تاريخ ابن خلدون

(استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان)
كان الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة منتقضا عليهم كما ذكرنا، ومداخلا لخوارزم شاه في الباطن، واستدعى العساكر من عنده، وبعث ابن زياد يستوثق له من غيّاث الدين، وأقام يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. ووصل ابن زياد بالولاية والخلع، فلم يثنه ذلك عمّا هو فيه من المكاذبة لهم. ثم وصل عسكر خوارزم شاه فتلقّاهم وأكرمهم. وبلغه أنّ خوارزم شاه في أثرهم على أربع فراسخ من بلخ، فندم في أمره وردّ إليه عسكره، وبلغ غيّاث الدين عسكر خوارزم شاه ووصولهم إلى هراة، فاستدعى ابن حرميل فقبض على أملاكه، ونكب أصحابه. وردّ أقطاعه فاعتزم أهل هراة على القبض عليه. وكتب القاضي وابن زياد بذلك إلى غيّاث الدين. ونمي الخبر إلى ابن حرميل فخشي على نفسه منهم، وأوهمهم أنه يكاتب غيّاث الدين وطلبهم في الكتاب مع رسوله، وأوصى الرسول أن يعدل إلى طريق خوارزم شاه. ولحق بهم فردّهم وأصبحوا على البلد لرابعة يوم من سفر الرسول فأدخلهم ابن حرميل البلد، وأمكنهم من أبوابها. وقبض على ابن زياد وسمله، وأخرج القاضي فلحق بغيّاث الدين في بيروز كوه، ونمي الخبر بذلك إلى غيّاث الدين فاعتزم على المسير بنفسه، فبلغه سير علاء الدين صاحب باميان إلى غزنة فاقتصر عن ذلك وأقام ينتظر شأنه مع الذر. وأمّا بلخ فإنّ خوارزم شاه لما بلغه مقتل شهاب الدين أطلق أسرى الغوريّين الذين كانوا عنده، وخلع عليهم واستألفهم، وبعث أخاه علي شاه في العساكر إلى بلخ فقاتله عمر بن الحسين الغوريّ نائبها. ونزل منها على أربعة فراسخ. وجاءه خوارزم شاه مددا بنفسه اخر سنة اثنتين وستمائة فحاصرها، فاستمدّ

(4/544)


عمر بن الحسين علاء الدين وجلال الدين من باميان، وشغلوا عنه بغزنة، فأقام خوارزم شاه محاصرا له أربعين يوما، وكان عنده محمد بن عليّ بن بشير، وأطلقه في أسرى الغورية وأقطعه، فبعثه إلى عمر بن الحسين صاحب بلخ في الطاعة فأبى من ذلك، واعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة، ثم بلغه ما وقع بين الذر وبين علاء الدين وجلال الدين، وأن الذر أسرهما، وأنّ عمر بن الحسين صاحب بلخ أبى ذلك، فأعاد عليه ابن بشير، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى أطاع صاحب خوارزم، وخطب له. وخرج إليه فخلع عليه وأعاده إلى بلده في سلخ ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار إلى جورقان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ فوقعت المراوضة بينهما. ثم انصرف عن جورقان [1] وتركها لا بن حرميل، واستدعى عمر بن الحسين الغوريّ وصاحب بلخ فقبض عليه، وبعثه إلى خوارزم، ومضى إلى بلخ فملكها، وولّى عليها جعفرا التركيّ ورجع إلى خوارزم.
(استيلاء علاء الدين ثانيا على غزنة ثم انتزاع الذر إياها من يده)
قد تقدّم لنا استيلاء الذر على غزنة وإخراجه علاء الدين وجلال الدين منها إلى باميان، فأقاما بها شهرين، ولحق كثير من الجند بعلاء الدين صاحبهم، وأقام الذر بغزنة متوقفا عن الخطبة لغياث الدين يروم الاستبداد، وهو يعلّل الأتراك برجوع رسوله من عند غيّاث الدين مخافة أن ينفضّوا عنه. فلمّا ظفر بعلاء الدين وملك القلعة أظهر الاستبداد وجلس على الكرسيّ وجمع علاء الدين وجلال الدين العساكر وساروا من باميان الى غزنة، وسرّح الذر عساكره للقائهما فهزماها وأثخناها [2] .
وهرب الذر إلى بلد كرمان واتبعه بعض العسكر فقاتلهم ودفعهم. وسار علاء الدين وأخوه إلى غزنة وملكوها، وأخذوا خزانة شهاب الدين التي كان الذر أخذها من يد الوزير مؤيد الدين عند مقدمه بجنازة شهاب الدين الى كرمان كما مرّ. ثم اعتزم علاء
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 230: «ثم سار خوارزم الى كرزبان ليحاصرها، وبها عليّ بن أبي عليّ ... »
[2] الضمير عائد الى عساكر الذر.
ابن خلدون م 35 ج 4

(4/545)


الدين وأخوه على العود إلى غزنة [1] وأهلها متوقعون النهب من عسكرهم والفيء.
وكان بينهم رسول الخليفة مجد الدين بن الربيع مدرّس النظامية، جاء إلى شهاب الدين فقتل وهو عنده. وأقام بغزنة فقصده أهل غزنة أن يشفع فيهم، فشفع وسكن الناس. وعاد علاء الدين وأخوه إلى غزنة. ثم وقع بينهما تشاجر على اقتسام الخزانة، وعلى وزارة مؤيد الملك فندم الناس على طاعتهما. وسار جلال الدين ومعه عبّاس الى باميان، وبقي علاء الدولة بغزنة، وأساء وزيره السيرة في الجند والرعيّة، ونهب الأموال حتى باعوا أمّهات أولادهم. ويشكون فلا يشكيهم أحد، فسار الذر في جموع الأتراك والغزّ والغوريّة، فكبسهم إيدكز [2] الشر في مولى شهاب الدين في ألفين وملك كرمان. وجاء الذر إثر ذلك وأنكر على إيدكز وملك كرمان، وأحسن إلى أهلها. وبلغ الخبر إلى علاء الدين بغزنة، فبعث وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان، وكانت عساكر الغوريّة قد فارقوه ولحقوا بغيّاث الدين، ووصل الذر آخر سنة اثنتين وستمائة إلى غزنة فملكها، وامتنع علاء الدين بالقلعة، فسكّن الذر الناس وأمّنهم، وحاصروا القلعة. وجاء الخبر إلى الذر بأنّ جلال الدين قادم عليك بعساكره، ولحق سليمان بن بشير بغيّاث الدين ببيروز كوه فأكرمه، وجعله أمير داره، وذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة وسار الذر فلقي جلال الدين وهزمه، وسيق أسيرا إليه، ورجع إلى غزنة وتهدّد علاء الدين بقتل الأسرى إن لم يسلّم القلعة.
وقتل منهم أربعمائة أسير فبعث علاء الدين يستأمنه، فأمّنه. ولما خرج قبض على وزيره عماد الملك وقتله، وبعث إلى غيّاث الدين بالفتح.
(انتقاض عباس في باميان ثم رجوعه الى الطاعة)
لما أسر علاء الدين وجلال الدين كما قلناه في غزنة وصل الخبر إلى عمّهما عباس في باميان ومعه وزير أبيهما. وسار الوزير الى خوارزم شاه يستنجده على الذر ليخلّص
__________
[1] قبل قليل تحدث ابن خلدون عن ملك غزنة من قبل علاء الدين وأخيه، ثم يذكر ان علاء الدين وأخيه يعتزمان على العود الى غزنة! وكيف يكون هذا؟ وربما يقصد ابن خلدون ان علاء الدين وجلال الدين يودان جعل غزنة قاعدة لهما حسب مقتضى السياق.
[2] وفي نسخة اخرى ايدكن وفي مكان آخر من هذا الكتاب ايدكين.

(4/546)


صاحبيه، فاغتنم عبّاس غيبته وملك القلعة، وكان مطاعا، وأخرج أصحاب علاء الدين وجلال الدين، فرجع الوزير من طريقه فحاصره بالقلعة، وكان مطاعا في تلك الممالك من لدن بهاء الدين ومن بعده. فلما خلّص جلال الدين من أسر الذر، وصل إلى مدينة باميان واجتمع مع الوزير، وبعثوا إلى عبّاس ولاطفوه حتى نزل عمّا كان استولى عليه من القلاع، وقال: إنما أردت حفظها من خوارزم شاه.
(استيلاء خوارزم شاه على ترمذ ثم الطالقان من يد الغورية)
كان خوارزم شاه لما ملك بلخ من يد عمر بن الحسين الغوريّ سار منها إلى ترمذ وبها ابنه. وقدم إليه محمد بن بشير بما كان من نزول أبيه عن بلخ، وأنه انتظم في أهل دولته. وبعثه إلى خوارزم مكرّما، ورغّبه بالأقطاع والمواعيد، وكان قد ضاق ذرعه من الخطا ووهن من أسر الذر أصحابه بغزنة، فأطاع واستأمن وملك خوارزم شاه ترمذ ورأى أن يسلّمها للخطأ ليتمكن بذلك من خراسان، ثم يعود عليهم فينتزعها منهم. ولما فرغ من ذلك سار إلى الطالقان وبها سونج نائبا عن غيّاث الدين محمود، وأرسل من يستميله، فلجّ وسار لحربه حتى إذا التقيا نزل عن فرسه وسأل العفو فذمّه بذلك، وأخذ ما كان بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كاكوير [1] وسوار، فخرج إليه حسام الدين عليّ بن أبي عليّ صاحب كالوين وقاتله، وطالبه في تسليم البلاد فأبى، وسار خوارزم شاه إلى هراة ونزل بظاهرها وابن حرميل في طاعته، فكفّ عساكره عن أهل هراة، ولقيه لك رسول غيّاث الدين بالهدايا. ثم سار ابن حرميل إلى أسفزار [2] في صفر، وقد كان صاحبها سار إلى غيّاث الدين فحاصرها حتى استأمن إليه وملك البلد. ثم أرسل إلى صاحب سجستان بطاعة خوارزم والخطبة له، فأجاب إلى ذلك بعد أن طلبه في ذلك غيّاث الدين فامتنع. وعند مقام خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الّذي كان ابن حرميل
__________
[1] وفي نسخة أخرى كاكوين. ثم يذكرها ابن خلدون كالوين وهو اسمها الحقيقي، كما في الكامل ج 12 ص 245.
[2] وفي نسخة اخرى: أسفراين.

(4/547)


أخرجه منها فلحق بشهاب الدين. ثم رجع من عنده إلى خوارزم شاه فسعى به ابن حرميل عنده حتى سجنه بقلعة زوزن، وولّى على القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد بن السرخسي.
(خبر غياث الدين مع الذر وايبك مولى أبيه)
لما ملك الذر غزنة وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين كتب إليه غيّاث الدين يأمره بالخطبة، وطاول في ذلك فبعث إليه يستحثّه بأمر الخطيب بالترحّم على شهاب الدين والخطبة لنفسه، فاستراب الأتراك به، وبعث هو يشترط على غيّاث الدين العتق فأجابه الى ذلك بعد توقف. وكان عزمه على أن يصالح خوارزم شاه ويستمدّه على الذر، فلما طلب العتق أعتقه، وأعتق قطب الدين أيبك مملوك عمّه شهاب الدين ونائبة ببلاد الهند. وأرسل إلى كلّ منهما هدية وردّ الخبر [1] واستمرّ الذر على مراوغته وأيبك على طاعته، فاستمدّ غيّاث الدين خوارزم شاه على الذر فأمدّه على أن يردّ ابن حرميل صاحب هراة إلى طاعته، وأن يقسّم الغنيمة أثلاثا بينهما وبين العسكر. وبلغ الخبر إلى الذر فسار إلى بكتاباد فملكها، ثم إلى بست وأعمالها كذلك، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان بقطع خطبة خوارزم شاه، وإلى ابن حرميل كذلك ويتهددهما، وأطلق جلال الدين صاحب باميان وزوّجه بنته، وبعث معه خمسة آلاف فارس مع أيدكين مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين الى ملكه بباميان. وينزلوا ابن عمّه. فلما سار معه أيدكين أغراه بالعود إلى غزنة وأعلمه أنّ الأتراك مجمعون على خلاف الذر، فلم يجبه جلال الدين إلى ذلك فرجع عنه أيدكين إلى إقطاعه بكابل، ولقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الذر يتهدده على عصيانه على غيّاث الدين، ويأمره بالخطبة له، ووصّل معه الهدايا والألطاف إلى غياث الدين. وأشار عليه أيبك بإجابة خوارزم إلى جميع ما طلب حتى يفرغ من أمر غزنة. وكتب إلى أيبك يستأذنه في المسير إلى غزنة ومحاربة
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 12 ص 248: «وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء وألف قلنسوة ومناطق الذهب وسيوفا كثيرة وجترين ومائة رأس من الخيل، وأرسل الى كل واحد منهما رسولا، فقبل الذر الخلع وردّ الجتر وقال: نحن عبيد ومماليك والجتر له أصحاب، وسار رسول ايبك إليه» .

(4/548)


الذر فأذن له بمحاربته، ووصل ايدكين في رجب سنة ثلاث وستمائة وخطب لغياث الدين بغزنة، وامتنعت عليه القلعة فنهب البلد، ووصل الخبر إلى الذر بشأن ايدكين في غزنة ومراسلة أيبك له ففتّ ذلك في عضده، وخطب لغياث الدين في بكتاباد وأسقط اسمه ورحل إلى غزنة فرحل ايدكين عنها إلى بلد الغور، وأقام في تمواز، وكتب إلى غيّاث الدين بالخبر وأنفذ إليه أموالا، فبعث إليه غيّاث الدين بالخلع وأعتقه وخاطبه بملك الأمراء. وسار غيّاث الدين إلى بست وأعمالها فاستردّها وأحسن إلى أهلها وأقام الذر بغزنة.
(مقتل ابن حرميل واستيلاء خوارزم شاه على هراة)
كان ابن حرميل كما قدّمناه استدعى عسكر خوارزم شاه إلى هراة وأنزلهم معه بهراة، فساء أمرهم في الناس وكثر عيثهم فحبسهم، وبعث إلى خوارزم شاه بصنيعهم ويعدّده، وكان مشتغلا بقتال الخطا، فكتب إليه يحسّن فعله ويستدعي الجند الذين حبسهم. وبعث إلى عزّ الدين خلدك [1] أن يحتال في القبض على ابن حرميل، فسار في ألفي فارس، وكان خلدك أيام السلطان سنجر واليا على هراة، فلما قدم خرج ابن حرميل لتلقّيه، فنزل كل واحد منهما إلى صاحبه، وأمر خلدك أصحابه بالقبض على ابن حرميل فقبضوا عليه، وانفضّ عنه أصحابه إلى المدينة، فأمر الوزير خواجه الصاحب بغلق الأبواب والاستعداد للحصار، ونادى بشعار غيّاث الدين محمود فحاصره خلدك وبذل له الأمان وتهدّده بقتل ابن حرميل، وخاطبه بذلك ابن حرميل ففعل، وكتب بالخبر إلى خوارزم شاه فبعث ولاته بخراسان يأمرهم بحصار هراة، فسار في عشرة آلاف وامتنعت هراة عليهم. وكان ابن حرميل قد حصّنها بأربعة أسوار محكمة وخندق، وشحنها بالميرة، وصار يعدهم إلى حضور خوارزم شاه، وأسروه أياما حتى فادى نفسه ورجع إلى خوارزم كما يذكر في أخبار دولته، وأرجف بموته في خراسان فطمع أخوه علي شاه في طبرستان، وكزلك خان في نيسابور الى الاستبداد بالملك، فلما وصل خوارزم شاه هرب أخوه علي شاه ولحق
__________
[1] جلدك: ابن الأثير ج 12 ص 261.

(4/549)


بشهاب الدين في بيروز كوه، فتلقّاه وأكرمه، وسار خوارزم شاه إلى نيسابور وأصلح أمرها واستعمل عليها، وسار إلى هراة وعسكره على حصارها، وقيل للوزير قد وصل خوارزم شاه لما وعدته. وتحدّث في ذلك جماعة من أهل البلد فقبض عليهم، ووقعت بذلك هيعة وشعر بها خوارزم شاه فزحف إلى السور وخرّب برجين منه، ودخل البلد فملكه وقتل الوزير وولّى على هراة من قبله، وذلك سنة خمس وستمائة ورجع إلى قتال الخطا.
(مقتل غياث الدين محمود)
لما ملك خوارزم شاه مدينة هراة وولّى عليها خاله أمير ملك، وأمره أن يسير إلى بيروز كوه ويقبض على صاحبها غيّاث الدين محمود بن غيّاث الدين الغوريّ، وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، فسار أمير ملك واستأمن له محمود فأمّنه وخرج إليه هو وعلي شاه فقبض عليهما أمير ملك وقتلهما، ودخل فيروز كوه سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه.
(استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها)
ولما استولى خوارزم شاه على عامّة خراسان وملك باميان وغيرها أرسل إلى تاج الدين الذر صاحب غزنة في الخطبة والسكة وأن يقرّر الصلح على غزنة بذلك فشاور أهل دولته، وفيهم قطلوتكين من موالي شهاب الدين، وهو النائب عن الذر بغزنة، فأشار عليه بطاعته، وأعاد الرسول بالإجابة، وخطب له وسار عن غزنة متصدّيا، وبعث قطلوتكين الى خوارزم شاه سرّا أن يبعث إليه من يسلّمه غزنة، فجاء بنفسه وملك غزنة. وهرب الذر إلى لهاور. ثم أحضر خوارزم شاه قطلوتكين وقتله بعد أن استصفاه وحصل منه على أموال جمّة، وولّى على غزنة ابنه جلال الدين، وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة ورجع الى بلده.

(4/550)


(استيلاء الذر على لهاور ومقتله)
لما هرب الذر من غزنة أمام خوارزم شاه لحق بلهاور، وكان صاحبها ناصر الدين قباجة من موالي شهاب الدين وله معها ملتان وآجر والدبيل إلى ساحل البحر، وله من العسكر خمسة عشر ألف فارس، وجاء الذر في ألف وخمسمائة فقاتله على التعبية ومعه الفيلة، فانهزم الذر أوّلا، وأخذت فيوله. ثم كانت له الكرّة وحمل فيل له على علم قباجة بإغراء الفيال، وصدق هو الحملة فانهزم قباجة وعسكره، وملك الذر مدينة لهاور، ثم سار إلى الهند ليملك مدينة دهلي وغيرها من بلاد المسلمين، وكان قطب الدين أيبك صاحبها قد مات، ووليها بعده مولاه شمس الدين فسار إليه، والتقيا عند مدينة سمابا واقتتلا، فانهزم الذر وعسكره وأسر فقتل. وكان محمود السيرة في ولايته كثير العدل والإحسان إلى الرعيّة لا سيما التجّار والغرباء. وكان بملكه انقراض دولة الغورية والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان في ملة الإسلام ودولة بني بويه منهم المتغلبين على الخلفاء على العباسيين ببغداد وأولية ذلك ومصايره)
قد تقدّم لنا نسب الديلم في أنساب الأمم وأنهم من نسل ماذاي بن يافث، وماذاي معدود في التوراة من ولد يافث. وذكر ابن سعيد ولا أدري عمن نقله: أنهم من ولد سام بن باسل بن أشور بن سام، وأشور مذكور في التوراة من ولد سام.
وقال: إنّ الموصل من جرموق بن اشور، والفرس والكرد والخزر من إيران بن أشور، والنبط والسوريان من نبيط بن أشور. هكذا ذكر ابن سعيد والله أعلم.
والجيل عند كافة النسّابين إخوانهم على كل قول من هذه الأقوال، وهم أهل جيلان جميعا عصبية واحدة من سائر أحوالهم. ومواطن هؤلاء الديلم والجيل بجبال طبرستان وجرجان إلى جبال الريّ وكيلان وحفافي البحيرة المعروفة ببحيرة طبرستان من لدن أيام الفرس وما قبلها، ولم يكن لهم ملك فيما قبل الإسلام. ولما جاء الله

(4/551)


بالإسلام وانقرضت دولة الأكاسرة واستفحلت دولة العرب وافتتحوا الأقاليم بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال كما مرّ في الفتوحات، وكان من لم يدخل من الأمم في دينهم دان لهم بالجزية، وكان هؤلاء الديلم والجيل على دين المجوسيّة، ولم تفتح أرضهم أيام الفتوحات، وإنما كانوا يؤدّون الجزية. وكان سعيد بن العاص قد صالحهم على مائة ألف في السنة، وكانوا يعطونها وربما يمنعونها، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، وكانوا يمنعون الطريق من العراق إلى خراسان على قومس. ولما ولي يزيد بن المهلّب خراسان سنة ست وثمانين للهجرة، ولم يفتح طبرستان ولا جرجان، وكان يزيد بن المهلّب يعيّره بذلك إذا قصّت عليه أخباره في فتوحات بلاد الترك ويقول: ليست هذه الفتوح بشيء، والشأن في جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور، فلمّا أولاه سليمان بن عبد الملك خراسان سنة تسع وتسعين، أجمع على غزوها ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومحاصر، يقوم الرجل على باب منها فيمنعه، وكانت طبرستان مدينة وصاحبها الأصبهبذ. ثم سار إلى جرجان مولاه فراسة، وسار الهادي إليهما وحاصرهما حتى استقاما على الطاعة. ثم بعث المهدي سنة ثمان وتسعين يحيى الحرسيّ في أربعين ألفا من العساكر فنزل طبرستان وأذعن الديلم. ثم لحق بهم أيام الرشيد يحيى ابن عبد الله بن حسن المثنّى فأجاروه، وسرّح الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي لحربهم، فسار إليهم سنة خمس وتسعين ومائة فأجابوه إلى التمكين منه على مال شرطوه وعلى أن يجيء بخط الرشيد وشهادة أهل الدولة من كبار الشيعة وغيرهم، فبذل لهم المال، وكتب الكتاب. وجاء الفضل بيحيى فحبسه عند أخيه جعفر حسبما هو مذكور في أخباره. وفي سنة تسع وثمانين ومائة كتب الرشيد وهو بالريّ كتاب الأمان لسروين بن أبي قارن ورنداهرمز بارخشان صاحب الديلم، وبعث بالكتاب مع حسن الخادم إلى طبرستان فقدم بارخشان ورنداهرمز وأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما، وضمن رنداهرمز الطاعة والخراج عن سروين بن أبي قارن. ثم مات سروين وقام مكانه ابنه شهريار، ثم زحف سنة إحدى وثمانين ومائة عبد الله بن أبي خرداذبه وهو عامل طبرستان إلى البلاد والسيزر من بلاد الديلم، فافتتحها وافتتح سائر بلاد طبرستان، وأنزل شهريار بن سروين عنها. وأشخص مازيار بن قارن ورنداهرمز إلى المأمون وأسر أبا ليلى. ثم مات شهريار بن سروين سنة عشر ومائتين وقام مكانه ابنه

(4/552)


سابور، فحاربه مازيار بن قارن بن رنداهرمز وأسره، ثم قتله. ثم انتقض مازيار على المعتصم وحمل الديلم وأهل تلك الأعمال على بيعته كرها، وأخذ رهنهم وجبى خراجهم، وخرّب أسوار آمل وسارية، ونقل أهلها إلى الجبال وبنى على حدود جرجان سورا من طميس إلى البحر مسافة ثلاثة أميال وحصّنه بخندق. وكانت الأكاسرة بنته سدّا على طبرستان من الترك. وقد نقل أهل جرجان إلى نيسابور وأملى له في انتقاضه الأفشين مولى المعتصم كبير دولته، طمّعه في ولاية خراسان بما كان يضطغن ابن طاهر صاحب خراسان، فدسّ إليه بذلك كتابا ورسالة حتى امتعض. وجهّز عبد الله بن طاهر العساكر لحربه مع عمّه الحسن ومولاه حيّان بن جبلة. وسرّح المعتصم العساكر يردف بعضها بعضا حتى أحاطوا بجباله من كل ناحية، وكان قارن بن شهريار أخو مازيار على سارية فدسّ إلى قوّاد ابن طاهر بالرجوع من كل ناحية، وكان قارن قد أتى إلى الطاعة والنزول لهم عن سارية على أن يملّكوه جبال آبائه، وأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على عمّه قارن في جماعة من قوّاد مازيار، وبعث بهم فدخل قوّاد ابن طاهر جبال قارن وملكوا سارية. ثم استأمن إليهم قوهيار أخو مازيار ووعدهم بالقبض على أخيه على أن يولّوه مكانه، فأسجل له ابن طاهر بذلك، فقبض على أخيه مازيار، وبعث به إلى المعتصم ببغداد فصلبه، واطلع منه على دسيسة الأفشين مولاه فنكبه وقتله. ووثب مماليك مازيار بقوهيار فثاروا منه بأخيه وفرّوا إلى الديلم، فاعترضتهم العساكر وأخذوا جميعا، ويقال إنّ الّذي كان غدر بمازيار هو ابن عمّه، كان يضطغن عليه عزله عن بعض جبال طبرستان، وكان مولاه ورأيه عن رأيه. ثم تلاشت الدعوة العبّاسيّة بعد المتوكّل وتقلّص ظلّها. واستبدّ أهل الأطراف بأعمالهم وظهرت دعاة العلوية في النواحي إلى أن ظهر بطبرستان أيام المستعين الحسن بن زيد الداعي العلويّ من الزيديّة، وقد مرّ ذكره. وكان على خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وقد ولّى على طبرستان عمّه سليمان بن عبد الله بن طاهر فكان محمد بن أوس ينوب عنه مستبدا عليه فأساء السيرة، وانتقض لذلك بعض عمّال أهل الأعمال ودعوا جيرانهم الديلم إلى الانتقاض. وكان محمد بن أوس قد دخل بلادهم أيام السلم وأثخن فيها بالقتل والسبي، فلمّا استنجدهم أولئك الثوّار لحرب سليمان ونائبة محمد بن أوس نزعوا لإجابتهم واستدعوا الحسن بن زيد مكانه، وبايعوه جميعا وزحفوا به إلى آمل

(4/553)


فملكوها. ثم ساروا الى سارية فهزموا عليها سليمان وملكوها. ثم استولى الحسن الداعي على طبرستان وكانت له ولأخيه بعده الدولة المعروفة، كما هو معروف في أخبارهم، أقامت قريبا من أربعين سنة، ثم انقرضت بقتل محمد بن زيد. ودخل الديلم الحسن الأطروش من ولد عمر [1] بن زين العابدين وكان زيديّ المذهب فنزل فيما وراء السعيد دوى [2] إلى آمل، ولبث في الديلم ثلاث عشرة سنة وملكهم يومئذ حسّان بن وهشوذان وكان يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ما استطاع، فأسلم على يديه منهم خلق كثير، وبنى لهم المساجد، وزحف بهم إلى قزوين فملكها، وسالوس من ثغور المسلمين فأطاعوه، وملك آمل ودعاهم إلى غزو طبرستان وهي في طاعة ابن سامان فأجابوه وساروا إليها سنة إحدى وثلاثمائة. وبرز إليها عاملها ابن صعلوك فهزمه الأطروش واستلحم سائر أصحابه، ولحق ابن صعلوك بالريّ، ثم إلى بغداد، واستولى الأطروش على طبرستان وأعمالها، وقد ذكرنا دولته وأخبارها في دول العلويّة، وكان استظهاره على أمره بالديلم وقوّاده في حروبه وولاته على أعماله منهم. ثم قتلته جيوش السعيد بن سامان سنة أربع وثلاثمائة، ودال الأمر بين عقبه قوّاد الديلم كما هو مذكور في أخبارهم.
(الخبر عن قواد الديلم وتغلبهم على اعمال الخلفاء بفارس والعراقين)
كان للديلم جماعة من القوّاد بهم استظهر الأطروش وبنوه على أمرهم منهم: سرخاب بن وهشوذان أخو حسّان، وهو معدود في ملوكهم، وكان صاحب جيش أبي الحسين بن الأطروش. ثم أخوه علي، ولّاه المقتدر على أصفهان. ثم ليلى بن النعمان من ملوكهم أيضا وكان قائدا للأطروش وولّاه بعده صهره الحسن المعروف بالداعي الصغير على جرجان. ثم ما كان بن كالي، وهو ابن عمّ سرخاب وحسّان ابني
__________
[1] قوله من ولد عمر ... إلخ عبارة المسعودي الأطروش الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن أبي طالب انتهى.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 81: «وكان الحسن بن على الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام» .

(4/554)


وهشوذان، وولّاه أبو الحسين بن الأطروش مدينة أستراباذ وأعمالها. ثم كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القوّاد فمنهم من أصحاب ماكان بن كالي أسفار بن شيرويه ومرداويج بن زيار بن بادر وأخوه وشمكير ولشكري. ومن أصحاب مرداويج بنو بويه الملوك الأعاظم ببغداد والعراقين وفارس. ولما تلاشت دولة العلوية واستفحل هؤلاء القوّاد بالاستبداد على أعقابهم في طبرستان وجرجان، وكانت خراسان عند تقلّص الدولة العبّاسيّة على الأطراف قد غلب عليها الصفّار وملكها من يد بني طاهر. ثم نازعه فيها بنو سامان والداعي العلويّ فأصبحت مشاعا بينهم. ثم انفرد بها ابن سامان وكل منهم يعطي طاعة معروفة للخلفاء. ومركز ابن سامان وراء النهر وخراسان في أطراف مملكتهم. وزاد تقلّص الخلافة عمّا وراءها، فتطاول ملوك الديلم هؤلاء قوّاد الدولة العلويّة بطبرستان إلى ممالك البلاد، وتجافوا عن أعمال ابن سامان لقوّة سورته واستفحال ملكه. وساروا في الأرض يرومون الملك وانتشروا في النواحي، وتغلّب كل منهم على ما دفع إليه من البلاد. وربما تنازعوا بعضها فكانت لهم دون طبرستان وجرجان بلاد الريّ، وظفر بنو بويه منهم بملك فارس والعراقين. وحجر الخلفاء ببغداد فذهبوا بفضل القديم والحديث، وكانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأمم حسبما نذكر ذلك كله في أخبار دولتهم.
(أخبار ليلى بن النعمان ومقتله)
كان ليلى بن النعمان من قوّاد الديلم وكان أولاد الأطروش ينعتونه في كتابهم إليه المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان كريما شجاعا قد ولّاه الحسن بن القاسم الداعي الصغير على جرجان بعد الأطروش سنة ثمان وثلاثمائة، فسار من جرجان إلى الدّامغان وهي في طاعة ابن سامان، وعليها مولاه قراتكين، فبرزوا إليه وقاتلوه فهزمهم وأثخن فيهم، وعاد إلى جرجان، فابتنى أهل الدامغان حصنا يمتنعون به. وسار قراتكين إلى ليلى فبرز إليه من جرجان وقاتله على عشرة فراسخ فانهزم قراتكين وأثخن في عسكره، وسار إليه فارس مولى قراتكين فأكرمه وزوّجه أخته وكثرت أجناده، وضاقت أمواله فأغراه أبو حفص القاسم بن حفص بنيسابور،

(4/555)


وأمره الحسن الداعي بالمسير إليها فسار وملكها آخر ثمان وثلاثمائة وخطب بها للداعي.
وأنفذ السعيد نصر بن سامان عساكره من بخارى مع قوّاده حمويه بن عليّ ومحمد ابن عبد الله البلغميّ وأبو حفص بنيسابور وأبو الحسن صعلوك وسيجور الدواني، فقاتلوا ليلى بن النعمان عن طوس وهزموه، فلحق بآمل واختفى فيها، وجاءه بقراخان وأخرجه من الاختفاء وأنفذ بالخبر إلى حمويه، فأمره بقتله وتأمين أصحابه، فقتل وحمل رأسه إلى بغداد، وذلك في ربيع سنة تسع وثلاثمائة، وبقي فارس غلام قراتكين بجرجان، وعاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه مولاه فارس فقتله قراتكين وانصرف عن جرجان.
(أخبار سرخاب بن وهشوذان ومهلكه وقيام ما كان بن كالي بمكانه)
كان سرخاب بن وهشوذان الديلميّ من قوّاد الأطروش وبنيه، وبايع لأبي الحسن بن الأطروش الناصر بعد مهلك أبيه بطبرستان وأستراباذ وكان صاحب جيشه، ولمّا انصرف قراتكين عن جرجان بعد مهلك ليلى بن النعمان، سار إليها أبو الحسن بن الأطروش وسرخاب فملكوها، وأنفذ السعيد نصر بن سامان سنة عشر سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لقتاله، ونزل على فرسخين من جرجان وحاصرها أشهرا، ثم برزوا إليه، وأكمن لهم سيجور كمينا فتباطأ الكمين وانهزم سيجور واتبعه سرخاب.
ثم خرج الكمين بعد حين وانهزم أبو الحسن إلى أستراباذ وترك جرجان، واتبعه سرخاب في الفل بمخلفه ومخلف أصحابه ورجع سيجور إلى جرجان فملكها. ثم مات سرخاب ولحق ابن الأطروش بسارية فأقام بها واستخلف ماكان بن كالي وهو ابن عمّ سرخاب، فسار محمد بن عبيد الله البلغمي وسيجور لحصاره وأقاموا عليه طويلا. ثم بذلوا له مالا على أن يخرج لهم عنها فتقوم لهم بذلك حجّة عند ابن سامان ثم يعود ففعل ذلك، وخرج إلى سارية ثم نزل إلى الشمانية عن أستراباذ، وولّوا عليها بقراخان فعاد إليها ما كان وملكها ولحق بقراخان بأصحابه في نيسابور
.

(4/556)


(بداية أسفار بن شيرويه وتغلبه على جرجان ثم طبرستان)
كان أسفار هذا من الديلم من أصحاب ما كان بن كالي، وكان سيّئ الخلق صعب العشرة وأخرجه ما كان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع في نيسابور وهو عامل عليها من قبل ابن سامان فأكرمه واختصه في العساكر سنة خمس عشرة وثلاثمائة لفتح جرجان وكان ما كان بن كالي يومئذ بطبرستان، وولّى على جرجان أبا الحسن بن كالي، واستراب بأبي علي بن الأطروش فحبسه بجرجان فجعله عنده في البيت، وقام ليلة إليه ليقتله فأظفر الله العلويّ به وقتله، وتسرّب من الدار وأرسل من الغد إلى جماعة من القوّاد فجاءوا إليه وبايعوه وألبسوه القلنسوة، وولّى على جيشه علي بن خرشية [1] وكاتبوا أسفار بن شيرويه بذلك وهو في طريقه إليهم، واستدعوه فاستأذن بكر بن محمد وسار إليهم، وسار على ابن خرشية في القيام بأمر جرجان بدعوة العلويّ الّذي معهم وضبط ناحيتها. وسار إليهم ما كان بن كالي في العساكر من طبرستان وقاتلوه فهزموه واتبعوه إلى طبرستان فملكوها من يده وقاموا بها. ثم هلك أبو علي الأطروش وعلي بن خرشية صاحب الجيش وانفرد أسفار بطبرستان وسار بكر بن محمد بن أليسع إلى جرجان فملكها وأقام فيها دعوة نصر بن سامان. ثم رجع ماكان إلى طبرستان وبها أسفار فحاربه وغلبه، وملك طبرستان من يده ولحق أسفار بجرجان فأقام بها عند بكر بن أليسع إلى أن توفي بكر، فولّاه السعيد على جرجان سنة خمس عشرة وثلاثمائة ثم ملك نصر بن سامان الري بولاية المقتدر وولّى عليها محمد بن عليّ بن صعلوك فطرقه المرض في شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة وكاتب الحسن الداعي أسفار ملك جرجان بولاية نصر بن سامان، فاستدعى مرداويج بن زيار من ملوك الجبل وجعله أمير جيشه وسار إلى طبرستان فملكها.
__________
[1] على بن خرشيد: ابن الأثير ج 8 ص 176.

(4/557)


(استيلاء أسفار على الري واستفحال أمره)
لما استولى أسفار على طبرستان ومرداويج معه، وكان يومئذ على الريّ وملكها من يد صعلوك كما ذكرناه. واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ ومعه الحسن بن القاسم الداعي الصغير [1] وهو قائم بدعوته. فلما خالفه أسفار إلى طبرستان وملكها واستضافها إلى جرجان سار إليه ما كان والداعي والتقوا بسارية واقتتلوا، وانهزم ما كان وقتل الداعي، وكانت هزيمته بتخاذل الديلم عنه فإنّ الحسن كان يشتدّ عليهم في النهي عن المنكر فنكروه، واستقدموا خال مرداويج من الجبل واسمه هزرسندان [2] وكان مع أحمد الطويل بالدّامغان، فمكروا بالداعي واستقدامه للاستظهار به، وهم يضمرون تقديمه عوض ما كان، ونصّب أبي الحسن بن الأطروش عوض الحسن الداعي، ودسّ إليه بذلك أحمد الطويل صاحب الدّامغان بعد موت صعلوك، فحذّرهم حتى إذا قدم هزرسندان أدخله مع قوّاد الديلم إلى قصره بجرجان. ثم قبض عليهم وقتلهم جميعا، وأمر أصحابه بنهب أموالهم، فامتعض لذلك سائر الديلم وأقاموا على مضيض حتى إذا كان يوم لقائه أسفار خذلوه فقتل. وفرّ ما كان واستولى أسفار على ما كان لهم من الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ والكرخ واستضافها إلى طبرستان وجرجان، وأقام فيها دعوة السعيد بن سامان. ونزل سارية واستعمل على الريّ هارون بن بهرام صاحب جناح، وكان يخطب فيها لأبي جعفر العلويّ، فاستدعاه إليه وزوجه من آمل. وجاء أبو جعفر لوليمته مع جماعة من العلويّين فكبسهم أسفار وبعث بهم إلى بخارى فحبسهم بها إلى أن خلّصوا مع يحيى أخي السعيد، وكانوا في فتية حسبما ذكرناه. ولما فرغ أسفار من الريّ تطاول إلى قلعة ألموت ليحصّن بها عياله وذخيرته، وكانت لسياه جشم بن مالك الديلميّ ومعناه الأسود العين، فاستقدمه أسفار وولّاه قزوين، وسأله في ذلك فأجابه فنقل عياله إليها
__________
[1] العبارة مشوشة والضمائر مبهمة وفي الكامل ج 8 ص 189: «استيلاء أسفار بن شيرويه الديلميّ على طبرستان ومعه مرداويج، فلما استولوا عليها كان الحسن بن القاسم بالريّ، واستولى عليها، وأخرج منها أصحاب السعيد نصر بن أحمد واستولى على قزوين وزنجان وأبهر وقمّ وكان معه ماكان بن كالي الديلميّ، فسار نحو طبرستان، والتقوا هم واسفار عند سارية ... » .
[2] هروسندان: المرجع السابق.

(4/558)


وسرّب الرجال إليهم لخدمتهم حتى كملوا مائة. ثم استدعاه فقبض عليه، وثار أولئك بالقلعة فملكوها، وكان في طريقه إلى الريّ استأمن إليه صاحب جبلي نهاوند وقم ابن أمير كان فملكها، ومرّ بسمنان فامتنع منه صاحبها محمد بن جعفر، وبعث إليه من الريّ بعض أصحابه فاستأمن إليه وخدعه حتى قتله وتدلى من ظهر القلعة. ثم استفحل أمر أسفار وانتقض على السعيد بن سامان، وأراد أن يتتوّج ويجلس على سرير الذهب، واعتزم على حرب ابن سامان والخليفة، فبعث المقتدر العساكر إلى قزوين مع هارون بن غريب الحال فقاتله أسفار وهزمه. ثم سار ابن سامان إلى نيسابور لحربه، فأشار على أسفار وزيره مطرّف بن محمد الجرجاني بمسالمته وطاعته، وبذل الأموال له فقبل إشارته. وبعث بذلك إلى ابن سامان وتلطّف أصحابه في رجوعه إلى ذلك فرجع وشرط عليه الخطبة والطاعة فقبل، وانتظم الحال بينهما ورجع إلى السطوة بأهل الريّ. ولما كانوا عابوا عليه عسكر القتال ففرض عليهم الأموال وعسف بهم، وخصّ أهل قزوين بالنهب لمّا تولّوا من ذلك، وسلّط عليهم الديلم فضاقت بهم الأرض.
(مقتل اسفار وملك مرداويج)
كان مرداويج بن زيار من قوّاد أسفار وكان قد سئم عسفه وطغيانه كما سئمه الناس، وبعثه أسفار إلى صاحب سميران الطر الّذي ملك أذربيجان بعد ذلك يدعوه إلى طاعته، ففاوضه في أمر أسفار وسوء سيرته في الناس، واتفقا على الوثوب عليه به فأجابوه وفيهم مطرّف بن محمد وزيره فسار هو وسلّار إليه، وبلغه الخبر فثار به الجند فهرب إلى الريّ، وكتب إلى ماكان بن كالي بطبرستان يستألفه على أسفار فسار إليه ما كان فهرب أسفار من بيهق إلى بست، ثم دخل مفازة الريّ قاصدا قلعة ألموت التي حصّن بها أهله وذخيرته. وتخلّف عنه بعض أصحابه في المفازة، وجاء إلى مرداويج يخبره، فسار إليه وتقدّم بين يديه بعض القوّاد فلقي أسفار وساءله عن قوّاده، فأخبره أنّ مرداويج قتلهم فسرّ بذلك. ثم حمله القائد إلى مرداويج فأراد أن يحبسه بالريّ فحذّره بعض أصحابه غائلته، فأمر بقتله ورجع إلى الريّ. ولما قتل

(4/559)


أسفار تنقّل مرداويج في البلاد يملكها، فملك قزوين، ثم الريّ، ثم همذان، ثم كنكور، ثم الدّينور، ثم دجرد [1] ، ثم قم، ثم قاشان، ثم أصفهان، ثم جرباد [2] . واستفحل ملكه وعتا وتكبّر، وجلس على سرير الذهب، وأجلس أكابر قوّاده على سرير الفضّة، وتقدّم لعسكره بالوقوف على البعد منه، ونودي بالخطّاب بينهم وبين حاجبه.
(استيلاء مرداويج على طبرستان وجرجان)
قد ذكرنا أنّ الألفة الواقعة بين مرداويج وما كان وتظاهرهما على أسفار حتى قتل وثبت مرداويج في الملك، واستفحل أمره فتطاول إلى ملك طبرستان وجرجان.
وسار إليهما سنة ست عشرة وثلاثمائة فانهزم ما كان أمامه واستولى مرداويج على طبرستان، وولّى عليها أسفهسلان، وأمّر على عسكره أبا القاسم [3] ، وكان حازما شجاعا. ثم سار إلى جرجان فهرب عامل ما كان عنها وملكها مرداويج، وولّى عليها صهره أبا القاسم المذكور خليفة عنه، ورجع إلى أصفهان ولحق أبو القاسم وهزمه، فرجع السائر إلى الديلم ولحق ما كان بنيسابور، واستمدّ أبا علي بن المظفّر صاحب جيوش ابن سامان، فسار معه في عساكره إلى جرجان فهزمهما أبو القاسم ورجعا إلى نيسابور. ثم سار ما كان إلى الدّامغان فدفعه عنها أبو القاسم فعاد إلى خراسان.
(استيلاء مرداويج على همذان والجبل وحروبه مع عساكر المقتدر)
لما ملك مرداويج بلاد الريّ أقبلت الديلم إليه، فأفاض فيهم العطاء وعظمت عساكره، فلم تكفه جباية أعماله، وامتدّت عينه إلى الأعمال التي تجاوره، فبعث إلى
__________
[1] هي بروجرد.
[2] جرباذقان: ابن الأثير ج 8 ص 196.
[3] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 197: «واستولى على طبرستان ورتّب فيها بلقاسم بن بانجين وهو أسفهسلار عسكره، وكان حازما، شجاعا، جيّد الرأي» .

(4/560)


همذان سنة تسع عشرة جيشا كثيفا مع ابن أخته، وبها محمد بن خلف وعسكر المقتدر، فاقتتلوا وأعان على همذان عسكر الخليفة فظفروا بعسكر مرداويج، وقتلوا ابن أخته، فسار إليهم مرداويج من الريّ وهرب عسكر الخليفة من همذان ودخلها عنوة، فأثخن فيهم واستلحمهم وسباهم، ثم أمّنهم. وزحفت إليه عساكر المقتدر مع هارون بن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان، وملك بلاد الجبل وما وراء همذان، وبعث قائدا من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة، وبلغت عساكره نحو حلوان، وامتلأت أيديهم من الذهب والسبي ورجعوا.
(خبر لشكري في أصفهان)
كان لشكري من الديلم ومن أصحاب أسفار، واستأمن بعد قتله إلى المقتدر، وصار في جند هارون بن غريب الحال. ولما انهزم هارون أمام مرداويج سنة تسع عشرة وثلاثمائة، أقام في قرقلنين [1] ينتظر مدد المقتدر، وبعث لشكري هذا إلى نهاوند يجيئه بمال منها، فتغلّب عليها وجمع بها جندا، ثم مضى إلى أصفهان في منتصف السنة وبها أحمد بن كيغلغ فحاربه وهزمه، وملك أصفهان، ودخل إليها عسكره، وأقام هو بظاهرها، فرأى لشكري فقصده يظنّه من بعض جنده أي أحمد، فلما تراءى دافع أحمد بن كيغلغ عن نفسه فقتل وهرب أصحابه ورجع ابن كيغلغ إلى أصفهان [2]
__________
[1] قرميسين: ابن الأثير ج 8 ص 228.
[2] العبارة مشوشة وغير واضحة، فقد سبق ان لشكري احتل أصفهان وأن أحمد هزم، ثم يعود أحمد الى أصفهان! وبمقتضى ذلك ينبغي ان تكون قتل عائدة الى لشكري وليس الى أحمد بن كيغلغ. وحسب مقتضى السياق ينبغي ان يكون العكس تماما. والواضح أن أكثر من عبارة سقطت أثناء النسخ مما سبب اضطراب العبارة والمعنى بشكل عام. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 228 «ولما انهزم أحمد نجا الى بعض قرى أصبهان في ثلاثين فارسا، وركب لشكري يطوف بسور أصبهان من ظاهره، فنظر إلى أحمد في جماعته فسأل عنه فقيل: لا شك أنه من أصحاب أحمد بن كيغلغ، فسار فيمن معه من أصحابه نحوهم، وكانوا عدة يسيرة، فلما قرب منهم تعارفوا فاقتتلوا فقتل لشكري، قتله أحمد بن كيغلغ، ضربه بالسيف على رأسه فقدّ المغفر والخوذة، ونزل السيف حتى خالط دماغه فسقط ميتا. وكان عمر أحمد إذ ذاك قد جاوز السبعين. فلما قتل لشكري انهزم من معه فدخلوا أصبهان واعلموا أصحابهم فهربوا على وجوههم وتركوا اثقالهم وأكثر رحالهم، ودخل أحمد الى أصبهان» .
ابن خلدون م 36 ج 4

(4/561)


(استيلاء مرداويج على أصفهان)
ثم بعث مرداويج [1] عسكرا آخر إلى أصفهان سنة تسع عشرة فملكوها وجدّدوا له مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فنزلها وعسكره يومئذ أربعون أو خمسون الفا، ثم بعث عسكرا إلى الأهواز وخوزستان فملكوها وجبوا أعمالها، وبعث إلى المقتدر وضمن هذه البلاد بمائتي ألف دينار في كل سنة فقرّرت عليه، وأقطعه المقتدر همذان وماه الكوفة.
(قدوم وشمكير على أخيه مرداويج)
وفي سنة ستّ عشرة وثلاثمائة بعث مرداويج رسوله من الجند ليأتيه بأخيه وشمكير، فبعث إليه وأبلغه رسالة أخيه وأعلمه بمقامه في الملك، فاستبعد ذلك، ثم استغربه ونكر على أخيه مشايعته للمسودة، لأن الديلم والجيل كانوا شيعة للعلويّة بطبرستان، فلم يزل الرسول به حتى سار به إلى أخيه، فخرج به إلى قزوين وألبسه السواد بعد مراوضة. وقدم على أخيه بدويا حافيا مستوحشا فلم يكن إلا أن رهف الملك أعطافه فأصبح أرقّ الناس حاشية وأكثر الناس معرفة بالسياسة.
(خبر مرداويج مع ابن سامان على جرجان)
كان أبو بكر المظفّر صاحب جيوش ابن سامان بخراسان قد غلب على جرجان وانتزعها من ملكه مرداويج، فلما فرغ مرداويج من أمر خوزستان والأهواز رجع إلى الري وسار منها إلى جرجان، فخرج ابن المظفّر عن جرجان إلى نيسابور وبها يومئذ
__________
[1] قوله مرداويج هو بالحاء المهملة في النسخ التي بين أيدينا. وفي تاريخ ابن الوردي مرداويج بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملتين ثم ألف وواو محالة وياء مثناة تحت وجيم فارسية معناها معلّق الرجال انتهى- وفي المسعودي أنه يقال بالزاي أيضا بدل الراء ولكنه في نسخة بالحاء المهملة انتهى. مصححه.

