات الإباحة والزندقة. فلمّا ولّي أظهر الانحلال، فاعتزم جنده على قتله، وتفاوضوا في ذلك مع نائبة بقلعة قاشان، فأظهر العصيان عليه، فسار في العساكر وحاصر القلعة، وتمكّن جنده منه فقبضوا عليه ورجعوا به إلى سمرقند فدفعوه إلى القضاة وقتلوه بالزندقة. وولّوا مكانه مسعود خان ابن عمّه. قال ابن الأثير: وكان جدّه من ملوكهم وكان أصمّ. وقصده طغان خان بن قراخان صاحب طراز فقبله واستولى على الملك، وولّى على سمرقند أبا المعالي محمد بن محمد بن زيد العلويّ فوليها ثلاث سنين. ثم عصى عليه فحاصره وأخذه فقتله. ثم خرج طغان خان الى ترمذ فلقيه السلطان سنجر وظفر به وقتله، وأخذها منه عمرخان. وملك سمرقند ثم هرب من جنده إلى خوارزم فظفر به السلطان أحمد. وولي سمرقند محمد خان، وولي بخارى محمد تكين. وقال ابن الأثير في ذكر كاشغر وتركستان: إنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان كما ذكرنا. ثم صارت لمحمود نورا خان صاحب طراز والشاش فملكها سنة وثلاثة أشهر، ثم مات، فولى بعده طغرا خان بن يوسف قدرخان، وملك بلاساغون وأقام ست عشرة سنة. ثم توفي فملك ابنه طغرل تكين شهرين. ثم جاء هارون بقراخان بن طقفاج ثورا خان وهو أخو يوسف طغرل خان فملك كاشغر، وقبض على هارون واستولى على ختن، وما يتصل به إلى بلاساغون، وأقام عشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي بعده أحمد بن أرسلان خان، وبعث إليه المستظهر بالخلع، ولقبه نور الدولة
.

(4/518)


(مقتل قدرخان صاحب سمرقند)
قال ابن الأثير سنة خمس وتسعين وأربعمائة: ولمّا سار سنجر إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، طمع قدرخان جبريل بن عمر صاحب سمرقند في خراسان، فخالف إليها سنجر بعد رجوعه إليها، وقد عظم الخلاف بين بركيارق وأخيه محمد.
وكان بعض أمراء سنجر اسمه كنذعري [1] يكاتب قدرخان ويغريه ويستحثّه إلى البلاد، فسار قدرخان إلى بلخ سنة سبع وتسعين وأربعمائة في مائة ألفا. وبادر سنجر إليها في ستة آلاف، فلمّا تقاربا لحق كنذعري بقدرخان، فبعثه إلى ترمذ وملكها.
وجاء الخبر إلى سنجر بأنّ قدرخان نزل قريبا من بلخ، وأنه خرج متصيّدا في ثلاثمائة فارس، فجرّد إليه عسكرا مع أميره برغش [2] فهزمهم، وجاء بكنذعري وقدرخان أسيرين. وقيل إنه وقع بينهما مصاف، وانهزم قدرخان وأسر فقتله سنجر، وسار إلى ترمذ فحاصرها حتى استأمن إليه كنذعري فأمّنه، ولحق بغزنة وكان محمد أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان نازلا بمرو فبعث عنه السلطان سنجر، وولّاه على سمرقند وهو من نسل الخانية مما وراء النهر، وأمّه بنت السلطان سنجر، وولي ملك شاه [3] دفع عن ملك آبائه فقصد مرو، وأقام بها، فلمّا قتل قدرخان ولّاه سنجر أعماله، وبعث معه العساكر الكثيرة فاستولى عليها، واستفحل ملكه. ثم انتقض عليه من أمراء الترك تيمور لنك، وجمع وسار إلى محمد خان بسمرقند وغيرها فاستنجد محمد خان بالسلطان سنجر فأنجده بالعساكر، وسار إلى تيمور لنك فهزمه وفضّ جموعه، ورجعت العساكر إليه.
__________
[1] كندغدي: ابن الأثير ج 10 ص 347.
[2] بزغش: ابن الأثير ج 10 ص 348.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 10 ص 350: «في هذه السنة- 495- أحضر السلطان سنجر محمدا أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان من مرو، وملّكه سمرقند بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملك شاه، فدفع عن ملك آبائه، فقصد مرو.»

(4/519)


(انتقاض محمد خان عن سنجر)
ثم بلغ السلطان سنجر سوء سيره محمد في رعيّته وإهماله لأوامر السلطان، فسار إليه سنة سبع وخمسمائة فخاف محمد خان غائلته، وبعث إلى الأمير قماج أعظم أمراء سنجر يعتذر ويسأله الصلح، فشرط عليه الحضور عند السلطان، فاعتذر بالخوف، وأنه يقف من وراء جيحون ويقبّل الأرض من لك فأجيب إلى ذلك، ووقفوا بعدوة النهر حتى وافى محمد خان بشرطه وسكنت الفتنة.
(استيلاء السلطان سنجر على سمرقند)
كان السلطان سنجر لما ملك سمرقند ولّى عليها أرسلان خان بن سليمان بقراخان داود فأصابه الفالج، واستناب ابنه نصر خان فوثب به أهل سمرقند وقتلوه. وتولّى كبر ذلك اثنان منهم أحدهما علويّ، وكان أبوه محمد المفلوج غائبا فعظم عليه، وبعث عن ابنه الآخر من تركستان فجاء وقتل العلويّ وصاحبه. وكان والد أرسلان خان قد بعث الى السلطان سنجر يستحثّه قبل قدوم ابنه الآخر فسار سنجر لذلك. فلمّا قدم إلى أبيه أرسلان وقتل قاتلي أخيه، بعث أرسلان إلى السلطان سنجر يعرّفه، ويسأله العود إلى بلده فغضب لذلك، وأقام أياما ثم جيء إليه بأشخاص واعترفوا بأنّ محمدا خان بعثهم لقتله فغضب، وسار إلى سمرقند فملكها عنوة، وتحصّن محمد خان ببعض الحصون حتى استنزله سنجر بالأمان بعد مدّة وأكرمه. وكانت بنته تحبّه، فبعثه إليها وأقام عندها. وولّى على سمرقند حسين تكين، ورجع إلى خراسان. ومات حسين تكين فولي بعده عليها محمود بن محمد خان أخا زوجته.
(استيلاء الخطا على تركستان وبلاد ما وراء النهر وانقراض دولة الخانية)
نقل ابن الأثير هذا الخبر عن اضطراب عنده فيه، على أنّ أخبار هذه الدولة الخانية

(4/520)


في كتابه ليست جليّة ولا متّضحة، وأرجو إن مدّ الله في العمر أن أحقّق أخبارها بالوقوف عليها في مظان الصحّة وألخّصها مرتّبة، فإنّي لم أوفّها حقّها من الترتيب لعدم وضوحها في نقله. وحاصل ما قرّر في هذا الخبر من أحد طرقه أنه قال: إنّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاساغون وختن وطراز وغيرها مما بجوارها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية من الترك، وهم من نسل فراسياب ملكهم الأوّل المنازع لملوك الكينيّة من الفرس. وأسلم جدّهم الأوّل سبق قراخان. ويقال سبب إسلامه أنه رأى في منامه رجلا نزل من السماء، فقال له باللسان التركي ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة فأسلم في منامه، وأصبح مظهرا لإسلامه. ولما مات قام مقامه ابنه موسى واتصل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن محمد بن سليمان سبق فخرج عليه قدرخان في ملكه سنة أربع وتسعين وأربعمائة. واجتمع الترك عليه وكانوا طوائف فكان منهم القارغلية، وبقيّة الغزّ الذين عبروا إلى خراسان ونهبوها على ما مرّ. وكان لأرسلان ابن اسمه نصر خان، وفي صحابته شريف علويّ اسمه الأشرف محمد بن أبي شجاع السمرقنديّ، فحسّن له طلب الملك من أبيه وأطمعه فيه فقتلهما أرسلان. ثم وقعت بينه وبين القارغلية من الترك وحشة دعتهم إلى الانتقاض والعصيان، واستنجد بالسلطان سنجر فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ووصل إلى سمرقند وهرب القارغلية بين يديه. ثم عثر على رجّالة استراب بهم فقبض عليهم، وتهدّدهم فذكروا أنّ أرسلان خان وضعهم على قتله فرجع إلى سمرقند، وملك القلعة وبعث أرسلان أميرا إلى بلخ فمات بها. وقيل إنه اختراع منه، ووضع هذه الحكاية وسيلة لذلك. ثم ولّى السلطان سنجر على سمرقند قلج طمغاج، وهو أبو المعالي الحسن بن علي المعروف بحسين تكين، كان من أعيان بيت الخانية فلم تطل أيامه. ومات فولّى سنجر مكانه محمود ابن أخته، وهو ابن السلطان أرسلان فأقام ملكا عليها. وكان ملك الصين كوخان قد وصل إلى كاشغر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في جيوش كثيفة. ومعنى كوبلسان أهل الصين أعظم، وخان سمة ملوك الترك. وكان أعور وكان يلبس لبسة ملوك الترك، وهو مانويّ المذهب. ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه طوائف الخطا من الترك، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين، وأقاموا في خدمة الخانية أصحاب تركستان فانضافوا إلى كوملك الصين وكثف جمعه بهم. وزحف إليه صاحب كاشغر، وهو الخان أحمد بن الحسين

