تاريخ ابن خلدون
آبائه، ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله
منها يؤمّل الكرّ إلى أن كان من أمر ما نذكره والله أعلم.
(الخبر عن بيعة العرب لابن أبي دبوس
وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث)
كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك إفريقية أسف العرب بمنعهم من
الأمصار التي ملكوها بالاقطاعات، والضرب على أيديهم في الأتاوات،
فوجموا لذلك، واستكانوا لغلبته، وتربّصوا الدوائر. وربّما كان بعض
البادية يشنّ الغارات في الأطراف فيعتدّها السلطان على كبارهم. وأغاروا
بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الّذي كان في مرعاها، وأظلم
الجوّ بينهم وبينه، وخشوا عاديته وتوقّعوا بأسه. ووفد عليه أيام الفطر
من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله من
بني مسكين [1] ، وخليفة بن بو زيد من رجالات حكيم.
وساءت طنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني
في الخروج على السلطان. وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من
تونس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام
عنده في مبرّة وتكرمة. ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتدّ
حصارها سأل عبد الواحد بن أبي تاشفين تخليته للخروج فودّعه وخرج إلى
السلطان أبي الحسن فنزل عليه. ولم يزل في جملته إلى أن احتل بإفريقية.
فلما أخشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص
فيصطفونهم [2] للأمر رجوا أن يظفروا من عبد المؤمن هذا بالبغية فداخلوه
وارتاب لذلك، وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر، فتقبّض السلطان
عليهم وأحضرهم معه فأنكروا وبهتوا.
ثم وبّخهم واعتقلهم، وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم، وتلوم لبعث الأعطيات
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابن مسكين.
[2] وفي نسخة أخرى: ينصبونهم.
(6/523)
وأزاح العلل، وبلغ الخبر إلى أحيائهم فقطع
اليأس أسباب رجائهم. وانطلقوا يحزّبون الأحزاب ويلمّون [1] للملك
الأعياص. وكان أولاد مهلهل أقيالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من
القبول والرضا بما بالغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا
بالقفر، ودخلوا الرمال فركب إليهم قتيبة بن حمزة وأمّه ومعهم ظعائن
أبنائهما متذمّمين لأولاد مهلهل بالعصبيّة والقرابة، فأجابوهم واجتمعوا
بقسطيلية وتحاثوا التراب والدماء، وتذامروا بما شملهم من رهب السلطان،
وتوقع بأسه. وتفقدوا من أعياص الموحّدين من ينصّبونه للأمر، وكان بتوزر
أحمد بن عثمان ابن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا
خبره وخروجه بجهات طرابلس وإجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي
عصيدة. ثم انفضوا وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة
جربة، واستقرّ بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام
السلطان أبي بكر. ثم غرّبهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند
نكبته كما ذكرنا ذلك كله، فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف
لمعاشهم. ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقرّ بتوزر واحترف
بالخياطة. ولما تفقّد العرب الأعياص دلّهم على نكرته بعض أهل عرفانه
فانطلقوا إليه وجاءوا به، وجمعوا إليه الآلة، ونصّبوه للأمر وتبايعوا
على الاستماتة. ورجع إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة
ثمان، ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان.
ثم تذامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرّم سنة تسع فاختلّ مصافه ودخل
القيروان وانتهبوا معسكره بما اشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا
فأفرجوا عنه وخلص إلى تونس كما نذكر، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن
القيروان وعنها وما تخلل ذلك)
كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابة السلطان أبي بكر مستبدّا
بأمره مفوّضا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلتمسون.
(6/524)
إليه في سائر شئونه فلما استوزره السلطان
أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائما على أمره وليس التفويض
للوزراء من شأنه. وكان يظنّ أنّ السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر
إفريقية وينصب معه الفضل للملك. وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في
قلبه من الدولة مرض، وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاف
والإجلاب، فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن
وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيّل ابن تافراكين في الخروج على
السلطان لما تبين فيه من النكر منه ومن قومه. وبعث العرب في لقائه وأن
يحملوه حديث بيعتهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم وقلّدوه حجابة
سلطانهم، ثم سرّحوه إلى حصار القصبة. وكان عند رحيله من تونس خلف بها
الكثير من أبنائه وجوه قومه. فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر
بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان
معهم من تونس إلى قصبتها، وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا
الآلة للحصار، وفرّقوا الأموال في الرجال، وعظم فيها غناء بشير من
المعلوجين الموالي فطار له ذكر. وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي
الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان، فانفضّ معسكره
ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة.
ولمّا فرج عن [1] ابن تافراكين من هوّة الحصار بالقيروان طمعوا في
الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها، فدفعوه إلى ذلك. ثم لحق به سلطانه
ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعبا لكثرة الرجل الذين كانوا
بها، ونصب المجانيق عليها فلم يغن شيئا وهو أثناء ذلك يحاول النجاء
بنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من
القيروان إلى سوسة. وكان من خبره أنّ العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا
بالقيروان واشتدّوا في حصارها، وداخل السلطان وأولاد مهلهل من الكعوب
وحكيما من بني سليم في الإفراج عنه، واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف
رأي العرب لذلك، ودخل عليه قتيبة [2] بن حمزة بمكانه من القيروان زعما
بالطاعة فتقبّله وأطلق أخويه خالدا وأحمد، ولم يثق إليهم.
ثم جاء إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة ابن أبي زيد وأبو
الهول بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولمّا خرج.
[2] وفي نسخة أخرى: فتيتة بن حمزة
(6/525)
يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره
إلى سوسة فصبحها وركب منها في أساطيله إلى تونس، وسبق الخبر إلى ابن
تافراكين بتونس فتسلّل من أصحابه وركب السفينة إلى الإسكندرية في ربيع
سنة تسع وأربعين وسبعمائة وأصبحوا وقد فقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس،
وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخرّبوا منازل الحاشية
فيها. ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلّت قدمه من
العثار، ورجا الكرّة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتراء أبنائه
بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم. وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على
الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم
السلم، ودخل حمزة بن عمر إليه وافدا فحبسه إلى أن تقبّض على ابن أبي
دبّوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب، ولحق هو
بالأندلس كما نذكره في أخباره، وأقام السلطان بتونس، ووفد عليه أحمد بن
مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقيّة طرابلس وقابس
وصفاقس وجربة وسرّحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون
الجارف، وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين وهو الّذي كان
قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين، فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى
مكانه، وعقد له على بلاد قسطيلية وسرّحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن
كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على
قسنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما بتمهيد الملك)
كان سنن السلطان أبي الحسن في دولته بالمغرب وفود العمّال عليه آخر كل
سنة لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم، فوفدوا عليه عامهم ذلك من
قاصية المغرب ووافاهم خبر الواقعة بقسنطينة وكان معهم ابن مزني عامل
الزاب وفد أيضا بجبايته وهديته، وكان معهم ابن عمه تاشفين [1] ابن
السلطان أبي الحسن كان أسيرا من يوم واقعة طريف. ووقعت المهادنة بين
الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعا من بطارقته
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبو عمر تاشفين.
(6/526)
وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد
الله من المغرب وكان أيضا معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض
السفارة، واجتمعوا كلّهم بقسنطينة فلما اتصل بهم خبر الواقعة على
السلطان كثر الاضطراب، وتطلبت السفهاء من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي
الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله
ببونة. ولما أطلّ الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس
الفضل من عمله ببونة. ولما أطلّ على قسنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك
من الوفد والعمّال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم، وخلص أبناء
السلطان مع وفود السلطان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني، وفي خفارة
يعقوب بن علي أمير الزواودة فأوسع ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا
بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع.
ودخل المولى الفضل إلى قسنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه. وشمل الناس
بعدله وإحسانه، وسوّغ الأقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما آنس من
صاغية أهلها إلى الدعوة الحفصيّة. فلما أطلّ عليها ثار أهلها بالعمّال
الذين كان السلطان أنزلهم بها واستباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم
بحريفة الرفل [1] ودخل الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها.
ونظّمها مع قسنطينة وبونة في ملكه. وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها
وشتاتها كما كانت، واعتزم على الرحيل إلى الحضرة. وبينما هو يحدّث نفسه
بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسنطينة من المغرب، وكان من
خبرها أنّ الأمير أبا عنّان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وانتزاء منصور
ابن أخيه إلى ملكه [2] بالبلد الجديد دار ملكهم، وأحسّ بخلاص أبيه من
هوّة الحصار بالقيروان وثب على الأمر ودعا لنفسه، ورحل إلى المغرب كما
نذكره في أخباره. وسرّح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا
صاحب بجاية والأنباء إلى عمله. وأمدّه بالأموال وأخذ عليه المواثيق
ليكونن له ردءا دون أبيه، وليحولنّ بينه وبين الخلوص متى مرّ به.
وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمّه الفضل واستولى
عليها فنازله بها وطال حصارها، ولحق بمكانه من منازلتها نبيل المولى
ابن المعلوجي مولى الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده. وتقدّم إلى
قسنطينة وبها عامل من قبل الفضل، فثار به الناس لحينه، ودخل نبيل وملك
البلد وأقام فيها دعوة الأمير أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله. وكان
الأمير أبو عنّان استصحبه وإخوانه إلى المغرب، وبعد احتلاله بفاس
سرّحهم إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجريعة الذقن. أي بمعنى برمق أنفسهم.
[2] وفي نسخة ثانية: ابى مالك.
(6/527)
مكان إمارتهم بقسنطينة بعد أن أخذ عليهم
الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمّهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم
ودخلوا البلد واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قدمه كما قبل
رحلتهم إلى المغرب.
ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيّتها بعض ليالي
رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من رجالها داخلهم مولاه وكافله فارح
في ذلك، فسرّب فيهم الأموال وواعدوه للبيات، وفتحوا له باب البرّ من
أبوابها واقتحمه وفاجأهم هدير الطبول فهبّ السلطان من نومه وخرج من
قصره فتسنّم الجبل المطلّ عليها وتسرّب في شعابه إلى أن وضح الصباح
وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمنّ عليه واستبقاه، وأركبه السفينة
إلى بلد بونة في شوّال من سنة تسع وأربعين وسبعمائة ووجد بعض الأعياص
من قرابته قد ثاروا بها، وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن
الأمير أبي زكريا الأكبر كان هو وأخوه عمر بالحضرة، وكان لعمر منها
النظر على القرابة. فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة
عند سفره إلى بجاية، فحدّثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم أمر. وثارت
بهم الحاشية والعامّة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت
غيمتهم ومحيت آثارهم فدخل إلى قصره وألقى عصا تسياره، واستقل الأمير
أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ببجاية محلّ إمارة أبيه الأمير أبي
زيد ابن الأمير أبي عبد الله بقسنطينة محلّ إمارة أبيه، والأمير أبو
العباس الفضل ببونة محلّ إمارته منذ عهد الأمر والسلطان أبو الحسن
بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة الفضل الى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن الى المغرب)
كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم سلطانهم إلى أبي دبّوس قد
انفضّوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية، وتولّى كبر ذلك
قتيبة بن حمزة، وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق
أمرهم. وخرج كبيرهم عمر ابن حمزة حاجّا فاستقدم قتيبة وأصحابه الأمير
الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقّه واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل
إلى أحيائهم آخر سنة تسع وأربعين
(6/528)
وسبعمائة، فنازلوا تونس وأجلبوا عليها. ثم
أفرجوا عن منازلتها أوّل سنة خمسين وسبعمائة، وأفرجوا عنها آخر المصيف
واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في
طاعة الفضل وحمل أهل الجريد كلّهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت
إفريقية عن السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام
الفطر من سنة خمسين وسبعمائة ومضى المولى الفضل إلى تونس وبها أبو
الفضل ابن السلطان أبي الحسن، كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى
المغرب تفاديا عن ثورات الغوغاء ومضرّة هيعتهم، وأمّن عليه بما كان عقد
له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته، فلما أطلّت رايات المولى الفضل
على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيّع للدعوة الحفصيّة، وأحاطت الغوغاء
بالقصر ورجموه بالحجارة. وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمّما بصهرهم
فدخل عليه أبو الليل وأخرجه ومن معه إلى الحيّ واستركب له من رجالات
بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه، ودخل الفضل إلى الحضرة
وقعد بمجلس آبائه من الخلافة وجدّد ما طمسته بنو مرين من معالم الدولة
واستمرّ أمره على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك الفضل وبيعة أخيه المولى
أبي إسحاق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده)
لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة واستبدّ بملكها عقد على حجابته
لأحمد بن محمد بن عتو نائبا عن عمّه أبي القاسم ريثما يفيء من الجريد
وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته. وكان وليه المطارد به
أبو الليل قتيبة بن حمزة مستبدّا عليه في سائر أحواله مشتطا في طلباته.
وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكّر له، وأن يديل منه بولاية
خالد أخيه وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلّده في حجابته وفوّض إليه
أمره وجعل مقاد الدولة بيده، فركب إليه البحر من سوسة واستألف له خالد
بن حمزة ظهيرا على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده وفاوضهم أبو الليل ابن
حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد
بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها. واضطربت نار الفتنة بين أبي
الليل بن حمزة
(6/529)
وبين أخيه خالد، وكاد شملهم أن يتصدّع.
وبينما هم يجيشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر
وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم.
وكان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان فيه إلى أهل
المشرق، وخاطبه ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد
على الدولة يومئذ بيقاروس. وخرج من مصر لقضاء فرضه، وخرج عمر بن حمزة
لقضاء فرضه أيضا فاجتمعا في مشاهد الحاج آخر سنة خمسين وسبعمائة
وتعاقدا على الرجوع إلى إفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألقيا
خالدا وقتيبة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الإحن
من صدورهما، وتواطئوا جميعا على المكر بالسلطان، وبعث إليه وليه قتيبة
بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلّد حجابته أبا محمد ابن تافراكين
صاحب أبيه وكبير دولته، ويديل به من ابن عتو فأبى.
ثم أصبحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد واستحثّوا السلطان للخروج إليهم
ليكملوا عقد ذلك ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به، ثم اقتادوه إلى
بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد، فدخلها لإحدى عشرة من
جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وعمد إلى دار المولى أبي إسحاق
إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل من العهد
لأمّه والمواثيق ما رضيتها، وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة
وبايع له الناس خاصّة وعامّة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته. ودخل
بنو كعب فآتوه طاعتهم وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقل وغط من جوف
الليل بمحبسه حتى فاض ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو بالاختفاء في
غيابات البلد وعثر عليه لليال فاعتقل وامتحن وهلك في امتحانه، وخوطب
العمّال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا بها واستقام ابن
بهلول صاحب توزر على الطاعة وبعث بالجباية والهدية، واتبعه صاحب نفطة
وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكّي وذهب إلى الاجلاب على ابن تافراكين لما
كان قد كفل السلطان وحجزه عن التصرّف في أمره واستبدّ عليه إلى أن كان
من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم
.
(6/530)
(الخبر عن حركة صاحب قسنطينة وما كان من
حجابة أبي العباس بن مكّي وتصاريف ذلك)
لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس وبايع للمولى أبي إسحاق
بالخلافة واستبدّ عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده ونقمه ابن مكيّ
للسعي عليه لمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر.
واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب
ومجاذبيهم حبل الإمارة، فلما رأوا صاغيه ابن تافراكين إلى أولاد أبي
الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم، وحالفوا بني حكيم من قبائل علان [1] ،
وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارات. ثم وفد على الأمير أبي زيد صاحب
قسنطينة وأعمالها يستحثهم للنهوص إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن
استبدّ عليه واحتازه، دونهم فسرّح معهم عسكرين لنظر ميمون ومنصور
الجاهل من مواليه وموالي أبيه، وارتحلوا من قسنطينة. وارتحل معهم يعقوب
بن علي كبير الزواودة بمن معه من قومه وسرّح أبو محمد بن تافراكين من
الحضرة للقاسم عسكرا مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي
السلطان، والتقى الجمعان ببلاد هوّارة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة
فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل.
وقتل يومئذ أبو الليل قتيبة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس
شيوخ بني حكيم، ورجع فلّهم إلى تونس وامتدّت أيدي أولاد مهلهل وعساكر
قسنطينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة وانتهوا إلى أبدة [2]
. ثم قفلوا راحلين إلى قسنطينة، وولي على أولاد أبي الليل مكان قتيبة
أخوه خالد بن حمزة، وقام بأمرهم، وكان أبو العباس بن مكّي أثناء ذلك
يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسنطينة من مكان ولايته بقابس ويعده من نفسه
الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام بأعطيات العرب، حتى إذا انصرم
فصل الشتاء ووفد عليه مع أولاد مهلهل لقاه مبرّة وتكريما. وعقد له على
حجابته وجمع عساكره وجهّز آلاته وأزاح علل تابعه، ورحل من قسنطينة سنة
ثلاث وخمسين وسبعمائة في صفر، وجهّز أبو محمد بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: علاق وقد مرت معنا من قبل.
[2] وفي نسخة أخرى: أبه.
(6/531)
تافراكين سلطانه أبا إسحاق لما يحتاج إليه
من العساكر والآلة، وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من
طبقة الفقهاء ومشيخة الكتّاب، كان يعلّم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم
القرآن كما قدّمناه، وفصل من تونس في التعبية حتى إذا تراءى الجمعان
كرّ محمد وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحاق، وافترقت جموعه وولّوا
منهزمين. واتبعهم القوم عشية يومهم ولحق السلطان بصاحبه أبي محمد بن
تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياما وطالت عليهم الحرب.
ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان، ثم إلى قفصة، وبلغهم أنّ ملك
المغرب الأقصى السلطان أبا عبد الله قد خالفهم إلى قسنطينة بمداخلة أبي
محمد بن تافراكين واستجاشته. ونازل جهات قسنطينة وانتهب زروعها وشنّ
الغارات عليها وفي بسائطها فبلغهم أنه رجع إلى بجاية منكمشا من زحف بني
مرين، واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته يعني
قسنطينة. ورغب إليه أبو العباس بن مكّي وأولاد مهلهل أن يخلف بينهم من
إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به، فولّى عليهم أخاه العباس فبايعوه،
وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكريا إلى أن كان من شأنه ما نذكر،
وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصة يغذّ السير إلى قسنطينة واحتل
بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم.
(الخبر عن وفادة صاحب بجاية على أبي عنان
واستيلائه عليه وعلى بلده ومطلبه قسنطينة)
كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنّان أيام
إمارته بتلمسان، ونزول الأعياص الحفصيّين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما
ذكرناه اتصال ومخالصة، أحكمها بينهما نسب للشباب والملك وسابقة الصهر،
فكان الأمير أبو عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها
السبيل على ملكه. ولما مرّ السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من
تونس كما قدّمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها
رعيا للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنّان في شأنه وجنوحا إلى تشييع
سلطانه. ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين
وسبعمائة واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلّهم إلى بجاية أوعز إلى
الأمير أبي
(6/532)
عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبّض
عليهم فأجابه إلى ذلك، وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على
محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن، وعلى أخيه أبي ثابت
الزعيم بن عبد الرحمن وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن سليمان فأوثقوهم
اعتقالا، وبعث بهم إلى السلطان أبي عنّان. ثم جاء على أثرهم فتلقّاه
بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل. ثم دسّ إليه من أغراه بالنزول له
عن بجاية رغبة فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلّة والادالة عنها
بمكناسة المغرب، الراحة من زبون الجند والبطانة، وأخفافا مما سواه إن
لم يعتمده فأجاب إليه على اليأس والكره، وشهد مجلس السلطان والملا من
بني مرين بالرغبة في ذلك، فأسعف وانيفت [1] جائزته، واقتطعت له مكناسة
من أعمال المغرب. ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب،
وبعث الأمير أبو عنّان مولاه فارحا المستبدّ عليه ليأتيه بأهله وولده،
وعقد أبو عنّان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس، وهم
ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصّه أبو عنّان
بولايتها لمتانة هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم.
وانصرفوا جميعا من المريّة. ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة
الحفصية ومن بها من صنهاجة والموالي وهجست [2] رجالاتهم في قتل عمر بن
علي الوزير وأشياع بني مرين، وتصدّى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم
بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا.
وغدوا عليه في داره من القصبة فأكبّ عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر
منهم القاضي ابن مركان [3] بما كان شيعة لبني مرين. ثم أجهزوا على عمر
بن علي ومضى القاضي إلى داره فمات.
واتصلت الهيعة بفارح فركب إليه وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسنطينة المولى
أبي زيد، وطيّروا إليه بالخبر واستحثّوه للقدوم. وأقاموا على ذلك أياما
ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسّك بدعوة صاحب المغرب خوفا من
بوادره فثاروا بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة
وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان. وتولى كبر ذلك هلال صاحبه من موالي
ابن سيّد الناس ومحمد بن الحاجب أبي عبد الله بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واسنيت.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى تمشت.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن فركان.
(6/533)
سيّد الناس ومشيخة البلد، واستقدموا العامل
حواس [1] من بني مرين وهو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني ونكاس
فبادر اليهم. وسرّح السلطان أبو عنّان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد
بن أبي عمر في الكتائب فدخلها فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وذهبت صنهاجة
في كل وجه ولحق كبارهم وذوو الفعلة منه بتونس، وتقبّض على هلال مولى
ابن سيّد الناس لما داخلته فيه من الظنّة، وعلى القاضي محمد بن عمر لما
كان شيعة لفارح، وعلى زعماء [2] الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم
معتقلين إلى المغرب. وصرف نظره إلى تمهيد الوطن واستدعى كبراء العرب
وأهل النواحي من أعمال بجاية وقسنطينة.
ووفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الزواودة فاسترهن أبناءهم
على الطاعة، وقفل بهم إلى المغرب. واستعمل أبو عنّان على بجاية موسى بن
إبراهيم اليرنياني من طبقة الوزراء وبعثه إليها. ولما وفدوا على
السلطان جلس جلوسا فخما، ووصلوا إليه ولقاهم تكرمة ومبرّة، وأوسعهم
حباء واقطاعا وأنفذ لهم الصكوك والسجلات وأخذ على طاعتهم العهود
والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم وعقد لحاجبه ابن أبي عمر وعلى
بجاية وأعمالها وعلى حرب قسنطينة من ورائها، ورجّعه إليها فدخلها في
رجب من سنته.
وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني
ياورار في كتيبة جهّزها هنالك لمضايقة قسنطينة وجباية وطنها، وكل ذلك
لنظر الحاجب ببجاية، وكان بقسنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي
الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها. وكان موسوسا في عقله معروفا
بالجنون عند قومه. وكان الأمراء بقسنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله
وأولوه من المبرّة والكفاية كفاء نسبه [3] . فلما زحف كتائب بني مرين
إلى بني ياورار آخر عمل بجاية ودانوا قسنطينة ومن بها من الحروب
والحصار، نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجئ به رجالات بني
مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار، وجهّز له الآلة، وتسامعوا بذلك
ففزع إليهم الكثير منهم. وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل صنهاجة
من بونة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بتولس.
[2] وفي نسخة أخرى: عرفاء.
[3] وفي نسخة أخرى: من المبرّة والحفاوة كفاء نفسه.
(6/534)
ومن كان على دعوته من سدويكش والزواودة
فجمعهم وزحفوا جميعا الى وطن بجاية، واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث
في الزواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول. ووفد
عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثّه للحركة على قسنطينة فاعترض
عساكره وأزاح عللهم، وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين وسبعمائة فكرّ
أبو عمر ومن معه راجعين إلى قسنطينة. وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين
والزواودة وسدويكش، ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة.
واكتسحت أموال بونة، ورجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسنطينة فأناخ عليها
سبعا. ثم ارتحل عنها إلى ميلة، وعقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحا
على أن يمكّنوه من أبي عمر الموسوس، فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي
عنّان فأنزله ببعض الحجر، ورتّب عليه الحرس. وسار الحاجب في نواحي
أعماله وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها، ثم انكفأ راجعا إلى بجاية
وهلك فاتح سنة ست وخمسين وسبعمائة وعقد السلطان على بجاية وأعمالها
بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني بابان [1] وسرّحه إليها
فدخلها، وزحف إلى قسنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية. ثم زحف
من العام المقبل سنة سبع وخمسين وسبعمائة كذلك ونصب عليها المجانيق
فامتنعت عليه وأرجف في عسكره بموت السلطان فانفضّوا وأحرق مجانيقه.
ورجع الى بجاية جمرّ الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم
اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن
شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها الى ابن مكي)
كانت طرابلس هذه ثغرا منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما
كان وضعها في البسيط، وكانت ضواحيها قفرا من القبائل فكان النصارى أهل
صقلّيّة كثيرا ما يحدّثون أنفسهم بملكها. وكان ميخاييل الأنطاكي صاحب
أسطول رجّار قد تملّكها
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يابان.
(6/535)
من أيدي بني حزروق [1] من مغراوة آخر
دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا. ثم رجّعها ابن مطروح ودخلت في دعوة
الموحّدين ومرّت عليها الأيام إلى أن استبدّ بها ابن ثابت ووليها من
بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعا عن الحضرة ومقيما رسم
الدعوة. وكان تجّار الجنوبيين يتردّدون إليها فاطلعوا على عوراتها
وائتمروا في غزوها واتّعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين وانتشروا
بالبلد في حاجاتهم ثم بيّتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم.
وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا من مضاجعهم، فلما
رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبّوا
من مضاجعهم، فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همّهم إلا النجاة بأنفسهم.
ونجا ثابت بن محمد مقدّمهم إلى حلّة الجوار في أعراب وطنها من دباب
إحدى بطون بني سليم، فقتل لدم كان أصابه منهم. ولحق أخويه بالإسكندرية،
واستباحها النصارى، واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثيّ والمتاع
والعقائل والأسرى وأقاموا بها. وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في
فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفا من الذهب العين، فبعث فيها لملك
المغرب السلطان أبي عنّان يطرفه بمثوبتها. ثم تعجّلوا عليه فجمع ما
عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامّه وبلاد الجريد فجمعوها له
حسبة ورغبة في الخير. وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها
وأزال ما دنّسها من وضر الكفر. وبعث السلطان أبو عنّان بالمال إليه وأن
يردّ على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلا
منهم، ووضع المال عند ابن مكي لذلك، ولم يزل ابن مكي أميرا عليها إلى
أن هلك كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير
المؤمنين ومفتتح أمره السعيدة بقسنطينة)
كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله
بولاية جدّه الخليفة أبي بكر، وكان إخوته جميعا في جملته، ومنهم
السلطان أبو العبّاس أمير المؤمنين لهذا
__________
[1] وفي نسخة ثانية خيزرون واسمه الصحيح خزرون (قبائل المغرب ص 166) .
(6/536)
العهد، والمنفرد بالدعوة الحفصيّة من لدن
مهلك أبيهم يرون أنّ الوراثة لهم، وان الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ
وقته الوليّ أبي هادي المشهور الذكر، وكان من أهل المكاشفة، أنه قال
ذات يوم وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقهم وسنن أسلافهم في التبرّك
بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء الله ثم قال: البركة إن شاء الله في
هذا العش، وأشار إلى الإخوة مجتمعين، وكان الحذاق [1] والمنجّمون أيضا
يخبرون بمثلها، ويحومون بوطنهم على أبي العباس منهم لما يتفرّسون فيه
من الشواهد والمخايل. فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد بتونس سنة ثلاث
وخمسين وسبعمائة ما قدّمناه، ثم ارتحل عنها إلى نفطة وأراد الرجوع إلى
قسنطينة للارجاف يسائل [2] السلطان أبا عثمان وأنه زحف إلى آخر عمله من
تخوم بجاية، رغب إليه حينئذ أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته حاجبه
أبو العباس بن مكي صاحب عمل قابس وجربة أن يستعمل عليهم من إخوته من
يقيم معهم لمعاودة تونس بالحصار، فسرّح أخاه مولانا أبا العبّاس فتخلّف
معهم لذلك وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس.
وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير
أبو العبّاس بمن معه الجزيرة وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت
وأفرجوا عن الحصن. ثم رجع السلطان إلى قابس وزحف العرب أولاد مهلهل إلى
تونس وحاصروها أياما فامتنعت عليهم. ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه
أبا يحيى زكريا على السلطان صريخا سنة خمس وخمسين وسبعمائة فلقاه مبرّة
ورحبا، وأسنى جائزته وأحسن وعده وانكفأ راجعا عنه إلى وطنه، ومرّ
بالحاجب أبي عمر عند إفراجه عن قسنطينة، ولحق بأخيه بمكانه من قاصية
إفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما.
وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين
خالد ابن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله وأولاد مهلهل،
واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه. وتحيّز خالد إلى السلطان أبي العبّاس
وزحفوا معه إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وسبعمائة وامتنعت عليهم
وأفرجوا عنها واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين
عند ما تكاثفوا عليه، وضاق به الحصار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحزى جمع حازي وهو الّذي يزاجر الطير ليتكهّن.
[2] وفي نسخة أخرى: بشأن.
(6/537)
واستخلف على قسنطينة أخاه أبا العبّاس
فدخلها ونزل بقصور الملك منها، واقام بها مدّة وعساكر بني مرين قد ملأت
عليه الضاحية فدعاه الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة
والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية، فأجاب
وبويع شهر [1] من سنة ست وخمسين، وانعقد أمره. وزحف عبد الله بن عليّ
صاحب بجاية إلى قسنطينة من سنته، وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب
المجانيق. ثم أجفل آخر الإرجاف كما ذكرناه. وتنفّس مخنق الحصار عن
قسنطينة، وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها
امتنعت عليه، ورجع وقد استبدّ أخوه بأمر قسنطينة فعدل إلى بونة وراسل
أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل
عنها الأمير أبو زيد لعمّه السلطان أبي إسحاق. وتحوّل إلى تونس فأوسعوا
له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز، وأقام في كفالة عمّه إلى أن كان
من أمره ما نذكره والله أعلم.
(الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم واستيلاء
أبي عنان بعد على قسنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث)
لما استبدّ السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية وبني
مرين، فأحسن دفاعها عن بلده. وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه
فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن
إبراهيم وكتائبه المجمّرة ببني ياورار، ودعوا إلى ذلك ميمون بن عليّ بن
أحمد وكان منحرفا عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب. وسرّح
السلطان أخاه أبا يحيى زكريا بينهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في
غارة شعواء، فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدّموا ثم أحجموا واختلّ
مصافّهم وأحيط بهم وأثخن قائد العسكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم
بنوه زيّان وأبو القاسم ومن إليهم وكانوا أسود هياج وفرسان ملحمة
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذا الشهر في المراجع التي بين
أيدينا. وفي نسخة أخرى سنة خمس وخمسين.
(6/538)
في آخرين من أمثالهم وتتبعوا بالقتل والنهب
إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنّان. ولما
بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في
الجهات.
وأعدّ من الجنود وأزاح العلل وشكا له موسى بن إبراهيم قعود عبد الله بن
علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن
مصمود، وتلوّم بعده أشهرا في تجهيز العساكر، وبعث السلطان أبو العبّاس
أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخا لعمّه السلطان أبي إسحاق فأعجله الأمر عن
الإياب إليه، وارتحل أبو عنّان في عساكره. ثم بعث في مقدّمته وزيره
فارس بن ميمون بن ودرار، وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين
وسبعمائة، وأغذّ السير إلى قسنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله.
فلما نزل بساحتها وقد طبقوا الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل
البلد، وأدركهم الدهش فانفضوا وتسلّلوا إليه. وتحيّز السلطان أبو
العبّاس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثّق لنفسه بالعهد. ثم نزل إليه
فلقاه تكرمة ورحبا وأسنى له الفساطيط في جواره. ثم بدا له لأيام قلائل
فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب، وأنزله بسبتة ورتّب عليه الحرس،
وبعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته، وفرّ عنها عمّال الحضرة. ولما
استولى عقد على قسنطينة لمنصور بن مخلوف شيخ بني بابان من قبيل [1] بني
مرين. ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزول
عن تونس فردّهم، وأخرج سلطانه المولى أبا إسحاق مع أولاد أبي الليل ومن
إليهم من العرب بعد أن جهّز له العساكر وما يصلح من الآلة والجند،
وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنّان النهوض إليه، ووفد عليه أولاد مهلهل
يستحثّونه لذلك، فسرّح معهم عسكرا في البرّ لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين
معطي حشود بني [2] تيربيعين من قبائل بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه.
وسرّح عسكرا آخر في الأسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني
الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد، فسبق الأسطول وصبحوا تونس
وقاتلوها يوما أو بعض يوم، وأتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن
تافراكين ولحق بالمهديّة، واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان
سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وحقّ لهم الظهور فخرج
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من قبائل بني مرين.
[2] وفي نسخة ثانية: يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين.
(6/539)
عنها أبو محمد بن تافراكين، ولحق يحيى بن
رحو بعسكره فدخل البلد وأمضى فيها أوامر السلطان. ثم دعاه أولاد مهلهل
إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك، وأقام
ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد في خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف
لما تبيّن من نكر السلطان أبي عنّان وإرهاف حدّه للعرب، ومطالبتهم
بالرهن، وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدراة فلم يقبلها،
فلحق يعقوب بالرمل، واتّبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله
بالبلد والصحراء فخرّبها وانتسفها.
ثم رجع إلى قسنطينة وارتحل منها يريد إفريقية وقد نهض المولى أبو إسحاق
بمن معه من العرب للقائه، وانتهوا إلى حصن سبتة. ثم تمشّت رجالات بني
مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذرا أن يصيبهم بإفريقية ما أصابهم من
قبل، فانفضّوا متسلّلين إلى المغرب. ولما خفّ المعسكر من أهله أقصر عن
القدوم إلى إفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه، واتبع العرب آثاره،
وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهديّة فسار
إلى تونس. ولما أطلّ عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني
مرين وعمّالهم، فنجوا إلى الأسطول ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى
الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة. ولحق به السلطان أبو إسحاق بعد أن
تقدّم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين
ومنازلة قسنطينة، فاتبعهم إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسنطينة
وقاتلها أياما فامتنعت عليه فانكفأ راجعا إلى الحضرة. ولم يزل مقيما
بها إلى أن هلك عفا الله عنه وعنا آمين سنة [1] وكان أخوه يحيى بن
زكريا قد لحق بتونس من قبل صريخا كما قلناه، فلما بلغهم أنّ قسنطينة قد
أحيط بها تمسّكوا به فلحق به الفلّ من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى
أن يسّر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين، وأعاد السلطان أبا
العبّاس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنّان كما يذكر ومدّ إيالته على
الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان، وكفّ
أيدي العدوان ورفع الناس والدولة في ظلّ ظليل ومرعى جميل كما نذكر إن
شاء الله.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد سنة وفاته في المراجع التي بين
أيدينا.