(4/562)


السعيد نصر بن سامان، فسار لمدافعة مرداويج عن جرجان، وكاتب محمد بن عبد الله البلغمي من قوّاد ابن سامان مطرّف بن محمد وزير مرداويج واستماله. وشعر بذلك فقتل وزيره وبعث إليه البلغمي يعذله في قصد جرجان، ويطوّق ذلك بالوزير مطرّف، ويذكّره حقوق السعيد بن سامان قبله وقصور قدرته عنه، ويشير عليه بالنزول له عن جرجان وتقرير المال عليه بالريّ، فقبل مرداويج إشارته وعاد عن جرجان وانتظم الحال بينهما.
(بداية أمر بني بويه)
وكانوا إخوة ثلاثة أكبرهم عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد. لقّبهم بهذه الألقاب الخلفاء عند ما ملكوا الأعمال، وقلّدوهم إيّاها على ما نذكر بعد. وهم الذين تولّوا حجر الخلفاء بعد ذلك ببغداد كما يأتي. وأبوهم أبو شجاع بويه بن قناخس وللناس في نسبهم خلاف، فأبو نصر بن ماكولا ينسبهم إلى كوهي بن شيرزيك الأصغر ابن شير كوه بن شيرزيك الأكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسان شاه بن سير بن فيروز بن شروزيل بن سنساد بن هراهم جور، وبقيّة النسب مذكور في ملوك الفرس. وابن مسكويه قال: يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. والحق أنّ هذا النسب مصنوع تقرّب إليهم به من لا يعرف طبائع الأنساب في الوجود، ولو كان نسبهم ذا خلل في الديلم لم تكن لهم تلك الرئاسة عليهم، وإن كانت الأنساب قد تتغيّر وتخفى وتنتقل من شعب إلى شعب ومن قوم إلى قوم فإنما هو بطول الأعصار وتناقل الأجيال واندراس الأزمان والأحقاب. وأمّا هؤلاء فلم يكن بينهم وبين يزدجرد وانقطاع الملك من الفرس إلا ثلاثمائة سنة، فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال ميّزت فيها أنسابهم وأحصيت أعقابهم. فكيف يدرك مثل هذه الأنساب الخفاء في مثل هذه الاعصار. وإن قلنا كان نسبهم إلى الفرس ظاهرا منع ذلك من رياستهم على الديلم فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب والله أعلم. وأمّا بدايتهم فإنّهم كانوا من أوسط الديلم نسبا وحالا. وفي أخبارهم أنّ أباهم أبا شجاع كان فقيرا، وأنه رأى في

(4/563)


منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها، فاستطالت وارتفعت الى السماء. ثم افترقت ثلاث شعب ومن كل شعب عدّة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران. وان عابرا عبّر له الرؤيا بأنه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الأرض، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت النار، ويولد لهم ملوك بقدر الشعب. وأنّ أبا شجاع استبعد ذلك واستنكره لما كانوا عليه من توسّط الحال في المعيشة، فرجع المعبر إلى السؤال عن وقت مواليدهم فأخبروه بها، وكان منّجما فعدل طوالعهم وقضى لهم جميعا بالملك فوعدوه وانصرف. ولما خرج قوّاد الديلم لملك البلاد وانتشروا في الأعمال مثل ليلى وما كان وأسفار ومرداويج خرج مع كل واحد منهم جموع من الديلم رءوس وأتباع، وخرج بنو أبي شجاع هؤلاء في جملة قوّاد ما كان، فلمّا اضطرب أمره وغلبه مرداويج عن طبرستان وجرجان مرّة بعد مرّة لحق آخرا بنيسابور مهزوما فاعتزم بنو بويه على فراقه واستأذنوه في ذلك، وقالوا إنما نفارقك تخفيفا عليك فإذا صلح أمرك عدنا إليك. وساروا إلى مرداويج، وتبعتهم جماعة من قوّاد ما كان فقبلهم مرداويج. وقلّد كل واحد منهم ناحية من نواحي الجبل. وقلّد علي بن بويه كرمس وكتب لهم العهود بذلك. وساروا إلى الريّ وبها يومئذ أخوه وشمكير ومعه وزيره الحسين بن محمد العميد والد أبي الفضل. ثم بدا لمرداويج في ولاية هؤلاء القوّاد المستأمنة فكتب إلى أخيه وشمكير ووزيره العميد بردّهم عن تلك الأعمال. وكان عليّ بن بويه قد أسلف عند العميد يدا في بغلة فارهة عرضها للبيع، واستامها العميد فوهبها له فرعى له العميد هذه الوسيلة. فلمّا قرأ كتاب مرداويج دسّ إلى ابن بويه بأن يغذّ السير إلى عمله فسار من حينه. وغدا وشمكير على بقيّة القوّاد، فاستعاد العهود من أيديهم، وأمر ابن بويه فأشار عليه أصحابه بترك ذلك لما فيه من الفتنة فتركه.
(ولاية عماد الدولة بن بويه على كرج وأصفهان)
ولما وصل عماد الدولة إلى كرج ضبط أمورها وأحسن السياسة في أهلها وأعمالها، وقتل جماعة من الخرّمية كانوا فيها وفتح قلاعهم، وأصاب فيها ذخائر كثيرة فأنفقها في

(4/564)


جنده فشاع ذكره وحمدت سيرته. وكتب أهل الناحية إلى مرداويج بالنبإ فغصّ.
وجاء من طبرستان إلى الريّ وأطلق مالا لجماعة من قوّاده على كرج فاستمالهم عماد الدولة وأحسن إليهم، فأقاموا عنده. واستراب مرداويج فكتب إلى عماد الدولة في استدعائهم، فدافعه وحذّرهم منه فحذروا. ثم استأمن إليه سيراذ [1] من أعيان قوّاد مرداويج، فكثف به جمعه وسار إلى أصفهان وبها المظفّر بن ياقوت من قبل القاهر، في عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها ابو علي بن رستم، فاستاذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، فأعرضا عنه، ومات خلال ذلك ابن رستم وبرز ابن ياقوت من أصفهان لمدافعته، واستأمن إليه من كان مع ابن ياقوت من الجيل والديلم، ثم لقيه عماد الدولة في تسعمائة فهزمه وملك أصفهان.
(استيلاء ابن بويه على أرجان وأخواتها ثم على شيراز وبلاد فارس)
ولما بلغ خبر أصفهان إلى مرداويج اضطرب، وكتب إلى عماد الدولة بن بويه يعاتبه ويستميله، ويطلب منه إظهار طاعته، ويمدّه بالعساكر في البلاد والأعمال، ويخطب له فيها. وجهّز له أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبسه وهو مطمئن إلى تلك الرسالة، وشعر ابن بويه بالمكيدة فرحل عن أصفهان بعد أن جباها شهرين، وسار إلى أرّجان وبها أبو بكر بن ياقوت من أصفهان واليا عليها، ففصل عنها. ولما ملك ابن بويه أرّجان كاتبه أهل شيراز يستدعونه إليهم، وعليهم يومئذ ياقوت عامل الخليفة، وثقلت وطأته عليهم وكثر ظلمه، فاستدعوا ابن بويه وخام عن المسير إليهم، فأعادوا إليه الكتاب بالحثّ على ذلك، وأنّ مرداويج طلب الصلح من ياقوت فعاجل الأمر قبل أن يجتمعا، فسار إلى النوبندجان في ربيع سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وسبقته إليها مقدّمة ياقوت في ألفين من شجعان قومه. فلما وافاهم ابن بويه انهزموا إلى كرمان وجاءهم ياقوت هنالك في جميع أصحابه. وأقام عماد الدولة بالنّوبندجان، وبعث أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس،
__________
[1] شيرزاد: ابن الأثير ج 8 ص 269.

(4/565)


فلقي هنالك عسكرا لياقوت فهزمهم وجبى تلك الأعمال ورجع إلى أخيه بالأموال.
ثم وقعت المراسلة بين مرداويج وياقوت في الصلح وسار وشمكير إليه عن أخيه فخشيهما عماد الدولة وسار من نوبندجان إلى إصطخر، ثم إلى البيضاء وياقوت في اتباعه. وسبقه ياقوت إلى قنطرة على طريق كرمان فصدّه عن عبوره، واضطرّه للحرب، فتحاربوا واستأمن جماعة من أصحاب ابن بويه إلى ياقوت فقتلهم، فخشيه الباقون واستماتوا. وقدّم ياقوت أمام عسكره رجاله بقوار النفط، فلما أشعلوها وقذفت أعادتها الريح عليهم فعلقت بهم، فاضطربوا، وخالطهم أصحاب ابن بويه في موقفهم وكانت الدبرة على ياقوت. ثم صعد إلى ربوة ونادى في أصحابه بالرجوع، فاجتمع إليه نحو اربعة آلاف فارس، وأراد الحملة عليهم لاشتغالهم بالنهب ففطنوا له، وتركوا النهب وقصدوه فانهزم واتبعوهم فأثخنوا فيهم. وكان معزّ الدولة أحمد بن بويه من أشدّ الناس بلاء في هذه الحرب، ابن تسع عشرة سنة لم يطرّ شاربه. ثم رجعوا إلى السواد فنهبوه وأسروا جماعة منهم، فأطلقهم ابن بويه وخيّرهم، فاختاروا المقام عنده فأحسن إليهم. ثم سار إلى شيراز فأمّنها ونادى بالمنع من الظلم، واستولى على سائر البلاد وعرفوه بذخائر في دار الإمارة وغيرها من ودائع ياقوت وذخائر بني الصفار. فنادى في الجند بالعطاء وأزاح عللهم، وامتلأت خزائنه، وكتب إلى الراضي وقد أفضت إليه الخلافة، وإلى وزيره أبي علي بن مقلة تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك، وبعثوا إليه بالخلع واللواء، وكان محمد بن ياقوت قد فارق أصفهان عند خلع القاهر وولاية الراضي، وبقيت عشرين يوما دون أمير، فجاء إليها وشمكير وملكها، فلما وصل الخبر إلى مرداويج باستيلاء ابن بويه على فارس سار إلى أصفهان للتدبير عليه، وبعث أخاه وشمكير إلى الريّ.
(استيلاء ما كان بن كالي على الريّ)
قد ذكرنا في دولة بني سامان أنّ أبا علي محمد بن الياس كان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بكرمان منتقضا على السعيد، فبعث إليه في هذه السنة جيشا كثيفا فاستولى على كرمان، وأقام فيها الدعوة لابن سامان، وكان أصل محمد بن الياس من

(4/566)


أصحاب السعيد فسخطه وحبسه ثم أطلقه بشفاعة البلغميّ. وبعث مع صاحب خراسان محمد بن المظفّر إلى جرجان حتى إذا خرج أخوه السعيد من محبسهم، وبايعوا ليحيى منهم، كان محمد بن الياس معهم حتى تلاشى أمرهم، ففارقه ابن الياس من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله عنها ماكان ولحق بالدّينور وأقام ماكان واليا بكرمان بدعوة بني سامان.
(مقتل مرداويج وملك أخيه وشمكير من بعده)
لما استفحل أمر مرداويج كما قلنا عتا وتجبّر وتتوج بتاج مرصّع على هيئة تاج كسرى، وجلس على كرسي الذهب وأجلس أكابر قوّاده على كراسي الفضّة، واعتزم على قصد العراق، وبنى المدائن وقصور كسرى وأن يدعى بشاه. وكان له جند من الأتراك، كان كثير الإساءة إليهم، ويسمّيهم الشياطين والمردة فثقلت وطأته على الناس، وخرج ليلة الميلاد من سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، إلى جبال أصفهان وكانوا يسمونها ليلة الوقود لما يضرم فيها من النيران. فأمر بجمع الحطب على الجبل من أوّله إلى آخره أمثال الجبال والتلال، وجمع ألفي طائر من الغربان والحدءات، وجعل النفط في أرجلها ليضرم الجبل نارا حتى يضيء الليل. واستكثر من أمثال هذا اللعب، ثم عمل سماطا للأكل بين يديه فيه مائة فرس ومائتا بقرة وثلاثة آلاف كبش وعشرة آلاف من الدجاج وأنواع الطير، وما لا يحصى من أنواع الحلوى، وهيّأ ذلك كله ليأكل الناس، ثم يقوموا إلى مجلس الشرب والندمان فتشعل النيران. ثم ركب آخر النهار ليطوف على ذلك كلّه بنفسه، فاحتقره وسخط من تولّى ترتيبه، ودخل خيمته مغضبا ونام، فأرجف القوّاد بموته فدخل إليه وزيره العميد وأيقظه، وعرّفه بما الناس فيه، فخرج وجلس على السماط وتناول لقمتين ثم ذهب، وعاد إلى مكانه، فقام في معسكره بظاهر أصفهان ثلاثا لا يظهر للناس. ثم قام في اليوم الرابع ليعود إلى قصره بأصفهان فاجتمعت العساكر ببابه، وكثر صهيل الخيل ومراحها فاستيقظ لكثرة الضجيج، فازداد غضبه وسأل عن أصحاب الدواب، فقيل إنها للأتراك نزلوا للخدمة وتركوها بين يدي الغلمان، فأمر أن تحل عنها

(4/567)


السروج، وتجعل على ظهور الأتراك ويقودونهم إلى اصطبلات الخيل، ومن امتنع من ذلك ضرب، فأمسكوا ذلك على أقبح الهيئات، واصطنعوا [1] ذلك عليه، واتفقوا على الفتك به في الحمّام. وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمّامه، فسخطه ذلك اليوم وطرده، فلم يتقدّم إلى الحرس لمراعاته وداخلوا الخادم الّذي يتولى خدمته في الحمام في أن يفقده سلاحه، وكان يحمل خنجرا فكسر حديد الخنجر وترك النصاب لمرداويج، فلم يجد له حدّا فأغلق باب الحمام ودعمه من ورائه بسرير الخشب الّذي كان صاعدا عليه، فصعدوا إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالسهام فانحجر في زوايا الحمّام وكسروا الباب عليه وقتلوه. وكان الّذي تولى كبر ذلك جماعة من الأتراك، وهم توزون الّذي صار بعد ذلك أمير الأمراء ببغداد، ويارق بن بقراخان ومحمود بن نيال الترجمان [2] ويحكم [3] الّذي ولي إمارة الأمراء قبل توزون. ولما قتلوه خرجوا إلى أصحابهم فركبوا ونهبوا قصر مرداويج وهربوا. وكان الديلم والجيل بالمدينة فركبوا في أثرهم فلم يدركوا منهم إلّا من وقفت دابته فقتلوهم، وعادوا لنهب الخزائن، فوجدوا العميد قد أضرمها نارا. ثم اجتمع الديلم والجيل وبايعوا أخاه وشمكير بن زيار وهم بالريّ، وحملوا معهم جنازة مرداويج، فخرج وشمكير وأصحابه لتلقيهما على أربع فراسخ حفاة، ورجع العسكر الّذي كان بالأهواز إلى وشمكير واجتمعوا عليه، وتركوا الأهواز لياقوت فملكها، وقام وشمكير بملك أخيه مرداويج في الديلم والجيل، وأقام بالريّ، وجرجان في ملكه. وكتب السعيد بن سامان إلى محمد بن المظفر صاحب خراسان، وإلى ماكان بن كالي صاحب كرمان بالمسير إلى جرجان والريّ، فسار ابن المظفّر إلى قومس ثم إلى بسطام، وسار ماكان على المفازة إلى الدّامغان واعترضه الديلم من أصحاب وشمكير في جيش كثيف فهزموهم ولحق بنيسابور آخر ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وجعلت ولايتها لما كان بن كالي فأقام بها. وسار أبو عليّ بن الياس إلى كرمان بعد انصراف ماكان عنها فملكها وصفت له بعد حروب شديدة طويلة مع جيوش السعيد بن سامان. وكان له الظفر آخرا. وأمّا الأتراك الذين قتلوا مرداويج فافترقوا في هزيمتهم
__________
[1] حسب مقتضى السياق ينبغي ان تكون: اضطغنوا وقد تكون محرفة أثناء النسخ.
[2] ياروق وابن بغرا ومحمد بن ينال الترجمان: ابن الأثير ج 8 ص 301.
[3] بجكم: المرجع السابق.

(4/568)


فرقتين. فسارت فرقة إلى عماد الدولة بن بويه وهم الأقل، وفرقة إلى الجيل مع يحكم وهم الأكثر فجبوا خراج الدينور وغيره. ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم واستراب الحجرية بهم، فردّهم الوزير ابن مقلة إلى بلد الجيل [1] وأطلق لهم مالا فلم يرضوا به، فكاتبهم ابن رائق وهو يومئذ صاحب واسط والبصرة فلحقوا به، وقدم عليهم يحكم، فكاتب الأتراك من أصحاب مرداويج فقدم عليه منهم عدّة وافرة، واختص يحكم وتولّاه ونعته بالرائقي نسبة إليه، وأمره أن يرسمها في كتابه.
(مسير معز الدولة بن بويه الى كرمان وهزيمته)
لما ملك عماد الدولة بن بويه وأخوه ركن الدولة بلاد فارس والجيل، بعثا أخاهما الأصغر معز الدولة إلى كرمان خالصة له، فسار في العسكر إليها سنة أربع وعشرين وثلاثمائة واستولى على السيرجان وكان إبراهيم بن سيجور الدواني [2] قائد ابن سامان يحاصر محمد بن الياس ابن أليسع في قلعته هنالك. فلما بلغه خبر معزّ الدولة سار من كرمان إلى خراسان، وخرج محمد بن الياس من القلعة التي كان محاصرا بها إلى مدينة قمّ [3] على طرف المفازة بين كرمان وسجستان فسار إلى جيرفت وهي قصبة كرمان.
وجاء رسول علي بن أبي الزنجي المعروف بعلي بن كلونة [4] أمير القفص والبلوص، كان هو وسلفه متغلّبين على تلك الناحية ويعطون طاعتهم للأمراء والخلفاء على البعد ويحملون إليهم المال. فلما جاء رسوله بالمال امتنع معزّ الدولة من قبوله إلّا بعد دخول جيرفت، فلمّا دخل جيرفت صالحه وأخذ رهنه على الخطبة له. وكان عليّ بن كلونة قد نزل بمكان صعب المسلك على عشرة فراسخ من جيرفت، فأشار على معزّ الدولة
__________
[1] ترد هذه الكلمة عدة مرات الجيل ومرارا الجبل وفي معجم البلدان: الجبل «اسم جامع لهذه الأعمال التي يقال لها الجبال في بلاد العجم. وهو اسم علم للبلاد المعروفة اليوم باضطلاع العجم بالعراق، ونسبة العجم له بالعراق غلط» وقد تكون محرفة عن الجيلان وهي بلاد كثيرة وراء بلاد طبرستان، ويقطن بلاد جيلان قبيلة تسمى الجيل.
[2] إبراهيم بن سيمجور الدواتي: ابن الأثير ج 8 ص 324.
[3] هي مدينة بمّ وليست قمّ كما في الكامل.
[4] علي بن كالويه المرجع السابق.

(4/569)


بعض أصحابه أن يغدر به ويكبسه ففعل ذلك، وأتى لعليّ بن كلونة عيونه بالخبر، فأرصد جماعة لمعز الدولة بمضيق في طريقه، فلمّا مر بهم ساريا ثاروا به من جوانبه وقتلوا من أصحابه وأسروا وأصابته جراح كثيرة، وقطعت يده اليسرى من نصف الذراع، وأصابع يده اليمنى وسقط بين القتلى، وبلغ الخبر إلى جيرفت فهرب أصحابه منها، وجاء علي بن كلونة فحمله من بين القتلى إلى جيرفت وأحضر الأطباء لعلاجه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعتذر ويبذل الطاعة فأجابه وأصلحه، وسار محمد بن الياس من سجستان إلى بلد خبابة [1] فتوجه إليه معز الدولة وهزمه وعاد ظافرا، ومرّ بابن كلونة فقاتله وهزمه وأثخن في أصحابه، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بخبره مع ابن الياس وابن كلونة، فبعث قائدا من قوّاده واستقدمه إليه بفارس فأقام عنده بإصطخر إلى أن قدم عليهم أبو عبد الله البريدي منهزما من ابن رائق ويحكم المتغلّبين على الخلافة ببغداد، فبعث عماد الدولة أخاه معز الدولة وجعل له ملك العراق عوضا عن ملك كرمان كما يذكر بعد.
(استيلاء ماكان على جرجان وانتقاضه على ابن سامان)
قد ذكرنا انهزام ما كان على جرجان أيام بانجين الديلميّ ورجوعه إلى نيسابور، فأقام بها ثم بلغ الخبر بمهلك بانجين بجرجان فاستأذن ماكان محمد بن المظفّر في الخروج لاتباع بعض أصحابه هرب عنه وطالبه به عارض الجيش فأذن له، وسار إلى أسفراين [2] وبعث معه جماعة من عسكره إلى جرجان فاستولى عليها. ثم أظهر لوقته الانتقاض على ابن المظفّر وسار إليه بنيسابور، فتخاذل أصحابه وهرب عنها الى سرخس، وعاد عنها ماكان خوفا من اجتماع العساكر عليه. وذلك في رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
__________
[1] جنّابة: ابن الأثير ج 8 ص 327.
[2] أسفرايين: المرجع السابق.

(4/570)


الخبر عن دولة بني بويه من الديلم المتغلبين على العراقين وفارس والمستبدين على الخلفاء ببغداد من خلافة المستكفي الى أن صاروا في كفالتهم وتحت حجرهم الى انقراض دولتهم وأولية ذلك ومصايره
قد تقدّم لنا التعريف ببني بويه وذكر نسبهم وهم من قوّاد الديلم الذين تطاولوا للاستيلاء على أعمال الخلفاء العباسيّين، ولمّا لم يروا عنها مدافعا ولا لها حامية فتنقّلوا في نواحيها، وملك كل واحد منهم أعمالا منها. واستولى بنو بويه على أصفهان والريّ، ثم انعطفوا على بلاد فارس فملكوا أرّجان وما إليها. ثم استولوا على شيراز وأعمالها وأحاطوا بأعمال الخلافة بنواحي بغداد من شرقها وشمالها، وكانت الخلافة قد طرقها الإعلال، وغلب عليها الموالي والصنائع، وقد كان ابو بكر محمد بن رائق عاملا بواسط، واضطرب حال الراضي ببغداد فاستقدمه وقلّده إمارة الجيوش، ونعته أمير الأمراء. وكان بنو البريديّ في خوزستان والأهواز فغصّوا به، ووقعت الوحشة بينه وبينهم فبعث ابن رائق بدرا الخرشنيّ ويحكم الّذي نزع إليه أتراك مرداويج، فساروا في العسكر لقتال ابن البريديّ، واستولوا على الأهواز سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولحق ابن البريديّ بعماد الدولة بن بويه لما ملك العراق، وسهّل عليه أمره. وذلك عند رجوع أخيه معز الدولة من كرمان وامتناعها عليه كما ذكرناه فبعث معه العساكر.
(استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز)
لما لحق أبو عبد الله البريدي بعماد الدولة ناجيا من الأهواز، مستنجدا له، بعث أخاه معزّ الدولة في العساكر بعد أن أخذ منه ابنيه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفياض رهنا. وسار معزّ الدولة سنة ست وعشرين وثلاثمائة فانتهى إلى أرّجان ويحكم جاء للقائهم، وانهزم أمامهم إلى الأهواز فأقام بها، وأنزل بها بعض عسكره في عسكر

(4/571)


مكرم، فقاتلوا معزّ الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انهزموا الى تستر، فرحل معزّ الدولة إلى عسكر مكرم، وأنفذ ابن البريدي خليفته إلى الأهواز. ثم بعث إلى معزّ الدولة بأن ينتقل الى السوس، ويبعد عنه فيؤمن له الأهواز فعزله وزيره أبو جعفر الصيمريّ وغيره من أصحابه، وأروه أنّ البريديّ يخادعه، فامتنع معزّ الدولة من ذلك، وبلغ اختلافهم إلى يحكم، فبعث عسكرا من قبله فاستولى على الناس وجنّد نيسابور وبقية الأهواز بيد ابن البريدي وعسكر مكرم بيد معز الدولة. وضاق حال جنده وتحدّثوا في الرجوع إلى فارس فواعدهم لشهر، وكتب إلى أخيه عماد الدولة بالخبر، فبعث إليه مددا من العسكر، فعادوا واستولوا على الأهواز. وسار يحكم من واسط فاستولى على بغداد وقلّده الراضي إمارة الأمراء، وهرب ابن رائق فاختفى ببغداد.
انتزاع وشمكير أصفهان من يد ركن الدولة ومسيره الى واسط ثم استرجاعه أصفهان
قد ذكرنا أن وشمكير المستولي بعد أخيه مرداويج على الريّ، كان عماد الدولة استولى على أصفهان ودفعها إلى أخيه ركن الدولة فبعث إليها وشمكير سنة سبع وعشرين وثلاثمائة جيشا كثيفا من الريّ فملكوها من يده وخطبوا فيها لوشمكير. ثم سار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها، ورجع فلحق ركن الدولة بإصطخر، وجاءه لك رسول أخيه معز الدولة من الأهواز بأنّ ابن البريدي أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدها من الديلم، وأنّ الوزير أبا جعفر الصيمري كان على خراجها محتصرا بقلعة السوس، فسار ركن الدولة إلى السوس وهرب عساكر ابن البريدي بين يديه. ثم سار إلى واسط ليستولي عليها لأنه قد خرج عن أصفهان وليس له ملك يستقل به، فنزل بالجانب الشرقي وسار الراضي ويحكم من بغداد لحربه، فاضطرب أصحابه، واستأمن جماعة منهم لابن البريدي فخام ركن الدولة عن اللقاء، ورجع إلى الأهواز فسار إلى أصفهان، وهزم عسكر وشمكير بها وملكها. وكان هو وأخوه عماد الدولة بعثا لابن محتاج صاحب خراسان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، واتصلت بينهم مودّة
.

(4/572)


(مسير معز الدولة الى واسط والبصرة)
كان ابن البريدي بالبصرة وواسط قد صالح يحكم [1] أمير الأمراء ببغداد، وحرّضه على المسير إلى الجبل ليرجعها من يد ركن الدولة بن بويه، ويسير هو إلى الأهواز فيرتجعها من يد معز الدولة. واستمدّ يحكم فأمدّه بخمسمائة رجل، وسار إلى حلوان في انتظاره. وأقام ابن البريدي يتربّص به، وينتظر أن يبعد عن بغداد فيهجم هو عليها، وعلم يحكم بذلك فرجع إلى بغداد، ثم سار إلى واسط فانتزعها من يد ابن البريدي، وذلك لسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وولي الخلافة المتّقي، وكان ظلّ الدولة العبّاسيّة قد تقلّص حتى قارب التلاشي والاضمحلال وتحكّم على الدولة بعد مولاه ابن رائق وابن البريدي الّذي كان يزاحمه في التغلب على الدولة، فبعث عساكره من البصرة إلى واسط، فسرّح إليه يحكم العساكر مع مولاه توزون فهزمهم، وجاء يحكم على أثره، ولقيه خبر هزيمتهم، فاستقام أمره، وطفق يتصدّق في تلك النواحي إلى أن عرض له بعض الأكراد ممن له عنده ثأر وهو منفرد عن عسكره فقتله، وافترق أصحابه فلحق جماعة من الأتراك بالشام، ومقدّمهم توزون وولّى الباقون عليهم يكسك مولى يحكم، وكان الديلم عند مقتله قد ولّوا عليهم باسوار بن ملك بن مسافر بن سلّار [2] وسلّار جدّه صاحب شميران الطرم الّذي داخل مرداويج في قتل أسفار وملك ابنه محمد بن مسافر بن سلّار أذربيجان، فكانت له ولولده بها دولة. ووقعت الفتنة بين الديلم والأتراك فقتله الأتراك، وولّى الديلم مكانه كورتكين، ولحقوا بابن البريديّ فزحف بهم إلى بغداد. ثم تنكّروا واتفقوا مع الأتراك على طرده فلحقوا بواسط، واستفحل الديلم وغلبوا الأتراك وقتل كورتكين كثيرا من الديلم، واستبدّ بإمرة الأمراء ببغداد. ثم جاء توزون من الشام بابن رائق وهزم كورتكين الديلم وقتل أكثرهم، وانفرد ابن رائق بإمرة الأمراء ببغداد سنة اثنتين وثلاثمائة. وكان ابن البريدي في هذه الفترة بعد يحكم قد استولى على واسط، فبعث
__________
[1] هو بجكم كما مر معنا من قبل.
[2] بلسواز بن مالك بن مسافر: ابن الأثير ج 8 ص 372.

(4/573)


إليه ابن رائق واستوزره ففعل على أن يقيم بمكانه ويستخلف ابن شيرزاد ببغداد. ثم سار إليهم إلى واسط فهرب ابن رائق والمقتفي إلى الموصل، وتخلّف عنهم توزون، وعاث أصحاب ابن البريدي في بغداد، فشكا له الناس. ولما وصل المقتفي ولي ابن حمدان إمرة الأمراء بمكانه، وقصدوا بغداد فهرب، وخالفه توزون إلى المقتفي وابن حمدان وملكوا بغداد. وسار سيف الدولة أمام ابن البريديّ وخرج ناصر الدولة في اتباعه، فنزل المدائن وانكشف سيف الدولة أمام ابن البريديّ حتى انتهوا إلى أخيه ناصر الدولة بالمدائن، فأمدّه ورجع فهزم ابن البريدي وغلبه على واسط فملكها، ولحق ابن البريدي بالبصرة وأقام سيف الدولة بواسط ينتظر المدد ليسير إلى البصرة.
وجاءه أبو عبد الله الكوفي بالأموال، فشغب عليه الأتراك في طلب المال وثاروا به، ومقدّمهم توزون، فهرب إلى بغداد وهم في اتباعه، وكان أخوه قد انصرف إلى بغداد، ثم إلى الموصل فلحق به. ودخل توزون بغداد وولي الأمر بها. ثم استوحش من المقتفي وتربّص مسيره إلى واسط لقتال ابن البريدي، وسار إلى الموصل سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ومعزّ الدولة بن بويه في أثناء هذا كلّه مقيم بالأهواز، مطلّ على بغداد وأعمال الخليفة يروم التغلّب عليها، وأخوه عماد الدولة بفارس، وركن الدولة بأصفهان والريّ، فلمّا سار المقتفي من الرقّة إلى توزون خلعه وسمله ونصّب المكتفي.
وقد قدمنا هذه الأخبار كلها مستوعبة في أخبار الدولة العبّاسية وإنما أعددناها توطئة لاستيلاء بني بويه على بغداد واستبدادهم على الجلالقة. ثم عاد معزّ الدولة إلى واسط سنة ثلاث وثلاثين فسار توزون والمستكفي لدفاعه، ففارقها وعاد إلى الأهواز.
(استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانه)
ثم إنّ توزون في فاتح سنة أربع وثلاثين عقد الأتراك الرئاسة عليهم لابن شيرزاد، وولّاه المستكفي إمرة الأمراء في الأرزاق، فضاقت الجبايات على العمّال والكتّاب والتجّار، وامتدّت الايدي إلى أموال الرعايا، وفشا الظلم وظهرت اللصوص، وكبسوا المنازل وأخذ الناس في الجلاء عن بغداد. ثم استعمل ابن شيرزاد على واصل نيال كوشه، وعلى تكريت الفتح اليشكري فانتقضا، وسار الفتح لابن حمدان

(4/574)


فولّاه على تكريت من قبله وبدعوته، وبعث نيال كوشه إلى معزّ الدولة وقام بدعوته.
واستدعاه لملك بغداد فزحف إليها في عساكر الديلم، ولقيه ابن شيرزاد والأكراد فهزمهم، ولحقوا بالموصل وأخفي المستكفي وقدّم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلّبيّ إلى بغداد فدخلها، وظهر الخليفة من الاختفاء، وحضر عند المهلّبيّ فبايع له عن معزّ الدولة أحمد بن بويه، وعن أخويه عماد الدولة وركن الدولة الحسن.
وولّاهم المستكفي على أعمالهم ولقّبهم بهذه الألقاب ورسمها على سكّته. ثم جاء معزّ الدولة إلى بغداد فملكها وصرف الخليفة في حكمه، واختصّ باسم السلطان، وبعث إليه أبو القاسم البريدي صاحب البصرة فضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها.
(خلع المستكفي وبيعة المطيع وما حدث في الجباية والاقطاع)
وبعد أشهر قلائل من استيلاء معزّ الدولة على بغداد نمي إليه أن المستكفي يريد الادالة منه فتنكّر له، وأجلسه في يوم مشهود للقاء وافد من أصحاب خراسان، وحضر معزّ الدولة في قومه وعشيرته، وأمر رجلين من نقباء الديلم بالفتك بالخليفة، فتقدّما ووصلاه ليقبّلا يد المستكفي، ثم جذباه عن سريره وقاداه ماشيا واعتقلاه بداره، وذلك في منتصف أربع وثلاثين وثلاثمائة فاضطرب الناس وعظم النهب، ونهبت دار الخلافة. وبايع معزّ الدولة للفضل بن المقتدر ولقبه المطيع للَّه، وأحضر المستكفي فأشهد على نفسه بالخلع، وسلّم على المطيع بالخلافة، وسلب الخليفة من معاني الأمر والنهي وصيّرت الوزارة إلى معزّ الدولة يولى فيها من يرى. وصار وزير الخليفة مقصور النظر على إقطاعه ومقتات داره، وتسلّم عمّال معز الدولة وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وأراضيه ولاية وإقطاعا حتى كان الخليفة يتناول الإقطاع بمراسم معزّ الدولة، وإنما ينفرد بالسرير والمنبر والسكّة والختم على الرسائل والصكوك، والجلوس للوفد وإجلال التحيّة والخطاب، ومع ذلك بأوضاع القائم على الدولة وترتيبه، وكان القائم منهم على الدولة تفرّد في دولة بني بويه والسلجوقيّة بلقب السلطان ولا يشاركه فيه غيره، ومعاني الملك من القدرة والأبهة والعزّ وتصريف الأمر والنهي حاصل للسلطان دون الخليفة. وكانت الخلافة حاصلة للعبّاسي

(4/575)


المنصوب لفظا مسلوبة عنه معنى. ثم طلب الجند أرزاقهم بأكثر من العادة لتجدّد الدولة فاضطر إلى ضرب المكوس، ومدّ الأيدي إلى أموال الناس، وأقطعت جميع القرى والضياع للجند، فارتفعت أيدي العمّال وبطلت الدواوين لأنّ ماكان منها بأيدي الرؤساء لا يقدرون على النظر فيها، وماكان بأيدي الأتباع خرّب بالظلم والمصادرات والحيف في الجباية وإهمال النظر في إصلاح القناطر وتعديل المشارب، وما خرّب منها عوّض صاحبه عنه بآخر، فيخرّبه كما يخرّب الآخر. ثم إنّ معزّ الدولة أفرد جمعها من المكوس والظلامات وعجز السلطان عن ذخيرة يعدّها لنوائبه. ثم استكثر من الموالي ليعتزّ بهم على قومه، وفرض لهم الأرزاق والأقطاع فحدثت غيرة قومه من ذلك، وآل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في الدول.
(مسير ابن حمدان إلى بغداد وانهزامه أمام معز الدولة)
ولما بلغ استيلاء معزّ الدولة على بغداد، وخلعه المستكفي إلى ناصر الدولة بن حمدان امتعض لذلك وسار من الموصل إلى بغداد في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فقدّم معز الدولة عساكره فأوقع بها ابن حمدان بعكبرا. ثم سار معزّ الدولة ومعه المطيع إلى مدافعته ولحق به ابن شيرزاد فاستحثّه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخالفه معزّ الدولة إلى تكريت ونهبها، وتسابقوا جميعا إلى بغداد، فنزل معزّ الدولة والمطيع بالجانب الشرقي وابن حمدان بالجانب الغربي، فقطع الميرة عن معسكر معزّ الدولة فغلت الأسعار وعزّت الأقوات. ونهب عسكره مرارا فضاق به الأمر واعتزم على العود إلى الأهواز فأمر وزيره أبا جعفر الصيمريّ بالعبور في العساكر لقتال ابن حمدان فظفر به الصيمريّ وغنم الديلم أموالهم وظهرهم. ثم أمّن معز الدولة الناس وأعاد المطيع إلى داره في محرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ورجع ابن حمدان إلى عكبرا، وأرسل في الصلح سرا فنكر عليه الأتراك التورونية وهمّوا بقتله، وفرّ إلى الموصل ومعه ابن شيرزاد، ثم صالحه معز الدولة كما طلب. ولما فرّ عن الأتراك التورونية أعلمهم تكين الشيرازي فقبضوا على من تخلّف من أصحابه، وساروا في اتباعه وقبض هو في طريقه على ابن شيرزاد، وتجاوز الموصل إلى نصيبين فملكها تكين، وسار في اتباعه

(4/576)


إلى السّند، فلحقه هنالك عسكر من معزّ الدولة كما طلب، وأمدّه به مع وزيره أبي جعفر الصيمريّ، وقاتل الأتراك فهزمهم، وسار إلى الموصل هو والصيمريّ فدفع ابن شيرزاد إلى الصيمريّ وحمله إلى معز الدولة، وذلك سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
(استيلاء معز الدولة على البصرة والموصل وصلحه مع ابن حمدان)
وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة انتقض أبو القاسم بن البريدي بالبصرة، فجهّز معزّ الدولة الجيش إلى واسط ولقيهم جيش ابن البريدي في الماء وعلى الظهر، فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة. ثم سار معزّ الدولة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى البصرة ومعه المطيع كارها من قتال أبي القاسم البريدي، وسلكوا إليها البرّية وبعث القرامطة يعزلون في ذلك معزّ الدولة، فكتب يتهدّدهم. ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم، وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه وملك معزّ الدولة البصرة.
ثم سار هو منها إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة، وترك المطيع وأبا جعفر الصيمري بالبصرة، وانتقض على معزّ الدولة كوكير من أكابر الديلم، فقاتله الصيمريّ وهزمه وأسره، وحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز. ثم لقي أخاه معزّ الدولة بأرّجان في شعبان من السنة، وسلك في تعظيمه وإجلاله من وراء الغاية. وكان عماد الدولة يأمره بالجلوس في مجلسه فلا يفعل. ثم عاد معزّ الدولة والمطيع إلى بغداد، ونودي بالمسير إلى الموصل فتردّدت الرسل من ابن حمدان في الصلح وحمل المال. ثم سار إليه سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في شهر رمضان واستولى على الموصل، وأراد الإثخان في بلاد ابن حمدان فجاءه الخبر عن أخيه ركن الدولة بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان، واضطرّ إلى الصلح. واستقرّ الصلح بينهما على أن يعطي ابن حمدان عن الموصل والجزيرة والشام ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، ويخطب لعماد الدولة ومعزّ الدولة في بلاده، وعاد إلى بغداد.
ابن خلدون م 37 ج 4

(4/577)


(استيلاء ركن الدولة على الريّ ثم طبرستان وجرجان ومسير عساكر ابن سامان اليها)
قد تقدّم لنا استيلاء ركن الدولة على أصفهان من يد وشمكير حين بعث عساكره مددا لما كان بن كالي، وكان ركن الدولة وأخوه عماد الدولة بعثا إلى أبي علي بن محتاج قائد بني سامان يحرّضانه على ماكان ووشمكير، ويعدانه المظاهرة عليهما، فسار أبو علي إلى وشمكير بالريّ ولقيه ركن الدولة بنفسه. واستمدّ وشمكير ماكان فجاءه في عساكره والتقوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان. ثم سار بعساكره إلى بلد الجيل فاقتحمها واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقمّ وكرج وهمدان ونهاوند والدّينور إلى حدود حلوان، ورتّب فيها العمّال وجبى أموالها. ثم وقع خلاف بين وشمكير والحسن بن الفيرزان ابن عم ماكان، واستنجد الحسن بأبي علي بن محتاج فأنجده حتى وقع بينهما صلح، وعاد أبو علي إلى خراسان وصحبه الحسن بن الفيرزان، ولقيه في طريقه رسل السعيد بن سامان، وأمر أبا علي بن محتاج سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بغدر الحسن بأبي علي [1] ونهب سواده وعاد إلى جرجان فملكها وملك معها الدّامغان وسمنان، وسار وشمكير من طبرستان إلى الريّ فاستولى عليها أجمع، وكان في فلّ من العسكر لفناء رجاله في حروبه مع أبي علي بن محتاج والحسن بن الفيرزان، فتطاول حينئذ ركن الدولة إلى الاستيلاء على الريّ، وسار إلى الريّ وقاتل وشمكير فهزمه، فلحق بطبرستان واستولى ركن الدولة على الريّ. وأجمع مخالصة الحسن بن الفيرزان وزوّجه ابنته، وتمسّك بمواصلته ومودّته واستفحل بذلك ملك بني بويه وامتنع وصارت لهم أعمال الريّ والجيل وفارس والأهواز والعراق. ويحمل إليهم ضمان الموصل
__________
[1] العبارة غير واضحة ومبهمة وفي الكامل تصويب لهذه العبارة في الجزء الثامن ص 444: «فوضع أعداء أبي عليّ جماعة من الغوغاء والعامة، فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور وعاد عنها إلى بخارى في رمضان، وكان مرادهم بذلك أن يقطعوا طمع أبي علي عن خراسان ليقيم بالريّ وبلاد الجبل، فاستوحش ابو عليّ لذلك، فإنه كان يعتقد أنه يحسن إليه بسبب فتح الريّ وتلك الأعمال. فلمّا عزل شقّ ذلك عليه، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمد إلى كور الجبال، وولّاه همذان، وجعله خليفة على من معه من العساكر، فقصد الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها» .

(4/578)


وديار بكر. ثم سار ركن الدولة بن بويه إلى بلاد وشمكير سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومعه الحسن بن الفيرزان مددا، ولقيهما وشمكير فانهزم أمامهما، ولحق بخراسان مستنجدا بابن سامان، وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان فأطاعه الحسن بن الفيرزان وولّاه ركن الدولة عليها، واستأمن إليه قوّاد وشمكير ورجع إلى أصفهان.
(بداية بني شاهين ملوك البطيحة أيام بني بويه)
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة وكان يتصرّف في الجباية، وحصل منها بيده مال فصرفه وهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء وطيره، ويأخذ الرفاق التي تمرّ به، واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان وتمسّك بطاعة أبي القاسم بن البريدي بالبصرة فقلّده حماية الجامدة وحماية البطائح ونواحيها، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتّخذ معاقل على التلال بالبطيحة وغلب على تلك النواحي. وأهمّ معزّ الدولة أمره وبعث وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وحصره، وأيقن بالهلاك وما نفس عن مخنقه إلا وصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه، ومبادرة الوزير الصيمريّ إلى شيراز، فعاد عمران إلى حاله وقوي أمره كما يأتي في أخبار دولته.
(وفاة عماد الدولة بن بويه وولاية عضد الدولة ابن أخيه على بلاد فارس مكانه)
ثم توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز كرسي مملكة فارس في منتصف سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد أن كان طلب من أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة، فتأخر ليوليه عهده إذ لم يكن له ولد ذكر، فأنفذه إليه ركن الدولة في جماعة من أصحابه لسنة بقيت من حياته. وركب عماد الدولة للقائه ودخل

(4/579)


به إلى داره في يوم مشهود، وأجلسه على السرير وأمر الناس أن يحيّوه بتحية الملك.
وكان في قوّاد عماد الدولة جماعة أكابر لا يستكينون لعماد الدولة فضلا عن عضد الدولة مكانه بفارس، واختلف عليه أصحابه، فجاء إليه ركن الدولة أبوه من الريّ بعد أن استخلف عليها علي بن كتامة، وكتب معزّ الدولة إلى وزيره الصيمريّ بأن يترك محاربة ابن شاهين ويسير إلى شيراز مددا لعضد الدولة. وأقام ركن الدولة في شيراز تسعة أشهر، وبعث إلى أخيه معزّ الدولة بهدية من الأموال والسلاح، وكان عماد الدولة هو أمير الأمراء وإنما كان معزّ الدولة نائبا عنه في كفالة الأموال وولاية أعمال العراق، فلما مات عماد الدولة وانقلبت إمرة الأمراء إلى ركن الدولة. وبقي معزّ الدولة نائبا عنه كما كان عن عماد الدولة لأنه كان أصغر منهما.
(وفاة الصيمري ووزارة المهلبي)
كان أبو جعفر أحمد الصيمري وزير معز الدولة قد عاد من فارس إلى أعمال الجامدة، وأقام يحاصر عمران بن شاهين إلى أن هلك منتصف تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان يستخلف بحضرة معزّ الدولة في وزارته أبا محمد الحسن بن محمد المهلبيّ، فباشره معزّ الدولة وعرف كفايته واضطلاعه، فاستوزره مكان الصيمريّ فحسن أثره في جمع الأموال وكشف الظلامات وتقريب أهل العلم والأدب والإحسان إليهم.
(مسير عساكر ابن سامان إلى الري ورجوعها)
لما سار ركن الدولة إلى بلاد فارس بعث الأمير نوح بن سامان إلى منصور بن قراتكين صاحب جيوشه بخراسان أن يسير إلى الريّ، فسار إليها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وكان بها عليّ بن كتامة خليفة ركن الدولة، ففارقها إلى أصفهان وملك منصور الري، وبث العساكر في البلاد فملكوا الجيل إلى قرميس، واستولوا على همذان، وبعث ركن الدولة من فارس إلى أخيه معزّ الدولة بإنفاذ العساكر إلى مدافعتهم، فبعث سبكتكين الحاجب في جيش كثيف من الديلم وغيرهم، فكبسهم وأسر

(4/580)


مقدّمهم فأعادوا إلى همذان. ثم سار إليهم ففارقوها، وملكها وورد عليه ركن الدولة بهمذان، فعدل منصور بن قراتكين إلى أصفهان فملكها، وسار إليها ركن الدولة وسبكتكين في مقدّمته، وشغب عليه بعض الأتراك فأوقع بهم وتردّدوا في تلك الناحية. وكتب معزّ الدولة إلى ابن أبي الشوك الكرديّ يتبعهم فقتل منهم وأسر، ونجا بعض إلى الموصل. وترك ركن الدولة قريبا من أصفهان، وجرت بينه وبين منصور حروب، وضاقت الميرة على الفريقين إلّا أنّ الديلم كانوا أصبر على الجوع وشظف العيش من أهل خراسان لقرب عهدهم بالبداوة. ومع ذلك فهمّ ركن الدولة بالفرار لولا وزيره ابن العميد كان يثبته ويريه أنه لا يغني عنه، وأنّ الاستماتة أولى به، فصبر وشغب على منصور بن قراتكين جنده وانفضّوا جميعا إلى الريّ وتركوا مخلفهم بأصفهان، فاحتوى عليه ركن الدولة، وذلك فاتح سنة أربعين وثلاثمائة ومات منصور بن قراتكين بالريّ في ربيع الأوّل من السنة، ورجعت العساكر إلى نيسابور.
(استيلاء ركن الدولة ثانيا على طبرستان وجرجان)
قد كنا قدّمنا استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وأنه استخلف على جرجان الحسن بن الفيرزان. وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فسار معه صاحب جيوش خراسان منصور بن قراتكين، وحاصر جرجان، فصالحه الحسن بن الفيرزان بغير رضا من وشمكير لانحرافه عنه وعن الأمير نوح.
ورجع إلى نيسابور وأقام وشمكير بجرجان والحسن بزوزن. ثم سار ركن الدولة سنة أربعين وثلاثمائة من الريّ إلى طبرستان وجرجان ففارقها وشمكير إلى نيسابور، واستولى ركن الدولة عليها، واستخلف بجرجان الحسن بن الفيرزان وعليّ بن كتامة، وعاد إلى الريّ فقصدهما وشمكير وانهزما منه، واستردّ البلاد من ركن الدولة، وكتب الأمير نوح يستنجده على ركن الدولة، فأمر أبا عليّ بن محتاج بالمسير معه في جيوش خراسان، فسار في ربيع سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وامتنع ركن الدولة ببعض معاقلة، وحاربه أبو عليّ بن محتاج في جيوش خراسان حتى ضجرت عساكره

(4/581)


وأظلهم فصل الشتاء، فراسل ركن الدولة في الصلح على أن يعطيهم ركن الدولة مائتي ألف دينار في كل سنة، وعاد إلى خراسان. وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأنّ ابن محتاج لم ينصح في أمر ركن الدولة، وأنه ممالئ، فسخطه من أجل ذلك وعزله عن خراسان. ولما عاد ابن محتاج عن ركن الدولة سار هو إلى وشمكير فانهزم وشمكير إلى أسفراين، واستولى ركن الدولة على طبرستان.
(اقامة الدعوة لبني بويه بخراسان)
ولما عزل الأمير نوح أبا علي بن محتاج عن خراسان استعمل مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فانتقض حينئذ وخطب لنفسه بنيسابور، وتحيّز عنه ابن الفيرزان مع وشمكير إلى الأمير نوح، فخام ابن محتاج عن عداوتهم، واستأذن ركن الدولة في المسير إليه. ثم سار سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه بأنواع الكرامات وسأل منه ابن محتاج أن يقتضي له عهد الخليفة بولاية خراسان، فبعث ركن الدولة في ذلك إلى أخيه معزّ الدولة ببغداد، وجاءه العهد والمدد، فسار إلى خراسان فخطب بها للخليفة وركن الدولة. ثم مات نوح خلال ذلك وولي ابنه عبد الملك فبعث بكر بن مالك من بخارى إلى خراسان لإخراج ابن محتاج منها، فسار إليه وهرب ابن محتاج إلى الريّ فآواه ركن الدولة وأقام عنده، واستولى بكر بن مالك على خراسان. ثم سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه ابن محتاج فتركها [1] وملكها، ولحق وشمكير بخراسان.
(مسير عساكر ابن سامان الى الري وأصفهان)
ولما فرغ بكر بن مالك من أمر خراسان وأخرج منها ابن محتاج، سار منها سنة أربع وأربعين وثلاثمائة في أتباعه الى الري وأصفهان، وكان ركن الدولة غائبا بجرجان فملكها ورجع إلى الريّ في المحرّم من السنة، وكتب إلى أخيه معز الدولة يستمدّه فأمده
__________
[1] حسب مقتضى السياق دخلها وليس تركها.