(4/521)


بجموعه فهزمه، وأقامت طوائف الخطا معه في تلك البلاد. وكان سبب خروجهم من الصين ونزولهم بلاساغون، أن أرسلان محمد كان يستنجد بهم ويجري عليهم الأرزاق والأقطاعات، وينزلهم مسالح في ثغوره. ثم استوحشوا منه ونفروا وطلبوا الرحلة إلى غير بلده، وارتادوا البلاد واختاروا منها بلد الساغون فساروا إليها وردّد عليهم أرسلان الغزو. ولما جاء كوخان ملك الصين صاروا في جملته حتى إذا رجع زحفوا إلى بلاد تركستان فملكوها بلدا بلدا. وكانوا إذا ملكوا المدينة يأخذون دينارا من كل بيت ولا يزيدون عليه، ويكلّفون من يطيعهم من الملوك أن يعلّق في منطقته لوحا من فضّة علامة على الطاعة. ثم ساروا إلى بلاد ما رواء النهر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ولقيهم محمود خان بن أرسلان خان فهزموه إلى سمرقند وبخارى، واستنجد بالسلطان سنجر ودعاه لنصر المسلمين، فجمع العساكر واستنجد صاحب سجستان ابن خلف والغوريّ صاحب غزنة، وملوك ما وراء النهر وغيرهم. وسار للقائهم وعبر النهر في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا إليه محمود من القارغلية، فأراد أخذهم فهربوا إلى كوخان، وسألوه أن يشفع لهم عند السلطان سنجر، وكتب إليه يشفع لهم فلم يشفعه. وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويتهدّده.
ولمّا بلغ الكتاب إلى كوخان عاقب الرسول، وسار للقاء سنجر في أمم الترك والخطا والقارغلية، فلقيه السلطان سنجر أوّل صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة وعلى ميمنته قماج وعلى ميسرته صاحب سجستان، وأبلى ذلك اليوم وساء أثر القارغلية في تلك الحرب، وانهزم السلطان سنجر والمسلمون، واستمرّ القتل فيهم. وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان ابنة أرسلان خان محمد، وأطلقهم الكفّار.
ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أفحش قتلا. واستقرّت الدولة فيما وراء النهر للخطأ والترك، وهم يومئذ على دين الكفر، وانقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها. ثم هلك كوخان منتصف سبع وثلاثين وكان جميلا حسن الصوت، ويلبس الحرير الصيني، وكان له هيبة على أصحابه ولا يقطع أحدا منهم خوفا على الرعية من العسف. ولا يقدّم أميرا على فوق مائة فارس خشية أن تحدّثه نفسه بالعصيان. وينهى عن الظلم وعن السكر ويعاقب عليه. ولا ينهي عن الزنا ولا يقبّحه.
ولما مات ملكت بعده ابنته وماتت قريبا فملكت بعدها أمّها زوجة كوخان، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه صاحب

(4/522)


دولة الخوارزميّة سنة اثنتي عشرة وستمائة على ما يأتي في أخبار دولتهم.
(إجلاء القارغلية من وراء النهر)
لما ملك ما وراء النهر سمرقند وبخارى جقري خان بن حسين تكين من بيت الخانية، وأمره سنة تسع وخمسين وخمسمائة بإجلاء الترك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وإلزامهم الفلاحة ومجانبة حمل السلاح فامتنعوا من ذلك. وألحّ عليهم جقري خان فامتنعوا واجتمعوا لحربه. وسار إلى بخارى فبعث إليهم بالوعظ في ذلك والوعد الجميل بخلال ما جمع بقراخان، وكبسهم على بخارى فانهزموا، وأثخن فيهم وقطع دابرهم وأجلاهم عن نواحي سمرقند، وصلحت تلك النواحي والله أعلم.
(الخبر عن دولة الغورية القائمين بالدولة العباسية بعد بني سبكتكين وما كان لهم من السلطان والدولة وابتداء أمرهم ومصاير أحوالهم)
كان بنو الحسين أيام سبكتكين ملوكا على بلاد الغور لبني سبكتكين وكانت لهم شدّة وشوكة. وكان منهم لآخر دولة بني سبكتكين أربعة أمراء قد اشتهروا واستفحل ملكهم: وهم محمد وشوري والحسين شاه وسام بنو الحسين، ولا أدري إلى من ينسب الحسين وأظنّهم إلى بهرام شاه آخر ملوك بني سبكتكين، والتحم به فعظم شأنه. ثم كانت الفتنة بين بهرام وأخيه أرسلان فمال محمد إلى أرسلان، وارتاب به بهرام لذلك. ثم انقضى أمر أرسلان، وسار محمد بن الحسين في جموعه إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، موريا بالزيارة وهو يريد الغدر به، وشعر بذلك بهرام فحبسه ثم قتله، واستوحش الغورية لذلك.

(4/523)


(مقتل محمد بن الحسين الغوري وولاية أخيه الحسين شاه ثم أخيه شوري)
ولما قتل محمد ولي من بعده أخوه شاه بن الحسين. ثم كانت الوقعة. وملك بعده أخوه شوري بن الحسين، وأجمع الأخذ بثأر أخيه من بهرام شاه فجمع له، وسار إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فملكها، وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند فجمع عسكره التي هناك، ورجع إلى غزنة وعلى مقدّمته السلّار بن الحسين، وأمير هندوخان [1] إبراهيم العلويّ. وسار شوري للقائه فانفضّ عنه عسكر غزنة إلى بهرام شاه فانهزم وأسره بهرام، ودخل غزنة في محرّم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وصلب شوري [2] على باب غزنة واستقرّ في ملكه.
(مقتل شوري بن الحسين وولاية أخيه علاء الدين ابن الحسين واستيلاؤه على غزنة وانتزاعها منه)
لما هلك شوري بن الحسين ملك الغور من بعده أخوه الحسين، ويلقّب علاء الدولة.
واستولى على جبال الغور ومدينة بيروزكوه [3] المجاورة لأعمال غزنة من بلاد الهند، وهي تقارب في اتساعها بلاد خراسان فاستفحل ملكه، وطمع في ملك خراسان وسار إلى هراة باستدعاء أهلها، فحاصرها ثلاثا ثم ملكها بالأمان وخطب فيها للسلطان سنجر. وسار إلى بلخ وبها الأمير قماج من قبل السلطان سنجر، فغدر به أصحابه، فملك علاء الدولة بلخ، وسار إلى السلطان سنجر وقاتله وظفر به فأسره.
ثم خلع عليه وردّه إلى بيروزكوه. ثم سار علاء الدين يريد غزنة سنة سبع وأربعين وخمسمائة ففارقها صاحبها بهرام شاه، وملكها علاء الدولة، وأحسن السيرة واستخلف عليهم أخاه سيف الدولة، وعاد إلى بلاد الغور، فلما جاء فصل الشتاء
__________
[1] أمير هندوستان: ابن الأثير ج 11 ص 135.
[2] سوري: المرجع السابق.
[3] فيروزكوه: ابن الأثير ج 11 ص 164.