(6/540)
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا
بالمهدية ودخوله في دولة أبي عنان ثم نزوله عنها الى الطاعة وتصاريف
ذلك)
كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين
المهديّة يعدّها للدولة وزرا من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله، فشيّد
من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها، وكان أحمد بن
خلف من أوليائه وذويه مستبدا عليه فأقام على ذلك حولا أو بعضه. ثم ضجر
الأمير أبو يحيى زكريا من الاستبداد عليه واستنكف من حجره في سلطانه
فوثب به [1] أحمد بن خلف فقتله، وبعث عن أبي العبّاس أحمد بن مكي صاحب
جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة لما كان مناوئا لأبي محمد بن تافراكين
كافله فوصل إليه، وطيّروا بالخبر إلى السلطان أبي عنّان صاحب المغرب
وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثّوه لصريخهم. واضطراب أمرهم وسرّح أبو محمد
بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه، ولحق المولى أبو يحيى زكريا
بقابس، واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد
بن الحكجاك من قرابة ابن ثابت، اصطنعه عند ما وقعت الحادثة على طرابلس،
ولحق به فاستعمله على المهديّة. ولمّا وصل الخبر إلى أبي عنّان بشأن
المهديّة جهّز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجال، وعيّن الموالي
والخاصّة فألفوها وقد رجعت إلى إيالة الحضرة، ووصل إليها ابن الحكجاك
وأقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر.
وأقام الأمير زكريا بقابس، وأجلب به أبو العبّاس بن مكي على تونس. ثم
بعثوه بالزواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في ابنة أخيه سعيد،
فعقد له عليها.
ولما استولى أخوه أبو إسحاق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام،
ولم يزل بين الزواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكره بعد
والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى فبيّت.
(6/541)
(الخبر عن استيلاء
السلطان أبي إسحاق على بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها)
لما رجع السلطان أبو عنّان من قسنطينة إلى المغرب أراح بسبتة [1] ،
وسرّح عساكره من العام المقبل إلى إفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود
فسار في نواحي قسنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد اديل من يعقوب على
قومه من الزواودة، وعثمان بن يوسف ابن سليمان شيخ أولاد سبّاع منهم.
وحضر معهم يوسف بن مزني عامل الزاب، أوعز إليه السلطان بذلك فدوّخ
الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة، واقتضى المغارم. ثم انكفأ راجعا إلى
المغرب وهلك السلطان أبو عنّان إثر قفوله سنة تسع وخمسين وسبعمائة
واضطرب المغرب ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره.
وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان
أبي عنّان سوء ملكته وشدّة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين
على البعد في التوثّب به، فجهّز إليهم السلطان أبو إسحاق ما يحتاج إليه
من العساكر والآلة، ونهض من تونس ومعه ابنه أبو عبد الله على العساكر.
وتلقّاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم وسار أخوه أبو دينار في
جملتهم. ولما أطلق على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل، كان
عليهم منذ عهد السلطان أبي عنّان، فألقى بيده وتقبّض عليه وعلى من كان
من قومه، وأركبوا السفين إلى الحضرة، وأودعهم أبو محمد بن تافراكين
سجونه تحت كرامة وجراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى
المغرب.
ودخل السلطان ابو إسحاق إلى بجاية سنة إحدى وستين وسبعمائة واستبدّ بها
بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبّر أمره من الحضرة. ثم استقدم
ابنه ونصب لوزارة السلطان أبي محمد عبد الواحد بن محمد بن أكمازير من
مشيخة الموحّدين فكان يقيم له رسم الحجابة. وقام بأمر الرجل بالبلد من
الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها، التفت عليه الثوار [2]
والدعّار وأصبحت له بهم شوكة كان له بها تغلّب على الدولة إلى أن كان
من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: اراح بسنته.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الشرار.
(6/542)
(الخبر عن فتح جربة
ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة)
هذه الجزيرة من جزر هذا البحر الّذي هو قريب [1] من قابس إلى الشرق
عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا، وعرضها من ناحية
الغرب عشرون ميلا.
ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلا، وبين فرضتيها في ناحية الغرب [2] ستون
ميلا.
وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب، واختصّت بالنسيج [3] وعمل الصوف
للباسهم فيتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال. وغير المعلمة للّباس.
ويجلب منها الى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم. وأهلها من البربر من
كتامة وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم، وفيهم أيضا من نغزة
وهوّارة وسائر شعوب البربر. وكانوا قديما على رأي الخوارج، وبقي بها
إلى الآن فريقان منهم الوهبية وهم بالناحية الغربيّة، ورياستهم لبني
سمرمن [4] ، والنكارة وهم بالناحية الشرقية، وجربة فاصلة بينهما.
والظهور والرئاسة على الكل لبني النجّار من الأنصار من جند مصر، ولّاه
معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا إفريقية وفتح جربة سنة سبع
وأربعين بعدها، وشهد الفتح حسين بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة
فمات بها. ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر
فأخذوا به. ولما كان شأن أبي زيد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأخذوا
بدعوته بعد أن دخلها عنوة، وقتل مقدّمها يومئذ ابن كلوس [5] وصلبه.
ثم استردّها المنصور بن إسماعيل، وقتل أصحاب أبي زيد [6] . ولما غلبت
العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل
وغزوا الساحل. ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس سنة
تسع وخمسمائة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الّذي يمر قريبا من قابس.
[2] وفي نسخة ثانية: وبينها وبين قرقنّة في ناحية المغرب.
[3] وفي نسخة ثانية: بالتفّاح.
[4] وفي نسخة ثانية: سمومن.
[5] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: ابن كلدين وفي نسخة
ثانية: ابن الدين.
[6] وفي نسخة ثانية: ابن يزيد.
(6/543)
بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد
وصلح الحال. ثم تغلّب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند
تغلّبهم على سواحل إفريقية. ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان
وأربعين وخمسمائة ثم غلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على
الرعيّة وأهل العلم [1] . ثم عادت للمسلمين ولم تزل متردّدة بين
المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحّدون أيام عبد المؤمن بن علي.
واستقام أمرها إلى أن استبدّ أمراء بني حفص بإفريقية. ثم افترق أمرهم
بعد حين واستبدّ المولى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق بالناحية
الغربيّة، وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدّمناه، فتغلّب على هذه الجزيرة
أهل صقلّيّة سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مربّع
الشكل في كلّ ركن منه برج، وبين كل ركنين برج. ويجاوره حفير وسوران.
وأهمّ المسلمين شأنها، ولم تزل عساكر الحضرة تتردّد إليها كما تقدّم
إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من
بطانته سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى
عمله فأضافها إليه، وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن
بعده.
واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي، وبعث الحاجب أبو
محمد ابن تافراكين عن أبيه أبي عبد الله، وكان في جملة السلطان ببجاية
كما قلناه.
ولمّا وصل إليه سرّحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على
ابن مكي سيرته فيهم ودسّوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرّح إليه
ابنه في العساكر سنة ثلاث وستين وسبعمائة وكان أحمد بن مكي غائبا
بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى، وجعلها دارا لإمارته فنهض
العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد، ونزلوا في
الأسطول فطلعوا بالجزيرة [2] وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا
عليه وملكوه. وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة. واستعمل عليه أبو عبد الله
ابن تافراكين كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون، كان من صنائع
الدولة منذ العهد الأوّل، وكانت لأبيه قرابة من أبي عبد العزيز الحاجب
ترقّى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضا لأبي القاسم بن طاهر الّذي
كان يتولاها يومئذ، فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبدّ هو
بها منذ أيام الحاجب أبي محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أهل الفلح.
[2] وفي نسخة أخرى: ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا
القشتيل.
(6/544)
واتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب
واختصّ بكاتبه إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة،
وانكفأ راجعا إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون واليا عليها. ثم
استبدّ بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وقرار يده [1] على السلطان إلى
أن غلبه عليها السلطان أبو العبّاس سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما نذكره
إن شاء الله.
(الخبر عن دعوة الأمراء من المغرب واستيلاء
السلطان أبي العباس على قسنطينة)
لما هلك السلطان أبو عنّان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر، ونصب
ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره. وكان يضطغن للأمير أبي
عبد الله صاحب بجاية فقبض عليه لأول أمره واعتقله حذرا من وثوبه على
عمله فيما زعموا. وكان السلطان أبو العبّاس بسبتة منذ أنزله السلطان
أبو عنّان بها، ورتّب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك
المنصور بن سليمان من أعياص ملكهم، ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل
في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العبّاس واستدعاه
من سبتة فنهض إليه. وانتهى في طريقه إلى طنجة ووافق في ذلك إجازة
السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه. وكان أوّل ما استولى عليه من
أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العبّاس وظاهره على أمره
إلى أن نزع إليه قبيلة بني مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم
فاستوسق أمره واستثبت سلطانه به ودخل فاس وسرّح الأمير أبا عبد الله من
اعتقال الحسن بن عمر كما قدّمناه. ورعى للسلطان أبي العبّاس ذمّة
سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته، ووعده بالمظاهرة على
أمره، واستقروا جميعا إلى إيالته إلى أن كان من تغلّب السلطان أبي سالم
على تلمسان والمغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم.
واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون ورجالات قبيلهم، فامتعض
لذلك وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية ونزل للسلطان أبي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وفرار ابنه من السلطان.
(6/545)
العبّاس عن قسنطينة دار إمارته ومثوى عزّه
ومنبت ملكه، فأوعز إلى عاملها منصور ابن مخلوف بالنزول له عنها وسرّحه
إليها وسرّح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمّه لطلب حقّه في بجاية،
والاجلاب على عمّه السلطان عبد الحق جزاء بما نال من بني مرين عند
افتتاحها من المعرّة. وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين
وسبعمائة وأغذّوا السير إلى مواطنهم. فأمّا السلطان أبو العباس فوقف
منصور بن خلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول عن قسنطينة فنزل
وأسلمها إليه، وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة
واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدأ سلطانه
ومظهرا لسعادته ومطلعا لدولته على ما نذكر بعد. وأمّا الأمير أبو عبد
الله صاحب بجاية فلحق بأوّل وطنها، واجتمع إليه أولاد سبّاع أهل
ضاحيتها وقفرها من الزواودة. ثم زحف إليها فنازلها أياما وامتنعت عليه
فرحل عنها إلى بني ياورار، واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيز بين أهل
ضاحيتها من سدويكش. ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمّه ببجاية فخرج إلى القفر
مع الزواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول الأمير أبي يحيى زكريا من
تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها)
كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العبّاس إلى عمّهما
السلطان أبي إسحاق صريخا لم يزل مقيما بتونس، وبلغه استيلاء السلطان
أبي عنّان على قسنطينة وهو بتونس ثم لما كانت عودة مولانا أبي العبّاس
من المغرب واستيلاؤه على قسنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين
بادرته، وتوقع زحفه إليها [1] وغلبه إياه على الأمر. ورأى أن يخفض [2]
جناحه في أخيه، ويتوثّق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي، وبعث فيه
السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم.
ولمّا وصل الأمير أبو يحيى ابن أخيه بقسنطينة عقد له عن العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إليه.
[2] وفي نسخة ثانية: يحصر.
(6/546)
وأصاروها نجما لعمله واستمرّت حالها على
ذلك إلى أن كان من أمرها ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها)
لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج
إلى أحياء العرب كما قدّمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سبّاع
بعد توالي الوفاد بها [1] وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم ومتعهدا في طلب
بجاية برحلة الشتاء والصيف وتكفّلوا، نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه
بتلك المسيلة من أوطانهم، وتجافوا له عن جبايتها [2] وأقام على ذلك
سنين خمسا ينازل بجاية في كل سنة منها مرارا، وتحوّل في السنة الخامسة
عنهم إلى أولاد علي بن أحمد، ونزل على يعقوب بن عليّ فأسكنه بمقرّه من
بلاده إلى أن بدا لعمّه المولى أبي إسحاق رأيه في اللحاق بتونس لما
توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين، أسره إليه بعض الجند
فحذّره مغبّته ووقع من ذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه وحرج أمره [3]
وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرّه وظاهره على ذلك
يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية، وارتحلوا
معه إلى بجاية ونازلها أياما. ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على
التقويض عنهم، وسئموا ملكة علي بن صالح الّذي كان عريفا عليهم فثاروا
به ونبذوا عهده وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالحرسة من
ساحة البلد. ثم قاد إليه عمه أبا إسحاق فمرّ عليه وخلّى سبيله إلى
حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان
سنة خمس وستين وسبعمائة وتقبّض على عليّ بن أبي صالح [4] ومن معه من
عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم، ثم أمضى حكم الله في قتلهم.
ثم نهض إلى تدلس
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فغربوا في الوفاء بها.
[2] وفي نسخة ثانية: جبايتهم.
[3] وفي نسخة أخرى: ومرج أمرهم.
[4] وفي نسخة أخرى: علي بن صالح.
(6/547)
لشهرين من مملكة بجاية فغلب عليها عمر بن
موسى عامل بني عبد الواد، ومن أعياص قبيلهم، وتملّكها في آخر سنة خمس
وستين وسبعمائة. وبعث عني من الأندلس وكنت مقيما بها نزيلا عند السلطان
أبي عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تغلّب منذ
مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تقويمه، والترقي في [1] في خطط
كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها. فلما استدعاني هذا
الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما
فَعَلُوهُ 6: 112 وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ من
الْخَيْرِ» 7: 188 فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وخمسين وسبعمائة
وقلّدني حجابته، ودفع إليّ أمور مملكته. وقمت في ذلك المقام المحمود
إلى أن يأذن الله بانقراض أمره، وانقطاع دولته، وللَّه الخلق والأمر،
وبيده تصاريف الأمور.
(الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده)
كان السلطان أبو إسحاق آخر دولته ببجاية قد تحيّن مهلك حاجبه المستبدّ
عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صنهاجة أهل التنجيم يحدّثونه
بذلك، فأجمع الرحلة إليها، وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما
قدّمناه. واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس
وستين وسبعمائة وتلقّاه أبو محمد بن تافراكين ورآه مرهف الحدّ
للاستبداد الّذي لفّه ببجاية فكايله بصاع الوفاق، وصارفه نقد المصانعة،
وازدلف بأنواع القربات. وقاد إليه النجائب ومنحه الذخائر والأموال
وتجافى له عن النظر في الجباية. ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد
له عليها وأعرس السلطان بها. ثم كان مهلكه عقب ذلك فاتح ست وستين
وسبعمائة فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع في لحده من المدرسة
التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفيّ المدينة. وقام على قبره
باكيا وحاشيته يتناولون التراب حثيا على جدثه فقرن [2] في الوفاء معه
ما تحدّث به الناس واستبدّ من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تنويهه، والراقي بي في خطط.
[2] وفي نسخة أخرى: فغرب.
(6/548)
وكان أبو عبد الله الحاجب [1] غائبا عن
الحضرة وخرج منها بالعسكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه
داخلته الظنّة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة، وارتفع مع حكيم من
بني سليم، وعرض نفسه على معاقل إفريقية التي كان يظنّ أنها خالصة لهم.
فصدّه محمد بن أبي العيون كاتبه عن عزمه [2] ، فحمد الحكيم صنيعه وطاف
بهم على المهدية [3] . وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فاستصحب
بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبرّ والترحيب، وقلّده
حجابته وأنزله على مراتب العزّ والتنويه والشرف. ونكر هو مباشرة
السلطان للناس من رفعه للحجاب، ولم يزل يريضه لما ألف من الاستبداد منذ
عهد أبيه فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان ودبّت عقارب السعاية لمهاده
الوثير، فتنكّر وخرج من تونس ولحق بقسنطينة، ونزل بها على السلطان أبي
العبّاس مرغّبا له في ملك تونس ومستحثّا فأنزله خير نزل، ووعده بالنهوض
معه إلى إفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمّه
صاحبها من الفتنة كما نذكرها بعد. واستبدّ السلطان أبو إسحاق بعد مفرّ
ابن تافراكين عنه، ونظر في أعطاف ملكه، وعقد على حجابته لأحمد بن
إبراهيم المالقي [4] مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمّال، وعلى
العساكر والحرب لمولاه منصور سريحة من المعلوجي، ورفع الحجاب بينه وبين
رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جبايات الخراج وعرفاء الحشم، وأوصلهم
إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء
الله تعالى والله تعالى أعلم.
(الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية وملك صاحبها ابن عمه)
لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكّر للرعيّة
وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحدّ للكافة وإسخاط الخاصّة، فنغلت [5]
الصدور ومرضت القلوب
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الحاجب لأبي محمد وفي نسخة أخرى: الحاجب ابن
أبي محمد.
[2] وفي نسخة أخرى: عن جربة.
[3] وفي نسخة أخرى تختلف العبارة تماما: ومحمد بن الجكجاك ضيعتهم
وبطانتهم عن المهدية.
[4] وفي نسخة أخرى: اليالغي.
[5] نفلت الصدور: أي ضغنت (قاموس) .
(6/549)
واستحكمت النفرة، وتوجّهت الضاغية إلى ابن
عمه السلطان أبي العبّاس بقسنطينة لما كان استفسد منه وأعلن بلذاته
وأقوم على سلطانه. وكانت بينهما فتنة وحروب جرّتها المنافسة في تخوم
العمالتين منذ عهد الآباء. وكان السلطان أبو العبّاس أيام نزوله على
السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال مستقيم الطريقة في مثوى
اغترابه. وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرّضة لصاحبها
للملامة وستثقل نصيحته. وشغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى
الفتنة فتنبّه، وشمّر عزائمه لها فكان مغلبا فيها. واعتلق منه يعقوب بن
علي بذمّه في المظاهرة على السلطان أبي العبّاس فلم يغن عنه وراجع
يعقوب سلطانه. ثم جهّز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسنطينة وفيها
مولانا أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر، وتراجع العرب من
أولاد سبّاع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة،
والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختلّ مصافّ أهل بجاية وانهزموا، واتبعهم
السلطان أبو العبّاس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطئ نواحي وطنه، وقفل
إلى بلده. ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه
وبين أهل بلده فدسّوا إلى السلطان أبي العباس بقسنطينة بالقدوم عليهم،
فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين وسبعمائة في عساكره وشيعته
من الزواودة أولاد محمد، وانضوى إليه أولاد سبّاع بشيعة بجاية بالجوار
والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم. وعسكر الأمير أبو عبد
الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء، وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه
بالصلح، فبيّته السلطان بمعسكره من لبزو، وصبحه في غارة شعواء فانفضّ
جمعه، وأحيط به، وانتهب المعسكر، وفرّ إلى بجاية، فأدرك في بعض الطريق
وتقبّض عليه، وقتل قعصا بالرماح. وأغذ السلطان أبو العبّاس السير إلى
بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وسبعمائة
وكنت بالبلد مقيما فخرجت في الملأ وتلقّاني بالمبرّة والتنويه. وأشار
إليّ بالاصطناع واستوسق له ملك جدّه الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور
الغربية وأقمت في خدمته بعض شهر. ثم توخمت الحنقة في نفسي وأذنته في
الانطلاق فأذن لي تكرّما وفضلا وسعة صدر ورحمة، ونزلت على يعقوب بن
عليّ، ثم تحوّلت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن موسى إلى أن صفا الجوّ،
واستقبلت من أمري ما استدبرت واستأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه
في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي، وقدمت
(6/550)
عليه فقابلتني وجوه عنايته، وأشرقت عليّ
أشعة نجعته [1] كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن زحف حمو وبني عبد الواد الى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس
من أيديهم بعدها) كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدّت
الفتنة بينه وبين عمّه السلطان أبي العبّاس مع ما كان بينه وبين بني
عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس، يكابد حمل العداوة من
الجانبين، وصغا إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس، وأمكن منها
قائد العسكر المحاصر لها. وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان،
وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفّها إليه بجهاز أمثالها.
فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية وهلك في مجال حربه، أشاع أبو
حمو الامتعاض له لمكان الصهر، وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية. وزحف
من تلمسان يجرّ الشوك والمدر في آلاف من قومه طبقات العساكر والجند.
وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل موسى بن
زغلي في قومه بني يزيد، وتحصّنوا في جبال زواوة المطلّة على وطن [2]
حمزة. وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فاوثقهم كتافا، وكان فيهم يحيى
حافد أبي محمد صالح نزع عن السلطان أبي العباس إلى أبي حمو، وكان عينا
على غزاة أبي الليل هذا لما بينهما من الولاء والجوار والوطن، وجاء في
وفد الوفادة عن أبي حمو فتقبّض عليهم وعليه فقتله وبعث برأسه إلى
بجاية.
وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجلبوا إلى بجاية، ونزل معسكره بساحتها
وقاتلها أياما، وجمع الفعلة على الآلات في الحصار. وكان السلطان أبو
العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتكرارت، ومعهم أبو زيّان بن عثمان
بن عبد الرحمن، وهو عم أبي حمو من أعياص بيتهم، وكان من خبره أنه كان
خرج من المغرب كما نذكره في أخباره. ونزل على السلطان أبي إسحاق
بالحضرة ورعى له أبو محمد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ويقال: فلان نجعتي: أي أملي. وفي نسخة
ثانية بختة.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق: وطا حمزة.
(6/551)
الحاجب حق بعثه [1] فأوسع في كرامته. ولما
غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها،
وتكون ردءا بينه وبين حمو، ويتفرّغ هو للإجلاب على وطن قسنطينة، فبادر
إلى الإجابة وخرج من تونس. ومرّ السلطان أبو العباس بمكانه من قسنطينة
فصدر على سبيله واعتقله عنده مكرّما، فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر
بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك واستبلغ في تكرمته وحبائه، ونصبه
للملك وجهز له بعض الآلة. وخرج في معسكره مولاه بشير ليجأجئ به بني عبد
الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سئموا من ملكه وعنفه.
وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو، وكان على حذر من [2]
مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيّان وائتمروا بينهم في الإرجاف بالمعسكر.
ثم تحيّنوا لذلك أن يشبّ الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا
خامس ذي الحجّة، وانفضّ بالمعسكر وانتحوا إلى مضايق الطرقات بساح البلد
فكفّلت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم، وخلّفوا من الأثقال
والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف. وأسلم أبو حمو عياله
وأمواله فصارت نهبا واجتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه ونجا
أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران
بن موسى عن مركوبة فكان نجاؤه عليه، ونزل بالجزائر في الفلّ، ولحق منها
بتلمسان واتبع أبو زيّان أثره، واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في
أخباره. وخرج السلطان أبو العبّاس من بجاية على أثر هذه الواقعة فنازل
تدلس وافتتحها وغلب عليها من كان بها من عمّال بني عبد الواد وانتظمت
الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جدّه الأمير أبي زكريا
الأوسط حين قسم الدعوة الحفصيّة بها إلى أن كان ما نذكره بعده إن شاء
الله تعالى.
(الخبر عن زحف العساكر الى تونس) كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد
بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحاق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بيته.
[2] وفي نسخة ثانية: وكانوا حذرين مغبة أمره.
(6/552)
صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من
العرب، ووفدوا جميعا على السلطان أبي العبّاس فاتح سنة سبع وستين
وسبعمائة يستحثّونه إلى الحضرة ويرغّبونه في ملكها فاعتذر لهم لما كان
عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية. وزحف إليها في حركة الفتح
وصاروا في جملته، فلما استكمل فتح بجاية سرّح معهم أخاه المولى أبا
يحيى زكريا في العساكر فساروا معه إلى الحضرة، وابن تافراكين في جملته،
فنازلوها أياما وامتنعت عليهم وأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب
الحضرة وبينهم، وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله. ولحق ابن
تافراكين بالسلطان، فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكره
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة وولاية ابنه خالد من
بعده) لمّا نزل السلطان أبو إسحاق بالحضرة على ما ذكرناه، وتخلّف عن
المهادنة مع السلطان أبي العبّاس طورا بطور، واستخلص لدولتهم منصور بن
حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره، ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له
سائر أيامه. وعقد سنة تسع وستين وسبعمائة لابنه خالد على عسكر لنظر
محمد بن رافع من طبقات الجنود من مغراوة مستبدّا على ابنه. وسرّحه مع
منصور بن حمزة وقومه وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها
وجباية ضواحيها فساروا إليها. وسرّح الأمير أبو يحيى زكريا صاحب بونة
عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان
آخر العهد بظهورهم. ولما رجعوا إلى الحضرة تنكّر السلطان لمحمد بن رافع
قائد العسكر فخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحفه من أعمال تونس.
واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبّض عليه وأودعه السجن.
وعلى أثر ذلك كان مهلك السلطان فجأة ليلة من سنة سبعين وسبعمائة بعد أن
قضى وطرا من محادثة السمر وغلبه النوم آخر ليله فنام، ولما أيقظه
الخادم وجده ميتا، فاستحال السرور، وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش
ثم راجعوا بصائرهم ورفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لابنه
الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور
(6/553)
سريحة من المعلوجين [1] وحاجبه أحمد بن
إبراهيم اليالقي [2] ، وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة. وانفضّ
المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب.
واستبدّ منصور وابن الباقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له
تحكّم عليها، وكان أوّل ما افتتحا به أمرهما أن تقبّضا على القاضي محمد
بن خلف الله من طبقة الفقهاء، كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضبا
لمقدّمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطّة
القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر ابن عبد الرفيع. ثم ولّاه قود [3]
العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان له منها عناء واستدفعوه مرات
بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان، ومرات بمصانعة العرب على الإرجاف
بمعسكره. وكان ابن اليالقي يغضّ بمكانه عند السلطان فلما اشتدّ على
ابنه أعظم فيه السعاية وتقبّض عليه، وأودعه السجن مع محمد بن علي بن
رافع. ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبّروه معه،
وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقا والله متولي الجزاء منه.
وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ثم أظهر ابن اليالقي من سوء
سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم، وإهانة سبال
[4] الأشراف ببابه منهم ما نقموه، وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته
فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العبّاس كما نذكر إن شاء الله
تعالى.
(فتح تونس وبقية عمالات إفريقية) (الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان
عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وممالكها) لما
هلك السلطان أبو إسحاق صاحب الحضرة سنة سبعين وسبعمائة كما قدّمنا وقام
بالأمر مولاه منصور سريحة وصاحبه اليالقي ونصبوا ابنه الأمير خالدا
للأمر صبيا لم يناهز
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: المعلوجي.
[2] وفي نسخة أخرى: البالقي.
[3] وفي نسخة ثانية: قيادة.
[4] سبله: سبّه وشتمه. (قاموس) .
(6/554)
الحلم غرّا فلم يحسنوا تدبير أمره ولا
سياسة سلطانه، واستخلصوا لوقتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب المتغلّبين
على الضاحية ثم أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر. ثم قلبوا
له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العبّاس وهو مطل عليهم بمرقبة
من الثغور الغربية مستجمع للتوثّب بهم، فاستحثّه لملكهم وحرّضه على
تلافي أمرهم ورمّ ما تثلّم من سياج دولتهم. وكان الأحق بالأمر لشرف
نفسه وجلالته واستفحال ملكه وسلطانه، وشياع الحديث على عدله ورفعته [1]
وجميل سيرته ولما أن أهل مملكته نظروا لعقب نظره فيهم واستبداد سواه
عليهم، فأجاب صريخه وشمّر للنهوض عزمه. وكان أهل قسنطينة قد بعثوا بمثل
ذلك، فسرّح إليهم أبا عبد الله بن الحاجب أبي محمد بن تافراكين
لاستخبار [2] طاعتهم وابتلاء دخلتهم، فسار إليهم واقتضى سمعهم [3]
وطاعتهم، وسارع إليها يحيى بن يملول مقدّم توزر والخلف بن الخلف مقدّم
نفطة فآتوها طواعية. وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها في
أمصارهم.
ثم خرج السلطان من بجاية في العساكر وأغذّ السير إلى المسيلة، وكان بها
إبراهيم ابن الأمير أبي زكريا الأخير فأجابه [4] أولاد سليمان بن على
من الزواودة من مثوى اغترابه بتلمسان، ونصّبوه لطلب حقه في بجاية من
بعد أخيه الأمير أبي عبد الله، وكان ذلك بمداخلة من أبي حمو صاحب
تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مختلفة. فلما انتهى السلطان إلى المسيلة
نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرءوا منه. ورجعوا من حيث جاءوا، وانكفأ
السلطان راجعا إلى بجاية. ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود إفريقية
جميعا بالطاعة وانتهى إلى البلد فخيّم بساحتها أياما يغاديها القتال
ويراوحها. ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها وقد ترجّل أخوه والكثير
من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية،
فنزل الطابية، فنزل عنها المقاتلة وفرّوا إلى داخل البلد. وخامر الناس
الدهش وتبرّأ بعضهم من بعض، وأهل الدولة في مركبهم وقوف بباب الغدر من
أبواب القصبة. فلمّا رأوا أنهم أحيط بهم ولّوا الأعقاب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رفقه.
[2] وفي نسخة ثانية: لاختبار.
[3] وفي نسخة ثانية: بيعاتهم.
[4] وفي نسخة ثانية: جأجأ به.
(6/555)
وقصدوا باب الجزيرة فكبّروا قباله [1] .
وثار أهل البلد جميعا بهم فحاصروا بساحتهم من البلد [2] بعد عصب الريق،
ومضى الجند في اتباعهم فأدرك أحمد بن اليالقي فقتل وسيق رأسه إلى
السلطان. وتقبّض على الأمير خالد واعتقل، ونجا العلج منصور سريحة برأس
طمرة [3] وخام وذهل عن القتال دون الأحبة. ودخل السلطان القصر واقتعد
أريكته، وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت ما كان الناس
يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعيّة واغتصاب أموالهم، واضطرمت نار العيث
في دورهم ومخلّفهم فلم تكد أن تنطفئ ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك
لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركات [4] السلطان وجميل نيّته
وسعادة أمره. ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل، وتهافتوا
عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه، ويجدّون بالدعاء له
ويتنافسون في انتقاس مجيده [5] الى أن غشيهم الليل ودخل السلطان قصوره
وخلا بما ظفر من ملك آبائه، وبعث بالأمير خالد في الأسطول إلى قسنطينة،
فعصفت به الريح وانخرقت السفينة وترادفت الأمواج إلى أن هلك [6] .
واستبدّ السلطان بأمره وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكريا. على حجابته.
ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفا لأخيه واستمرّ
الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة واجلابه بالعمّ أبي يحيى زكريا على
الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراكين)
كان منصور بن حمزة هذا أمير البلد من بني سليم بما كان سيّد بني كعب.
وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: كسروا أقفاله.
[2] وفي نسخة ثانية: فخلصوا سلطانهم من البلد.
[3] وفي النسخة الباريسية: برأس طرة.
[4] وفي نسخة ثانية: ببركة.
[5] وفي نسخة ثانية: التماح محيّاه.
[6] وفي نسخة ثانية: وبعث الأمير خالد وأخيه في الأسطول الى قسنطينة
فوصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا.
(6/556)
السلطان أبو يحيى يؤثره بمزيد العناية،
ويجعل له على قومه المزية. وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا على السلطان
أبي الحسن على إفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقسموها
أوزاعا، وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه
من ضواحيها وأمصارها، استئلافا لهم على المصاهرة وإقامة الدعوة
والحماية من أهل الثغور الغربية، فملكوا الأكثر منها، وضعف سهمان
السلطان بينهم فيها. فلما استولى هذا السلطان أبو العبّاس على الحضرة
واستبدّ بالدعوة الحفصية كبح أعنّتهم عن التغلّب والاستبداد وانتزع ما
بأيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة السلطان وبدا لهم
ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكّر منصور بن حمزة
وقلب ظهر المجنّ ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف، وتابعه على
خروجه على السلطان أبو معنونة [1] أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين
شيخ حكيم. وارتحل بأحيائه إلى الزواودة صريخا مستجيشا بالأمير أبي يحيى
بن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن قفلته من المهديّة
وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحاق كما ذكرناه، فنصبوه للأمر
وبايعوه. وارتحل معهم وأغذّوا السير إلى تونس، ولقيهم منصور بن حمزة في
أحياء بيته فبايعوا له وأوفدوا مشيختهم على يحيى ابن يملول شيطي [2]
الغواية المراد على الخلاف يستحثّونه للطاعة والمدد بمداخلة كانت بينهم
في ذلك سوّل لهم فيها بالمواعيد، وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في
النفاق والاختلاف سوّفهم عن مواعيد حمايته [3] بماله فأسرها منصور في
نفسه، واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة.
ثم رحلوا للإجلاب على الحضرة، وسرّح السلطان أبو العباس أخاه الأمير
أبا يحيى زكريا للقيهم في العساكر، وتزاحفوا فأتيح لمنصور وقومه ظهور
على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله، وأجلوا على البلاد أياما. ونمي
إلى السلطان أنّ حاجبه أبا عبد الله ابن تافراكين داخلهم في تبييت
البلد فتقبّض عليه وأشخصه في البحر إلى قسنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى
أن هلك سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. ثم سرّب السلطان أمواله في العرب
فانتقض على المنصور قومه وخشي مغبّة حاله، وسوّغه السلطان جائزته فعاود
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبو صعنونة وهنا أصح.
[2] وفي نسخة ثانية: شيطان الغواية المارد على الخلاف.
[3] وفي نسخة ثانية: سوّفهم عن مواعيده ضنانة بماله.
(6/557)
الطاعة، ورهن ابنه ونبذ إلى السلطان زكريا
العم عهده ورجّعه على عقبه إلى الزواودة، والتزم طاعة السلطان
والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين وسبعمائة فقتله محمد
ابن أخيه قتيبة في مشاجرة كانت بينهما، طعنه بها فأشواه ورجع جريحا إلى
بيته، وهلك دونها أواخر يوما. وقام بأمر بني كعب بعده صولة ابن أخيه
خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم واستمرّت الحال إلى أن كان من
أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فتح سوسة والمهدية)
كانت سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلّب العرب على العمالات
فأقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوّغ
للعرب من الأمصار والاقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا
ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها. واستبدّ بها على السلطان ولم يزل
كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر بن عمه محمد بن مسكين أيام
استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوّغها له كذلك مفضلا مرهبا من قتله [1]
ثم قتله بنو كعب، وأقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن
محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبدّ بسوسة على السلطان
واقتعدها دار إمارته، وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من
سوسة، ويسنّ الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور
سريحة مولى السلطان أبي إسحاق وقائد عسكره، فتقبّض عليه واعتقله بسوسة
أياما. ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه، ولم يزل هذا دأبهم. وكانت
لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيّئة، ولم يزالوا يضرعون إلى الله
في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذّن الله لأهل إفريقية
باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر. واستبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس
بالحضرة وسائر عمالات إفريقية وهبّت ريح العزّ على المغرب في جميع
النواحي، فتنكّر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا، وأحسّ بتنكراتهم
فخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد. وثارت عامّتها بعمّاله وأجهضوهم،
ونزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: متقبّلا مذهب من قبله.