(4/582)


بالعساكر مع ابن سبكتكين، وجاء مقدّمة العساكر من خراسان إلى أصفهان من طريق المفازة وبها الأمير منصور بن بويه بن ركن الدولة، ومقدّم العساكر محمد بن ماكان فملك أصفهان وخرج في طلب ابن بويه [1] ، واتفق وصول الوزير أبي الفضل بن العميد فلقيه محمد بن ماكان فهزمه، وعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصفهان. وراسل ركن الدولة بكر بن مالك صاحب العساكر بخراسان في الصلح على مال يحمله إليه، وتكون الريّ وبلد الجيل في ضمانه، فأجابه بكر بن مالك إلى ذلك وصالحه عليه، وكتب ركن الدولة إلى أخيه معزّ الدولة بأن يبعث إلى بكر بن مالك خلعا ولواء لولاية خراسان فبعث بها في ذي القعدة من السنة.
(خروج روزبهان على معز الدولة وميل الديلم اليه)
كان روزبهان ونداد خرسية [2] من كبار قوّاد الديلم، وكان معزّ الدولة قد رفعه ونوّه بذكره، فخرج سنة خمس وأربعين بالأهواز ومعه أخوه أسفار، وخرج أخو بلكا بشيراز. ولمّا خرج روزبهان زحف إليه الوزير المهلّبيّ لقتاله فنزع الكثير من أصحابه إلى روزبهان فانحاز عنه، وبعث بالخبر إلى معزّ الدولة فسار إليهم واختلف عليه الديلم ومالوا مع روزبهان وفصل معزّ الدولة من بغداد خامس شعبان من السنة قاصدا لحربه، وبلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان، فبعث ابنه أبا الرجال في العساكر للاستيلاء على بغداد، فخرج الخليفة عنها منحدرا، وأعاد معزّ الدولة سبكتكين الحاجب وغيره لمدافعة ابن حمدان عن بغداد. وسار إلى أن قارب الأهواز
__________
[1] المعنى غير واضح والضمائر متداخلة والجمل معقدة وهذا الأسلوب كثيرا ما يلجأ إليه ابن خلدون مما يجعل القارئ امام حيرة وتتحول المعاني البسيطة الى الغاز. وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 511 «وفي هذه السنة- 344- خرج عسكر خراسان إلى الريّ، وبها ركن الدولة وكان قد قدمها من جرجان أول المحرّم، فكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده، فأمدّه بعسكر مقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر من خراسان عسكرا آخر إلى أصبهان على طريق المفازة، وبها الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة. فلما بلغه خبرهم سار عن أصفهان بالخزائن والحرم التي لأبيه فبلغوا خان لنجان، وكان مقدّمهم العسكر الخراساني محمد بن ماكان، فوصلوا إلى أصبهان، فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه ... » .
[2] روزبهان بن ونداد خرشيد الديلميّ: ابن الأثير ج 8 ص 514.

(4/583)


والديلم في شغب عليه وعلى عزم اللحاق بروزبهان إلّا نفرا يسيرا من الديلم كانوا خالصة، فكان يعتمد عليهم وعلى الأتراك، وكان يفيض العطاء في الديلم فيمسكون عما يهمون به. ثم ناجز روزبهان الحرب سلخ رمضان فانهزم وأخذ أسيرا، وعاد إلى بغداد إلى أبي الرجال بن حمدان، وكان بعكبرا فلم يجده لأنه بلغه خبر روزبهان فأسرع العود الى الموصل ودخل معز الدولة بغداد وغرق روزبهان وكان أخوه بلكا الخارج بشيراز أزعج عنها عضد الدولة، وسار إليه أبو الفضل بن العميد وقاتله فظفر به، وعاد عضد الدولة إلى ملكه وانمحى أثر روزبهان وإخوته، وقبض معز الدولة على جماعة منهم ممن ارتاب بهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم وأقطع لهم فاعتزوا وامتدّت أيديهم.
(استيلاء معز الدولة على الموصل ثم عودها)
كان ناصر الدولة بن حمدان قد صالح معز الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة، ثم لم يحمل، فسار إليه معزّ الدولة منتصف سبع وأربعين وثلاثمائة ففارق الموصل إلى نصيبين، وحمل معه سائر أهل دولته من الوكلاء والكتّاب ومن يعرف وجوه المال، وأنزلهم في قلاعه كقلعة كواشي والزعفران وغيرهما. وقطع الميرة عن عسكر معزّ الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فسار معز الدولة إلى نصيبين للميرة، وبلغه أنّ أبا الرجاء وهبة الله في عسكر سنجار، فبعث إليهم بعض عساكره وكبسوهم فهربوا، واستولى العسكر على مخلّفهم، ونزلوا في خيامهم، وكرّ عليهم أولاد ناصر الدولة وهم غارّون فأثخنوا فيهم وأقاموا بسنجار. وسار معزّ الدولة إلى نصيبين فلحق ناصر الدولة بميافارقين، واستأمن الكثير من أصحابه إلى معز الدولة فلحق بأخيه سيف الدولة بحلب، فبالغ في تكرمته وخدمته، وتوسّط في الصلح بينه وبين معزّ الدولة بثلاثة آلاف ألف فأجابه معزّ الدولة وتم ذلك بينهما. ورجع معزّ الدولة العراق في محرّم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة
.

(4/584)


(العهد لبختيار)
وفي سنة خمس [1] وأربعين وثلاثمائة طرق معزّ الدولة مرض استكان له وخشي على نفسه، فأراد العهد لابنه بختيار، وعهد إليه بالأمر وسلّم له الأموال، وكان بين الحاجب سبكتكين والوزير المهلّبيّ منافرة فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وعهد إليه بالأمور واعتزم على العود إلى الأهواز مستوحشا هواء بغداد، فلما بلغ كلواذا اجتمع به أصحابه وسفّهوا رأيه في الانتقال من بغداد على ملكه، وأشاروا عليه بالعود إليها وأن يستطيب الهواء في بعض جوانبها المرتفعة ويبني بها دورا لسكنه ففعل، وأنفق فيها ألف ألف دينار وصادر فيها جماعة من أصحابه.
(استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان)
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فحاصره بمدينة سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وترك طبرستان فملكها ركن الدولة وأصلح أمرها. ثم سار إلى جرجان فخرج عنها وشمكير واستولى عليها ركن الدولة، واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد بهم قوة، ودخل وشمكير بلاد الجيل مسلوبا واهنا.
(ظهور البدعة ببغداد)
وفي هذه السنة كتب الشيعة على المساجد بأمر معزّ الدولة لعن معاوية بن أبي سفيان صريحا، ولعن من غصب فاطمة فدك، ومن منع أن يدفن الحسن عند جدّه، ومن نفى أبا ذرّ الغفاريّ ومن أخرج العبّاس من الشورى، ونسب ذلك كلّه لمعزّ الدولة لعجز الخليفة. ثم أصبح ممحوّا وأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلّبيّ بأن يكتب مكانه لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يذكر أحدا باللعن إلّا معاوية رضي الله عنه.
__________
[1] وفي الكامل ج 8 ص 510: سنة 344.

(4/585)


(وفاة الوزير المهلبي)
وفي سنة اثنتين وخمسين سار المهلبّي وزير معز الدولة إلى عمان ليفتحها، فلما ركب البحر طرقه المرض فعاد إلى بغداد، ومات في طريقه في شعبان من السنة، ودفن ببغداد. وقبض معزّ الدولة أمواله وذخائره وقبض على حواشيه وحبسهم، ونظر في الأمور بعده أبو الفضل بن العبّاس بن الحسن الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العبّاس بن نساقجر، ولم يتسمّوا باسم الوزارة.
(استيلاء معز الدولة ثالثا على الموصل)
كان ناصر الدولة بن حمدان قد ضمن الموصل كما تقدّم، وأجابه معزّ الدولة إلى ضمانه، فبذل له ناصر الدولة زيادة على أن يدخل معه في الضمان أبو ثعلب فضل الله الغضنفر، ويحلف لهما معزّ الدولة فأبى من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين وثلاثمائة ففارقها ابن حمدان الى نصيبين وملكها معز الدولة. ثم خرج إلى طلب ابن حمدان منتصف شعبان واستخلف على الموصل بكتوزون [1] وسبكتكين العجميّ وسار ابن حمدان عن نصيبين وملكها معزّ الدولة، وخالفه ابن حمدان إلى الموصل وحارب عسكر معز الدولة فيها فهزموه، وجاء الخبر إلى معزّ الدولة، فظفر أصحابه بابن حمدان، وسار ونزل جزيرة ابن عمر، فسار في اتباعه، فوصل سادس رمضان فوجده قد جمع أولاده وعساكره إلى الموصل، فأوقع بأصحاب معز الدولة وأسر الأميرين اللذين خلفا بها، واستولى على ما خلّفوه من مال وسلاح، وحمل الجميع مع الأسرى إلى قلعة كواشى، فأعيا معزّ الدولة أمره وهو من مكان إلى مكان في اتباعه، فأجابه إلى الصلح وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة بمال قرّره، فاستقرّ الصلح على ذلك، وأطلق ابن حمدان الأسرى، ورجع معز الدولة إلى بغداد.
__________
[1] بكتوزون: ابن الأثير ج 8 ص 553.

(4/586)


(استيلاء معز الدولة على عمان)
قد تقدّم لنا أن عمان كانت ليوسف بن وجيه وأنه حارب بني البريديّ بالبصرة حتى قارب أخذها حتى عملوا الحيلة في إضرام النار في سفنه فولّى هاربا في محرّم سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وأنه ثار عليه مولاه في هذه السنة فغلبه على البلد وملكها من يده. ولما استوحش معزّ الدولة من القرامطة، كتب إليهم ابن وجيه صاحب عمان يطمعهم في البصرة، واستمدّهم في البرّ وسار هو في البحر سنة إحدى وأربعين، وسابقه الوزير المهلّبيّ من الأهواز إليها، وأمدّه معزّ الدولة بالعساكر والمال فاقتتلوا أياما، ثم ظفر المهلّبيّ بمراكبه وما فيها من سلاح وعدّة. ولم يزل القرامطة يثاورونها حتى غلبوا عليها سنة أربع وخمسين وثلاثمائة واستولوا عليها وهرب رافع عنها. وكان له كاتب يعرف بعليّ بن أحمد ينظر في أمور البلد، والقرامطة بمكانهم من هجر، فاتفق قاضي البلد وكان ذا مشير وعصابة على أن ينصبّوا للنظر في أمورهم أحد قوّادهم، فقدّموا لذلك ابن طغان ففتك بجميع القوّاد الذين معه، وثأر منه بعض قرابتهم فقتلوه، فاجتمع الناس على تقديم عبد الوهاب بن أحمد بن مروان من قرابة القاضي مكانه فولّوه، واستكتب عليّ بن أحمد كاتب القرامطة قبله من الجند فامتعضوا لذلك فدعاهم إلى بيعته فأجابوه وسوّاهم في العطاء مع البيض فسخط البيض ذلك [1] ، ودارت بينهم حرب سكنوا آخرها واتفقوا وأخرجوا عبد الوهاب من البلد، واستقرّ عليّ بن أحمد الكاتب أميرا فيها، ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وقدّم إليه نافع مولى ابن أخيه الّذي كان ملكها بعد مولاه، فأحسن إليه وأقام عنده حتى فرغ من أمر عمران بن شاهين، وانحدر إلى الأبلّة في
__________
[1] المعنى غير واضح ومبتور وربما سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وتصويب هذه العبارة في الكامل ج 8 ص 567: «واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان مع الهجريين، فأمر عبد الوهاب كاتبه عليّا أن يعطي الجند أرزاقهم صلة، ففعل ذلك، فلما انتهى الى الزنج، وكانوا ستة آلاف رجل، ولهم بأس وشدّة، قال لهم عليّ: إن الأمير عبد الوهاب أمرني أن أعطي البيض من الجند كذا وكذا، وأمر لكم بنصف ذلك فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم: هل لكم ان تبايعوني فأعطيكم مثل سائر الأجناد؟
فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، وأعطاهم مثل البيض من الجند، فامتعض البيض من ذلك ووقع بينهم حرب، فظهر الزنج عليهم فسكنوا» .

(4/587)


رمضان من السنة، وجهّز المراكب إلى عمان مائة قطعة، وبعث فيها الجيوش بنظر أبي الفتوح محمد بن العبّاس، وتقدّم إلى عضد الدولة بفارس أن يمدّهم بالعساكر من عنده فوافاهم المدد بسيراف وساروا إلى عمان فملكوها يوم الجمعة يوم عرفة من السنة، وفتكوا فيها بالقتل، وأحرقوا لهم تسعين مركبا، وخطب لمعز الدولة وصارت من أعماله.
(وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار)
كان معز الدولة قد سار سنة خمس وخمسين وثلاثمائة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين فطرقه المرض سنة ست وخمسين وثلاثمائة فسار إلى بغداد، وخلّف أصحابه بواسط على أن يعود إليهم فاشتدّ مرضه ببغداد، وجدّد العهد لابنه بختيار. ثم مات منتصف ربيع الآخر من السنة فقام ابنه عزّ الدولة بختيار مكانه، وكتب إلى العساكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا. وكان فيما أوصى به معزّ الدولة ابنه بختيار طاعة عمّه ركن الدولة والوقوف عند إشارته وابن عمّه عضد الدولة لعلوّ سنّه عليه وتقدّمه في معرفة السياسة، وأن يحفظ كاتبيه أبا الفضل العبّاس بن الحسن وأبا الفرج بن العبّاس والحاجب سبكتكين، فخالف جميع وصاياه وعكف على اللهو وعشرة النساء والمغنّين والصفّاعين، فأوحش الكاتبين والحاجب، فانقطع الحاجب عن حضور داره. ثم طرد كبار الديلم عن مملكته طمعا في أقطاعاتهم، فشغب عليه الصغار واقتدى بهم الأتراك في ذلك، وطلبوا الزيادات، وركب الديلم الى الصحراء وطلبوا إعادة من أسقط من كبارهم، ولم يجد بدّا من إجازتهم لانحراف سبكتكين عنه، فاضطربت أموره وكان الكاتب أبو الفرج العبّاس في عمان منذ ملكها، فلمّا بلغه موت معزّ الدولة خشي أن ينفرد عنه صاحبه أبو الفضل العبّاس بن الحسين بالدولة، فسلّم عمان لعضد الدولة، وبادر إلى بغداد فوجد أبا الفضل قد انفرد بالوزارة ولم يحصل على شيء.

(4/588)


(مسير عساكر ابن سامان الى الري ومهلك وشمكير)
كان أبو علي بن الياس قد سار من كرمان إلى بخارى مستنجدا بالأمير منصور بن نوح بن سامان، فتلقّاه بالتكرمة فأغراه ابن الياس بممالك بني بويه وأشار له [1] قوّاده في أمرهم فصدق ذلك عند ما كان يذكر وشمكير عنهم. وتقدّم إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان بالمسير مع عساكره إلى الري. ثم جهّز العساكر مع صاحب خراسان أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور الدواني وأمره بطاعة وشمكير وقبول إشارته فسار لذلك سنة ست وخمسين وثلاثمائة وأنزل ركن الدولة أهله بأصفهان، وكتب إلى ابنه عضد الدولة بفارس وإلى ابن أخيه عزّ الدين بختيار ببغداد يستنجدهما، فأنفذ عضد الدولة العساكر على طريق خراسان ليخالفهم إليها، فأحجموا وتوقّفوا وساروا إلى الدّامغان، وقصدهم ركن الدولة في عساكره من الريّ، وبينما هم كذلك هلك وشمكير، استعرض خيلا واختار منها واحدا وركب للصيد، واعترضه خنزير فرماه بحربة، وحمل الخنزير عليه فضرب الفرس فسقط إلى الأرض وسقط وشمكير ميتا وانتقض جميع ما كانوا فيه ورجعوا الى خراسان.
(استيلاء عضد الدولة على كرمان)
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة من بني سامان، واستبدّ بها كما مرّ في أخبارهم، ثم أصابه فالج وأزمن به وعهد الى ابنه أليسع ثم لإلياس من بعده، وأمرهما بإجلاء أخيهما سليمان إلى أرضهم ببلاد الروم يقيم لهم ما هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان وأليسع فلم يرض سليمان ذلك، وخرج فوثب على السيرجان فملكها، فسار إليه أخوه أليسع فحبسه. وهرب من محبسه واجتمع إليه العسكر
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 577: «فلما ورد عليه أكرمه وعظمه، فأطمعه في ممالك بني بويه، وحسّن له قصدها، وعرّفه أن نوّابه لا يناصحونه، وانهم يأخذون الرشى من الديلم، فوافق ذلك ما كان يذكره له وشمكير» .

(4/589)


وأطاعوه، ومالوا إليه مع أبيه. ثم إنّ أبا عليّ همّ أن يلحق بخراسان فلحق، ثم سار إلى الأمير أبي الحرث ببخارى وأغراه بالريّ كما مرّ، وتوفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وصفت كرمان لأليسع. وكان عضد الدولة مزاحما لأليسع في بعض حدود عمله، مدلّا بجهل الشباب، فاستحكمت القطيعة بينهما وهرب بعض أصحاب عضد الدولة إليه، فزحف إليه واستأمن إليه أصحابه، وبقي في قلّ من أصحابه فاحتمل أهله وأمواله، ولحق ببخارى. وسار عضد الدولة إلى كرمان فملكها وأقطعها ولده أبا الفوارس الّذي ملك العراق بعد، ولقّب شرف الدولة. واستخلف عليها كورتكين بن خشتان [1] وعاد إلى فارس وبعث إليه صاحب سجستان الطاعة وخطب له. ولما وصل أليسع إلى بخارى أنذر بني سامان على تقاعدهم عن نصره فوثبوا عليه فنفوه إلى خوارزم، وكان قد خلّف أثقاله بنواحي خراسان فاستولى عليها أبو علي بن سيجور، وأصاب أليسع رمد اشتدّ به بخوارزم فضجر منه وقطع عرقه بيده. وكان ذلك سبب هلاكه، ولم يعد لبني إلياس بكرمان بعده ملك.
(مسير ابن العميد الى حسنويه ووفاته)
كان حسنويه بن الحسن الكرديّ من رجالات الكرد، واستولى على نواحي الدّينور واستفحل أمره، وكان يأخذ الخفارة من القفول التي تمرّ به ويخيف السابلة، إلّا أنه كان فئة للديلم على عساكر خراسان متى قصدتهم [2] . وكان ركن الدولة يرعى له ذلك ويغضى عن إساءته. ثم وقعت بينه وبين سلار بن مسافر بن سلار [3] فتنة وحرب فهزمه حسنويه وحصره وأصحابه من الديلم في مكان، ثم جمع الشوك وطرحه بقربهم وأضرمه نارا حتى نزلوا على حكمه فأخذهم، وقتل كثيرا منهم، فلحقت ركن الدولة النفرة لعصبية الديلم، وأمر وزيره أبا الفضل بن العميد بالمسير إليه فسار في محرّم سنة
__________
[1] جستان: ابن الأثير ج 8 ص 587.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 605: «وكان سبب ذلك ان حسنوي ابن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم» .
[3] سهلان بن مسافر: المرجع السابق.

(4/590)


تسع وخمسين وثلاثمائة وقعد ابنه أبو الفتح، وكان شابا مليحا قد أبطره العزّ والدالة على أبيه، وكان يتعرّض كثيرا لما يغضبه. وكانت بأبي الفضل علّة النقرس فتزايدت عليه وأفحشت عليه، ولمّا وصل إلى همذان توفي بها لأربع وعشرين سنة من وزارته، وأقام ابنه أبا الفتح مقامه وصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى مكانه من خدمة ركن الدولة. وكان أبو الفضل بن العميد كاتبا بليغا، وعالما في عدة فنون مجيدا فيها ومطّلعا على علوم الأوائل، وقائما بسياسة الملك مع حسن الخلق ولين العشرة والشجاعة المعروفة بتدبير الحروب، ومنه تعلّم عضد الدولة السياسية وبه تأدّب.
(انتقاض كرمان على عضد الدولة)
ولما ملك عضد الدولة كرمان كما قلناه اجتمع القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد وأولاده واتفقوا على الانتقاض والخلاف. واستمدّ عضد الدولة كورتكين بن حسّان بعابد بن عليّ، فسارا في العساكر إلى جيرفت وحاربوا أولئك الخوارج فهزموهم وأثخنوا فيهم وقتلوا من شجعانهم، وفيهم ابن لأبي سعيد. ثم سار عابد بن عليّ في طلبهم وأوقع بهم عدّة وقائع وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرمز فملكها واستولى على بلاد التّيز ومكران وأسر منهم ألف أسير [1] حتى استقاموا على الطاعة وإقامة حدود الإسلام. ثم سار عائدا إلى طائفة أخرى يعرفون بالحروميّة والجاسكيّة [2] يخيفون السبيل برّا وبحرا، وكانت قد تقدّمت لهم إعانة سليمان بن أبي عليّ بن إلياس، فلمّا أوقع بهم أثخن فيهم حتى استقاموا على الطاعة وصلحت تلك البلاد مدّة. ثم عاد البلوص إلى ما كانوا عليه من إخافة السبيل بها، فسار عضد الدولة إلى كرمان في القعدة اثنتين وانتهى إلى السّيرجان وسرّح عابد بن عليّ في العساكر لاتباعهم، فأوغلوا في الهرب ودخلوا إلى مضايق يحسبونها تمنعهم، فلما زاحمتهم العساكر كربها آخر ربيع الأوّل من سنة إحدى وستين وثلاثمائة صابروا يوما، ثم انهزموا آخره فقتلت مقاتلتهم وسبيت
__________
[1] يذكر ابن الأثير ان ابنين لأبي سعيد البلوصي قد قتلا، وان عابد بن علي قد اسر من الخوارج الفين:
ج 8 ص 613.
[2] الحاسكيّة: المرجع السابق.

(4/591)


ذراريهم ونساؤهم، ولم ينج منهم إلّا القليل. ثم استأمنوا فأمّنوا ونقلوا من تلك الجبال، وأنزل عضد الدولة في تلك البلاد أكرة وفلاحين، ثم شملوا الأرض بالعمل وتتبّع العابد أثر تلك الطوائف حتى بدّد شملهم، ومحا ما كان من الفساد منهم.
(عزل أبي الفضل ووزارة ابن بقية)
كان أبو الفضل العبّاس بن الحسين وزيرا لمعزّ الدولة ولابنه بختيار من بعده، وكان سيّئ التصرّف وأحرق في بعض أيامه الكرخ ببغداد فاحترق فيه عشرون ألف إنسان وثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، ومن الأموال ما لا يحصى، وكان الكرخ معروفا بسكنى الشيعة، وكان هو يزعم أنه يتعصّب لأهل السنّة، وكان كثير الظلم للرعيّة غصّابا للأموال مفرّطا في أمر دينه، وكان محمد بن بقية وضيعا في نفسه من الفلّاحين في أوانا من ضياع بغداد. واتصل ببختيار وكان يتولى الطعام بين يديه، ويتولى الطبخ ومنديل الخوان على كتفه، فلما ضاقت الأحوال على الوزير أبي الفضل وكثرت مطالبته بالأرزاق والنفقات عزله بختيار وصادره وسائر أصحابه على أموال عظيمة أخذت منهم، واستوزر محمد بن بقيّة فاستقامت أموره ونمت أحواله بتلك الأموال، فلما نفدت عاد إلى الظلم، ففسدت الأحوال وخرّبت تلك النواحي، وظهر العيّارون وتزايد شرّهم وفسادهم. وعظم الاختلاف بين بختيار والأتراك، ومقدّمهم يومئذ سبكتكين، وتزيادت نفرته. ثم سعى ابن بقيّة في إصلاحه وجاء به إلى بختيار ومعه الأتراك فصالحه بختيار، ثم قام غلام ديلميّ فرمى وتينه بحربة في يده فأثبته، فصاح سبكتكين بغلمانه فأخذوه يظنّ أنه وضع على قتله، وقرّره فلم يعترف، فبعث إلى بختيار فأمر به فقتل، فعظم ارتيابه وأنه إنما قتل حذرا من إفشاء سرّه، فعظمت الفتنة، وقصد الديلم قتل سبكتكين، ثم أرضاهم بختيار بالمال فسكنوا.

(4/592)


(استيلاء بختيار على الموصل ثم رجوعه عنها)
فلما قبض أبو ثعلب بن ناصر الدولة بن حمدان على أبيه وحبسه، واستقل بملك الموصل وعصى عليه إخوته من سائر النواحي غلبهم، ولحق أخوه أحمد وإبراهيم ببختيار فاستصرخاه فوعدهما بالمسير معهما، وأن يضمن حمدان البلاد. ثم أبطأ عليهما فرجع إبراهيم إلى أخيه أبي ثعلب، وقارن ذلك وزارة ابن بقيّة، وقصّر أبو ثعلب في خطابه فأغرى به بختيار فسار إليه، ونزل الموصل، وفارقها أبو ثعلب إلى سنجار وأخلاها من الميرة والكتّاب والدواوين. ثم سار من سنجار إلى بغداد فحاربها، ولم يحدث في سوادها حدثا. وبعث بختيار إثره العساكر مع ابن بقيّة والحاجب سبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد، وأقام سبكتكين بجدي. وثار العيّارون واضطربت الفتنة بين أهل السنّة والشيعة، وضربوا الأمثال (لنشتدّ على الوزير بحرب الجمل) ، وهذا كلّه في الجانب الغربي. ونزل أبو ثعلب حذاء سبكتكين بجدي واتفقا في سرّ على خلع الخليفة ونصب غيره والقبض على الوزير وعلى بختيار وتكون الدولة لسبكتكين ويعود أبو ثعلب إلى الموصل ليتمكّن من بختيار. ثم قصر سبكتكين عن ذلك وخشي سوء المغبّة، واجتمع به الوزير ابن بقيّة وصالحوا أبا ثعلب على ضمان أعماله كما كانت، وزيادة ثلاثة آلاف كرّ من الغلّة لبختيار، وأن يردّ على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه إلّا ماردين. وأرسلوا إلى بختيار بذلك. ودخل أبو ثعلب إلى الموصل، فلمّا نزل الموصل وبختيار بالجانب الآخر فغضب أهل الموصل لأبي ثعلب لما نالهم من عسف بختيار، فتراسلوا في الصلح ثانيا، وسأل أبو ثعلب لقبا سلطانيا وتسليم زوجته ابنة بختيار فأبى ذلك، ورحل عنه إلى بغداد.
وبلغه في طريقه أن أبا ثعلب قتل مخلّفين من أصحاب بختيار، فأقام بالكحيل وبعث بالوزير وابن بقية وسبكتكين فجاءوه في العساكر، ورجع إلى الموصل وفارقها أبو ثعلب، وبعث إلى الوزير كاتبه ابن عرس وصاحبه ابن حوقل معتذرا وحلفا عنه عن العلم بما وقع، فاستحكم بينهم صلح آخر. وانصرف كل منهم إلى بلده، وبعث بختيار إليه زوجته واستقرّ أمرهما على ذلك.
ابن خلدون م 38 ج 4

(4/593)


(الفتنة بين الديلم والأتراك وانتقاض سبكتكين)
كان جند بختيار وأبيه معزّ الدولة طائفتين من الديلم عشيرتهم والأتراك المستنجدين عندهم، وعظمت الدولة وكثرت عطاياها وأرزاق الجند حتى ضاقت عنها الجباية وكثر شغب الجند، وساروا إلى الموصل لسدّ ذلك فلم يقع لهم ما يسدّه، فتوجّهوا إلى الأهواز صحبة بختيار ليظفروا من ذلك بشيء، واستخلف سبكتكين على بغداد، فلمّا وصلوا إلى الأهواز صحبة بختيار حمل إليه حملين من الأموال والهدايا ما ملأ عينه، وهو مع ذلك يتجنّى عليه. ثم تلاحى خلال ذلك عاملان ديلميّ وتركي وتضاربا ونادى كل منهما بقومه فركبوا في السلاح بعضهم على بعض، وسالت بينهما الدماء، وصاروا إلى النزاع، واجتهدوا في تسكين الناس فلم يقدروا. وأشار عليه الديلم بالقبض على الأتراك، فأحضر رؤساءهم واعتقلهم، وانطلقت أيدي الديلم على الأتراك فافترقوا، ونودي في البصرة بإباحة دمائهم، واستولى بختيار على أقطاع سبكتكين، ودسّ بأن يرجفوا بموته، فإذا جاء سبكتكين للعزاء قبضوا عليه. وقيل كان وطأهم على ذلك قبل سفره، وجعل موعده قبضه على الأتراك، فلما أرجفوا بموته ارتاب سبكتكين بالخبر، وعلم أنها مكيدة ودعاه الأتراك للأمر عليهم فأبى، ودعا ابن معزّ الدولة أبا إسحاق إليها فمنعته أمّه، فركب سبكتكين في الأتراك وحاصروا بختيار يومين. ثم أحرقها وبعث لأبي إسحاق وأبي ظاهر ابني معزّ الدولة، وسار بهما إلى واسط فاستولى عليها على ماكان لبختيار، وأنزل الأتراك في دور الديلم، وثار العامّة بنصر سبكتكين وأوقعوا بالشيعة وقتلوهم وأحرقوا الكرخ.
(مسير بختيار لقتال سبكتكين وخروج سبكتكين الى واسط ومقتله)
ولما انتقض سبكتكين انتقض الأتراك في كل جهة حتى اضطرب على بختيار غلمانه الذين بداره، وعاتبه مشايخ الأتراك على فعلته، وعذله الديلم أصحابه وقالوا: لا بدّ

(4/594)


لنا من الأتراك ينصحون عنّا، فأطلق المعتقلين عنهم ورجع، وجعل أردويه [1] صاحب الجيش مكان سبكتكين، وكتب إلى عمّه ركن الدولة وابنه عضد الدولة يستنجدهما، وإلى أبي ثعلب بن حمدان يستمدّه بنفسه، ويسقط عنه مال الضمان، وإلى عمران بن شاهين بأن يمدّه بعسكر، فبعث عمّه ركن الدولة العساكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وأمر ابنه عضد الدولة بالمسير معهم، فتربّص به ابن العميد. وأنفذ أبو ثعلب بن حمدان أخاه أبا عبد الله الحسين بن حمدان إلى تكريت، وأقام ينتظر خروج سبكتكين والأتراك عن بغداد فيملكها، وانحدر سبكتكين ومعه الأتراك إلى واسط وحمل معه الخليفة الطائع الّذي نصّبه وأباه المطيع مكانه أفتكين [2] وساروا إلى بختيار ونازلوه بواسط خمسين يوما والحرب بينهم متّصلة والظفر للأتراك في كلّها، وهو يتابع الرسل إلى عضد الدولة ويستحثه.
(استيلاء عضد الدولة على العراق واعتقال بختيار ثم عوده إلى ملكه)
ولما بلغ عضد الدولة ما فعله الأتراك مع بختيار اعتزم على المسير إليه بعد أن كان يتربّص به فسار في عساكر فارس وسار معه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه من الأهواز في عساكر الري وقصدوا واسط ورجع أفتكين والأتراك إلى بغداد وكان أبو ثعلب عليها فأجفل، وكتب بختيار إلى طبة الأسديّ صاحب عين التمر، وإلى بني شيبان بمنع الميرة عن بغداد وإفساد سابلتها، فعدمت الأقوات وسار عضد الدولة إلى بغداد، ونزل في الجانب الشرقي وبختيار في الجانب الغربيّ. وخرج أفتكين والأتراك لعضد الدولة فلقيهم بين دبانى والمدائن منتصف جمادى سنة أربع وستين وثلاثمائة فهزمهم وغرق كثير منهم. وساروا إلى تكريت، ودخل عضد الدولة بغداد ونزل دار الملك، واستردّ الخليفة الطائع من أفتكين والأتراك، وكانوا أكرهوه على
__________
[1] آزادرويه: ابن الأثير ج 8 ص 643.
[2] المفهوم ان أفتكين قد خلع المطيع وولّى الخلافة بعده ابنه الطائع. وقد ورد اسمه في الكامل ج 8 ص 148: الفتكين.

(4/595)


الخروج معهم، وخرج للقائه في دجلة وأنزله بدار الخلافة وحدّثته نفسه بملك العراق، واستضعف بختيار ووضع عليه الجند يطالبونه بأرزاقهم، ولم يكن عنده في خزانته شيء. وأشار عليه بالزهد في إمارتهم يتنصّح له بذلك سرّا، والرسل تتردّد إلى بختيار والجند فلا يقبل عضد الدولة تقرّبهم. ثم تقبّض عليه آخرا ووكّل به، وجمع الجند ووعدهم بالإحسان والنظر في أمورهم فسكنوا، وبعث عضد الدولة عسكره إلى ابن بقيّة ومعه عسكر ابن شاهين فهزموا عسكر عضد الدولة، وكاتبوا ركن الدولة، فكتب إليه بالثبات على شأنهم. فلمّا علم أهل النواحي بأفعال عضد الدولة اضطربوا عليه وانقطعت عنه موادّ فارس، وطمع فيه الناس حتى عامّة بغداد، فحمل الوزير أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة الرسالة بما وقع، وبضعف بختيار وأنه إن عاد إلى الأمر خرجت المملكة والخلافة عنه، وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم في كل سنة، ويبعث إليه بختيار بالريّ وإلّا قتلت بختيار وأخويه وجميع شيعتهم وأترك البلاد، فخشي ابن العميد من هذه الرسالة، وأشار بأن يبعث بها غيره ويمضي هو إلى ركن الدولة فيحاول على مقاصد عضد الدولة، فمضى الرسول إلى ركن الدولة فحجبه أولا، ثم أحضره وذكر له الرسالة فهمّ بقتله، ثم ردّه وحمّله من الإساءة في الخطاب فوق ما أراد. وجاء ابن العميد فحجبه ركن الدولة وأنفذ إليه بالوعيد. وشفع إليه أصحابه واعتذر بأنه إنما جعل رسالة عضد الدولة طريقا الى الخلاص منه فأحضره، وضمن له ابن العميد إطلاق بختيار. ثم سار إلى عضد الدولة وعرفه بغضب أبيه فأطلق بختيار من محبسه وردّه إلى ملكه على أن يكون نائبا عنه ويخطب له، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعفه عن الملك. وخلّف أبا الفتح بن العميد لقضاء شئونه فتشاغل هو مع بختيار فيما كان فيه من اللذّات عن ركن الدولة. وجاء ابن بقيّة فأكّد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وجبى الأموال واختزنها، وأساء التصرّف واحترز من بختيار
.

(4/596)


(أخبار عضد الدولة في ملك عمان)
لما توفي معز الدولة كان أبو الفرج [1] بعمان، فسار عنها لبغداد وبعث إلى عضد الدولة بأن يتسلّمها فوليها عمر بن نبهان الطائي بدعوة عضد الدولة. ثم قتلته الزنج وملكوا البلد. وبعث عضد الدولة إليها جيشا من كرمان مع قائده أبي حرب طغان، وساروا في البحر وأرسوا على صحار وهي قصبة عمان، ونزلوا إلى البرّ فقاتلوا الزنج وظفروا بهم، واستولى طغان على صحار سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. ثم اجتمع الزنج إلى مدين رستان [2] على مرحلتين من صحار، فأوقع بهم طغان واستلحمهم وسكنت البلاد.
ثم خرج بجبال عمان طوائف الشّراة مع ورد بن زياد منهم، وبايعوا لحفص بن راشد، واشتدّت شوكتهم، وبعث عضد الدولة المظفّر بن عبد الله في البحر فنزل في أعمال عمان وأوقع بأهل خرخان [3] . ثم سار إلى دما على أربع مراحل، وقاتل الشّراة فهزمهم وهرب أميرهم ورد بن حفص إلى يزوا [4] ، وهي حصن تلك الجبال، ولحق حفص باليمن فصار فيه معلّما، واستقامت البلاد ودانت لطاعة عضد الدولة.
(اضطراب كرمان على عضد الدولة)
كان ظاهر بن الصنمد من الحرومية [5] ، وهي البلاد الحارة، قد ضمن من عضد الدولة ضمانات واجتمعت عليه أموال. ولما سار عضد الدولة إلى العراق وبعث وزيره المظهر بن عبد الله [6] إلى عمان خلت كرمان من العساكر، فطمع فيها ظاهر وجمع الرجال الحروميّة. وكان بعض موالي بني سامان من الأتراك واسمه مؤتمر [7] استوحش
__________
[1] هو ابو الفرج بن العبّاس وكان نائبا لمعز الدولة في عمان.
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 646: «ثم إن الزنج اجتمعوا الى بريم وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان» .
[3] حرفان: المرجع السابق.
[4] نزوى: المرجع السابق ص 647.
[5] طاهر بن الصّمّة من الجروميّة: ابن الأثير ج 8 ص 655.
[6] المطهّر بن عبد الله: المرجع السابق.
[7] يوزتمر: المرجع السابق.

(4/597)


من ابن سيجور [1] صاحب خراسان فكاتبه ظاهر وأطمعه في أعمال كرمان، فسار إليه وجعله ظاهر أميرا. ثم شغب عليه بعض أصحاب ظاهر، فارتاب به مؤتمر وقاتله فظفر به وبأصحابه، وبلغ الخبر إلى الحسين بن علي بن الياس بخراسان فطمع في البلاد وسار إليها، واجتمعت عليه جموع. وكتب عضد الدولة إلى المظهر بن عبد الله وقد فرغ من أمر عمان بالمسير إلى كرمان، فسار إليه سنة أربع وستين وثلاثمائة ودوّخ البلاد في طريقه. وكبس مؤتمرا بنواحي مدينة قمّ [2] فلحق بالمدينة وحصره فيها حتى استأمن، وخرج إليه ومعه ظاهر فقتله المظهّر وحبس مؤتمرا ببعض القلاع، وكان آخر العهد به. ثم سار إلى ابن إلياس وقاتله على باب جيرفت وأخذه أسيرا وضاع بعد ذلك خبره، ورجع المظهر ظافرا وصلّحت كرمان لعضد الدولة.
(وفاة ركن الدولة وملك ابنه عضد الدولة)
كان ركن الدولة ساخطا على ابنه عضد الدولة كما قدّمناه وكان ركن الدولة بالريّ فطرقه المرض سنة خمس وستين وثلاثمائة فسار إلى أصفهان، وتلطّف الوزير أبو الفتح بن العميد إليه في الرضا عن ابنه عضد الدولة، وأن يحضره ويعهد إليه، فأحضره من فارس وجمع سائر ولده. وكان ركن الدولة قد خفّ من مرضه فعمل الوزير ابن العميد بداره صنيعا وأحضرهم جميعا. فلما قضوا شأن الطعام خاطب ركن الدولة بولاية أصفهان وأعمالها نيابة عن أخيه عضد الدولة، وخلع عضد الدولة في ذلك اليوم على سائر الناس الأقبية والأكسية بزيّ الديلم. وحيّاه إخوته والقوّاد بتحيّة الملك المعتاد لهم، وأوصاهم أبوهم بالاتّفاق وخلع عليهم من الخاص، وسار عن أصفهان في رجب من السنة. ثم اشتدّ به المرض في الريّ فتوفي في محرّم سنة ست وستين وثلاثمائة لأربع وأربعين سنة من ولايته. وكان حليما كريما واسع المعروف حسن السياسة لجنده ورعيته، عادلا فيهم، متحرّيا من الظلم عفيفا عن الدماء، بعيد الهمّة عظيم الجدّ والسعادة، محسنا لأهل البيوتات، معظّما للمساجد متفقدا لها في المواسم، متفقدا أهل البيت بالبرّ والصلات، عظيم الهيبة ليّن الجانب مقرّبا للعلماء محسنا إليهم، معتقدا للصلحاء برّا بهم رحمه الله تعالى.
__________
[1] ابن سيمجور وهو صاحب خراسان وقد مرّ معنا من قبل عدة مرات.
[2] هي مدينة بم وليس قم.

(4/598)


(مسير عضد الدولة الى العراق وهزيمة بختيار)
ولما توفي ركن الدولة ملك عضد الدولة بعده، وكان بختيار وابن بقيّة يكاتبان أصحاب القاصية مثل فخر الدولة أخيه وحسنويه الكرديّ وغيرهم للتظافر على عضد الدولة، فحرّكه ذلك لطلب العراق، فسار لذلك وانحدر بختيار إلى واسط لمدافعته، وأشار عليه ابن بقيّة بالتقدّم إلى الأهواز، واقتتلوا في ذي القعدة من سنة ست وستين وثلاثمائة ونزع بعض عساكر بختيار إلى عضد الدولة فانهزم بختيار ولحق بواسط، ونهب سواده ومخلفه، وبعث إليه ابن شاهين بأموال وسلاح وهاداه وأتحفه، فسار إليه إلى البطيحة وأصعد منها إلى واسط، واختلف أهل البصرة فمالت مضر إلى عضد الدولة وربيعة مع بختيار، صوبت [1] مضر عند انهزامه، وكاتبوا عضد الدولة فبعث إليهم عسكرا واستولوا على البصرة، وأقام بختيار بواسط، وقبض الوزير ابن بقيّة لاستبداده واحتجازه الأموال، وليرضى عضد الدولة بذلك.
وتردّدت الرسل بينهم في الصلح، وتردّد بختيار في إمضائه. ثم وصله ابنا حسنويه الكرديّ في ألف فارس مددا فاعتزم على محاربة عضد الدولة. ثم بدا له وسار إلى بغداد فأقام بها، ورجع ابنا حسنويه إلى أبيهما، وسار عضد الدولة إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهما مائة وعشرين سنة.
(نكبة أبي الفتح بن العميد)
كان عضد الدولة يحقد على أبي الفتح بن العميد مقامه عند بختيار ببغداد ومخالطته له، وما عقده معه من وزارته بعد ركن الدولة. وكان ابن العميد يكاتب بختيار بأحواله وأحوال أبيه، وكان لعضد الدولة عين على بختيار يكاتبه بذلك ويغريه.
فلمّا ملك عضد الدولة بعد أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالريّ بالقبض على ابن العميد وعلى أهله وأصحابه، واستصفيت أموالهم ومحيت آثارهم، وكان أبو
__________
[1] هكذا بالأصل ومقتضى السياق. وقويت مضر عند انهزامه، والضمير عائد إلى بختيار.

(4/599)


الفضل [1] بن العميد ينذرهم بذلك لما يرى من مخايل أبي الفتح وإنكاره عليه.
(استيلاء عضد الدولة على العراق ومقتل بختيار وابن بقية)
ولما دخلت سنة سبع وستين سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أيّ جهة أراد فيمدّه بما يحتاج إليه من مال وسلاح، فضعفت نفسه فقلع عينه وبعثها إليه، وخرج بختيار عن بغداد متوجّها إلى الشام. ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها، ولم يكن خطب لأحد قبله، وضرب على بابه ثلاث نوبات ولم يكن لمن تقدّمه، وأمر أن يلقى ابن بقيّة بين أرجل الفيلة فضربته حتى مات وصلب على رأس الجسر في شوّال سنة سبع وستين وثلاثمائة، ولما انتهى بختيار إلى عكبرا وكان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فزيّن له قصد الموصل، واستماله إليه عن الشام، وقد كان عقد معه عضد الدولة أن لا يقصد الموصل لموالاة بينه وبين أبي ثعلب [2] ، فسار هو إلى الموصل ونقض عهده، وانتهى إلى تكريت فبعث إليه أبو ثعلب يعده المسير معه لقتال عضد الدولة، وإعادة ملكه على أن يسلّم إليه أخاه حمدان، فقبض بختيار عليه وسلّمه إلى سفرائه وحبسه أبو ثعلب، وسار بختيار إلى الحديثة، ولقيه أبو ثعلب في عشرين ألف مقاتل، ورجع معه إلى العراق ولقيهما عضد الدولة بنواحي تكريت فهزمهما، وجيء ببختيار أسيرا، فأشار أبو الوفاء طاهر بن إسماعيل كبير أصحاب عضد الدولة بقتله فقتل لاثنتي عشرة سنة من ملكه. واستلحم كثير من أصحابه، وانهزم أبو ثعلب بن حمدان إلى الموصل.
(استيلاء عضد الدولة على أعمال بني حمدان)
ولما انهزم أبو ثعلب سار عضد الدولة في أثره فملك الموصل منتصف ذي القعدة سنة
__________
[1] ابو الفضل هو والد أبي الفتح بن العميد.
[2] هو ابو تغلب بن حمدان.