(4/524)


وسدّ الثلج المسالك، كتب أهل غزنة إلى بهرام شاه واستدعوه، فلمّا وصل وثبوا بسيف الدولة وصلبوه. وبايعوا لبهرامشاه وملّكوه عليهم كما كان.
(انتقاض شهاب الدين وغياث الدين على عمهما علاء الدولة)
لما استفحل أمر علاء الدولة واستفحل ملكه استعمل على البلاد العمّال وكان فيمن ولاه بلاد الغور ابنا أخيه سالم بن الحسين، وهما غيّاث الدين وشهاب الدين، فأحسنا السيرة في عملهما، ومال إليهما الناس، وكثرت السعاية فيهما عند عمّهما بأنهما يريدان الوثوب فبعث عنهما فامتنعا، فجهّز إليهما العساكر فهزماها وأظهرا عصيانه، وقطعا خطبته فسار إليهما فقاتلاه قتالا شديدا حتى انهزم فاستأمن إليهما فأجلساه على التخت، وقاما بخدمته. وزوّج بنته غيّاث الدين منهما [1] وبقي مستبدّا على عمّه علاء الدولة، ثم عهد إليه بالأمر من بعده ومات.
(وفاة علاء الدولة وولاية غياث الدين ابن أخيه من بعده وتغلب الغز على غزنة)
ثم توفي علاء الدولة ملك الغورية سنة ست وخمسين، وقام بالأمر من بعده ببيروز كوه غيّاث الدين أبو الفتح ابن أخيه سالم، وطمع الغز بموته في ملك غزنة فملكوها من يده، وبقي غياث الدين في كرسيه ببيروز كوه وأعمالها، وابنه سيف الدين محمد في بلاد الغور. ثم أساء السيرة الغز في غزنة بعد مقامهم فيها خمس عشرة سنة، واستفحل أمر غياث الدين فسار إلى غزنة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في عساكر الغوريّة والخلخ والخراسانية ولقي الغزّ فهزمهم وملك غزنة من أيديهم. وسار إلى كرمان وشنوران فملكهما، وكرمان هذه بين غزنة والهند وليست كرمان المعروفة. ثم سار غيّاث الدين إلى لهاور ليملكها من يد خسرو شاه بن بهرام، فبادر خسرو شاه إلى نهر المدّ
__________
[1] العبارة غير صحيحة والصواب: وزوّج غيّاث الدين أحدهما بنتا له.

(4/525)


ومنعه العبور منه، فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعماله الأثغار، وولّى غزنة أخاه شهاب الدين ورجع إلى بيروز كوه.
(استيلاء شهاب الدين الغوري على لهاور ومقتل خسرو شاه صاحبها)
ولما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم، وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه، وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه، فسار سنة تسع وسبعين وخمسمائة في عسارك خراسان والغور وعبر إليها وحاصرها، وبذل الأمان لخسروشاه وأنكحه ابنته وسوّغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لأخيه فأبى من ذلك، وبقي شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه بالحصار.
وخذله أهل البلد، فبعث بالقاضي والخطيب يستأمنان له فأمّنه ودخل شهاب الدين البلد، وبقي خسرو شاه عنده مكرّما، وبعد شهرين وصل الأمر من غيّاث الدين بإنفاذ خسرو شاه إليه، فارتاب من ذلك فأمنه شهاب الدين، وحلف له وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم، فلمّا وصلوا بلاد الغور حبسهم غيّاث الدين ببعض قلاعه، فكان آخر العهد به وبابنه.
(استيلاء غياث الدين على هوّارة وغيرها من خراسان)
ولما استقرّ ملك غيّاث الدين بلهاور كتب إلى أخيه شهاب الدين الّذي تولّى فتحها أن يقيم الخطبة له، ويلقّبه بألقاب السلطان، فلقّبه غياث الدنيا والدين معين الإسلام والمسلمين، قسيم أمير المؤمنين. ولقّب أخاه شهاب الدين بعزّ الدين. ثم لما فرغ شهاب الدين من أمور لهاور وسار إلى أخيه غيّاث الدين ببيروز كوه واتفق رأيهما على المسير إلى هراة من خراسان سار في العساكر فحاصرها، وبها عسكر السلطان سنجر وأمراؤه فاستأمنوا إليهما، وملكا هراة. وسار إلى بوشنج فملكها، ثم إلى باذغيس كذلك. وولّى غياث الدين على ذلك وعاد إلى بيروزكوه وشهاب الدين إلى غزنة ظافرين غانمين
.

(4/526)


(فتح أجرة على يد شهاب الدين)
لما عاد شهاب الدين إلى غزنة راح بها أياما حتى استراحت عساكره. ثم سار غازيا إلى بلاد الهند سنة سبع وأربعين وخمسمائة وحاصر مدينة أجرة وبها ملك من ملوكهم فلم يظفر منه بطائل، فراسل امرأة الملك في أنه يتزوّجها إذا ملك البلد، فأجابت بالعذر، ورغبت في ابنتها فأجاب فقتلت زوجها بالسمّ وملّكته البلد، فأخذ الصبية وأسلمت، وحملها إلى غزنة ووسّع عليها الجراية، ووكّل بها من يعلّمها القرآن حتى توفت والدتها، وتوفت هي من بعدها لعشر سنين، ولما ملك البلد سار في نواحي الهند فدوّخها، وفتح الكثير منها، وبلغ منها ما لم يبلغه أحد قبله.
(حروب شهاب الدين مع الهنود وفتح دهلي وولاية قطب الدين أيبك عليها)
ولما اشتدّت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند، تراسل ملوكهم وتلاوموا بينهم وتظاهروا على المسلمين، وحشدوا عساكرهم من كل جهة، وجاءوا بقضهم وقضيضهم في حكم امرأة ملكت عليهم، وسار هو في عساكره من الغوريّة والخلخ والخلنجية والخراسانية وغيرهم، والتقوا فمحّص الله المسلمين وأثخن فيهم الكفرة بالقتل. وضرب شهاب الدين في يده اليسر فشلّت، وعلى رأسه فسقط عن فرسه، وحجز بينهم الليل وحمله جماعة من غلمانه إلى منجاته ببلده. وسمع الناس بنجاته فتباشروا ووفدوا عليه من كل جهة، وبعث إليه أخوه غياث الدين بالعساكر، وعذله في عجلته. ثم ثارت الملكة ثانيا إلى بلاد شهاب الدين بالعساكر، وبعثت إلى شهاب الدين بالخروج عن أرض الهند إلى غزنة، فأجاب إلى ذلك بعد أن يستأذن أخاه غياث الدين وينظر جوابه. وأقاموا على ذلك وقد حفظ الهنود مخاضات النهر بينهم وهو يحاول العبور فلا يجد، وبينما هو كذلك جاءه بعض الهنود، فدلّه على مخاضة فاستراب به حتى عرفه قوم من أهل أجرة والملتان. وبعث الأمير الحسن بن

(4/527)


حرميد الغوري في عسكر كثيف، وعبر تلك المخاضة ووضع السيف في الهنود فأجفل الموكّلون بالمخاضات. وعبر شهاب الدين وباقي العساكر وأحاطوا بالهنود، ونادوا بشعار الإسلام فلم ينج منهم إلّا الأقل، وقتلت ملكتهم وأسروا منهم أمما. وتمكّن شهاب الدين بعدها من بلاد الهند وحملوا له الأموال وضربت عليهم الجزية فصالحوه وأعطوه الرهن عليها. وأقطع قطب الدين أيبك مدينة دلهي، وهي كرسي الممالك التي فتحها، وأرسل عسكرا من الخلخ مختارين ففتحوا من بلاد الهند ما لم يفتحه أحد، حتى قاربوا حدود الصين من جهة الشرق، وذلك كله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
(مقتل ملك الغور محمد بن علاء الدين)
قد تقدّم لنا أن محمد بن علاء الدين ملك الغور بعد أبيه، وأقام مملكا عليها. ثم سار سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بعد أن احتفل في الاحتشاد وجمع العساكر، وقصد بلخ وهي يومئذ للغزّ فزحفوا إليه. وجاءهم بعض العيون بأنه خرج من معسكره لبعض الوجوه في خفّ من الجند، فركبوا لاعتراضه، ولقوة فقتلوه في نفر من أصحابه، وأسروا منهم آخرين، ونجا الباقون إلى المعسكر فارتحلوا هاربين إلى بلادهم، وتركوا معسكرهم بما فيه فغنمه الغزّ وانقلبوا إلى بلخ ومروا ظافرين غانمين.
(الفتنة بين الغورية وبين خوارزم شاه على ما ملكوه من بلاد خراسان)
قد تقدّم لنا أنّ غيّاث الدين وشهاب الدين ابني أبي الفتح سام بن الحسين الغوري رجعا إلى خراسان سنة سبع وأربعين وخمسمائة فملكا هراة وبوشنج وباذغيس وغيرها. وذلك عند انهزام سنجر أمام الغزّ، وافترق ملكه بين أمرائه ومواليه فصاروا طوائف، وأظهرهم خوارزم شاه بن أنس بن محمد بن أنوشتكين صاحب خوارزم.
فلما كان سنة خمس وسبعين وخمسمائة قام بأمره ابنه سلطان شاه، ونازعه أخوه علاء الدين تكين فغلبه على خوارزم. وخرج سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغزّ. ثم