(6/558)
عمّال السلطان. ثمّ كانت من بعد ذلك حركة
المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوّخ جهاتها واستوفى جباية أعمالها.
وكان بالمهديّة محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن
تافراكين أيام ارتجاعه إيّاها من أيدي أبي العباس بن مكي، والأمير أبي
يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مرّ. وأقام ابن
الجكجاك أميرا عليها بعد موت الحاجب. فلما وخزته شوكة الاستطالة من
الدولة، وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه، وركب أسطوله
إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمّة صهر قديم كان بينهما
وبادر مولانا السلطان إلى تسليم المهديّة، وبعث عليها عمّاله وانتظمت
في ملكيته واطردت أحوال الظهور والنجح، وكان بعد ذلك ما نذكر إن شاء
الله تعالى.
(الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك
السلطان)
كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولّاه أبو عبد الله محمد بن
تافراكين على هذه الجزيرة، قد تقبّل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس
وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحاله
مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها. وقد ذكرنا سلفه من قبل، وأنّ والده
كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق
بكتابة ابنه أبي عبد الله مولاه على جربة عند افتتاحه إياها سنة [1]
وأنه قصده عند مفرّه عن المولى أبي إسحاق لينزل جربة معوّلا على قديم
اصطناعه إيّاه فمنعه. ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع
على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه، وأقام ممتنعا سائر دولة مولانا
السلطان [2] وابنه من بعده.
ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والوحشة
وصار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم، فأجرى
في ذلك شأوا بعيدا مع تخلّفه في مضمار بقديمه وحديثه. وصارف السلطان
سوء الامتثال وإتيان الطاعة
__________
[1] هكذا بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين
أيدينا
[2] هو المولى أبو إسحاق.
(6/559)
ومنع الحباية فأحفظ ذلك، ولما افتتح أمصار
الساحل وثغوره سرّح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه
خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين،
وصاحب بجاية لعهد المستنصر، وقد تقدّم ذكره. وأمدّه في الأسطول في
البحر لحصارها، ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل الأسطول إلى
مرساتها فأطاف بحصن القشتيل، وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق
عنه شيوخ الجزيرة من البربر وانحاش معه بطانته من الجند المستخدمين معه
بها. ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأنّ عساكر السلطان قد أحاطت بهم
برّا وبحرا نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن، وبادروا الى
معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من
بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن، وتقبّضوا على محمد بن أبي العيون
ونقلوه من حينه إلى الأسطول، واستولوا على داره وولّوا على الجزيرة
وارتحلوا قافلين إلى السلطان. ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل
بالديوان فأركب القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة
الله النازلة به، وأحضره السلطان فوبّخه على مرتكبه في العناد ومداخلته
أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه. ثم تجافى عن دمه وأودعه
السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين.
(الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء
بولاية الثغور الغربية)
كان السلطان عند ما استجمع الرحلة إلى إفريقية باستحثاث أهلها لذلك،
ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فيها فأهمّه لذلك شأن الثغور
الغربية، وأحال اختياره في بنيه بسبر أحوالهم ويعيش على الأكفاء لهذه
الثغور منهم فوقع نظره أوّلا على كبير ولده المخصوص بعناية الله في
إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية وأعمالها،
وأنزله بقصور الملك منها، وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند.
واستعمل على قسنطينة وضواحيها مولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه،
وناشئ قصده وتلاد مرباه. وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس،
ودالّة بالقديم والحادث. وخلال لقيها أيام التغلّب في أواوين الملك.
وكان ملازما ركاب
(6/560)
مولاه في مطارح اغترابه وأيام تمحيصه،
وربّما لقي عند الورود على قسنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما
أعاضه الله عنه بجميل السرور [1] ، وعود العز والملك إلى مولاه على
أحسن الأحوال. فظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية. وكان
السلطان يثق بنظره في العسكر ويبعثه في مقدّمة الحروب، وكان عند
استيلائه على بجاية وصرف العناية إليها ولّاه أمر قسنطينة وأنزله بها،
وأنزل معه ابنه الأمير أبا إسحاق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره
بالعساكر عند النهوض إلى إفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح. ثم
رجّعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض والاستقلال، فلم يزل قائما بما
دفع إليه من ذلك إلى أن هلك.
وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحاق على ملك بن مقرب [2] والسلطان عبد
العزيز عند ما استولى على تلمسان مهنئا بالظفر ملفحا غراس الودّ وأنفذ
معه شيخ الموحّدين ساسة أبا إسحاق بن أبي هلال، وقد مرّ من قبل ذكر
أخيه فتلقّاهما ملك بن مقرب بوجوه المبرّة والاحتفاء، ورجّعهما بالحديث
الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
ونزل الأمير أبو إسحاق بقسنطينة دار إمارته وعقد له السلطان عليها
وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه. والقائد بشير مولى أبيه مستبدّ عليه
لمكان صغره إلى أن هلك بشير ثمان وسبعين وسبعمائة عند ما استكمل الأمير
أبو إسحاق الحال واستجمع الإمارة فجدّد له السلطان عهده عليها وفوّض
إليه في إمارتها فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام وأحواله تصدق
الظنون وتومي إليه وشهادة المخايل التي دلّت عليه، فاستقل هذان
الأميران بعهد بجاية وقسنطينة وأعمالها مفوّضا إليهما الإمارة مأذونا
لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة. وكان الأمير أبو
يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلا أيضا ببونة وعملها منذ استيلائه عليها
سنة [3] قد أضافها السلطان وأصارها في سهمانه، فلما ارتحلوا إلى
إفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه
لكونه معه، عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره
منها، فوّض إليه في إمارته لما استجمع من خلال التشريع والذكر الصالح
في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: التنويه.
[2] وفي نسخة ثانية: ملك المغرب السلطان عبد العزيز.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد السنة في المراجع التي بين أيدينا.
(6/561)
الدين. واستمرّ الحال على ذلك لهذا العهد
وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، والله مدبّر الأمور سبحانه.
(الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال
قسنطينة في طاعة السلطان)
كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة
السلطان أبي بكر لاعتقال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر، فلما استبدّ
السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ عن الشواغل صرف إليهم نظره
وأوطأهم عساكره. ثم نهض فجاء إثر الشورى منها، وعقد لابنه أبي العبّاس
عليها كما قلناه. فلما كان بعد مهلكه من اضطراب إفريقية وتغلب الأعراب
على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وتنازع رؤسائهم بعد أن
كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك ومساريه [1] ، يقتعدون الأرائك
ويتفقدون في المشي بين السكك المراكب [2] ، ويهيئون في إيوانهم سبال
الأشراف، ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلّب الأيام،
وضحكة الأهل الشمات، حتى لقد حدّثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة، وأقاموا
على ذلك أحوالا والدولة في التياثها، فلما استبدّ السلطان أبو العباس
بإفريقية وعمالاتها، وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد
الخادر في عرينه، وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثّبه بهم،
داخلوا حينئذ الاعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة، واقتعاد
مطيّة الخلاف والنفاق يفتلون بذلك في عزائمه وأرخى هو لهم حبل الإمهال
وفسح لهم مجال الإيناس بالمعاونة والوعد، رجاء الفيئة إلى الطاعة
المعروفة والاستقامة على الجادة فأصرّوا وازدادوا عنادا ونفاقا فشمّر
لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء. ونهض من الحضرة سنة سبع
وسبعين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل
زناتة من استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وأصهار أولاد أبي
الليل على المدافعة عن أهل الجريد، ووافقوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وشاراته.
[2] وفي نسخة ثانية: ويعقدون في المشي بين السلك والمواكب.
(6/562)
السلطان أياما. ثم أجفلوا أمامه وغلبهم
السلطان على رعاياهم من تحيزه [1] ، وكانوا من بقايا بني يفرن عمّروا
ضواحي إفريقية مع ظواعن هوّارة ونفوسة ومغراوة [2] . وكانت للسلطان
عليهم مغارم وجبايات وافرة، فلمّا تغلّب المغرب على بسائط إفريقية
وتنافسوا في الاقطاعات كانت ظواعن مر نجيزة هؤلاء في اقطاع أولاد حمزة،
فكانت جبايتهم موفورة وما لهم دثرا بما صاروا مددا لهم بالمال والكراع
والدروع والأدم، وبالفرسان منهم يستظهرون بهم في حروبهم مع السلطان ومع
قومهم، فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم، وبعث
رجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادّة كانت تمدّهم،
فخمد ذلك من عتوّهم وقصّ من جناحهم إلى آخر الدهر، ووهنوا له. ثم عاد
السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه، ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف على
أولاد أبي الليل، وزحفوا إلى الحضرة فاحتلوا بساحتها أياما وشنوا
الغارات عليها. ثم انفضّوا عنها وخرج على أثرهم لأوّل فصل الشتاء،
وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة،
ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة وجمع أولاد أبي الليل
لمدافعة عنها، وسرّب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه. وزحف السلطان
إلى قفصة فنازلها ثلاثا ولجّوا في عصيانهم وقاتلوه بجمع الأيدي على قطع
نخيلهم وتسايلت إليه الرعيّة من أماكنهم، وأسلموا أحمد بن القائد
مقدّمهم وابنه محمد المستبدّ عليه لكبره وذهوله، فخرج إلى السلطان
واشترط ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم
في بعض، وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبدّ على أبيه، وكان
السلطان سرّح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد، فلقيه محمد
بنواحي ساحتها فبعث به إلى السلطان، ودخل هو إلى القصبة وتملّك البلد
وتقبّض السلطان على محمد بن القائد لوقته، وسيق إليه أبوه أحمد من
البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره.
واجتمع المدد والكافّة من أهل البلد عند السلطان، وآتوه بيعتهم وعقد
عليها لابنه أبي بكر، وارتحل يغذّ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح
قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه، واحتمل أهله وما خفّ من ذخائره ولحق
بالزاب. وطيّر أهل توزر بالخبر إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فرنجيزة.
[2] وفي نسخة ثانية: نغزاوة.
(6/563)
السلطان فلقيه أثناء طريقه، وتقدّم إلى
البلد فملكها واستولى على ذخيرتها ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من
الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يعدّ لأعظم ملك من
ملوك الأرض، وأحضر بعض الناس ودائع كانت لهم عنده من نفيس الجواهر
والحلي والثياب وبرءوا منها إلى السلطان.
وعقد السلطان على توزر لابنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول، وجعل إليه
إمارتها واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وآتاه
طاعته، وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر، وأنزله معه وقفل إلى
حضرته. وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلّبه على أمصار الجريد إلى
التلول، فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفلّ من عزمهم،
وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤمّلون منها ظفرا لما كان ابن يملول قد
منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه
فدافعهم بالمواعدة، وتبينوا منها عجزه وانكفئوا راجعين. ووفد صولة على
السلطان بعد أن توثق لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء، ورجع إليهم فلم
يرضوا بشرطه ونهض السلطان من الحضرة في العساكر الأولياء من العرب،
وأجفلوا أمامهم فأتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرّات وافقوه فيها. ثم أجفلوا
ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان والاشتراط له كما يشاء،
فتقبّل ووسعهم عفوه، وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان
ومرضاته، وهم على ذلك لهذا العهد.
(الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف)
لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان. وعقد له
مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله، ونزل بتوزر مع المنتصر. ثم
سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبثّ عليه العيون والأرصاد، وعثر
على كتابه بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير
الزواودة يحرّضهما على الفتنة، فتقبّض عليه وأودعه السجن. وبعث عمّاله
إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره، وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد
أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف. وكان السلطان قبل فتح نفطة قد
نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي يزيد، وسار في ركابه إليها. فلما
(6/564)
استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه،
وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحلّه وعقده، وطوى على البيت
[1] . ثم حدّثته نفسه بالاستبداد وتحيّن له المواقيت واتفق أن سار
الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد
الله الترمكي [2] من مواليهم، وكان السلطان أنزله معه وولّاه حجابته،
فلمّا توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي يزيد عنفة من الأوغاد وطاف
في سكك المدينة والمهاتفة معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة. وتقدّم إلى
القصبة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت عليه. وقرع عبد
الله الطبل بالقصبة واجتمع إليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة
يفضي إلى الغابة فكثروا ومنع [3] ابن أبي يزيد، وتسلل عنه الناس فلاذ
بالاختفاء. وخرج القائد من القصبة فتقبّض على كثير من أهل الثورة
وأودعهم السجن واستولى على البلد. وسكّن الهيعة وطار الخبر إلى المولى
أبي بكر فأغذّ السير منقلبا إلى قفصة، ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين
من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي يزيد
وأخيه. ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي
النساء فتقبّضوا عليهما وتلوّهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في
جذوع النخل. وكانا من المترفين فأصبحا مثلا في الأيام وقد خسرا دينهما
ودنياهما، وذلك هو الخسران المبين، وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ
بابن الخلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم
السلطان أمصار الجريد كلّها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكره
إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة
السلطان)
هذه البلد لم تزل في هذه الدولة الحفصيّة لبني مكي المشهور ذكره في هذه
العصور وما إليها، وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده
لهم فيما بعد، وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا
لأوّل أيام ولاية قابس سنة ثلاث
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وطوى على النث وقد ورد في القاموس: نث الخبر
أفشاه، ونث الجرح دهنه.
[2] وفي نسخة ثانية: التريكي.
[3] وفي نسخة ثانية: شيع.
(6/565)
وعشرين وستمائة فاختصّوا به، وداخلهم في
الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عند ما استجمع لذلك، فأجابوه
وبايعوه فرعى لهم هذه الوسائل عند ما استبدّ بإفريقية، وأفردهم برياسة
الشورى في بلدهم. ثم سموا إلى الاستبداد عند ما فشل ريح الدولة عن
القاصية بما حدث من الفتن وانفراد الثغور الغربية بالملك. ولم يزالوا
جانحين إلى هذا الاستبداد ورامقين إليه بنظر العين [1] والانتقاض على
السلطان، ومداخلة الثّوار والإجلاب بهم على الحضرة. والدولة أثناء ذلك
في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من
انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبة الحضرة.
ثم استبدّ مولانا السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصيّة في سائر عمالات
إفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الإجلاب على الحضرة
مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرّة بعد
أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى إفريقية. وكان المتولي
الرئاسة بقابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد ابن عبد الملك ورديفه
فيها أخوه أحمد، وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الاجلاب على
الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم. وربّما خالفوا السلطان إلى
الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع لهم مع عبد الواحد بن اللحياني، وقد
مرّ ذكر ذلك. فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني
زيّان فزع السلطان أبو بكر لهؤلاء الثّوار الرؤساء بالجريد الدائنين
بالانتقاض سائر أيامهم. وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي
بالسلطان أبي الحسن متذمما بشفاعته، بعد أن كان الركب الحجازي من
المغرب مرّ بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءهم وسائر الركب
قرى وحباء. وقدّموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فقبل السلطان وسيلتهم
وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعا فيهم لذمّة السلطان والصهر
فتقبّل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوه.
ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وماج بحر الفتنة وعادت الدولة إلى حالها
من الانقسام وانسدّت [2] على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو
مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة. وقطع
أسباب الطاعة ومنع المغارم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سانحين إليه بثأر الفتن.
[2] وفي نسخة ثانية: [؟]
(6/566)
والجباية ومشايعة صاحب الغربية ركونا على
صاحب الحضرة. فلما استبدّ مولانا السلطان أبو العبّاس بالدعوة الحفصية
وجمع الكلمة، واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه
العصور الجريديّة وتحدّثوا بما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه، والامتناع
عليه.
وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسلة [1] الفتن وانحياشه إلى
الثوار، وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وسبعمائة، وانفرد
هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن، وأجمعوا جميعا على تجييش
العرب على السلطان وتسريب الأموال ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك
إفريقية، فانتدبوا لذلك من كل ناحية، وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان
فأطمعهم من نفسه، وعلّلهم بالمواعيد الكاذبة، والسلطان أبو العبّاس
مقبل على شأنه يقتّل لهم في الذروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل
الذين كانوا يغزونهم بالمدافعة عنهم، وافتتح قفصة وتوزر ونفطة. وتبيّن
لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم، فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة
السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية، ويستدعي لاقتضاء ذلك
منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك، وبعث أمره إليه [2] ورجع إلى الحضرة في
انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض وردّه بالوعد.
ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب، وركبوا
إليه فحاصروه وضيّقوا عليه، واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر
صاحب قفصة فأمدّهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتدّ الحصار، واتهم ابن مكي
بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم، وتنكّرت له الرعيّة
وساءت حاله، ودسّ إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت
العسكر المحاصرين له، واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال، فجمعوا لهم
وبيّتوهم فانفضّوا ونالوا منهم. وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع
الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة،
وتلوّم أياما حتى استوفى العطاء واعترض العساكر، وتوافت أحياء أوليائه
من أولاد مهلهل وحلفائهم من سائر سليم. ثم ارتحل إلى القيروان، وارتحل
منها يريد قابس، وقد استكمل التعبية وبادر إلى لقائه والأخذ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مراسه.
[2] وفي نسخة ثانية: وبعث وافده إليه.
(6/567)
بطاعته مشيخة ذباب أعراب من بني سليم. ووفد
منهم خالد بن سبّاع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمّه عليّ بن راشد فيمن
إليهم يستحثّونه إلى منازلة قابس، فأغذّ السير إليها وقدّم رسله بين
يديه بالإنذار لابن مكي. وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى
الطاعة. ثم احتمل رواحله وعبّى ذخائره وخرج من البلد، ونزل على أحياء
دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي مالك [1] لها منذ
سنين من قبل.
واتصل الخبر بالسلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته،
واستولى على منازل ابن مكي وقصوره. ولاذ أهل البلد بطاعته وولّى عليها
من حاشيته، وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان
بالطاعة والانحياش، ووافته رسله دون قابس. فلما استكمل فتحها بعث إليه
من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة، وأقام عبد الملك بن مكي بعد
خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل. ثم بغته الموت فهلك ولحق
ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من
قراها في كفالة الجواري من بطون ذباب. ولما استكمل السلطان الفتح
وشئونه انكفأ راجعا إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة
ولحق إليه رسوله [2] من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما
فيه الوفاء بمغارمه بزعمه.
ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو
عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك. ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله
أبو صعنونة شيخ حكيم، ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة.
واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين
وسبعمائة، والله مالك الأمور لا رب غيره.
(الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما
اكتنف ذلك من الأحوال)
كان هؤلاء الرؤساء المستبدّون بالجريد بالزاب منذ فرغ السلطان لهم من
الشواغل،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الهالك.
[2] وفي نسخة أخرى: ولحقه رسله.
(6/568)
واسترابوا المغبّة حالهم معه ومراوغتهم له
بالطاعة يرومون استحداث الشواغل ويؤمّلون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا
حمو الأخير، وأنه يأخذ بحجزته عنهم إن وصلوا به أيديهم واستحثوه لذلك
لإيلافهم مثلها من سلف قومه. وأبي حمو بن تاشفين من قبله قياسا متورّطا
في الغلط بعيدا من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور
من الضعف والزمانة، وما أصاب قومهم من الشتات بأيديهم وأيدي عدوّهم
وتقدّمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره واشتهار
مثلها من سلفه فاتبعوه وقلّدوه وغطّى هواهم جميعا على بصيرتهم. وقارن
ذلك نزول الأمير أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو على ابن
يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه، وكان طارد به
أياما. ثم راجع أبو حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فخرج من أعمال
تلمسان وأبعد المذهب عنهم ونزل على ابن يملول بتوزر.
وطيّر الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي
زيّان، وأنّ تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم، وإجابته
إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهبا وجائيا حتى أعيت الرسل
واشتبهت المذاهب ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شرط
التوثّق من أبي زيّان. وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد
وشرّد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفّل الرؤساء به بالمدافعة. وافتتح
قفصة وتوزر ونفطة ولحق يحيى بن يملول ببسكرة، واستصحب الأمير أبا زيّان
فنزل علي ابن مزني وهلك لأيام قلائل كما ذكرناه.
واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن عليّ شيخ رياح بأمره مع السلطان لما
سلف منه من مداخلة هؤلاء الرهط وتمسّكهم بحقويه والمبالغة في العذر
عنهم. ثم غدرته أنصاره [1] من مشيخة الزواودة وانحاشوا إلى السلطان
فأفاض عليهم عطاءه، واختصّهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب،
وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة
يستحيثه لهؤلاء الرهط ويهزّه بها إلى البدار بصريخهم.
ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد، وأوفد عليه ابنه فتعلّل لهم
بمنافرة حدثت
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثم غيرته بأنظاره.
(6/569)
في الوقت بينه وبين صاحب المغرب، وأنه لهم
بالمرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان [1] أبي العبّاس ليتمسك بذلك
طرق التوثّب من أبي زيّان وربما دسّ، لهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في
غيابات السجون. وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان طائف من المرض أرجف له
المفسدون بالجريد ودسّ لشيع ابن يملول بتحيّزه إلى صبيّ من أبناء يحيى
مخلف ببسكرة، فذهل ابن المزني عن التثبت لها ذهابا مع صاغية الولد
وأوليائه، وجهّزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها
بالمال، وأغذّوا السير توزر على حين غفلتهم من الدهر وخفّ من الجند
فجلى المنتصر وأولياؤه في الامتناع، وصدق الدفاع وتمحضت بهذه الانالة
طاعة أهل توزر ومخالصتهم وانصرف ابن يملول بإخفاق من السعي واليم من
الندم وتوقع للمكاره.
ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي فرجّعه من المغرب فبالغ في تغييبهم
بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع الغني عن الواقع [2]
.
وكان السلطان لأوّل بلوغ الخبر بإجلابهم على توزر وممالأة ابن مزني على
ابنه وأوليائه، أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة، وفتح ديوان
العطاء وجهّز آلات الحصار. وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجيّا ونقضوا
عنه آراءهم فتمحّض لهم اعتقال أبي زيّان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على
زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات، وتورّطوا في اخفار ذمته، وطيّروا
بالصريخ إلى أبي حمو، وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم
والإعاضة بالمال، فتبينوا عجزه ونبذوا عهده، وبادروا عليه السبيل لأبي
زيّان العذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمرهم فارتحل عنهم ولحق
بقسنطينة. وحملهم يعقوب بن عليّ على اللياذ بالطاعة، وأوفد ابن عمه
متطارحا وشافعا فتقبّل السلطان منه وسيلته [3] وأغضى لابن مزني عن
هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصة سرّه أبي عبد الله ابن أبي هلال
ليتناول منه المخالصة. ويمكن له الألفة ويمسح عنه هواجس الارتياب
والمخافة.
وكان قد انتهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة، وارتحل السلطان في ذي
القعدة آخر سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة لتفقّد عمّاله وابتلاء الطاعة
من أهل أوطانه. ولما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: نهوض السلطان أبي العباس إليهم، تمسّك بذلك طرف
التوثق من أبي زيان.
[2] وفي نسخة أخرى: المعيي على الراقع.
[3] وفي نسخة ثانية: فتقبّل السلطان فيئته ووسيلته.
(6/570)
وصل وافد السلطان إلى أبي مزني ألقى زمامه
إليه وحكمه في ذات يده وقبله، ومحا أثر المراوغة واستجدّ لبؤس الانحياش
والطاعة، وبادر إلى استجادة المقرّبات وانتقاء صنوف التحف. وبعث بذلك
في ركاب الوافد فدفع الّذي عليه من الضريبة المعروفة محملا أكباد جياده
[1] وظهور مطاياه، ووصلوا إلى معسكر السلطان بساح تبسة فاتح سنة ثلاث
وثمانين وسبعمائة فجلس لهم السلطان جلوسا فخما ولقاهم قبولا وكرامة،
فعرضوا الهدية، وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان
وشملهم إحسان السلطان في مقامتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم،
وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحسانا ونعمة وظفروا برضا السلطان وغبطته،
وحسبهم بها أمنيّة وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب.
(الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم
مراجعتهم الطاعة)
قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر
منصرفه من فتح قابس، وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبّلهم وعفا عن
كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم، واقتضى بالوفاء على ذلك أيمانهم.
وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكريا في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة
التي استأثروا بها في مدّة هذه الفتن.
وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيم حتى استوفى جبايته وجال
في أقطار عمله. ثم انكفأ راجعا إلى الحضرة، ووفدوا معه على السلطان
يتوسّلون به في أفعالهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على
العادة واستيفاء اقطاعاتهم، فسرّح السلطان معهم لذلك ابنه أبا فارس
وارتحلوا معه بأحيائهم، وكان ابن مزني وابن يملول من قبله ويعقوب بن
علي كثيرا ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف
ومشايعة صاحب تلمسان.
ولما اعتقلوا أبا زيّان ببسكرة كما ذكرناه وتوفي بصريخ أبي حمو
ومظاهرته. فنبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل وفزعوا إلى العلاق
بيعقوب بن علي رجاء فيما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اكتاد ثقاته.
(6/571)
توهّموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان
ويأسا من معاودة التغلّب الّذي كان لهم على ضواحي إفريقية، ففارقوا
الأمير أبا فارس بعد أن بلغوه مأمنه من قفصة، وساروا بأحيائهم إلى
الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية، ووافوا يعقوب وابن مزني،
وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم، والأمير أبو زيان قد انطلق
لسبيله عنهم، فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم،
وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد ابنه محمدا في ذلك مع وافد
العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي جلال فتقبّلهم وأحسن التجاوز عنهم.
وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أمانا لهم وتأنيسا. وبذل لهم فوق ما
أمّلوه من مذاهب الرضا والقبول واتصل النجح والظهور، والحمد للَّه
وحده.
(تغلب ابن يملول على توزر وارتجاعها منه)
قد كان تقدّم لنا أنّ يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة خلّف صبيا اسمه أبو
يحيى، وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة ثنتين وثمانين وسبعمائة مع لفيف
أعراب رياح ومرداس. فلما كان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بعدها وقعت
مغاضبة بين السلطان وبين أولاد مهلهل من الكعوب، وانحدروا إلى مشاتيهم
بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبيّ أبي يحيى من بسكرة،
فنزل بأحيائه بساح توزر، ودفع الصبيّ إلى حصارها، واجتمع عليه شيعته من
نواحي البلد وأشراف [1] من أعراب الصحراء، وأجلبوا على البلد وناوشوا
أهلها القتال وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياما. ثم تداعى
شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد، ثم دخلوا
عليهم، وخرج المنتصر ناجيا بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب.
واستذمّ به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة، وبها عاملها عبد الله
التريكي.
واستولى ابن يملول على توزر، واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائر توزر
في أعطيات العرب، وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها، ولم يحصل على
رضاهم وبلغ الخبر إلى السلطان بتونس، فشمّر عزائمه وعسكر بظاهر البلد،
واعترض الجند
__________
[1] وفي نسخة أخرى: أو شاب.
(6/572)
وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربض وهو
يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي
الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم، حتى نزل على فحص تبسة فأراح بهم
أياما حتى توافت أمداده من كل ناحية ونهض يريد توزر. ولما احتلّ بقفصة
قدم أخاه الأمير أبا يحيى وابنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة
بن خالد بقومه أولاد أبي الليل، وسار على أثرهم في التعبية. ولما انتهى
أخوه وابنه إلى توزر حاصروها وضيّقوا عليها أياما. ثم وصل السلطان فزحف
إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوما إلى المساء، ثم باكروها
بالقتال فخذل ابن ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجيا بنفسه إلى حلل
العرب، ودخل السلطان البلد واستولى عليه وأعاد ابنه إلى محل إمارته
منه، وانكفأ راجعا إلى قفصة، ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين وسبعمائة.
(ولاية الأمير زكريا ابن السلطان على توزر)
ثم عاد ابن يملول إلى الاجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان
في عساكره فكرّ راجعا إلى الزاب ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك ابنه
المنتصر، وتظلّم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوريّ الّذي كان حاجبا
للمنتصر فسمع شكواهم، وأبلغ إليه الخاصّة سوء دخلته وقبيح أفعاله
فتقبّض عليه بقفصة واحتمله مقيّدا إلى تونس. وغضب لذلك المنتصر وأقسم
لا يلي على توزر. وسار مع السلطان إلى تونس وولّى السلطان على توزر
الأمير زكريا من ولده الأصاغر لما كان يتوسّم فيه من النجابة فصدقت
فراسته فيه وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها، وقام باستئلاف الشارد من
أحياء العرب وأمرائهم حتى تمّ أمره وحسنت ولايته. والله متولي الأمور
بحكمته لا إله إلا هو.
(وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية)
كان السلطان لما سار إلى فتح تونس وولّى على بجاية ابنه محمدا كما مر
وأقام له حاجبا
(6/573)
وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم
البلد وقائد الأسطول المتقدّم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد
ورماتهم. فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام
واصطنع أبي مهديّ أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمه
في سلطانه، ويراقب مرضاة السلطان في أحواله، والأمير يعرف له ذلك
ويوفيه حقّه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين وسبعمائة فتوفي
على فراشه آنس ما كان سربا وآمن روعا مشيعا من رضى أبيه ورعيته بما
يفتح له أبواب الرضى من ربه، وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ
العهد لابنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه وجعل كفالة أمره
لابن أبي مهدي مستبدّا عليه واستقامت الأمور على ذلك.
(حركة السلطان الى الزاب)
كنت أنهيت بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من أيدي ابن يملول وأنا يومئذ
مقيم بتونس، ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين وسبعمائة إلى بلاد
المشرق لقضاء الفرض، ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر، ثم صارت أخبار المغرب
تبلغنا على ألسنة الواردين، فمن أوّل ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن
السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين وسبعمائة. ثم بلغنا بعدها حركة السلطان
إلى الزاب سنة ست وثمانين وسبعمائة، وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة
والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة متحيّزا على السلطان وكان يمنع في أكثر
السنين المغارم معوّلا على مدافعة العرب الذين هلكوا بضواحي الزاب
والتلول دونه، وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب بن عليّ وقومه الزواودة، وقد
مرّ طرف من أخباره مثبوتا في أخبار الدولة. وكان ابن يملول قد أوى إلى
بلده واتخذ وكرا في جوّه وأجلب على توزر مرارا برأيه ومعونته فاحفظ على
ذلك السلطان ونبّه له عزائمه.
ثم نهض سنة ست وثمانين وسبعمائة يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد
الجنود واستألف العرب من بني سليم فساروا معه وأوعبوا، ومرّ على فحص
تبسه. ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب، واعصوصب
الزواودة ومن
(6/574)
معهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة
والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني
سبّاع بن شبل من الزواودة، فإنّهم تحيّزوا إلى السلطان. استنفر ابن
مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأثبج فغصّت بسكرة بجموعهم وتواقف
الفريقان، وأنالهم السلطان القتال أياما وهو يراسل يعقوب بن علي
ويستحثّه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني، ويعقوب يخادعه
بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع
أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى، فتقبّل السلطان نصيحته في
ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها، وقبل طاعته وضريبته المعلومة، وانكفأ
راجعا، ومر بجبل أوراس ثم إلى قسنطينة فأراح بها، ثم ارتحل إلى تونس
فوصل إليها منتصف سنة ثمانين وسبعمائة أهـ.
(حركة السلطان الى قابس)
كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وانتظمها في
أعماله وشرّد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس وهلك كبيرهم عبد
الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد، وذهب ابنه يحيى إلى الحجّ، وأقام عبد
الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها. واستتبّ له ذلك
بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف بن الآبار من صنائع السلطان
بقبحّ إيالته وسوء سيرته، فداخلوا جماعة من شيعة ابن مكي في ضواحي قابس
وقراها وواعدوهم فجاءوا لميعادهم وعبد الوهاب معهم، واقتحموا باب البلد
وقتلوا البوّاب. وقصدوا ابن الآبار فقتلوه في مسكنه سنة اثنتين وثمانين
وسبعمائة وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه.
وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مرارا يروم ملك البلد منه فلم
يتهيّأ له ذلك ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها،
فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة وبذل له المال على أن يمكّنه منه فبعث
به إليه فاعتقله بعض العروسيين، وأقام يراوغ السلطان على الطاعة ويبذل
ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه، ومنع الضريبة التي
كانوا يؤدّونها للسلطان أيام طاعتهم، والسلطان مشغول عنهم بهمّه، فلما
فرغ من شواغله بإفريقية والزاب
(6/575)
نهض إليه سنة تسع وثمانين وسبعمائة بعد أن
اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه.
ونزل على قابس وقد استعدّ لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها،
وجثم عليها بعساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من ألفافها
براحا وموّج الهواء في ساحتها، فصحّ إذ كانوا يستوخمونه لاختفائه بين
الشجر، في مكائف الطلال وما يلحقه في ذلك من التعفّن، فذهب عنها ما كان
يعهد فيها من ذلك الوخم رحمة من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان
وربما صحّت الأجسام بالعلل ولما اشتدّ بهم الحصار وضاق المخنق، وظنّ
ابن مكي أنه قد أحيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمّنه ورهن
ابنه على الطاعة أداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعا إلى
تونس، واستقام ابن مكي حتى كان من تغلّب عمه يحيى عليه ما نذكره.
(رجوع المنتصر الى ولايته بتوزر وولاية أخيه زكريا على نفطة ونفزاوة)
كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته واصفقوا [1] على
محبته والتشيّع له، فلمّا رجع السلطان عن قابس وقفوا إليه في طريقه إلى
أن تولى المنتصر على بلاد الجريد كما كان ورده إلى عمله بتوزر. وتولّى
ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج واعترضوا بهنّ السلطان
سافرات مولولات دخلاء عليه في إعادة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من
المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده الى توزر، ونقل ابنه زكريا إلى
نفطة وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمل بعمله وأظهر من
الكفاية والاضطلاع ما تحدّث به الناس عنه، وكانت ولايته أوّل سنة تسعين
وسبعمائة.
(فتنة الأمير إبراهيم صاحب قسنطينة مع
الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها)
كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتّب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم
من البلاد في
__________
[1] بمعنى أجمعوا.
(6/576)
التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق
الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصارت العرب يزرعون الأراضي في
بلادهم بالمسيل ولا يحتسبون بمغارمها فضيق الدخل يمنعهم العطاء من أجل
ذلك، فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم. ولما رجع الأمير
إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس، وكان منذ أعوام ينقص من
عطائهم لذلك، ويعلّلهم بالمواعيد، فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه
وطلبوا منه عطاءهم فتعالى، وجاءه يعقوب بن عليّ مرجعه من الحج وأشار
عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه، وتركه
ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من
أولاد سبّاع بن شبل وأولاد سبّاع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان ورياح،
وخرج يعقوب من التل فنزل على نفاوس فأقام بها، وانطلقت أيدي قومه على
تلول قسنطينة بالنهب وانتساف الزرع حتى اكتسحوا عامّتها ولحقوا به
مالئي اليد مثقلي الظهر.
ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين وسبعمائة ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه
بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد. واستمرّ على العصيان وصعد إلى التل
في منتصف إحدى وتسعين وسبعمائة واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من
الزواودة وأحلافهم من البادية جنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن
علي بما معه من أولاد عائشة أمّ عمر، وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن
يعقوب، وتحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة ثم جمع السلطان
لحربهم ودفع عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك.
وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم
عامهم ذلك بالزاب، وانحدروا منه إلى المشاتي فلمّا رجعوا من مشاتيهم
وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه، وكاد
أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة. ثم ارتحلوا
صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه. وبينما هو في
ذلك ألمّ به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وافترقت
جموعه وأغذّ محمد بن يعقوب السير إلى نواحي قسنطينة فاحتلّ بها مظهرا
للطاعة متبرئا من الخلاف، ونادى في أهل البلاد بالأمان العمارة فصلحت
أحوال الرعايا والسابلة. وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين
فأمّنهم وأعتبهم وأقام بقسنطينة مكان إبراهيم ابنه، وبعث من حضرته محمد
ابن
(6/577)
مولاه بشير لكفالته والقيام بدولته فقام
بأمرها، وصلحت الأحوال والله بيده تصاريف الأمور.
(منازلة نصارى الإفرنج المهدية)
كانت أمّة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم تغلّب ودولة
بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره ومثل: سردانية وميورقة وصقلّيّة،
وملأت أساطيلهم فضاءه وتخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها،
وعادت لهم سورة الغلب في هذا البحر بعد أن كانت سورة المسلمين فيه لا
تقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومراكبه [1] فغلبهم الفرنج
وعادت السورة لهم، وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياما. ثم فشل
ريح الفرنجة واختلّ مركز دولتهم بإفرنسة، وافترقت طوائف في أهل برشلونة
وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانيّة، وأصبحوا دولا
متعدّدة فتنبّهت عزائم كثيرة من المسلمين بسواحل إفريقية لغزو بلادهم،
وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير [2] والطائفة من
غزاة البحر، يضعون الأسطول ويتخيّرون له أبطال الرجال، ثم يركبونه إلى
سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه،
ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالبا ويعودون
بالغنائم والسبي والأسرى، حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية
بأسراهم تضجّ طرق البلاد بضجّة السلاسل والأغلال عند ما ينتشرون في
حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذّر منه أو يكاد، فشقّ ذلك على أمم
الفرنجة وملأ قلوبهم ذلّا وحسرة وعجزوا عن الثأر به، وصرخوا على البعد
بالشكوى إلى السلطان بإفريقية فصمّ عن سماعها وتطارحوا سهمهم ونكلهم
[3] فيما بينهم وتداعوا النزول المسلمين والأخذ بالثأر منهم.
وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرّح ابنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل
النواحي ويكون رصدا للأسطول هنالك، واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن
وراءهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مران راكبيه.
[2] وفي نسخة ثانية: فيجمع النفراء.
[3] وفي نسخة أخرى: وتطارحوا بثهم وثكلهم.
(6/578)
ويجاورهم من أمم النصرانية، وأقلعوا من
جنوة فحطّوا بمرسى المهديّة منتصف اثنتين وتسعين وسبعمائة وطرقوها على
حين غفلة وهو على طرف البرّ داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا
عندها، وضربوا عند أوّل الطرق سورا من الخشب بينه وبين البر حتى صار
المعقل في حكمهم، وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكّنوا من
قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين، وصنعوا برجا من الخشب من جهة
البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم، وتحصّن أهل البلد وقاتلوهم
صابرين محتسبين.
وتوافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة.
وبلغ الخبر إلى السلطان فأهمّه أمرها وسرّح العساكر تترى إلى مظاهرتهم.
ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر
فانطلقوا لجهاد هذا العدوّ، واستنفر المقاتلة من الأعراب وغيرهم
فاجتمعت بساحتها أمم، وألحّوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى
أحجروهم في سورهم. وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة
جلّى فيها أبناء السلطان، وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورّط لولا
حماية الله التي وقته. ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من
أسوار البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه. ثم
ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم، وخرج أهل المهديّة يتباشرون
بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم، «وَرَدَّ الله
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى الله
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» 33: 25. وأمر الأمير أبو يحيى برمّ ما تثلّم
من أسوارها، ولم ما تشعّث منها، وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم
وأظهرهم على عدوّه وعدوّهم، والله تعالى ينصر من يشاء وهو القوي
العزيز.
(انتقاض قفصة وحصارها)
كان السلطان أبو العبّاس قد ولّى على قفصة عند ما ملكها ابنه الأمير
أبا بكر وأقام في خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي
جدّهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا. ثم تجافى عن
إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فجعل السلطان
أمر قفصة لعبد الله التريكي وولّاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه. ولم يزل
بها واليا إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة وولّى السلطان
(6/579)
مكانه محمدا ابنه، وكان له إخوة أصاغر
أبناء علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها، وأغراهم به محمد
الدنيدن من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد، وكان
فيها عدلا معقلا، فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه، وأبقاه السلطان
بالبلد فأغرى هؤلاء الإخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان.
ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم
أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثّب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة
البلد كما كان قومه، والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار
والإنذار، وهم قد لجّوا في طغيانهم. ثم جمع جنوده واحتشد واستألف
الأعراب ووفّر لهم الأعطيات. ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس
وتسعين وسبعمائة وقد استعدّوا وتحصّنوا فألحّ عليهم القتال وأذاقهم
النكال، وقطع عنهم الميرة فضيّق محنقهم. ثم عدا على نخلهم يقطعها حتى
صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها.
ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق، فخرج شيخهم الدنيدن إلى
السلطان يعقد معه صلحا على بلده وقومه فغدر به، وحبسه رجاء أن يملك
بذلك البلد. وكان بعض بني العابد واسمه عمرو بن الحسن قد انتبذ عن قفصة
أيام نكبتهم وأبعد في المغرب، ثم رجع ونزل بأطراف الزاب. ولما استقل
الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياما ثم استراب به وتقبّض عليه
وحبسه. فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة،
وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم. وسرّبوا
إليهم الأموال فتصدّى إلى الدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد
أبي الليل، وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد، وكان أولياؤه من
العرب قد أبعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلّا إطلاق صولة
برايته في قومه فأجفل واتبعوه. وما زال يكرّ عليهم في بنيه وخواصّه حتى
ردّهم على أعقابهم.
وأغذّ السير إلى تونس وهم في اتباعه، ولم يظفروا منه بعقال إلّا ما كان
من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته. ثم ندم صولة على ما كان
منه وراسل السلطان بطاعته فلم يقبله، وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين
وسبعمائة.
واستدعى ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر وأنزل معه عليها قومه
فجلّى الأمير المنتصر ابن السلطان في دفاعهم والامتناع عليهم حتى
يئسوا، واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين. وصعد صولة إلى التلال
للمصيف به، وعاود الرغبة من
(6/580)
السلطان في قبول طاعته. وكان محمد الدنيدن
لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية، فلمّا وصل إلى تونس أرسل
أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه أشياعه، ودخل البلد فبدر به عمر بن
العابد وكبسه بمكانه الّذي نزل به وقتله، واستبدّ بمشيخة قفصة وخشي أهل
قفصة من غائلة السلطان وسوء مغبّة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم،
وشرط عليهم نزول عامله عندهم، وهذا آخر ما بلغنا عنهم والله مصرف
الأمور بحكمته.
(ولاية ابن السلطان على صفاقس واستيلاؤه
منها على قابس وجزيرة جربة)
هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الّذي كان أميرا بقسنطينة،
وكان في كفالة أخيه إبراهيم. فلمّا توفي كما مرّ لحق بالسلطان أبيه
وأقام عنده. ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدّمناه
واضطرب قومه من بعده، ونزع قائدهم ورئيسهم ابن خلف إلى السلطان فبعث
معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة لحصار طرابلس، وأقام
عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها، حتى ضجروا وضجر من طول
المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين
وسبعمائة ووافاه جاثما على قفصة عند ما انتقضوا عليه، وقد مرّ في طريقه
على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجين
فأنف من ذلك، وشكاه إلى أبيه فولّاه على صفاقس، ووعده بولاية جربة فسار
هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة، وانضمّ إليه جميع من بها من
القبائل. وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان
الفرنج، حتى كاتب السلطان فأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن
الجزيرة أجمع، فأستبدّ بها. ثم إنّ الأمير عمر سما إلى ملك قابس، فداخل
أهل الحامة في ذلك فأجابوه وساروا معه بجموعهم سنة ست وتسعين وسبعمائة
فبيّتها وملكها، وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه،
وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقلّ بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان
بيده، والله وارث الأمور
.
(6/581)
(وفاة السلطان أبي
العباس وولاية ابنه أبي فارس عزوز)
كان السلطان أبو العبّاس أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره
يحمل على البغال في المحفّة. ثم اشتدّ به آخر عمره وأشرف في سنة ست
وتسعين وسبعمائة على الهلكة. وكان أخوه زكريا رديفه في الملك والمرشّح
بعده للأمر، وابنه محمد واليا على بونة موضع إمارته من قبل. وكان
للسلطان أولاد كثيرون يتطاولون على أبيهم ويغصون بعمهم زكريا، ويخشون
غائلته بعد أبيهم، فلمّا قارب السلطان منيته اشتدّ جزعهم وإشفاقهم من
عمهم. وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين
يدي موته، واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده إلى أبي فارس عزّوز فقبضوا
على عمهم زكريا وقد دخل يعود أخاه، وأودعوه في بعض الحجر ووكّلوا به،
وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست
وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجا من الأعيان والكافة فتمّت
بيعته، وأمر بنقل ما في بيوت عمّه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى
استوعبها، وضيّق عليه في محبسه، وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه. وولّى
بعض إخوته على منابر عمله بإفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على
المهديّة، وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس، وأحلّ الباقين محل الشورى
والمفاوضة.
وبلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام
بها. وكذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بالجبال بنفزاوة. وكان أخوه أبو بكر
لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبيل وفاته ومرّ ببونة فلقيه صاحبها
الأمير محمد ابن عمّه زكريا بما شاء من أنواع الكرامة والمبرّة ووافى
قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم
إيّاه، وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها. وكان خالصة السلطان
أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي
العبّاس بن سالم في صفر من شهور السنة، وحمّله من الهدايا والتحف ما
يليق بأمثالهما فسار. فلمّا انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان
مرسلة وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة [1]
__________
[1] وفي طبعة بولاق المصرية: قسطنطينة وكذا في النسخة التونسية. وفي
معجم البلدان: قسنطينية. وفي كتب التاريخ الحديثة: قسنطينة.
(6/582)
بالرجوع إليه فرجع بهديته، واستقرّ عنده
هنالك.
(هذا آخر ما بلغنا) من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين وحالهم على
ذلك لهذا العهد، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء لا ربّ سواه، ولا معبود
إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير.
(6/583)
(الخبر عن بني مزني
أمراء بسكرة وما إليها من الزاب)
هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد، وحدّه من لدن قصر
الدوسن بالمغرب إلى قصور هولة [1] وبادس في المشرق، يفصل بينه وبين
البسيط الّذي يسمّونه الحضنة جبل جاتم من المغرب إلى المشرق، ذو ثنايا
تفضي إليه من تلك الحضنة، وهو جبل درن المتّصل من أقصى المغرب إلى قبلة
برقة. ويعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من
زناتة، ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكرة المعترض في ذلك
البسيط من القبلة إلى الجوف [2] .
وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر عن بعض ساكنيه. وهذا الزاب وطن كبير
يشتمل على قرى متعدّدة متجاورة جمعا جمعا، يعرف كلّ واحد منها بالزاب.
وأوّلها زاب الدوسن، ثم زاب طولقة ثم زاب مليلة وزاب بسكرة وزاب تهودا
وزاب بادس.
وبسكرة أمّ هذه القرى كلها، وكانت مشيختها في القديم بعد الأغالبة
والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة من بني رمّان من أهلها بما كثروا
بساكنها. وملكوا عامّة ضياعها. كان لجعفر بن أبي رمّان منهم له صيت
وشهرة.
وربّما نقضوا الطاعة لعهد بلكّين بن محمد بن حمّاد صاحب القلعة في سني
خمسين وأربعمائة، وضبطوا البلد وامتنعوا. وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي
رمانة، ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حديدة [3] من
صنائع الدولة فاقتحمها عليهم، واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكّين
جميعا، وجعلهم عظة لمن بعدهم.
وأصار الشوري لبني سندي من أهلها. وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في
الطاعة وانحياش إلى الدولة على حين تقلّص ظلّها وفشل ريحها، وألوى
الهرم بشبابها.
وهو الّذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي بعد وصوله من المشرق واجتلابه
على السلطان بقومه من مغراوة أغرى بالأثبج [4] وبني عديّ وبني هلال،
فمكر به
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنوّمه.
[2] وفي طبعة بولاق: الى الشمال.
[3] وفي طبعة ثانية: خلف بن أبي حيدرة.
[4] وفي طبعة ثانية: وأعراب الأثبج ...
(6/585)
السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغه طعمة.
ودسّ إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدّمنا ذكره في أخبار آل حمّاد.
وانقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من إفريقية. وجاءت دولة
الموحّدين، والذكرة والبيت لبني زيّان [1] .
وكان بنو مزني لفقا [2] من لفائق الأعراب، وصلوا إلى إفريقية أحلافا
لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدّمنا.
ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج. ثم من
بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف، واسم أبيهم مزنة
بن ديفل بن محيّا بن جرى، هكذا تلقيته من بعض الهلاليّين، وشهد لذلك
الموطئ، فإن أهل الزاب كلّهم من أفاريق الأثبج عجزوا عن الظعن ونزلوا
قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح، وإنما ينزعون عن هذا
النسب إلى فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع،
فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب. وكان أوّل نزولهم بقرية من
قرى بسكرة وكانت تعرف بقرية حيّاس. ثم كثروا وتسايلوا وأخذوا مع أهل
بسكرة بحظ وافر من تملّك العقار والمياه.
ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال، وقاسموا أهلها
في الحلو والمرّ، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة. ثم استنكف
بنو زيان [3] من انتظامهم معهم وحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله،
وحذّروهم من أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن، وكان أوّلها
الكلام والترافع إلى سدّة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص
بإفريقية، ولعهد الأمير أبي زكريا وابنه السلطان مستنصر.
ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا بسكك المدينة وكانت صاغية الدولة مع بني
زيان لقدمهم في البلد. ولما خرج الأمير أبو إسحاق على أخيه محمد
المستنصر لأوّل بيعته، ولحق بالزواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد
بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ، واعتمر به بسكرة وبلاد الزاب، وأناخ
عليها بكلكله كما قدّمناه. قام يومئذ فضل بن عليّ بن أحمد بن الحسن بن
علي بن مزني بدعوته، وأعلن بين أهل البلد بطاعته
__________
[1] وفي طبعة ثانية: والكثرة والبيت لبني رمّان.
[2] يقال للرجلين هما لفقان أي لا يفترقان.
[3] وفي نسخة ثانية: بنو رمّان.
(6/586)
واتبعوه على كره. ثم عاجلتهم عساكر السلطان
وأجهضتهم [1] عن الزاب، فاعتلق فضل بن عليّ به، واستمسك بذيله وصحبه في
طريقه إلى الأندلس، وبدا غربته منها إلى أن هلك المستنصر أخوه، هيّأ
الله له من أمر الخلافة ما هيأ حسبما ذكرناه.
ولما تمّ أمره واقتعد بتونس كرسيّ خلافته عقد لفضل بن عليّ على الزاب
ولأخيه عبد الواحد على بلاد الجريد رعيا لذمّة خدمتهما، وذكرا
لإيلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما، فقدم واليا على الزاب، ودخل بسكرة
واستكان بنو زيان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا
[2] بكلمة في شأنه، واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله.
ثم كان شأن الداعي بن أبي عمارة وتلبّسه، ومهلك السلطان أبو إسحاق على
يده. ثم ثأر منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم، وكان
يثق بعنايته [3] ، ويعوّل في أمر الزاب على كفايته. وسيم أعداؤه بنو
زيّان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف إحدى بطون الأثابج،
كانوا نزلوا بقرية باشاش [4] لضيق المدينة حين عجزوا عن الظعن، وخالطوا
أهل البلد في أحوالهم وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن
عليّ أن يكون التقدّم لهم في الفتك به، وتناول الأمر من يده، وأن
يخرّبوا بيوتهم من قرية باشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى
ولايتهم حلفا عقدوه على المكر بهم. ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض
أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين وستمائة وتولّوا من أمر الزاب ما كان
يتولّاه، تنكر لهم بنو زيّان لحولين من ذلك الحلف، ونابذوهم العهد
فخرجوا عن البلد وفقدوا ما لهم بها من قريب [5] ، وتفرّقوا في بلاد
ريغة، واستبدّ بنو زيان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى
السلطان، والزواودة قد تغلّبوا عليه وعلى بلاد الحضنة من ورائه نقاوس
ومقرة والميلة. وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض
شئونه. فلمّا هلك أبوه واستبدّ بنو زيان بعده، بثّوا السعايات فيه إلى
السلطان بالحضرة فأنجحت، وتقبّض عليه واعتقل أيام السلطان أبي حفص.
__________
[1] أي أبعدتهم عن الزاب.
[2] وفي نسخة ثانية: فلم ينشبوا ولا معنى لها هنا.
[3] وفي نسخة ثانية: وكان يثق بغنائه.
[4] وفي نسخة ثانية: ماشاش.
[5] وفي نسخة ثانية: وفقدوا المأوى للتمرّس بها من قريب.
(6/587)
ولما تغلّب المولى أبو زكريا يحيى ابن
الأمير أبي إسحاق على بجاية وقسنطينة وبونة، واستقلّ بأمرها وانقسمت
دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها، تمسّك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة
المولى أبي حفص وفرّ منصور بن فضل بن عليّ من محبسه بتونس ولحق ببجاية
بعد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيّد الناس، وتولية
السلطان أبي زكريا مكانه كاتبه أبو القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين
وستمائة، فلازم خدمته وخفّ عليه وصانعه بوجوه التخف وتضمّن له تحويل
الدعوة بالزاب لسلطانه، وشريف أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك، فعقد
له على الزاب وأمدّه بالعسكر فنازل بسكرة ووفد أهلها بنو زيان على
السلطان ببجاية ببيعتهم فرجّعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور، وكتب
إليه بقبول بيعتهم، ودخل البلد سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكادهم في
بناء القصر لشيعته، وتحصّن العسكر بسورة.
ثم نابذهم العهد، وثار بهم فأجلاهم عن البلد، واستمكن فيها ورسخت قدم
إمارته فيها، واستدرّ جباية السلطان، واتسع له نطاق العمالة، فاستضاف
إلى عمل الزاب جبل أوراس وقرى ريغه وبلد واركلى وقرى الحصنة: مقرة
ونقاوس والمسيلة. فعقد له السلطان على جميعها، ودفعه إلى مزاحمة العرب
في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم
في جبايتها حتى كاد يغليهم عليها. ووفّر أموال الدولة وأنهى الخراج
وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبّة، وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب
الاصطناع، فأثرى واحتجز الأموال ورسخت عروق رياسته ببسكرة، ورسخت منابت
عزّه وهلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة، وولّوا
مكانه ابنه الأمير أبا البقاء خالدا كما قدّمناه، وقام بأمره صاحبه أبو
عبد الرحمن بن عمر.
وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد حاجبه [1] فاستنام إليه
وعوّل في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره، وعقد له على بلاد
التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله، وجرّد عن ساعد كفايته في
جبايتها فلقّح عقيمها وتفجّرت ينابيعها. ثم حدثت بينه وبين الدولة
منافرة وأجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحاق حاجبه
من تلمسان [2] ، وبايع له
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جاهه.
[2] وفي نسخة ثانية: جأجأ به تلمسان وهذا تحريف.
(6/588)
واستألف الزواودة لمشايعته، ونازل به
قسنطينة ثم اطلع على مكامن صدره فيه وما طوى عليه من التربّص به فحلّ
عقدته، ولحق بعسكره ببسكرة، وراجع الطاعة.
ولحق يحيى بن خالد واعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وسبعمائة وكانت بينه
وبين المرابطين أهل السنّة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن
وحروب، وطالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفا عن الرعيّة وعملا بالسنّة
التي كانوا ملتزمين لطريقها، ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مرارا. ثم هلك
سعادة في بعض حروبه على مليلي كما مرّ في ذكره سنة خمس وسبعمائة. وجمع
منصور بن مزني للمرابطين، وبعث عسكره يقوده ابنه عليّ بن منصور مع علي
بن أحمد شيخ الزواودة، وعلى المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات
المرابطين مثل:
عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر، وعطيّة بن سليمان بن سبّاع
وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا ابنه عليّا
وتقبّضوا على عليّ بن أحمد، ثم منّوا عليه وأطلقوه.
ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها. ثم عاودوه ثانية وثالثة. ولم
يزل بينه وبين هؤلاء المرابطين فتن سائر أيامه. وكان الحاجب ابن عمر قد
استخلصه لنفسه وأحلّه محل الثقة بحلّته واستقامة إلى صنائعه [1] . ولما
نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل
المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمّت كما
قدّمناه. ورجع الحاجب إلى قسنطينة وردّه إلى مكان عمله من الزاب. وكان
يتردّد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب
في بعض طرقه إليها. وتقبّض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر
ابن محمد بن مسعود، وسليمان بن عليّ بن سبّاع بن يحيى بن مسعود على حين
اجتذبا حبل الإمارة من يد عثمان بن سبّاع بن شبل بن موسى بن محمد،
واقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في
مرجعه من عمله بلاد سدويكش، وأوثقوه اعتقالا، وهمّوا بقتله فافتدى منهم
بخمسة قناطير من الذهب وارتاشوا [2] بمسكوبهم، وصرفوا في وجوه رياستهم
ألفا منها، وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين.
وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: والاستقامة الى صفاته.
[2] ارتاش ربما استعملها ابن خلدون بمعنى راش أي أكل كثيرا (قاموس) .
(6/589)
كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى
تونس سنة سبع عشرة وسبعمائة أوّل حركاته إليها، وطالب صاحبه يعقوب بن
عمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والأعطيات، فبعث إليه بمنصور بن
فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره، ويكفيه مهمات شئونه
واعتدّها منصور على ابن عمر فساء ظنّه، وتنكّر له ابن عمر، وحالت صبغة
ودّه وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس
بعساكره كما قدّمناه. ولمّا احتلّ بقسنطينة بدت له من يعقوب بن عمر
صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به، وتردّدت بينهما الرسل
وبعث ابن عمر في منصور بن فضل. ونذر منه بالشرّ فأجاب داعيه، وصحب قائد
السلطان يومئذ محمد ابن أبي الحسن بن سيّد الناس إليه، حتى إذا كان
ببعض الطريق عدل إلى بلده، وهمّ به القائد فأجاره أولياؤه من العرب:
عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن
معهم من ذويهم. ولحق ببسكرة وبلغ الخبر إلى ابن عمر فقرع سنّ الندم
عليه، وشايع منصور بن مزني عدوّهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في
دعوته وأوفد ابنه يوسف عليه بالطاعة والهدية.
وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد إفريقية وهلك ابن عمر سنة تسع
عشرة وسبعمائة ولم يزل منصور بن مزني ممتنعا سائر أيامه على الدولة،
والعساكر من بجاية تتردّد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين
وسبعمائة، وقام بأمره من بعده ابنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل
أبيه بالزاب، واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية قرى: ريغة
وواركلى. وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي
الحسين بن سيّد الناس، وجعل له كفالة ابنه يحيى ودفعه إليه فتجدّدت
الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في
المرتبة عند السلطان بما كانوا جميعا صنائع وبطانة للحاجب ابن عمر.
وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه. وناول عبد الواحد هذا لآل زيّان
الخائفين [1] الدولة طرفا من حبل طاعته فقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره.
وطال تمرّس الجيوش به إلى ان استجنّ منه عبد الواحد بصهر عقده له على
ابنته، واشترط المهادنة وتسليم الجباية، وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه
يوسف سنة تسع وعشرين وسبعمائة بمداخلة بطانتهم من بنى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مخانقي.
(6/590)
سماط وبني أبي كواية. ولما أحكم مداخلتهم
في شأنه آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات، وطعنه بخنجره فأشواه
وهلك لحينه. واستقلّ يوسف بن منصور بإمارة الزاب ووصله مرسوم السلطان
بالتقليد والخلع على العادة، وأجرى الرسم في الدعاء له على منابر عمله.
وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيّد الناس من الثغر ببجاية [1] ،
وفوّض له أمور ملكه، فهاجت نار العداوة والإحن القديمة بما بينه وبين
يوسف بن منصور عامل الزاب، وهمّ به لولا ما أخذ بحجزته من الشغل الشاغل
للدّولة بتحيّف آل زيّان وهلك الحاجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في
نكبة السلطان إيّاه كما ذكرناه، وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل
بيده زمام العساكر، وفوّض له في سائر القرى والضواحي، فأجرى رياسته
وحكمه في دولته وتغلّب على أمره على حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة
عدوّه، وحطّ ما كان من أمرهم على كاهل دولته. ونهض السلطان أبو الحسن
إلى آل يغمراسن فقلّم أظفار اعتدائهم [2] وفلّ شبا عزائمهم كما شرحنا
قبل، فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة، وأثار
له من السلطان كأمن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة
وتقويمه عن المراوغة في الطاعة، وناهضه بالعساكر مرّات ثلاثا يدافعه في
كلّها بتسليم الجباية إليه. ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير
الزواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية
دونه فواضعه الحرب، ودعا العرب إلى منازلته مموّها بالدعاء إلى السنّة،
وحشد أهل ريغة لذلك ونازلة، وانحرف عنه ابنه يعقوب ودخل إلى بسكرة
فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل، وعقد له عليها، فحسن
دفاعه عنه، وبعث ابن مزني عن سليمان بن عليّ كبير أولاد سبّاع، وقريع
علي بن أحمد في شئونه، فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن
امتنع ابن مزني.
ورحل علي بن أحمد عن بسكرة وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة
أعوام الأربعين من المائة الثامنة. ثم كانت غزاة القائد بن الحكيم إليه
نهض من إفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد، واقتضى طاعتهم ومغارمهم،
واسترهن ولد ابن يملول. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لحجابته.
[2] وفي نسخة ثانية: أعدائهم.
(6/591)
ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من
سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه، وفرّت العرب من الزواودة
وسائر رياح أمامه، ودافعه يوسف بن مزني بهديّة دفعها إليه وهو بمكانه
من أوماش، وارتحل عنه إلى بلاد ريغة فافتتح تقرّت معقلهم واستباحها
ودوّخ سائر أعمالها. ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد ابن الحكيم
هذا سنة أربع وأربعين وسبعمائة وولّى ابنه أبا حفص عمر. وخشي الحاجب
أبو محمد بن تافراكين بادرته وسعاية بطانته فلحق بملك المغرب المرهوب
الشبا [1] المطل على الممالك، يعسوب القبائل والعشائر الحسن، وأغراه
بملك إفريقية واستجرّه إليها، فنهض في الأمم العريضة سنة ثمان وأربعين
وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كلّه من قبل. ووفد عليه يوسف بن منصور أمير
الزاب بمعسكره من بني حسن فلقّاه برّا وترحيبا واستتبعه في جملته إلى
قسنطينة. ثم عقد له على الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلى، وصرفه
إلى عمالته. واستقبل تونس، وأمره برفع الجباية إليه مع العمّال
القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعدّ لذلك، حتى إذا سمع
بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة وفجأهم هنالك جميعا الخبر بنكبة
السلطان على القيروان كما ذكرناه، ونذكره فاعتزم على اللحاق ببلده.
واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية الغربية من
إفريقية لأذمّة صهر كانت بينهما ومخالصة، وتحيّز إليهم من كان بقسنطينة
من أولياء السلطان وحاشيته وعماله، ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع
ابنه عبد الله من أصاغر بنيه، وآواهم يوسف بن منصور جميعا إليه،
وأنزلهم ببلده وكفاهم مهمّاتهم شهورا من الدهر حتى خلص السلطان من
القيروان إلى تونس، ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يدا اتخذها
يوسف بن منصور عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام. ثم اتبع ذلك
بمخالفة رؤساء النواحي من إفريقية جميعا في الانتقاض عليه، وأقام
مستمسكا بطاعته يسرّب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من
النكبة البحرية كما سنذكره، ويدعو له على منابره بعد تفويضه على
الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه، إلى أن هلك السلطان أبو
الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة واستقام
أمر الدولة المرينيّة لابنه السلطان أبي
__________
[1] شبا الشيء: علا وأضاء، وشبا النار: أوقدها وقد تكون شباة وهي حد كل
شيء.
(6/592)
عنّان الحيّة الذكر، ولما استضاف إلى ملكه
ملك تلمسان، ومحا ما جدّده بنو عبد الواد بها من رسوم ملكهم وجمع كلمة
زناتة، وأطلّ على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بادر يوسف
بن منصور بطاعته فآتاها طواعية، وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته.
ثم وفد عليه ثانيا مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر،
وبعثه بالعساكر لتدويخ إفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره. ووفد
عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين وسبعمائة
ووفد في جملتهم يوسف بن منصور أمير الزاب ويعقوب بن علي أمير البدو
وسائر رؤساء الزواودة فلقاهم السلطان تكرمة ورعيا لأذمة خلوصهم لأبيه
وقومه من بين أهل إفريقية، وأسنى جوائزهم. وعقد ليوسف بن مزني على
الزاب وما وراءه من بلاد ريغه وواركلى على عادتهم وانقلب محبوا محبورا
وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالصته حظّ، ورفع له ببساطه مجلس، ولما
نهض السلطان إلى إفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة كما
سنذكره تلقّاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه، ونظّمه في
طبقات وزرائه. واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه
وانتقض، فأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب وما وراءها من الصحراء، وارتحل
السلطان بعساكره في طلبهم إلى أن احتل بلاد الزاب وخرّب بلاد يعقوب بن
علي بالزاب والتل بقطع أشجارها وتغوير مياهها وهدم بنائها ونسف آثارها،
ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعا، واحتلّ بظاهر
يسكرة فتلوّم بها ثلاثا لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر
وشعث الصحراء، ففرّق [1] يوسف بن منصور في قرى عساكره أيام مقامه
يشملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم
همّهم. وتحدّثت بها الناس دهرا، ورفع إليه جبايته لعامه قناطير من
الذهب بعثه بين المال فقبضه القهارمة من ثقاته، وأجزل السلطان مثوبته
وأسنى عطيته، واختصّه بكسوة ثيابه وعياله من كسا حرمه وثياب قصره.
وانكفأ راجعا إلى حضرته. ثم أوفد موسى بن منصور ابنه أحمد على السلطان
بسدّته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة إفريقية سنة تسع
خمسين وسبعمائة وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق. وأقام أياما
في نزل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مغرّب.
(6/593)
كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك
السلطان خاتمة تسع وخمسين وسبعمائة فأرغد القائم بالدولة من بعده
جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله، واستوصى به أمراء النواحي والثغور
في طريقه. ولم ينشب أن شبّت نار الفتنة وانتزى الخوارج بالجهات بعد
مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه وعلى يأس من النجاة بعد أن حصل
في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان، وهو بها
مع بني مرين، وقد مرّ بهم مجتازا إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر من
زغبة رعيا لأذمة ابنه يوسف صاحب الزاب، وتأميلا للعرب فيه وفي أعماله.
وبعد أن بذل له من ذات يده ومن طرف ما وصله به بنو مرين من ذخائرهم بعث
معه صغير وفادا [1] من قومه أبلغوه مأمنه، فكانت إحدى الغرائب في
نجاته.
واسترجع الموحّدون ثغورهم: بجاية وقسنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها
العساكر المجمّرة بها من قبائلهم كما قدّمناه، فراجع يوسف بن منصور
طاعته المعروفة لهم إلى أن هلك سنة سبع وستين وسبعمائة يوم عاشوراء،
وقام بأمره ابنه أحمد، وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب
بمحل أبيه من إمارته متقبّل في مذهبه وطريقه إلّا أن خلق أبيه كان سجية
وخلق هذا تقليد لما فيه من التحذلق [2] ، وربك يخلق ما يشاء ويختار.
وله أولاد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى، وهو لهذا
العهد مرشح لمكانه. ولما حلّت بأهل الجريد الفاقرة [3] ونزل به يحيى بن
يملول الشؤم على وطنه توجّس الخيفة من السلطان وتوقّع المطالبة بطاعة
غير طاعته المعروفة، فسرّب الأموال في العرب ومدّيده إلى حبل صاحب
تلمسان ليستمسك به فوجده قاصرا عنه، وأقام يقدّم في أمره رجلا ويؤخّر
أخرى. ثم قذف الله نور الهداية في قلبه، وأراه سنن رشده. وبادر إلى
الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة، ووصله فأوفد السلطان أبو
العبّاس شيخ الموحدين أبا العباس بن أبي هلال، وكشف له قناع المخالصة
والانحياش، وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبّله السلطان وأعاده إلى
أحسن الأحوال ورضي عنه والله متولي الأمور سبحانه لا ربّ سواه، ولا
معبود إلّا إيّاه.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ركابا.
[2] وفي نسخة أخرى: ان خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقا.
[3] الفاقرة: الداهية الشديدة.
(6/594)
أبو يحيى بن أحمد بن يوسف بن منصور بن فضل
بن علي بن أحمد بن الحسن بن
(الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني
الخلف بنفطة وبني أبي المنيع بالحامة)
زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر لاتساع بلده وتمدّن مصره
واحتلاله منها بأمّ القرى من قطره، وهو يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد
بن يملول. ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوّخ، استقرار [1] ولده
بهذا الصقع كان منذ أوّل الفتح فعفوا [2] وتأثّلوا ووشجت به عروقهم
نسبا وصهرا حتى انتظموا في بيوتات الشورى المتقدّمين للوفادة على
الملوك وتلقي العمّال القادمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافّة
أيام آل حمّاد بالقلعة، وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس، مثل
بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض. وكان التقدّم فيهم أيام عبد
الله الشيعي لابن فرقان، وهو الّذي أخرج أبا يزيد حين شعر به أنه يريد
القيام على أبي القاسم القائم، وأيام آل حمّاد ليحيى بن واطاس، وهو
النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكّين ملوك القيروان حين انقسمت
دولة آل زيري، وافترق أمرهم. ثم عادت الرئاسة لبني مروان لأوّل دولة
الموحّدين، ومنهم كان الّذي لقي عبد المؤمن وآتاه الطاعة عن نفسه وعن
أهل بلده توزر، فتقبّله ووصله.
وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد. ونشأ أحمد
هذا الجد متراميا إلى الرئاسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح، ويزاحم
بالمناكب من وجوه البلد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استقر أوّلوه.
[2] بمعنى كثروا.
(6/595)
وأشراف الوطن. وسعى به إلى شيخ الموحّدين
وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال
امتحنه عليه. كانت أوّل نكباته التي أورت من زناده وأوقدت من جمرة،
وتخلّص إلى الحضرة يؤمّل اعتقال مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة
فأوطنها أياما يباكر أبواب الوزراء والخاصّة، ويلثم أطراف الأولياء
والحاشية وينزل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم، ويؤثره بعنايتهم حتى
استعمل بديوان البحر مقعد العمّال بمرفإ السفن لجباية الأعشار من تجّار
دار الحرب. ثم استضاف بما كان من عنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال
الحضرة فتقلّدها زعيما بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية. واستمرّت على
ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال، واستخرج الذخيرة قاطعا
لألسنة السعاية بالمصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى
أبطره الغنى، ودلّت على مكانته الثورة، ورفع أمره إلى الحاجب فخرج
التوقيع بالقبض عليه واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني
فنكب الثانية وصودر على مئين [1] . من آلاف الدنانير وامتحن لها، وباع
فيها كسوته حين قرأ الكتاب وخلص من النكبة مسلوب [2] الأمانة ممزّق
الأديم فقيد الرياش، أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن والدفء وبلالة
العيش. ولحق ببلده ناجيا بالرمق ضارعا للدهر.
ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمّال ومباكرة أبوابهم
والامتحان في ضروراتهم، وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه. وكان في خلال ذلك
شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلّص ظلّ الدولة عن هؤلاء
بعض الشيء وحملت الرعايا بالبلاد الجريدية، وصار أمرها إلى الشورى التي
كانت عليها قبل. فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سموّ
حباب الماء ثلج صدره، وأنجح سعيه، واستبدّ بمشيخة توزر. وهلك في أعوام
ثماني عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحا إلى المرتبة
منافسا في الاستقلال، ومزاحما بيوتات المصر بمناكب استوطأها [3] بسائر
عمره من الدعّار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مئتين.
[2] وفي نسخة ثانية: مثلوب. ثلبه: عابه ولامه، اغتابه، سبه طرده
(قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: استوصلها سائر عمره.
(6/596)
الشباب لسير [1] أمره، والاستعلاء [2] على
نظائره حتى تطارحوا في هوة الهلاك بين قتيل ومغرّب ونحيب العمران، لم
يعطفه عليهم عواطف الرحم ولا زجره وازع التقوى والسلطان، حتى خلا له
الجو واستوسق الأمر واستقلّ من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من
استبداد أبيه. وكان مهلكه قريبا من استبداده لخمس سنين متلقيا [3]
الكرة من يده أخوه محمد تربه في الرئاسة ومجاريه في مضمارها، فأجرى إلى
الغاية واقتعد كرسي الرئاسة وعفى على آثار المشيخة. واستظهر على أمره
بمصانعه أمراء البدو وأولاد أبي الليل، والمتات إليهم بصهر كان عقده
أبوه أحمد لأبي الليل جدّهم على أخته أو عمته. فكانوا ردءا له من
الدولة فنفذ [4] صيته وعظم استيلاؤه وامتدّت أيامه وعني الملوك بخطابه
واسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرّة وتهب ريح
الدولة. وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سنى أربعين فلاذ منه بالطاعة
والمصانعة بالمال، ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبّل طاعته
من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه. وأقام على ذلك إلى أن هلك
لعام أربع وأربعين من المائة الثامنة.
وتصدّى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد
فقتله على جدث أبيه صبح مواراته بعد أن كان أظهر الرضا به والتسليم له
فثارت به العامّة لحينه، وكان مصرعهما واحدا. وقام بالأمر أخوه يملول
بن أحمد أربعة أشهر كانت شرّ مدة وأسوأ ولاية، لما أصاب الناس بسوء
ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال، حتى كان ينسب إلى
الجنون مرّة وإلى الكفر أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم،
وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فراسله أهل توزر سرا وأطلقه السلطان
من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد
إليها بمن في لفّه من الأعراب، وحشد نفزاوة والمجاورين لها في القرى
الظاهرة المقدّرة السير، وأجلب عليهم ثم بيّتها فاقتحمها وبادر الناس
إلى القبض على يملول أخيه وأمكنوه منه فاعتقله بداره وتبرّأ من دمه،
وأصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه.
وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها
يحيى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ليستبد.
[2] وفي نسخة أخرى: والاستيلاء.
[3] وفي نسخة أخرى: فتلقف.
[4] وفي نسخة أخرى: فبعد.
(6/597)
محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من
بيوتها، ونسبهم بزعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم.
والله أعلم بأوّلية نزولهم بقفصة حتى التحموا بأهلها وانتظموا أمر
بيوتاتها. وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد، وكانت
رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى، كان يستعمله
على جباية أموال الجريد، ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف
من المال فأعطاها، وأقامت رياستهم متفرّقة في هذه البيوتات.
ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى كان بنو
العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم، واستبدّ بها كبيرهم يحيى بن علي.
فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة وخيّم السلطان أبو الحسن على تلمسان
فحاصرها. وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره، وافتتح
أمره بغزو قفصة ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في عساكر من
الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب، فحاصرها شهرا أو نحوه وقطع
نخيلها فضاق مخنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة.
واستبقوا بها إلى السلطان وفرّ الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في
جوار ابن مكي ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبّل طاعتهم وأحسن
التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم، وانكفأ
راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى الجريد، واحتمل مقدّم روضة يحيى بن
علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع وأربعين وسبعمائة،
واستبد الأمير أبو العبّاس بأمر الجريد واستولى على نفطة كما قدّمناه.
وقيل لبني الخلف وهم: مدافع وأبو بكر عبد الله ومحمد وابنه أحمد بن
محمد إخوة أربعة، وابن أخيهم بنو الخلف من مدافع، ونسبهم في غسّان من
طوالع العرب.
انتقل جدهم من بعض قرى نفزاوة إلى نفطة وتأثّل بها، وكان لبنيه بها
بيت. واستبدّ هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدّمناه. ولما
استولى السلطان أبو بكر على الجريد وأنزل أنبه أبا لعبّاس بقفصة، وعقد
له على سائر أمصاره وأمضى طاعتهم وامتنعوا فسرّح إليهم وزيره أبا
القاسم بن عتو من مشيخة الموحّدين. وجهّزت له العساكر من الحضرة
ونازلها وقطع نخلها ولاذ أهلها بالطاعة، وأسلموا بني مدافع المتغلّبين
فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين. وأفلت السيف منهم
عليّا صغيرهم لذمّة اعتدّها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه إليه قبل
الحادثة.
(6/598)
فكانت واقيته من الهلكة. واستولى الأمير
أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله.
ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس
سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان الفتح كما قدّمناه. ولحق أبو بكر بن
يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني
عهده، وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر، وهلك سنة ست
وأربعين. ثم كان مهلك السلطان وابنه أبو العبّاس صاحب الأعمال الجريدية
إثر ذلك سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدّموه
فرجع أحمد بن عمر بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى
على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي، ورجع علي بن الخلف إلى نفطة
واستبدّ بها. ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى
اغترابه ببسكرة، ارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلا، فلمّا خلا الجريد من
الإمارة ودرج يحيى هذا من عشّه في جوار يوسف بن منصور بن مزني وأطلقه
مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشاركهم [1] ، واسترهن فيه
أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر، ونصّبه شيعته وأولياء أبيه،
وقاموا بأمره.
ورجع أمر الجريد كلّه إلى رياسة مقدّمه كما كان.
ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند رجعته إلى إفريقية ولقوة بوهران
فلقاهم مبرّة وتكرمة ورجّع كلا إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى
الجائزة، ووفّر الأسهام والأقطاع، وأنفذ الصكوك والكتب، فرجع إلى توزر
يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبيا مغتلما، وإلى نفطة عليّ بن الخلف.
وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد ونزل كل واحد من هذه الأمصار عاملا
وحامية. وعقد على الجريد كلّه لمسعود ابن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من
طبقة وزرائه، واستوصى بهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره حتى إذا كانت نكبة
السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وارتحل عامل الجريد مسعود
بن إبراهيم ونزل المغرب بمن معه من العمّال والحامية، ونمي خبره إلى
الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن
كان معه من الحامية، واستولوا على أفنيتهم وذخيرتهم وكراعهم، واستبدّ
رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض، وآذنوا
بالدعاء لصاحب الحضرة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شارطهم.
(6/599)
بمنابرهم، واستمرّوا على ذلك. فأمّا يحيى
بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ
الآلة والبيت المقصور للصلاة، واقتعاد الأريكة وخطاب السمر، [1] بل
وفسح للمجون والعكوف على اللذّات مجالا يرى أنّ جماع السياسة والملك في
إدارة الكأس وافتراش الآس والحجبة عن الناس والتألّه على الندمان
والجلّاس. وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور. ورعى
بيت المشاهير منهم غيلة فأتلفت نفوسهم، وامتدّ أمره في ذلك إلى أن
استولى السلطان أبو العباس على إفريقية، وكان من أمره ما نذكره. وأمّا
جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبدّ برياسته أن حجّ سنة أربع
وستين وسبعمائة والتزم مذاهب الخير وطرق الرضا والعدالة، وهلك سنة خمس
وستين وسبعمائة بعدها وولي مكانه ابنه محمد جاريا على سننه. ثم هلك
لسنة من ولايته، وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته، وأوقع
[2] حزمه وأرهف للناس حدّه فنقموا عليه سيرته، وسئموا عسفه واستمكن
مناهضهم في الشرف ومحاذبهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من
صاحب الحضرة بذمّة كانت له في خدمته قديما واستعمله لرعيها في خطة
القضاء بحضرته، وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عنه
الخليفة ودلّه على مكامن هلكته، وبصره بعورات بلده. واقتياد عساكر
السلطان إليه في زمامه.
ولما احتلّ بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشدّ ما كان قوّة وأكثر جمعا
وأمضى عزما استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه،
وحرّضهم عليه وداخل القاضي بتبييتها وأنه بالمرصاد في اقتحامها، حتى
إذا كانت البيعة دسّ إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله، ومكر
بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم. واستقل برياسة بلده وأقام
على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه، ويجري في
الثناء الّذي بلغ إلى غايته وأولى على بنيته [3] . وأمّا أحمد بن عمر
بن العابد فلم يزل من لدن استبداده ببلده قفصة سالكا مسالك الخمول
منحطا عن رتبة التكبّر منتحلا مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيّه
ومركبه، جانحا إلى التقلّل. فلما أوفى على شرف من العمر [4] استبدّ
عليه ابنه محمد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وخطاب التمويل.
[2] وفي نسخة ثانية: ايقظ.
[3] وفي نسخة ثانية: وأوفى على ثنيته.
[4] أي أصبح شيخا كبيرا.
(6/600)
وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة
هؤلاء الرؤساء المترفين، فبينما هؤلاء المتقدّمون في هذه الحالة من
الاستبداد على السلطان والتخلف بأخلاق الملوك، والتثاقل عن الرعايا
بالعسف والجور، واستحداث المكوس والضرائب إذ طالما خصهم [1] السلطان
أبو العباس بالحضرة مستبدا بدعوته، صارفا سهم عزائمه [2] فوجموا
وتوجسوا الخيفة منه. وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا
يستحثّونه إلى الحضرة، ويبعثون إليه بالانحياش على البعد زبونا على
صاحب الحضرة ونزوعا على مصدوقية الطاعة. فلما استبدّ السلطان أبو
العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسرّبوا أموالهم في الأعراب
المخالفين على السلطان من الكعوب، يؤمّلون مدافعتهم عنهم فشمّر لها
أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة.
ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي إفريقية على الظواعن التي كانت
جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه، واستلحمهم فأوهن ذلك من قوّتهم.
ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع، فأناخ السلطان
بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوما أو بعض
يوم، وعدا في ثانية على السلطان ونزل على حكمه فتقبّض عليه وعلى ابنه
شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وسبعمائة وتملّك البلد، واستولى على ديار
ابن العابد بما فيها. وكان استيلاء لا يعبّر عنه لطول أيامه في الولاية
وكثرة احتجانه للأموال. وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل
يريد توزر، وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوّض عنها بأهله، ونزل على
أحياء مرداس وسرّب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب، ولحق ببسكرة مأوى
نكباته ومنتهى مقره، فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني وأقام هنالك
على بلغة [3] من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني من خسارة
أموالهم في لفوف [4] العرب وسوء المغبّة إلى أن هلك لسنة أو نحوها
وائتمر أهل توزر. بعد تقويضه عنهم، بعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيه في
أثناء طريقه، وتقدّم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول واستولى على
ذخيرته وتبرّأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إذ أطل على مفاحصهم.
[2] وفي نسخة ثانية: صارفا الى فتحها عزائمه.
[3] وفي نسخة ثانية: على قلعة.
[4] وفي نسخة ثانية: زبون.
(6/601)
الذخيرة فدفعوها إلى السلطان. وعقد لابنه
المنتصر على توزر، واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة، وكان يخالف أصحابه
إلى الطاعة حتى نقضوها زبونا على ابن يملول وسالفه من العداوة ينقلها
[1] . فلما أحيط بهم أدركه الدهش وبادر إلى السلطان بطاعته فأتاها،
وقدم عليه فتقبّل السلطان ظاهره وأعطى له عن غيرها طمعا في استصلاحه،
وعقد له على حجابة ابنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره باستخلافه بلده
نفطة، وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقدّم ابن الخلف
على أمره ورأى أنه قد تورّط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر،
وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بن علي شيخ رياح ومدرة [2]
حروبهم يحرّضه على صريخ ابن يملول ومعونته، فعلموا نكثه ومداجاته
وبادروا إلى القبض عليه، وولّوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان
بالشأن وأقام في ارتحاله إلى أن كانت حادثة قفصة، فبادر الأمير المنتصر
إلى قتله.
وكان من خبر قفصة أنّ ابن أبي زيد من مشيختها كان ينزع إلى السلطان قبل
فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابني العابد وهما: محمد وأحمد ابنا
عبد العزيز بن عبد الله ابن أحمد بن عليّ بن عمر بن أبي زيد. وقد ذكر
أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير زكريا الأعلى في جبايته الجريد.
فلما استولى السلطان على البلاد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته
مع قومهما فأمر لهما مع ابنه بقفصة وكبيرها [3] رديف لحاجبه عبد الله
من الموالي الأتراك ومدبّر لأمور البلد في طاعة السلطان. ثم نزغ
الشيطان في صدره وحدّثته نفسه بالاستبداد، وأقام يتحيّن له الفرض وذهب
الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده بالتخلف عنه، وجمع أوباشا
من الغوغاء والزعانف وتقدّم بهم إلى القصبة وبعث بالصريخ للفتك بعبد
الله التركي ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة وبعث الصريخ في أهل القرى،
وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد.
فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفضّ الأشرار من حوله ونجوا إلى
الاختفاء في بيوت البلد، وتقبّضوا على الكثير ممن داخلهم في الثورة،
ووصل الخبر إلى الأمير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: كان يتقبلها.
[2] مدرة: دره عليهم: طلع وهجم، ودره لهم وعنهم: دافع (القاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: مع قديمهما فانزلهما مع ابنهما بقفصة، وكبيرهما
رديف لحاجة.
(6/602)
أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه، وقد سكن
جأشه [1] واستلحم جميع من تقبّض عليه حاجبه ونادى في الناس بالبراءة من
ابن أبي زيد فتبرّءوا منه. وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب
البلد في زي النساء فقادوهما إليه فقتلهما بعد أن مثّل بهما.
واستبدّ السلطان بالجريد ومحا منه آثار المساءة [2] وعفا عليهما
وانتظمه في عمالات السلطان. وأمّا بلد الحامة وهي من عمالة قسطيلية
وتعرف بحامة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من
البربر، وهم فيما يقال الذين اختطّوها، ففيها الآن ثلاث قبائل من توجر
وبني ورتاجن [3] وهم في العصبية فرقتان: أولاد يوسف ورياستهم في أولاد
أبي منيع وأولاد حجاف [4] ورياستهم في أولاد وشاح، ولا أدري كيف نسب
الفرقتين. فأمّا أبو منيع فالحديث في رياستهم في قومهم أنّ جدّهم رجاء
بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم بوشباك وأبو محمد [5] وملالة وأنّ
رياسته بعده كانت لابنه بوشباك، ثم ابنه أبي منيع من بعده، ثم لابنه
حسن بن أبي منيع، ثم لابنه محمد بن حسن، ثم لأخيه موسى بن حسن ثم
لأخيهما أبي عنّان [6] إلى أن كان ما نذكر. وأمّا أولاد حجاف فكانت
أوّل رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح، وقبله خاله القاضي عمر بن كلى،
وكان العمّال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج
والمغارم بأسرها. وكان مقدّمهم لأوّل دولة السلطان أبي بكر من أولاد
أبي منيع، وهو موسى بن حسن. وكان المديوني قائد السلطان واليا عليهم،
وارتاب بهم بعض الأيام وأحبّوا الثورة به، فدسّ بها إلى السلطان في بعض
حركاته، وغزاهم بنفسه ففرّوا، وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبّض
عليهم فقتلوا. ثم رجع الأمير وولّى موسى بن حسن. ولمّا هلك تولّى بعده
أخوه أبو عنّان، وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوبا إلى الخير والعفاف.
وهلك سنة اثنتين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقد سكنت الهيعة.
[2] وفي نسخة ثانية: آثار المشيخة.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: توجن وبني ورياجن.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: جحاف.
[5] وفي نسخة ثانية: بوساك ويحمد وملالت.
[6] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: علّان.
(6/603)
وأربعين وسبعمائة وولي بعده ابنه الآخر أبو
زيان. ثم ولي بعدهما ابن عمّهما مولاهم ابن محمد. ووفد على السلطان أبي
الحسن مع وفد أهل الجريد كما مرّ. ثم هلك فولي بعده من بني عمّهم حسّان
بن هجرس، وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد حجاف المذكور فعزله،
وأقام في ولايته إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فثار به على الحامة
وقتلوا عمر بن كلبى القاضي، وولّوا عليهم حسّان بن هجرس واليهم.
وثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجّاج بن يوسف بن وشاح
وهو الآن مقدّمها يعطي طاعة معروفة، ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ
عن المصدوقية والغلب والاستيلاء، قد أحاط به من كل جهة. وأملي عليّ بعض
نسّابتهم أنّ مشيخة أهل الحامة في بني بوشباك. ثم في بني تامل بن
بوشباك. وأنّ تأمل رأس عليهم وأنّ وشاحا من ولد تأمل وأن بني وشاح، على
فرقتين: بنو حسن وبنو يوسف، وحسّان ابن هجرس ومولاهم وعمر أبو علّان
كلّهم من بني حسن، ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف، وهذا مخالف
للأوّل، والله أعلم بالصحيح في أمرهم. وأمّا نفزاوة وأعمال قسطيلية
فتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المعروفة السير، يعترض
بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة في الاعتساف،
ولها معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك، وربما يضل خائضها
فتبتلعه. ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر الذين
بقوا لك بعد انقراض جمهورهم، ولحق العرب بسائر بطون البربر، ومعهم
معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمّة والجزية وبها
الآن أعقابهم. ثم نزل عليهم من أعراب الشريد وزغب من بني سليم كل من
عجز عن الظعن، وملكوا بها العقار والمياه وكثرت نفزاوة، وهم لهذا العهد
عامّة أهلها وليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى
أعمال توزر ورياستها. هذا حال المتقدّمين ببلاد الجريد في الدولة
الحفصيّة أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها، وفي عداد ولاتها
ومواليها، والله متولي الأمور أهـ
.
(6/604)
(الخبر عن بني مكي
رؤساء قابس وأعمالها)
كانت قابس هذه من ثغور إفريقية ومنتظمة في عمالتها، وكان ولاتها من
القيروان أيام الأغالبة والعبيديّين وصنهاجة من لدن الفتح، ولمّا دخل
الهلاليون إفريقية واضطربت أمورها واقتسمت دولة صنهاجة الطوائف، انتزى
بقابس وصنهاجة المعز ابن محمد الصنهاجي وأدال منه مونّس بن يحيى
الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك. وولي أخوه القاضي ابن
إبراهيم، ثم نازلة أهل قابس فقتلوه أيام تميم بن المعز بن باديس
فبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفا على أخيه، وذلك سنة تسع
وثمانين وأربعمائة. ثم غلبه عليها أخوه تميم وكان معتلقا [1] للعرب.
وكانت قابس وضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال. ثم غلبتهم رياح عليها
ونزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان وأخوه مادع [2] وهما معا من بني
علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها ملكا لقومه بني جامع وأورثه بنيه إلى
أن استولى الموحّدون على إفريقية وبعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففرّ
عنها مدافع بن رشيد آخرهم وانتظمها كما ذكرناه في أخبارهم وملكها،
وانقرض ملك بني جامع وصارت قابس وأعمالها للموحّدين، وكان ولاة إفريقية
من السادة يولّون عليها من الموحّدين إلى أن تغلّب بنو غالية [3]
وقراقش على طرابلس وقابس وأعمالها، وكان ما ذكرناه في أخبارهم. ثم غلب
الموحّدون يحيى بن غانية عليها وأنزلوا بها عمّالهم. ولمّا دعا بنو أبي
حفص إلى إفريقية المرّة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد،
وعقد العاقل [4] على إفريقية لابنه أبي محمد عبد الله عقد معه على قابس
للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميرا. ثم كان من شأن استبداده وخلعه
لأخيه ولطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه. وكان مشيخة قابس لذلك العهد في
بيت من بيوتاتها، وهم بنو مسلم ولم يحضرني ممن نسبهم. وبنو مكي ونسبهم
في لواتة وهو مكي بن فرح [5] بن زيادة الله
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مغلبا.
[2] وفي نسخة ثانية: أخوه فادغ.
[3] وفي نسخة ثانية: بنو غانية.
[4] وفي نسخة ثانية: العادل.
[5] وفي النسخة الباريسية: مراج وفي نسخة أخرى: فراج.
(6/606)
ابن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله بن
أبي الحسين [1] اللواتي. وكان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكريا.
ولما اعتزم على الاستبداد دخل أبو القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي
وتولّى له أخذ البيعة على الناس وكان له ولقومه بذلك مكان من المولى
أبي زكريا، رعى لهم ذمّتها ورفع من شأنهم بسببها، ورموا بني سليم
نظراءهم في رياسة البلد بضغائنهم [2] إلى ابن غانية فأخمدوا مالهم
بماله ومحوا آثارهم واستقلوا بشورى بلدهم. وأقاموا على ذلك أيام المولى
أبي زكريا الأوّل وابنه المستنصر. ثم كان ما قدّمناه من مهلك الواثق بن
المستنصر وبنيه على يد عمّهم السلطان أبي إسحاق. وكان من أمر الداعي بن
أبي عمارة، وكيف شبّه على الناس بالفضل بن المخلوع بحيلة من مولاه
نصير. رام أن يثأر بها من قاتلهم فتمّت مكيدته في ذلك لما أراده الله.
ولما أظهر نصير أمره وتسايلت العرب إلى بيعته خطب لأوّل أمره رئيس قابس
لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته وحمل
الناس عليها، وكانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخها.
ولما ألقى الداعي بن أبي عمارة جسدا [3] على كرسي الخلافة سنة إحدى
وثمانين وستمائة قلّده خطة الجباية بالحضرة مستقلّا فيها بالولاية
والعزل والفرض والتقدير والحسبان بعد أن أجزل من بيت المال عطاءه
وجرايته وأسنى رزقه وأهدى الجواري من القصر إليه. ولمّا هلك الداعي
واستقلّت قدم الخلافة من عثارها كما قدّمناه سنة ثلاث وثمانين وستمائة
لحق عبد الحق بن مكي ببلده وامتنع بها على حين ركود ريح الدولة وفشلها،
ومرض في طاعته ودافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره. ثم جاهر
بالخلعان سنة ثلاث وتسعين وستمائة وبعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى
أبي زكريا الأوسط. وهلك ابنه أحمد ولي عهده سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم
هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة، وتخلّف حافده مكيا فنصّبوه
يفعة. وكفله ابن عمّه يوسف بن حسن وقام بالأمر مستبدّا عليه إلى أن
هلك، وخلفه في كفالة أحمد بن ليدان [4] من بيوت أهل قابس أصهار بني مكي
التاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبي الحسن.
[2] وفي نسخة أخرى: بصاغيتهم إلى ابن غانية، فأخمدوا ذبالهم واستقلوا
بشورى بلدهم.
[3] وفي النسخة الباريسية: حسدا.
[4] وفي نسخة ثانية: أحمد بن ليران.
(6/607)
السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة، وأقاموا
بها أياما، ثم ردّهم إلى بلدهم أيام مجافاته عن تونس وخروجه إلى ناحية
قابس.
ثم هلك خلال ذلك مكي، وخلّف صبيين يافعين عبد الملك وأحمد فكفلهما ابن
ليدان إلى أن شبّا واكتهلا، ولهما من الامتناع على الدولة والاستبداد
بأمر القطر والاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما وأكثر
لتقلّص ظل الملك عن قطرهم، وشغل السلطان بمدافعة يغمراسن وعساكرهم عن
الثغور الغربية، اجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة، ولما هلك
السلطان أبو يحيى اللحياني بمصر قفل ابنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول
أسباب الملك، ونزل بساحتهم على ما كان من صنائع أبيه إليهم فذكروا
العهد، وأوجبوا الحق وآتوا بيعتهم. وقام كبيرهم عبد الملك بأمره ودعا
الناس إلى طاعته، وخالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية
سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة كما قدّمناه، فدخل الحضرة ولبث بها أياما لم
تبلغ نصف شهر، وبلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعا وفرّوا إلى مكانهم
من قابس، والدولة تنظر إليهم الشزر وتتربص بهم الدوائر إلى أن غلب
السلطان أبو الحسن على تلمسان ومحا دولة آل يغمراسن، وفرغت الدولة من
شأنهم إلى تمهيد أعمالهم وتقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها.
وقفل حمزة بن عمر بشفاعة السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في
شأنه فتقبّل وسيلته واستخلصه لنفسه من بعدها، واستقام هو على الطاعة
التي لم تجد وليجة عنها، وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في
هوة الشقاق، فأوفده عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن
متنصّلا من ذنوبه لائذا بشفاعته متوسلا بما قدمناه من خدمته حظاياه في
طريقهن إلى الحج ذاهبا وجائيا، فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه وأعاده
إلى مكانه من اصطناع سلفه واستقام على طاعته.
ولما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه وعقد عليها
لابنه أبي العباس ولي عهده، وأنزله دار إمارتها مترددا ما بين توزر
وقفصة إلى أن قفلت عمته من الحج سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخرج للقائها
مختفيا بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقّيها
والقيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله، فمسح الأمير
أبو العباس الإحف عن صدره وأدال له الأمن والرضى من توحّشه، واستخلصه
لدولته ونجوى أسراره واصطفاه لنفسه وحمله رديفا
(6/608)
لحاجبه، فحلّ من دولته بمكان غبطة فيه
امتيازه من أمراء تلك الطوائف.
وعقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العبّاس ابنه، وقد
كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلّيّة كما
ذكرناه، فضمّها إليه وصيّرها في أعماله. ولم يزل هذا شأنه معه إلى أن
هلك أبو العبّاس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عند ما دخلها
بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه، ولحق أحمد بن مكي ببلده. ثم سار في وفد
رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى إفريقية سنة
ثمان وأربعين وسبعمائة ولقبه معهم بوحران من أعمال تلمسان، وكان قدمه
عنده فوق قدمهم. ورجع الوفد على أعقابهم محبورين. وتمسّك بأحمد بن مكي
في جملته إلى الحضرة، ووفد عليه أخوه عبد الملك مؤديا طاعة السلطان،
فكرّم موصله وأحسن متقبلهما جميعا إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل
قابس وجربة.
ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان مجددا لعهد طاعته،
فأرادهم السلطان على الامتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم،
وعقد له على تلك الثغور الشرقية، وأنزله جربة، وأمرهما بالطاعة له ما
دام في طاعته. وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحّدين على توزر
وقسطيلية بعد أن كان قطعه عند ما تقبّض عليه في واقعة السلطان أبي حفص
عمر. ثم استقبل رأيه في استخلاصه عند ما انتقض عليه أبو محمد بن
تافراكين. ولما رجع من القيروان إلى تونس عقد له على توزر كما ذكرناه،
ولعبد الواحد بن اللحياني على قابس وجربة فأسفّ بذلك بني مكي هؤلاء.
وهلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علّة الطاعون الجارف
سنة تسع وأربعين وسبعمائة فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن ودعوا
إلى الخروج عليه وبايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عند ما أفرج عن
حصار تونس سنة خمسين وسبعمائة، وداخلوا أبا القاسم بن عتو وهو إذ ذاك
لم يتوزر، فأجابهم وكانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من إفريقية
وتقويضه عنها كما قدمناه. ولما رجع الحاجب أبو محمد بن تافركين من
المشرق، واستقلّ بأمر تونس، ونصّب الإمام أبا إسحاق ابن السلطان أبي
يحيى للخلافة بها في كفالته غصوا بمكانه من التغلّب وأنفوا من
استبداده، وانحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسنطينة. ووفد
عليه
(6/609)
أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير
البدو بإفريقية فيمن إليه، فاستنهضوه وقلّده الأمير أبو زيد حجابته
وجعل أمره إليه. وأبرز الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق
في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمعان بمرمجنّة وكانت الدبرة
على السلطان أبي إسحاق سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وجاءوا على أثرهم
فنازلوا تونس أياما وما أفرجوا عنها إلا للصائح يخبرهم باحتلال عساكر
بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان، وأن السلطان أبا عنّان قد
استلحم بني عبد الواد، وجمع كلمة زناتة، واستقام له أمر المغربين.
وأطلّ على الثغور الشرقية فافترق جمعهم. ولحق الأمير أبو زيد بقسنطينة،
وأحمد بن مكي بقابس، وسأل من الأمير أبي زيد أن يقسّم رسم الإمارة
بينهم في قابس وجربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذن له في ذلك، فكانت
أول ولايته السعيدة ومضى إلى قابس فنزلها، ثم أجاز البحر إلى جربة،
ودفع عنها العسكر الّذي كان محاصرا للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب
طرابلس، ورجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه.
وأوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكريا على أبي عنان ملك المغرب
صريخا على شأنه، وأوفد ابن مكي رسله متذمّما ومذكرا بوسائله فتقبّل
وأغضى. ثم كانت واقعة العدو دمّره الله بطرابلس سنة أربع وخمسين
وسبعمائة كما قدّمناه فبعث إلى السلطان أبي عنّان يسأله فديتها والنظر
لها من بين ثغور المسلمين، فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت
المال، أوفد بها من أعيان مجلسه: الخطيب أبا عبد الله بن المرزوق، وأبا
عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس.
وعقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها، وعقد لأخيه عبد الملك على
قابس وجربة وأقاموا على دعوته. ومدّ أحمد يده إلى صفاقس فتناولها وتغلب
عليها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وهلك السلطان أبو عنّان وقد شرق صدر ابن
تافراكين الغالب على الحضرة بعدا وتهما فردّد عليهما برا وبحرا إلى أن
استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة وستين وسبعمائة وعقد عليها
لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من
صنائع الدولة كما ذكرناه.
وهلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة على تفيئة مهلك الحاجب بن
تافراكين بالحضرة فكأنهما ضربا موعدا للهلكة وتوافياه. وتخلّف ابنه عبد
الرحمن
(6/610)
بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج، وهلك
ظافر إثر مهلكه فاستبدّ عبد الرحمن بطرابلس وساءت سيرته فيها إلى أن
نازلة أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكر سنة اثنتين وسبعين
وسبعمائة. وأجلب عليه بالبرابرة والعرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل
البلد وثاروا به. وبادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه وأسلموه إلى
أمير من أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه، وإيالة
عمّه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وسبعمائة ولم يزل عبد
الملك لهذا العهد وهو سنة إحدى وثمانين وسبعمائة واليا على عمله بقابس
وابنه يحيى مستبدّ بوزارته، وحافده عبد الوهاب لابنه مكي رديف له، وقد
تراجعت أحوالهم عما كانت وخرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في عمالتهم
لعهد أخيه أحمد مثل طرابلس وجزيرة جربة وصفاقس وما إلى ذلك من العمالات
حتى كان التخت [1] إنما كان لأخيه، واليمن إنما اقترن بحياته وسيرتهما
جميعا من العدالة وتحرّي مذاهب الخير والسمت، والاتسام بسمات أهل الدين
حملة [2] الفقه معروفة حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علما
بين أهل عصره حرصا على الانغماس في مذاهب الخير وطرقه. وكان لأحمد حظّ
من الأدب، وكان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد عفا الله عنه. وله في
الترسيل حظّ ووساع بلاغة رسومها، وينحو في كتابه منحى أهل المشرق في
أوضاع حروفهم وأشكال رسومها، ولأخيه عبد الملك حظّ من ذلك شارك به
جهابذة أهل عصره وأفقه ولما انتظم السلطان أبو العبّاس أمصار إفريقية
في ملكه واستبدّ بالدعوة الحفصيّة على قومه داخل أهل الجريد منه الروع،
وفزعوا إليه للمعارضة في الامتناع فداخلهم في ذلك وأشاروا إلى صاحب
تلمسان بالترغيب في إفريقية فعجز عنهم وألحّوا عليه فخام عن العداوة.
وزحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة وتوزر ونفطة فبادر
ابن مكي إلى التلبّس بالاستقامة وبعث إليه بالطاعة. ثم رجع السلطان إلى
الحضرة فرجع هو عن المصدوقة واتّهم أهل البلد بالميل إلى السلطان
فتقبّض على بعضهم وفرّ آخرون. وانتقض عليه بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب
فنازلوه وبعثوا إلى الأمير الأكبر بقفصة في العسكر لمنازلته، فبعثه
إليهم وأحاطوا به.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: البحث.
[2] وفي نسخة ثانية: حلية الفقه.