(4/600)


ست وستين وثلاثمائة وكان حمل معه الميرة والعلوفات خوفا أن يقع به مثل ما وقع بسلفه، فأقام بالموصل مطمئنا وبثّ السرايا في طلب أبي ثعلب، ولحق بنصيبين ثم بميّافارقين، فبعث عضد الدولة في أثره سريّة عليها أبو ظاهر بن محمد إلى سنجار، وأخرى عليها الحاجب أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، فترك أبو ثعلب أهله بميّافارقين وسار إلى تدلس [1] ووصل أبو الوفاء في العساكر إلى ميّافارقين فامتنعت عليه، فسار في اتباع أبي ثعلب إلى أرزن الروم ثم إلى الحسنيّة من أعمال الجزيرة، وصعد أبو ثعلب إلى قلعة كواشى فأخذ أمواله منها وعاد أبو الوفاء وحاصره بميّافارقين، وسار عضد الدولة وقد افتتح سائر ديار بكر. وسار أبو ثعلب إلى الرحبة ورجع أصحابه إلى أبي الوفاء فأمّنهم وعاد إلى الموصل، فتسلّم ديار مضر من يده.
وكان سعد الدولة على الرحبة وتقرّى أعمال أبي ثعلب وحصونه، مثل هوا والملاسي وفرقى والسفياني وكواشى [2] بما فيها من خزائنه وأمواله، واستخلف أبو الوفاء على الموصل وجميع أعمال بني ثعلب وعاد إلى بغداد، وسار أبو ثعلب إلى الشام فكان فيه مهلكه كما مرّ في أخباره.
(إيقاع العساكر ببني شيبان)
كان بنو شيبان قد طال إفسادهم للسابلة، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا يمتنعون بجبال شهرزور لما بينهم وبين أكرادها من المواصلة، فبعث عضد الدولة العساكر سنة تسع وستين وثلاثمائة فنازلوا شهرزور واستولوا عليها وعلى ملكها رئيس بني شيبان، فذهبوا في البسيط، وسار العسكر في طلبهم فأوقعوا بهم واستباحوا أموالهم ونساءهم، وجيء منهم إلى بغداد بثلاثمائة أسير، ثم عاودوا الطاعة وانحسمت علّتهم.
__________
[1] بدليس: ابن الأثير ج 8 ص 692.
[2] هي: هرور والملاسي وبرقي والشّعباني وكواشى: ابن الأثير ج 8 ص 696

(4/601)


(وصول ورد بن منير البطريق الخارج على ملك الروم الى ديار بكر والقبض عليه)
كان أرمانوس ملك الروم لما توفي خلّف ولدين صغيرين ملكا بعده، وكان نقفور وهو يومئذ الدمستق غائبا ببلاد الشام، وكان نكاء فيها، فلمّا عاد حمله الجند وأهل الدولة على النيابة عن الولدين فامتنع. ثم أجاب وأقام بدولة الولدين وتزوّج أمّهما ولبس التاج، ثم استوحشت منه فراسلت ابن الشمسيق [1] في قتله، وبيّته في عشرة من أصحابه فقتلوا نقفور واستولى ابن الشمسيق على الأمر، واستولى على الأولاد وعلى ابنه ورديس واعتقلهم في بعض القلاع، وسار في أعمال الشام فعاث فيها وحاصر طرابلس فامتنعت عليه. وكان لوالد الملك أخ خصي [2] وهو الوزير يومئذ فوضع عليه من سقاه السمّ، وأحسّ به فأسرع العود إلى القسطنطينية ومات في طريقه، وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة فطمع في الملك، وكاتب أبا ثعلب بن حمدان عند خروجه بين يدي عضد الدولة وظاهره، واستجاش بالمسلمين بالثغور وساروا إليه وقصد القسطنطينية، وبرزت إليه عساكر الملكين فهزمهم مرّة بعد أخرى، فأطلق الملكان ورديس بن لاوون وبعثاه في العساكر لقتال ورد فهزمهم بعد حروب صعبة، ولحق ورد ببلاد الإسلام ونزل ميّافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة ببذل الطاعة وبطلب النصرة. وبعث إليه ملك [3] الروم واستمالاه فجنح إليهما، وكتب إلى عامله بميّافارقين بالقبض على ورد وأصحابه، فيئسوا منه، وتسلّلوا عنه، فبعث أبو عليّ الغنمي [4] عنه إلى داره للحديث معه، ثم قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميّافارقين، ثم بعث بهم إلى بغداد فحبسوا بها.
__________
[1] ابن الشمشقيق: ابن الأثير ج 8 ص 703 وقد مرّ معنا في مكان سابق من هذا الكتاب.
[2] هو خال الملكين اي شقيق والدتهما الملكة. كما عند ابن الأثير ج 8 ص 703.
[3] حسب مقتضى السياق: ملكا الروم.
[4] ابو علي التميمي: ابن الأثير ج 8 ص 704.

(4/602)


(دخول بني حسنويه في الطاعة وبداية أمرهم)
كان حسنويه بن حسن الكرديّ من جنس البرز [1] فكان من الأكراد من طائفة منهم يسمّون الذولنية [2] وكان أميرا على البرز مكان خاله ونداد، وكان ابنا أحمد بن علي من طائفة أخرى من البرز، فكانوا يسمون العيشائية [3] وغلبا على أطراف الدّينور وهمذان ونهاوند والدّامغان وبعض أطراف أذربيجان إلى حدّ شهرزور، وبقيت في أيديهم خمسين سنة. وكانت تجتمع عليها من الأكراد جموع عظيمة. ثم توفي عام ست وخمسين وثلاثمائة. وكانت له قلعة بسنان [4] وغانم أبار [5] وغيرها، فملكها بعده ابنه أبو سالم غنم [6] إلى أن غلبه الوزير أبو الفتح بن العميد. وتوفي ونداد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام ابنه عبد الوهاب أبو الغنائم مقامه، وأراد الشاذنجان، وأسلمه إلى حسنويه فاستولى على أملاكه وقلاعه. وكان حسنويه عظيم السياسة حسن السيرة، وبنى أصحابه حصن التلصّص، وهي قلعة سرماج بالصخور المهندسة، وبنى بالدّينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة بالحرمين. ثم توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق أولاده من بعده، فبعضهم صار إلى طاعة فخر الدولة صاحب همذان وأعمال الجيل، والآخرون صاروا إلى عضد الدولة، وكان بختيار منهم بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة بالطاعة، ثم انتقض. فبعث عضد الدولة عسكرا فحاصروه وملكوا القلعة من يده والقلاع الأخرى من إخوته. واستولى عضد الدولة على أعمالهم واصطنع من بينهم أبا النجم بن حسنويه، وأمدّه بالعسكر فضبط تلك النواحي، وكفّ عادية الأكراد بها واستقام أمرها.
__________
[1] من جنس البرزيكاني: ابن الأثير ج 8 ص 705.
[2] البرزينيّة: المرجع السابق.
[3] العيشانية: المرجع السابق.
[4] هي قلعة قسان أو سنان.
[5] هي قلعةآباد.
[6] هو ابو سالم ديسم بن غانم.

(4/603)


(استيلاء عضد الدولة على همذان والريّ من يد أخيه فخر الدولة وولاية أخيهما مؤيد الدولة عليها)
قد تقدّم أنّ ركن الدولة عهد إلى ابنه فخر الدولة، وكان يكاتب بختيار، وعلم بذلك عضد الدولة فأغضى، فلمّا فرغ من شأن بختيار وابن حمدان وحسنويه، وعظم استيلاؤه أراد إصلاح الأمر بينه وبين أخيه وقابوس بن وشمكير، فكاتب مؤيد الدولة وفخر الدولة يعاتبه ويستميله [1] ، وكان الرسول خواشادة من أكبر أصحاب عضد الدولة، فاستمال أصحاب فخر الدولة وضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، واعتزم عضد الدولة على المسير إلى الريّ وهمذان، وسرّب العساكر إليها مسالمة، فأبو الوفاء طاهر في عسكر، وخواشادة في عسكر، وأبو الفتح المظفّر بن أحمد في عسكر. ثم سار عضد الدولة في أثرهم من بغداد، ولما أطلّت عساكره استأمن قوّاد فخر الدولة وبنو حسنويه ووزيره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه، ولحق فخر الدولة ببلاد الديلم، ثم بجرجان، ونزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير مستجيرا، فأمّنه وآواه وحمل إليه فوق ما أمّله، وشاركه فيما بيده من الملك وغيره. وملك عضد الدولة همذان والريّ وما بينهما من الأعمال، وأضافها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه صاحب أصفهان وأعمالها. ثم عطف على ولاية حسنويه الكردي وفتح نهاوند والدّينور وسرماج، وأخذ ما كان فيها لبني حسنويه، وفتح عدّة من قلاعهم، وخلع على بدر بن حسنويه وأحسن إليه وولّاه رعاية الأكراد، وقبض على إخوته عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان. ولمّا لحق فخر الدولة بجرجان وأجاره قابوس بعث إليه أخوه عضد الدولة في طلبه، فأجاره وامتنع من إسلامه. فجهّز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة صاحب أصفهان بالعساكر والأموال والسلاح، فسار إلى جرجان، وبرز قابوس للقائه، والتقوا بنواحي أستراباذ في منتصف إحدى وسبعين وثلاثمائة فانهزم قابوس ومرّ ببعض قلاعه
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 8 ص 707: «فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير. فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته، فأنه كان مطيعا له غير مخالف. وأما الى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله» .

(4/604)


فاحتمل منها ذخيرته ولحق بنيسابور. وجاء فخر الدولة منهزما على أثره، وكان ذلك لأوّل ولاية حسام الدولة تاش خراسان من قبل أبي القاسم بن منصور من بني سامان، فكتب بخبرهما إلى الأمير نوح ووزيره العتبيّ أبي العبّاس تاش، فجاءه الجواب بنصرهما، فجمع عساكر خراسان وسار معهما إلى جرجان فحاصروا بها مؤيد الدولة شهرين حتى ضاقت أحوال مؤيد الدولة، واعتزم هو وأصحابه على الخروج والاستماتة بعد أن كاتب فائقا الخاصة الساماني، ورغّبه، فوعده بالانهزام عند اللقاء. وخرج مؤيّد الدولة، وانهزم فائق وتبعه العسكر وثبت تاش وفخر الدولة وقابوس إلى آخر النهار. ثم انهزموا ولحقوا بنيسابور، وبعثوا بالخبر إلى الأمير نوح، فبعث إليهم بالعساكر ليعود إلى جرجان، ثم قتل الوزير العتبي كما تقدّم في أخبار دولتهم وانتقض ذلك الرأي.
(استيلاء عضد الدولة على بلاد الهكارية وقلعة سندة)
كان عضد الدولة قد بعث عساكره الى بلاد الأكراد الهكاريّة من أعمال الموصل، فحاصر قلاعهم وضيّق عليهم، وكانوا يؤمّلون نزول الثلج فترحل عنهم العساكر، وتأخّر نزوله فاستأمنوا ونزلوا من قلاعهم إلى الموصل، واستولت عليها العساكر وغدر بهم مقدّم الجيش فقتلهم جميعا. وكانت قلعة بنواحي الجبل لأبي عبد الله المرّيّ مع قلاع أخرى، وله فيها مساكن نفيسة، وكان من بيت قديم، فقبض عليه عضد الدولة وعلى أولاده واعتقلهم وملك القلاع. ثم أطلقهم الصاحب بن عبّاد فيما بعد واستخدم أبا طاهر من ولده واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ.
(وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة)
ثم توفي عضد الدولة ثامن شوّال سنة اثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ولايته العراق، وجلس ابنه صمصام الدولة أبو كليجار المرزبان للعزاء، فجاءه الطائع معزّيا، وكان عضد الدولة بعيد الهمّة شديد الهيبة حسن السياسة ثاقب الرأي محبّا

(4/605)


للفضائل وأهلها، وكان كثير الصدقة والمعروف ويدفع المال لذلك إلى القضاة ليصرفوه في وجوهه. وكان محبّا للعلم وأهله مقرّبا لهم محسنا إليهم، ويجلس معهم ويناظرهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنّفت الكتب باسمه كالإيضاح في النحو والحجّة في القراءات والملكي في الطلب والتاجي في التواريخ وعمل البيمارستانات وبنى القناطر. وفي أيامه حدثت المكوس على المبيعات، ومنع من الاحتراف ببعضها، وجعلت متجرا للدولة. ولمّا توفي عضد الدولة اجتمع القوّاد والأمراء على ابنه أبي كليجار المرزبان وولّوه الملك مكانه، ولقّبوه صمصام الدولة، فخلع على أخيه الحسن أحمد وأبي ظاهر فيروز شاه وأقطعهما فارس وبعثهما إليها.
(استيلاء شرف الدولة بن عضد الدولة على فارس واقتطاعها من أخيه صمصام الدولة)
كان شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك [1] قد ولّاه أبوه عضد الدولة قبل موته كرمان وبعث إليه، فلمّا بلغه وفاة أبيه سار إلى فارس فملكها وقتل نصر بن هارون النصراني وزير أبيه لأنه كان يسيء عشرته، وأطلق الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلويّ، كان أبوه حبسه بما قال عنه وزيره المظهر بن عبد الله عند قتله نفسه على البطيحة.
وأطلق النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشادة، وكان أبوه حبسهم وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة وخطب لنفسه، وتلقّب بأخي الدولة ووصل أخوه أبو الحسن أحمد وأبو ظاهر فيروز شاه اللذان أقطعهما صمصام الدولة بشيراز فبلغهما خبر شرف الدولة بشيراز فعاد إلى الأهواز. وجمع شرف الدولة وفرّق الأموال، وملك البصرة وولّى عليها أخاه أبا الحسين. ثم بعث صمصام الدولة العساكر مع ابن تتش حاجب أبيه، وأنفذ مشرف الدولة مع أبي الأغرّ دبيس بن عفيف الأسديّ، والتقيا بظاهر قرقوب، وانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر ابن تتش الحاجب واستولى حينئذ الحسين بن عضد الدولة على الأهواز ورامهرمز وطمع في الملك.
__________
[1] شرف الدولة ابو الفوارس شيرزيل: ابن الأثير ج 9 ص 22.

(4/606)


(وفاة مؤيد الدولة صاحب أصفهان والري وجرجان وعود فخر الدولة الى ملكه)
ثم توفي مؤيد الدولة يوسف بن بويه بن ركن الدولة صاحب أصفهان والريّ بجرجان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة واجتمع أهله للشورى فيمن يولّونه، فأشار الصاحب إسماعيل بن عبّاد بإعادة فخر الدولة إلى ملكه لكبر سنه. وتقدّم إمارته بجرجان وطبرستان، فاستدعوه من نيسابور، وبعث ابن عبّاد من استخلفه لنفسه، وتقدّم إلى جرجان فتلقّاه العسكر بالطاعة وجلس عليّ كرسيّه وتفادى ابن عبّاس من الوزارة فمنعه واستوزره، والتزم الرجوع إلى إشارته في القليل والكثير. وأرسل صمصام الدولة وعاهده على الاتحاد والمظاهرة. ثم عزل الأمير نوح أبا العبّاس تاش عن خراسان، وولّى عليها ابن سيجور، فانتقض تاش ولقيه ابن سيجور فهزمه فلحق بجرجان، فكافأه فخر الدولة وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ وسار عنها إلى الريّ وأمدّه بالأموال والآلات، وطلب خراسان فلم يظفر بها فأقام بجرجان ثلاث سنين. ثم مات سنة سبع وتسعين وثلاثمائة [1] كما ذكرنا في أخبار بني سامان.
(انتقاض محمد بن غانم على فخر الدولة)
قد تقدّم لنا ذكر غانم البرزنكاني خال حسنويه، وأنهم كانوا رؤساء الأكراد، وأنه مات سنة خمسين وثلاثمائة وكان ابنه دلسيم مكانه في قلاعه قستتان وغانم أبا. وملكها منه أبو الفتح بن العميد. ولما كانت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة انتقض محمد بن غانم بناحية كردون من أعمال قمّ على فخر الدولة، ونهبت غلّات السلطان وامتنع بحصن الفهجان واجتمع إليه البرزنكان [2] . وسارت العساكر لقتاله في شوّال فهزمها مرّة بعد
__________
[1] يذكر ابن الأثير وفاته سنة 377 وقال إنه مات مسموما.
[2] التحريف في أسماء الأعلام والأمكنة يثير العجب وهذه الأسماء تختلف في مصادر عديدة، حتى عند ابن خلدون تجد تحريف الأسماء بين صفحة واخرى، وربما يعود هذا الأمر الى الناسخ. وفي الكامل ج 9 ص 31: «وفيها- 373- عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قمّ على فخر الدولة، وأخذ بعض غلات السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكانيّ الى نفسه» . أما دلسيم فهو دسيم بن غانم وأما قلعة قستتان فهي قلعة قستان.

(4/607)


أخرى إلى أن بعث فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه بالنكير في ذلك، فصالحه أوّل أربع وسبعين وثلاثمائة ثم سارت إليه العساكر سنة خمس وسبعين وثلاثمائة فقاتلها وأصيب بطعنة، ثم أخذ أسيرا ومات بطعنته.
(تغلب باد الكردي على الموصل من يد الديلم ثم رجوعها اليهم)
قد تقدّم لنا استيلاء عضد الدولة على الموصل وأعمالها، وتقدّم لنا ذكر باد الكرديّ خال بني مروان، وكيف خان عضد الدولة لما ملك الموصل، وطلبه فصار يخيف ديار بكر ويغير عليها حتى استفحل أمره وملك ميافارقين كما ذكرنا ذلك كله في أخبار بني مروان، وأنّ صمصام الدولة جهّز إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير، فهزمه باد وأسر أصحابه، فأعاد صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد الحاجب، وفتك باد في الديلم بالقتل والأسر. ثم اتبع سعيد خانور الحسينية من بلد كواشى [1] فانهزم سعيد الحاجب إلى الموصل وثارت العامّة بالديلم. وملك باد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الموصل، وحدّث نفسه بملك بغداد، وأخرج [2] الديلم عنها. واهتم صمصام الدولة بأمره، وبعث زياد بن شهراكونه [3] من أكبر قوّاد الديلم لقتاله، واستكثر له من الرجال والعدد والمال، وسار إلى باد فلقيه في صفر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وانهزم باد وأسر أكثر أصحابه، ودخل زياد بن شهراكونه الموصل، وبعث سعيد الحاجب في طلب باد فقصد جزيرة ابن عمر وعسكر آخرا إلى نصيبين. وجمع باد الجموع بديار بكر، وكتب صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بتسليم ديار بكر له، فبعث إليها عساكره من حلب وحاصروا ميّافارقين وخاموا عن لقاء باد فرجعوا عن حلب، ووضع سعيد الحاجب رجلا لقتل باد، فدخل عليه وضربه في خيمته فأصابه وأشرف على الموت منها، فطلب الصلح على أن يكون له ديار بكر والنصف من طور عبدين، فأجابه الديلم إلى ذلك، وانحدروا إلى
__________
[1] هكذا بالأصل في الكامل ج 9 ص 35: «فالتفوا بباجلايا على خابور الحسنيّة من بلد كواشى» .
[2] حسب مقتضى السياق وإخراج الديلم عنها.
[3] زيار بن شهراكويه: ابن الأثير ج 9 ص 38.

(4/608)


بغداد وأقام سعيد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة أيام مشرف الدولة فتجرّد الكرديّ وطمع في الموصل، وولّى شرف الدولة عليها أبا نصر خواشاده، وجهّزه بالعساكر، ولما زحف إليه باد الكرديّ كتب إلى مشرف الدولة يستمد العساكر والأموال، فأبطأ عليه المدد، فاستدعى العرب من بني عقيل وبني نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها، وانحدر باد واستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول على الصحراء، وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فهزموه وقتلوه. ثم أتاهم الخبر بموت مشرف الدولة، فعاد خواشاده إلى الموصل وأقامت العرب بالصحراء يمنعون باد من النزول وينتظرون خروج خواشاده لمدافعة باد وحربه، وبينما هم في ذلك جاء إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فملكا الموصل كما ذكرنا في أخبار دولتهم.
(استيلاء صمصام الدولة على عمان ورجوعها لمشرف الدولة)
كان مشرف الدولة استولى على فارس وخطب له بعمان، وولّى عليها أستاذ هرمز فانتقض عليه وصار مع صمصام الدولة، وخطب له بعمان فبعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز وأسروه، وحبس ببعض القلاع وطولب بالأموال، وعادت عمان إلى مشرف الدولة.
(خروج نصر بن عضد الدولة على أخيه صمصام الدولة وانهزامه وأسره)
كان أسفار بن كردويه من أكابر قوّاد الديلم واستوحش من صمصام الدولة فمال عن طاعته إلى أخيه مشرف الدولة وهو بفارس، وداخل رجال الديلم في صمصام الدولة وأن ينصبّوا بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه مشرف الدولة حتى يقدم من فارس، وتمكّن أسفار من الخوض في ذلك، فمرض صمصام الدولة وتأخر ابن خلدون م 39 ج 4

(4/609)


عن حضور الدار وراسله صمصام الدولة [1] أنه لا ذنب له لأنه كان صبيا، فاعتقله مكرّما، وسعي إليه بابن سعدان وزيره ارهواه كان معهم [2] فعزله وقتله ومضى أسفار إلى أبي الحسن بن عضد الدولة بالأهواز ومضى بقية العسكر إلى مشرف الدولة بفارس.
(استيلاء القرامطة على الكوفة بدعوة مشرف الدولة ثم انتزاعها منهم)
كان للقرامطة محل من البأس والهيبة عند أهل الدول، وكانوا يدافعونهم في أكثر الأوقات بالمال، وأقطعهم معزّ الدولة وابنه بختيار ببغداد وأعمالها، وكان يأتيهم ببغداد أبو بكر بن ساهويه يحتكم بحكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة وكان على القرامطة في هجر ونيسابور مشتركان في إمارتهما، وهما إسحاق وجعفر. فلما بلغهما الخبر سارا إلى الكوفة فملكاها وخطبا لمشرف الدولة، وكاتبهما صمصام الدولة بالعتب فذكرا أمرهما ببغداد، وانتشر القرامطة في البلاد وجبوا الأموال، ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر من أكابرهم إلى الجامعين فسرّح صمصام الدولة العسكر ومعهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوه فهزموه وأسروه، وقتلوا جماعة من قوّاد القرامطة. ثم عاودوا عسكرا آخر ولقيتهم عساكر صمصام الدولة بالجامعين فانهزم القرامطة وقتل مقدّمهم وغيره، وأسروا منهم العساكر وساروا في اتباعهم إلى القادسية فلم يدركوهم.
__________
[1] بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 41: «وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكّنه، فما زاده إلا تماديا، فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه، وكان صمصام الدولة أبلّ من مرضه، فامتنع الطائع من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمال فولاذ زماندار، وكان موافقا لأسفار إلّا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه. فلما راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرج من عنده، وقاتل أسفار، فهزمه فولاذ، وأخذ الأمير ابو نصر أسيرا، وأحضر عند أخيه صمصام الدولة، فرقّ له، وعلم أنه لا ذنب له، فاعتقله مكرّما، وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة» .
[2] العبارة غير واضحة وفي الكامل: «وسعي إليه بابن سعدان الّذي كان وزيره، فعزله، وقيل إنه كان هواه معهم» . ص 42.

(4/610)


(استيلاء مشرف الدولة على الأهواز ثم على بغداد واعتقال صمصام الدولة)
ثم سار مشرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس لطلب الأهواز، وقد كان أخوه أبو الحسين تغلّب عليها عند انهزام عساكر صمصام الدولة سنة اثنتين وسبعين، وكان صمصام الدولة عند ما ملك بعث أبا الحسين وأبا ظاهر أخويه على فارس كما قدّمناه، فوجدا أخاهما مشرف الدولة قد سبقهما إلى ملكها. وعند ما ملك فارس والبصرة ولّاهما على البصرة، فلما انهزمت عساكر صمصام الدولة امام عسكر مشرف الدولة بعث أبا الحسين على الأهواز فملكها وأقام بها، واستخلف على البصرة أخاه أبا ظاهر، فلما سار مشرف الدولة هذه السنة إلى الأهواز قدّم إليه الكتّاب بأن يسير إلى العراق، وأنه يقرّه على عمله، فشقّ ذلك على أبي الحسين، وتجهّز للمدافعة، فعاجله مشرف الدولة عن ذلك. وأغذّ السير إلى أرّجان فملكها، ثم رامهرمز، وانتقض أجناده ونادوا بشعار مشرف الدولة، فهرب إلى عمّه فخر الدولة بالريّ، وأنزلها بأصفهان ووعده بالنصر، وأبطأ عليه فثار في أصفهان بدعوة أخيه مشرف الدولة فقبض عليه جندها وبعثوا به إلى الريّ، فحبسه فخر الدولة إلى أن مرض واشتدّ مرضه فأرسل من قتله في محبسه. ولمّا هرب أبو الحسين من الأهواز سار إليها مشرف الدولة، وأرسل إلى البصرة قائدا فملكها، وقبض على أخيه أبي ظاهر وبعث إليه صمصام الدولة في الصلح، وأن يخطب له ببغداد، وسارت إليه الخلع والألقاب من الطائع، وجاء من قبل صمصام الدولة من يستخلفه، وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر الكوفيّ، فكان يستحثّه إلى بغداد. وفي خلال ذلك جاءته كتب القوّاد من بغداد بالطاعة، وبعث أهل واسط بطاعتهم فامتنع من إتمام الصلح، وسار إلى واسط فملكها وأرسل صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بالسلافة فلم يعطف عليه. وشغب الجند على صمصام الدولة فاستشار صمصام الدولة أصحابه في طاعة أخيه فنهوه. وقال بعضهم: نصعد الى عكبرا ونتبين الأمر، وإن دهمنا ما لا نقوى عليه سرنا إلى الموصل وننتصر بالديلم، وقال آخرون: نقصد فخر الدولة بأصفهان، ثم نخالفه إلى فارس فنحتوي على خزائن مشرف الدولة وذخائره

(4/611)


فيصالح كرها فأعرض عنهم، وركب صمصام الدولة إلى أخيه مشرف الدولة في خواصّه فتلقّاه بالمبرة. ثم قبض عليه وسار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله بعد أربع سنين من إمارته بالعراق.
(أخبار مشرف الدولة في بغداد مع جنده ووزرائه)
لما دخل مشرف الدولة بغداد كان الديلم معه في قوّة وعدد، تنتهي عدّتهم الى خمسة عشر ألفا، والأتراك لا يزيدون على ثلاثة آلاف، فاستطال الديلم بذلك وجرت بين اتباعهم لأوّل دخولهم بغداد مصاولة آلت إلى الحرب بين الفريقين، فاستظهر الديلم على الترك وتنادوا بإعادة صمصام الدولة إلى ملكه، فارتاب بهم مشرف الدولة ووكّل بصمصام الدولة من يقتله إن همّوا بذلك. ثم أتيحت الكرة للأتراك على الديلم وفتكوا فيهم، وافترقوا واعتصهم بعضهم بمشرف الدولة. ثم دخل من الغد إلى بغداد فتقبّله الطائع وهنّأه بالسلامة. ثم أصلح بين الطائفتين واستحلفهم جميعا، وحمل صمصام الدولة إلى قلعة ورد بفارس فاعتقل بها، وكان نحرير الخادم يشير بقتله فلا يجيبه أحد، واعتقل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وأشرف على الهلاك، ثم أشار نحرير في قتله أو سمله، فبعث لذلك من يثق به فلم يقدم على سمله حتى استشار ابا القاسم بن الحسن الناظر هناك فأشار به فسمله. وكان صمصام الدولة يقول: إنما أعماني العلاء لأنه في معنى حكم سلطان ميت [1] . ولما فرغ مشرف الدولة من فتنة الجند صرف نظره إلى تهذيب ملكه، فردّ على الشريف محمد بن عمر الكوفي جميع أملاكه، وكانت تغلّ في كل سنة ألفي ألف وخمسمائة ألف درهم، وردّ على النقيب أبي أحمد والد الرضي جميع أملاكه. وأقرّ الناس على مراتبهم، وكان قبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس وأفرج عن أبي منصور الصاحب، واستوزره فأقرّه على وزارته ببغداد. وكان قراتكين قد أفرط في الدولة والضرب على أيدي الحكّام فرأى أن يخرجه الى بعض الوجوه، وكان حنقا على بدر بن حسنويه لميله مع عمّه فخر الدولة، فبعثه إليه في العساكر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة فهزمهم بدر بوادي
__________
[1] وفي الكامل ج 9 ص 61: «ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات» .

(4/612)


قرمسين بعد أن هزمه قراتكين أوّلا. ونزل العسكر فكرّ عليهم بدر فهزمهم وأثخن فيهم ونجا قراتكين في الفلّ إلى جسر النهروان حتى اجتمع إليه المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل. ولما رجع قراتكين أغرى الجند بالشغب على الوزير أبي منصور بن صالحان، فأصلح مشرف الدولة بينه وبين قراتكين. وحقدها له فقبض عليه بعد أيام وعلى جماعة من أصحابه، واستصفى أموالهم وشغب الجند من أجله فقتله، وقدّم عليهم مكانه طغان الحاجب. ثم قبض سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على شكر الخادم خالصة أبيه عضد الدولة وخالصته، وكان يحقد عليه من أيام أبيه من سعاياته فيه منها إخراجه من بغداد إلى كرمان تقرّبا إلى أخيه صمصام الدولة بإخراجه. فلما ملك مشرف الدولة بغداد اختفى شكر فلم يعثر عليه، وكان معه في اختفائه جارية حسناء فعلقت بغيره، وفطن لها فضربها فخرجت مغاضبة له.
وجاءت إلى مشرف الدولة فدلّت عليه فأحضره وهمّ بقتله، وشفع فيه نحرير الخادم حتى وهبه له. ثم استأذن في الحجّ وسار من مكّة إلى مصر فاختصّه خلفاء الشيعة وأنزلوه عندهم بالمنزلة الرفيعة.
(وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه بهاء الدولة)
ثم توفي مشرف الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة ملك العراق في منتصف تسع وسبعين وثلاثمائة لثمانية أشهر وسنتين من ملكه، ودفن بمشهد عليّ عليه السلام. ولما اشتدّت علته بعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس بالخزائن والعدد مع أمّه وجواريه في جماعة عظيمة من الأتراك، وسأله أصحابه أن يعهد فقال: أنا في شغل عن ذلك، فسألوه نيابة أخيه بهاء الدولة ليسكن الناس إلى أن يستفيق من مرضه، فولّاه نيابته.
ولما جلس بهاء الدولة في دست الملك، ركب إليه الطائع فعزّاه وخلع عليه خلع السلطنة، وأقرّ بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.
(وثوب صمصام الدولة بفارس وأخباره مع أبي علي ابن أخيه مشرف الدولة)
قد تقدّم لنا أن صمصام الدولة اعتقله أخوه مشرف الدولة بقلعة ورد قرب شيراز من

(4/613)


أعمال فارس عند ما ملك بغداد سنة ست وسبعين وثلاثمائة. فلما مات مشرف الدولة وكان قد بعث ابنه أبا علي إلى فارس، ولحقه موت أبيه بالبصرة فبعث ما معه في البحر إلى أرّجان، وسار إليها في البرّ مخفا. والتفّ عليه الجند الذين بها، وكاتبه العلاء بن الحسن من شيراز بخبر صمصام الدولة، فسار إلى شيراز واختلف عليه الجند، وهمّ الديلم بإسلامه إلى صمصام الدولة، فتحرّك الأتراك وقاتل الديلم أياما، ثم سار إلى نسا والأتراك معه، فأخذوا ما بها من المال وقتلوا الديلم ونهبوا أموالهم وسلاحهم. وسار أبو علي إلى أرّجان، وبعث الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة والديلم ونهبوا البلد، وعادوا إليه بأرّجان. وجاءه رسول عمّه بهاء الدولة من بغداد بالمواعيد الجميلة، ودسّ مع رسوله إلى الأتراك واستمالهم فحسّنوا لأبي عليّ المسير إلى عمّه بهاء الدولة، فسار إليه ولقيه بواسط منتصف ثمانين وثلاثمائة وقد أعدّ له الكرامة والنزول، ثم قبض عليه لأيام وقتله، وتجهّز للمسير إلى فارس.
(مسير فخر الدولة صاحب الريّ وأصفهان وهمذان الى العراق وعوده)
كان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يحب العراق ويريد بغداد، لما كان بها من الحضارة واستئثار الفضائل. فلمّا توفي مشرف الدولة سلطان بغداد رأى أنّ الفرصة قد تمكنت فدسّ إلى فخر الدولة من يغريه بملك بغداد، حتى استشاره في ذلك، فتلطّف في الجواب بأن أحاله على سعادته فقبل إشارته، وسار إلى حمدان ووفد عليه بدر بن حسنويه ودبيس بن عفيف الأسديّ، وشاوروا في المسير فسار الصاحب بن عبّاد وبدر في المقدمة على الجادة، وفخر الدولة على خوزستان. ثم ارتاب فخر الدولة بالصاحب بن عبّاد خشية من ميله مع أولاد عضد الدولة فاستعاده، وساروا جميعا إلى الأهواز فملكها فخر الدولة وأساء السيرة في جندها وجنده، وحبس عنهم العطاء فتخاذلوا وكان الصاحب منذ اتهمه وردّه عن طريقه معرضا عن الأمور ساكتا، فلم تستقم الأمور بإعراضه. ثم بعث

(4/614)


بهاء الدولة عساكره إلى الأهواز فقاتلوهم وزادت دجلة إلى الأهواز، وانفتقت أنهارها فتوهّم الجند وحسبوها مكيدة فانهزموا، وأشار عليه الصاحب بإطلاق الأموال فلم يفعل، فانفضّت عنه عساكر الأهواز، وعاد إلى الريّ وقبض في طريقه على جماعة من قوّاد الديلم والريّ، وعادت الأهواز الى دعوة بهاء الدولة.
(مسير بهاء الدولة إلى أخيه صمصام الدولة بفارس)
ثم سار بهاء الدولة سنة ثمانين وثلاثمائة إلى خوزستان عازما على قصد فارس، وخلّف ببغداد أبا نصر خواشاده من كبار قوّاد الديلم، ومرّ بالبصرة فدخلها، وسار منها الى خوزستان، وأتاه نعي أخيه أبي ظاهر فجلس لعزائه، ودخل أرّجان وأخذ جميع ما فيها من الأموال، وكانت ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، وهرعت إليه الجنود ففرّقت فيهم تلك الأموال كلها. ثم بعث مقدّمته أبا العلاء بن الفضل إلى النوبندجان فهزموا بها عسكر صمصام الدولة، فأعاد صمصام الدولة العساكر مع فولاد بن ماندان فهزموا أبا العلاء بمراسلة وخديعة من فولاذ، كبسه في أثرها، فعاد إلى أرّجان مهزوما. ولحق صمصام الدولة من شيراز بفولاذ. ثم تردّدت الرسل في الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرّجان ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، ويكون لكلّ منهما أقطاع في بلد صاحبه، فتمّ ذلك بينهما وتحالفا عليه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز. وبلغه ما وقع ببغداد من العيّارين وبين الشيعة وأهل السنّة وكيف نهبت الأموال وخرجت المساكين فأعاد السير إلى بغداد وصلحت الأحوال.
(القبض على الطائع ونصب القادر للخلافة)
قد ذكرنا أنّ بهاء الدولة قد شغب الجند عليه لقلّة الأموال، وقبض وزيره فلم يغن عنه. وكان أبو الحسن بن المعلّم غالبا على هواه، فأطمعه في مال الطائع، وزيّن له القبض عليه. فأرسل إليه بهاء الدولة في الحضور عنده، فجلس على العادة، ودخل

(4/615)


بهاء الدولة في جمع كبير وجلس على كرسيّه، وأهوى بعض الديلم إلى يد الطائع ليقبّلها، ثم جذبه عن سريره. وهو يستغيث ويقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 واستصفيت خزائن دار الخلافة فمشى بها الحال أياما ونهب الناس بعضهم بعضا. ثم أشهد على الطائع بالخلع ونصّبوا للخلافة عمّه القادر أبا العبّاس أحمد المقتدر، استدعوه من البطيحة وكان فرّ إليها أمام الطائع كما تقدّم في أخبار الخلفاء. وهذا كلّه سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
(رجوع الموصل الى بهاء الدولة)
كان أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل قتل أبا طاهر بن حمدان آخر ملوك بني حمدان بالموصل وغلب عليها، وأقام بها طاعة معروفة لبهاء الدولة، وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار بني حمدان وبني المسيب. ثم بعث بهاء الدولة أبا جعفر الحجّاج بن هرمز من قوّاد الديلم في عسكر كبير إلى الموصل فملكها آخر إحدى وثمانين فاجتمعت عقيل مع أبي الرواد على حربه وجرت بينهم عدّة وقائع، وحسن فيها بلاء أبي جعفر بالقبض عليه، فخشي اختلاف أمره هناك وراجع في أمره، وكان بإغراء ابن المعلّم وسعايته. ولما شعر الوزير بذلك صالح أبا الروّاد وأخذ رهنه، وأعاده الى بغداد فوجد بهاء الدولة قد نكب ابن المعلم.
(أخبار ابن المعلم)
هو أبو الحسن بن المعلم قد غلب على هوى بهاء الدولة وتحكّم في دولته، وصدر كثير من عظائم الأمور بإشارته، فمنها نكبة أبي الحسن محمد بن عمر العلويّ، وكان قد عظم شأنه مع مشرف الدولة وكثرت أملاكه. فلما ولي بهاء الدولة سعى به عنده وأطمعه في ماله، فقبض عليه واستصفى سائر أملاكه، ثم حمله على نكبة وزيره

(4/616)


أبي منصور بن صالحان سنة ثمان [1] واستوزر أبا النصر سابور بن أردشير قبل مسيره إلى خوزستان، ثم حمله على خلع الطائع واستصفى أمواله وحمل ذخائر الخلافة إلى داره، ثم حمله على نكبة وزيره أبي نصر سابور واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، وبعد مرجعه من خوزستان قبض على أبي خواشاده وأبي عبد الله بن ظاهر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأنهما لم يوصلا لابن المعلّم هداياهما، فحمل بهاء الدولة على نكبتهما. ولما استطال على الناس وكثر الضجر منه شغب الجند على بهاء الدولة وطالبوه بإسلامه إليهم، وراجعهم فلم يقبلوا، فقبض عليه وعلى سائر أصحابه ليسترضيهم بذلك فلم يرضوا إلّا به، فأسلمه إليهم وقتلوه. ثم اتّهم الوزير أبا القاسم بمداخلة الجند في الشغب على الوزير، فقبض عليه واستوزر مكانه أبا نصر سابور وأبا نصر بن الوزير الأوّلين وأقاما شريكين في الوزارة.
(خروج أولاد بختيار وقتلهم)
كان عضد الدولة قد حبس أولاد بختيار فأقاموا معتقلين مدّة أيامه وأيام صمصام الدولة من بعده. ثم أطلقهم مشرف الدولة وأحسن إليهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم.
فلما مات مشرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا الموكّل الّذي عليهم والجند الّذي معه من الديلم، فأفرجوا عنهم وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
واجتمع إليهم أهل تلك النواحي وأكثرهم رجّالة، وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فبعث أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر، فافترقت تلك الجموع وتحصّن بنو بختيار ومن معهم من الديلم، وحاصرهم أبو علي، وأرسل أحد الديلم معهم فأصعدهم سرّا وملكوا القلعة وقتلوا أولاد بختيار.
(استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ورجوعها منه)
ثم انتقض الصلح سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة بين بهاء الدولة صاحب بغداد وأخيه
__________
[1] هكذا بالأصل، والصحيح ان بهاء الدولة قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان سنة 380 كما في الكامل ج 9 ص 77.

(4/617)


صمصام الدولة صاحب خوزستان، وذلك أنّ بهاء الدولة بعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز، وأسرّ إليه أن يبعث العساكر متفرّقة، فإذا اجتمعوا عنده صدم بهم بلاد فارس. فسار أبو العلاء، وتشاغل بهاء الدولة عن ذلك، وظهر الخبر فجهّز صمصام الدولة عسكره إلى خوزستان، واستمدّ أبو العلاء بهاء الدولة فتوافت عساكره، والتقى العسكران وانهزم أبو العلاء وأخذ أسيرا، فأطلقته أم صمصام الدولة. وقلق بهاء الدولة لذلك، وافتقد الأموال فأرسل وزيره أبا نصر سابور إلى واسط، وأعطاه جواهر واعلاقا يسترهنها [1] عند مهذّب الدولة صاحب البطيحة فاسترهنها، ولما هرب الوزير أبو نصر استعفى ابن الصالحان من الانفراد بالوزارة فأعفي. واستوزر بهاء الدولة أبا القاسم علي بن أحمد، ثم عجز وهرب. وعاد أبو نصر سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم. ثم بعث بهاء الدولة طغان التركي إلى الأهواز في سبعمائة من المقاتلة فملكوا السوس، ورحل أصحاب صمصام الدولة عن الأهواز، وانتشرت عساكر طغان في أعمال خوزستان، وكان أكثرهم من الترك، فغصّ الديلم بهم الذين في عسكر طغان، فضلّ الدليل وأصبح على بعد منهم، ورآهم الأتراك فركبوا إليهم وأكمن ألوفا، واستأمن كثير منهم وأمّنهم طغان حتى نزلوا بأمر الأتراك فقتلوهم كلهم، وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة بواسط، وسار إلى الأهواز وسار صمصام الدولة إلى شيراز وذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وأمر صمصام الدولة بقتل الأتراك في جميع بلاد فارس سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فقتل منهم جماعة وهرب الباقون، فعاثوا في البلاد ولحقوا بكرمان، ثم ببلاد السند حتى توسّطهم الأتراك [2] فأطبقوا عليهم واستلحموهم.
__________
[1] مقتضى السياق: يرهنها.
[2] معنى العبارة ان الأتراك اطبقوا على الأتراك، وحسب مقتضى السياق ان المعركة وقعت بين الديلم والأتراك. وفي الكامل ج 9 ص 111: «أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا الى كرمان، ثم منها الى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج الى تلقّيهم، ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفّين: فلما حصل الأتراك في وسطهم اطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل» .

(4/618)


(استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ثم على البصرة)
ثم بعث صمصام الدولة عساكره الديلم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة إلى الأهواز، وكان نائب بهاء الدولة قد توفي وعزم الأتراك على العود إلى بغداد، فبعث بهاء الدولة مكانه أبا كاليجار المرزبان بن سفهيعون [1] ، وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى رامهرمز مددا لنائبها لفتكين [2] ، وقد انهزم إليها أمام عسكر صمصام الدولة، فترك أبا محمد بن مكرم بها. ومضى إلى الأهواز وسار إلى خوزستان، فكاتبه العلاء بن الحسن يخادعه. ثم سار إلى رامهرمز وحارب ابن مكرم ولفتكين وبعث بهاء الدولة ثمانين من الأتراك يأتون من خلف الديلم، فشعروا بهم وقتلوهم أجمعين. وخام بهاء الدولة عن اللقاء، فرجع إلى الأهواز. ثم سار إلى البصرة ونزل بها، وانتهى خبره إلى ابن مكرم، فعاد إلى عسكر مكرم واتبعه العلاء والديلم فأجلوه عنها إلى قرب تستر.
وتكرّرت الوقائع بين الفريقين، فكان بيد الأتراك من تستر إلى رامهرمز، وبيد الديلم من رامهرمز [3] ، ورجع الأتراك واتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فرجع عنهم، وأقام بعسكر مكرم. ورجع بهاء الدولة إلى بغداد، وكان مع العلاء قائد من قوّاد الديلم اسمه شكراستان، فاستأمن إليه من الديلم الذين مع بهاء الدولة نحو من أربعمائة رجل فاستكثر بهم، وسار إلى البصرة وحاصرها، ومال إليهم أبو الحسن بن جعفر العلويّ من أهل البصرة، وكانوا يحملون الميرة. وعلم بهاء الدولة فأنفذ من يقبض عليهم فهربوا إلى ذلك القائد وقوي بهم، وجمعوا له السفن فركبها إلى البصرة، وقاتل أصحاب بهاء الدولة وهزمهم وملك البصرة واستباحها. وكتب بهاء الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة بأن يرتجعها من يد الديلم ويتولّاها، فأمدّه عبد الله بن مرزوق، وأجلى الديلم عنها، ثم رجع للقاء شكراستان. وهجم
__________
[1] المرزبان بن شهفيروز: ابن الأثير ج 9 ص 112.
[2] ورد اسمه من قبل افتكين وفي الكامل الفتكين وهذا ربما تحريف من الناسخ.
[3] هكذا بالأصل والعبارة مبتورة ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 113:
«وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة من تستر الى رامهرمز ومع الديلم منها الى أرجان، وأقاموا ستة أشهر ثم رجعوا الى الأهواز، ثم عبر بهم النهر الى الديلم واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء فوجد قد سلكوا طريق واسط» .

(4/619)


عليها في السفن فملكها وكاتب بهاء الدولة بالطاعة والضمان فأجابه وأخذ ابنه رهينة، وكان يظهر طاعة بهاء الدولة وصمصام الدولة.
(وفاة الصاحب بن عباد)
وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة توفي أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد وزير فخر الدولة بالريّ، وكان أوحد زمانه علما وفضلا ورياسة ورأيا وكرما وعرفا بأنواع العلوم، عارفا بالكتابة ورسائله مشهورد مدوّنه. وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد حتى يقال: كانت تنقل في أربعمائة حمل. ووزر بعده لفخر الدولة أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الضبّي الملقّب بالكافي. ولمّا توفي استصفى فخر الدولة أمواله بعد أن أوصاه عند الموت، فلم ينفّذ وصيته. وكان الصاحب قد أحسن إلى القاضي عبد الجبّار المعتزلي وقدّمه وولّاه قضاء الريّ وأعمالها. فلمّا مات قال عبد الجبّار لا أرى الترحّم عليه لأنه مات على غير توبة ظهرت منه، فنسب إليه قلّة الوفاء بهذه المقالة. ثم صادر فخر الدولة عبد الجبّار فباع في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف الرفيع. ثم تتبّع فخر الدولة آثار ابن عبّاد وأبطل ما كان عنده من المسامحات، وقبض على أصحابه والبقاء للَّه وحده.
(وفاة فخر الدولة صاحب الريّ وملك ابنه مجد الدولة)
ثم توفي فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه صاحب الريّ وأصفهان وهمذان في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة بقلعة طبرك، ونصّب للملك من بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين، نصّبه الأمراء وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميس إلى حدود العراق. وكان زمام الدولة بيد أمّ رستم مجد الدولة وإليها تدبير ملكه، وبين يديها في مباشرة الأعمال أبو ظاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العبّاس الضبيّ الكافي
.