(4/528)


أخرجوه منها فاستجاش بالخطا وأخرجهم من مرو وسرخس ونسا وأبيورد، وملكها جميعا، وصرف الخطا إلى بلادهم. وكتب إلى غيّاث الدين أن ينزل له عن هراة وبوشنج وباذغيس وما ملكه من خراسان وهدّده على ذلك فراجعه بإقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من خراسان، فامتعض لذلك سلطان شاه وسار إلى بوشنج فحاصرها وعاث في نواحيها. وجهز غيّاث الدين عساكره مع صاحب سجستان وابن أخته بهاء الدين سام بن باميان لغيبة أخيه شهاب الدين في الهند، فساروا إلى خراسان، وكان سلطان شاه يحاصر هراة فخام عن لقائهم ورجع إلى مرو، وعاث في البلاد في طريقه، وأعاد الكتاب إلى غيّاث الدين بالتهديد فاستقدم أخاه شهاب الدين من الهند، فرجع مسرعا، وساروا إلى خراسان. وجمع سلطان شاه جموعا ونزل الطالقان، وتردّدت الرسل بين سلطان شاه وغيّاث الدين حتى جنح إلى الصلح بالنزول له عن بوشنج وباذغيس، وشهاب الدين يجنح إلى الحرب، وغيّاث الدين يكفهم. وجاء رسول سلطان شاه لا تمام العقد، فقام شهاب الدين العلويّ وقال:
لا يكون هذا أبدا، ولا تصالحوه، وقام شهاب الدين ونادى في عسكره بالحرب، والتقدّم الى مروالروذ. وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه ودخل إلى مرو في عشرين فارسا، وبلغ الخبر إلى أخيه فسار لتعرّضه عن جيحون وسمع سلطان شاه بتعرّض أخيه له فرجع عن جيحون، وقصد غيّاث الدين فأكرمه وأكرم أصحابه، وكتب أخوه علاء الدين في ردّه إليه، وكتب إلى نائب هراة يتهدّده، فامتعض غيّاث الدين لذلك، وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير وشفيع له، ويطلب بلاده وميراثه من أبيه، ويضمن له الصلح مع أخيه سلطان شاه. وطلب منه مع ذلك أن يخطب له بخوارزم، ويزوّج أخته من شهاب الدين فامتعض علاء الدين لذلك، وكتب بالتهديد فسرّح غيّاث الدين جميع عساكره مع سلطان شاه إلى خوارزم شاه، وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده، فجمع عساكره وقام في انتظارهم، وسمع بذلك علاء الدين تكش، وهو زاحف للقاء أخيه سلطان شاه، وعساكر الغورية، فخشي أن يخالفوه إلى خوارزم وكرّ إليها راجعا. واحتمل أمواله وعبر إلى الخطا.
وقدّم فقهاء خوارزم في الصلح والصهر، ووعظه الفقهاء وشكوا إليه بأنّ علاء الدين يستجيش بالخطا، فإمّا أن تتخذ مرو كرسيّا لك فتمنعنا منهم، أو تصالحه، فأجاب إلى الصلح، وترك معاوضة البلاد ورجع إلى كرسيّه.
ابن خلدون م 34 ج 4

(4/529)


(غزوة شهاب الدين الى الهند وهزيمة المسلمين بعد الفتح ثم غزوته الثانية وهزيمة الهنود وقتل ملكهم وفتح اجمير)
كان شهاب الدين قد سار سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة الى الهند، وقصد بلاد أجمير وتعرف بولاية السواك، واسم ملكهم كوكه، فملك عليهم مدينة تبرندة ومدينة أسرستي وكوه رام، فامتعض الملك وسار للقاء المسلمين ومعه أربعة عشر فيلا ولقيهم شهاب الدين في عساكر المسلمين، فانهزمت ميمنته وميسرته، وحمل على الفيلة فطعن منها واحدا، ورمي بحربة في ساعده فسقط عن فرسه. وقاتل أصحابه عليه فخلصوه وانهزموا، ووقف الهنود بمكانهم ولما أبعد شهاب الدين عن المعركة نزف من جرحه الدم فأصابه الغشي، وحمله القوم على أكتافهم في محفّة اتخذوها من اللبود ووصلوا به إلى لهاور. ثم سار منها إلى غزنة فأقام إلى سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وخرج من غزنة غازيا لطلب الثأر من ملك الهند، ووصل إلى برساور [1] وكان وجوه عسكره في سخطة منه منذ انهزموا عنه في النوبة الأولى، فحضروا عنده واعتذروا ووعدوا من أنفسهم الثبات، وتضرّعوا في الصفح فقبل منهم، وصفح عنهم، وسار حتى انتهى إلى موضع المصاف الأوّل وتجاوزه بأربع مراحل، وفتح في طريقه بلادا.
وجمع ملك الهند وسار للقائه فكرّ راجعا الى أن قارب بلاد الإسلام بثلاث مراحل، ولحقه الهنود قريبا من بربر [2] فبعث شهاب الدين سبعين ألفا من عسكره لياتوا العدوّ من ورائهم، وواعدهم هو الصباح، وأسرى هو ليلة فصابحهم فذهلوا، وركب الملك فرسه للهروب فتمسّك به أصحابه، فركب الفيل واستماتت قومه عنده، وكثر فيهم القتل، وخلص إليه المسلمون فأخذوه أسيرا، وأحضروه عند شهاب الدين فوقف بين يديه وجذبوا بلحيته حتى قبّل الأرض. ثم أمر به فقتل ولم ينج من الهنود إلا الأقل. وغنم المسلمون جميع ما معهم وكان في جملة الغنائم الفيول. ثم سار شهاب الدين إلى حصنهم الأعظم وهو أجمير ففتحه عنوة، وملك جميع البلاد التي
__________
[1] برشاوور: ابن الأثير ج 12 ص 91
[2] مرنده: ابن الأثير ج 12 ص 92

(4/530)


تقاربه، وأقطعها كلّها لمملوكه أيبك [1] نائبة في دلهي وعاد إلى غزنة.
(غزوة بناوس ومقتل ملك الهند ثم فتح بهنكر)
كان شهاب الدين ملك غزنة قد أمر مملوكه قطب الدين أيبك خليفته على دلهي أن يغزو بلاد الهند من ناحيته، فسار فيها ودوّخها وعاث في نواحيها. وسمع ملك بناوس [2] وهو أكبر ملوك الهند، وولايته من تخوم الصين إلى بلاد ملئوا طولا، ومن البحر الأخضر إلى عشرة أيام من لهاور عرضا وأهل تلك البلاد من أيام السلطان محمود مقيمون على إسلامهم، فاستنفر معه مسلمون كانوا في تلك البلاد، فسار إلى شهاب الدين سنة تسعين وخمسمائة والتقوا على ماحون [3] نهر كبير يقارب دجلة فاقتتلوا، ونزل الصبر. ثم نصر الله المسلمين واستلحم الهنود، وقتل ملكهم، وكثر السبي في جواريهم والأسرى من أبنائهم، وغنموا منهم تسعين فيلا. وهرب بقية الفيول وقتل بعضها. ودخل شهاب الدين بلاد بناوس، وحمل من خزائنها ألفا وأربعمائة حمل، وعاد إلى غزنة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى بلاد الهند وحاصر قلعة بهنكر حتى تسلّمها على الأمان، ورتّب فيها الحامية. وسار إلى قلعة كواكير [4] ، وبينهما خمس مراحل يعترضها نهر كبير فحاصرها شهرا حتى صالحوه على مال يحملونه، فحملوا إليه حمل فيل من الذهب، فرحل عنهم إلى بلاد أبي رسود [5] فأغار ونهب وسبى وأسر، وعاد إلى غزنة ظافرا.
(استيلاء الغورية على بلخ وفتنتهم مع الخطا بخراسان)
كان الخطا قد غلبوا على مدينة بلخ وكان صاحبها تركيا اسمه ازبة [6] يحمل إليهم
__________
[1] هو قطب الدين أيبك
[2] بنارس: ابن الأثير ج 12 ص 105
[3] ماجون: ابن الأثير ج 12 ص 105
[4] قلعة كوالير: ابن الأثير ج 12 ص 121
[5] آي وسور: المرجع السابق.
[6] أزيه: المرجع السابق ص 134.