(6/611)
ثم انتهز الفرصة ودخل بعض العرب من بني
عليّ في تبييت المعسكر، وبذل لهم في ذلك المال فبيّتوه وانفض وبلغ
الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ونزل
القيروان وتوافت الفئتان [1] وبعث رسله للأعذار بين يديه فردّهم ابن
مكي بالطاعة ثم احتمل رواحله ونزل بأحياء العرب. وأغذّ السلطان السير
إلى البلد فدخلها واستولى على قصورها، ولاذ أهل البلد بالبيعة فآتوها
واستعمل عليهم من بطانته وانكفأ راجعا إلى تونس. وهلك عبد الملك لأيام
قلائل بين أحياء العرب.
وهلك بعده ابنه عبد الرحمن وابن أخيه أحمد الّذي كان صاحب طرابلس بعد
أبيه، ولحق ابنه يحيى وحفيده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم ابن ثابت من
النزول ببلده لما كان متمسكا بطاعة السلطان، فنزلوا بزنزور من بلاد
دباب التي بضواحيها وأقاموا هنالك. واستقامت النواحي الشرقية على طاعة
السلطان وانتظمت في دعوته والله مالك الملك.
ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى المشرق لقضاء فرضه، وأقام عبد الوهاب بين
أحياء البرانس [2] بالجبال هنالك، وكان الوالي الّذي تركه السلطان
بقابس قد ساء أثره في أهلها، فدسّ شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك وجاء إلى
البلد فبيّتها، وثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وملك
عبد الوهاب قابس وجاء أخوه [3] يحيى من المشرق بعد قضاء فرضه، فأجلب
عليه مرارا يروم ملكها منه، ولم يتهيّأ له، ونزل على صاحب الحمّة
فداخله عبد الوهاب في أن يمكّنه منه، ويشرط ما شاء. وتم ذلك بينهما
وأوثقه كتافا وبعث به إليه واعتقله بقصر العروسيّين، فمكث في السجن
أعواما. ثم فرّ من محبسه ولحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجدا بابن
وشّاح صاحبها، فأنجده. وما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها
وتقبّض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين وسبعمائة. ولم
يزل مستبدّا ببلده إلى سنة ست وتسعين وسبعمائة وكان عمر ابن السلطان
أبي العبّاس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولا كما نذكره، حتى
استقام أهلها على الطاعة وأعطوا الضريبة فأفرج عنها. ورجع إلى أبيه
فولّاه على صفاقس وأعمالها فاستقل بها، ثم دخل أهل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتوافت إليه احاديات.
[2] وفي نسخة ثانية: بين أحياء العرب.
[3] وفي النسخة الباريسية: عمّه يحيى.
(6/612)
الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه
فبيّتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه، وانقرض أمر بني
مكي من قابس، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الوارثين.
(الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس
واعمالها)
قد تقدّم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي، وأن عمرو بن العاص هو
الّذي تولّى فتحه، وبقي بعد ذلك من جملة أعمال إفريقية، تنسحب عليه
ولاية صاحبها، فلم يزل ثغرا لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة ومن بعده
وفي دول الأغالبة. وكان المعزّ لدين الله من خلفاء الشيعة لمّا ارتحل
إلى القاهرة، وعقد على إفريقية لبلكّين ابن زيري بن مناد أمير صنهاجة،
عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة. ثم لمّا ولي نزار
الخلافة سنة سبع وستين وثلاثمائة طلب منه بلكّين أن يضيف عمل طرابلس
إلى عمله فأجاب وعهد له بها، وولّى عليها بلكّين من رجالات صنهاجة. ثم
عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكّين ليأنس الصقليّي سنة تسعين
وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة، وأعانه على ذلك برجوان
الصقليي المتغلّب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس، فوصل إليها في ألف
وخمسمائة فارس فملكها، فسرّح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من
صنهاجة، وتزاحفا يومين بساحة زنزور، ثم انفضّ عسكر يأنس في الثالث
وقتل، ولحق فلّه بطرابلس فاعتصموا بها. ونازلهم جعفر بن حبيب القائد،
وزحف فلفول بن سعيد ابن خزرون الثائر على باديس وابنه بإفريقية إلى
قابس فحاصرها.
ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق
بنفوسة، وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم، ثم لحق بالقيروان ومضى
فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس
فملكوه، وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها. وعقد الحاكم
عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من
الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية، ونازل قابس فامتنعت
عليه. ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد
(6/613)
فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر، واستبدّ
فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدّوا بها آخرا.
ودخل العرب الهلاليّون إلى إفريقية فخرّبوا أوطانها وطمسوا معالمها.
ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل
صاحب أسطول رجّار ملك صقلّيّة من الإفرنج سنة أربعين وخمسمائة، وأبقى
المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل إفريقية فأقاموا في ملكة
النصارى أياما. ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من
أعيانهم وفتكوا بهم. ولما افتتح عبد المؤمن المهديّة سنة خمس وخمسين
وخمسمائة وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردّهم
إلى بلدهم، وولّى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنّه وعجز. وارتحل إلى
المشرق سنة ست وثمانين وخمسمائة بإذن السيد زيد بن عمر بن عبد المؤمن
عامل إفريقية من قبل عمّه يوسف واستقر بالإسكندريّة.
وتعاقبت عليها ولاة الموحدين، ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما
قدّمناه، وصارت طرابلس لقراقش. ثم استبد بنو أبي حفص بإفريقية على بني
عبد المؤمن.
وهلك قراقش وابن غانية، وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا
وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم، واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة. وفشل
ريح الدولة بعض الشيء وتقلّص ظلّها عن القاصية، فصارت رياسة طرابلس إلى
الشورى ولم يزل العامل من الموحّدين يجيء إليها من الحضرة إلّا أنّ
رئيسها من أهلها مستبدّ عليها، وحدثت العصبيّة في البلد لحدوث الشورى
والمنافسة فيها. ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة
وسبعمائة حين تجافى عن ملك الحضرة، وأحسّ بزحف السلطان أبي يحيى صاحب
بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس، وأقام بها وأقام أحمد بن
عربي من مشيختها بخدمته.
ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا ابنه محمد
المكنّى بأبي ضربة من الاعتقال، وبايعوا له. وخرج للقاء السلطان أبي
بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد
طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكيّة من يد أبيه. ولما أحسّ بذلك
أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره،
واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام
بأمرها، وولّى حجابته رجلا من أهله يشهر
(6/614)
بالبطيسي، فساء أثره في أهل طرابلس، وحجب
عنهم وجه الرضى من سلطانه، وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى
أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجيا منهم بعد أن تعرّض بعضهم
لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته، وقتلوا قاضيا
بطرابلس من أهل تونس كان يمالئ على ذلك. وتولّى كبر ذلك أحمد بن عربي.
ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد ابن طاهر المزوغي
وملك أمر البلد، وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه.
واستقلّ ابن طاهر بأمر طرابلس اثنتي عشرة سنة. ثم هلك وقام بأمرها ثابت
ابن عمّار الزكوجي من قبائل هوّارة. وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد
بن سعيد بن طاهر فقتله واستبدّ به. ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في
مغتسله عند الآذان بالصبح، وولّوا محمدا ابن شيخهم ثابت بن عمّار أعوام
سبعة وعشرين فاستبدّ بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة وظل الدولة متقلّص
عنه. وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والاحتراف بها ولبوس شارتها،
والسعي راجلا في سكك المدينة يتناول حاجاته وما عونه بيده ويخالط
السوقة في معاملاته، يذهب في ذلك مذهب التخلّق والتواضع يسر منه حسوا
في ارتغاء، ويطلب العامل من تونس، فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده
معتملا في تصريفه. وهو يبرأ إليه ظاهرا من الأحكام والنقض والإبرام إلى
أن كان تغلّب بني مرين على إفريقية. ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة
على ما نذكره، فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه، ونقل إلى الإسكندرية
ماله وذخيرته. ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه،
وثار منهم للحين بطانته وشيعه. وولي بعده ابنه ثابت، فتزيّا بزي
الإمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب، واتخاذ الحجاب والبطانة.
وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجّار النصارى أغفلوا أمرهم
لكثرة طروقهم وتردّدهم في سبيل التجارة، وكثرة ما يغشاها من سفنهم،
فغدروا ليلا وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد. وفرّ
مقدّمهم ثابت إلى حلّة أولاد مرغم أمراء الجواري في انحائها [1] فقتلوه
صبرا لدمّ كان أصابه منهم في رياسته، فكانت مدته ست سنين، وقتلوا معه
أخاه عمارا. واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من
__________
[1] كذا، وفي ب: انجابها.
(6/615)
الذخيرة والمتاع والخرثيّ والماعون، وشحنوا
السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفّدين، وأقاموا بالبلد أياما
على قلقة [1] ورهب من الكرّة لو كان لها رجال. ثم تحدّثوا مع من جاورها
من المسلمين في فدائها فتصدّى لذلك صاحب قابس أبو العبّاس أحمد بن مكي
وبذل لهم فيها خمسين ألفا من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين
بالبلاد الجريدية تزلفا إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر، وذلك سنة
[2] وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون
بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة، وقام بأمره
ولده عبد الرحمن.
فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه، وذكر عهود الصبا في
معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه وموالي أبيه، ونازلها
سنة إحدى وسبعين وسبعمائة في أسطول من أساطيلهم. واجتمع إليه ذؤبان
العرب ففرّق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل،
فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة، وأجاره العرب من أولاد
مرغم بن صابر، تولّى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمّه عبد
الملك بمكان إمارتهم بقابس.
واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا، واستقلّ بولايتها. ودخل في طاعة
السلطان أبي العبّاس بتونس، وخطب له على منابرة، وقام يصانعه بما
للسلطان من الضريبة، ويتحفه حينا بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك
سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وولي مكانه علي ابن أخيه عمّار، وقام
بكفالته عمّه. وكان قائده قاسم ابن خلف الله متّهما بالتشيع للصبي
المخلف عن أبي يحيى، فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة، فتوحّش
الخليفة من علي وانتقض. ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس، ثم استوحش
وطلب الحج فخلّوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية. ولقي بها خالصة
السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمّة، وكرّ راجعا في السفين
إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس. فلما مرّ بهم راسلوه ولاطفوه
واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم. ثم جاءته النذر بالهلكة ففرّ، ولحق
السلطان بتونس واستحثّه لملك طرابلس. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه
ابنه
__________
[1] كذا، والأصح: قلق.
[2] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه
السنة.
(6/616)
الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل
بساحتها، وافترق عرب دباب عليه وعلى ابن ثابت، وقام ابن خلف الله في
خدمته المقام المحمود، ووفّر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى
طاعته ويستألفهم به، وأقام عليها حولا كريتا [1] يمنع عنهم الأقوات
ويبرزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان. ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم
لعدّة أعوام نائطة [2] وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ
راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة فولّاه على صفاقس وافتتح منها
قابس كما قدمناه. وأقام عليّ بن عمّار على إمارته بطرابلس إلى هذا
العهد، والله مدبّر الأمور بحكمته.
هذا آخر الكلام في الدولة الحفصيّة من الموحّدين وما تبعها من أخبار
المقدّمين المستبدّين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية، فلنرجع
إلى أخبار زناتة ودولهم، وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى.
تم طبع الجزء السادس ويليه الجزء السابع
__________
[1] حولا كريتا أي كاملا.
[2] النائط معلق كل شيء. ويقال مفازة بعيدة النياط: أي الحد. وأظنه
يقصد بها هنا: لعدة أعوام غير محدودة.
(6/617)
[المجلد السابع]
[تتمة كتاب الثالث]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الخبر عن زناتة من قبائل البربر وما كان
بين أجيالهم من العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة
هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد معروف العين والأثر، وهم لهذا
العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل
والتغلّب في الأرض وإيلاف الرحلتين، وتخطّف الناس من العمران والإباية
عن الانقياد للنصفة.
وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن
سائر رطانة [1] البربر. ومواطنهم في سائر مواطن البربر بإفريقية
والمغرب، فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى حتى أنّ عامة
تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره. ومنهم قوم بالتلول بجبال
طرابلس وضواحي إفريقية، وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب
الهلاليين لهذا العهد، وأذعنوا لحكمهم، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط
حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال: وطن زناتة. ومنهم بالمغرب الأقصى
أمم أخرى، وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين، وكانت لهم فيه دول
أخرى في القديم، ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل
شعب منهم إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: رطاناتهم.
(7/3)
(الخبر عن نسبة
زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم)
أمّا نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسّابتهم أنهم من ولد شانا وإليه
نسبهم، وأمّا شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة، قال بعضهم:
هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر
[1] . وقال أيضا في كتاب الجمهرة ذكر لي يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي
يزيد يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بإفريقية أيام الناصر قال:
هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن
مادغيس بن رحيك [2] بن همرحق ابن كراد بن مازيغ بن هراك بن هرك بن برا
بن بربر بن كنعان بن حام هذا ما ذكره ابن حزم. ويظهر منه أنّ مادغيس
ليس نسبة إلى البربر وقد قدّمنا ما في ذلك من الخلاف، وهو أصح ما ينقل
في هذا الآن ابن حزم موثوق ولا يعدل به غيره.
(ونقل) عن ابن أبي ريد وهو كبير زناتة ويكون البربر على هذا من نسل
برنس فقط، والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر ومنهم
زناتة وغيرهم كما قدّمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن
حام كما يظهر من هذا النسب.
(ونقل) عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في
رواية أن
__________
[1] ورد في جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 495 ان زناتة هو شانا ابن
يحيى بن صولات بن ورتناج بن ضري بن سقفو بن جنذواذ بن يملا بن مادغيس
بن هرك بن هرسق بن كراد بن مازيغ بن هراك بن هريك بن بدا بن بديان بن
كنعان بن حام بن نوح النبي (صلّى الله عليه وسلم) .
[2] كذا في قبائل المغرب وفي نسخة أخرى من ابن خلدون زجيك وفي مراجع
أخرى زجيك (الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للشيخ أبي العباس أحمد
بن خالد الناصري) .
(7/4)
زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت،
وجالوت هو ونور بن جرييل [1] بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصي بن باد
بن رحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان.
(وفي) رواية أخرى عنه أنّ جالوت بن جالود بن بردنال [2] بن قحطان بن
فارس، وفارس مشهور.
(وفي) رواية أخرى عنه أنه ابن هربال [3] بن بالود بن ديال بن برنس بن
سفك، وسفك أبو البربر كلهم، ونسّابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم
من حمير، ثم من التبابعة منهم [4] . وبعضهم يقول أنّهم من العمالقة،
ويزعمون أنّ جالوت جدّهم من العمالقة، والحقّ فيهم ما ذكره أبو محمد بن
حزم أوّلا وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح. فأمّا الرواية الأولى عن
أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة.
وأمّا نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدّم في أوّل كتاب البربر عند ذكر
أنسابهم وأن أبناء قيس معروفون عند النسّابة. وأمّا نسب جالوت إلى قيس
فأمر بعيد عن القياس، ويشهد لذلك أنّ معدّ بن عدنان الخامس من آباء قيس
إنما كان معاصرا لبخت نصّر كما ذكرناه أوّل الكتاب. وأنّه لما سلّط على
العرب أوحى الله إلى أرمياء نبيّ بني إسرائيل أن يخلّص معدّا ويسير به
إلى أرضه، وبخت نصّر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من
السنين، فإنه خرّب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه
المدّة.
فمعدّ متأخّر عن داود بمثلها سواء، فقيس الخامس من أبنائه متأخّر عن
داود بأكثر من ذلك، فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخّر عن داود
بأضعاف ذلك الزمن. وكيف يكون ذلك مع أنّ داود هو الّذي قتل جالوت بنصّ
القرآن؟
(وأمّا) إدخاله جالوت في نسب البربر، وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: هرييل.
[2] وفي نسخة أخرى: بن ديّال.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن هوبال.
[4] يقول ابن حزم في الجمهرة: (وادعت طوائف منهم إلى اليمن، الى حمير،
وبعضهم إلى برّ بن قيس عيلان وهذا باطل لا شك فيه ... وما علم النسابون
لقيس عيلان ابنا اسمه برّ أصلا. ولا كان لحمير طريق الى بلاد البربر،
إلّا في تكاذيب مؤرخي اليمن) . ص 495.
(7/5)
وكذلك من نسبه إلى العمالقة. والحق أنّ
جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح،
وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام.
وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة، وكان بالشام
كثير من البربر إخوانهم، ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها، ودثرت
أمّة فلسطين وكنعان وشعوبهما لهذا العهد، ولم يبق إلّا البربر، واختص
اسم فلسطين بالوطن الّذي كان لهم فاعتقد سامع اسم البربر مع ذكر جالوت
أنه منهم وليس كذلك.
(وأمّا) ما رأي نسّابة زناتة أنهم من حمير فقد أنكره الحافظان أبو عمر
بن عبد البرّ وأبو محمد بن حزم وقالا ما كان لحمير طريق إلى بلاد
البربر إلا في أكاذيب مؤرخي اليمن، وإنما حمل نسّابة زناتة على
الانتساب في حمير الترفّع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد
خولا وعبيدا للجباية وعوامل الخراج، وهذا وهم فقد كان في شعوب البربر
من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشدّ منهم مثل هوّارة ومكناسة،
وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقّف الملك
من يد صنهاجة مثل المصامدة، كل هؤلاء كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا من
زناتة. فلمّا فنيت أجيالهم أصبحوا مغلّبين فنالهم ضرّ المغرم، وصار اسم
البربر مختصّا لهذا العهد بأهل المغرم، فأنف زناتة منه فرارا من
الهضيمة.
وأعجبوا بالدخول في النسب العربيّ لصراحته وما فيه من المزيّة بتعدد
الأنبياء ولا سيما نسب مضر وأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن
شيث بن آدم، خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع
خروجهم عن نسب إبراهيم الّذي هو الأب الثالث للخليقة إذا الأكثر من
أجيال العالم لهذا العهد من نسله. ولم يخرج عنه لهذا العهد إلّا الأقل
مع ما في العربية أيضا من عزّ التوحّش، والسلامة من مذمومات الخلق
بانفرادهم في البيداء. فأعجب زناتة نسبهم وزيّنه لهم نسّابتهم، والحق
بمعزل عنه، وكونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب
والعز، فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه. وأيضا فقد
تميّزت الخليقة وتباينوا بغير واحد من الأوصاف، والكلّ بنو آدم ونوح من
بعده. وكذلك تميّزت العرب وتباينت شعوبها والكلّ لسام ولإسماعيل بعده.
(وأمّا) تعدّد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا
يضرّك الاشتراك
(7/6)
مع الجيل [1] في النسب العام إذا وقعت
المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم، مع أنّ المذلّة للبربر إنما
هي حادثة بالقلّة ودثور أجيالهم بالملك الّذي حصل لهم، ونفقوا في سبله
وترفه كما تقدّم لك في الكتاب الأوّل من تأليفنا. وإلّا فقد كان لهم من
الكثرة والعزّ والملك والدولة ما هو معروف.
(وأمّا) أنّ جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح
وبعيد عن الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان. عمالقة من ولد
عيصو بن إسحاق، ولم تكن لهم كثرة ولا ملك، ولا نقل أنّ أحدا منهم انتقل
إلى المغرب بل كانوا لقلّتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء. والعمالقة
الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل وكانت
أريحاء دار ملكهم. وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزّوهم ملكهم بالشام
والحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم، فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة
الذين دثرت أجيالهم؟ وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل؟
هذا بعيد في العبادة والله أعلم بخلقه.
(وأمّا) شعوب زناتة وبطونهم فكثير [2] ولنذكر المشاهير منها (فنقول) :
اتفق نسّاب زناتة على أنّ بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم:
ورسيك وفرني والديرت [3] . هكذا في كتب أنساب زناتة. (وذكر) أبو محمد
بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيّابتهم مسّارت ورغاي
وواشروجن، ومن واشروجن واريغن بن واشروجن. وقال أبو محمد بن حزم في ولد
ورسيك أنهم مسارت وناجرت وواسين [4] .
(وأمّا) فرني بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة
ووركلة ونمالة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مع أهل الجيل.
[2] قوله: وأمّا شعوب إلخ. بهامش ما نصّه من هنا إلى الشجرة الآتية
أسماء بربرية لا يمكن ضبطها بل ولا النطق بها كما هي في لسانهم ولا
يتعلق بها غرض مهم. أهـ. (كتبه حسن العطار) ونزيد بأن هذه الأسماء
تختلف من مرجع الى آخر من المراجع التي تناولت تاريخ البربر وهذا
التحريف في الأسماء ليس له أي أهمية في سرد الحوادث التاريخية ولكن
رأينا أن نشير الى هذه الأسماء لاطلاع القارئ الكريم الى هذا الاختلاف.
[3] وفي نسخة ثانية: ورشيل وفريني والديدت. وفي جمهرة أنساب العرب
ورسيج والدّيديت وفريني (ص 496) .
[4] وفي نسخة ثانية تاجرة وراسين وفي الجمهرة: بني تاجرة وبني واسين
وفي النسخة الباريسية باجرة.
(7/7)
وسبرترة، ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة
وذكر الأربعة الباقية. (وأمّا) الديرت ابن جانا فمن ولده عند نسّابة
زنانة جداو [1] بن الديرت، ولم يذكره ابن حزم. وإنما قال عند ذكر
الديرت ومن شعوبه: بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان دمّر بن ورسيك وزاكيا
بن ورسيك قال: ودمّر لقب واسمه الغانا. قال: فمن ولد زاكيا بنو مغراو
وبنو يفرن وبنو واسين. قال: وأمّهم واسين مملوكة لأمّ مغراو وهم
ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ويزيد نسّابة زنانة في هؤلاء
يرنيات بن يصلتن أخا لمغراو ويفرن وواسين ولم يذكره ابن حزم.
قال: ومن ولد دمّر بنو ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وذكر لبني
دمّر أفخاذا سبعة وهم عرازول ولفورة وزناتين [2] ، وهؤلاء الثلاثة
مختصّون بنسب دمّر، وبرزال ويصدرين وصغمان ويطوّفت، هكذا ذكر أبو محمد
بن حزم وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الإباضي. وقال فيه:
كان ناسكا عالما بأنسابهم، وذكر أنّ بني واسين وبني برزال كانوا أباضية
وأنّ بني يفرن ومغراوة كانوا سنية. وعند نسّابة البربر مثل سابق بن
سليمان المطماطي وهانئ بن يصدور [3] والكومي وكهلان بن أبي لوا، وهو
مسطّر في كتبهم أنّ بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم بنو
زاكيا وبنو دمّر وآنشة بنو آنش، وكلّهم بنو وارديرن بن ورسيك، فمن
زاكيا بن وارديرن أربعة بطون: مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو
واسين، كلّهم بنو يصلتن ابن مسرا بن زاكيا ومن آنش بن وارديرن أربعة
بطون: بنو برنال وبنو صقمات وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلّهم بنو آنش بن
وارديرن ومن دمّر ابن وارديرن ثلاثة بطون: بنو تقورت وبنو عزرول وبنو
ورتاتين كلّهم بنو وتيد [4] بن دمّر، هذا الّذي ذكره نسّابة البربر وهو
خلاف ما ذكره ابن حزم. ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم
مثل يجفش وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيغان وتحليلة
وتيسات وواغمرت وتيفراض ووجديجن وبنو بلومو وبنو وماني [5] وبنو توجين
على أنّ بني توجين ينتسبون في بني واسين نسبا ظاهرا صحيحا بلا شك
__________
[1] وفي نسخة أخرى: جراد.
[2] وفي نسخة أخرى: غرزول ولقورة وورتاتين.
[3] وفي نسخة أخرى: صدور.
[4] وفي نسخة أخرى: وريند بن دمّر.
[5] وفي نسخة أخرى: تيغرض ووجديجن وبني يلومي وبني ومانوا وبني توجين.
(7/8)
على ما يذكر في أخبارهم. وبعضهم يقول في
وجديجن وواغمرت بنو ورتنيص [1] أنهم من البرانس من بطون البربر على ما
قدمناه. وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي،
وقال فيه هو من شورة إحدى بطون زناتة، ولم نره لغيره. هذا ملخص الكلام
في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب. والله الهادي إلى مسالك
التحقيق لا رب غيره.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ورتيند وفي نسخة أخرى: ورتنيص.
(7/9)
(فصل في تسمية زناتة
ومبنى هذه الكلمة)
(أعلم) أن كثيرا من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما
ليس معروفا للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو اسم وضعته العرب على
هذا الجيل، ويقال بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه. ويقال: هو
زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئا لم تذكره النسّابة. وقد يقال إنه
مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه
المادية، وربّما يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا، ويعضده بحكاية
خسيسة يدفعها الحق، وهذه الأقوال كلّها ذهاب [1] إلى أنّ العرب وضعت
لكل شيء اسما، وأنّ استعمالها إنّما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالا
واشتقاقا. وهذا إنّما هو في الأكثر وإلّا فالعرب قد استعملت كثيرا من
غير لغتها في مسمّاه إمّا لكونه علما فلا يغير مثل إبراهيم ويوسف
وإسحاق من اللغة العبرانية، وإمّا استعانة وتخفيفا لتداوله بين الألسنة
كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والآجرّ، فتصير
باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم. ويسمّونها المعرّبة وقد يغيّرونها
بعض التغيير في الحركات أو في الحروف، وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع
جديد.
وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدّلونه بما يقرب منه في
المخرج فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة وإنّما نطقت العرب منها
بالثمانية والعشرين حروف أبجد. وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد
فمنها ما نطقت به الأمم، ومنها ما لم تنطق به، ومنها ما نطق به بعض
العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان.
وإذا تقرّر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا
التي هي اسم أبي الجيل كله، وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم. وهم
إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات.
وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن، ونطقهم بهذه
الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب بل ينطقون بها بين الجيم والشين
وأميل إلى السين، ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زايا
__________
[1] الصحيح أن يقول تذهب.
(7/10)
محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت
زانات لفظا مفردا دالا على الجنس.
ثم الحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفا لكثرة
دورانه على الألسنة والله أعلم.
(فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته)
أمّا أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ
أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلّا الله تعالى. ولهم شعوب أكثر من أن
تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجديجن وغمرة وبني
ويجفش وواسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد
وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم. وفي كل واحد من هذه الشعوب
بطون متعدّدة. وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس
والزاب إلى قبلة تلمسان ثم إلى وادي ملويّة. وكانت الكثرة والرئاسة
فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن.
(ولما) ملك الإفرنجة بلاد البربر في ضواحيهم صاروا يؤدّون لهم طاعة
معروفة، وخراجا معروفا مؤقتا، ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم
فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام، وزحف المسلمون إلى إفريقية وملك
الإفرنجة بها يومئذ جرجير، فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين
وانفضّوا جميعا. وقتل جرجير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا،
وافتتحت سبيطلة. ثم عاود المسلمون غزو إفريقية وافتتحوا جلولاء وغيرها
من الأمصار، ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى
مواطنهم وراء البحر. وظنّ البربر بأنفسهم مقاومة العرب فاجتمعوا
وتمسّكوا بحصون الجبال واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل
أوراس حسبما نذكره، فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال
والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعا وكرها، وانقادوا إلى إيالة مصر
وتولّوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه حتى إذا انحلت بالمغرب عرى
الملك العربيّ وأخرجهم من إفريقية البربر من كتامة وغيرهم، قدح هذا
الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم، وتداول فيهم الملك جيلا بعد جيل
في طبقتين حسبما نقصّه عليك إن شاء الله تعالى
.
(7/11)
(الخبر عن الكاهنة
وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح)
كانت هذه الأمّة من البربر بإفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد
وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها
لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم ولما أطلّ المسلمون في
عساكرهم على إفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله
المسلمون وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بإفريقية موضع
للقاء المسلمين يجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها
وموطنها مع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة.
(ولما) اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر إفريقية ثم
ولّاها معاوية بعد عام الجامعة عقبة بن نافع الفهريّ فأثخن في المغرب
في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت
البربر على كسيلة كبير أوربة، وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلويّ
أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من
إفريقية.
(وبعث) عبد الملك حسّان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر،
وقتلوا كسيلة واسترجعوا القيروان وقرطاجنّة وإفريقية والإفرنجة والروم
إلى صقلّيّة والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زناتة
أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطونا، وكان موطن جراوة منهم بجبل
أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا [1] . وكانت رياستهم للكاهنة
دهيا بنت [2] بن نيعان بن بارو [3] بن مصكسرى بن أفرد بن وصيلا بن
جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها،
فاستبدّت عليهم وعلى قومهم بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب
أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم.
قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة [4] وعاشت مائة
__________
[1] كراد بن الديديت بن شانا (جمهرة أنساب العرب (ص 498) .
[2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: دهيا بنت ثابتة وكذلك في نسخة
أخرى دهيا بنت ثابتة.
[3] وفي نسخة أخرى: بن نيقان بن باورا.
[4] وفي نسخة أخرى: خمسا وستين سنة.
(7/12)
وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع
في البسيط قبلة جبل أوراس باغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون
يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر وقتل كسيلة رجعوا إلى هذه
الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوى إليها بنو يفرن ومن كان
بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر، فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها،
وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية،
وانتهى حسّان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف
إليهم سنة أربع وسبعين وفضّ جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم
جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف.
وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسّان وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما،
وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق
فلّهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر،
وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. واليهم
نزع ابن أبي العيش لمّا غلبه موسى ابن أبي العافية على سلطانه بتلمسان
أوّل المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل عليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن
خرّبت من بعد ذلك. والفلّ منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون
في بطونه [1] ومن إليهم من قبائل غمارة والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مبتدإ دول زناتة في الإسلام
ومصير الملك اليهم بالمغرب وافريقية)
لما فرغ شأن الردّة من إفريقية والمغرب وأذعن البربر لحكم الإسلام
وملكت العرب، واستقلّ بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسيّ
الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من
لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال، والحبشة في الجنوب،
والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجة في الأندلس. وضرب الإسلام
بجرانه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني
هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدّعين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يطوفت.
(7/13)
استحقاق الأمر بالوصية. وتكرّر خروجهم
عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغّرت الصدور واستحكمت
الأوتار وتعدّدت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من عليّ إلى من
بعده من بني هاشم. فقوم ساقوها إلى آل العبّاس، وقوم إلى آل الحسن،
وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العبّاس بخراسان وقام بها اليمنية
فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين
قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن
هشام، فجدّد بها دعوة الأمويين واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين
فلم تخفق لهم به راية.
(ثم نفس) آل أبي طالب على آل العبّاس ما أكرمهم الله به من الخلافة
والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعوّ بالنفس الزكية في بني
أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم
جيوش بني العبّاس في وقائع عديدة. وفرّ إدريس بن عبد الله أخو المهدي
من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوربة ومقيلة
وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على
المغرب الأقصى والأوسط، وبثّوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله
من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العبّاس. واستمرّت
دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديّين.
ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثّون
دعاتهم بالقاصية إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهديّ
ولد إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من
صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة، ورجع العرب إلى مركز ملكهم
بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على
كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملّة فيهم، وخالطت بشاشة
الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أنّ الأرض للَّه يورثها من يشاء
من عباده. فلم تنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوّضت مباني الدين
بتقويض معالم الملك، وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه
على الدين كلّه. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة
الأعياص من بني عبد مناف يسدّون منها حسدا في ارتقاء [1] إلى أن ظفروا
من ذلك بحظّ مثل كتامة بإفريقية،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يسترون منها حسوا في ارتغاء.
(7/14)
ومكناسة بالمغرب، ونافسهم في ذلك زناتة،
وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدّهم قوّة فشمّروا له حتى ضربوا معهم بسهم،
فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى
بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى
تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرّد الملك
بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك،
ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفلّ
من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب [1] أيامهم وبطونهم على
الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب
سواه، ولا معبود إلّا إياه.
(الطبقة الأولى من زناتة ونبدأ منها بالخبر
عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول بإفريقية والمغرب)
وبنو يفرن هؤلاء من شعوب زناتة وأوسع بطونهم، وهم عند نسّابة زناتة بنو
يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت [2] بن جانا
وإخوته مغراوة وبنو يرنيان وبنو واسين، والكلّ بنو يصلتين. ويفرن في
لغة البربر هو القار [3] وبعض نسّابتهم يقولون: إنّ يفرن هو ابن ورتنيذ
[4] بن جانا وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن. وبعضهم يقول يفرن بن مرّة بن
ورسيك بن جانا، وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن
أبي محمد بن حزم.
(وأمّا) شعوبهم فكثير ومن أشهرهم بنو واركوا ومر نجيصة. وكان بنو يفرن
هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدّها شوكة، وكان منهم بإفريقية
وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب، فلمّا كان الفتح غشي إفريقية
ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى
ضرب الدين بجرانه، وحسن
__________
[1] جلب جلبا: اجتمع (قاموس) .
[2] وفي جمهرة أنساب العرب: الديديت (ص 496) .
[3] وفي نسخة أخرى: الفار وفي النسخة الباريسية الغار.
[4] وفي النسخة الباريسية: ونيتص، وفي نسخة أخرى: ونيتز، وفي جمهرة
أنساب العرب ص 498:
ورنيد.
(7/15)
إسلامهم. ولمّا فشا دين الخارجية في العرب
وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية، وصاروا يبثّون
بها دينهم في البربر فتلقّته رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رءوس
الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفريّة وغيرهما كما ذكرناه في بابه،
ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه وقاتلوا عليه.
وكان أوّل من جمع لذلك منهم أبو قرّة من أهل المغرب الأوسط. ثم من بعده
أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة. ثم كان لهم بالمغرب
الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجيّة دولتان على يد يعلى بن محمد صالح
وبنيه حسبما نذكر ذلك مفسّرا إن شاء الله تعالى
.
(7/16)
(الخبر عن أبي قرّة وما كان لقومه من الملك
بتلمسان ومبدإ ذلك ومصائره)
كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني
راشد المعروف بهم لهذا العهد، وهم الذين اختطّوا تلمسان كما نذكره في
أخبارها. وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس
أبو قرّة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنّه منهم. ولما انتقض البرابرة
بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجيّة وقتله البرابرة
قدّموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة، فكان من حروبه مع
كلثوم بن عيّاض وقتله إياه ما هو معروف. ورأس على زناتة من بعده أبو
قرّة هذا.
ولما استأثلت [1] دولة بني أمية كثرت الخارجيّة في البربر، وملك
ورفجومة القيروان، وهوّارة وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة، وابن رستم
تاهرت. وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور. وخافه البربر
فحسم العلل وسكّن الحروب. ثم انتقض بنو يفرن بنواحي تلمسان ودعوا إلى
الخارجيّة، وبايعوا أبا قرّة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة،
وسرّح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب وفرّ
أبو قرّة إلى المغرب الأقصى، ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب.