(4/620)


(وفاة العلاء بن الحسن صاحب خوزستان)
ثم توفي العلاء بن الحسن عامل خوزستان لصمصام الدولة بعسكر مكرم، فبعث صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز بالمال ففرّقه في الديلم، ودفع أصحاب بهاء الدولة عن جند نيسابور بعد وقائع كان الظفر فيها له، ثم دفعهم عن خوزستان إلى واسط واستمال بعضهم فنزعوا إليه، ورتّب العمّال في البلاد وجبى الأموال سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ثم سار أبو محمد بن مكرم من واسط مع الأتراك فدافعهم، وكانت بينه وبينهم وقائع. ثم سار بهاء الدولة في أثرهم من واسط، وكان لحق بهم في واسط أبو عليّ بن إسماعيل الّذي كان نائبا ببغداد عند مسيره إلى الأهواز سنة ست وثمانين وثلاثمائة وجاء المقلّد بن المسيّب من الموصل للعيث في جهات بغداد، فبرز أبو علي لقتاله، فنكر ذلك بهاء الدولة مغالطة، وبعث من يصالحه ويقبض على أبي عليّ، فهرب أبو علي إلى البطيحة، ثم لحق بهاء الدولة وهو بواسط فوزر له وزير أمره وأشار عليه بالمسير لانجاد أبي محمد بن مكرم في قتال أبي عليّ بن أستاذ هرمز بخوزستان، فسار بهاء الدولة ونزل القنطرة البيضاء، وجرت بينه وبين أبي علي بن استاذ هرمز وقائع، وانقطعت الميرة عن عسكر بهاء الدولة، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأمدّه ببعض الشيء، وكثرت سعاية الأعداء في أبي علي بن إسماعيل فكاد ينكبهم، وبينما هم على ذلك بلغهم مقتل صمصام الدولة فصلحت الأحوال واجتمعت الكلمة.
(مقتل صمصام الدولة)
كان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين كما تقدّم، فخدعا المتوكّلين بهما في القلعة، وخرجا فاجتمع إليهما لفيف من الأكراد، وكان صمصام الدولة قد عرض جنده وأسقط منهم نحوا من ألف لم يثبت عنده نسبهم في الديلم فبادروا إلى ابني بختيار والتقوا عليهما في أرّجان. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما، فثار به الجند ونهبوا داره فاختفى، ثم انتقضوا على صمصام الدولة ونهبوه، وهرب إلى الرودمان

(4/621)


على مرحلتين من شيراز فقبض عليه صاحبها، وجاء أبو نصر بن بختيار فأخذه منه وقتله في ذي الحجّة سنة ثمان لتسع سنين من إمارته بفارس، وأسلمت أمّه إلى بعض قوّاد الديلم فقتلها ودفنها بداره حتى ملك بهاء الدولة فارس، فنقلها الى تربة بني بويه.
(استيلاء بهاء الدولة على فارس وخوزستان)
ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار فارس بعثا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز يستميلانه، ويأمرانه بأخذ العهد لهما على الذين معه من الديلم، ومحاربة بهاء الدولة.
وكتب إليه بهاء الدولة يستميله ويؤمّنه ويؤمّن الديلم الذين معه ويرغّبهم، واضطرب رأي أبي علي لخوفه من ابني بختيار لما أسلف من قتل إخوتهما وحبسهما فمال عنهما، ومال الديلم عن بهاء الدولة خوفا من الأتراك الذين معه، فما زال أبو علي بهم حتى بعثوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة، واستوثقوا يمينه ونزلوا إلى خدمته، وساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز وأرّجان. واستولى بهاء الدولة على سائر بلاد خوزستان وبعث وزيره أبا علي بن إسماعيل إلى فارس، فنزل بظاهر شيراز وبها ابنا بختيار فحاربهما، ومال بعض أصحابهما إليه. ثم انفضّوا عنهما إلى أبي علي وأطاعوه، واستولى على شيراز ولحق أبو نظر ابن بختيار ببلاد الديلم وأخوه أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة. وكتب الوزير أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إلى شيراز وأمر بنهب قرية الرودمان فملكها، وأقام بهاء الدولة بالأهواز، واستخلف ببغداد أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز ولقّبه عميد العراق. وبقي ملوك الديلم بعد ذلك يقيمون بفارس الأهواز ويستخلفون على العراق مدّة طويلة.
(مقتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها)
لما استقرّ أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم كاتب جند الديلم بفارس وكرمان واستمالهم، فاستدعوه إلى فارس، فاجتمع إليه كثير من الربض والديلم والأكراد. ثم سار إلى

(4/622)


كرمان وبها أبو جعفر بن السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وملك أكثر كرمان، فبعث بهاء الدولة وزيره الموفّق أبا علي بن إسماعيل في العساكر، ولما وصل جيرفت استأمن إليه أهلها وملكها، وهرب ابن بختيار فاختار الوزير من أصحابه ثلاثمائة رجل وسار في أتباعه، وترك باقي العسكر بجيرفت. ولما أدركه أوقع به وغدر بابن بختيار بعض أصحابه فقتله، وجاء برأسه الى الموفّق، واستلحم الباقين، وذلك سنة تسعين وثلاثمائة. واستولى الموفّق على كرمان، وولّى عليها أبا موسى سياه جشم، وعاد إلى بهاء الدولة فقبض عليه واستصفاه، وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على أنسابه وأصحابه، فدسّ إليهم سابور بذلك وهربوا. ثم قتل بهاء الدولة الموفّق سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ثم استعمل بهاء الدولة على خوزستان وأعمالها أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز، ولقّبه عميد الجيوش، وعزل عنها أبا جعفر الحجّاج بن هرمز لسوء سيرته، وفساد أحوالها بولايته، وكثرة مصادراته، فصلحت حالها بولاية أبي علي، وحصّل إلى بهاء الدولة منها الأموال مع كثرة العدل.
(مسير ظاهر بن خلف الى كرمان واستيلاؤه عليها ثم ارتجاعها)
قد تقدّم لنا أنّ ظاهر بن خلف خرج عن طاعة أبيه خلف بن أحمد السجستاني، وحاربه فظفر به أبوه، فسار إلى كرمان يروم التوثّب عليها، وتكاسل عاملها عن أمره، فكثر جمعه واجتمع إليه بحيالها كثير من المخالفين، فنزل بهم إلى جيرفت فملكها وملك غيرها سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وكان بكرمان أبو موسى سياه جشم، فسار إليه بمن معه من الديلم فهزمه ظاهر وأخذ ما بقي بيده، فبعث بهاء الدولة أبا جعفر استاذ هرمز في العساكر إلى كرمان فهزم ظاهرا إلى سجستان وملك كرمان وعادت الديلم.
(حروب عساكر بهاء الدولة مع بني عقيل)
كان قرواش بن المقلّد قد بعث جمعا من بني عقيل سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

(4/623)


فحاصروا المدائن، وبعث أبو جعفر الحجّاج بن هرمز وهو ببغداد نائب لبهاء الدولة عساكره فدفعوهم عنها، فاجتمع بنو عقيل وأبو الحسن بن مزيد من بني أسد، وبرز إليهم الحجّاج، واستدعى خفاجة من الشام وقاتلهم فانهزم واستبيح عسكره، وانهزم ثانيا، وبرز إليهم فالتقوا بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم ونهب من حلل بني يزيد ما لا يعبر عنه من العين والمصاغ والثياب.
(الفتنة بين أبي علي وأبي جعفر)
لما غاب أبو جعفر الحجّاج عن بغداد قام بها العيّارون واشتدّ فسادهم وكثر القتل والنهب، فبعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز لحفظ العراق، فانهزم أبو جعفر بنواحي الكوفة مغضبا. ثم جمعوا الجموع من الديلم والأتراك والعرب، فانهزم أبو جعفر وأمن أبو علي جانبه، فسار إلى خوزستان وبلغ السوس.
فأتاه الخبر بأنّ أبا جعفر عاد إلى الكوفة فكرّ راجعا، وعاد الحرب بينهم، وبينما هم على ذلك أرسل بهاء الدولة إلى أبي علي يستدعيه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة لحرب ابن واصل بالبصرة فسار إليه، وكانت الحرب بينه وبين ابن واصل كما يأتي في اخبار ملوك البطيحة، ورجع إلى بغداد ونزل أبو جعفر على فلح حامي طريق خراسان وأقام هنالك، وكان فلح مباينا لعميد الجيوش أبي علي. وتوفي سلخ سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فولّى أبو عليّ مكانه أبا الفضل بن عنّان، وكان بهاء الدولة في محاربة ابن واصل بالبصرة، فأتاهم الخبر بظهور بهاء الدولة عليه، فأوهن ذلك منهم وافترقوا ولحق ابن مزيد ببلده، وسار أبو جعفر وابن عيسى إلى حلوان. وأرسل أبو جعفر في إصلاح حاله عند بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، وحضر عنده بتستر، فأعرض عنه خوفا أن يستوحش أبو علي. وحقد بهاء الدولة لبدر بن حسنويه فسار إليه، وبعث إليه بدرا في المصالحة فقبله وانصرف، وتوفي أبو جعفر الحجّاج بن هرمز بالأهواز سنة إحدى وأربعمائة
.

(4/624)


(الفتنة بين مجد الدولة صاحب الريّ وبين أمّه واستيلاء ابن خالها علاء الدين بن كاكويه على أصفهان)
قد تقدّم لنا ولاية مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة على همذان وقرميس إلى حدود العراق، وتدبير الدولتين لأمّه وهي متحكّمة عليهما، فلمّا وزر لمجد الدولة الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء عنها وخوّف مجد الدولة عنها، فاسترابت وخرجت من الريّ إلى القلعة، فوضع عليها من يحفظها فأعملت الحيلة حتى لحقت ببدر بن حسنويه مستنجدة به. وجاءها ابنها شمس الدولة في عساكر همذان وسار معهما بدر، وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة فحاصروا أصفهان وملكوها عنوة. وعاد إليها الأمر فاعتقلت مجد الدولة ونصبت شمس الدولة للملك، ورجع بدر إلى بلده ثم بعد سنة استرابت بشمس الدولة، فأعادت مجد الدولة إلى ملكه.
وسار شمس الدولة إلى همذان، وانتقض بدر بن حسنويه لذلك، وكان في شغل بفتنة ولده هلال. واستمدّ شمس الدولة فأمدّه بعسكر وحاصر قمّ فاستصعبت عليه، وكان علاء الدين أبو حفص بن كاكويه ابن خال هذه المرأة، وكاكويه هو الخال بالفارسية، فلذلك قيل له ابن كاكوي، وكانت قد استعملته على أصفهان، فلما فارق أمرها فسد حاله، فسار هو إلى بهاء الدولة بالعراق، وأقام عنده. فلما عادت إلى حالها هرب أبو حفص إليها من العراق، فأعادته إلى أصفهان، ورسخ فيها ملكه وملك بنيه كما يأتي في أخبارهم.
(وفاة عميد العراق وولاية فخر الملك)
كان أبو جعفر أستاذ هرمز من حجّاب عضد الدولة وخواصه، وصيّر ابنه أبا علي في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلمّا قتل صمصام الدولة رجع إلى بهاء الدولة، وبلغه ما وقع ببغداد في مغيبه من الهرج وظهور العيّارين، فبعث بهاء الدولة مكانه على العراق فخر الملك أبا غالب، وأصعد إلى بغداد فلقيه الكتّاب والقوّاد والأعيان في ابن خلدون م 40 ج 4

(4/625)


ذي الحجّة من السنة، وبعث العساكر من بغداد لقتال أبي الشوك حتى استقام.
وكانت الفتنة قد وقعت بين بدر بن حسنويه وابنه هلال، واستنجد بدر ببهاء الدولة فأنجده [1] من يده وأخذ ما فيها من الأموال، وفتح دير العاقول، وجاء سلطان وعلوان ورجب بنو ثمال الخفاجي في أعيان قومهم، وضمنوا حماية سقي الفرات من بني عقيل، وساروا معه إلى بغداد فبعثهم مع ذي السعادتين الحسن بن منصور للأنبار فعاثوا في نواحيها، وحبس ذو السعادتين نفرا منهم. ثم أطلقهم فهمّوا بقبضه، وشعر بهم فحاول عليهم حتى قبض على سلطان منهم وحبسهم ببغداد. ثم شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد فأطلقهم، فاعترضوا الحاج سنة اثنتين وأربعمائة ونهبوهم فبعث فخر الملك إلى أبي الحسن بن مزيد بالانتقام منهم، فلحقهم بالبصرة فأوقع بهم وأثخن فيهم، واستردّ من أموال الحاج ما وجد وبعث به وبالأسرى إلى فخر الملك. ثم اعترضوا الحاج مرّة أخرى ونهبوا سواد الكوفة فأوقع بهم أبو الحسن بن مزيد مثل ذلك، وبعث بأسراهم إلى بغداد.
__________
[1] هكذا بياض بالأصل في الكامل ج 9 ص 215: «وأرسل بدر الى الملك بهاء الدولة يستنجده، مجهّز فخر الملك أبا غالب في جيش، وسيّره الى بدر، فسار حتى وصل الى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيّق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنّهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظنّ هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإنّ أولئك ذلّلهم أبوك على ممرّ السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة ان يقوى أبي وأضعف أنا، وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلا. فلما وصل اليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم الى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة للأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل الى فخر الملك يقول له: إنّني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريبا منك، وأنزل على حكمك، فتردّ العسكر عن الحرب، فإنّني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك الى هذا القول، وأرسل الرسول الى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبّه وطرده، وأرسل الى فخر الملك يقول له: إنّ هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي ان لا تنفّس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتّهم بدرا بالميل الى ابنه، وتقدّم الى الجيش بالحرب، فقاتلوا فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيرا، فقبّل الأرض، وطلب ان لا يسلّمه إلى أبيه، فأجابه الى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمّه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمّنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلّمها الى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها» .

(4/626)


(وفاة بهاء الدولة وولاية ابنه سلطان الدولة)
ثم توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه هلك بالعراق منتصف ثلاث وأربعمائة بأرّجان، وحمل إلى تربة أبيه بمشهد عليّ فدفن بها لأربع وعشرين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرّجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا ظاهر على البصرة وأخاه أبا الفوارس على كرمان.
(استيلاء شمس الدولة على الريّ من يد أخيه مجد الدولة ورجوعه عنها)
قد تقدّم لنا أنّ شمس الدولة بن فخر الدولة كان ملك همذان وأخوه مجد الدولة ملك الريّ بنظر أمّه، وكان بدر بن حسنويه أمير الأكراد وبينه وبين ولده هلال فتنة وحروب نذكرها في أخبارهم. واستولى شمس الدولة على كثير من بلادهم وأخذ ما فيها من الأموال كما يذكر في أخبارهم. ثم سار إلى الريّ يروم ملكها ففارقها أخوه مجد الدولة ومعه أمّه إلى دنباوند واستولى شمس الدولة على الريّ وسار في طلب أخيه وأمّه فشغب الجند عليه وطالبوه بأرزاقهم، فعاد إلى همذان وعاد أخوه مجد الدولة وأمّه إلى الريّ.
(مقتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان)
ثم قبض سلطان الدولة على نائبة بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب وقتله في سلخ ربيع الأول سنة ست وأربعمائة لخمس سنين ونصف من ولايته، واستصفى أمواله، وكانت ألف ألف دينار سوى العروض وما نهب. وولّى مكانه بالعراق أبا محمد الحسن بن سهلان ولقّبه عميد الجيوش، واستوزر مكانه الرجّحي بعد أن كان ابن سهلان هرب إلى قرواش فأقامه عنده بهيت، وولّى سلطان الدولة مكانه في الوزارة أبا

(4/627)


القاسم جعفر بن فسانجس. ثم رجع ابن سهلان الى سلطان الدولة. فلما قتل فخر الملك ولّاه مكانه، فسار إلى العراق في محرّم سنة تسع وأربعمائة، ومرّ في طريقه ببني أسد فرأى أن يثأر منهم من مضر بن دبيس بما كان قبض عليه قديما بأمر فخر الملك، فأسرى إليه وإلى أخيه مهارش، وفي جملته أخوهم طراد، واتبعهما حتى أدركهما، وقاتله رجال الحيّ فقتل جماعة من الديلم والأتراك. ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم وسبى حريمهم، وبذل الأمان لمضر ومهارش وأشرك بينهما وبين طراد في الجزيرة. ونكر عليه سلطان الدولة ذلك، ورحل هو إلى واسط والفتن بها فقتل جماعة منهم وأصلحها، وبلغه ما ببغداد من الفتنة فسار إليها ودخلها في ربيع من السنة، وهرب منه العيّارون ونفى جماعة من العبّاسيّين وأبا عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم بأطراف البلد فكثر فسادهم وفساد الأتراك، وساروا إلى سلطان الدولة بواسط شاكين من ابن سهلان فوعدهم وأمسكهم، وبعث عن ابن سهلان فارتاب وهرب إلى بني خفاجة، ثم إلى الموصل، ثم استقرّ بالبطيحة. وبعث سلطان الدولة العساكر في طلبه فأجاره واليها الشرابي وهزم العساكر وكان ابن سهلان سار إلى جلال الدولة بالبصرة ثم أصلح الرجّحي حاله مع سلطان الدولة ورجع إليه.
وضعف أمر الديلم في هذه السنة ببغداد وواسط، وثارت لهم العامّة فلم يطيقوا مدافعتهم.
ثم قبض سلطان الدولة على وزيره فسانجس وأخويه، واستوزر أبا غالب ذا السعادتين الحسن بن منصور، وقبض جلال الدولة صاحب البصرة على وزيره أبي سعد عبد الواحد علي بن ماكولا.
(انتقاض أبي الفوارس على أخيه سلطان الدولة)
كان سلطان الدولة قد ولّى أخاه أبا الفوارس على كرمان فاجتمع إليه بعض الديلم، وداخلوه في الانتقاض فانتقض، وسار إلى شيراز فملكها سنة سبع وأربعمائة. وسار سلطان الدولة فهزمهم إلى كرمان، وسار في اتباعه فلحق بمحمود بن سبكتكين ببست ووعده بالنصرة، وبعث معه أبا سعيد الطائي في العساكر إلى كرمان، وقد

(4/628)


انصرف عنها سلطان الدولة إلى بغداد فملكها أبو الفوارس وسار إلى بلاد فارس فملكها، ودخل إلى شيراز فسار سلطان الدولة إليه فهزمه فعاد إلى كرمان سنة ثمان وأربعمائة. وبعث سلطان الدولة في أثره فملكوا عليه كرمان، ولحق بشمس الدولة صاحب همذان لأنه كان أساء معاملة أبي سعيد الطائي، فلم يرجع إلى محمود بن سبكتكين. ثم فارق شمس الدولة إلى مهذّب الدولة صاحب البطيحة فبالغ في تكرمته وأنزله بداره. وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مالا، وعرض عليه المسير إليه فأبى. ثم تردّدت الرسل بينه وبين أخيه سلطان الدولة، فعاد إلى كرمان وبعث إليه التقليد والخلع.
(وثوب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة ببغداد واستبداده آخرا بالملك)
ثم شغب الجند على سلطان الدولة ببغداد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ونادوا بولاية مشرف الدولة أخيه فهمّ بالقبض عليه فلم يتمكّن من ذلك، ثم أراد الانحدار إلى واسط لبعض شئون الدولة فطلب الجند أن يستخلف فيهم أخاه مشرف الدولة فاستخلفه، ورجع من واسط إلى بغداد. ثم اعتزم على قصد الأهواز فاستخلف أخاه مشرف الدولة ثانيا على العراق بعد أن كانا تحالفا أن لا يستخلف أحد منهما ابن سهلان. فلما بلغ سلطان الدولة تستر استوزر ابن سهلان فاستوحش من مشرف الدولة.
ثم بعث سلطان الدولة إلى الأهواز فنهبوها، فدافعهم الأتراك الذين بها، وأعلنوا بدعوة مشرف الدولة، فانصرف سلطان الدولة عنهم. ثم طلب الديم من مشرف الدولة المسير إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم وبعث معهم وزيره أبا غالب، ولحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس الأسدي بجزيرة بني دبيس وذلك لسنة ونصف من ولايته الوزارة، وصودر ابنه أبو العبّاس على ثلاثة ألف دينار وسرّ سلطان الدولة بقتل أبي غالب، وبعث أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها. ثم تراسل سلطان الدولة ومشرف الدولة في الصلح، وسعى فيه بينهما أبو محمد بن مكرم صاحب سلطان الدولة ومؤيد الملك الرجّحي وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق

(4/629)


لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة، وتم ذلك بينهما سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
(استيلاء ابن كاكويه على همذان)
كان شمس الدولة بن بويه صاحب همذان قد توفي ووليّ مكانه ابنه سماء الدولة، وكان فرهاد بن مرداويج مقطع يزدجرد، فسار إليها سماء الدولة وحاصره، فاستنجد بعلاء الدولة بن كاكويه، فأنجده بالعساكر، ودفع سماء الدولة عن فرهاد. ثم سار علاء الدولة وفرهاد إلى همذان وحاصراها، وخرجت عساكر همذان مع عساكر تاج الملك الفوهي قائد سماء الدولة فدفعهم، ولحق علاء الدولة بجرباذقان فهلك الكثير من عسكره بالبرد. وسار تاج الملك الفوهي إلى جرباذقان فحاصر بها علاء الدولة حتى استمال بها قوما من الأتراك الذين مع تاج الملك. وخلص من الحصار وعاود المسير إلى همذان، فهزم عساكرها وهرب القائد تاج الملك، واستولى علاء الدولة على سماء الدولة فأبقى عليه رسم الملك، وحمل إليه المال، وسار فحاصر تاج الملك في حصنه حتى استأمن اليه فأمّنه وسار به وبسماء الدولة إلى همذان فملكها، وملك سائر أعمالها، وقبض على جماعة من أمراء الديلم فحبسهم وقتل آخرين وضبط الملك، وقصد أبا الشوك الكردي فشفع فيه مشرف الدولة فشفعه وعاد عنه، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة.
(وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة ثم عزله)
كان عنبر الخادم مستوليا على دولة مشرف الدولة بما كان حظي أبيه وجدّه، وكان يلقّب بالأثير، وكان حاكما في دولة بني بويه مسموع الكلمة عند الجند. وعقد الوزير مؤيد الملك الرجّحي على بعض اليهود من جواشيه مائة ألف دينار، فسعى الأثير الخادم وعزله في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة واستوزر لناصر الدولة بن حمدان، ونزع عنه إلى خلفاء العبيديّين، وولّاه الحاكم بمصر. وولد له بها ابنه

(4/630)


أبو القاسم الحسين، ثم قتله الحاكم فهرب ابنه أبو القاسم إلى مفرّج بن الجرّاح أمير طيِّئ بالشام، وداخله في الانتقاض على العبيديّين بأبي الفتوح أمير مكة فاستقدمه وبايع له بالرملة. ثم صونع مع مصر بالمال فانحلّ ذلك الأمر ورجع أبو الفتوح إلى مكة، وقصد أبو القاسم العراق واتصل بالعميد فخر الملك أبي غالب، فأمره القادر بإبعاده، فقصد الموصل واستوزره صاحبها، ثم نكبه وعاد الى العراق، وتقلّب به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرجّحي، فساء تصرّفه في الجند وشغب الأتراك عليه وعلى الأثير عنبر بسببه، فخرجا إلى السّندية، وخرج معهما مشرف الدولة فأنزلهم قرواش. ثم ساروا إلى أوانا، وندم الأتراك فبعثوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي يسألون الإقالة، وكتب إليهم أبو القاسم المغربي بأنّ أرزاقكم عند الوزير مكرا به.
وشعر بذلك فهرب إلى قرواش لعشرة أشهر من وزارته، وجاء الأتراك إلى مشرف الدولة والأثير عنبر فردّهما إلى بغداد.
(وفاة سلطان الدولة بفارس وملك ابنه أبي كليجار وقتل ابن مكرم)
ثم توفي سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة صاحب فارس بشيراز، وكان محمد بن مكرم صاحب دولته، وكان هواه مع ابنه أبي كليجار، وهو يومئذ أمير على الأهواز، فاستقدمه للملك بعد أبيه وكان هوى الأتراك مع عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان فاستقدموه. وخشي محمد بن مكرم جانبه وفرّ عنه أبو المكارم إلى البصرة، وسار العادل أبو منصور بن مافنّة إلى كرمان لاستقدام أبي الفوارس وكان صديقا لابن مكرم [1] فحسن أمره عند أبي الفوارس، وأحال الأجناد بحق البيعة على ابن مكرم فضجر وماطلهم، فقبض عليه أبو الفوارس وقتله. ولحق ابنه القاسم بأبي كليجار بالأهواز فتجهّز إلى فارس، وقام بتربيته بابن مزاحم [2] صندل
__________
[1] يبدو ان أبا منصور بن مافنة كان صديقا لابن مكرم هكذا يقتضي السياق وفي الكامل ج 9 ص 337:
«فقال له العادل أبو منصور بن مافنة: الصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة ليمضي اليها، فأصابه برد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس» .
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 338: «وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه» .

(4/631)


الخادم.
وسار في العساكر إلى فارس ولقيهم أبو منصور الحسن بن علي النّسويّ وزير أبي الفوارس فهزموه وغنموا معسكره وهرب أبو الفوارس إلى كرمان وملك أبو كليجار شيراز واستولى على بلاد فارس. وتنكّر للديلم الذين بها، فبعثوا الى من كان منهم بمدينة نسا فتمسّكوا بطاعة أبي الفوارس. ثم شغب عسكر أبي كليجار عليه، وطالبوه بالمال فظاهرهم الديلم، فسار إلى النوبندجان ثم الى شعب بوّان، وكاتب الديلم بشيراز أبا الفوارس يستحثّونه. ثم أصلحوا بينهما على أن تكون لأبي الفوارس كرمان، ويعود أبو كيجار لفارس لما فارقه بها من نعمته. وكان الديلم يطيعونه فساروا في العساكر وهزموا أبا الفوارس، فلحق بدارابجرد واستولى أبو كليجار على فارس.
ثم زحف إليه أبو الفوارس في عشرة آلاف من الأكراد فاقتتلوا بين البيضاء، وإصطخر فانهزم أبو الفوارس ولحق بكرمان، واستولى أبو كليجار على فارس واستقرّ ملكه بها سنة سبع عشرة وأربعمائة.
(وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة)
ثم توفي مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بن بويه سلطان بغداد في ربيع الأوّل سنة ست عشرة وأربعمائة، لخمس سنين من ملكه. ولما توفي خطب ببغداد لأخيه جلال الدولة وهو بالبصرة، واستقدم فلم يقدم، وانتهى إلى واسط فأقام بها يخطب لأبي كليجار ابن أخيه سلطان الدولة، وهو يومئذ بخوزستان مشغول بحرب عمّه أبي الفوارس كما قدّمناه. فحينئذ أسرع جلال الدولة من واسط إلى بغداد، فسار الجند ولقوة بالنهروان وردّوه كرها بعد أن نهبوا بعض خزائنه، وقبض على وزيره أبي سعيد بن ماكولا واستوزر ابن عمّه أبا علي، واستحثّ الجند أبا كليجار فعلّلهم بالوعد وشغل بالحرب، وكثر الهرج ببغداد من العيّارين، وانطلقت أيديهم وأحرقوا الكرخ، ونهاهم الأمير عنبر عن ذلك فلم ينتهوا، فخافهم على نفسه، فلحق بقرواش في الموصل وعظمت الفتن ببغداد
.

(4/632)


(استيلاء جلال الدولة على ملك بغداد)
ولما عظم الهرج ببغداد ورأى الأتراك أنّ البلاد تخرب وأنّ العرب والأكراد والعامّة قد طمعوا فيهم، ساروا جميعا إلى دار الخلافة مستعتبين ومعتذرين عمّا صدر منهم من الانفراد باستقدام جلال الدولة، ثم ردّه واستقدام أبي كليجار مع أنّ ذلك ليس لنا وإنما هو للخليفة، ويرغبون في استدعاء جلال الدولة لتجتمع الكلمة ويسكن الهرج، ويسألون أن يستخلف فأجابهم الخليفة القادر، وبعث إلى جلال الدولة، فسار من البصرة، فبعث الخليفة القاضي أبا جعفر السّمنانيّ لتلقّيه، ويستخلفه لنفسه، فسار ودخل بغداد سنة ثمان عشرة وأربعمائة وركب الخليفة لتلقّيه، ثم سار إلى مشهد الكاظم ورجع، ودخل دار الملك وأمر بضرب النوب الخمس، فراسله القادر في قطعها فقطعها غصبا، ثم أذن له في إعادتها، وبعث جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرجحي [1] إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش بالتأنيس والمحبّة والعذر عن فعل الجند.
(أخبار ابن كاكويه صاحب أصفهان مع الأكراد ومع الأصبهبذ)
كان علاء الدولة بن كاكويه قد استعمل أبا جعفر عليّا ابن عمه على نيسابور خوست ونواحيها، وضمّ إليه الأكراد الجودرقان [2] ومقدّمهم أبو الفرج البابوني. فجرت بين أبي جعفر وأبي الفرج البابوني مشاجرة، وترافعا إليه فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما. ثم قتل أبو جعفر أبا الفرج فانتقض الجودرقان وعظم فسادهم، فبعث علاء الدولة عسكرا وأقاموا أربعة أيام ثم فقدوا الميرة، وجاء علاء الدولة وأعطاهم المال فافترقوا واتبعهم. وجاء إليه بعض الجودرقان وانتهى في اتباعهم إلى وفد وقاتلوه عندها فهزمهم وقتل ابني ولكين في المعركة، ونجا هو في الفلّ إلى جرجان، وأسر
__________
[1] هو أبو علي الرخّجي: ابن الأثير ج 9 ص 362
[2] الجوزقان: المرجع السابق ص 357

(4/633)


الأصبهبذ وابنان له ووزيره، وهلك في الأسر منتصف سنة تسع عشرة وأربعمائة وتحصّن علي بن عمران بقلعة كنكور فحاصره بهاء الدولة، وصار [1] ولكين إلى صهره منوجهر قابوس وأطمعه في الدخس [2] . وكان ابنه صهر علاء الدولة على ابنته وأقطعه مدينة قمّ فعصى عليه وبعث إلى أبيه ولكين. فسار بعساكره وعساكر منوجهر ونازلوا مجد الدولة بن بويه بالريّ وجرت بينهم وقائع فصالح علاء الدولة عليّ بن عمران ليسير إليهم فارتحلوا عن الريّ. وجاء علاء الدولة إليها وأرسل إلى منوجهر يوبخه ويتهدّده فسار منوجهر وتحصّن بكنكور وقتل الذين قتلوا أبا جعفر ابن عمّه وقبل الشرط [3] ، وخرج إلى علاء الدولة فأقطعه الدينور عوضا عن كنكور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة في الصلح فصالحه.
(دخول خفاجة في طاعة أبي كليجار)
كان هؤلاء خفاجة وهم من بني عمرو بن عقيل موطنين بضواحي العراق ما بين بغداد والكوفة وواسط والبصرة. وأميرهم بهذه العصور منيع بن حسّان، وكانت بينه وبين صاحب الموصل منافسات جرّتها المناهضة والجوار، فتردّدت الرسل بين السلم والحرب. وسار منيع بن حسّان سنة سبع عشرة وأربعمائة إلى الجامعين من أعمال دبيس فهبها، وسار دبيس في طلبه ففارق الكوفة وقصد الأنبار من أعمال قرواش فحاصرها أيام، ثم افتتحها وأحرقها، وجاء قرواش لمدافعته ومعه غريب بن معن فلم يجدوه فمضوا إلى القصر فخالفهم منيع إلى الأنبار فعاث فيها ثانية. فسار قرواش إلى الجامعين واستنجد دبيس بن صدقة فسار معه في بني أسد، ثم خاموا عن لقاء منيع فافترقوا ورجع قرواش إلى الأنبار فأصلحها، ورمّ أسوارها. وكان دبيس وقرواش في
__________
[1] مقتضى السياق: سار
[2] وفي نسخة اخرى الدخكث وفي الكامل ج 9 ص 358: «وأطمعه في الريّ وملكها.»
[3] المعنى مضطرب ولا يخلو من التشويش وفي الكامل ج 9 ص 358: «وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيّق عليه، فغنى ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلّم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر عمه، والقائد الّذي سيّره إليه منوجهر، فأجابه الى ذلك وسيّرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمّه، وسجن القائد وتسلّم القلعة، وأقطع عليّا عوضا عنها مدينة الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.»

(4/634)


طاعة جلال الدولة، فسار منيع بن حسّان إلى أبي كليجار بالأهواز فأطاعه وخلع عليه ورجع إلى بلده يخطب له بها.
(شغب الأتراك على جلال الدولة)
ولما استقل جلال الدولة بملك بغداد وكثر جنده من الأتراك واتسعت أرزاقهم من الديوان، وكان الوزير أبو علي بن ماكولا فطالبوه بأرزاقهم فعجز عنها، وأخرج جلال الدولة صياغات وباعها وفرّقها في الجند. ثم ثاروا عليه وطالبوه بأرزاقهم وحصروه في داره حتى فقد القوت والماء. وسأل الإنزال إلى البصرة وخرج بأهله ليركب السفن إلى البصرة وقد ضرب سرادقا على طريقهم ما بين داره والسفن، فقصد الأتراك السرادق فامتعض جلال الدولة لحريمه، ثم نادى في الناس وخرج الجند ونادوا بشعاره ثم شغبوا عليه بعد أيام قلائل في طلب أرزاقهم، واضطرّ جلال الدولة إلى بيع ملبوسه وفرشه وخيامه، وفرّق أثمانها فيهم. وعزل جلال الدولة وزيره أبا علي واستوزر أبا طاهر، ثم عزله بعد أربعين يوما وولّى سعيد بن عبد الرحيم وذلك سنة تسع عشرة وأربعمائة.
(استيلاء أبي كليجار على البصرة ثم على كرمان)
ولما أصعد جلال الدولة إلى بغداد استخلف على البصرة ابنه الملك العزيز أبا منصور، وكان بين الأتراك وبين الديلم من الفتنة ما ذكرناه، فتجدّدت بينهم الفتنة فغلب الأتراك، وأخرجوا الديلم إلى الأبلة مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز ليرجعهم فحاربوه ونادروا بشعار أبي كليجار بن سلطان الدولة وهو بالأهواز فعاد منهزما. ونهب الديلم الأبلة ونهب الأتراك البصرة.
وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فبعث من الأهواز عسكرا إلى بختيار والبصرة والديلم، فقاتلوا الملك العزيز وأخرجوه، فلحق بواسط وملكوا البصرة ونهبوا أسواقها سنة تسع عشرة وأربعمائة وهمّ جلال الدولة بالمسير إليهم وطلب المال للجند وشغل بمصادرة

(4/635)


أرباب الأموال، وبلغ خبر استيلاء أبي كليجار على البصرة إلى كرمان وكان بها عمه قوام الدولة أبو الفوارس، وقد تجهّز لقصد بلاد فارس فأدركه أجله فمات، فنادى أصحابه بشعار أبي كليجار واستدعوه، فسار ملك بلاد كرمان، وكان أبو الفوارس سيّئ السيرة في رعيته وأصحابه.
(قيام بني دبيس بدعوة أبي كليجار)
كانت جزيرة بني دبيس بنواحي خوزستان لطراد بن دبيس، وغلب عليه فيها منصور وخطب فيها لأبي كاليجار، ومات طراد فسار إلى منصور ابنه علي، واستنجد جلال الدولة عليه فأمدّه بعسكر من الأتراك وسار عجلا. واتفق أنّ أبا صالح كوكين هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأراد أن يفتتح طاعته باعتراض أصحاب جلال الدولة فسار إلى منصور بالجزيرة. وخرجوا لقتال علي بن طراد ولقوة بمبرود فهزموه وقتلوه، واستقرّ منصور بالجزيرة على طاعة أبي كليجار.
(استيلاء أبي كليجار على واسط ثم انهزامه وعودها لجلال الدولة)
ثم انّ نور الدولة دبيس [1] على صاحب حلب والنيل، خطب لأبي كليجار في أعماله لما بلغه أن ابن عمّه المقلّد بن الحسن ومنيع بن حسّان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه، فخطب هو لأبي كليجار واستدعاه فسار من الأهواز إلى واسط، وقد كان لحق بها الملك العزيز بن جلال الدولة ومعه جماعة من الأتراك.
فلما وصل أبو كليجار فارقها الملك العزيز إلى النعمانيّة، واستولى أبو كليجار على واسط. ووفد عليه دبيس وبعث إلى قرواش صاحب الموصل والأثير عنبر عنده،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 374: «وكان ابتداء ذلك ان نور الدين دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل ولم تكن الحلّة بنيت ذلك الوقت، خطب لأبي كاليجار في أعماله» وهكذا تكون حلب محرّفة ربما من الناسخ.

(4/636)


وأمرهما أن ينحدرا إلى العراق فانحدرا، ومات الأثير عنبر بالكحيل. ورجع قرواش وجمع جلال الدولة العساكر واستنجد أبا الشوك وغيره وسار إلى واسط، وضاقت عليه الأمور لقلّة المال.
وأشار عليه أصحابه بمخالفة أبي كليجار إلى الأهواز لأخذ أمواله، وأشار أصحاب أبي كليجار بمخالفة جلال الدولة إلى العراق. وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر من أبي الشوك بمسير عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق. ويشير بإجماع الكلمة.
وبعث أبو كليجار بكتابه إلى جلال الدولة فلم يعرج عليه، وسار إلى الأهواز ونهبها وأخذ من دار الإمارة خاصة مائتي ألف دينار سوى أموال الناس، وأخذت والدة أبي كليجار وبناته وعياله وحملن إلى بغداد. وسار جلال الدولة لاعتراضه وتخلّف عنه دبيس بن مزيد خشية على أحيائه من خفاجة، والتقى أبو كليجار وجلال الدولة في ربيع سنة إحدى وعشرين وأربعمائة فاقتتلوا ثلاثا، ثم انهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه نحو من ألفين ورجع إلى الأهواز. وأتاه العادل بن مافنّة بمال أنفقه في جنده، ورجع جلال الدولة إلى واسط واستولى عليها وأنزل ابنه العزيز بها ورجع.
(استيلاء محمود بن سبكتكين صاحب خراسان على بلاد الريّ والجيل وأصفهان)
كان مجد الدولة بن فخر الدولة متشاغلا بالنساء والعلم، وتدبير ملكه لأمّه. وتوفيت سنة تسع عشرة وأربعمائة فاختلفت أحواله، وطمع فيه جنده، فكتب إلى محمود بن سبكتكين يشكو إليه، فبعث إليه عسكرا مع حاجبه، وأمره بالقبض عليه، فركب مجد الدولة لتلقّيه فقبض عليه وعلى ابنه أبي دلف وطيّر بالخبر إلى محمود فجاء إلى الريّ ودخلها في ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة، وأخذ منها مال مجد الدولة ألف ألف دينار، ومن الجواهر قيمة خمسمائة ألف دينار، وستة آلاف ثوب، ومن الحرير والآلات ما لا يحصى. وبعث بمجد الدولة إلى خراسان فاعتقل بها. ثم ملك قزوين وقلاعها ومدينة ساوة وآوة ويافت، وقبض على صاحبها ولكين وبعث به إلى خراسان، وقتل من الباطنية خلقا ونفي المعتزلة الى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة

(4/637)


والاعتزال والنجامة، وملك حدود أرمينية وخطب له علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان، واستخلف على الريّ ابنه مسعودا فافتتح زنجان وأبهر، ثم ملك أصفهان من يد علاء الدولة، واستخلف عليها بعض أصحابه فثار به أهل أصفهان وقتلوه، فسار إليها وفتك فيهم، يقال قتل منهم خمسة آلاف قتيل وعاد إلى الريّ فأقام بها.
(اخبار الغز بالريّ وأصفهان وأعمالها وعودهما إلى علاء الدولة)
قد تقدّم لنا في غير موضع بداية هؤلاء الغزّ، وأنهم كانوا بمفازة بخارى وكانوا فريقين: أصحاب أرسلان بن سلجوق وأصحاب بني أخيه ميكائيل بن سلجوق، وأن يمين الدولة محمود بن سبكتكين لما ملك بخارى وما وراء النهر قبض على أرسلان ابن سلجوق، وسجنه بالهند ونهب أحياءه. ثم نهض إلى خراسان ولحق بعضهم بأصفهان، وبعث محمود في طلبهم الى علاء الدولة بن كاكويه فحاول على أخذهم، وشعروا ففرّوا الى نواحي خراسان، وكثر عيثهم فأوقع بهم تاش الفوارس قائد مسعود ابن سبكتكين فساروا الى الري قاصدين أذربيجان، وكانوا يسمّون العراقية، وكان أمراء هذه الطائفة كوكتاش ويرفأ وقزل ويعمر وناصفلي [1] ، فلما انتهوا إلى الدّامغان خرج إليهم عسكرها فلم يطيقوا دفاعهم فتحصنوا بالجبل.
ودخل الغز البلد ونهبوه، ثم فعلوا في سمنان مثل ذلك، ثم في جوار الريّ وفي إسحاقاباذ وما جاورها من القرى، ثم ساروا إلى مسكويه من أعمال الري فنهبوها. وكان تاش الفوارس قائد بني سبكتكين بخراسان ومعه أبو سهل الحمدونيّ من قوّادهم فاستنجدوا مسعود بن سبكتكين وصاحب جرجان وطبرستان فأنجداهم وقاتلا الغز فانهزما وقتل تاش الفوارس. وسار إلى الريّ أبو سهل الحمدونيّ فهزموه وتحصن بقلعة طبرك، ودخل الغز الريّ ونهبوه. ثم قاتلوه ثانيا فأسر منهم ابن أخت لعمر من قوادهم فبذلوا فيه ثلاثين ألف دينار واعادة ما أخذوا من عسكر تاش من المال والأسرى فأبى أبو سهل من إطلاقه، وخرج الغز من الرقّ ووصل عسكر جرجان وقاتلوا الغز عند ما
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 379: «كوكتاش وبوقا وقزل ويغمر وناصغلي.»

(4/638)


قاربوا الريّ وأسروا قائدهم وألفين معه، وساروا إلى أذربيجان وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ولما سار الغز إلى أذربيجان سار علاء الدولة إلى الريّ فدخلها بدعوة مسعود بن سبكتكين، وأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ أن يضمنه على البلد مالا فأبى [1] فأرسل علاء الدولة يستدعي الغز فرجع إليه بعضهم وأقام عنده. ثم استوحشوا منه وعادوا الى العيث بنواحي البلاد، فكرّر علاء الدولة مراسلة أبي سهل في الضمان ليكون في طاعة مسعود بن سبكتكين. وكان أبو سهل بطبرستان فأجابه وسار إلى نيسابور وملك علاء الدولة الريّ. ثم اجتمع أهل أذربيجان لمدافعة الغز الذين طرقوا بلادهم وانتقموا من الغز، فافترقوا فسارت طائفة الى الري ومقدّمهم يرقأ وطائفة الى همذان ومقدّمهم منصور وكوكتاش فحاصروا بها أبا كليجار بن علاء الدولة، وأنجده أهل البلاد على دفاعهم وطال حصارهم لهمذان حتى صالحهم أبو كليجار وصاهر كوكتاش. وأما الذين قصدوا الريّ فحاصروا بها علاء الدولة بن كاكويه وانضم اليهم فناخسرو بن مجد الدولة وكامد صاحب ساوة، فطال حصارهم وفارق البلد في رجب ليلا إلى أصفهان، وأجفل أهل البلد وتمزقوا ودخلها الغز من الليل واستباحوها. واتبع علاء الدولة جماعة منهم فلم يدركوه فعدلوا الى كرج ونهبوها، ومضى ناصفلي منهم إلى قزوين فقاتلهم حتى صالحوه على سبعة آلاف دينار وصاروا الى طاعته. ولما ملكوا الريّ رجعوا إلى حصار همذان ففارقها أبو كليجار وصحبه الوجوه والأعيان وتحصّنوا بكنكون [2] ، وملك الغز همذان ومقدّمهم كوكتاش ومنصور ومعهم فناخسرو بن مجد الدولة في عدد من الديلم فاستباحوها، وبلغت سراياهم إلى أستراباذ وقرى الدينور
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 381: «فأرسل الى أبي سهل الحمدونيّ يطلب منه ان يقرر الّذي عليه بمال يؤدّيه، فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة، فأرسل الى الغز يستدعيهم ليعطيهم الأقطاع، ويتقوّى بهم على الحمدونيّ، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة مقدّمهم قزل، وسار الباقون الى أذربيجان.
فلما وصل الغز الى علاء الدولة أحسن اليهم وتمسّك بهم، وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده انه دعا الغز الى موافقته على الخروج عليه والعصيان، فأرسل اليه علاء الدولة وأحضره وقبض عليه، وسجنه في قلعة طبرك، فاستوحش الغز لذلك ونفروا، فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم، فلم يفعلوا، وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق، وعاد علاء الدولة فراسل أبا سهل الحمدونيّ وهو بطبرستان، وقرّر معه أمر الريّ ليكون في طاعة مسعود، فأجابه إلى ذلك وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالريّ.
[2] كنكور: ابن الأثير ج 9 ص 384.

(4/639)


وقاتلهم صاحبها أبو الفتح ابن أبي الشوك فهزمهم وأسر منهم حتى صالحوه على إطلاقهم فأطلقهم. ثم راسلوا أبا كليجار بن علاء الدولة في المتقدّم عليهم يدبّر ملكهم بهمذان، فلما جاءهم وثبوا به فنهبوا ماله وانهزم وخرج علاء الدولة من أصفهان فوقع في طريقه بطائفة من الغز فظفر بهم ورجع إلى أصفهان منصورا. ولما أجاز الفريق الثاني من الغز السلجوقيّة من وراء النهر، وهم أصحاب طغرلبك وداود وجغربيك وبيقو وأخوهم إبراهيم نيال في العسكر لاتباع هؤلاء الذين بالريّ وهمذان ساروا إلى أذربيجان وديار بكر والموصل، وافترقوا عليها وفعلوا فيها الأفاعيل كما تقدّم في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر، وكما يأتي في أخبار ابن وهشودان.
(استيلاء مسعود بن سبكتكين على همذان وأصفهان والريّ ثم عودها الى علاء الدولة بن كاكويه)
ولما فارق الغز همذان بعث إليها مسعود بن سبكتكين عسكرا فملكوها وسار هو إلى أصفهان فهرب عنها علاء الدولة واستولى على ما كان له بها من الذخائر، ولحق علاء الدولة إلى أبي كاليجار بتستر يستنجده عقب انهزامه أمام جلال الدولة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة كما قدّمنا فوعده بالنصر إذا اصطلح مع عمّه جلالا الدولة. ثم توفي محمود بن سبكتكين ورجع مسعود من خراسان، وكان فناخسرو بن مجد الدولة معتصما بعمران، فطمع في الريّ وجمع جمعا من الديلم والأكراد وقصدها فهزمه نائب مسعود بها. وقتل جماعة من عسكره وعاد إلى حصنه. وعاد علاء الدولة من عند أبي كليجار، وقد كان خائفا من مسعود أن يسير إليهم ولا طاقة لهم به، فجاء بعد موت محمود، وملك أصفهان وهمذان والريّ وتجاوز إلى أعمال أنوشروان وسروا إليه بالريّ واشتدّ القتال وغلبوه على الريّ ونهبوها ونجا علاء الدولة جريحا إلى قلعة فردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان فاعتصم بها، وخطب بالريّ وأعمال أنوشروان لمسعود بن سبكتكين، وولّى عليها تاش الفوارس فأساء السيرة فولّى علاء الدولة.