(4/531)


الخراج كل سنة وراء النهر، فتوفي أزبة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وكان بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود صاحب باميان من قبل خاله غيّاث الدين فسار إلى بلخ، وقطع الحمل للخطأ، وخطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكفّار. فامتعض الخطا لذلك، واعتزموا على فتنة الغورية. واتفق أنّ علاء الدين تكش صاحب خوارزم بعث إليهم يغريهم ببلاد غيّاث الدين. وكان سبب ذلك أنه ملك الريّ وهمذان وأصفهان وما بينهما، وتعرّض لعساكر الخليفة، وطلب الخطبة والسلطنة ببغداد مكان ملوك السلجوقية، فبعث الخليفة يشكوه إلى غيّاث الدين يقبح فعله وينهاه عن قصد العراق، ويتهدّده بسلطان شاه وأخذ بلاده، فأنف من ذلك وبعث إلى الخطا يغريهم ببلاده، فجهّز ملك الخطا جيشا كثيفا مع مقدّم عساكره وعبروا النهر إلى بلاد الغور. وسار علاء الدين تكش إلى طوس لحصارها، لأنّ غياث الدين عاجز عن الحركة بعلّة النقرس، فعاثوا في بلاده ما شاء الله وحاصر الخطا بهاء الدين فاشتدّت الحرب وثبت المسلمون. وجاء المدد من عند غيّاث الدين، ثم حملوا جميعا على الخطا فهزموهم إلى جيحون وألقى الكثير منهم أنفسهم في الماء، فهلك منهم نحو اثني عشر ألفا، وعظم الأمر على ملك الخطا، وبعث إلى علاء الدين تكش صاحب خوارزم يطوقه الذنب ويطالبه بدية القتلى من أصحابه. والزمه الحضور عنده، فبعث علاء الدين تكش يشكو ذلك إلى غيّاث الدين فردّ جوابه باللوم على عصيان الخليفة، ودعا ذلك علاء الدين إلى الفتنة مع الخطا وانتزاعه بخارى من أيديهم كما يأتي في أخبارهم.
(استيلاء الغورية على ملك خوارزم شاه بخراسان)
ثم توفي علاء الدين تكش صاحب خوارزم وكان قد ملك بعض خراسان وبلاد الريّ والبلاد الجبالية، فولي بعده ابنه قطب الدين، ولقّب علاء الدين بلقب أبيه، وولّى علاء الدين أخاه علي شاه خراسان، وأقطعه نيسابور. وكان هندوخان ابن أخيهما ملك شاه فخاف عمه فلحق بمرو، وجمع الجموع وبعث إليه عمّه محمد العسكر مع

(4/532)


جنقر التركي [1] فهرب هندوخان، ولحق بغياث الدين مستنجدا به على عمّه فأكرمه ووعده. ودخل جنقر إلى مرو، وحمل منها ولد خان وأمّه مكرّمين إلى خوارزم.
وأرسل غيّاث الدين إلى صاحب الطالقان محمد بن خربك [2] بأن يتهدد جنقر، فسار من الطالقان واستولى على مروالروذ [3] وبعث إلى جنقر يأمره بالخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارقها، فأساء الجواب ظاهرا، واستأمن إلى غيّاث الدين سرا، ولما علم غيّاث الدين بذلك قوي طمعه في البلاد، وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان، فسار من غزنة في عساكره في منتصف سنة ست وتسعين وخمسمائة ولما انتهى إلى الطالقان استحثّه جنقر صاحب مرو للبلد، وأخبره بطاعته حتى إذا وصل إليه خرج في العساكر فقاتله، وهزمه شهاب الدين، وزحف بالفيلة إلى السور فاستأمن جنقر وخرج إليه، وملك شهاب الدين مرو وبعث بالفتح إلى غياث الدين فجاء إلى مرو، وبعث جنقر إلى هراة مكرّما، وسلّم مرو إلى هندوخان ابن ملك شاه المستنجد به، وأوصاه بالإحسان إلى أهلها. وسار إلى سرخس فحاصرها ثلاثا وملكها على الأمان، وأرسل إلى علي شاه نائب علاء الدين محمد بنيسابور، وينذره الحرب إن امتنع من الطاعة فاستعدّ للحصار، وخرّبوا العمائر بظاهرها وقطعوا الأشجار، وحمل محمود بن غيّاث الدين فضايق البلد، وملك جانبها ورفع راية أبيه على السور. وحمل شهاب الدين من الناحية الأخرى، فسقط السور بين يديه وملك البلد ونهب الجند عامتها. ثم نادوا بالأمان ورفع النهب، واعتصم الخوارزميّون بالجامع فأخرجهم أهل البلد إلى غيّاث الدين. ثم سار إلى قهستان، فذكر له عن قرية في نواحيها أنّ أهلها إسماعيلية فدخلها وقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وخرّب القرية. ثم سار إلى مدينة أخرى [4] ذكر له عنها مثل ذلك، وأرسل صاحب قهستان إلى غيّاث الدين يستغيثون من شهاب الدين ويذكرونه العهد، فأرسل غيّاث الدين إلى أخيه شهاب الدين بالرجوع عنهم طوعا أو كرها.
__________
[1] جقر التركي: ابن الأثير ج 12 ص 157
[2] محمد بن جربك: المرجع السابق.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 158: «فأخذ مروالروذ، والخمس قرى وتسمّى بالفارسية بنج ده، وأرسل الى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين.»
[4] هي مدينة كناباد وكان جميع أهلها من الإسماعيلية

(4/533)


ووصل الرسول بذلك فامتنع، فقطع طنب خيمته ورحل العسكر فرحل شهاب الدين كرها ورجع إلى غزنة.
(فتح نهر واكد [1] من الهند)
لما رجع شهاب الدين من خراسان غاضبا من فعل أخيه، لم يعرّج على غزنة، ودخل بلاد الهند غازيا سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وبعث في مقدّمته مملوكه قطب الدين أيبك، ولقيه عساكر الهند دون نهر واكد [1] فهزمهم أيبك، واستباحهم وتقدّم إلى نهر واكد فملكها عنوة، وفارقها ملكها وجمع، ورأى شهاب الدين أنه لا يقوم بحمايتها إلا مقامه فيها، فصالح ملكها على مال يؤدّيه إليه عنها، ورجع إلى غزنة.
(اعادة علاء الدين محمد صاحب خوارزم ما أخذه الغورية من خراسان)
لما فصل الغورية عن خراسان وملكوا ما ملكوه منها، وسار شهاب الدين إلى الهند غازيا، بعث علاء الدين محمد صاحب خوارزم إلى غيّاث الدين يعاتبه على ما فعل في خراسان، ويطلب إعادة بلده، ويهدّده باستدعاء عساكر الخطا، فصانعه في الخطا حتى قدم شهاب الدين فطمع بالمصانعة. وبعث إلى نائبهم بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور، ويتهدّده، فكتب إلى غيّاث الدين بذلك، وبميل أهل نيسابور إلى عدوّهم، فوعده النصر. وسار إليه علاء الدين صاحب خوارزم آخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة. فلما انتهى إلى نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخيه، ولحق بغيّاث الدين في فيروزكوه وملك علاء الدين مدينة مرو وسار إلى نيسابور وحاصرها شهرين، فلما أبطأ عن نائبها المدد من غيّاث الدين استأمن لصاحب خوارزم، وخرج إليه هو وأصحابه فأحسن إليهم، وطلب علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه
__________
[1] نهر واله: ابن الأثير ج 12 ص 169.