(ولما انتقض) البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقّب هزارمرد عام
خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرّة اليفرني في أربعين
ألفا صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتدّ عليه الحصار، وداخل أبا قرّة في
الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا، ولابنه أربعة آلاف،
فارتحل بقومه وانفضّ البرابرة عن طبنة. ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان
واجتمعوا عليه وأبو قرّة معهم بثلاثمائة وخمسين ألفا، الخيالة منها
خمسة وثمانون ألفا. وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار.
وقدم يزيد بن حاتم واليا على إفريقية ففضّ جموعهم وفرّق كلمتهم، ولحق
أبو قرّة
__________
[1] وفي نسخة أخرى. لما التاثت.
(7/17)
وبنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد
أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج، واستلحم بني يفرن وتوغّل
يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا
واستقاموا. ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد
بإفريقية في بني واركوا ومر نجيصة منهم حسبما نذكره إن شاء الله تعالى
الكريم. وبعض المؤرّخين ينسب أبا قرّة هذا إلى مغيلة، ولم أظفر بصحيح
في ذلك، والطرائق متساوية في الجانبين، فإنّ نواحي تلمسان وإن كانت
موطنا لبني يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة، والقبيلتان متجاورتان. لكن بنو
يفرن كانوا أشدّ قوّة وأكثر جمعا، ومغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجيّة
من بني يفرن لأنهم كانوا صفريّة. وكثير من الناس يقولون: إنّ بني يفرن
كانوا على مذهب أهل السنّة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم.
(الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من
بني يفرن ومبدإ أمره مع الشيعة ومصائره)
هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة، وكلهم من بطون بني يفرن، وكنيته
أبو يزيد، واسمه مخلّد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا. وقال
أبو محمد بن حزم: ذكر لي أبو يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد أنّ
اسمه مخلّد بن كيداد [1] بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلّد بن
عثمان بن ورنمت بن حونيفر [2] بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة.
قال: وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا، انتهى. كلام
ابن حزم. ونسبه ابن الرقيق أيضا في بني واسين بن ورسيك بن جانا، وقد
تقدّم نسبهم أوّل الفصل. وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في
التجارة، فولد له أبو يزيد بكركوا من بلادهم، وأمّه أم ولد اسمها سيكة
[3] ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة. ونزل توزر مترددا بينها
وبين تقيّوس، وتعلّم القرآن وتأدّب، وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم
وأخذها عنهم، ورأس فيها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: كنداك.
[2] وفي النسخة الباريسية: ورينت بن جوسفر وفي نسخة أخرى: جونفر.
[3] وفي نسخة ثانية: سبيكة.
(7/18)
ورحل إلى مشيختهم بتيهرت، وأخذ عن أبي
عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة.
ومات أبوه كيداد وتركه على حال الخصاصة والفقر، فكان أهل القيطون
يصلونه بفضل أموالهم، وكان يعلّم صبيانهم القرآن ومذاهب النكارية.
واشتهر عنه تكفير أهل الملّة وسبّ عليّ فخاف وانتقل إلى تقيّوس. وكان
يختلف بينها وبين توزر، وأخذ نفسه بالتغيير على الولاة، ونمي عنه
اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقصطيلة دمه، فخرج إلى الحجّ سنة
عشر وثلاثمائة وأرهقه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيّوس. ولمّا
هلك عبد الله أوعز القائم إلى أهل قصطيلة في القبض عليه، فلحق بالمشرق
وقضى الفرض وانصرف إلى موطنه، ودخل توزر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
مستترا. وسعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقبّض عليه واعتقله، وأقبل
سرعان [1] زناتة إلى البلد ومعهم أبو عمّار الأعمى رأس النكارية واسمه
كما سبق عبد الحميد، وكان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرّضوا للوالي في
إطلاقه، فتعلّل عليهم بطلبه في الخراج، فاجتمعوا إلى فضل ويزيد ابني
أبي يزيد، وعمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس وأخرجوه، فلحق ببلد بني
واركلا، وأقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس وإلى بني برزال في مواطنهم
بالجبال قبلة المسيلة، وإلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه، فوصل
إلى أوراس ومعه أبو عمّار الأعمى في اثني عشر من الراحلة، ونزلوا على
النكارية بالنوالات [2] . واجتمع إليه القرابة وسائر الخوارج، وأخذ له
البيعة عليهم أبو عمّار صاحبه على قتال الشيعة وعلى استباحة الغنائم
والسبي، وعلى أنهم إن ظفروا بالمهديّة والقيروان صار الأمر شورى، وذلك
سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وترصّدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها، واستباح
بعض القصور بها سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وغمس بذلك أيدي البربر في
الفتنة. ثم زحف بهم إلى باغاية واستولت عليه وعلى أصحابه الهزيمة
فلحقوا بالجبل. وزحف إليهم صاحب باغية فانهزم ورجع إلى بلده، فحاصره
أبو يزيد وأوعز أبو القاسم القائم إلى كتامة في إمداد كنون صاحب
باغاية، فتلاحقت به العساكر فبيّتهم أبو يزيد وأصحابه
__________
[1] سرعان زناتة: أي اوائلهم السابقون (قاموس) .
[2] اسم موضع كان يتردد إليه هؤلاء النكادية.
(7/19)
ففلّوهم، وامتنعت عليه باغاية وكاتب أبو
يزيد البربر الذين حول قصطيلة من بني واسين وغيرهم، فحاصروا توزر سنة
ثلاث وستين وثلاثمائة ورحل إلى تبسة فدخلها صلحا، ثم إلى بجاية كذلك،
ثم إلى مرماجنّة. كذلك، وأهدوا له حمارا أشهب فلزم ركوبه حتى اشتهر به.
وبلغ خبره عساكر كتامة بالاربص [1] فانفضوا وملك الأربص وقتل إمام
الصلاة بها. وبعث عسكرا إلى تبسة فملكوها وقتلوا عاملها. وبلغ الخبر
القائم وهو بالمهديّة فهاله. وسرّح العساكر لضبط المدن والثغور، وسرّح
مولاه بشرى الصقلّي إلى باجة، وعقد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية
المهدية، وسرّح خليل بن إسحاق إلى القيروان فعسكر بها. وزحف أبو يزيد
إلى بشرى بباجة، واشتدّت الحرب بينهم، وركب أبو يزيد حماره وأمسك عصاه
فاستمالت النكارية، وخالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس، واقتحم
أبو يزيد باجة واستباحها، ودخل بشرى إلى تونس وارتدت البرابر من كل
ناحية فأسلم تونس ولحق بسوسة.
واستأمن أهل تونس إلى أبي يزيد فأمّنهم وولّى عليهم، وانتهى إلى وادي
مجدرة [2] فعسكر بها. ووافته الحشود هنالك. ورعب الناس منه فأجفلوا إلى
القيروان، وكثرت الأراجيف وسرّب أبو يزيد جيوشه في نواحي إفريقية،
فشنّوا الغارات وأكثروا السبي والقتل والأسر. ثم زحف إلى رقادة فانفضّ
كتامة الذين كانوا بها ولحقوا بالمهديّة.
ونزل أبو يزيد رقادة في مائة ألف.
ثم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحاق ثم أخذه بعد مراوضة في
الصلح، وهمّ بقتله فأشار عليه أبو عمّار باستبقائه فلم يطعه وقتله.
ودخلوا القيروان فاستباحوها ولقيه مشيخة الفقهاء فأمّنهم بعد التقريع
والعتب، وعلى أن يقتلوا أولياء الشيعة، وبعث رسله في وفد من أهل
القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزما لطاعته والقيام لدعوته
وطالبا لمدده، فرجعوا إليه بالقبول والوعد. ولم يزل يردّد ذلك سائر
أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة،
فكان له اتصال بالناصر سائر أيامه. وزحف ميسور من المهديّة بالعساكر
وفرّ عنه بنو كملان من هوّارة ولحقوا بأبي يزيد وحرّضوه على لقاء
ميسور، فزحف إليه واستوى اللقاء.
واستمات أبو يزيد والنكارية فانهزم ميسور وقتله أبو كملان وبعث برأسه
إلى القيروان،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الأربس وكذلك في معجم البلدان.
[2] وفي نسخة ثانية: مجردة.
(7/20)
ثم إلى المغرب واستبيح معسكره.
وسرّح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة وأكثروا من القتل
والمثلة.
وعظم القتل بضواحي إفريقية، وخلت القرى والمنازل ومن أفلته السيف أهلكه
الجوع. واستخفّ أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير وركب
الفاره. ونكر عليه أصحابه ذلك، وكاتبه به رؤساؤهم من البلاد، والقائم
خلال ذلك بالمهديّة يخندق على نفسه ويستنفر كتامة وصنهاجة للحصار معه.
وزحف أبو يزيد حتى نزل المهديّة وناوش عساكرها الحرب، فلم يزل الظهور
عليهم، وملك زويلة. ولما وقف بالمصلّى قال القائم لأصحابه من هاهنا
يرجع، واتصل حصاره للمهديّة، واجتمع إليه البربر من قابس وطرابلس
ونفوسة.
وزحف إليهم ثلاث مرّات فانهزم في الثالثة ولم يقلع، وكذلك في الرابعة،
واشتدّ الحصار على المهديّة ونزل الجوع بهم. واجتمعت كتامة بقسنطينة
وعسكروا بها لإمداد القائم، فسرّح إليهم أبو يزيد يكموس [1] المزاتي من
ورفجومة، فانفضّ معسكر كتامة من قسنطينة. ويئس القائم من مددهم وتفرّقت
عساكر أبي يزيد في الغارات والنهب فخفّ المعسكر، ولم يبق به إلّا
هوّارة ورأس بني كملان [2] وكثرت مراسلات القائم للبربر.
واستراب بهم أبو يزيد وهرب بعضهم إلى المهديّة، ورحل آخرون إلى
مواطنهم، فأشار عليه أصحابه بالإفراج عن المهديّة فأسلموا معسكرهم،
ولحقوا بالقيروان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ودبّر أهل القيروان في
القبض عليه فلم يتهيّأ لهم، وعذله أبو عمّار فيما أتاه من الاستكثار من
الدنيا فتاب وأقلع، وعاود لبس الصوف والتقشّف.
وشاع خبر إجفاله عن المهديّة فقتل النكارية في كل بلد، وبعث عساكره
فعاثوا في النواحي وأوقعوا بأهل الأمصار وخرّبوا كثيرا منها. وبعث ابنه
أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر وسائر النواحي فلم
يفجأه إلّا وصول عليّ بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة
وزواودة، وقد مرّ بقسنطينة والأربص وشقنبارية، واستصحب منها العساكر
فبيّته أيوب وانفضّ معسكره، وتردّى به فرسه في بعض الأوعار فهلك.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زكوا.
[2] وفي نسخة ثانية: هوارة وراس وبنو كملان.
(7/21)
ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس وقائدها حسن
بن علي من دعاة الشيعة فانهزم، ثم أتيحت له الكرّة ولحق حسن بن عليّ
بلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة. وسرّح أبو يزيد جموع البربر لحربه.
ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية وثابت إليه قوّته. وارتحل
إلى سوسة فحاصرها ونصب عليها المجانيق. وهلك القائم سنة أربع وثلاثين
وثلاثمائة في شوّال وصارت الخلافة لابنه إسماعيل المنصور فبعث بالمدد
إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه. ووصل
المدد إلى سوسة فقاتلوا أبا يزيد فانهزم ولحق بالقيروان، فامتنعت عليه
فاستخلص صاحبه أبا عمّار من أيديهم وارتحل عنهم.
وخرج المنصور من المهديّة إلى سوسة، ثم إلى القيروان فملكها وعفا عن
أهلها وأمّنهم وأحسن في مخلّف أبي يزيد وعياله. وتوافي المدد إلى أبي
يزيد ثالثة فاعتزم على حصار القيروان، وزحف إلى عسكر المنصور بساحتها
فبيّتهم، واشتدّ الحرب واستمات الأولياء وافترقوا آخر نهارهم. وعاودوا
الزحف مرّات ووصل المدد إلى المنصور من الجهات حتى إذا كان منتصف
المحرّم كان الفتح، وانهزم أبو يزيد وعظم القتل في البربر ورحل المنصور
في اتباعه فمرّ [1] ثم تبسة حتى انتهى إلى باغاية. ووافاه بها كتاب
محمد بن خزر بالطاعة والولاية والاستعداد للمظاهر، فكتب إليه بترصّد
أبي يزيد والقبض عليه، ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. ثم رحل إلى
طبنة فوافاه بها جعفر بن عليّ عامل المسيلة بالهدايا والأموال. وبلغه
أنّ أبا يزيد نزل بسكرة وأنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة، فلم يجد
عنده ما يرضيه، فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقّاه أهلها. وفرّ أبو يزيد
إلى بني برزال بجبل سالات، ثم إلى جبل كتامة وهو جبل عياض لهذا العهد.
وارتحل المنصور في أثره إلى ومرة [2] وبيّته أبو يزيد هنالك فانهزم ولم
يظفر وانحاز إلى جبل سالات. ثم لحق بالرمال ورجع عنه بنو كملان،
وأمّنهم المنصور على يد محمد بن خزر.
وسار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات، وارتحل وراءه إلى الرمال.
ثم رجع ودخل بلاد صنهاجة، وبلغه رجوع أبي يزيد إلى جبل كتامة فرجع
إليه، ونزل عليه المنصور في كتامة وعجيسة وزواوة وحشد بني زنداك ومزاته
ومكناسة ومكلاته.
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: فمرّ بسبيبة ثم بتبسة.
[2] وفي نسخة أخرى: مغرة.
(7/22)
وتقدّم المنصور إليه فقاتلوا أبا يزيد
وجموع النكارية فهزموهم واعتصموا بجبل كتامة، ورحل المنصور إلى المسيلة
وانحصر أبو يزيد في قلعة الجبل، وعسكر المنصور إزاءها واشتدّ الحصار،
وزحف إليها مرّات، ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة
القلعة فأحيط به واقتحم، وقتل أبو عمّار الأعمى ويكموس المزاتي ونجا
أبو يزيد مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من
الأوعار فوهن وسيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته. ثم أحضره
ووبّخه وأقام الحجّة عليه وتجافى عن دمه، وبعثه إلى المهديّة وفرض له
بها الجراية فجزاه خيرا. وحمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس وثلاثين
وثلاثمائة. وأمر به فسلخ وحشي جلده بالتبن وطيف به في القيروان. وهرب
الفلّ من أصحابه إلى ابنه فضل، وكان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة
المنصور، وكمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم. ولم يزل
المنصور في اتباعه إلى أن نزل المسيلة وانقطع أثر معبد، ووافاه بمعسكره
هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت [1] من أوليائهم، وأنه ركب البحر
من تنس إلى العدوة فارتحل إلى تيهرت وولّى عليها وعلى تنس. ثم قصد
لواتة فهربوا إلى الرمال، ورجع إلى إفريقية سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
ثم بلغه أنّ فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قصطيلة، فرحل من سنته في
طلبه وانتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى [2] من أعمال الزاب، وفتح حصن ماداس
مما يليه. وهرب فضل في الرمال فأعجزه ورجع إلى القيروان سنة ست
وثلاثين. ومضى فضل إلى جبل أوراس، ثم سار منه إلى باغاية فحاصرها. وغدر
به ماطيط [3] بن يعلى من أصحابه، وجاء برأسه إلى المنصور. وانقرض أمر
أبي يزيد وبنيه وافترقت جموعهم. واغتال عبد الله ابن بكار من رؤساء
مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد وجاء برأسه إلى المنصور متقرّبا إليه.
وتتبّع المنصور قبائل بني يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة. والبقاء
للَّه تعالى وحده.
__________
[1] تاهرت: معجم البلدان.
[2] بياض بالأصل وفي النسخة الباريسية: مديلية وفي نسخة أخرى ميطلة.
[3] وفي نسخة ثانية: باطيط.
(7/23)
(الخبر عن الدولة
الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط والأقصى ومبادئ أمورهم ومصايرها)
كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة وكانوا متفرقين بالمواطن، فكان منهم
بإفريقية بنو واركوا ومرنجيصة وغيرهم كما قدّمناه، وكان منهم بنواحي
تلمسان ما بينها وبين تاهرت أمم كثير عددهم وهم الذين اختطّوا مدينة
تلمسان كما نذكره بعد. ومنهم أبو قرّة المنتزي بتلك الناحية لأوّل
الدولة العبّاسيّة، وهو الّذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدّم. ولما
انقرض أمر أبي يزيد وأثخن المنصور فيمن كان بإفريقية من بني يفرن أقام
هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم. وكان رئيسهم لعهد أبي
يزيد محمد بن صالح. ولما تولى المنصور محمد بن خزر وقومه مغراوة، وكان
بينه وبين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله
بن بكّار من بني يفرن، كان متحيزا إلى مغراوة. وولي. أمره في بني يفرن
من بعده ابنه يعلى فعظم صيته، واختط مدينة أفكان [1] .
ولما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة واستألف
ملوكهم، سارع يعلى لإجابته، واجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر
وقومه مغراوة، وأجلب على وهران فملكها سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة من
يد محمد بن عون، وكان ولّاه عليها صولات اللميطي [2] أحد رجالات كتامه
سنة ثمان وتسعين ومائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه وخرّبها. وكان يعلى
قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت وبرز إليه ميسور الخصيّ في شيعته من
لماية فهزموهم وملكوا تاهرت، وتقبّض على ميسور وعبد الله بن بكّار فبعث
به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به، فلم يرضه كفؤا لدمه ودفعه إلى من
ثأر به من بني يفرن. واستفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب وخطب على
منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة.
واستدعى من الناصر تولية رجال بيته على أمصار المغرب فعقد على فاس
لمحمد بن
__________
[1] ايفكان: تقع بين معسكر وسيدي بلعباس من عمالة وهران على بعد 25 كلم
من الأولى، تعرف اليوم بعين فكان، وكانت تدعى في العهد الزناتي أفكان
(قبائل المغرب ص 120) .
[2] وفي نسخة أخرى: دواس بن صولات اللبيصي.
(7/24)
الخير بن محمد بن عشيرة ونسك محمد لسنة من
ولايته، واستأذن في الجهاد والرباط بالأندلس فأجاز لذلك واستخلف على
عمله ابن عمه أحمد بن أبي بكر بن أحمد ابن عثمان بن سعيد، وهو الّذي
اختطّ مئذنة القرويين سنة أربع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه ولم يزل
سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيما إلى أنّ أغزى بعد المعز لدين الله
كاتبه جوهر الصقلّي من القيروان إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة
فلما فصل جوهر بالجنود بادر أمير زناتة بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني
إلى لقائه والإذعان لطاعته والانحياش إليه، ونبذ عهد الأموية، وأعمل
إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان وأعطاه يد الانقياد وعهد البيعة عن
قومه بني يفرن وزناتة، فتقبّلها جوهر وأضمر الفتك به، وتخيّر لذلك يوم
فصوله من بلده، وأسرّ إلى بعض مستخلصيه من الاتباع فأوقعوا نفرة في
أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة وصنهاجة. وزناتة، وتقبّض على
يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغضّ بالرماح على أيدي رجالات كتامة
وصنهاجة، وذهب دمه هدرا في القبائل. وخرب جوهر مدينة إيفكان وفرّت
زناتة أمامه وكشف القناع في مطالبتهم.
(وقد ذكر) بعض المؤرخين أنّ يعلى إنّما لقي جوهرا عند منصرفه من الغزاة
بمدينة تاهرت، وهنالك كان فتكه به بناحية شلف، فتفرّقت بعدها جماعة بني
يفرن وذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلّا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما
نذكره. ولحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبرهم في موضعه وانقرضت
دولة بني يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدّة على يد يعلى بفاس. ثم
استقرّت آخرا بسلا وتعاقب فيهم هنالك إلى آخرها كما نذكره إن شاء الله
تعالى.
(الخبر عن الدولة الثانية لبني يفرن بسلا
من المغرب الأقصى وأولية ذلك وتصاريفه)
لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بني يفرن وملك
المغرب سنة سبع وأربعين وثلاثمائة كما ذكرناه وتفرّقت جموع بني يفرن
لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب.
الأقصى وأحسّ بجوهر من ورائه فأبعد المفرّ وأصحر إلى أن رجع جوهر من
المغرب.
ويقال إنّ جوهرا تقبّض عليه واحتمله أسيرا فاعتقل إلى أن فرّ من معتقله
بعد حين،
(7/25)
واجتمع عليه قومه من بني يفرن وكان جوهر
عند منصرفه من المغرب ولّى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف وبلاد
غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزل [1] وأجاز الحكم المستنصر
لأوّل ولايته سنة خمس وثلاثمائة [2] وزيره محمد بن قاسم بن طملس في
العساكر لتدويخ المغرب واقتلاع جرثومة الأدارسة، فأجاز في العساكر
وغلبهم على بلادهم وأزعجهم جميعا عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس وستين
وثلاثمائة كما ذكرناه. ومهّد دعوة الأموية بالمغرب، وأقفل الحكم مولاه
غالبا وردّه إلى الثغر لسدّه، وعقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم
التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان أجازه مددا لغالب في رجال العرب وجنّد
الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علّة الفالج وركدت ريح المروانية
بالمغرب واحتاجت الدولة إلى رجالها لسدّ الثغور ودفاع العدو، استدعى
يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة، واداله الحاجب المصحفي بجعفر بن علي
بن حمدون أمير الزاب والمسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة، وجمعوا بين
الانتفاع به في العدوة والراحة مما يتوقّع منه على الدولة ومن البرابرة
في التياث الخلافة لما كانوا أصاروا إليه من النكبة، وطوّقوه من
المحنة.
ولما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له ولأخيه يحيى على
المغرب وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال دثر وكسي فاخرة للخلع على ملوك
العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وثلاثمائة وضبطه.
واجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي [3] بن يعلى أمير بني يفرن وابن عمّه
نوبخت بن عبد الله بن بكّار، ومحمد بن الخير بن خزر وابن عمّه بكساس بن
سيّد الناس، وزيري بن خزر وزيري ومقاتل ابنا عطية بن تبادها [4] وخزرون
بن محمد وفلفول بن سعيد أمير مغراوة، وإسماعيل بن البوري أمير مكناسة،
ومحمد ابن عمه عبد الله بن مدين وخزرون بن محمد الازداجي، وكان بدوي بن
يعلى من أشدّهم قوّة وأحسنهم طاعة. ولما هلك الحكم وولي مكانه هشام
المؤيد، وانفرد محمد بن أبي عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأوّل قيامه
على مدينة سبتة، فضبطها بجند السلطان
__________
[1] بياض بالأصل وفي إحدى النسخ: فنزل البصرة.
[2] حسب مجرى الأحداث: يجب أن تكون خمسين وثلاثمائة.
[3] وفي نسخة أخرى: يدر.
[4] وفي نسخة أخرى: تبادلت.
(7/26)
ورجال الدولة، وقلّدها الصنائع من أرباب
السيوف والأقلام، وعوّل في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة وتعهّدهم
بالجوائز والخلع، وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب في الإثبات في
ديوان السلطان منهم، فجدّدوا في ولاية الدولة وبث الدعوة.
وفسد ما بين أمير العدوة جعفر بن علي وأخيه يحيى واقتطع يحيى مدينة
البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه
برغواطة في غزاتة إياهم، واستدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه
من استقامته إليه، وشدّ أزره وتلوّى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من
الحكم. ثم أصلحه وتخلّى لأخيه عن عمل المغرب وأجاز البحر إلى ابن أبي
عامر فحلّ منه بالمكان الأثير، وتناغت زناتة في التزلّف إلى الدولة
بقرب الطاعات، فزحف خزرون بن فلفول سنة ست وستين وثلاثمائة إلى مدينة
سجلماسة فاقتحمها ومحى دولة آل مدرار منها، وعقد له المنصور عليها كما
ذكرنا ذلك قبل.
وزحف عقب هذا الفتح بلكّين بن زيري قائد إفريقية للشيعة إلى المغرب سنة
تسع وستين وثلاثمائة زحفه المشهور وخرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى
الجزيرة لمدافعته بنفسه، واحتمل من بيت المال مائة حمل ومن العساكر ما
لا يحصى عدّه. وأجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة، وانضمّت إليه ملوك
زناتة ورجع بلكّين عنهم إلى غزو برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين
وثلاثمائة كما ذكرناه.
ورجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر، لم يسمح بمقامه عنه، ووصل حسن بن
كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب العزيز نزار بن معدّ إلى بلكّين صاحب
إفريقية في إعانته إلى ملك المغرب وإمداده بالمال والعساكر، فأمضاه
بلكّين لسبيله، وأعطاه مالا ووعده بإضعافه ونهض إلى المغرب فوجد طاعة
المروانية قد استحكمت فيه.
وهلك بلكّين أثر ذلك وشغل ابنه المنصور عن شأنه فدعا لحسن بن كنون إلى
نفسه، وأنفذ أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله ويلقّب
عسكلاجة لحربه سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وجاء أثره إلى الجزيرة كيما
يشارف القصة، وأحيط بالحسن بن كنون فسأل الأمان وعقد له مقارعه عمر
وعسكلاجة، وأشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي عامر أمامه، ورأى أن لا
ذمّة له لكثرة نكثة فبعث من ثقاته من أتاه برأسه، وانقرض أمر الأدارسة
وانمحى أثرهم فأغضب عمر وعسكلاجة لذلك.
(7/27)
واستراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى
المنصور فاستدعاه من العدوة وألحقه بمقتوله ابن كنون.
وعقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، واكثف عدده،
وأطلق في المال يده، ونفذ إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة فضبط
المغرب أحسن ضبط وهابته البرابرة، ونزل فاس من العدوة، فعزّ سلطانه
وكثر جمعه، وانضمّ إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبّة
استقلاله، واستدعاه ليبلو صحة طاعته، فأسرع اللحاق به، فضاعف تكرمته
وأعاده إلى عمله، وكان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير
الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة.
وكان لمنصور بن أبي عامر يضرب بينه وبين قرينه زيري بن عطية ويقرن كلا
منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة، وكان إلى زيري أميل وبطاعته أوثق،
لخلوصه وصدق طويته وانحياشه فكان يرجو أن يتمكّن من قياد بدوي بن يعلى
بمناغاته، فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع [1] وسبعين
وثلاثمائة فبادر إلى القدوم عليه وتلقّاه وأكبر موصله وأحسن مقامه
ومنقلبه وأعظم جائزته، وسام بدوي مثلها فامتنع، وقال لرسوله: قل لابن
أبي عامر متى عهد حمر الوحش تنقاد للبيطارة.
وأرسل عنانه في العيث والفساد ونهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد
الودود في عساكره وجموعه من جند الأندلس وملوك العدوة مظاهرا عليه
لعدوّة زيري بن عطية، وجمع لهم بدوي ولقيهم سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
فكان الظهور له.
وانهزم عسكر السلطان وجموع مغراوة، واستلحموا وجرح الوزير حسن بن عبد
الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه. وطار الخبر إلى ابن أبي عامر
فاغتمّ لذلك وكتب إلى زيري بضبط فاس ومكاتبة أصحاب حسن، وعقد له على
المغرب كما نستوفي ذكره عند ذكر دولتهم. وغالبة بدوي عليها مرّة بعد
أخرى ونزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه، ولحق بسواحل
تلمسان ناقضا لطاعة الشيعة، وخارجا على أخيه المنصور بن بلكّين صاحب
القيروان. وخاطب ابن أبي عامر من وراء البحر وأوفد عليه ابن أخيه ووجوه
قومه فسرّب إليه الأموال والصلاة بفاس مع
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سنة تسع وسبعين.
(7/28)
زيري حسبما نذكره، وجمع أيديهما على مدافعة
بدوي، فساء أمره فيهما جميعا إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن
أخيه كما نذكره بعد. وحاربه زيري فكان له الظهور عليه ولحق أبو البهار
بسبتة، ثم عاد إلى قومه.
واستفحل زيري من بعد ذلك، وكانت بينه وبين بدوي وقعة اكتسح زيري من
ماله ومعسكره مالا كفؤله، وسبى حرمه. واستلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف
فارس.
وخرج إلى الصحراء شريدا سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. وهلك هناك فولي
أمره في قومه حبّوس ابن أخيه زيري بن يعلى، ووثب به ابن عمه أبو يداس
بن دوناس فقتله طمعا في الرئاسة من بعده، واختلف عليه قومه فأخفق أمله
وعبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه. وولي أمر بني يفرن من
بعده حمامة بن زيري بن يعلى أخو حبّوس المذكور، فاستقام عليه أمر بني
يفرن وقد مرّ ذكره في خبر بدوي غير مرّة، وأنه كانت الحرب بينه وبين
زيري بن عطية سجالا، وكانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب. وأنه لما
وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها، وقتل بها خلقا من
مغراوة، وأنه لمّا رجع زيري اعتصم بدوي بفاس فنازله زيري وهلك من
مغراوة وبني يفرن في ذلك الحصار خلق. ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله
وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة والله
أعلم.
(ولمّا) اجتمع بنو يفرن على حمامة تحيّز بهم إلى ناحية شالة من المغرب
فملكها وما إليها من تادّلّا، واقتطعها من زيري، ولم يزل عميد بني يفرن
في تلك العمالة، والحرب بينه وبين زيري ومغراوة متّصلة، وكانت بينه
وبين المنصور صاحب القيروان مهاداة، فأهدى إليه وهو محاصر لعمّه حماد
بالقلعة سنة ست وأربعمائة، وأوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه
بالطبول والبنود. ولما هلك حمامة قام بأمر بني يفرن من بعده أخوه
الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبدّ بملكهم، وكان مستقيما
في دينه مولعا بالجهاد، فانصرف إلى جهاد برغواطة وسالم مغراوة وأعرض عن
فتنتهم.
(ولمّا) كانت سنة أربع وعشرين وأربعمائة تجدّدت العداوة بين هذين
الحيّين بني يفرن ومغراوة، وثارت الإحن القديمة، وزحف أبو الكمال صاحب
شالة وتادلا وما إلى ذلك في جموع يفرن. وبرز إليه حمامة بن المعز في
قبائل مغراوة، ودارت بينهم حروب شديدة وانكشفت مغراوة وفرّ حمامة إلى
وجدة، واستولى الأمير أبو الكمال تميم وقومه على فاس وغلبوا مغراوة على
عمل المغرب. واكتسح تميم اليهود بمدينة فاس،
(7/29)
واصطلم نعمهم واستباح حرمهم. ثم احتشد
حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة وزناتة وبعث الحاشدين في قياطينهم
لجميع بلاد المغرب الأوسط، ووصل إلى تنس صريخا لزعمائهم. وكاتب من بعد
عنه من رجالاتهم، وزحف إلى فاس سنة تسع وعشرين وأربعمائة فأفرج عنها
أبو الكمال تميم ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة، وأقام بمكان عمله وموطن
إمارته منها إلى أن هلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه حمّاد إلى
أن هلك سنة تسع وأربعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي
سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، فولي بعده عمّه محمد ابن الأمير أبي تميم
إلى أن هلك في حروب لمتونة حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره،
والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.
(وأمّا) أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما
اختلف عليه بنو يفرن وأخفق أمله في اجتماعهم له، أجاز البحر إلى
الأندلس سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فرفعه إخوانه أبو قرّة وأبو زيد
وعطاف، فحلّ كلّهم من المنصور محل التكرمة والإيثار ونظمه في جملة
الرؤساء والأمراء وأسنى له الجراية والأقطاع، وأثبت رجاله في الديوان،
ومن أجاز من قومه فبعد صيته وعلا في الدولة كعبه.
(ولما) افترقت الجماعة وانتثر سلك الخلافة كان له في حروب البربر مع
جند الأندلس آثار بعيدة وأخبار غريبة، ولما ملك المستعين قرطبة سنة
أربعمائة واجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور
واستجاش طاغية الجلالقة، فزحف معه إلى غرناطة وخرج المستعين في جموعه
من البرابرة إلى الساحل واتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة
[1] فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة، وطار لأبي يداس فيما
ذكر، وانهزم المهدي والطاغية وجموعهم بعد أن تضايقت المعركة وأصابت أبا
يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه، ودفن هناك. وكان لابنه خلوف
وحافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة ورياسة، وكان يحيى
بن عبد الرحمن ابن أخيه عطاف من رجالاتهم، وكان له اختصاص ببني حمّود،
ثم بالقاسم منهم، ولّاه على قرطبة أيام خلافته والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: أبرة.
(7/30)
(الخبر عن أبي نور بن أبي قرّة وما كان له
من الملك بالأندلس أيام الطوائف)
هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرّة بن أبي يفرن من رجالات البربر
الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة، تغلّب على رندة أزمان تلك الفتنة،
وأخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس وأربعمائة فملكها
واستحدث بها لنفسه سلطانا. ولما استفحل أمر ابن عبّاد بأشبيليّة وأسف
إلى تملّك ما جاوره من الأعمال والثغور، نشأت الفتنة بينه وبين أبي نور
هذا. واختلف حاله معه في الولاية والانحراف، وسجل له سنة ثلاث وأربعين
واربعمائة برنده وأعمالها فيمن سجل له من البربر.
واستدعاه بعدها سنة خمسين واربعمائة لبعض ولائمه وكاده بكتاب أوقفه
عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرّم،
فانطلق إلى بلده وقتل ابنه.
وشعر بالمكيدة فمات أسفا وولي ابنه الآخر أبو نصر إلى سنة سبع وخمسين
وأربعمائة فغدر به بعض جنده، وخرج هاربا فسقط من السور ومات. وتسلّم
المعتمد رنده من بعد ذلك ويقال إنّ ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خمس
وأربعين وأربعمائة وانّ أبا نور هلك فيها. ولما بلغ الخبر ابنه أبا نصر
وقع ما وقع والله أعلم.
(الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن وشرح
أحوالهم)
كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي إفريقية وكانت لهم كثرة وقوّة. ولما
خرج أبو يزيد على الشيعة وكان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره
بما كان له معهم من العصبية. ثم انقرض أمره وأخذتهم دولة الشيعة
وأولياؤهم صنهاجة وولاتهم على إفريقية بالسطوة والقهر، وإنزال العقوبات
بالأنفس والأموال إلى أن تلاشوا وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة.
وبقيت منهم أحياء نزلوا ما بين القيروان وتونس أهل شاء وبقر وخيام
يظعنون في نواحيها، وينتحلون الفلح في معاشهم، وملك الموحدون إفريقية
وهم بهذا الحال، وضربت عليهم المغارم والضرائب والعسكرة مع السلطان في
غزواته بعدّة مفروضة يحضرون بها متى استقروا.