(4/640)


(استيلاء جلال الدولة على البصرة ثم عودها لأبي كليجار)
كنا قدّمنا أنّ جلال الدولة خالف أبا كليجار إلى الأهواز واتبعه أبو كليجار من واسط فهزمه جلال الدولة، ورجع إلى واسط فارتجعها. وبعث أبو منصور بختيار بن علي نائبا لأبي كليجار فبعث أربعمائة سفينة للقائهم مع عبد الله السراني [1] الزركازي صاحب البطيحة فانهزموا وعزم بختيار على الهرب، ثم ثبت وأعاد السفن لقتالهم والعسكر في البرّ، وجاء الوزير أبو علي لحربهم في سفينة، فلما وصل نهر أبي الخصيب وبه عساكر بختيار رجع مهزوما، وتبعه أصحاب بختيار. ثم ركب بختيار بنفسه وأخذوا سفن أبي علي كلّها وأخذوه أسيرا وبعثه بختيار الى أبي كاليجار فقتله بعض غلمانه اطلع له على ريبة وخشيه فقتله. وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة من المكوس، ويعيّن فيها [2] ، ولما بلغ خبره إلى جلال الدولة استوزر مكانه ابن عمّه أبا سعيد عبد الرحيم، وبعث الأجناد لنصرة الذين كانوا معه فملكوا البصرة في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ولحق بختيار بالأبلّة في عساكره واستمدّ أبا كليجار فبعث إليه العساكر مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقاتلوا عساكر جلال الدولة بالبصرة، فانهزم بختيار أوّلا وأخذ كثير من سفنه. ثم اختلف أصحاب جلال الدولة بالبصرة وتنازعوا وافترقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات فركبوا إلى البصرة وملكوها، وعادت لأبي كليجار كما كانت.
(وفاة القادر ونصب القائم للخلافة)
وفي ذي الحجّة سن اثنتين وعشرين وأربعمائة توفي الخليفة القادر لإحدى وأربعين سنة من خلافته، وكان مهيبا عند الديلم والأتراك. ولما مات نصب جلال الدولة للخلافة
__________
[1] ابو عبد الله الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 406.
[2] عين تعيينا الشيء: خصّصه من الجملة وأفرده. (قاموس) .
ابن خلدون م 41 ج 4

(4/641)


ابنه القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بعد أبيه ولقّبه القائم، وبعث القاضي أبا الحسن الماورديّ إلى أبي كاليجار في الطاعة، فبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه بهدايا جليلة وأموال، ووقعت الفتنة ببغداد في تلك الأيام بين السنّة والشيعة، ونهب دور اليهود وأحرقت من بغداد أسواق، وقتل بعض جباة المكس، وثار العيّارون. ثم همّ الجند بالوثوب على جلال الدولة وقطع خطبته، ففرّق فيهم الأموال فسكتوا، ثم عاودوا، فلزم جلال الدولة الأصاغر فشكا من قوّاده الأكابر وهما بارسطعان وبلدوك [1] ، وأنهما استأثرا بالأموال فاستوحشا لذلك، وطالبهما الغلمان بعلوفتهم وجراياتهم فسارا إلى المدائن، وندم الأتراك على ذلك. وبعث جلال الدولة مؤيّد الملك الرجحي [2] فاسترضاهما ورجعا. وزاد شغب الجند عليه ونهبوا دوابه وفرشه، وركب إلى دار الخليفة متغضبا من ذلك وهو سكران، فلاطفه وردّه الى بيته. ثم زاد شغبهم وطالبوه في الدواب لركوبهم فضجر وأطلق ما كان في إسطبله من الدواب، وكانت خمس عشرة وتركها عائرة، وصرف حواشيه وأتباعه لانقطاع خزائنه فعوتب بتلك الفتنة، وعزل وزيره عميد الملك، ووزر بعده أبو الفتح محمد بن الفضل أياما ولم يستقم أمره فعزله، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين السهيليّ وزير مأمون صاحب خوارزم وهرب لخمسة وعشرين يوما.
وثوب الأتراك ببغداد بجلال الدولة بدعوة أبي كاليجار ثم رجوعهم الى جلال الدولة
ثم تجدّدت الفتنة بين الأتراك وجلال الدولة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في ربيع الأوّل فأغلق بابه، ونهب الأتراك داره وسلبوا الكتّاب وأصحاب الدواوين، وهرب الوزير أبو إسحاق السهيليّ [3] إلى حيّ غريب بن محمد بن معن. وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا لأبي كاليجار واستدعوه من الأهواز فمنعه العادل بن ماقته [4] إلى أن يحضره بين قوّادهم فعادوا إلى جلال الدولة وتطارحوا عليه، فعاد
__________
[1] بارسطغان ويلدرك: ابن الأثير ج 9 ص 420
[2] الرخجيّ وقد مرّ معنا من قبل
[3] ابو إسحاق السهلي: ابن الأثير ج 9 ص 421
[4] العادل بن مافنّة: المرجع السابق.

(4/642)


لثلاث وأربعين يوما من مغيبه. واستوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله لفتنة الأتراك به، وإطلاق بعض المصادرين من يده.
(استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا ثم عودها لابي كاليجار)
ثم توفي أبو منصور بختيار بن علي نائب أبي كاليجار بالبصرة منتصف أربع وعشرين وأربعمائة فقام مكانه صهره أبو القاسم لاضطلاعه وكفايته، واستبدّ بها ونكر أبو كاليجار استبداده، وبعث بعزله فامتنع وخطب لجلال الدولة، وبعث لابنه يستدعيه من واسط فجاء وملك البصرة وطرد عساكر أبي كاليجار. ثم فسد ما بين أبي القاسم والعزيز واستجار منه بعض الديلم بالعزيز، وشكوا منه فأخرجه العزيز عن البصرة وأقام بالأبلّة، ثم عاد إلى محاربة العزيز حتى أخرجه عن البصرة ورجع أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
(إخراج جلال الدولة من دار الملك ثم عوده)
وفي رمضان من سنة أربع وعشرين وأربعمائة استقدم جلال الدولة الوزير أبا القاسم فاستوحش الجند، واتهموه بالتعرّض لأموالهم فهجموا عليه في دار الملك وأخرجوه إلى مسجد في داره، فاحتمل جلال الدولة الوزير أبا القاسم وانتقل إلى الكرخ، وأرسل إليه الجند بأن ينحدر عنهم إلى واسط على رسمه، ويقيم لإمارتهم بعض ولده الأصاغر فأجاب، وبعث إليهم واستمالهم فرجعوا عن ذلك واستردّوه إلى داره، وحلفوا له على المناصحة.
واستوزر عميد الدولة أبا سعد سنة خمس وعشرين وأربعمائة عوضا من ابن ماكولا فاستوحش ابن ماكولا، وسار إلى عكبرا فردّه إلى وزارته، وعزل أبا سعد فبقي أياما. ثم فارقها إلى أوانا فأعاد أبا سعد عبد الرحيم إلى وزارته. ثم خرج أبو سعد هاربا من الوزارة ولحق بأبي الشوك، ووزر بعده أبو القاسم فكثرت مطالبات الجند

(4/643)


له وهرب لشهرين فحمل إلى دار الخلافة مكشوف الرأس، وأعيد أبو سعد إلى الوزارة، وعظم فساد العيّارين ببغداد وعجز عنهم النوّاب، فولّى جلال الدولة البساسيري من قوّاد الديلم حماية الجانب الغربي ببغداد فحسن فيه غناؤه، وانحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد حتى أغار الأكراد والجند على بستان الخليفة، ونهبوا ثمرته وطلب أولئك الجند جلال الدولة فعجز عن الانتصاف منهم أو إسلامهم للخليفة، فتقدّم الخليفة الى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل رسومهم فوجم جلال الدولة، وحمل أولئك الجند بعد غيبتهم أياما إلى دار الخليفة فاعترضهم أصحابهم وأطلقوهم، وعجز النوّاب عن إقامة الأحكام في العيّارين ببغداد، وانتشر العرب في ضواحي بغداد وعاثوا فيها حتى سلبوا النساء في المقابر عند جامع المنصور، وشغب الجند سنة سبع وعشرين وأربعمائة بجلال الدولة فخرج متنكرا في سيما بدويّ إلى دار المرتضى بالكرخ، ولحق منها برافع بن الحسين بن معن [1] بتكريت، ونهب الأتراك داره وخرّبوها. ثم أصلح القائم أمر الجند وأعاده.
(فتنة بادسطفان ومقتله)
قد قدّمنا ذكر بادسطفان [2] هذا وأنه من أكابر قوّاد الديلم ويلقّب حاجب الحجّاب، وكان جلال الدولة ينسبه لفساد الأتراك والأتراك ينسبونه إلى إحجاز الأموال فاستوحش واستجار بالخليفة منتصف سبع وعشرين وأربعمائة فأجاره وكان يراسل أبا كاليجار ويستدعيه، فبعث أبو كاليجار عسكرا إلى واسط وثار معهم العسكر الذين بها وأخرجوا العزيز بن جلال الدولة إلى بغداد، وكشف بادسطفان القناع في الدعاء لأبي كاليجار وحمل الخطباء على الخطبة لامتناع الخليفة منها.
وجرت بينه وبين جلال الدولة حرب. وسار إلى الأنبار وفارقه قرواش إلى الموصل، وقبض بادسطفان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده. ثم جاء الخبر بأنّ أبا كاليجار سار إلى فارس فانتقض عن بادسطفان الديلم الذين كانوا معه،
__________
[1] الحسين بن مقن: ابن الأثير ج 9 ص 446
[2] بارسطغان. وقد مرّ معنا من قبل في هذا الكتاب بارسطعان.

(4/644)


وترك ماله وخدمه وما معه بدار الخليفة القائم وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغداد وبعث البساسيري وبني خفاجة في طلب بادسطفان، وسار هو ودبيس في اتباعهم فلحقوه بالخزرانية فقاتلوه وهزموه، وجاءوا به أسيرا إلى جلال الدولة ببغداد، وطلب من القائم أن يخطب له ملك الملوك فوقف عن ذلك إلا أن يكون بفتوى الفقهاء فأفتاه القضاة أبو الطيب الطبري وأبو عبد الله الصيمري وأبو القاسم الكرخي بالجواز ومنع أبو الحسن الماوردي، وجرت بينهم مناظرات حتى رجحت فتواهم وخطب له بملك الملوك. وكان الماوردي من أخصّ الناس بجلال الدولة فخجل وانقطع عنه ثلاثة أشهر، ثم استدعاه وشكر له إيثار الحق وأعاده إلى مقامه.
(مصالحه جلال الدولة وأبي كاليجار)
ثم تردّدت الرسل بين جلال الدولة وأبي كاليجار ابن أخيه، وتولى ذلك القاضي أبو الحسن الماورديّ وأبو عبد الله المردوسي، فانعقد بينهما الصلح والصهر لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنه جلال الدولة، وأرسل القائم إلى أبي كاليجار بالخلع النفيسة.
(عزل الظهير أبي القاسم عن البصرة واستقلال أبي كاليجار بها)
قد قدّمنا حال الظهير أبي القاسم في ملك البصرة بعد صهره أبي منصور بختيار، وأنه عصى على أبي كاليجار بدعوة جلال الدولة. ثم عاد إلى طاعته واستبدّ بالبصرة، وكان ابن أبي القاسم بن مكرّم صاحب عمان يكاتب أبا الجيش وأبا كاليجار بزيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة فأجيب إلى ذلك، وجهّز له أبو كاليجار العساكر مع العادل أبي منصور بن ماقته [1] . وجاء أبا الجيش بعساكره في البحر من عمان وحاصروا البصرة برّا وبحرا وملكوها، وقبض على الظهير واستصفيت
__________
[1] ابن مافنّة كما مرّ معنا

(4/645)


أمواله، وصودر على تسعين ألفا فحملها في عشرة أيام، ثم على مائة ألف وعشرة آلاف فحملها كذلك، ووصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وأنزل بها ابنه عزّ الملوك والأمير أبا الفرج فسانجس وعاد إلى الأهواز ومعه الظهير أبو القاسم.
(أخبار عمان وابن مكرم)
قد قدّمنا خبر أبي محمد بن مكرم وأنه كان مدبّر دولة بهاء الدولة وقبله ابنه أبو الفوارس، وأنّ ابنه أبا القاسم كان أميرا بعمان منذ سنة خمس عشرة وأربعمائة ثم توفي سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وخلّف بنين أربعة وهم: أبو الجيش والمهذّب وأبو محمد وآخر صغير لم يذكر اسمه. وكان علي بن هطال صاحب جيش أبي القاسم فأقرّه أبو الجيش وبالغ في تعظيمه حتى كان يقوم له إذا دخل عليه في مجلسه فنكر ذلك المهذّب على أخيه، وحقدها له ابن هطال فعمل دعوة واستأذن أبا الجيش في إحضار أخيه المهذّب لها، وأحضره وبالغ في خدمته حتى إذا طعموا وشربوا وانتشوا فاوضه ابن هطال في التوثّب بأخيه أبي الجيش واستكتبه بما يوليه من المراتب ويعطيه من الأقطاع على مناصحته في ذلك. ثم وقف أبا الجيش على خطة أخبره أنه لم يوافقه ثم قال له: وبسبب ذلك كان نكيره عليك في شأني، فقبض أبو الجيش على أخيه واعتقله ثم خنقه. ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وهمّ ابن هطال بتولية أخيه محمد فأخفته أمّه حذرا عليه، ورفعت الأمر إلى ابن هطال فولي عمان وأساء السيرة وصادر التجّار، وبلغ ذلك إلى أبي كاليجار فأمر العادل أبا منصور بن ماقته أن يكاتب المرتضى نائب أبي القاسم بن مكرّم بجبال عمان، ويأمره بقصد ابن هطال في عمان، وبعث إليه العساكر من البصرة، فسار إلى عمان وحاصرها واستولى على أكثر أعمالها. ثم دس إلى خادم كان لابن مكرم وصار لابن هطال وأمره باغتياله فاغتاله وقتله. ومات العادل أبو منصور بهرام بن ماقته وزير أبي كاليجار سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ووزر بعده مهذّب الدولة وبعث لمدافعتهم عنها، وكانوا يحاصرون جيرفت فأجفلوا عنها، ولم يزل في اتباعهم حتى دخلوا المفازة ورجع مهذّب الدولة إلى كرمان فأصلح فسادهم
.

(4/646)


(وفاة جلال الدولة سلطان بغداد وولاية أبي كاليجار)
ثم توفي جلال الدولة ببغداد في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة سنة من ملكه، وقد كان بلغ في الضعف وشغب الجند عليه واستبداد الأمراء والنوّاب فوق الغاية. ولما توفي انخذل الوزير كمال الملك عبد الرحيم وأصحاب السلطان الأكابر إلى حريم دار الخلافة خوفا من الأتراك والعامّة، واجتمع قوّاد العسكر فمنعوهم من النهب، وكان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط فكاتبه الجند بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة فأبطأ عنهم، وبادر أبو كاليجار صاحب الأهواز فكاتبهم ورغّبهم في المال وتعجيله فعدلوا عن الملك العزيز إليه. وأصعد بعد ذلك من الأهواز فلما انتهى إلى النعمانيّة غدر به أصحابه فرجع إلى واسط، وخطب الجند ببغداد لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم الى قرواش بن المقلّد بالموصل. ثم فارقه إلى أبي الشوك لصهر بينهما فغدر به. وألزمه على طلاق بنته، فسار إلى إبراهيم نيال أخي طغرلبك، ثم قدم بغداد مختفيا يروم الثورة بقتل [1] بعض أصحابه ففرّ ولحق بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين، وقدم أبو كاليجار بغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وخطب له بها واستقر سلطانه فيها بعد أن بعث بأموال فرّقت على الجند ببغداد وبعشرة آلاف دينار وهدايا كثيرة للخليفة، وخطب له فيها أبو الشوك ودبيس بن مزيد كل بأعماله، ولقبه الخليفة بمحيي الدولة، وجاء في قلّ من عساكره خوفا أن يستريب به الأتراك فدخل بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره أبو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس، واستعفى القائم من الركوب للقائه، وتقدّم بإخراج عمّيه من بغداد، فمضيا إلى تكريت وخلع على أصحاب الجيوش وهم البساسيري والساري والهمّام أبو اللقاء وثبت قدمه في الملك.
__________
[1] مقتضى السياق: وقدم بغداد متخفّيا يروم الثورة فقتل بعض أصحابه.

(4/647)


(أخبار ابن كاكويه مع عساكر مسعود وولايته على أصفهان ثم ارتجاعه منها)
قد تقدّم انهزام علاء الدولة بن كاكويه من الريّ ومسيره جريحا ومعه فرهاد بن مرداويج جاءه إلى قلعة فردخان مددا وساروا منها إلى يزدجرد، واتبعهم عليّ بن عمران قائد تاش قرواش. وافترقوا من يزدجرد فمضى أبو جعفر الى نيسابور عند الأكراد الجردقان [1] وصعد فرهاد إلى قلعة سمكيس واستمال الأكراد الذين مع عليّ بن عمران وحملهم على الفتك به، فشعر وسار الى همذان، واتبعه فرهاد والأكراد فحصروه في قرية بطريقة فامتنع عليهم بكثرة الأمطار ورجعوا عنه، وبعث علي بن عمران إلى الأمير تاش يستمدّه وعلاء الدولة إلى ابن أخيه بأصفهان يستمدّ المال والسلاح فاعترضه علي بن عمران من همذان وكبسه بجردقان وغنم ما معه وأسره [2] ، وخلفه علاء الدولة وأقرّه على أصفهان على ضمان معلوم وكذلك قابوس في جرجان وطبرستان وولّى على الري أبا سهل الحمدونيّ.
وأمرتاش قرواش صاحب خراسان بطلب شهربوس بن ولكين صاحب ساوة، وكان يفسد السابلة ويعترض الحاج، وسار إلى الريّ وحاصرها بعد موت محمود، فبعث تاش العساكر في أثره وحاصروه ببعض قلاع قمّ وأخذوه أسيرا فأمر بصلبه على ساوة، ثم اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن مرداويج على قتال أبي سهل الحمدونيّ وقد زحف في العساكر من خراسان فقاتلاه وقتل فرهاد وانهزم علاء الدولة إلى جبل بين أصفهان وجرجان فاعتصم به. ثم لحق بأيدج وهي للملك أبي كاليجار،
__________
[1] هكذا بالأصل ويوجد تحريف كثير في الأسماء وبالمقارنة مع الكامل ج 9 ص 424: «فلما وصل الى قلعة فردجان اقام بها لتندمل جراحة، ومعه مرهاذ بن مرداويج، كان قد جاءه مددا له، وتوجهوا الى بروجرد، فسيّر تاش فرّاش مقدّم عسكر خراسان جيشا الى علاء الدولة ... ونزل عند الأكراد الجوزقان» .
[2] المعنى غير واضح وفي الكامل ج 9 ص 425: «وراسل علي بن عمران الأمير تاش فرّاش يستنجده ويطلب العسكر الى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة الى أصبهان وبها ابن أخيه يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان وأسره وأسر كثيرا من عسكره وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال وغير ذلك» .

(4/648)


واستولى أبو سهل على أصفهان ونهب خزائن علاء الدولة وحملت كتبه الى غزنة الى أن أحرقها الحسين بن الحسين الغوري، وذلك سنة خمس وعشرين وأربعمائة ثم سار علاء الدولة سنة سبع وعشرين وأربعمائة وحاصر أبا سهل في أصفهان وغدرته الأتراك فخرج إلى يزدجرد ومنها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلّار خوفا من ابن سبكتكين، فسار عنه، ثم غلبه طغرلبك على خراسان سنة تسع وعشرين وأربعمائة وارتجعها مسعود سنة ثلاثين وأربعمائة كما ذكرناه ونذكره.
(وفاة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه)
ثم توفي علاء الدولة شهربان بن كاكويه في محرّم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كان عاد إلى أصفهان عند شغل بن سبكتكين بفتنة طغرلبك فملكها. ولما توفي قام مكانه بأصفهان ابنه الأكبر ظهير الدين أبو منصور قرامرد [1] وسار ولده الآخر أبو كاليجار كرساسف [2] إلى نهاوند فملكها، وضبط البلد وأعمال الجبل. وبعث أبو منصور قرامرد إلى مستحفظ قلعة نظير [3] التي كان فيها ذخائر أبيه وأمواله فامتنع بها وعصى، وسار أبو منصور لحصاره ومعه أخوه أبو حرب فلحق أبو حرب بالمستحفظ، ورجع أبو منصور إلى أصفهان. وبعث أبو حرب إلى السلجوقيّة بالريّ يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى جرجان فنهبوها وسلموها لأبي حرب. فسيّر أبو منصور العساكر وارتجعها، فجمع أبو حرب فهزموه، وحاصروا أبا حرب بالقلعة فأسرى من القلعة ولحق بالملك أبي كاليجار صاحب فارس، واستنجده على أخيه أبي منصور فأنجده بالعساكر وحاصروا أبا منصور وأوقعوه عدّة وقائع، ثم اصطلحوا آخرا على مال يحمله أبو منصور إلى أبي كاليجار، وعاد أبو حرب إلى قلعة نظير واشتدّ الحصار عليه. ثم صالح أخاه أبا منصور على أن يعطيه بعض ما في القلعة وتبقى له فاتفقا على ذلك.
ثم سار إبراهيم نيّال [4] إلى الريّ وطلب الموادعة من أبي منصور فلم يجبه، فسار إلى
__________
[1] ظهير الدين أبو منصور قرامرز: ابن الأثير ج 9 ص 495
[2] كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكاويه: المرجع السابق. تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 168
[3] قلعة نطنز: المرجع السابق
[4] إبراهيم ينّال وقد مرّ ذكره من قبل كذا في الكامل

(4/649)


همذان ويزدجرد فملكهما وسعى الحسن الكيا [1] في اتفاقه مع أخيه أبي حرب فاتفقا، وخطب أبو حرب لأخيه أبي منصور في بلاده، وأقطعه أبو منصور همذان. ثم ملك طغرلبك البلاد من يد ابن سبكتكين واستولى على خوارزم وجرجان وطبرستان. وكان إبراهيم نيال عند ما استولى طغرلبك على خراسان وهو أخوه لأمّه تقدّم في عساكر السلجوقية إلى الريّ فاستولى عليها. ثم ملك يزدجرد، ثم قصد همذان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ففارقها صاحبها [2] ابن علاء الدولة إلى نيسابور، وجاء إبراهيم إلى همذان بطلب طاعتهم فشرطوا عليه استيلاءه على عسكر كرشاسف، فسار إليها وتحصّن في سابورخواست وملك عليه البلاد وعاث في نواحيها، وتحصّن هو بالقلعة وعاد هو إلى الريّ. وقد صمّم طغرلبك على قصدها، فسار إليه وترك همذان ورجع كرشاسف وملك طغرلبك الري من يد إبراهيم.
وبعث إلى سجستان وأمر بعمارة ما خرّب من الري، ووجد بدار الإمارة مراكب ذهب مرصّعة بالجواهر، وبرنيتين من النحاس مملوءتين جواهر وذخائر مما سوى ذلك وأموالا كثيرة. ثم ملك قلعة طبرك من يد مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرما وملك قزوين فصالحه صاحبها بثمانين ألف دينار وصار في طاعته. ثم بعث إلى كركتاش وموقا من الغزّ العراقيّة الذين تقدّموا إلى الريّ واستدعاهم من نواحي جرجان فارتابوا وشرّدوا خوفا منه. ثم بعث إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه المال، فأجاب وحمل، وبعث إلى سلّار الطرم بمثل ذلك فأجاب وحمل مائتي ألف دينار وقرّر عليه ضمانا معلوما. ثم بعث السرايا إلى أصفهان وخرج من الريّ في اتباعها فصانعه قرامرد بالمال فرجع عنه. وسار إلى همذان فملكها، وقد كان سار إليه كرشاسف بن علاء الدولة وهو بالري فأطاعه، وسار معه إلى ابروزنجان فملكهما، وأخذ منه همذان وتفرّق عنه أصحابه.
وطلب منه طغرلبك قلعة كشكور فأرسل إلى مستحفظها بنزولهم عنها فامتنعوا، واتبعه طغرلبك إلى الريّ واستخلف على همذان ناصر الدين العلويّ، وكان كرشاسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك وجعله رديفا للذي ولّاه البلد من السلجوقيّة، ثم نزل كرشاسف على كنكور سنة ست وثلاثين وأربعمائة وجاء إلى همذان فملكها وطرد عنها
__________
[1] هو الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله
[2] بياض بالأصل وحسب مقتضى السياق كرشاسف بن علاء الدولة.

(4/650)


عمال طغرلبك وخطب للملك أبي كاليجار فبعث طغرلبك أخاه إبراهيم نيال سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى همذان، ولحق كرشاسف بشهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين صاحب جزيرة بني دبيس، وارتاع الناس بالعراق لوصول إبراهيم نيال إلى حلوان، وبلغ الخبر إلى أبي كاليجار فأراد التجمّع لإبراهيم نيال فمنعه قلة الظهر.
وحدثت فتنة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم نيال وأخذ الري وبلاد الجيل من يده. ثم سار إلى أصفهان فحاصرها في محرّم سنة اثنين وأربعين، وبعث السرايا فبلغت البيضاء، وأقام يحاصرها حولا كاملا حتى جهدهم الحصار، وعدموا الأقوات وحرقوا السقف لوقودهم حتى سقف الجامع، ثم استأمنوا وخرجوا إليه وملك أصفهان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وأقطع صاحبها أبا منصور وأجناده في بلاد الجبل ونقل أمواله وسلاحه من الريّ إليها وجعلها كرسيا لملكه، وانقرضت دولة فخر الدولة بن بويه من الريّ وأصفهان وهمذان، وبقي منهم بالعراق وفارس أبو كاليجار والبقاء للَّه وحده.
(موت أبي كاليجار)
ولما رأى أبو كاليجار استيلاء طغرلبك على البلاد، وأخذه الريّ وأصفهان وهمذان والجيل من قومه، وإزالة ملكهم راسله في الصهر والصلح، بأن يزوّجه ابنته، وزوّج داود أخو طغرلبك ابنته من أبي منصور بن أبي كاليجار، وانعقد ذلك بينهما في منتصف تسع وثلاثين وأربعمائة وكتب طغرلبك إلى أخيه إبراهيم نيال عن العراق وأعماله [1] ابن سكرستان من الديلم، وقرّر عليه مالا فطاول في حمله،
__________
[1] هكذا بياض بالأصل وفي الكامل ج 9 ص 536: «وكتب طغرلبك الى أخيه ينّال يأمره بالكف عما وراء ما بيده» . والظاهر من متابعة النص ان بعض العبارات قد سقطت أثناء النسخ حيث يظهر عدم الانسجام في السياق. وفي الكامل أيضا ص 547 عند ذكر موت الملك أبي كاليجار يذكر ابن الأثير:
«في هذه السنة- 440- توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان. وكان سبب مسيره إليها انه كان قد عوّل في ولاية كرمان حربا وخرابا على بهرام بن لشكرستان الديلميّ وقرّر عليه مالا:» وفي تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 169: «وكان الملك أبو كاليجار سار الى بلاد كرمان لخروج عامله بهرام الديلميّ عن طاعته» .

(4/651)


ورافع [1] فشكر له أبو كاليجار، وانتزع من يده قلعة يزدشير وهي تعلقه [2] ثم استمال أجناده فقتلهم بهرام، واستوحش فسار إليه أبو كاليجار، وانتهى إلى قصر مجامع [3] من خراسان فطرقه المرض وضعف عن الركوب فرجعوا به إلى مدينة خبايا وتوفي بها في جمادى الأولى سنة أربعين وأربعمائة، لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه العراق.
ولما توفي نهب الأتراك خزائنه وسلاحه ودوابه وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور وكانت منفردة عن العسكر فأقام عنده، واختلف الأتراك والديلم وأراد الأتراك نهب الأمير والوزير فمنعهم الديلم، واختلفوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور وامتنع الوزير بقلعة حزقه، وبلغ وفادة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ابنه أبو نصر، فاستخلف الجند وأمر القائم بالخطبة على عادة قومه. وسأل أن يلقّب بالرحيم فمنع الخليفة من ذلك أدبا ولقّبه به أصحابه واستقرّ بالعراق وخوزستان والبصرة.
وكان بالبصرة أخوه أبو علي فأقرّه عليها. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر في شوّال من السنة إلى شيراز فملكها وخطبوا له بها وقبضوا على أخيه أبي منصور وأمّه وجاءوا بهما إليه. وكان الملك العزيز بن جلال الدولة عند إبراهيم نيّال لحق به بعد مهلك أبيه. فلما مات أبو كاليجار زحف إلى البصرة طامعا في ملكها فدافعه الجند الذين بها، وبلغه استقامة الملك ببغداد للرحيم فأقطع وذهب إلى ابن مروان فهلك عنده كما مرّ.
(ملك الملك الرحيم بن أبي كاليجار ومواقعة)
قد تقدّم لنا أن أبا منصور فلاستون بن أبي كاليجار سار إلى فارس بعد موت أبيه فملكها، وأنه بعث أخاه أبا سعيد بالعساكر فقبضوا عليه وعلى أمه، ثم انطلق ولحق بقلعة إصطخر ببلاد فارس، فسار الملك الرحيم من الأهواز في اتباعه سنة إحدى وأربعين وأطاعه أهل شيراز وجندها، ونزل قريبا منها. ثم وقع الخلاف بين جند شيراز وبين جند بغداد، وعادوا إلى العراق فعاد معهم الملك الرحيم لارتيابه بجند
__________
[1] مقتضي السياق ورفع، اي رفع المال الى أبي كاليجار
[2] هي قلعة بردسير، ومقتضى السياق وهي معقلة اي الّذي يحتمي به ويعوّل عليه.
[3] قصر مجاشع: ابن الأثير ج 9 ص 547.

(4/652)


شيراز، وبعث الجند والديلم جميعا ببلاد فارس إلى أخيه فلاستون ولما عاد استخلف العساكر وسار إلى أرّجان عازما على قصد الأهواز. وعاد الملك الرحيم للقائه من الأهواز في ذي القعدة من السنة واقتتلوا وانهزم الملك الرحيم، وعاد إلى واسط منهزما. وسار بعض الى الملك الرحيم يستجيشون به للرجوع إلى فارس، فأرسل إلى بغداد واستنفر الجند وسار إلى الأهواز فبلغه طاعة أهل فارس وأنهم منتظرون قدومه، فأقام بالأهواز ينتظر عساكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ثم اجتمع جمع من العرب والأكراد مقدّمهم طراد بن منصور ومذكور بن نزار فقصدوا سرف [1] فنهبوها ونهبوا درق [2] . وبعث الملك الرحيم بعساكره في محرّم سنة ثلاث وأربعين فهزموا العرب والأكراد وقتل مطارد وأسر ابنه واستردّ النهب. وبلغ الخبر إلى الملك الرحيم وهو بعسكر مكرم فتقدّم إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيريّ وغيرهما. ثم سار هزارشب بن تنكر [3] ومنصور بن الحسين الأسدي بمن معهما من الديلم والأتراك من أرّجان إلى تستر، فسابقهم الملك الرحيم فكان الظفر له. ثم زحف في عسكر إلى رامهرمز وبها أصحاب هزارشب فهزموهم وأثخنوا فيهم، وتحيّزوا إلى رامهرمز في طاعة الملك الرحيم. ثم قبض هزارشب عليهم وأرسل إلى الملك الرحيم بطاعته، فبعث أخاه أبا سعيد إليه فملك إصطخر، وخدمه أبو نصر بعسكره وماله، وأطاعته جموع من عساكر فارس من الديلم والترك والعرب والأكراد وحاصروا قلعة بهندر فخالفه هزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي إلى الملك الرحيم فهزموه.
وفارق الأهواز إلى واسط وعاد إلى سعد بشيراز فقاتلهم وهزمهم. ثم عاودوا القتال فهزمهم وأثخن فيهم واستأمن إليه كثير منهم، وصعد فلاستون إلى قلعة بهندر فامتنع بها، وأعيدت الخطبة للملك الرحيم بالأهواز. ثم مضى فلاستون وهزارشب إلى إيدج وبعثوا بطاعتهم إلى السلطان طغرلبك واستمدّوه، وبعث إليهم العساكر والملك الرحيم بعسكر مكرم وقد انصرف عنه البساسيريّ إلى العراق، ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد، وبقي معه ديلم الأهواز، وأنزل بغداد فسار من عسكر مكرم إلى الأهواز
__________
[1] سرّف: ابن الأثير ج 9 ص 572
[2] دورق: ابن الأثير ج 9 ص 572
[3] هزارسب بن بنكير: المرجع السابق.

(4/653)


وحاصروه بها فبعث أخاه أبا سعد صاحب فارس حين طلبه صاحب إصطخر ليفتّ في عضد فلاستون وهزارشب ويرجعوا عنه. فلم يهجهم ذلك وساروا إلى الأهواز وقاتلوه فهزموه، ولحق في الفلّ بواسط ونهبت الأهواز. وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم وكانت السلجوقية قد ساروا إلى فارس، فاستولى آلب أرسلان ابن أخي طغرلبك على مدينة نسا وعاثوا فيها وذلك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. ثم ساروا سنة أربع وأربعين وأربعمائة إلى شيراز ومعهم العادل بن ماقته [1] وزير فلاستون فقبضوا عليه وملكوا منه ثلاث قلاع وسلّموها إلى أبي سعد أخي الملك الرحيم، واجتمعت عساكر شيراز فهزموا الغز الذين ساروا إليها وأسروا بعض مقدّميهم. ثم ساروا إلى نسا وقد كان تغلّب عليها بعض السلجوقيّة فأخرجوهم عنها وملكوها.
(الفتنة بين البساسيري وبني عقيل واستيلاؤه على الأنبار)
لما سار الملك الرحيم إلى شيراز سنة إحدى وأربعين ثار بعض بني عقيل باردوقا [2] فنهبوها وعاثوا فيها وكانت من أقطاع البساسيري، فلما عاد من فارس سار إليهم من بغداد فأوقع بأبي كامل بن المقلّد، واقتتلوا قتالا شديدا. ثم تحاجزوا ورفع إلى البساسيري أن قرواش أساء السيرة في أهل الأنبار، وجاء أهلها متظلّمين منه، فبعث معهم عسكرا فملكوها، وجاء على أثرهم فأصلح أحوالها. وزحف قريش [3] إليها سنة ست وأربعين فملكها وخطب فيها لطغرلبك، ونهب ما كان فيها للبساسيري، ونهب حلل أصحابه بالخالص، وجمع البساسيري وقصد الأنبار وجرى فاستعاد من يد قريش ورجع إلى بغداد.
__________
[1] العادل بن مافنّة وقد مرّ معنا من قبل
[2] بادوريا: ابن الأثير ج 9 ص 555
[3] هو ابو المعالي قريش بن بدران

(4/654)


(استيلاء الخوارج على عمان)
كان أبو المظفّر بن أبي كاليجار أميرا على عمان، وكان له خادم مستبدّ عليه فأساء السيرة في الناس ومدّ يده إلى الأموال فنفروا منه، وعلم بذلك الخوارج في جبالها فجمعهم ابن رشد منهم وسار إلى المدينة فبرز إليه أبو المظفّر وظفر بالخوارج. ثم جمع ثانية وعاد لقتال أبي المظفّر والديلم وأعانه عليهم أهل البلد لسوء سيرتهم فهزمهم ابن رشد وملك البلد، وقتل الخادم وكثيرا من الديلم والعمّال، وأخرب دار الإمارة وأسقط المكوس، واقتصر على ربع العشر من أموال التجّار والواردين. وأظهر العدل ولبس الصوف وبنى مسجدا لصلاته، وخطب لنفسه وتلقّب الراشد باللَّه. وقد كان أبو القاسم بن مكرم بعث إليه من قبل ذلك من حاصره في جبله وأزال طمعه.
(الفتنة بين العامّة ببغداد)
وفي صفر من سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة تجدّدت الفتنة ببغداد بين أهل السنّة والشيعة، وعظمت، وتظاهر الشيعة بمذاهبهم وكتبوا بعض عقائدهم في الأبواب، وأنكر ذلك أهل السنّة، واقتتلوا وأرسل القائم نقيبي العبّاسيّة والعلويّة لكشف الحال فشهدوا للشيعة، ودام القتال وقتل رجل من الهاشميّة من أهل السنّة، فقصدوا مشهد باب النصر ونهبوا ما فيه وأحرقوا ضريح موسى الكاظم وحاقده محمد المتقي وضرائح بني بويه وبعض خلفاء بني العباس، وهموا بنقل شلو الكاظم إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال دون ذلك جهلهم بعين الجدث. وجاء نقيب العبّاسيّة فمنع من ذلك، وقتل أهل الكرخ من الشيعة أبا سعيد السرخسي مدرّس الحنفيّة. وأحرقوا محال الفقهاء ودورهم، وتعدّت الفتنة إلى الجانب الشرقيّ، وبلغ إحراق المشهد إلى دبيس فعظم عليه، وقطع خطبة القائم لأنه وأهل ناحيته كانوا شيعة، وعوتب في ذلك فاعتذر بأنّ أهل الناحية تغري القائم بأهل السنّة، وأعاد الخطبة بحالها. ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين وأربعمائة واطرحوا مراقبة السلطان ودخل معهم

(4/655)


طوائف من الأتراك وقتل بعض العلويّة فصرخ النساء بثأره، واجتمع السواد الأعظم، وركب القوّاد لتسكين الفتنة فقاتلهم أهل الكرخ قتالا شديدا، وحرقت أسواق الكرخ ثم منع الأتراك من الدخول بينهم فسكنوا قليلا.
(استيلاء الملك الرحيم على البصرة)
قد كنا قدّمنا أن الملك الرحيم لما تولّى بغداد بعد أبيه أقرّ أخاه أبا علي على إمارة البصرة، ثم بدا منه العصيان، فبعث إليه العساكر مع البساسيري القائم بدولته، فزحف إلى البصرة وبرزوا إليه في الماء فقاتلهم عدّة أيام ثم هزمهم وملك عليهم الأنهار، وسارت العساكر في البرّ إلى البصرة، واستأمنت ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان يعتذرون، ومضى أبو علي فتحصّن بشطّ عثمان وخندق عليه فمضى الملك الرحيم إليه وملكه، ومضى أبو علي وابنه إلى عبادان ولحق منها إلى جرجان متوجّها إلى السلطان طغرلبك. فلما وصل إليه بأصفهان لاقاه بالتكرمة وأنزله بعض قلاع جرباذقان، وأقطع له في أعمالها وأقام الملك الرحيم بالبصرة أياما واستبدل من أجناد أخيه أبي عليّ بها، واستخلف عليها البساسيريّ، وسار إلى الأهواز وتردّدت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارشب فدخلوا في طاعته، وصارت تستر إليه، وأنزل بأرّجان فولاد بن خسرو الديلميّ، فسار في أعمالها وحمل المتغلّبين هناك على طاعة الملك الرحيم حتى أذعنوا.
(استيلاء فلاستون على شيراز بدعوة طغرلبك)
قد قدّمنا أنه كان بقلعة إصطخر أبو نصر بن خسرو مستوليا عليها، وأنه أرسل بطاعته سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة إلى الملك الرحيم عند ما ملك رامهرمز، واستدعى منه أخاه أبا سعيد ليملّكه بلاد فارس، فسار إليه في العساكر وملك البلاد، ونزل شيراز، وكان معه عميد الدولة أبو نصر الظهير قد استبدّ في دولته، وساءت سيرته في جنده، وأوحش أبا نصر مستدعيهم للملك فانتقض عليهم، وداخل الجند في

(4/656)


الانتقاض فشغبوا وقبضوا على عميد الدولة، ونادوا بدعوة أبي منصور فلاستون، واستدعوه وأخرجوا أبا سعيد عنهم إلى الأهواز، ودخل أبو منصور إلى الأهواز فملكها وخطب لطغرلبك وللملك الرحيم ثم لنفسه بعدهما.
(وقائع البساسيري مع الاعراب والأكراد لطغرلبك)
لما استولى طغرلبك على النواحي وأحاط بأعمال بغداد من جهاتها، وأطاعه أكثر الأكراد إلى حلوان وكثر فسادهم وعيثهم، والتفت عليهم الأعراب وأهمّ الدولة شأنهم سار إليهم البساسيري واتبعهم إلى البوازيج فظفر بهم وقتل وغنم، وعبروا الزاب، وجاء الديلم فتمكّن من العبور إليهم وذلك سنة خمس وأربعين وأربعمائة ثم دعاه دبيس صاحب الحلّة إلى قتال خفاجة، وقد عاثوا في بلاده، فاستنجد به وسار إليهم فأجلاهم عن الجامعين، ودخلوا المفازة واتبعهم فأدركهم بخفان فأوقع بهم وغنم أموالهم وأنعامهم، وحاصر حصن خفّان وفتحه وخرّبه. وأراد تخريب القائم الّذي به، وهو بناء في غاية الارتفاع كالعلم يهتدى به. قيل إنه وضع لهداية السفن لمّا كان البحر إلى النجف، فصانع عنه ربيعة بن مطاعم بالمال وترك له، وعاد إلى بغداد فصلب من كان معه من أسرى العرب. ثم سار إلى خويّ فحصرها وقرّر عليها سبعة آلاف دينار.
(فتنة الأتراك واستيلاء عساكر طغرلبك على النواحي)
كان الأتراك من جند بغداد قد استفحل أمرهم على الدولة، واشتطوا وتطاولوا إلى الفتنة عند ما هبّت ريحها بظهور طغرلبك واستيلائه على النواحي، فطالبوا الوزير في محرّم سنة ست وأربعين وأربعمائة بمبلغ كبير من أرزاقهم ورسومهم وأرهقوه، واختفى في دار الخلافة فاتبعوه وطلبوه من أهل الدار فجحدوه فشغبوا على الديوان، وتعدّوا إلى الشكوى من الخليفة، وساء الخطاب بينهم وبين أهل الديوان وانصرفوا، وشاع بين الناس أنهم محاصرون دار الخلافة فانزعجوا، وركب البساسيري وهو النائب يومئذ ابن خلدون م 42 ج 4

(4/657)


ببغداد إلى دار الخلافة، وطلب الوزير وكبس الدور من أجله، فلم يوقف له على خبر. وشغب الجند ونهبوا دار الروم وأحرقوا البيع، وكبسوا دار ابن عبيد وزير البساسيريّ، ووقف أهل الدروب لمنع بيوتهم من الأتراك فنهبوا الواردين، وعدمت الأقوات، والبساسيري في خلال ذلك مقيم بدار الخلافة إلى أن ظهر الوزير، وقام بهم بما عليهم من أثمان دوابه وقماشه.
واتصل الهرج وعاد الأعراب والأكراد إلى العيث والإغارة والنهب والقتل، وجاءت أصحاب قريش صاحب الموصل فكبسوا حلل كامل ابن عمّه بالبردوان، ونهبوا منها دوابّ وجمالا من البخاتي. كانت هناك للبساسيري فتضاعف الهرج وانحل نظام الملك. ووصل عساكر الغز إلى الدسكرة مع إبراهيم بن إسحاق من أمراء طغرلبك ورستبارد فاستباحوها. ثم تقدّموا إلى قلعة البردوان وقد عصى صاحبها سعدي على طغرلبك فامتنعت عليهم، فعاثوا في نواحيها وخربت تلك الأعمال وانجلى أهلها.
وسارت طائفة أخرى إلى الأهواز فخرّبوا نواحيها، وقوي طمع السلجوقيّة في البلاد وخافت الديلم ومن معهم من الأتراك وضعفت نفوسهم، ثم بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار الّذي كان صاحب البصرة في عساكر السلجوقيّة إلى خوزستان، فانتهى إلى سابور خواست، وكاتب الديلم بالوعد والوعيد فنزع إليه أكثرهم واستولى على الأهواز، ونهبها عساكر السلجوقيّة وصادروا أهلها وهرب أهلها منهم.
(الوحشة بين القائم والبساسيري)
قد قدّمنا ما وقع من قريش بن بدران في نهب حلل البساسيري أصحابه سنة ست وأربعين وأربعمائة ثم وصل إلى بغداد أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المحلبان صاحب [1] قريش ودخلا في خفية، فهمّ البساسيري بأخذهما، فأجارهما الوزير رئيس الرؤساء عليه، فغضب وسار إلى جرى والأنبار فملكهما ورجع ولم يعرج على دار الخلافة وأسقط مشاهرات القائم والوزير وحواشي الدار من دار الضرب، ونسب إلى الوزير مكاتبته طغرلبك. ثم سار في ذي الحجّة من سنة ست وأربعين وأربعمائة إلى الأنبار
__________
[1] حسب مقتضى السياق صاحبي قريش.