(4/534)


وبين غيّاث الدين وأخيه، فوعده بذلك، وسار إلى هراة فأقام بها ولم يمض إلى غياث الدين سخطه لتأخر المدد عنه. واختصّ صاحب خوارزم الحسن بن حرميل [1] من أعيان الغوريّة، واستحلفه أن يكون معه عند غيّاث الدين. ثم سار إلى سرخس وبها الأمير زنكي، فحاصره أربعين يوما، وتعدّدت بينهما حروب. ثم بعث ابنه زنكي بأن يتأخّر عن البلد قليلا حتى يخرج هو وأصحابه، فتأخّر بأصحابه، وخرج زنكي فشحن البلد بالأقوات والحطب، وأخرج من ضاق به الحصار. وتحصّن فندم صاحب خوارزم على تأخره، وجهّز عسكرا لحصاره ورجع. فلمّا بعد سار محمد بن خربك من الطالقان، وأرسل إلى زنكي بأن يكبس العسكر الّذي عليه. ونذر بذلك أهل العسكر، فأفرجوا عن سرخس. وخرج زنكي ولقي محمد بن خربك في مرو، وجبوا خراج تلك الناحية، وبعث إليهم صاحب خوارزم عسكرا من الثلاثة آلاف فارس فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فهزمهم، وغنم معسكرهم، وعاد صاحب خوارزم إلى بلده وأرسل إلى غيّاث الدين في الصلح فأجابه مع أمير من أكابر الغوريّة اسمه الحسن بن محمد المرغنيّ فقبض عليه صاحب خوارزم وحبسه. ومرغن من قرى الغور.
(حصار هراة)
لما بعث صاحب خوارزم إلى غياث الدين في الصلح وجاء عند الحسن المرغني تبين عنه المغالطة فحبسه، وسار إلى هراة وحاصرها، وكان بها أخوان من خدمة السلطان شاه تكش، فكتبا إلى صاحب خوارزم ووعداه بالثورة له في البلد، وكانا يليان مفاتح الأبواب وأمور الحصار في داخل، فأطلع الأمير الحسن المرغني المحبوس عند صاحب خوارزم على أمرهما، فبعث إلى أخيه بذلك عمر صاحب هراة [2] فاعتقلهما. وبعث غيّاث الدين العساكر مددا لهراة مع ابن أخته ألب غازي فنزل على خمسة فراسخ منها، ومنع المسيرة عن عسكر صاحب خوارزم فبعث صاحب
__________
[1] الحسين بن خرميل: ابن الأثير ج 12 ص 174.
[2] هكذا بالأصل وتصويب العبارة: فبعث بذلك إلى أخيه عمر صاحب هراة فاعتقلهما.

(4/535)


خوارزم عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها، فقاتلهم الحسن بن خربك فظفر بهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم سار غيّاث الدين في عساكره ونزل قريبا من هراة، فاعتزم صاحب خوارزم على الرحيل بعد حصار أربعين يوما لهزيمة أصحابه بالطالقان، ومسير العساكر مع ألب غازي، ثم مسير غيّاث الدين. ثم توقعه عود شهاب الدين من الهند. وكان قد وصل إلى غزنة منتصف ثمان وتسعين وخمسمائة فراسل أمير هراة وصالحه على مال حمله إليه، وارتحل عن البلد وبلغ الخبر شهاب الدين، وجاء إلى طوس وشتّى بها عازما على حصار خوارزم، فجاء الخبر بوفاة أخيه غيّاث الدين، فأثنى عزمه وسار إلى هراة.
(وفاة غياث الدين وانفراد شهاب الدين بالملك)
ثم توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام صاحب غزنة وبعض خراسان وفيروزكوه ولهاوور ودهلي [1] من الهند وكان أخوه شهاب الدين بطوس كما ذكرنا فسار إلى هراة، وأظهر وفاة أخيه، وجلس للعزاء، وخلف غيّاث الدين ابنا اسمه محمود، فلقّب غيّاث الدين. ولما سار شهاب الدين عن طوس استخلف مرو الأمير محمد بن خربك، وبعث إليه صاحب خوارزم العساكر، فبيّتهم ولم ينج منهم إلا القليل، وأنفذ بالأسارى والرءوس إلى هراة وأعاد إليه صاحب خوارزم الجيوش مع منصور التركيّ، فلقيهم على عشرة فراسخ من مرو فهزموه وحاصروه خمسة عشر يوما حتى استأمن إليهم وخرج فقتلوه. وتردّدت الرسل بين شهاب الدين وصاحب خوارزم في الصلح فلم يتفق بينهما أمر. ولما اعتزم شهاب الدين على العود إلى غزنة ولّى على هراة ابن أخته ألب غازي وقلّد علاء الدين محمد الغوري مدينة فيروز كوه وبلد الغور، وجعل إليه حرب خراسان وأمور المملكة. وجاءه محمود ابن أخيه غيّاث الدين فولّاه على بست وأسفراين [2] وتلك الناحية وبعده عن الملك جملة. وكانت لغياث الدين
__________
[1] لهاور ولوهور: معجم البلدان وتعرف اليوم باسم لاهور. أما دهلي فلا وجود لها وهي مدينة دلهي الشهيرة. وقد يكون هذا تحريف من الناسخ.
[2] أسفرار: ابن الأثير ج 12 ص 181 وفي معجم البلدان: أسفرايين، وقد مرّ ذكرها معنا من قبل.

(4/536)


زوجة مغنّية شغف بها وتزوّجها، فقبض عليها شهاب الدين وضربها ضربا مبرحا وضرب ولدها غيّاث الدين وزوّج أختها واستصفاهم وغرّبهم إلى بلاد الهند. وكانت بنت مدرسة ودفنت فيها أباها [1] ، فخرّبها ونبش قبورهم ورمى بعظامهم. وكان غيّاث الدين ملكا عظيما مظفرا على قلّة حروبه، فإنه كان قليل المباشرة للحروب، وكان ذا هيبة جوادا حسن العقيدة، كثير الصدقة، بنى بخراسان وغيرها المساجد والمدارس للشافعيّة، وبنى الخوانك في الطرق، وبنى على ذلك الأوقاف الكثيرة، وأسقط المكوس، وكان لا يتعرّض إلى مال أحد، ومن مات ووارثه غائب دفعه إلى أمناء التجّار من أهل بلده ليوصلوه إلى ورثته، فإن لم يجد تاجرا ختم عليه القاضي إلى أن يصل مستحقّه. وإن كان لا وارث له تصدّق عنه بماله. وكان يحسن إلى أهل البلد إذا ملكها، ويفرض الأعطيات للفقهاء كل سنة من خزائنه، ويفرّق الأموال على الفقراء، ويصل العلويّة والشعراء. وكان أديبا بليغا بارع الخطّ ينسخ المصاحف ويفرّقها في المدارس التي بناها. وكان شافعيّ المذهب من غير تعصّب لهم، ويقول التعصّب في المذاهب هلاك.
فتنة الغورية مع محمد بن تكش صاحب خوارزم وحصار هراة ثم حصارهم خوارزم وحروب شهاب الدين مع الخطا
لما هلك غياث الدين ملك أخوه شهاب الدين بعده، فطمع محمد بن تكش صاحب خوارزم في ارتجاع هراة. وكان قد راسل شهاب الدين في الصلح فلم يتم.
وسار شهاب الدين عن غزنة إلى لهاور غازيا، فسار حينئذ محمد بن تكش إلى هراة منتصف سنة ستمائة، وحاصرها وكان بها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين. وطال حصارها إلى سلخ شعبان، وقتل بين الفريقين خلق منهم رئيس خراسان المقيم يومئذ بمشهد طوس. وكان الحسين بن حرميل من أعيان الغوريّة بجوربان [2] وهو إقطاعه، فمكر بصاحب خوارزم، وأظهر له الموالاة وأشار بأن يبعث إليه فوارس يعطيهم بعض
__________
[1] دفنت فيها أباها وأمها وأخاها فهدمها ونبش قبور الموتى ورمى بعظامهم منها: ابن الأثير ج 12 ص 181.
[2] كرزبان: ابن الأثير ج 12 ص 185.