(4/658)


وبها أبو الغنائم بن المحلبان، ونصب عليها المجانيق ودخلها عنوة وأسر أبا الغنائم في خمسمائة من أهلها، ونهب البلاد وعاد إلى بغداد وقد شهر أبا الغنائم وهمّ بصلبه، فشفع فيه دبيس بن صدقة، وكان قد جاء مددا له على حصار الأنبار فشفعه وصلب جماعة من الأسرى.
(وثوب الأتراك بالبساسيري ونهب داره)
كان هذا البساسيري مملوكا لبعض تجّار بسا من مدائن فارس فنسب إليها. ثم صار لبهاء الدولة بن عضد الدولة، ونشأ في دولته وأخذت النجابة بضبعه. وتصرّف في خدمة بيته إلى أن صار في خدمة الملك الرحيم. وكان يبعثه في المهمات ومدافعة هذه الفتن. فدافع الأكراد من جهة حلوان، ودافع قريش بن بدران من الجانب الغربي وهما قائمان بدعوة طغرلبك. ثم سار إلى الملك الرحيم بواسط وقد تأكدت الوحشة بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء كما تقدّم. وبعث إليه وزيره أبو سعد النصراني بجرار خمر، فدسّ عليها الوزير قوما ببغداد كانوا يقومون في تغيير المنكر فكسروها. وأراقوا خمرها فتأكدت الوحشة بذلك، واستفتى البساسيري الفقهاء الحنفيّة في ذلك فأفتوه باحترام مال النصراني، ولا يجوز كسرها عليه ويغرم من أتلفها. وتأكدت الوحشة بين الوزير وبين البساسيري وكانت الوحشة بينه وبين الأتراك كما مرّ. فدسّ الوزير بالشغب على البساسيري فشغبوا، واستأذنوا في نهب دوره، فأذن لهم من دار الخلافة فانطلقت أيدي النهب عليها، وأشاع رئيس الرؤساء أنه كاتب المستنصر العلويّ صاحب مصر، واتسع الخرق، وكاتب القائم الملك الرحيم بإبعاد البساسيري، وأنه خلع الطاعة وكاتب المستنصر العلويّ فأبعده الملك الرحيم.
(استيلاء طغرلبك على بغداد والخليفة ونكبة الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه)
كان طغرلبك قد سار غازيا إلى بلاد الروم فأثخن فيها. ثم رجع إلى الري فأصلح فسادها. ثم وصل همذان في المحرّم سنة سبع وأربعين وأربعمائة عاملا على الحجّ، وأن

(4/659)


يمرّ بالشام ويزيل دولة العلويّة بمصر. وتقدّم إلى أهل الدينور وقرميس وغيرهما باعداد العلوفات والزاد في طريقه، وعظم الإرجاف بذلك في بغداد وكثر شغب الأتراك، وقصدوا ديوان الخلافة يطلبون القائم في الخروج معهم لمدافعة، وعسكروا بظاهر البلد. فوصل طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان وأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأصعد الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد عنه البساسيري بأمر القائم، فلحق بدبيس بن صدقة صاحب الحلّة لصهر بينهما.
وبعث طغرلبك إلى القائم بطاعته والى الأتراك بالمواعيد الجميلة، فردّ الأتراك كتابه وسألوا من القائم ردّه عنهم فأعرض، وجاء الملك الرحيم يعرض نفسه فيما يختاره فأمر بتقويض الأتراك خيامهم، وأن يبعثوا بالطاعة لطغرلبك ففعلوا وأمر القائم الخطباء بالخطبة لطغرلبك، فبعث إلى طريقهم الوزير أبا نصر الكندري، وأمر الأجناد ثم دخل طغرلبك بغداد يوم الخميس ليومين من رمضان، ونزل بباب الشمناسية، ووصل قريش صاحب الموصل وكان في طاعته قبل ذلك. ثم انتشرت عساكر طغرلبك في البلد وأسواقها فوقعت الهيعة، وظنّ الناس أنّ الملك الرحيم أذن بقتال طغرلبك فأقبلوا من كل ناحية، وقتلوا الغزّ في الطرقات إلا أهل الكرخ فإنهم أمّنوهم، وأجاروهم وشكر الخليفة لهم ذلك، وتمادى العامّة في ثورتهم وخرجوا إلى معسكر طغرلبك. ودخل الملك الرحيم بأعيان أصحابه إلى دار الخلافة تفاديا من الظنّة به، وركبت عساكر طغرلبك فهزموا العامّة وكسروهم، ونهبوا بعض الدروب ودروب الخلفاء والرصافة ودرب الدروب. وكانت هذه الدروب قد نقل الناس إليها أموالهم ثقة باحترامها، وفشا النهب واتسع الخرق، وأرسل طغرلبك من الغد إلى القائم بالعتب على ما وقع، ونسبه إلى الملك الرحيم ويطلب حضوره وأعيان أصحابه فيكون براءة لهم، فأمرهم الخليفة بالركوب إليه، وبعث معهم رسوله ليبرّثهم فساروا في ذمامه، وأمر طغرلبك بالقبض عليهم ساعة وصولهم.
ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وذلك لست سنين من ولايته، وانقرض أمر بني بويه ونهب في الهيعة حلّة قريش صاحب الموصل. ونجا سليمان إلى خيمة بدر بن مهلهل فأجاره، ثم خلع عليه طغرلبك وردّه إلى حلله. ونقم القائم على طغرلبك ما وقع، وبعث في إطلاق المحبوسين فاتهم في ذمامه، وهدّده بالرحيل عن بغداد فأطلق بعضهم ومحا عسكر الرحيم من الدواوين، وأذن لهم في السعي في

(4/660)


معاشهم، فلحق كثير منهم بالبساسيري فكثر جمعه. واستصفى طغرلبك أموال الأتراك ببغداد من أجله، وبعث إلى دبيس بابعاده، فلحق بالرّحبة وكاتب المستنصر صاحب مصر بالطاعة.
وخطب دبيس لطغرلبك في بلاده وانتشر الغزّ في سواد بغداد فنهبوه، وفشا الخراب فيه، وانجلى أهله، وولّى طغرلبك البصرة والأهواز هزارشب فخطب لنفسه بالأهواز فقط، وأقطع الأمير أبا علي ابن الملك أبي كاليجار قرميس وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم في نداء الصبح الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار الملك فعمرت على ما اقترحه، وانتقل إليها في شوّال سنة سبع وأربعين وأربعمائة واستقرّت قدمه في الملك والسلطان، وكانت له الدولة التي ورثها بنوه وقومه السلجوقية ولم يكن للإسلام في العجم أعظم منها. والملك للَّه يؤتيه من يشاء.
(الخبر عن دولة وشمكير وبنيه من الجيل اخوة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان بجرجان وطبرستان وأوّلية ذلك ومصايره)
قد تقدّم لنا ذكر مرداويج بن زيار، وأنه كان من قوّاد الديلم للأطروش، وأنه من الجيل إخوة الديلم، وكانت حالهم واحدة. وكان منهم قوّاد للعلويّة استظهروا بهم على أمرهم حتى إذا انقرضت دولة الأطروش وبنيه على حين فشل الدولة العبّاسية، ومحي أعمالها من السلطان، ساروا في النواحي لطلب الملك متفرّقين فيها فملكوا الريّ وأصفهان وجرجان وطبرستان والعراقين وفارس وكارمان، كل منهم في ناحية وتغلّب بنو بويه على الخليفة وحجروه إلى آخر أيامهم. وذكرنا أنّ مرداويج عند ما استفحل ملكه بعث عن أخيه وشمكير من بلاد كيلان سنة عشرين وأربعمائة فاستظهر به على أمره، وولّاه على الأعمال الجليلة، وكان قد استولى على أصفهان والري وأصبح من أعظم الملوك، وكان له موال من الأتراك تنكروا له لشدّته عليهم فاغتالوه، وقتلوه في محرّم سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فاجتمعت العساكر بعده على أخيه وشمكير بالريّ، وبعث إلى ما كان بن كالي وهو بكرمان بعد ما ملكها من أبي عليّ بن إلياس

(4/661)


بالمسير إليه بالريّ مع ابن محتاج. وسار ما كان على المفازة إلى الدّامغان وبعث وشمكير قائده تاتجيز الديلميّ مع جيش كثيف لاعتراضه، ومع ما كان عسكر ابن مظفّر مددا له، فتقاتلوا وهزمهم تاتجيز فعادوا إلى نيسابور، وجعلت ولايتها لما كان وقد مرّ ذكر ذلك كله. ثم سار تاتجيز إلى جرجان وأقام بها، ثم هلك آخر السنة من سقطة عن فرسه، فاستولى عليها ما كان وحاصره ابن محتاج سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة فملكها وسار ما كان إلى طبرستان فأقام بها. وكان ركن الدولة بن بويه غلب على أصفهان فبعث وشمكير عساكره إلى ما كان مددا له في حروبه مع ابن محتاج، فاغتنم ركن الدولة خلوّ [1] وشمكير من العساكر فسار إلى أصفهان فملكها، واتصل ما بينه وبين صاحب خراسان وانفرد وشمكير بملك الريّ.
(استيلاء عساكر خراسان على الري والجيل وملك وشمكير طبرستان)
لما ملك ركن الدولة أصفهان وصل يده بأبي علي بن محتاج صاحب خراسان، هو وأخوه عماد الدولة صاحب فارس، وحرّضاه على أخذ الريّ من وشمكير رجاء أن يكون طرفا لعمله فيتمكّن به من ملكها، فسار أبو علي لذلك، واستمدّ وشمكير ما كان للمدافعة فجاء بنفسه. وبعث ركن الدولة مددا لابن محتاج فلقوه بإسحاق آباد وتقاتلوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان فملكها، وقتل ما كان بالمعركة واستولى أبو عليّ على الريّ. ثم بعث أبو علي العساكر إلى بلد الجيل فاستولى على زنكان وأبهر وقزوين وكرج وهمذان ونهاوند والدّينور إلى حلوان.
(استيلاء الحسن بن القيرزان [2] على جرجان)
كان الحسن بن القيرزان ابن عمّ ما كان، وكان مناهضه في الصرامة، فلما قتل ما كان
__________
[1] معنى السياق فاغتنم ركن الدولة عدم وجود عساكر مع وشمكير ... لان كلمة خلو لا تعطي المعنى المقصود.
[2] الحسن بن الفيرزان وقد مرّ معنا من قبل.

(4/662)


وملك وشمكير طبرستان بعث إليه بالدخول في طاعته فأبى، ونسبه إلى المواطأة على قتل ما كان فقصده وشمكير ففارق سارية وسار إلى ابن محتاج صاحب خراسان.
واستنجده فسار معه ابن محتاج وحاصر وشمكير بسارية حولا كاملا حتى رجع إلى طاعة ابن سامان، وأعطى ابنه سلّار رهينة بذلك ورجع هو والحسن إلى خراسان وهو مكابده للصلح، ولقيهما موت سعيد بن سامان فثار الحسن بأبي عليّ بن محتاج ونهب سواده وأخذ ابن وشمكير الّذي كان عنده، ورجع فملكها من يد إبراهيم بن سيجور الدواني [1] ولحق ابن سيجور بنيسابور فعصى عليّ بن محتاج كما مرّ في أخبارهم.
(رجوع الري لوشمكير واستيلاء ابن بويه عليها)
لما انصرف ابو علي إلى خراسان وفعل به الحسن ما ذكرناه، سار وشمكير إلى الريّ فملكها وراسله ابن القيرزان يستميله، وردّ عليه ابنه سلّار فصانعه ولم يبالغ محافظة على عهد ابن محتاج. ثم طمع ركن الدولة بن بويه في ملك الريّ لخلوّ يده وقلّة عسكره فسار إليه وهزمه، واستأمن كثير من عسكره إليه وملك الريّ، ورجع وشمكير إلى طبرستان فاعترضه الحسن وهزمه فلحق بخراسان، وراسل ابن القيرزان ركن الدولة بن بويه وواصله.
(استيلاء وشمكير على جرجان)
لما ملك ابن بويه الريّ من يد وشمكير ولحق طبرستان واعترضه ابن القيرزان وهزمه، ولحق بخراسان سار إلى نوح بن سامان مستنجدا به، وبعث معه عسكرا، وأرسل إلى ابن محتاج صاحب خراسان بمظاهرته، فبعثه فيمن معه إلى جرجان وبها الحسن بن القيرزان فهزمه وشمكير وملك جرجان.
__________
[1] إبراهيم بن سيمجور الدواتي وقد مرّ ذكره معنا من قبل.

(4/663)


(استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان)
لما ملك وشمكير جرجان من يد الحسن بن القيرزان سار إلى ركن الدولة بن بويه، وأقام عنده بالريّ ثم سار سنة ست وثلاثين وثلاثمائة إلى بلاد وشمكير ولقيهم فهزموه وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان، واستأمن إليه قوّاد وشمكير وولّى الحسن بن القيرزان على جرجان ورجع إلى الريّ، وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان، فأمر منصور بن قراتكين صاحب خراسان أن يستوفد العساكر لإنجاده فسار معه، وكان مصطنعا عليه، وكتب وشمكير إلى ابن سامان يشكو من ابن قراتكين، ثم كتب الأمير نوح إلى أبي عليّ بن محتاج أن يسير معه إلى الريّ فسار معه وقاتلوا ركن الدولة فلم يظفروا به حتى صالحهم كما تقدّم، ورجع إلى وشمكير فانهزم أمامه إلى أسفراين، وملك ابن بويه طبرستان وحاصر سارية وملكها، ولحق وشمكير بجرجان وسار [1] إلى جرجان في طلب وشمكير إلى بلد الجيل واستولى ابن بويه عليها.
(وفاة وشمكير وولاية ابنه بهستون)
لما غلب بنو بويه على كرمان من يد أبي عليّ بن إلياس لحق وشمكير بالأمير منصور بن نوح ببخارى مستنصرا به، وأطمعه في ممالك بني بويه. وأسرّ إليه أنّ قوّاده بخراسان لا يناصحونه في شأنه فكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب خراسان بالمسير إلى الريّ بطاعة وشمكير والتصرّف عن رأيه، واستعدّ ركن الدولة للقائهم واستنجد ابنه عضد الدولة وخالفهم إلى خراسان وبلغهم الخبر فتوقّفوا بالدّامغان يستطلعون الأخبار. وركب وشمكير للصيد فاعترضه خنزير فرماه بحربة من يده فحمل عليه الخنزير فشبّ الفرس وسقط وشمكير إلى الأرض ومات من سقطته
__________
[1] الضمير المستتر يعود الى ابن بويه وليس الى وشمكير حسب الظاهر.

(4/664)


في محرّم سنة سبع وخمسين وأربعمائة وانتقض جميع ما كانوا فيه [1] ، ولما مات وشمكير قام ابنه بهستون مقامه، وراسل ركن الدولة وصالحه فأمدّه بالعساكر والأموال.
(وفاة بهستون وولاية أخيه قابوس)
ثم توفي بهستون بن وشمكير بجرجان سنة ست وستين وثلاثمائة لسبع سنين من ولايته، وكان أخوه قابوس عند خاله رستم بجبل شهريار، وترك بهستون ابنا صغيرا بطبرستان في كفالة جدّه لأمّه فطمع له جدّه في الملك وبادر به إلى جرجان وقبض على من كان عنده ميل إلى قابوس من القوّاد، وفي خلال ذلك وصل قابوس فخرج الجيش إليه واجتمعوا عليه وملكوه، وهرب أصحاب ابن منصور فكفله عمه قابوس وجعله إسوة بنيه، وقام بملك جرجان وطبرستان.
(استيلاء عضد الدولة على جرجان وطبرستان)
لما توفي ركن الدولة سنة ست وستين وثلاثمائة وعهد لابنه عضد الدولة وولّى ابنه فخر الدولة على همذان وأعمال الجيل، وابنه مؤيد الدولة على أصفهان. وكان بختيار بن معزّ الدولة ببغداد فاستولى عليه. ثم سار إلى أخيه فخر الدولة بهمذان فهرب إلى قابوس ونزل عضد الدولة الريّ. وبعث إلى قابوس في طلب أخيه فخر الدولة فأبى، فأمر أخاه مؤيد الدولة بخراسان أن يسير إليه، وأمدّه بالأموال والعساكر. وسار إلى جرجان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ولقيه فخر الدولة بخراسان عند ما وليها حسام الدولة أبو العبّاس تاش من قبل الأمير أبي القاسم بن نوح، وكتب إلى العبّاس تاش يأمره بإنجاد قابوس بن وشمكير وفخر الدولة على مؤيد الدولة، وإعادة قابوس إلى بلده، فزحف في العساكر إلى جرجان وحاصرها شهرين حتى ضاقت أحوالهم.
__________
[1] مقتضى السياق جميع من كانوا معه.

(4/665)


وكاتب مؤيد الدولة فائقا الخاصة من قوّاد خراسان واستماله فوعده أن ينهزم بمن معه يوم اللقاء.
وخرج مؤيد الدولة فقاتلهم وانهزم فائق بمن معه كما وعد، ووقف حسام الدولة وفخر الدولة قليلا، ثم اتبعوه منهزمين إلى خراسان. ثم استدعى تاش لتدبير الدولة ببخارى بعد قتل الوزير العتبي، فسار إليه سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة مؤيد الدولة وكان من خبر وفاته ما قدّمناه. ووقعت الفتنة بين تاش وابن سيجور وانهزم تاش إلى جرجان وقابله، فخر الدولة من الكرامة والنصرة بما لم يعهد مثله حسبما مرّ في أخبارهم. ولما ملك فخر الدولة جرجان وطبرستان والريّ اعتزم على ردّ جرجان وطبرستان إلى قابوس رغبا لما كان بينهما بدار الغربة، وأنه الّذي جرّ على قابوس الخروج عن ملكه فشاور عن ذلك وزيره الصاحب بن عبّاد فلم يوافقه، وبقي مقيما بخراسان، وأنجده بنو سامان بالعساكر المرّة بعد المرّة فلم يقدر له الظفر حتى كان استيلاء سبكتكين.
(عود قابوس الى جرجان وطبرستان)
ولما ولي سبكتكين خراسان وعد قابوس بردّه إلى ملكه جرجان وطبرستان. ثم مضى إلى بلخ فمات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فأقام قابوس إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فبعث الأصبهبذ إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة. وجمع له فقاتله وانهزم رستم واستولى أصبهبذ على الجيل. وخطب فيه لشمس المعالي قابوس. وكان نائب ابن سعيد بناحية الاستنداويه وكان يميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمد وطرد عنها عسكر مجد الدولة واستولى عليها، وخطب فيها القابوس وكتب إليه بذلك. ثم كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور، وسار أصبهبذ، وباتي بن سعيد إليها من مكانهما فخرج إليهما عساكر جرجان فقاتلوهما فانهزم العسكر، ورجعوا إلى جرجان فلقوا مقدّمة قابوس عندها فانهزموا ثانية إلى الريّ.
ودخل شمس المعالي قابوس جرجان في شعبان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وجاءت العساكر من الريّ لحصاره فأقاموا ودخل فصل الشتاء وتوالت عليهم الامطار وعدمت الأقوات فارتحلوا وتبعهم قابوس وقاتلهم فهزمهم وأسر جماعة من أعيانهم. وملك ما بين جرجان وأستراباذ. ثم أنّ الأصبهبذ حدّث نفسه بالملك، واغترّ بما اجتمع له من

(4/666)


الأموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الريّ مع المرزبان خال مجد الدولة فهزموه وأسروه، وأظهروا دعوة شمس المعالي بالجيل لأنّ المرزبان كان مستوحشا من مجد الدولة، فانضافت مملكة الجيل جميعا الى مملكة جرجان وطبرستان، وولّى عليها قابوس ابنه منوجهر ففتح الريّ وآيات وشالوش [1] وقارن ذلك استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان، فراسله قابوس وهاداه وصالحه على سائر أعماله.
(مقتل قابوس وولاية ابنه منوجهر)
كان شمس المعالي قابوس قد استفحل ملكه، وكان شديد السطوة مرهف. الحدّ فعظمت هيبته على أصحابه وتزايدت حتى انقلبت إلى العتوّ، فأجمعوا على خلعه، وكان ببعض القلاع فساروا إليه ليمسكوه بها فامتنع عليهم فانتهبوا موجودة، ورجعوا إلى جرجان وجاهروا بالخلعان، واستدعوا ابنه من طبرستان فأسرع إليهم مخافة أن يولّوا غيره، واتفقوا على طاعته بأن يخلع أباه فأجاب إلى ذلك كرها. وسار قابوس من حصنه إلى بسطام يقيم بها حتى تضمحل الفتنة فساروا إليه، وأكرهوا منوجهر على المسير معهم وينفرد هو للعبادة بقلعة ابخيا [2] وأذن له أبوه بالقيام بالملك حذرا من خروجه عنهم، وبقي المتولّون لكبر تلك الفتنة من الجند مرتابين من قابوس، وكتبوا من جرجان إلى منوجهر يستأذنونه في قتله، ولم ينتظروا ردّ الجواب وساروا إليه فدخلوا عليه البيت وجرّدوه من ثيابه، فما زال يستغيث حتى مات من شدّة البرد، وذلك سنة ثلاث وأربعمائة لخمس عشرة سنة من استيلائه، وقام بالملك ابنه منوجهر
__________
[1] الرّويان وسالوس: ابن الأثير ج 9 ص 141
[2] هكذا بالأصل والمعنى مبتور وغير واضح ولعله سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 239: «فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطرا، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر ان يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلّم إليه خاتم الملك، ووصّاه بما يفعله، واتفقا على ان ينتقل هو الى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة الى ان يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.»

(4/667)


وخطب له على منابره ولم يزل في التدبير على الرهط الذين قتلوا أباه حتى أباد كثيرا منهم وشرّد الباقين.
(وفاة منوجهر وولاية ابنه أنوشروان)
ولما سار محمود بن سبكتكين سنة عشرين وأربعمائة عند ما قبض حاجبه على مجد الدولة، وملك الريّ بدعوة محمود. وسار إليه محمود فهرب منوجهر بن قابوس من جرجان، وبعث إليه بأربعمائة ألف دينار ليصلحه، وتحصّن منه بجبال وعرة. ثم أبعد المذهب ودخل في الغياض الملتفة، وأجابه محمود فبعث إليه منوجهر بالمال ونكب عنه في رجوعه إلى نيسابور. ثم توفي منوجهر إثر ذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة وولي بعده ابنه أنوشروان، فأقرّه محمود على ولايته وقرّر عليه خمسمائة ألف أميري، وخطب لمحمود في بلاد الجيل إلى حدود أرمينية. ثم استولى مسعود بن محمود أعوام الثلاثين على جرجان وطبرستان، ومحا دولة بني قابوس كأن لم تكن والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن دولة مسافر من الديلم بآذربيجان ومصايره)
كانت أذربيجان عند ظهور الديلم وانتشارهم في البلاد واستيلائهم على الأعمال أعوام الثلاثين والثلاثمائة بيد رستم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج.
وكان من خبره أنّ أباه إبراهيم من الخوارج من أصحاب هارون الشادي [1] الخارج بالموصل هرب بعد مقتله إلى أذربيجان. وأصهر في الأكراد إلى بعض رؤسائهم، فولد له ابنه رستم ونشأ في أذربيجان. ولما كبر استضافه ابن أبي الساج، وتنقّل في الأطوار إلى أن استولى على أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج، وكان معظم جيوشه الأكراد. ولما استولى الديلم على البلاد وملك وشمكير الريّ ولّى أعمال الجيل لشكري
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 385: «كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي، وكان قد صحب يوسف بن أبي الساج، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان وكان يقول بمذهب السراة هو وأبوه، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري.»

(4/668)


وجمع الأموال والرجال، وسار لشكري الى أذربيجان ليملكها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وحاربه دسيم في بعض جهات أذربيجان، واستولى لشكري على سائر بلاد أذربيجان إلّا أردبيل، فإنّ أهلها امتنعوا ثقة بحصن بلادهم.
وراسلهم فلم يجيبوه وحاصرها وشدّ حصارها، وثلم سورها وملكها أياما يدخل نهارا ويخرج إلى عساكره ليلا. ثم ثدّوا ثلم السور وامتنعوا وعادوا إلى الحصان. واستدعوا دسيما فجاء لقتال لشكري من ورائه، وناشبته أهل أردبيل القتال من أمامه فانهزم وقتل عامّة أصحابه، وتحيزوا إلى موقان. واستنجد أصبهبذ بن دوالة فجمعوا وساروا إلى دسيم فانهزم أمامهم، وعبر نهر أرس، وقصد وشمكير في الري واستنجده، وضمن له مالا كل سنة، فبعث معه عسكرا واستمال عسكر لشكري فداخلوه وكاتبوا وشمكير بالطاعة.
وعلم بذلك لشكري فتأخر إلى الزوزن عازما على الموصل أن يملكها، ومرّ بأرمينية فنهب وسبى، ولما انتهى إلى الزوزن لقيه بعض الرؤساء من الأرمن وصانعه بالمال على بلده حتى كفّ عنها وأكمن له في مضيق بطريقة، ودسّ لبعض الأرمن أن ينهبوا شيئا من ثقله، ويسلكوا المضيق، وركب لشكري في أثرهم فقتله الكمين ومن معه، وقدّم أهل العسكر عليهم ابنه الشكرستان، ورجعوا إلى بلد الطرم الأرميني ليثأروا من الأرمن بصاحبهم. وكان أكثر بلده مضايق فقاتلهم الأرمن عليها وفتكوا فيهم، ولحق العسكر والشكرستان في الفلّ بالموصل فأقام بها عند ناصر الدولة بن حمدان، وكانت له معادن أذربيجان وولّى عليها ابن عمّه أبا عبد الله الحسين ابن سعيد بن حمدان. وبعث الشكرستان وأصحابه فقاتلهم دسيم على المعادن، وغلبهم عليها ورجعوا واستولى دسيم على أذربيجان.
(استيلاء المرزبان بن محمد بن مسافر على آذربيجان)
كان محمد بن مسافر من كبار الديلم وكان صاحب الطرم وكان له أولاد كثيرون منهم سلّار ومنهم صعلوك ومنهم وهشودان والمرزبان أمّه بنت حسّان ووهشودان ملك الديلم وقد مرّ خبره، وكان دسيم بن إبراهيم الكردي بعد مدافعة لشكري وابنه عن

(4/669)


أذربيجان أقام عنده بعض الديلم من عسكر وشمكير الذين أنجدوه على شأنه. ثم إنّ قومه من الأكراد استبدّوا عليه بأطراف أعماله، وملكوا بعض القلاع فاستظهر عليهم بأولئك الديلم وغلبهم، واستدعى صعلوك بن محمد من قلعة أبيه الطرم فجاء إليه جماعة من الديلم وسار بهم إلى التي تغلّب عليها الأكراد فانتزعها منهم، وقبض على جماعة منهم. ثم استوحش منه وزيره أبو القاسم عليّ بن جعفر من أهل أذربيجان فهرب إلى الطرم ونزل على محمد بن مسافر عند ما استوحش منه ابناه وهشودان والمرزبان، وغلبا على بعض قلاعه.
ثم قبضا عليه وانتزعا منه أمواله وذخائره فتقرّب الوزير عليّ بن جعفر إلى المرزبان وكان يشاركه في دين الباطنية، وأطمعه في أذربيجان فاستوزره المرزبان، وكانت الديلم الذين عند دسيم وغيره من جنده واستمالهم فأجابوه، وسار المرزبان إلى أذربيجان وبرز دسيم للقائه فنزع الديلم إلى المرزبان، واستأمن إليه كثير من الأكراد، وهرب دسيم إلى أرمينية ونزل على صاحبها حاجيق بن الديراني. وملك المرزبان أذربيجان سنة ثلاثين وثلاثمائة، وأساء وزيره عليّ بن جعفر السيرة مع أصحابه فتظافروا عليه وشرعوا في السعاية فيه، فأطمع المرزبان في أموال تبريز يضمنها له.
وسار إليها في عسكر من الديلم وأسرّ لأهلها أنه جاء لمصادرتهم، فوثبوا بمن معه من الديلم وقتلوهم، واستدعوا دسيم بن إبراهيم فجاء إلى تبريز وملكوه، ولحق به الأكراد الذين استأمنوا إلى المرزبان، فسار المرزبان في عساكره وحاصرهم دسيم بتبريز، وكاتب عليّ بن جعفر وحلف له على الوفاء بما يرومه منه فطلب منه السلامة، وترك العمل فأجابه واشتدّ الحصار على دسيم فهرب من تبريز إلى أردبيل، وخرج الوزير إليه فوفّى له المرزبان. ثم طلب دسيم أن ينزله بأهله بقلعة من قلاع الطرم ففعل وأقام المرزبان فيها.
(استيلاء الروس على مدينة بردعة وظفر المرزبان بهم)
هؤلاء الروس من طوائف الترك ويجاورون الروم في مواطنهم، وأخذوا بدين النصرانية معهم منذ أزمان متطاولة، وبلادهم تجاور بلاد أذربيجان، فركبت طائفة منهم

(4/670)


البحر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ثم صعدوا من البحر في نهر اللكنهر، وانتهوا إلى مدينة بردعة من بلاد أذربيجان وبها المرزبان فخرج إليهم في نحو خمسة آلاف مقاتل من الديلم وغيرهم فهزمهم الروس، وقتلوا الديلم وتبعوهم إلى البلد فملكوه ونادوا بالأمان، وأحسنوا السيرة، وجاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية فلم يقدروا عليهم. وظاهرهم العوامّ والرعاع، فلما انصرفت العساكر غدرت الروسية بهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم واستعبدوهم.
وأحزن المسلمين ذلك واستنفر المرزبان الناس وسار لهم وأكمن لهم كمينا، وزحف إليهم، وخرجوا إليه واستطرد لهم حتى جاوزوا موضع الكمين، فاستمرّ أصحابه على الهزيمة ورجع هو مع أخيه وصاحب له مستميتين، وخرج الكمين من ورائهم واستلحم الروسية وأميرهم، ونجا فلّهم إلى البلد فاعتصموا بحصنه، وكانوا قد نقلوا إليه السبي والأموال، وحاصرهم المرزبان وصابروه. ثم إن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل بعث إلى ابن عمّه الحسين بن سعد بن حمدان في هذه السنة إلى أذربيجان ليملكها، فبلغ الخبر إلى المرزبان بأنه انتهى إلى سلماس، فجهّز عسكرا إلى الروس وسار لقتال ابن حمدان، فقاتله أياما ثم استدعاه ابن عمّه ناصر الدولة من الموصل وأخبره بموت توزون وأنه سائر إلى بغداد، وأمره بالرجوع فرجع. وأمّا الروس فحاصرهم العسكر أياما واشتدّ فيهم الوباء فانقضوا من الحصن ليلا وحملوا ما قدروا عليه من الأموال ولحقوا باللكن [1] فركبوا سفنهم ومضوا إلى بلادهم، وطهر الله البلاد منهم.
(مسير المرزبان الى الري وهزيمته وحبسه)
ولما سارت عساكر خراسان إلى الريّ وظنّ المرزبان أنّ ذلك يشغل ركن الدولة بن بويه عنه، وكان قد بعث رسوله إلى معزّ الدولة ببغداد فصرفه مذموما مدحورا، فاعتزم على غزو الريّ، وطمع في ملكه واستأمن إليه بعض قوّاد الري وأغراه بذلك.
وراسله ناصر الدولة بن حمدان يستحثّه لذلك، ويشير عليه ببغداد قبل الريّ.
__________
[1] الكرّ: ابن الأثير ج 8 ص 414.

(4/671)


وكتب ركن الدولة إلى أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة يستنجدهما، فبعثوا إليه بالعساكر، وسار بها من بغداد سبكتكين الحاجب. ولما انتهى إلى الدّينور انتقض عليه الديلم ووثبوا به، فركب في الأتراك فتخاذل الديلم وأعطوه الطاعة. وكان المرزبان قبل وصول العساكر زحف إلى الريّ وهزمه ركن الدولة وحبسه، ورجع الفلّ إلى أذربيجان ومعهم محمد بن عبد الرزاق. واجتمع أصحاب المرزبان على أبيه محمد بن مسافر، وأساء السيرة فهمّوا بقتله، وكان ابنه وهشودان قد هرب منه واعتصم بحصن له فلحق به أبوه محمد فقبض عليه وهشوذان وضيّق عليه حتى مات. ثم استدعى دسيم الكرديّ من مكانه بقلعة الطرم حيث أنزله المرزبان عند ظفره به، وبعثه إلى محمد بن عبد الرزاق، وأقام بنواحي أذربيجان. ثم رجع إلى الريّ سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة واستعتب إلى سلطانه نوح بن سامان فأعتبه وعاد إلى طوس.
واستولى دسيم على أذربيجان لوالي القلعة حتى تمكّنوا من قتله فقتله المرزبان، ولحق بأخيه وهشوذان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. وكان عليّ بن منسلى [1] من قوّاد ركن الدولة قد لحق بوهشودان، وأغراه بدسيم، فبعثه وهشودان في العساكر، وكاتب الديلم واستمالهم، وسار إليه دسيم وخلّف وزيره أبا عبد الله النعيمي بأردبيل فجمع مالا كان صادره عليه، وهرب بما معه من المال إلى عليّ بن منسلى.
وبلغ الخبر إلى دسيم عند أذربيجان، فعاد الى أردبيل، وشغب عليه الديلم ففرّق فيهم ما كان معه من المال، وسار للقاء عليّ بن منسلى فالتقيا. وهرب الديلم الذين معه إلى علي بن منكلى، وانهزم هو إلى أرمينية. ثم جاءه الخبر بأنّ المرزبان تخلّص من محبسه بقلعة سيرم وملك أردبيل، واستولى على أذربيجان. وأنفذ العساكر في طلبه فهزم دسيم إلى بغداد فأكرمه معز الدولة وأقام عنده. ثم استدعاه شيعته بأذربيجان سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة فسار إليهم وطلب من معزّ الدولة المدد لأنّ أخاه ركن الدولة كان قد صالح المرزبان، فسار دسيم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، واستنجد به فلم ينجده، فسار إلى سيف الدولة، فأقام عنده بالشام. فلما كان سنة أربع وأربعين خرج على المرزبان خارج باب الأبواب فسار إليه، وخالفه دسيم إلى أذربيجان فاستدعاه مقدّم من الأكراد وملك سلماس فبعث اليه المرزبان
__________
[1] وفي نسخة ثانية منكلى وفي الكامل: علي بن ميسكي: ابن الأثير ج 8 ص 500

(4/672)


قائدا من قوّاده فهزمه دسيم. ولما فرغ المرزبان من أمر الخارج وعاد إلى أذربيجان هرب دسيم إلى أرمينية واستجاش بابن الديراني، وكتب إليه المرزبان بحمل دسيم إليه، فسلّمه وحبسه حتى إذا توفي المرزبان قتله بعض أصحابه حذرا من فتنته.
(وفاة المرزبان وولاية ابنه خستان)
ثم توفي المرزبان صاحب أذربيجان سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وعهد بالملك إلى أخيه وهشودان وبعده لابنه خستان [1] ، وكان قد أوصى نوّابه بالقلاع أن يسلّموها لابنه خستان، ثم لأخويه إبراهيم وناصر، ثم إلى أخيه وهشودان عند ما عهد بالعهد الثاني إلى أخيه عرّفه بإمارات بينه وبين نوّابه يرجعون إليها في ذلك. وبعث إلى النوّاب عبد الله النعيمي. وهرب وهشودان من أردبيل فلحق بالطّرم وجاء قوّاد المرزبان إلى خستان بن شرمول [2] فإنه كان مقيما على أرمينية فانتقض بها.
(مقتل خستان واخوته واستيلاء عمهم وهشودان على آذربيجان)
ولما ولي خستان بن المرزبان انغمس في لذّاته وعكف على اللهو، وقبض على وزيره أبي عبد الله النعيمي، وكان خستان بن برسموه منتقضا بأرمينية وقد ملكها، وكان وزيره أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه صهرا للوزير النعيمي فاستوحش لنكبته، وحمل صاحبه ابن سرمدن [3] على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان، فأطمعه في الملك وسار به إلى مراغة فملكها فراسله أخوه خستان، وسار إلى موقان وكان
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 519: وفي هذه السنة- 346- في رمضان توفي السلّار المرزبان بأذربيجان وهو صاحبها، فلما يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان بالملك، وبعده لابنه جستان بن المرزبان» .
[2] جستان بن شرمزن: المرجع السابق.
[3] التحريف ظاهر لقد كان اسمه خستان بن شرمول وهنا ابن سرمدن وفي الكامل جستان بن شرمزن وفي بعض النسخ شرمون.
ابن خلدون م 43 ج 4

(4/673)


بأذربيجان رجل من ولد المكتفي متنكرا يدعو للرضا من آل محمد ويأمر بالعدل، ويلقب بالمجير، وكثرت جموعه، فبعث إليه النعيمي من موقان وأطمعه في الخلافة، وأن يملّكه أذربيجان على أن يقصد بغداد ويترك لهم أذربيجان، فسارا إليه خستان وإبراهيم ابنا المرزبان فهزماه وقتلاه فلما رأى وهشودان الخلاف بين بني أخيه المرزبان استمال إبراهيم، وسار ناصر إلى موقان وطمع الجند في المال فساروا إلى ناصر وملكوا بهم أردبيل.
وطالبه الجند بالمال فعجز وقعد عمّه وهشودان عن نصره وتبين له أنه كان يخادعه، فاجتمع مع أخيه خستان واضطربت عليهما الأمور وانتقضت أصحاب الأطراف فاضطرهما الحال إلى طاعة عمّهما وهشودان وراسلاه في ذلك، واستحلفاه وقدما عليه مع أمّهما، فغدر وقبض عليهم، وعقد الإمارة على أذربيجان لابنه إسماعيل، وسلّم له أكثر قلاعه. ولحق إبراهيم بن المرزبان بمراغة، وجمع لاستنقاذ أخويه ومنازعة إسماعيل فقتل وهشودان أخويه وأمّهما، وأمر خستان بن سرمدن بقتال إبراهيم بمراغة وبعث اليه بالمدد. وانضمّ إبراهيم إلى نواحي أرمينية سنة تسع وأربعين فاستولى ابن سرمدن على مراغة واستضافها إلى أرمينية. وجمع إبراهيم. وكانت ملوك أرمينية من الأرمن والأكراد، وأصلح خستان بن سرمدن. ثم جاء الخبر بوفاة إسماعيل ابن عمّه فسار إلى أردبيل فملكها، وانصرف ابن منسلى إلى وهشودان، وزحف إليهما إبراهيم وهزمهما، فلحقا ببلاد الديلم، واستولى إبراهيم على أعمال وهشودان. ثم جمع وهشودان وعاد إلى قلعته بالطرم، وبعث أبو القاسم بن منسلى العساكر لقتال إبراهيم فهزموه، ونجا إلى الريّ مستنجدا بركن الدولة لصهر بينهما.
(استيلاء إبراهيم بن المرزبان ثانيا على آذربيجان)
قد تقدّم هزيمة إبراهيم بن المرزبان أمام عساكر ابن منسلى، وأنه لحق بركن الدولة مستنجدا به، فبعث معه الأستاذ أبا الفضل بن العميد في العساكر فاستولى على أذربيجان، وحمل أهلها على طاعة إبراهيم، وقاد له خستان بن سرمدن وطوائف الأكراد فتمكّن من البلاد وكتب ابن العميد إلى ركن الدولة أن يعطيه ملكها. ولعله

(4/674)


يعوض إبراهيم عنها لكثرة جبايتها وقلّة معرفة إبراهيم بالجباية، وأن يشهد فيها بالخروج عن ملكه فأبى من ذلك، وقال لا أفعل ذلك بمن استجار بي فسلّم له ابن العميد البلاد ورجع.
(تنبيه) أخبار بني مسافر المعروفين ببني السلّار ملوك أذربيجان نقلتها من كتاب ابن الأثير وإلى هاهنا انتهى في أخبارهم وأحال على ما بعده فقال بعد ذلك: وكان الأمير كما ذكر ابن العميد قد أخذ إبراهيم وحبسه على ما ذكره، ولم نقف على ذكر شيء من أخبار إبراهيم بعد ذلك ولا من خبر قومه. وذكر أن محمود بن سبكتكين بعد خبر استيلائه على الريّ سنة عشرين وأربعمائة أنه بعث إلى المرزبان بن الحسين بن حرابيل [1] من أولاد ملوك الديلم، والتجأ الى محمود فبعثه إلى بلاد السلّار، وهو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهشودان بن محمد بن مسافر الديلميّ، وكان له من البلاد شهرخان [2] وزنجان وشهرزور وغيرها فقصدها واستمال الديلم. وعاد محمود إلى خراسان فسار السلّار إبراهيم إلى قزوين فملكها وقتل من عساكر محمود الذين بها وتحصّن بقلعة الريّ، وكان بينهما وقائع ظهر فيها السلّار، ثم استمال مسعود بن محمود طوائف من عسكره وجاءوا إليه ودلّوه على عورة الحصن الّذي فيه السلّار وسلكوا بعسكره من طرق غامضة. وبعث إليه العسكر في رمضان سنة ست وعشرين وأربعمائة فانهزم، وقبض عليه مسعود وحمله الى سرجهار وبها ولده [3] ، وطالب أن يسلّم إليه القلعة فأبي، وعاود عنه. وتسلّم بقية قلاعه، وأخذ أمواله وقرّر على ابنه بسرجهار مالا وعلى الأكراد الذين في جواره. وعاد إلى الريّ، وهذا السلّار الّذي ذكر غير السلّار الأوّل، ولم يتّصل الخبر بالخبر المتقدّم. ثم ذكر أخبار الغز الذين تقدّموا بين يديّ السلجوقية وانتشروا في بلاد الريّ وملكوها وكثيرا من بلادها، ووصلت طائفة منهم إلى أذربيجان الذين كان مقدّمهم بوقا وكوكتاش ومنصور ودانا.
(دخول الغز آذربيجان)
يقال دخل هؤلاء الغزّ إلى أذربيجان وسمّر صاحبها يومئذ وهشودان بن غلاك،
__________
[1] الحسن بن خراميل: ابن الأثير ج 9 ص 373
[2] سرجهان: المرجع السابق.
[3] ذكر ابن الأثير هذه الحادثة سنة 420 حيث يذكر انه قبض على السلار وحمل الى سرجهان وبها ولده.

(4/675)


فأكرمهم وصاهرهم يدافع شرّهم بذلك، ويستميلهم لنصرته فلم يحصل من ذلك بطائل. وعاثوا في البلاد أشدّ العيث ودخلوا مراغة سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها. وفعلوا كذلك بالأكراد الهمذانية [1] ، فاتفق أهل البلاد على مدافعتهم. وأصلح أبو الهيجاء ابن ربيب الدولة ووهشوذان صاحبا أذربيجان، واتفقت كلمتهما واجتمع معهما أهل همذان فانصرفت تلك الطائفة عن أذربيجان، وافترقوا على الريّ كما تقدّم في أخبارهم. وبقي الغزّ الذين تقدّموا قبلهم، فقاسى منهم أهل أذربيجان شدّة، وفتك فيهم وهشوذان بتبريز سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فتكة أوهنت منهم. ودعا منهم جمعا كثيرا إلى صنيع، وقبض على ثلاثين من مقدّميهم فقتلهم، وفرّ الباقون من أرمينية إلى بلاد الهكّارية من أعمال الموصل، وكانت بينهم وبين الأكراد وقائع ذكرناها في أخبار الغزّ بالموصل، ولم يعد ابن الأثير لبني المرزبان ملوك أذربيجان ذكرا إلى أن ذكر استيلاء طغرلبك على البلاد، والمفهوم من فحوى الأخبار أنّ الأكراد استولوا عليها بعد بني المرزبان والله أعلم.
(استيلاء طغرلبك على آذربيجان)
قال ابن الأثير وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة سار طغرلبك إلى أذربيجان وقصد تبريز، وصاحبها الأمير منصور بن وهشوذان بن محمد الرواديّ فأطاعه وخطب له وحمل إليه، ورهن عنده ولده، فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار صاحب جنزة فأطاع وخطب، وكذلك سائر النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة، وانقاد العساكر إليه فأبقى عليهم بلادهم، وأخذ رهنهم وسار إلى أرمينية كذلك، وقصد ملازكرد وهي للنصرانية، فعاث في بلادها وخرّب أعمالها، وغزا من هنالك بلاد الروم وانتهى إلى أرزن الروم فأثخن في بلادهم ودوّخها، وعاد ابن السلّار وذكر ابن الأثير خلال هذا غزوة فضلون الكردي إلى الخزر من التركمان على ما مرّ أوّل الكتاب فقال: كان بيد فضلون الكردي قطعة كبيرة من أذربيجان فغزا إلى الخزر
__________
[1] هم الأكراد الهذبانية وليس الهمذانية.

(4/676)


سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ودوّخ البلاد وقفل، فجاءوا في أثره وكبسوه وقتلوا أيضا بخطط ملك الإنجاز إلى مدينة تفليس فقال: وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف ملك الأنجاز إلى أذربيجان ليتعرّف المسلمين على حين وصول الغز إلى أذربيجان وما فعلوه فيها، وسمع الأنجاز بأخبارهم فأجفلوا عن مخلفهم، ووصل وهشوذان صاحب أذربيجان وصرف نظره إلى ملاطفة الغزّ ومصاهرتهم ليستعين بهم كما مرّ [1] . هذا آخر ما وجدناه من أخبار ملوك أذربيجان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
(الخبر عن بني شاهين ملوك البطيحة ومن ملكها من بعدهم من قرابتهم وغيرهم وابتداء ذلك ومصايره)
كان عمران بن شاهين من الجامدة، وكان يتصرّف في الجباية، وحصل بيده منها مال فتخوّف وألحّ عليه الطلب فهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة. وكان له نجدة وبأس وصبر على الشظف فأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسمك الماء والطير، ويتعرّض للرفاق التي تمرّ بالطريق فيأخذها. واجتمع إليه لصوص الصيّادين فقوي وامتنع على السلطان، وتمسك بخدمة أبي القاسم بن البريديّ صاحب البصرة فأمّنه، ووصل حبل الطاعة بيده وقلّده حماية تلك النواحي إلى الجامدة دفعا لضرره عن السابلة، فعزّ جانبه وكثر جمعه وسلاحه، واتخذ معاقل على التلال بالبطائح وغلب على تلك النواحي، ولما استولى معزّ الدولة على بغداد، وقام بكفالة الخلافة والنظر في أمورها، أهمه شأن عمران هذا وامتناعه في معاقلة في نواحي بغداد، فجهّز إليه وزيره أبا جعفر الصيمريّ في العساكر، وسار إليه سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتعدّدت بينهما الحروب والوقائع، ثم هزمه الصيمريّ. ثم أتاه الخبر بمسيره إلى شيراز كما تقدّم في أخبار دولتهم.
__________
[1] العبارة غير واضحة وفي الكامل ج 9 ص 457: «في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس، وامتنع أهلها عليه، فأقام محاصرا ومضيقا فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها الى أذربيجان يستفرون المسلمين ويسألونهم اعانتهم، فلما وصل الغز الى أذربيجان وجمع الإنجاز بقربهم، وبما فعلوا بالأرمن، ورحلوا عن تفليس مجفلين خوفا، ولما رأى وهشوذان صاحب أذربيجان قوة الغز وأنه لا طاقة له بهم لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم»

(4/677)


(مسير العساكر الى عمران بن شاهين وانهزامها)
ولما انصرف الصيمري عن عمران عاد إلى حاله فبعث معزّ الدولة لقتاله روزبهان من أعيان الديلم في العساكر، فتحصّن منه في مضايق البطائح، فطاوله فضجر روزبهان واستعجل قتاله فهزمه عمران وغنم ما معهم، فاستفحل وقوي وأفسد السابلة. وكان أصحابه يطلبون الخفارة من جند السلطان إذا مرّوا بهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة، فبعث معزّ الدولة بالعساكر مع المهلّبيّ، وزحف إلى البطائح سنة أربعين وثلاثمائة ودخل عمران في مضايقه، وأشاروا عليه بالهجوم فلم يفعل، فكتب إليه معز الدولة بذلك بإشارة روزبهان فدخل المهلبي المضايق بجميع عسكره، وقد أكمن لهم عمران، فخرج عليهم الكمين وتقسّموا بين القتل والغرق والأسر، ونجا المهلّبيّ سابحا في الماء. وكان روزبهان متأخّرا في الزحف فسلم، وأسر عمران كثيرا من قوّادهم الأكابر ففاداه معزّ الدولة بمن في أسره من أهله وأصحابه، وقلّده ولاية البطائح فاستفحل أمره.
ثم انتقض سنة أربع وأربعين وثلاثمائة لخبر بلغه عن مرض طرق معز الدولة، وأرجف أهل بغداد بموته، ومرّ به مال من الأموال يحمل إلى معز الدولة ومعه جماعة من التجّار فكبسهم وأخذ جميع ما معهم. ثم ردّ ذلك بعد إبلال معز الدولة من مرضه، وفسد ما بينهما من الصلح! ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فبعث العساكر من هنالك لقتال عمران مع أبي الفضل العبّاس بن الحسن، وقدم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عمان يستنجده عليها، فانحدر إلى الأبلة، وبعث معه المراكب إلى عمان، وسارت عساكره إلى البطائح، فنزلوا الجامدة وسدّوا الأنهار التي تصبّ إليها.
ثم رجع معز الدولة من الأبلة وطرقه المرض فجهّز العساكر لقتال عمران، وعاد إلى بغداد فهلك، وولي بعده ابنه عز الدولة بختيار فأعاد العساكر المجمّرة على عمران، وعقد معه الصلح فاستمرّ حاله. ثم زحف بختيار إليه سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وأقام بواسط يتصيّد شهرا. ثم بعث وزيره إلى الجامدة وطرق البطيحة فسدّ مجاري المياه وقلبها إلى أنهارها، وهي الجسور إلى العراق. ثم جاء المدّ من دجلة وخرّب جميع

(4/678)


ذلك. ثم انتقل عمران إلى معقل آخر ونقل ماله إليه حتى إذا حسر المياه وانتهجت الطرق فقدوا عمران من مكانه، وطال عليهم الأمر وشغب الجند على الوزير فأمر بختيار بمصالحته على ألف ألف درهم، ولما رحل العسكر عنه ثار أصحابه في أطراف الناس فنهبوا كثيرا من العساكر ووصلوا إلى بغداد سنة إحدى وستين وثلاثمائة
(وفاة عمران بن شاهين وقيام ابنه الحسن مقامه ومحاربته عساكر عضد الدولة)
ثم توفي عمران بن شاهين فجأة في محرّم سنة تسع وستين وثلاثمائة لأربعين سنة من ثورته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وردّدوا عليه العساكر فلم يقدروا عليه. ولما هلك قام بعده ابنه الحسن فطمع عضد الدولة فيه، وجهّز العساكر مع وزيره وسدّوا عليه المياه وأنفق فيها أموالا وجاء المدّ فأزالها، وبقوا كلما سدّوا فوهة فتق الحسن أخرى وفتح الماء أمثالا لها، ثم وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن وكان معه [1] المظفّر أبو الحسن ومحمد بن عمر العلويّ الكوفي، فاتهمه [2] بمراسلة الحسن وإفشاء سرّه إليه، وخاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة فطعن نفسه فمات، وأدرك بآخر رمق فقال:
محمد بن عمر حملني على هذا، وحمل إلى ولده بكازرون فدفن هنالك، وأرسل عضد الدولة إلى العسكر من رجعه إليه وصالح الحسن بن عمران على مال يحمله وأخذ رهنه بذلك.
(مقتل الحسن بن عمران وولاية أخيه أبي الفرج)
كان الحسن بن عمران آسفا على أخيه أبي الفرج وحنقا عليه، ولم يزل يتحيّل عليه إلى أن دعاه إلى عيادة أخت لهما مرضت، وأكمن في بيتها جماعة أعدّها لقتله، فدخل الحسن منفردا عن أصحابه، فأغلقوا الباب دونهم وقتلوه، وصعد أبو الفرج
__________
[1] وزير عضد الدولة هو المطهّر بن عبد الله، وكان معه- اي مع وزير عضد الدولة وليس مع الحسن بن عمران حسب ظاهر النص- أبو الحسن محمد بن عمر العلويّ الكوفي.
[2] الضمير يعود الى أبي الحسن محمد بن عمر وقد اتهم المطهّر وزير عضد الدولة بمراسلة الحسن بن عمران.