(4/537)


الفيلة. وقعد لهم هو والحسين بن محمد المرغني بالمراصد، فاستلحموهم. ثم مات ألب غازي وضجر صاحب خوارزم من الحصار. فارتحل إلى سرخس وحاصرها، وبلغت هذه الأخبار شهاب الدين ببلاد الهند، فكرّ راجعا وقصد مدينة خوارزم، فأغذ محمد بن تكش السير من سرخس، ونزل أثقاله وسبقه إليها وقاتله الخوارزميّة قتالا شديدا وفتكوا فيه. وهلك من الغوريّة جماعة منهم الحسين بن محمد المرغنيّ وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم. ثم بعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم أن يخالفوا شهاب الدين إلى بلاد الغوريّة فساروا إليها. ولما سمع شهاب الدين كرّ راجعا إلى البلاد، فلقي مقدّمة عسكرهم بصحراء أيدخوي [1] في صفر سنة إحدى وستمائة، فأوقع بهم وأثخن فيهم، وجاءت ساقتهم على أثر ذلك، فلم يكن له بهم قبل فانهزم، ونهبت أثقاله، وقتل الكثير من أصحابه، ونجا في الفلّ إلى أيدخوي وحاصروه حتى أعطاهم بعض الفيلة وخلص. وكثر الإرجاف في بلاد الغور بمهلكه، ووصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد لحق بها نائبها الحسين بن حرميل ناجيا من الوقعة، فاستكثر له من الزاد والعلوفة وكفاه مهمه. وكان مستوحشا مع من استوحش من الأمراء بسبب انهزامهم عن شهاب الدين، فحمله شهاب الدين إلى غزنة تأنيسا له، واستحجبه، ولما وقع الإرجاف بموت شهاب الدين جمع مولاه تاج الدين العسكر وجاء إلى قلعة غزنة طامعا في ملكها، فمنعه مستحفظها فرجع إلى إقطاعه، وأعلن بالفساد، وأغرى بالخلخ من الترك فكثر عيثهم. وكان له مولى. آخر اسمه أيبك فلحق بالهند عند نجاته من المعركة، وأرجف بموت السلطان واستولى على الملتان، وأساء فيها السيرة. فلما وصل خبر شهاب الدين جمع تاج الدين الذّر- وهو مملوك اشتراه شهاب الدين- الناس من سائر النواحي ثم جمع شهاب الدين لغزو الخطا والثأر منهم.
(حروب شهاب الدين مع بني كوكر والتفراهية [2] )
كان بنو كوكر هؤلاء موطنين في الجبال بين لهاور والملتان معتصبين بها لمنعتها، وكانوا
__________
[1] أندخوي: ابن الأثير ج 12 ص 186
[2] التيراهية: ابن الأثير ج 12 ص 211

(4/538)


في طاعة شهاب الدين، يحملون إليه الخراج، فلمّا وقع الإرجاف بموته، انتقضوا وداخلوا صاحب جبل الجودي وغيره من أهل الجبال في ذلك وجاهروا بالعيث والفساد وقطع السابلة ما بين غزنة ولهاور وغيرها. وبعث شهاب الدين إلى محمد بن أبي علي بلهاوز والملتان يأمره بحمل المال بعد أن قتل مملوكه أيبك. قال: ومهّد البلاد فاعتذر بنو كوكر فبعث شهاب الدين مملوكه أيبك إلى بني كوكر يتهددهم على الطاعة، فقال كبيرهم: لو كان شهاب الدين حيّا لكان هو المرسل إلينا، واستخفوا أمر أيبك، فعاد الرسول بذلك، فأمر شهاب الدين بتجهيز العساكر في قرى سابور. ثم عاد إلى غزنة في شعبان سنة إحدى وستمائة ونادى بالمسير إلى الخطا. ورجع بنو كوكر الى حالهم من اخافة السابلة ودخل معهم كثير من الهنود في ذلك وخشي على انتقاض البلاد فأثنى عزمه عن الخطا وسار إلى غزنة، وزحف إلى جبال بني كوكر في ربيع الأوّل سنة اثنتين وستمائة ولما انتهى إلى قرى سابور أغذّ السير وكبس بني كوكر في محالهم، وقد نزلوا من الجبال إلى البسيط يرومون اللقاء، فقاتلوه يوما إلى الليل، وإذا بقطب الدين أيبك في عساكره منادين بشعار الإسلام فحملوا عليهم، وانهزموا وقتلوا بكل مكان. واستنجوا بأجمة فأضرمت عليهم نارا، وغنم المسلمون أهاليهم وأموالهم حتى بيع المماليك خمسة بدينار. وقتل كبير بني كوكر الّذي كان مملكا عليهم، وقصد دانيال صاحب الجند الجودي، وسار إليها فأقام بها منتصف رجب، وهو يستنفر الناس. ثم عاد نحو غزنة وأرسل بهاء الدين سام صاحب باميان بالنفير إلى سمرقند، وأن يتّخذ الجسر لعبور العساكر. وكان أيضا ممن دعاه هذا الإرجاف إلى الانتقاض التتراهية [1] وهم قوم من أهل الهند بنواحي قرى سابور، دينهم المجوسية ويقتلون بناتهم بعد النداء عليهنّ للتزويج، فإذا لم يتزوّجها أحد قتلوها، وتزوّج المرأة عندهم بعدّة أزواج. وكانوا يفسدون في نواحي قرى سابور، ويكثرون الغارة عليها، وأسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوريّ. ثم انتقضوا عند هذا الإرجاف وخرجوا إلى حدود سوران ومكران، وشنّوا الغارة على المسلمين فسار إليهم الخلخي [2] نائب
__________
[1] هي التيراهية. وقد مرّت من قبل التفراهية وهنا التتراهية وكل هذا تحريف. وكذلك بالنسبة الى باقي الأعلام فمعظمها يختلف من مرجع إلى آخر وهكذا يتعذر علينا ضبطها.
[2] الحلحي: ابن الأثير ج 12 ص 211

(4/539)


تاج الدين الّذي بتلك الجهة، فأوقع بهم وأثخن فيهم وبعث برءوس الأعيان منهم فعلّقت ببلاد الإسلام وصلح أمر البلاد.
(مقتل شهاب الدين الغوري وافتراق المملكة بعده)
لما قضى شهاب الدين شأنه من بلاد الغور وأصلح ما كان بها من الفساد، ارتحل من لهاور عائدا إلى غزنة عازما على قصد الخطا بعد أن استنفر أهل الهند وأهل خراسان، فلما نزل بدميل قريبا من لهاور طرق خيمته جماعة من الدعّار فقتلوا بعض الحرس، وثار بهم الناس وذهل باقي الحرس بالهيعة فدخل منهم البعض على شهاب الدين وضربوه في مصلّاه وقتلوه ساجدا، وقتلوا عن آخرهم أوّل شعبان سنة اثنتين وستمائة.
فيقال إنّ هذه الجماعة من الكوكريّة الذين أحفظهم ما فعل بهم، ويقال من الإسماعيلية لأنهم كانوا غلّوا منه، وكانت عساكره تحاصر قلاعهم. ولما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيّد الدين خواجاسحتا [1] ، واتفقوا على حفظ المال إلى أن يقوم بالأمر من يتولّاه من أهله، وتقدّم الوزير إلى أمير العسكر بضبط العسكر، وحملت جنازة شهاب الدين في المحفّة، وحملوا خزائنه، وكانت ألفين ومائتي حمل. وتطاول الموالي مثل صونج صهر الذر [2] وغيره إلى نهب المال، فمنعهم الأمراء الكبار، وصرفوا الجند الذين أقطاعهم عند قطب الدين أيبك ببلاد الهند أن يعودوا إليه، وساروا إلى غزنة متوقّعين البيعة على الملك بين غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وبين بهاء الدين سام صاحب باميان ابن أخت شهاب الدين فيملك الخزانة والأتراك يريدون طريق سوران ليقربوا من فارس. وكان هوى الوزير مؤيد الملك مع الأتراك، فلم يزل بالغوريّة حتى إذا وصلوا طريق كرمان ساروا عليها، ولقوا بها مشقة من غارات التتراهية واقعان وغيرهم. ولما وصلوا إلى كرمان استقبلهم تاج الدين الذر ونزل عن فرسه، وقبّل الأرض بين يدي المحفّة. ثم كشف عن وجهه فمزّق ثيابه وأجدّ بالبكاء حتى رحمه الناس. وكان شهاب الدين شجاعا قرما عادلا كثير الجهاد،
__________
[1] مؤيد الملك بن خوجا سجستان: ابن الأثير ج 12 ص 213.
[2] صونج صهر الدز: ابن الأثير ج 12 ص 214

(4/540)