(4/679)


إلى السطح فأعلمهم بقتله ووعدهم فسكتوا. ثم بذل لهم المال فأقرّوه، وكتب إلى بغداد بالطاعة، فكتب له بالولاية، وذلك لثلاث سنين من ولاية الحسن.
(مقتل أبي الفرج وولاية أبي المعالي بن الحسن)
ثم إنّ أبا الفرج لما قتل أخاه الحسن قدّم الجماعة الذين قتلوه على أكبار القوّاد، وكان الحاجب المظفّر بن علي كبير قوّاد عمران والحسن، فاجتمع إليه القوّاد وشكوا إليه فسكّنهم فلم يرضوا وحملوه على قتل أبي الفرج فقتله، ونصّب أبا المعالي ابن أخيه الحسن مكانه لأشهر من ولايته. ثم تولّى تدبيره بنفسه لصغره، وقتل من كان يخافه من القوّاد واستولى على أموره كلها.
(استيلاء المظفّر وخلع أبي المعالي)
ثم إنّ المظفّر بن علي الحاجب القائم بأمر أبي المعالي طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فصنع كتابا على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته، وجاء به ركابي عليه أثر السفر وهو بدست إمارته فقرأه بحضرتهم، وتلقّاه بالطاعة وعزل أبا المعالي وأخرجه مع أمّه إلى واسط وكان يصلهما بالنفقة. وأحسن السيرة بالناس، وانقرض بيت عمران بن شاهين. ثم عهد إلى ابن أخته عليّ بن نصر ويكنّى أبا الحسن، وتلقّب بالأمير المختار، وبعده إلى ابن أخته الأخرى ويكنى أبا الحسن ويسمّى عليّ بن جعفر.
(وفاة المظفر وولاية مهذب الدولة)
ثم توفي الحاجب المظفّر صاحب البطيحة سنة ست وسبعين وثلاثمائة لثلاث سنين من ولايته، وولي بعده ابن أخيه أبو الحسن علي بن نصر بعهده إليه كما مرّ. وكتب إلى شرف الدولة سلطان بغداد بالطاعة، فقلّده ولقّبه مهذّب الدولة، فأحسن السيرة

(4/680)


وبذل المعروف وأجار الخائف، فقصده الناس وأصبحت البطيحة معقلا. واتخذها الأكابر وطنا، وبنوا فيها الدور والقصور. وكاتب ملوك الأطراف وصاهره بهاء الدولة بابنته، وعظم شأنه واستجار به القادر عند ما خاف من الطائع، وهرب إليه فأجاره، ولم يزل عنده بالبطيحة ثلاث سنين إلى أن استدعي منها للخلافة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
(بعث ابن واصل على البطيحة وعزل مهذب الدولة)
كان من خبر أبي العبّاس بن واصل هذا أنه كان ينوب عن رزبوك الحاجب، وارتفع معه ثم استوحش منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاد وتقدّم عنده. ثم قبض على فولاد فعاد إلى الأهواز. ثم أصعد إلى بغداد، ثم خرج منها وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذّب الدولة بالبطيحة وتقدّم عنده. ولمّا استولى السكرستان [1] على البصرة بعثه مهذّب الدولة في العساكر لحربه فقتله وغلبه، ومضى إلى شيراز فأخذ سفن محمد بن مكرّم وأمواله، ورجع إلى أسافل دجلة فتغلّب عليها، وخلع طاعة مهذّب الدولة، فأرسل إليه مائة سميرية مشحونة بالمقاتلة فغرق بعضها وأخذ ابن واصل الباقي وعاد إلى الأبلة فبعث إليه أبا سعيد بن ماكولا فهزمه ثانية، واستولى على ما معه وأصعد إلى البطيحة وخرج مهذّب الدولة إلى شجاع بن مروان وابنه صدقة فغدروا به، وأخذوا أمواله، ولحق بواسط، واستولى ابن واصل على البطيحة وعلى أموال مهذّب الدولة، وجمع ما كان لزوج له ابنة بهاء الدولة.
وبعث به إلى أبيها وكانت قد لحقت ببغداد. ثم اضطرب عليه أهل البطائح وبعث سبعمائة فارس إلى البلاد المجاورة فقاتلهم أهلها وظفروا بهم، وخشي ابن واصل على نفسه فعاد إلى البصرة وترك البطائح فوضى، ونزل البصرة في قوّة واستفحال. وخشي أهل النواحي عاديته فسار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليتلافى أمره، واستدعى عميد الجيوش من بغداد وسيّره في العساكر إليه فجاء إلى واسط، واستكثر من السفن
__________
[1] لشكرستان: ابن الأثير ج 9 ص 180

(4/681)


وسار إلى البطائح وسار إليه ابن واصل من البصرة فهزمه وغنم ثقله وخيامه ورجع ابن واصل مفلولا [1]
(عود مهذب الدولة الى البطيحة)
ولما انهزم عميد الجيوش أقام بواسط فجمع عساكره لمعاودة ابن واصل، ثم بلغه أنّ نائب بن واسط بالبطائح قد خرج منها مجفلا، فبعث إلى بغداد وبعث بالعساكر، وهمّ بالانتقاض فاستدعى عميد الجيوش مهذّب الدولة من بغداد، وبعثه بالعساكر في السفن إلى البطيحة سنة خمس وستين [2] وثلاثمائة فاستولى عليها. واجتمع عليه أهل الولايات وأطاعوه، وقرّر عليها بهاء الدولة خمسين ألف دينار في كل سنة، وشغل عن ابن واصل بتجهيز العساكر إلى خوزستان وطمع في الملك واجتمع عنده كثير من الديلم وأصناف الأجناد. وسار إلى الأهواز وسيّر بهاء الدولة عسكرا للقائه فهزمهم، ودخل دار الملك وأخذ ما كان فيها. وبعث إلى بهاء الدولة في الصلح فصالحه وزاد في أقطاعه. ثم بعث بهاء الدولة العساكر للقائه وسار إلى الأهواز وزحف إليها ابن واصل ومعه بدر بن حسنوية، فبعث بهاء الدولة الوزير بالبطيحة فهزمه الوزير ثانية، فمضى مع حسّان بن محال الخفاجي الكوفي وملك إلى الكوفة، وملك البصرة. وسار ابن واصل إلى دجلة قاصدا بدر بن حسنوية فبلغ جامعين فأنزله أصحاب بدر، وكان أصحاب أبي الفتح بن عنّان قريبا منه فكبسه، وجاء به إلى بغداد فبعثه عميد الجيوش إلى بهاء الدولة فقتله سنة ست وتسعين وثلاثمائة كما مرّ في أخبار الدولة.
__________
[1] مفلولا أي مهزوما والمعلوم ان عميد الجيوش هو المهزوم وليس ابن واصل حسب ظاهر المعنى والواضح انه سقطت بعض العبارات أثناء النسخ وفي الكامل ج 9 ص 181: «ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس الى الأهواز لتلافي أمره وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهّز معه عسكرا كثيفا، وسيرهم الى أبي العباس فأتى الى واسط، وعمل ما يحتاج اليه من سفن وغيرها وسار الى البطائح وسمع ابو العباس (ابن واصل) بمسيره اليه فاصعد اليه من البصرة. ووصل الى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه فلقيه فيمن معه بالصليق فانهزم عميد الجيوش ووقع من معه بعضهم على بعض، ولقي عميد الجيوش شدة الى ان وصل الى واسط وذهب ثقله وخيامه وخزائنه.»
[2] الصحيح ان عودة مهذّب الدولة الى البطيحة كان سنة 395 وليس 365 كما ذكر ابن خلدون ولعل هذا الخطأ عائد الى الناسخ.

(4/682)


(وفاة مهذب الدولة وولاية ابن أخته عبد الله بن نسي)
ثم توفي مهذّب الدولة عبد الله بن علي بن نصر في جمادى سنة ثمان وأربعمائة، وكان ابن أخته أبو عبد الله محمد بن نسي [1] قائما بأموره ومرشحا للولاية مكانه. وقد اجتمع عليه الجند واستحلفهم لنفسه. وبلغه قبل وفاة خاله أنّ ابنه أبا الحسن أحمد داخل بعض الجند في البيعة له بعد أبيه فاستدعاه، وحمله إليه الجند فقبض عليه، ودخلت إليه أمّه فخبرته الخبر فلم يزد على الأسف له. وتوفي مهذّب الدولة من الغد، وولي أبو محمد بن نسي مكانه وقتل أبو الحسين ابن خاله الثلاث من وفاة أبيه.
(وفاة ابن نسي وولاية السراني)
ثم توفي أبو عبد الله محمد بن نسي [2] لثلاثة أشهر من ولايته، واتفق الجند على ولاية أبي محمد الحسين بن بكر السراني [3] من خواص مهذّب الدولة فولّوه عليهم، وبذل لسلطان الدولة ملك بغداد مالا فأقرّه على ولايته.
(نكبة السراني وولاية صدقة المازياري)
وأقام أبو محمد السراني على البطيحة إلى سنة عشر وأربعمائة، وبعث سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياريّ فنكبه وملك البطيحة، وبقي عنده أسيرا إلى أن توفي صدقة وخلص على ما يذكر.
__________
[1] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ: ابن الأثير ج 9 ص 303
[2] هو أبو محمد عبد الله بن ينيّ كما مرّ معنا من قبل.
[3] هو أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي: ابن الأثير ج 9 ص 303

(4/683)


(وفاة صدقة وولاية سابور بن المرزبان)
ثم توفي صدقة بن فارس المازياري في محرم لاثنتي عشرة سنة من ولايته، وكان سابور ابن المرزبان بن مردان قائد جيشه. وكان أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين قد تنقل بعد موت أبيه في البلاد بمصر، وعند بدر بن حسنويه حتى استقرّ عند الوزير أبي غالب، ونفق عنده بما كان لديه من الأدب.
(عزل سابور وولاية أبي نصر)
ثم إنّ أبا نصر بن مردان زاد في المقاطعة ولم يبلغها سابور، وتخلّى عن الولاية وفارق البطيحة إلى جزيرة بني دبيس، واستقرّ أبو نصر في ولايتها. ثم عادت إلى أبي عبد الله الحسين بن بكر السراني.
(عصيان أهل البطيحة على أبي كاليجار)
وبعث أبو كاليجار سنة ثمان عشرة وأربعمائة وزيره أبا محمد بن نابهشاد [1] إلى البطيحة، ومقدّمها يومئذ أبو عبد الله الحسين بن بكر السراني فعسف بالناس في أموالهم، وقسط عليهم مقادير تؤخذ منهم فانجلوا إلى البلاد. وعزم الباقون على قتل السراني، ونما الخبر إلى السراني فجاء إليهم واعتذر إليهم، وأوعدهم بالمساعدة وأشار عليه الوزير بإصلاح السفن حتى زحزحها بحيث لا يتمكن منها. ثم وثبوا به فأخرجوه، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة محبوسين فأخرجوهم، واستعانوا بهم وعادوا إلى الامتناع الّذي كانوا عليه أيام مهذّب الدولة فتمّ لهم ذلك.
ثم جاء ابن المعبراني فغلب على البطيحة وأخرج منها السراني فلحق بيزيد بن مزيد،
__________
[1] هو محمد بن بابشاذ: ابن الأثير ج 9 ص 359

(4/684)


وأقام بها ابن المعبراني سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فزحف إليه أبو نصر بن الهيثم فغلبه عليه ونهبها واستقرّ في ملكها على مال يؤدّيه لجلال الدولة.
(استيلاء أبي كاليجار على البطيحة)
ولما كانت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة بعث أبو كاليجار أبا الغنائم أبا السعادات الوزير في عسكر لحصار البطيحة فحاصرها، وبها أبو منصور بن الهيثم حتى جنح إلى الصلح، واستأمن نفر من أصحابه إلى أبي الغنائم وأخبروه بضعفه وعزمه على الهرب، فحفظ عليه الطرق ولما كان شهر صفر من السنة واقعهم أبو الغنائم فظفر بهم، وقتل من أهل البطيحة خلقا كثيرا وغرقت منهم سفن متعدّدة وتفرّقوا في الآجام، وركب ابن الهيثم السفن ناجيا بنفسه وأحرقت داره ونهب ما فيها.
(ولاية مهذب الدولة بن أبي الخير على البطيحة)
ثم كان بعد ذلك لبني أبي الخير ولاية على البطيحة فيما قبل المائة الخامسة وما بعدها ولا أدري ممن هؤلاء بنو أبي الخير، إلا أنّ ابن الأثير قال: كان إسماعيل ولقبه المصطنع، ومحمد ولقبه المختص، هما ابنا أبي الخير، ولهما رياسة قومهما. وهلك المختص وقام مكانه ابنه مهذب الدولة. ونازع ابن الهيثم صاحب البطيحة إلى أن غلبه مهذّب الدولة أيام كوهوايين الشحنة ببغداد. وكان بنو عمّه وعشيرته تحت حكمه. وأقطع السلطان محمد سنة خمس وتسعين وخمسمائة مدينة واسط لصدقة بن مزيد صاحب البطيحة والحلّة فضمنها منه مهذّب الدولة أحمد بن أبي الخير صاحب البطيحة، وفرّق أولاده في الأعمال وطالبه صدقة بالأموال وحبسه وضمن حمّاد ابن عمّه واسط. وكان مهذّب الدولة يصانع حمّاد ابن عمّه إسماعيل ويداريه، وحمّاد يطمح إلى رياسته، فلمّا هلك كوهوايين نازع حماد مهذّب الدولة ابن عمه، واجتهد مهذّب الدولة في إصلاحه فلم يقدر، فجمع النفيس بن مهذّب الدولة فهرب حمّاد إلى صدقة مستجيشا به، فعاد بالجيش وحاربه مهذّب الدولة

(4/685)


وزاده صدقة المدد، فانهزم مهذّب الدولة وهلك أكثر عسكره وقوي طمع حماد.
واستمدّ صدقة فأمدّه بالعساكر مع مقدّم جيشه حميد بن سعيد. وبعث مهذب الدولة لصاحب الجيش بالإقامات والصلات فمال إليه، وأصلح ما بينه وبين صدقة. وبعث مهذّب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فأصلح بينهم وبين حماد ابن عمّهم، وكان ذلك أعوام الثلاثين.
(ولاية نصر بن النفيس والمظفر بن حماد من بعده على البطيحة)
ثم كان انتقاض دبيس بن صدقة أيام المسترشد والسلطان محمود، وكان البرسقي شحنة ببغداد فانتزع السلطان البطيحة من يد دبيس وأقطعها إلى سحان الخادم مولاه، فولّى عليها نصر بن النفيس بن مهذّب الدولة أحمد بن محمد بن أبي الخير. وأمر السلطان محمود البرسقي بالمسير لقتال دبيس فاحتشد وسار لذلك ومعه نصر بن النفيس صاحب البطيحة، وابن عمه المظفر بن حماد بن إسماعيل بن أبي الخير، وبينهما من العداوة المتوارثة ما كان بين سلفهما. والتقى البرسقي ودبيس وهزمه دبيس وجاءت العساكر منهزمة، وبقي نصر بن النفيس وابن عمه حمّاد عند ساباط النهر فقتله، ولحق بالبطيحة فملكها، وبعث إلى دبيس بطاعته، وبعث دبيس إلى الخليفة يصانعه بالطاعة على البعد، وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فقبض على منصور بن صدقة أخي دبيس وولده فكحلهما فاستشاط دبيس وساء أثره في البلاد، وبعث إلى أحيائه بواسط فمنعهم الأتراك الذين بها، فبعث مهلهل بن أبي العسكر مقدّم عساكره في جيش، وكتب إلى المظفّر بن حمّاد صاحب البطيحة بمعاضدته على قتال واسط فتجهز وأصعد، وعاجل مهلهل الحرب قبل وصوله فهزمه أهل واسط وغنموا ما معه، وكان في جملتها بخط دبيس وصار معهم، وساءت آثار دبيس في البلاد، ولم يزل حال البطيحة على ذلك. ثم صار أمرها لبني معروف وأجلاهم الخلفاء عنها
.

(4/686)


(اجلاء بني معروف من البطيحة)
كان بنو معروف هؤلاء أمراء بالبطيحة في آخر المائة السادسة، ولا أدري ممن هم. فلما استجمع للخلفاء أمرهم وخرجوا عن استبداد ملوك السلجوقية واقتطعوا الأعمال من أيديهم شيئا فشيئا فصار لهم الحلّد والكوفة وواسط والبصرة وتكريت وهيت والأنبار والحديثة. وجاءت دولة الناصر وبنو معروف على البطيحة وكبيرهم معلّى. قال ابن الأثير وهم قوم من ربيعة، كانت بيوتهم غربي الفرات تحت سوراء وما يتصل بها من البطائح، وكثرت أذاياتهم وإفسادهم في النواحي. وبلغت الشكوى بهم إلى الديوان فأمر الخليفة الناصر مغذا [1] الشريف متولّي بلاد واسط أن يسير إلى قتالهم فاستعدّ لذلك. وجمع من سائر تلك الأعمال، فسار إليهم سنة ست عشرة وستمائة العير من بلاد البطيحة وفشا القتل بينهم. ثم انهزم بنو معروف، وتفرّقوا بين القتل والأسر والغرق، واستبيحت أموالهم وانتظمت البطيحة في أعمال الناصر، ولم يبق بها ملك ولا دولة.
(الخبر عن دولة بني حسنويه من الأكراد القائمين بالدعوة العباسية بالدينور والصامغان ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم)
كان حسنويه بن الحسين الكردي من طائفة الأكراد يعرفون بالريزنكاس، وعشيرة منهم يسمّون الدويلتية، وكان مالكا قلعة سرياج وأميرا على البررفكان. وورث الملك عن خاليه ونداد وغانم ابني أحمد بن عليّ، وكان صنفهما من الأكراد يسمون العبابيّة [2] وغلبا على أطراف الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان، وبعض نواحي
__________
[1] معدا: ابن الأثير ج 12 ص 356
[2] هكذا بالأصل وهناك تحريف في الأسماء وفي الكامل ج 8 ص 705: «في هذه السنة- 369- توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج، وكان أميرا على جيش من البرزيكان يسمّون البرزينية، وكان خالاه: ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمّون العيشانية» .

(4/687)


أذربيجان إلى حدود شهرزور فملكاها نحوا من خمسين سنة، ولكل واحد منهما ألوف من العساكر، وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وقام مقامه ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنجان من طوائف الأكراد، وسلّموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه.
وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فقام ابنه أبو سالم دسيم مكانه بقلعة فتنان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسمّاة بستان وغانم أفاق وغيرهما [1] . وكان حسنويه حسن السيرة ضابطا لأمره، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندسة وبنى بالدينور جامعا كذلك، وكان كثير الصدقة للحرمين. ولما ملك بنو بويه البلاد واختصّ ركن الدولة بالريّ وما يليه كان شيعة ومددا على عدوه فكان يرعى ذلك.
ويغضي عن أموره إلى أن وقعت بين ابن مسافر من قوّاد الديلم وكبارهم وقعة هزمه فيها حسنويه، وتحصّن بمكان فحاصره فيه وأضرمه عليه نارا فكاد يهلك. ثم استأمن له فغدر به وامتعض لذلك ركن الدولة وأدركته نغرة العصبية، وبعث وزيره أبا الفضل بن العميد في العساكر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة فنزل همذان وضيّق على حسنويه، ثم مات أبو الفضل فصالحه ابنه أبو الفتح على مال ورجع عنه.
(وفاة حسنويه وولاية ابنه بدر)
ثم توفي حسنويه سنة تسع وستين وثلاثمائة وافترق ولده على عضد الدولة لقتال أخيه محمد وفخر الدولة. وكانوا جماعة أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك. وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم رغب عنه فسيّر إليه عضد الدولة جيشا وملك قلعته وغيرها من قلاعهم. ولما سار عضد الدولة لقتال أخيه فخر الدولة وملك همذان والريّ وأضافهما إلى أخيه مؤيّد الدولة، ولحق فخر الدولة بقابوس بن وشمكير
__________
[1] هكذا بالأصل وفي الكامل ج 8 ص 705: «وتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه ابو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان إلى ان ازاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسمّاة قسنان وغانم آباد وغيرهما.»

(4/688)


عرّج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فافتتح نهاوند والدّينور وسرماج وأخذ ما فيها من ذخائره، وكانت جليلة المقدار وملك معها عدّة من قلاع حسنويه ووفد عليه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه وخلع عليه وولّاه على الأكراد وقوّاه بالرجال فضبط ملك النواحي وكفّ عادية الأكراد بها. واستقام أمره فحسده أخواه، وأظهر عاصم وعبد الملك منهم العصيان، وجمعا الأكراد المخالفين وبعث عضد الدولة العساكر فأوقعوا بعاصم وهزموه وجاءوا به أسيرا إلى همذان، ولم يوقف له بعد ذلك على خبر، وذلك سنة سبعين وثلاثمائة وقتل جميع أولاد حسنويه وأقرّ بدرا على عمله.
(حروب بدر بن حسنويه وعساكر مشرف الدولة)
ولما توفي عضد الدولة وملك ابنه صمصام الدولة ثار عليه أخوه مشرف الدولة بفارس، ثم ملك بغداد. وكان فخر الدولة بن ركن الدولة قد عاد من خراسان إلى مملكة أصفهان والريّ بعد وفاة أخيه مؤيد الدولة، ووقع بينه وبين مشرف الدولة فكان مشرف الدولة يحقد عليه. فلما استقرّ ببغداد وانتزعها من يد صمصام الدولة، وكان قائده قراتكين الجهشياري مدلا عليه متحكّما في دولته، وكان ذلك يثقل على مشرف الدولة، جهّزه في العساكر لقتال بدر بن حسنويه يروم إحدى الراحتين، فسار إلى بدر سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ولقيه على وادي قرميسين. وانهزم بدر حتى توارى ولم يتلقوه ونزلوا في خيامه، ثم كرّ بدر فأعجلهم عن الركوب، وفتك فيهم واحتوى على ما معهم. ونجا قراتكين في فلّ إلى جسر النهروان فلحق به المنهزمون، ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل وقويت شوكته واستفحل أمره. ولم يزل ظاهرا عزيزا وقلّد من ديوان الخلافة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أيام السلطان بهاء الدولة ولقّب ناصر الدولة. وكان كثير الصدقات بالحرمين، وكثير الطعام للعرب بالحجاز لخفارة الحاج، وكفّ أصحابه من الأكراد عن إفساد السابلة فعظم محله وسار ذكره.
ابن خلدون م 44 ج 4

(4/689)


(مسير ابن حسنويه لحصار بغداد مع أبي جعفر بن هرمز)
كان أبو جعفر الحجّاج بن هرمز نائبا بالعراق عن بهاء الدولة، ثم عزله فدال منه بأبي عليّ بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وتلقّب عميد الجيوش فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، وقاتل عميد الجيوش فهزمه العميد. ثم جرت بينهما حروب سنة ثلاث وستين [1] وثلاثمائة وأقاما على الفتنة والاستنجاد بالعرب من بني عقيل وخفاجة وبني أسد، وبهاء الدولة مشتغل بحرب ابن واصل في البصرة. واتصل ذلك إلى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وكان ابن واصل قد قصد صاحب طريق خراسان وهو قلج، ونزل عليه واجتمعا على فتنة عميد الجيوش. وتوفي قلج هذه السنة فولّى عميد الجيوش مكانه أبا الفتح محمد بن عنّان عدوّ بدر بن حسنويه. وفحل الأكراد المسامي لبدر في الشؤون وهو من الشاذنجان من طوائف الأكراد، وكانت حلوان له فغضب لذلك بدر ومال إلى أبي جعفر، وجمع له الجموع من الأكراد مثل الأمير هندي بن سعدي، وأبي عيسى سادي بن محمد وورام بن محمد وغيرهم. واجتمع له معهم علي بن مزيد الأسدي. وزحفوا جميعا إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها. ولحق أبو الفتح بن عنّان بعميد الجيوش، وأقام معه ببغداد حاميا ومدافعا إلى أن وصل الخبر بهزيمة ابن واصل وظهور بهاء الدولة عليه، فأجفلوا عن بغداد. وسار أبو جعفر إلى حلوان ومعه أبو عيسى، وراسل بهاء الدولة، ثم سار ابن حسنويه إلى ولاية رافع بن معن من بني عقيل يجتمع مع بني المسيب في المقلّد، وعاث فيها لأنه كان آوى أبا الفتح بن عنّان حين أخرجه بدر من حلوان وقرميسين، واستولى عليها فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجناب ونهبوها وأحرقوها. وسار أبو الفتح بن عنّان إلى عميد الجيوش ببغداد فوعده النصر حتى إذا فرغ بهاء الدولة من شأن ابن واصل وقتله، أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بدر بن حسنويه لإعانته على بغداد وإمداده ابن واصل [2] فسار لذلك،
__________
[1] الصحيح ان هذه الحروب وقعت سنة 393 وليس 363.
[2] العبارة مشوشة والمقصود ان بدرا كان عونا لابن واصل وهو عدو بهاء الدولة!

(4/690)


ونزل جنديسابور وبعث إليه بدر في الصلح على أن يعطيه ما أنفق على العساكر فحمل إليه ورجع عنه.
(انتقاض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه وحروبهما)
كانت أمّ هلال هذا من الشاذنجان رهط أبي الفتح بن عنّان وأبي الشوك بن مهلهل، واعتزلها أبوه لأوّل ولادته فنشأ مبعدا عن أبيه، واصطفى بدر ابنه الآخر أبا عيسى وأقطع هلالا الصامغان، فأساء مجاورة ابن المضاضي [1] صاحب شهرزور وكان صديقا لبدر فنهاه عن ذلك فلم ينته وبعث ابن المضاضي يتهدّده فبعث إليه أبوه بالوعيد فجمع وقصد ابن المضاضي وحاصره في قلعة شهرزور حتى فتحها، وقتل ابن المضاضي واستباح بيته. فاتسع الخرق بينه وبين أبيه، واستمال أصحاب أبيه بدر، وكان بدر نسيكا فاجتمعوا إلى هلال وزحف لحرب أبيه والتقيا على الدّينور، وانهزم بدر وحمل أسيرا إلى ابنه هلال فردّه في قلعته للعبادة، وأعطاه كفايته بعد أن ملك الحصن الّذي تملكه بما فيه. فلما استقرّ بدر بالقلعة حصّنها وأرسل إلى أبي الفتح بن عنّان وإلى أبي عيسى سادي بن محمد بأسترآباذ [2] وأغراهما بأعمال هلال، فسار أبو الفتح إلى قرميسين وملكها.
وأساء [3] الديلم فاتبعه هلال إليها ووضع السيف في الديلم. وأمكنه ابن رافع من أبي عيسى فعفا عنه وأخذه معه، وأرسل بدر من قلعته يستنجد بهاء الدولة فبعث إليه الوزير فخر الملك في العساكر، وانتهى إلى سابور خواست. واستشار هلال أبا عيسى بن سادي فأشار عليه بطاعة بهاء الدولة وإلّا فالمطاولة وعدم العجلة باللقاء فاتهمه وسار العسكر ليلا فكبسه. وركب فخر الملك في العسكر وثبت، فبعث إليه هلال بأني إنما جئت للطاعة. ولما عاين بدر رسوله طرده وأخبر الوزير أنها خديعة فسرّ بذلك، وانتفت عنه الظنة ببدر، وأمر العساكر بالزحف فلم يكن بأسرع من مجيء
__________
[1] ابن الماضي: ابن الأثير ج 9 ص 214
[2] هكذا بالأصل وفي الكامل: وراسل أبا الفتح بن عنّاز، وأبا عيسى شاذي بن محمد وهو بأسادآباذ.
[3] ومقتضى السياق واستمال الديلم.

(4/691)


هلال أسيرا فطلب منه تسليم القلعة لبدر فأجاب على أن لا يمكن أبوه منه، واستأمنت أمّه ومن معها بالقلعة فأمّنهم الوزير وملك القلعة، وأخذ ما فيها من الأموال يقال أربعون ألف بدرة دنانير، وأربعمائة ألف بدرة دراهم سوى الجواهر والثياب والسلاح، وسلّم الوزير فخر الملك القلعة لبدر وعاد إلى بغداد.
(استيلاء ظاهر بن هلال على شهرزور)
كان بدر بن حسنويه قد نزل عن شهرزور لعميد الجيوش ببغداد، وأنزل بها نوبة، فلمّا كانت سنة أربع وأربعمائة، وكان هلال بن بدر معتقلا سار ابنه ظاهر الى شهرزور، وقاتل عساكر فخر الملك منتصف السنة وملكها من أيديهم. وأرسل إليه الوزير يعاتبه ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه ففعل، وبقيت شهرزور بيده.
(مقتل بدر بن حسنويه وابنه هلال)
ثم سار بدر بن حسنويه أمير الجيل الى الحسن بن مسعود الكردي [1] ليملك عليه بلاده، وحاصره بحصن كوسجة [2] ، وأطال حصاره فغدر أصحاب بدر وأجمعوا قتله. وتولّى ذلك الجورقان من طوائف الأكراد فقتلوه وأجفلوا فدخلوا في طاعة شمس الدولة بن فخر الدولة صاحب همذان وتولّى الحسين بن مسعود تكفين بدر ومواراته في مشهد عليّ. ولما بلغ ظاهر بن هلال مقتل جدّه وكان هاربا منه بنواحي شهرزور، جاء لطلب ملكه، فقاتله شمس الدولة فهزمه وأسره وحبسه بهمذان، واستولى على بلاده، وصار الكرية والشاذنجان من الأكراد في طاعة أبي الشوك [3] .
وكان أبوه هلال بن بدر محبوسا عند سلطان الدولة ببغداد فأطلقه وجهّز معه العساكر ليستعيد بلاده من شمس الدولة، فسار ولقيه شمس الدولة فهزمه وأسره وقتله،
__________
[1] الحسين بن مسعود الكردي وقد مرّ معنا من قبل.
[2] حصن كوسحد: ابن الأثير ج 9 ص 248.
[3] هكذا بالأصل وفي الكامل: «وسار اللّريّة والشاذنجان الى أبي الشوك فدخلوا في طاعته»

(4/692)


ورجعت العساكر منهزمة إلى بغداد. وكان في ملك بدر سابورخواست والدّينور وبروجرد ونهاوند وأستراباذ [1] وقطعة من أعمال الأهواز وما بين ذلك من القلاع والولايات. وكان عادلا كثير المعروف عظيم الهمّة. ولما هلك هو وابنه هلال بقي حافده ظاهر محبوسا عند شمس الدولة بهمذان.
(مقتل ظاهر بن هلال واستيلاء أبي الشوك على بلادهم ورياستهم)
كان أبو الفتح محمد بن عنّان [2] أمير الشاذنجان من الأكراد، وكانت بيده حلوان وأقام عليها أميرا وعلى قومه عشرين سنة. وكان يزاحم بدر بن حسنويه وبنيه في الولايات والأعمال بالجيل. وهلك سنة إحدى وأربعمائة وقام مكانه ابنه أبو الشوك، وطلبته العساكر من بغداد فقاتلهم وهزموه، فامتنع بحلوان إلى أن أصلح حاله مع الوزير فخر الملك لمّا قدم العراق بعد عميد الجيوش من قبل بهاء الدولة. ثم إنّ شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه أطلق ظاهر بن هلال بن بدر من محبسه بعد أن استحلفه على الطاعة، وولّاه على قومه وعلى بلاده بالجيل، وأبو الشوك صاحب حلوان والسهل، وبينهما المنافسة القديمة، فجمع ظاهر وحارب أبا الشوك فهزمه وقتل سعدي بن محمد أخاه. ثم جمع ثانية فانهزم أبو الشوك أيضا وامتنع بحلوان وملك ظاهر عامّة البسيط، وأقام بالنهروان. ثم تصالحا وتزوّج ظاهر أخت أبي الشوك فلمّا أمّنه ظاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي ودفنه أصحابه بمقابر بغداد، وملك سائر الأعمال ونزل الدّينور.
ولما استولى علاء الدولة بن كاكويه على همذان سنة أربع عشرة وأربعمائة عند ما هزم عساكر شمس الدولة بن بويه واستبدّ عليه، سار الى الدّينور فملكها من يد أبي الشوك، ثم إلى سابور خواست وسائر تلك الأعمال. وسار في طلب أبي الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة سلطان بغداد وشفع فيه فعاد عنه علاء الدولة. ولمّا زحف الغز إلى
__________
[1] اسادآباذ وقد مرّت معنا من قبل.
[2] هو ابو الفتح محمد بن عنّاز وقد مرّ معنا من قبل.

(4/693)


بلاد الريّ سنة عشرين وأربعمائة وملكوا همذان وعاثوا في نواحيها إلى أستراباذ وقرى الدّينور، خرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك وقاتلهم فهزمهم وأسر منهم جماعة. ثم عقد الصلح معهم على إطلاق أسراهم ورجعوا عنه. ثم استولى أبو الشوك سنة ثلاثين وأربعمائة على قرميسين من أعمال الجيل، وقبض على صاحبها من الأكراد الترهية وسار اخوه إلى قلعة أرمينية فاعتصم بها من أبي الشوك، وكانت لهم مدينة خولنجان، فبعث إليها عسكرا فلم يظفروا وعادوا عنها. ثم جهّز آخر وبعثهم ليومهم يسابقون جندهم، ومرّوا بأرمينية فنهبوا ربضها، وقاتلوا من ظفروا به، وانتهوا إلى خولنجان فكبسوها على حين غفلة واستأمن إليهم أهلها وتحصّن الحامية بقلعة وسط البلد فحاصروها وملكوها عليهم في ذي القعدة من السنة.
(الفتنة بين أبي الفتح بن أبي الشوك وعمه مهلهل)
كان أبو الفتح بن أبي الشوك نائبا عن أبيه بالدّينور، واستفحل بها وملك قلاعا عدة، وحمى أعماله من الغزّ فأعجب بنفسه ورأى التفوّق على أبيه. وسار في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة إلى قلعة بكورا [1] من قلاع الأكراد وصاحبها غائب وبها زوجته فراسلت مهلهلا لتسلم له القلعة نكاية لأبي الفتح، وكانت حلّة مهلهل في نواحي الصّامغان فانتظر حتى عاد أبو الفتح عن القلعة وجمعا العساكر لحصارها، وسار إليها أبو الفتح فوري له عن قصده، ورجع فأتبعه أبو الفتح فقاتله عمّه مهلهل، ثم ظفر به وأسره وحبسه. وجمع أبو الشوك وقصد شهرزور وحاصرها. ثم قصد بلاد مهلهل وطال الأمر ولجّ مهلهل في شأنه وأغرى علاء الدولة بن كاكويه ببلد أبي الفتح فملك عليه الدّينور وقرميسين سنة اثنتين وثلاثين.
ثم سار أبو الشوك إلى دقوقا وقدم إليها ابنه سعدي فحاصرها وجاء على أثره فنقبوا سورها وملكها عنوة، ونهب بعض البلد وأخذت أسلحة الأكراد وثيابهم، وأقام أبو الشوك بها ليله. ثم بلغه أنّ أخاه سرخاب بن محمد قد أغار على مواضع من ولايته فخاف على البندنجين. ورجع وبعث إلى جلال الدولة سلطان بغداد يستنجده،
__________
[1] قلعة بلوار: ابن الأثير ج 9 ص 470.

(4/694)


فبعث إليه العساكر وأقاموا عنده، وسار مهلهل إلى علاء الدولة بن كاكويه يستصرخه على أخيه أبي الشوك على الاعتصام بقلعة السّيروان. ثم بعث الى علاء الدولة يعرض له بالرجوع إلى جلال الدولة صاحب بغداد فصالحه على أن يكون الدّينور لعلاء الدولة ورجع عنه. ثم سار أبو الشوك إلى شهرزور فحاصرها وعاث في سوادها، وحصر قلعة بيزاز شاه فدافعه أبو القاسم بن عيّاض عنها، ووعده بخلاص ابنه أبي الفتح من أخيه مهلهل، فسار من شهرزور إلى نواحي سند من أعمال أبي الشوك، ولما بعث إليه ابن عيّاض بالصلح مع أخيه أبي الشوك امتنع فسار أبو الشوك من حلوان إلى الصّامغان. ونهب ولاية مهلهل كلّها وأجفل مهلهل بين يديه. ثم تردّد الناس بينهما في الصلح وعاد عنه أبو الشوك.
(استيلاء نيال أخي طغرلبك على ولاية أبي الشوك)
ثم سار إبراهيم نيّال [1] بأمر أخيه طغرلبك من كرمان إلى همذان فملكها، ولحق كرساشف [2] بن علاء الدولة بالأكراد الجورقان [3] وكان أبو الشوك حينئذ بالدّينور ففارقها إلى قرميسين وملكها نيال. وسار في اتباعه إلى قرميسين ففارقها إلى حلوان وترك كل من في عسكره من الديلم والأكراد الشاذنجان. وسار إليها نيال وملكها عليهم عنوة واستباحها وفتك في العسكر ولحق فلّهم بأبي الشوك في حلوان فقدّم أهله وذخيرته إلى قلعة السّيروان وأقام. ثم سار نيال إلى الصيمرة فملكها ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لها في الجورقان فانهزموا. وكان عندهم كرساشف بن علاء الدولة فلحق ببلد شهاب الدولة وشرد أهلها في البلاد، ووصل إليها نيال آخر شعبان فملكها وأحرقها، وأحرق دار أبي الشوك. وسارت طائفة من الغزّ في أثر جماعة منهم فأدركوهم بخانقين فغنموا ما معهم، وانتشر الغزّ في تلك النواحي. وتراسل أبو الشوك وأخوه مهلهل وكان ابنه أبو الفتح قد مات في سجن مهلهل. فبعث مهلهل
__________
[1] إبراهيم ينال: ابن الأثير ج 9 ص 506.
[2] كرشاسف: المرجع السابق.
[3] الجوزقان: المرجع السابق.

(4/695)


ابنه وحلف له أنه لم يقتله، وإن ثبت فاقتل أبا الغنائم بثأره فقبل ورضي، واصطلحا على دفاع نيال عن أنفسهما. وكان أبو الشوك قد أخذ سرخاب أخوه ما عدا قلعة دور بلونه، وتقاطعا لذلك، فسار سرخاب إلى البندنجين وبها سعدي بن أبي الشوك، ففارقها سعدي إلى أبلة ونهبها سرخاب.
(وفاة أبي الشوك وقيام أخيه مهلهل مقامه)
ثم توفي أبو الشوك فارس بن محمد سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقلعة السيروان من حلوان وقام مقامه أخوه مهلهل واجتمع إليه الأكراد مائلين إليه عن ابن أخيه سعدي بن أبي الشوك فلحق سعدي بنيال أخي طغرلبك يستدعيه لملك البلاد. ولما استولى مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك وكان نيال عند ما غدا من حلوان ولّى على قرميسين بدر بن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنويه، فسار إليها مهلهل سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فهرب بدر عنها وملكها وبعث ابنه محمدا إلى الدّينور وبها عساكر نيال فهزمهم وملكها.
(استيلاء سعدي بن أبي الشوك على أعمالهم بدعوة السلجوقية)
ولما ملك مهلهل بعد أخيه أبي الشوك تزوّج بأمّ سعدي وأهله وأساء معاملة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي نيال. وسار إليه بالشاذنجان فبعث معهم عسكرا من الغزّ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة فملك حلوان وخطب فيها لإبراهيم نيال. ورجع إلى مايدشت، فخالفه عمه مهلهل إلى حلوان فملكها، وقطع منها خطبة نيال فعاد سعدي إلى عمّه سرخاب فكبسه ونهب حلله وسيّر إلى البندنجين جمعا فقبضوا على نائب سرخاب ونهبوها، وصعد سرخاب الى قلعة دور بلونة [1] ، وعاد سعدي إلى قرميسين، وبعث مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها، فجمع سعدي وأكثر من الغزّ، وسار فملك
__________
[1] دزديلوية: ابن الأثير ج 9 ص 532

(4/696)


حلوان، وتقدّم إلى عمّه مهلهل فلحق بتيرازشاه [1] من قلاع شهرزور واستباح الغزّ سائر تلك النواحي. وحاصر سعدي تيراز شاه ومعه أحمد بن ظاهر قائد نيال، ونهب الغزّ حلوان وأراد مهلهل أن يسير إلى ابن أخيه فتكاسلوا، ثم قطع سعدي البندنجين لأبي الفتح بن دارم على أن يحاصر معه عمّه سرخاب بقلعة دور بلونة، فساروا إليها وكانت ضيّقة المسلك، فدخلوا المضيق فلم يخلصوا، وأسر سعدي وأبو الفتح وغيرهما من الأعيان، ورجع الغزّ عن تلك النواحي بعد أن كانوا ملكوها.
(نكبة سرخاب واستيلاء نيال على أعمالهم كلها)
ثم إنّ سرخاب لما قبض سعدي ابن أخيه أبي الشوك غاضبه ابنه أبو العسكر واعتزله، وكان سرخاب قد أساء السيرة في الأكراد فاجتمعوا وقبضوا عليه وحملوه إلى نيال، فاقتلع عينه وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فأطلقه أبو العسكر ابنه واستحلفه على السعي في خلاص أبيه سرخاب، فانطلق سعدي، واجتمع عليه كثير من الأكراد، وسار إلى نيال فاستوحش منه، وسار إلى الدسكرة وكاتب أبا كاليجار بالطاعة. ثم سار إبراهيم نيال إلى قلعة كلجان وامتنعت عليهم. ثم حاصروا قلعة دور بلونة فتقدّمت طائفة إلى البندنجين فنهبوها، وسار إبراهيم فيها بالنهب والقتل والعقوبة في المصادرة حتى يموتوا.
وتقدّمت طائفة إلى الفتح فهرب وترك حلله، فعرجوا عليها واتبعوه فقاتلهم وظفر بهم، وبعث مستنجدا فلم ينجدوه، فعبر وأمر بنزول حلله إلى جانب الغزّ. وكان سعدي بن أبي الشوك نازلا على فرسخين من باجس فكبسه الغز فهرب وترك حلله وغنمها الغزّ ونهبوا تلك الأعمال والدسكرة والهارونية وقصر سابور، وتقسّم أهلها بين القتل والغرق والهلاك بالبرد. ووصل سعدي الى دبال ولحق منها بأبي الأغرّ دبيس بن مزيد، فأقام عنده وحاصر نيال قلعة السّيروان وضيّق عليها وضربت سراياه في البلاد وانتهت إلى قرب تكريت. ثم استأمن أهل قلعة السّيروان إلى نيال فلمكها وأخذ منها ذخيرة سعدي، وولّى عليها من أصحابه. ثم مات صاحب قلعة السّيروان وبعث
__________
[1] قلعة تيران شاه: ابن الأثير ج 9 ص 533.

(4/697)


وزيره إلى شهرزور فملكها، وهرب مهلهل وأبعد في الهرب، وحاصر عسكر نيال قلعة هوازشاه [1] .
ثم راسل مهلهل أهل شهرزور بالتوثّب بالغزّ الذين عندهم فقتلوهم ورجع قائد نيال ففتك فيهم. ثم سار الغزّ المقيمون بالبندنجين إلى نهر سليلي [2] ، وقاتلوا أبا دلف القاسم بن محمد الجاوانيّ فهزمهم وظفر بهم وغنم ما معهم. وسار في ذي الحجّة جمع من الغزّ إلى بلد عليّ بن القاسم فعاثوا فيها، فأخذ عليهم المضيق فأوقع بهم واستردّ ما غنموه. ولم يزل أحمد بن ظاهر قائد نيال محاصرا قلعة تيراز شاه في شهرزور إلى أن دخلت سنة أربعين وأربعمائة، ووقع الموتان في عسكره واستمدّ نيال فلم يمدّه، فرحل عنها إلى مايدشير [3] ، وبلغ ذلك مهلهلا فبعث أحد أولاده إلى شهرزور فملكها، وأجفل الغزّ من السّيروان، وسارت عساكر بغداد إلى حلوان وحاصروا قلعتها ولم يظفروا فنهبوا مخلّف الغزّ وخرّبوا الأعمال، وسار مهلهل إلى بغداد فأنزل أهله وأمواله بها، وأنزل حلله على ستة فراسخ منها، فسار عسكر من بغداد إلى البندنجين وقاتلوا الغزّ الذين بها فهزمهم الغزّ وقتلوهم جميعا.
(بقية أخبار مهلهل وابن أبي الشوك وانقراض أمرهم)
ثم سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فأحسن إليه وأقرّه على أقطاعه السّيروان ودقوقا وشهرزور والصّامغان، وسعى في أخيه سرخاب وكان محبوسا عنده فأطلقه وسوّغه قلعة الماهكي، وكانت له فسار إليها، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الرادندبين [4] ثم بعثه سنة ست وأربعين في عسكر من الغزّ إلى نواحي العراق، فنزل بمايدشت وسار منها إلى أبي دلف الجاوانيّ، فهرب بين يديه وأدركه فنهب أمواله وفلت بنفسه. وكان خالد ابن عمه مع الوزير ومطر ابني
__________
[1] هي قلعة تيران شاه. وهي أيضا مدينة في نواحي شهرزور (معجم البلدان) .
[2] السّليل: ابن الأثير ج 9 ص 540.
[3] مايدشت: ابن الأثير ج 9 ص 545. وهي قلعة وبلد في ضواحي خانقين بالعراق (معجم البلدان) .
[4] الراوندين: ابن الأثير ج 9 ص 570. ولم نجد لها ذكر في معجم البلدان ولعلها الراوندان وهي قلعة حصينة وكورة طيبة معشبة مشجرة من نواحي حلب. (معجم البلدان) .

(4/698)


عليّ بن معن العقيليّ، فوفد أولادهم على سعدي يشكون مهلهلا فوعدهم النصر، ورجعهم من عنده فاعترضهم أصحاب مهلهل فأسرهم بنو عقيل ففداهم مهلهل وأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم، فساروا إلى سعدي وهو بسامرّا. وأتبع عمه مهلهلا وظفر به وأسره وأسر مالكا ابنه، وردّ غنائم بني عقيل ورجع إلى حلوان.
واضطربت بغداد واجتمعت عساكر الملك الرحيم ومعهم أبو الأغرّ دبيس بن مزيد يسعى عند سعدي في أبيه. وكان ابن سعدي عنه السلطان طغرلبك رهينة فردّه على أبيه عوضا عن مهلهل، وأمره بإطلاق مهلهل، فامتعض لذلك سعدي وعصى على طغرلبك. وسار إلى حلوان فامتنعت عليه، وأقام يتردّد بين رشقباد والبردان [1] .
وأظهر مخالفة طغرلبك، ورجع إلى طاعة الملك الرحيم، فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور، ووجد إبراهيم بن إسحاق من قوّاده فأوقعوا به، ومضى إلى قلعة رشقباد.
وسار بدر بن مهلهل الى شهرزور ورجع إبراهيم بن إسحاق إلى حلوان فأقام بها. ثم نهض سنة ست وأربعين إلى الدسكرة فنهبها واستباحها، وسار إلى رشقباد وهي قلعة سعدي وفيها ذخيرته، وفي القلعة البردان فامتنعت عليه فخرّب أعماله ووهن الديلم في كل ناحية. وبعث طغرلبك أبا عليّ بن أبي كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغزّ إلى الأهواز فملكها، ونهبها الغز ولقي الناس منهم عيثا بالنهب والمصادرة، وأحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية. وانقرض الأكراد من أعمالهم واندرجوا في جملة السلطان طغرلبك. (وتلك الأيام نداولها بين الناس، والله يؤتي ملكه من يشاء والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين) لا رادّ لأمره.
(تم طبع الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس أوّله الخبر عن دولة السلجوقية)
__________
[1] قلعة روشنقباذ والبردان: ابن الأثير ج 9 ص 595. «والبردان مواضع كثيرة منها بردان من قرى بغداد على سبعة فراسخ منها قرب صريفين، وهي من نواحي دجيل. وبرده بالفارسية الرقيق المجلوب في أول إخراجه من بلاد الكفر ولعل هذه القرية كانت منزل الرقيق فسميت بذلك، لانهم يلحقون الدال والألف والنون في ما يجعلونهم وعاء للشيء» . (معجم البلدان) .

(4/699)