وكان القاضي بغزنة يحضر داره أربعة أيام في كل أسبوع، فيحكم بين الناس وأمراء الدولة ينفذون أحكامه، وإن رافع أحد خصمه إلى السلطان سمع كلامه وردّه إلى القاضي، وكان شافعيّ المذهب.
(قيام الذر بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين)
كان تاج الدين الذر من موالي شهاب الدين وأخصّهم به، فلما قتل طمع في ملك غزنة وأظهر القيام بدعوة غيّاث الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وأنه كتب إليه بالنيابة عنه بغزنة لشغله بأمر خراسان. وتسلّم الخزائن من الوزير وسار إلى غزنة فدفن شهاب الدين بتربته في المدرسة التي أنشأها، وذلك في شعبان من سنة اثنتين وستمائة وأقام بغزنة.
(مسير بهاء الدين سام الى غزنة وموته وملك بهاء الدين ابنه بعده غزنة)
كان بهاء الدين قد أقطع باميان ابن عمّه شمس الدين محمد بن مسعود عند ما ملكها، وأنكحه أخته فولدت ابنا وهو سام، وكان له ابن آخر من امرأة تركيّة اسمه عبّاس، فلما مات ملك ابنه الأكبر عبّاس، فغضب غيّاث الدين وشهاب الدين لابن أختهما، وعزلوا عبّاسا وولّوه مكانه على باميان، فعظم شأنه، وجمع الأموال، وترشّح للملك بعد أخواله لميل أمراء الغزّ إليه بعد أخواله. فلما قتل شهاب الدين كان في قلعة غزنة نائب اسمه أمير دان فبعث ابنه إلى بهاء الدين محمود ابن السلطان غيّاث الدين، وابن حرميل عامل هراة بحفظ أعمالها، وإقامة الخطبة له بها. والغوريّة والأتراك على ما ذكرناه من الاختلاف فسار في عساكره إلى غزنة ومعه ابنا علاء الدين وأمرهما جميعا بالمسير إلى غزنة، وبلاد الهند. فلما مات ثار ابناه في غزنة وخرج أمراء الغوريّة لغياث الدين وتلقوهما والأتراك معهم مغلبين فملكوا البلد، ونزلوا دار السلطنة مستهل رمضان من سنة اثنتين وستمائة، واعتزم الأتراك على

(4/541)


منعهم، وعادلهم الأمير مؤيد الملك لاشتغال غيّاث الدين منهم بابن حرميل عامل هراة فلم يرجعوا، ونبذوا إلى علاء الدين وأخيه العهد وآذنوهما بالحرب إن لم يرجعا، فبعثا إلى تاج الدين الذر، وهو بإقطاعه يستدعيانه ويرغّبانه بالأموال والمراتب السلطانية والترغيب في الدولة.
(استيلاء الذر على غزنة)
كان الذر بكرمان لما بلغه مقتل شهاب الدين، تسلّم الأموال والخزائن من الوزير وأظهر دعوة غيّاث الدين ابن مولاه السلطان غيّاث الدين، وسار بهاء الدين سام من باميان كما ذكرنا، ومات في طريقه، وملك ابنه علاء الدين غزنة كما ذكرنا.
واستعطف الأتراك وبعث إلى الذر يرغّبه ويسترضيه فأبى من طاعته، وأساء الردّ عليه. وسار عن كرمان في عساكر كثيفة من الترك والخلخ والغزّ وغيرهم، وبعث إلى علاء الدين وأخيه بالنذير، فأرسل علاء الدين وزيره ووزير ابنه صلة إلى باميان وبلخ وترمذ ليحشد العساكر، وبعث الذر إلى الأتراك الذين بغزنة بأنّ مولاهم غيّاث الدين. واجتمعت جماعة الغوريّة والأتراك فالتقوا في رمضان، ونزع الأتراك إلى الذر فانهزم محمد بن حدرون وأسر. ودخل عسكر الذر المدينة فنهبوا بيوت الغوريّة والباميانيّة. واعتصم علاء الدين بالقلعة، وخرج جلال الدين في عشرين فارسا إلي باميان، وحاصر الذر القلعة حتى استأمن علاء الدين في المسير من غزنة إلى باميان.
ولما نزل من القلعة تعرّض له بعض الأتراك فأرجلوه عن فرسه وسلبوه، فبعث إليه الذر بالمال والمركب والثياب، فوصل إلى باميان، فشرع في الاحتشاد. وأقام الذر بغزنة يظهر طاعة غيّاث الدين، ويترحّم على شهاب الدين، ولم يخطب له ولا لأحد. وقبض على داود والي القلعة بغزنة، وأحضر القضاة والفقهاء، وكان رسول الخليفة مجد الدين أبو عليّ بن الربيع الشافعيّ مدرّس النظاميّة ببغداد، وفد على شهاب الدين رسولا من قبل الخليفة، وأحضره الذر ذلك اليوم، وشاورهم بالجلوس على التخت والمخاطبة بالألقاب السلطانية، وأمضى ذلك. واستوحش الترك حتى بكى الكثير منهم، وكان هناك جماعة من ولد ملوك الغور وسمرقند فأنفوا من خدمته، وانصرفوا إلى علاء الدين وأخيه في باميان، وأرسل غيّاث الدين محمود

(4/542)


أن يصهر إليه في بنته بابنه فأبى من ذلك. ثم جاء في عسكر من الغوريّين من باميان، وأرسل غيّاث الدين وفرّق في أهلها الأموال، واستوزر مؤيد الملك فوزر له على كره.
(أخبار غياث الدين بعد مقتل عمه)
لما قتل السلطان شهاب الدين، كان غيّاث الدين محمود ابن أخيه السلطان غيّاث الدين في أقطاعه ببست. وكان شهاب الدين قد ولّى على بلاد الغور علاء الدين محمد بن أبي علي من أكابر بيوت الغوريّة، وكان إماميا غاليا، فسار إلى بيروزكوه [1] يسابق إليها غيّاث الدين. وكان الأمراء الغوريّة أميل إلى غيّاث الدين، وكذا أهل بيروزكوه، فلما دخل خوارزم دعا محمد المرغنيّ ومحمد بن عثمان من أكابر الغوريّة، واستحلفهم على قتال محمد بن تكش صاحب خوارزم. وأقام غيّاث الدين بمدينة بست ينتظر مآل الأمر لصاحب باميان لأنهما كان بينهما العهد من أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين، وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين، فلمّا بلغه موت شهاب الدين دعا لنفسه، وجلس على الكرسي في رمضان سنة ثلاث وستمائة، واستخلف الأمراء الذين في أثره فأدركوه وجاءوا به، وملك بيروزكوه وقبض على جماعة من أصحاب علاء الدين، ولما دخل بيروزكوه جاء إلى الجامع فصلّى فيه. ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها وأعاد الرسوم، وقدم عليه عبد الجبّار محمد بن العشير الى وزير أبيه فاستوزره، واقتفى بابيه في العدل والإحسان. ثم كاتب ابن حرميل بهراة ولاطفه في الطاعة، وكان ابن حرميل لما بلغه مقتل السلطان بهراة خشي عادية خوارزم شاه، فجمع أعيان البلد وغيرهم، واستحلفهم على الإنجاز والمساعدة. وقال القاضي وابن زياد: يحلف كل الناس إلّا ابن غيّاث الدين، وينتظر عسكر خوارزم شاه، وشعر غيّاث الدين بذلك من بعض عيونه، فاعتزم على المسير إلى هراة. واستشار ابن حرميل القاضي وابن زياد، فأشارا عليه بطاعة غيّاث الدين على مكر ابن حرميل، وميله إلى خوارزم شاه، وحثّه على
__________
[1] فيروز كوه هكذا عند ابن الأثير وقد مرّت معنا في السابق.

(4/543)


قصد هراة ليكون ذلك حجّة عليه ففعل، وبعث به مع ابن زياد. ثم كاتب غيّاث الدين صاحب الطالقان وصاحب مرو يستدعيهما فتوقفوا عن إجابته. فقال أهل مرو لصاحبها: إن لم تسلّم البلد إلى غيّاث الدين وتتوّجه وإلّا سلّمناك وقعّدناك وأرسلنا إليه فاضطر إلى المجيء إلى فيروز كوه. فخلع عليه غيّاث الدين ووفر له الأقطاع، وأقطع الطالقان لسونج مولى أبيه المعروف بأمير شكار.