(7/32)
(ولما تغلّب) الكعوب من بني سليم على ضواحي
إفريقية وأخرجوا منها الزواودة من الرياح أعداء الدولة لذلك العهد،
واستظهر بهم السلطان عليهم، اتخذوا إفريقية وطنا من قابس إلى باجة. ثم
اشتدّت ولايتهم للدولة وعظم الاستظهار بهم وأقطعهم ملك الدولة ما شاؤه
من الأعمال والخراج فكان في أقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء.
ولمّا كانت وقعة بنو مزين على القيروان وكان بعدها في الفترة ما كان من
طغيان الفتنة التي اعتزّ فيها العرب على السلطان والدولة، كان لهؤلاء
الكعوب المتغلّبين مدد قوي من أحياء مرنجيصة هؤلاء من الخيل للحملان،
والخيالة للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة وخولا،
وتملّكوهم تملّك العبيد، حتى إذا اذهب الله بحمى الفتنة وأقام مائل
الخلافة والدولة وصار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا
السلطان أبي العبّاس أحمد، فانقشع الجو وأضاء الأفق ودفع المتغلّبين من
العرب عن أعماله، وقبض أيديهم عن رعاياه وأصار مرنجيصة هؤلاء من صفاياه
بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب وظعنهم معهم، فراجعوا الحق
وأخلصوا في الانحياش ورجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة وقوانين الخراج،
وهم على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها.
(الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولى من
زناتة وما كان لهم من الدول بالمغرب ومبدإ ذلك وتصاريفه)
هؤلاء القبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة وأهل الباس والغلب
منهم، ونسبهم إلى مغراو بن يصلتين بن مسر بن زاكيا بن ورسيك بن ألديرت
بن جانا إخوة بني يفرن وبني يرنيان، وقد تقدّم الخلاف في نسبهم عند ذكر
بني يفرن، وأمّا شعوبهم وبطونهم فكثير مثل بني يلبث [1] وبني زنداك
وبني رواو [2] ورتزمير وبني أبي سعيد وبني ورميغان والأغواط وبني ريغة
وغيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم. وكانت محلّاتهم بأرض المغرب الأوسط من
شلف إلى تلمسان إلى جبل مدبولة [3] وما إليها
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني يليث.
[2] وفي نسخة أخرى: بني وراق.
[3] وفي نسخة أخرى: جبل مديونة.
(7/33)
ولهم مع إخوانهم بني يفرن اجتماع وافتراق
ومناغاة في أحوال البدو. وكان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم
عليه الإسلام فأقرّه لهم وحسن إسلامهم.
وهاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة، ووفد على أمير المؤمنين
عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فلقاه برّا وقبولا لهجرته، وعقد له على
قومه ووطنه. وانصرف إلى بلاده محبوّا محبورا مغتبطا بالدين مظاهرا
لقبائل مضر، فلم يزل هذا دأبه. وقيل إنه تقبّض عليه أسيرا لأوّل الفتح
في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان
لمكانه من قومه فمنّ عليه وأسلم فحسن إسلامه، وعقد له على عمله فاختصّ
صولات هذا وسائر الأحياء من مغراوة بولاء عثمان وأهل بيته من بني أمية،
وكانوا خاصة لهم دون قريش، وظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعيا لهذا
الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم.
ولما هلك صولات قام بأمره في مغراوة وسائر زناتة من بعده ابنه حفص وكان
من أعظم ملوكهم، ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر وعند ما تقلّص ظلّ
الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء، وأظلت فتنة ميسرة الحقير ومظفره
[1] فاعتزّ خزر وقومه على أمر المضرية بالقيروان، واستفحل ملكهم وعظم
شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط. ثم انتقض أمر بني أمية
بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازا وعتوّا، وهلك خلال ذلك
خزر وقام بملكه ابنه محمد وخلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن عبد الله بن
حسن بن الحسن سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي. وقام برابرة المغرب من
أوربة ومدينة ومغيلة بأمره، واستوثق له الملك واقتطع المغرب عن طاعة
بني العبّاس سائر الأيام.
ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر
هذا وألقى إليه المقادة، وبايع له عن قومه وأمكنه من تلمسان بعد أن غلب
عليها بني يفرن أهلها. وانتظم لإدريس بن إدريس الأمر وغلب على جميع
أعمال أبيه، وملك تلمسان وقام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه.
وكان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن
بن الحسن القادم إليه من المشرق، وسجّل له بولاية تلمسان من سجل ابنه
إدريس لمحمد ابن عمّه سليمان من بعده،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطخرة.
(7/34)
فكانت ولاية تلمسان وأمصارها في عقبه،
واقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن
سليمان، وأرشكول لولد عيسى بن محمد، وتنس لولد إبراهيم بن محمد، وسائر
الضواحي من أعمال تلمسان لبني يفرن ومغراوة.
ولم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن
كانت دولة الشيعة واستوثق لهم ملك إفريقية. وسرّح عبيد الله المهدي إلى
المغرب عروبة بن يوسف الكتاميّ في عساكر كتامة سنة ثمان وتسعين
ومائتين، فدوّخ المغرب الأدنى ورجع. ثم سرّح بعده مصالة بن حبّوس إلى
المغرب في عساكر كتامة، فاستولى على أعمال الأدارسة واقتضى طاعتهم
لعبيد الله. وعقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة.
وخلع نفسه ودان بطاعتهم، وعقد له مصالة على فاس، وعقد لموسى بن أبي
العالية أمير مكناسة وصاحب تازة [1] ، واستولى على ضواحي المغرب، وقفل
إلى القيروان. وانتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية لإدريس
الأكبر، وحمل زناتة وأهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة وسرّح
عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة تسع وثلاثمائة،
ولقيه محمد ابن خزر في جموع مغراوة وسائر زناتة ففلّ عساكر مصالة وخلص
إليه فقتله، وسرّح عبيد الله ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب
سنة عشر وثلاثمائة، وعقد له على حرب محمد بن خزر وقومه، فأجفلوا إلى
الصحراء، واتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسجلماسة وعطف أبو القاسم على
المغرب فدوّخ أقطاره وجال في نواحيه وجدّد لابن أبي العافية على عمله
ورجع ولم يلق كيدا.
(ثم إنّ الناصر) صاحب قرطبة سما له أمل في ملك العدوة، فخاطب ملوك
الأدارسة وزناتة، وبعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة
ستة عشر وثلاثمائة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته وطرد أولياء الشيعة من
الزاب. وملك شلب وتنس من أيديهم، وملك وهران وولّى عليها ابنه المنير
[2] ، وبثّ دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت. وبدأ في
القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم
__________
[1] تازة: مدينة متوسطة من أقدم المدن المغربية، تقع وسط قبيلة غياثة
في منتصف الطريق بين مكناس ووجدة في موقع جبلي ممتاز بين الأطلس
المتوسط وجبال الريف في ممر استراتيجي عظيم بين الغرب الشرقي وسهول فاس
(كتاب المغرب ص 74) .
[2] وفي نسخة ثانية: الخير.
(7/35)
بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول. ثم
فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة وثلاثمائة من يد الأدارسة وأجار موسى بن
أبي العالية على طاعته، واتصلت يده بمحمد بن خزر وتظاهروا على الشيعة
وخالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة، وعقد له عبد الله على
مغراوة.
وزحف إلى المغرب حميد بن يصل [1] سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في عساكر
كتامة الى عبد الله على تاهرت فانتهى الى فاس وأجفلت أمامه ظواعن زناتة
ومكناسة ودوّخ المغرب. وزحف من بعده ميسور الخصيّ سنة اثنتين وعشرين
وثلاثمائة فحاصر فاس وامتنعت عليه ورجع. ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان
وعشرين وثلاثمائة وتحيّز إلى محمد بن خزر. ثم أجاز إلى الناصر وولّاه
على المغرب الأوسط. ثم شغل الشيعة بفتنة أبي يزيد وعظمت آثار محمد بن
خزر وقومه من مغراوة، وزحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد الأموية
سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وزحف معه الخير بن محمد وأخوه حمزة وعمّه
عبد الله بن خزر، ومعهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن، وأخذوا تاهرت
عنوة وقتلوا عبد الله بن بكّار، وأسروا قائدها ميسور الخصيّ بعد أن قتل
حمزة بن محمد بن خزر في حروبها.
وكان محمد بن خزر وقومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا وقتلوا زيدان
الخصيّ. ولما خرج إسماعيل من حصار أبي يزيد وزحف إلى المغرب في اتباعه
خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم وقتل أتباعهم،
فبعث إليه بطاعة معروفة وأوعز إليه إسماعيل بطلب أبي يزيد ووعده في ذلك
بعشرين حملا من المال. وكان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى
أن هلك. وتقبّض إسماعيل بعد ذلك على على معبد سنة أربعين وثلاثمائة
وقتله، ونصب رأسه بالقيروان. ولم يزل محمد بن خزر وابنه الخير متغلّبا
على المغرب الأوسط، ومقاسما فيها ليعلى بن محمد.
ووفد فتوح بن الخير سنة أربعين وثلاثمائة على الناصر مع مشيخة تاهرت
ووهران فأجازهم وصرفهم إلى أعمالهم.
ثم حدثت الفتنة بين مغراوة وصنهاجة وشغل محمد بن الخير وابنه خزر
بحروبهم، وتغلّب يعلى بن محمد على وهران وخرّبها وعقد الناصر لمحمد بن
يصل على تلمسان
__________
[1] هو حميد بن يصليتن الكتامي وقد زحف في عشرين ألف فارس (قبائل
المغرب 120) .
(7/36)
وأعمالها، وليعلى بن محمد على المغرب
وأعماله، فراجع محمد بن خزر طاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد.
ووفد على المعز بعد مهلك أبيه إسماعيل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
فأولاه تكرمة وتمّ على طاعتهم إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب
بأعوام سبع أو ثمان وأربعين وثلاثمائة ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة
خمسين وثلاثمائة، وهلك بالقيروان، وقد نيف على المائة من السنين. وهلك
الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب وانقبض
أولياء الأموية إلى أعمال سبتة وطنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر،
واستأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير ابن محمد بن خزر بما
كان من أبيه الخير وجدّه محمد في ولاية الناصر، والولاية التي لبني
أمية على آل خزر بوصية عثمان بن عفّان لصولات بن وزمار جدّهم كما
ذكرناه.
فاثخن في الشيعة ودوّخ بلادهم. ورماه معدّ بقرينة [1] زيري بن مناد
أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة وسوّغه ما غلب عليه من أعمالهم،
وجمعوا للحرب سنة ستين ومائتين فلقي بلكّين بن زيري جموعهم بدسيسة من
بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم، فأبلى منهم ثباتا
وصبرا واشتدّت الحرب بينهم وانهزمت زناتة، حتى إذا رأى محمد بن الخير
أن قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر وذبح نفسه. واستمرّت الهزيمة
على قومه ووجد منهم في المعركة سبعة عشر أميرا سوى الأتباع. وتحيز كلّ
إلى فريقه.
وولى بعد محمد في مغراوة ابنه الخير وأغرى بلكّين بن زيري الخليفة معدّ
وجندل بن جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب بموالاة محمد [2]
بن الخير فاستراب جعفر وبعث عنه معدّ لولاية إفريقية حتى اعتزم على
الرحيل إلى القاهرة، فاشتدّت استرابته ولحق بالخير بن محمد وقومه.
وزحفوا إلى صنهاجة فأتيحت لهم الكرّة وأصيب زيري بن مناد كبير العصابة،
وبعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن عليّ أخي
جعفر. ثم استراب بعدها جعفر من زناتة ولحق بأخيه يحيى، ونزلوا على
الحكم وعقد معه لبلكّين بن زيري على حرب زناتة وأمدّه بالأموال
والعساكر، وسوّغه ما تغلّب عليه من أعمالهم، فنهض إلى المغرب سنة إحدى
وستين ومائتين وأوغر بالبرابرة منهم وتقرى أعمال طبنة وباغاية والمسيلة
وبسكرة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قريعة.
[2] وفي نسخة ثانية: حمد بن الخير.
(7/37)
وأجفلت زناتة أمامه. وتقدّم إلى تاهرت فمحا
من المغرب الأوسط آثار زناتة، ولحق بالمغرب الأقصى.
واتبع بلكّين آثار الخير بن محمد وقومه إلى سجلماسة، فأوقع بهم وتقبّض
عليهم، فقتله صبرا وفضّ جموعهم، ودوّخ المغرب وانكف راجعا، ومرّ
بالمغرب الأوسط فالتحم بوادي زناتة ومن إليهم من المصاصين [1] ورفع
الأمان على كل من ركب فرسا أو أنتج خيلا من سائر البربر. ونذر دماءهم
فأقفر المغرب الأوسط من زناتة وصار إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب
الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان وملكهم إياها،
ثم هلك بنو خزر بسجلماسة وطرابلس، وملك بني زيري ابن عطية بفاس ما نحن
ذاكروه إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الخصّاصين.
(7/38)
(الخبر عن آل زيري
بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم
بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادئ ذلك وتصاريفه)
كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته، ووارث ملكهم البدوي، وهو الّذي مهّد
الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي
في شرحه.
واسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر وجدّه عبد الله أخو محمد
داعية الناصر الّذي هلك بالقيروان كما ذكرناه. وكانوا أربعة إخوة محمد
ومعبد الّذي قتله إسماعيل وفلفول الّذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة
وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت. وقد قيل إنّ عبد الله هذا
هو ابن محمد بن خزر، وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند
فتح تاهرت. ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكّين سنة إحدى
وستين وثلاثمائة وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى،
وصار المغرب الأوسط كلّه لصنهاجة، واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر
وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية
بن عبد الله وخزرون بن فلفول.
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكّين بن زيري على إفريقية، وزحف إلى
المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وثلاثمائة وأجفلت أمامه ملوك
زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح، وانحازوا جميعا إلى سبتة. وأجاز
محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا، فخرج المنصور في
عساكره إلى الجزيرة ممدّا لهم بنفسه. وعقد لجعفر بن علي على حرب
بلكّين، وأجازه البحر وأمدّه بمائة حمل من المال، فاجتمعت إليه ملوك
زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة. وأطلّ عليهم بلكين من جبل تطاون [1]
فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم، وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن
هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه.
وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة، وساهمه المنصور في حمل الرئاسة
وبقي
__________
[1] تطوان: قبائل المغرب/ 140. وفي نسخة أخرى تيطاوين.
(7/39)
المغرب غفلا من الولاية، واقتصر المنصور
على ضبط سبتة ووكّل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة.
وقام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة، بعثه
العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب، وأمدّه بلكين بعسكر من
صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكّين، ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب،
وانضمّ إليه بدوي [1] بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو
يداس فيمن إليهم من بني يفرن، فسرّح المنصور لحربه ابن عمّه أبا الحكم
عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقّب عسكلاجه، وبعثه بالعساكر
والأموال فأجاز البحر وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير، ومقاتل
وزيري ابنا عطية، وخزرون بن فلفول في جميع مغراوة، وظاهروه على شأنه.
وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجئوه إلى
الطاعة، وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من
ذلك، وأمكن به من قياده، وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمّة
أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدّم حسبما ذكرنا ذلك من قبل.
وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشدّ الناس انحياشا
للمنصور قياما بطاعة المروانية. وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن
منحرفين عن طاعتهم. ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد
المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد ابن عبد الودود السلمي وأطلق يده في
انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة
وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة، واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن
انحياشهم وطاعتهم، وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد
المراوغة، فنفذ لعمله ونزل بفاس، وضبط أعمال المغرب، واجتمعت إليه ملوك
زناتة.
وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة واستقلّ برياسة الظواعن
البدو من مغراوة إخوة زيري بن عطية، وحسنت مخاللته لابن عبد الودود
صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه. واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة
إحدى وثمانين وثلاثمائة إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته
في الحظ وإيثار الطاعة فبادر
__________
[1] يدو بن يعلى اليغرني:/ قبائل المغرب/ 121.
(7/40)
إلى إجابته بعد ان استخلف على المغرب. ابنه
المعزّ، وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولّى على عدوة القرويين من فاس علي
بن محمود بن أبي عليّ قشوش، وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد
الكريم بن ثعلبة. وقدّم بين يديه هدية إلى المنصور، ووفد عليه فاستقبله
بالجيوش والعدّة واحتفل للقائه، وأوسع نزله وجرايته ونوّه باسمه في
الوزارة وأقطعه رزقها. وأثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديّته
وأسنى فيها. وأعظم جائزته وجائزة وفده وعجّل تسريحه إلى عمله فقفل إلى
إمارته من المغرب. ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط [1] المعروف
وإنكار الصنيع، والاستنكاف من لقب الوزارة الّذي نوّه به، حتى أنه قال
لبعض حشمه، وقد دعاه بالوزير: وزير من يا لكع [2] فما والله إلا أمير
ابن أمير، وا عجبا من ابن أبي عامر ومخرقته [3] ، والله لو كان
بالأندلس رجل ما تركه على حاله، وإن له منّا ليوما، والله لقد تأجّرني
فيما أهديت إليه حطا للقيم، ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم، إلّا أن
يحتسب بثمن الوزارة التي حطّني بها عن رتبتي.
ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصرّ عليها أذنه وزاد في اصطناعه، وبعث بدوي
بن يعلى اليفرني قريعة في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته
وقال: متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة. وأخذ في إفساد
السابلة والاجلاب على الأحياء والعيث في العمالة، فأوعز المنصور إلى
عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه، ومظاهرة
عدوّه زيري بن عطية عليه، فجمعوا له سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ولقوة
فكانت الدائرة عليهم، وتخرّم العسكر وأثبت [4] الوزير ابن عبد الودود
جراحة كان فيها حتفه. وبلغ الخبر إلى المنصور فشقّ عليه وأهمه شأن
المغرب، وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية، وكتب إليه بعهده وأمر بضبط
المغرب ومكانفة [5] جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود، فاطلع
بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.
__________
[1] غمط: احتقره وازدرى به.
[2] بمعنى أحمق.
[3] لعله ينوي خرقه: أي حمقه وسوء تصرّفه.
[4] وفي نسخة أخرى: أثبتت. ويقال طعنه فاثبت فيه الرمح أي أنفذه،
وضربوه حتى أثبتوه: أي أثخنوه (القاموس) .
[5] بمعنى المحافظة على جند السلطان وفي نسخة أخرى: مكاتبة.
(7/41)
واستفحل شأن بدوي بن يعلى وبني يفرن،
واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة، وكانت حروبهم سجالا،
وسئمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزاؤهم على عملها. وبعث الله
لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان
انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكّين صاحب القيروان وإفريقية، ونزع عن
دعوة الشيعة إلى المروانية. واقتفى أثره في ذلك خلّوف بن أبي بكر صاحب
تاهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زيري، فاقتسموا [1] أعمال
المغرب الأوسط ما بين الزاب وأنشريس [2] ووهران، وخطبوا في سائر
منابرها باسم هشام المؤيّد، وخاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن
أبي عامر، وأوفد عليه أبا بكر بن أخيه حبّوس بن زيري في طائفة من أهل
بيته ووجوه قومه، فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا، وأعظم موصله
وأسنى جوائز وفده وصلاتهم، وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة
من صنوف الثياب الخز والعبيد، وما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية
والحلي، وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير، ودعاه إلى مظاهرة زيري بن
عطيّة على بدوي بن يعلى، وقسّم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد
اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة، فلم يرع ذلك بدوي ولا وزعه عن شأنه من
الفتنة والاجلاب على البدو والحاضرة، وشق عصا الجماعة. وانتقض خلّوف بن
أبي بكر على المنصور لوقته، وراجع ولاية المنصور بن بلكّين.
ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما، وقعد عمّا قام
له زيري بن عطية من حرب خلّوف بن أبي بكر، وأوقع به زيري في رمضان سنة
إحدى وثمانين وثلاثمائة واستلحمه وكثيرا من أوليائه، واستولى على
عسكره، وانحاش إليه عامّة أصحابه.
وفرّ عطية شريدا إلى الصحراء، ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى وقومه
فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوي واستلحم منهم زهاء ثلاثة
آلاف، واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهنّ أمّه وأخته، وتحيّز
سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن
عمّه أبو يدّاس بن دوناس كما ذكرناه، وورد خبر الفتحين متعاقبين على
المنصور فعظم موقعهما لديه. وقد قيل إنّ مقتل بدوي إنّما كان عند إياب
زيري من الوفادة، وذلك أنه لما استقدمه المنصور
__________
[1] وفي نسخة أخرى: فاقتطعوا.
[2] جبال ونشريس: قبائل المغرب/ 121.
(7/42)
ووفد عليه كما ذكرناه، خالفه بدوي إلى فاس
فملكها وقتل من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره. فلمّا رجع زيري من
وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق.
ثم اقتحمها عليه عنوة وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة. إلا أن راوي
هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله لبدوي سنة ثلاث وثمانين
وثلاثمائة [1] فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان.
(ثم إنّ زيري) فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به
زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر
بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقّيه فحاد عن
لقائه. وصاعد إلى قلعة جراوة، وقد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب
القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما. ثم تحيّز إليه وعاد إلى
مكانه من عمله، وخلع ما تمسّك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة
فجمع المنصور لزيري بن عطيّة أعمال المغرب. واستكفى به في سدّ الثغر
وعوّل عليه من بين ملوك المغرب في الذبّ عن الدعوة، وعهد إليه بمناجزة
أبي البهار وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر
وفرّ أمامه، ولحق بالقيروان. واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي
البهار. وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه
واشتدّت شوكته، وكتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل وخمسين جملا
من المهاري السبق، وألف درقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط
الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره، وألف حمل من
التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة، فجدّد له عهده على المغرب
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم.
واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا، واختط
مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وأنزلها عساكره وحشمه، واستعمل
عليها ذويه، ونقل إليها ذخيرته، وأعدّها معتصما، وكانت ثغرا للعمالتين
المغرب الأقصى والأوسط.
(ثم فسد) ما بينه وبين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد
المنصور عليه
__________
[1] كذا في قبائل المغرب سنة 383 هـ./ ص 121.
(7/43)
فسامه المنصور الهضيمة. وأبى منها، وبعث
كاتبه ابن القطاع في العساكر، فاستعصى عليه وأمكنه صاحب قلعة حجر النسر
منها، فأشخصه إلى الحضرة.
وأحسن إليه المنصور وسمّاه الناصح، وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي
عامر والإغراء به والتشيّع لهشام المؤيّد والامتعاض له من هضيمته
وحجره، فسخطه عند ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة، ومحى اسمه من
ديوانه ونادى بالبراءة منه.
وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية، وانتقى له الحماة
من سائر الطبقات، وأزاح عللهم وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح
والكسى، وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة، منهم: محمد بن
الخير ابن محمد بن الخير وزيري بن خزر وابن عمهما بكساس بن سيّد الناس.
ومن بني يفرن أبو بخت [1] بن عبد الله بن بكار. ومن مكناسة إسماعيل بن
البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين، ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمدّه
بوجوه الجند. وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وسار في
التعبية وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات [2] وزحف زيري بن عطيّة
في قومه، فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر، واتهم واضح رجالات بني مرزال
بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة وأغرى بهم المنصور فوبّخهم وتنصّلوا فصفح
عنهم، وبعثهم في غير ذلك الوجه. ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكّور
فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري، وبيّت واضح معسكر زيري بنواحي
أصيلا وهم غارّون [3] فأوقع بهم وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف
أحوال واضح وإمداده، فسار في التعبية واحتلّ بالجزيرة عند فرضة المجاز،
ثم بعث عن ابنه المظفّر من مكان استخلافه بالزاهرة، وأجاز إلى العدوة
واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلّة القواد. وقفل المنصور الى قرطبة
واستراع [4] خبر عبد الملك بالمغرب ورجع إليه عامّة أصحاب زيري من ملوك
البربر وتناولهم من إحسانه وبرّه ما لم يعهدوا مثله.
وزحف عبد الملك الى طنجة واجتمع مع واضح، وتلوم هناك مزيحا لعلل
العسكر، فلما
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ابو نوبخت.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: وادي ركاب.
[3] بمعنى (مغيرون) .
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: استذاع بمعنى ذاع وهذه من
التعابير التي يستعملها ابن خلدون.
(7/44)
استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له. فلقيه
زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوّال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
فدارت بينهم حروب شديدة. وهمّ [1] فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو.
وبينهما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل
الغرّة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها، ومرّ يشتدّ نحو
المظفّر، وبشرّه فاستكذبه لثبوت رايته ثم سقط إليه الصحيح فشدّ عليهم
فاستوت الهزيمة وأثخن فيه بالقتل، واستولى على ما كان في عسكرهم مما
يذهب فيه الوصف.
ولحق زيري بفاس جريحا في قلّة، فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمة،
فاحتملهنّ وفرّ أمام العساكر إلى الصحراء، وأسلم جميع أعماله. وطيّر
عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر للَّه والدعاء
وبثّ الصدقات وأعتق الموالي، وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب
فأصلح نواحيه وسدّ ثغوره، وبعث العمّال في جهاته: فأنفذ محمد بن الحسن
بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا [2] واستعمل حميد بن يصل المكناسي
[3] على سجلماسة فخرج كل لوجهه، واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج،
وأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره. ثم عزله في رمضان من
سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى، ثم ولّى عليه من بعده إسماعيل بن
البوري، ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبيّ إلى أن هلك
المنصور.
وأعاد المظفّر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه
بالمغرب فنزل فاس، وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد
الملك إيّاه، واجتمع إليه بالصحراء فلّ مغراوة، وبلغه اضطراب صنهاجة
واختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه، وأنه خرج عليه بعد
عمومته مع ماكسن بن زيري، فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها
الفرصة. واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوّفت بن بلكّين.
وخرج باديس من القيروان صريخا له.
فلمّا مرّ بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى إفريقية فشغل
بحربة. وكان
__________
[1] همّ بالشيء: عزم عليه وقصد فعله ولم يعمله.
[2] تادلا: مركز فلاحي عسكري يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر 500 م على
الضفة اليمنى لوادي أم الربيع يقع وسط ناحية اشتهرت بتربية الأغنام
وبجودة الأصناف (كتاب الغرب/ 72) .
[3] هو حميد بن يصلتين الكتامي (قبائل الغرب 120) .
(7/45)
أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية وولّاه
المنصور على طبنة كما نذكره، فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حمّاد بن
بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس
قرب تاهرت، فكانت الدبرة على صنهاجة، واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم
ألوفا منهم. وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة، وأقام
الدعوة فيها كلّها للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده.
ثم اتّبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم، فأناخ عليها واستأمن إليه
زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه
ما سأل، وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه الرهن
والاستقامة إن أعيد إلى الولاية، ويستأذنه في قدوم زاوي وأخيه خلّال،
فأذن لهما وقدما سنة تسعين وثلاثمائة، وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك،
وأنفذ رسله يذكر تقديمه فسوّفه المنصور لما سبق من نكثه. واعتلّ زيري
بن عطيّة وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها. وهلك في منصرفه سنة إحدى
وتسعين وثلاثمائة واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعزّ
بن زيري فبايعوه، وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور
واعتلق بالدعوة العامريّة وصلحت حاله عندهم، وهلك المنصور خلال ذلك
ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفّر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله
إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له
عهده وأنفذ به وزيره أبا علي بن خديم [1] (ونسخته) : بسم الله الرحمن
الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وآله من الحاجب المظفّر سيف الدولة
دولة الامام الخليفة هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين أطال الله
بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيّي فاس وكافة أهل
المغرب سلّمهم الله أمّا بعد أصلح الله شأنكم وسلّم أنفسكم وأديانكم،
فالحمد للَّه علّام الغيوب وغفّار الذنوب ومقلّب القلوب ذي البطش
الشديد المبدئ المعيد الفعّال لما يريد، لا رادّ لأمره، ولا معقّب
لحكمه، بل له الملك والأمر، وبيده الخير والشرّ، إيّاه نعبد وإيّاه
نستعين، وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون. وصلى الله على سيّدنا
محمد سيّد المرسلين وعلى آله الطيبين، وجميع الأنبياء والمرسلين
والسلام عليكم أجمعين.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: علي بن جدلم.
(7/46)
وإن المعزّ بن زيري بن عطيّة أكرمه الله
تابع رسله لدينا وكتبه متنصّلا من هنات دفعته إليها ضرورات، ومستغفرا
من سيئات حطتها من توبته حسنات، والتوبة محاء الذنب، والاستغفار منقذ
من العيب [1] . وإذا أذن الله بشيء يسرّه، وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم
فيه خير. وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة، ولزوم الجادة، واعتقاد
الاستقامة وحسن المعونة وخفة المؤنة، فولّيناه ما قبلكم، وعهدنا إليه
أن يعمل بالعدل فيكم، وأن يرفع أعمال الجور عنكم. وأن يعمّر سبلكم، وأن
يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلّا في حدود الله تبارك وتعالى.
وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى باللَّه شهيدا. وقد وجّهنا الوزير أبا علي
بن خديم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد
العهد فيه عليه بذلك، وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون
وأحوالكم مطالعون، وأن يقضي على الأعلى للأدنى، ولا يرتضي فيكم بشيء من
الأدنى فثقوا بذلك وأسكنوا إليه وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه
مشدودا ظهره بنا، معقودا سلطانه بسلطاننا، ولا تأخذه في الله لومة
لائم، فذلك طبنا به إذ ولّيناه، وأملنا فيه إذ قلّدناه، والله
المستعان، وعليه التكلان، لا إله إلّا هو، وتبلغوا منا سلاما طيبا
جزيلا ورحمة الله وبركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين
وثلاثمائة.
(ولما وصل) إلى المعز بن زيري عهد المظفّر بولايته على المغرب ما عدا
كورة سجلماسة، فإنّ واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها
لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره، فلم تدخل في ولاية المعز هذه.
فلمّا وصله عهد المظفّر ضمّ نشره [2] وثاب إليه نشاطه، وبثّ عمّاله في
جميع كور المغرب وجبى خراجها، ولم تزل ولايته متسقة، وطاعة رعاياه
منتظمة.
(ولما) افترق أمر الجماعة بالأندلس واختلّ رسم الخلافة وصار الأمر فيها
طوائف استحدث المعزّ في التغلّب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني
واندين بن خزرون فأجمع لذلك، ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه
في جموعهم فهزموه، ورجع إلى فاس في فلّ من قومه وأقام على الاضطراب من
أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن
المعز بن عطية، وليس كما يزعم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: العتب.
[2] النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس.
(7/47)
بعض المؤرخين انه ابنه وإنما هو اتفاق في
الأسماء أوجب هذا الغلط، فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه،
وقصده الأمراء والعلماء وأتته الوفود ومدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو
الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع وعشرين وأربعمائة من بني
يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا، وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن
ومن انضاف إليهم من زناتة.
وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حروب شديدة أجلت
عن هزيمة حمامة. ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأمال
المغرب، ولما دخل فاس استباح يهود وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم، ولحق
حمامة بوجدة فامتدّ من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة وملوية.
وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتحيّز تميم إلى موضع
إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب.
وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة القائد ابن حمّاد صاحب القلعة في جموع
صنهاجة، وخرج إليه مجمعا حربه، وبثّ القائد عطاءه في زناتة واستعبدهم
[1] على صاحبهم حمامة، فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة، رجع
القائد عنه ورجع هو إلى فاس. وهلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فولّي
بعده ابنه دوناس ويكنّى أبا العطاف، واستولى على فاس وسائر عمل أبيه،
وخرج عليه لأوّل أمره حمّاد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب
ووقائع، وكثرت جموع حمّاد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس
وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد، وقطع حمّاد جرية
الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين
وأربعمائة فاستقامت دولة دوناس، وانفسحت أيامه، وكثر العمران ببلده،
واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها، وبنى بها الحمامات
والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجّار إليها بالبضائع، وهلك دوناس سنة
إحدى وخمسين وأربعمائة فولي بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس
ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين، وافترق أمره
بافتراقهما وكانت الحرب بينهما سجالا، ومجالها بين المدينتين حيث يفضي
باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد، وشيّد الفتوح باب عدوة الأندلس
وهو مسمّى به إلى الآن، واختطّ عجيسة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واستفسرهم.
(7/48)
باب الجيسة وهو أيضا مسمّى به وإنما حذفت
عينه لكثرة الاستعمال [1] وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة
أخيه سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وبيّته فظفر به وقتله، ودهم المغرب أثر
ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة، وخشي الفتوح مغبّة
أحوالهم فأفرج عن فاس.
وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حمّاد إلى المغرب سنة أربع وخمسين
وأربعمائة على عادتهم في غزوة، ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم
رهنا على الطاعة، وقفل إلى قلعته. وولّى على المغرب بعد الفتوح معنصر
بن حماد بن معنصر [2] ، وشغل بحروب لمتونة. وكانت له عليهم الوقعة
المشهورة سنة خمس وخمسين وأربعمائة ولحق بضرية [3] وملك يوسف بن تاشفين
والمرابطون، فاس وخلّف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى
فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة، ومثّل بهم بالحرق والصلب.
ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي [4] صاحب مدينة مكناسة، وقد كان
دخل في دعوة المرابطين فهزمه وقتله وبعث برأسه إلى سكوت البرغواطي
الحاجب صاحب سبتة. وقد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر
المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها، وقطعوا المرافق عنها حتى اشتدّ
بأهلها الحصار ومسّهم الجهد. وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة
عليه، وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وأربعمائة وبايع أهل فاس من
بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء.
وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كان سنة اثنتين
وستين وأربعمائة وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما، ثم
اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة
وقبائل زنانة. وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى، فاتخذت
لهم الأخاديد وقبروا جماعات. وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان،
وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين
وصيّرهما مصرا، وأدار عليهما سورا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من فاس
والبقاء للَّه سبحانه وتعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لكثرة الدوران في استعمالهم.
[2] وفي نسخة ثانية: بن منصور.
[3] وفي نسخة ثانية: ولحق بصدينة.
[4] وفي نسخة ثانية: الكزنائي.
(7/49)
(الخبر عن بني خزرون
ملوك سجلماسة من الطبقة الاولى من مغراوة وأولية ملكهم ومصائره)
كان خزرون بن فلفول من أمراء مغراوة وأعيان بني خزر، ولما غلبهم بلكّين
بن زيري على المغرب الأوسط تحيّزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملويّة.
وكان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه. وكان المنصور بن
أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأوّل حجابته من أحوال العدوة
على ضبط سبتة برجال الدولة ووجوه القوّاد وطبقات العسكر، ودفع ما
وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة. وعوّل في ضبط
كورة وسداد ثغوره عليهم وتعهّدهم بالعطاء وأفاض فيهم الإحسان فازدلفوا
إليه بوجوه التقرّبات وأسباب الوصائل. وكان خزرون بن فلفول هذا زحف
يومئذ إلى سجلماسة وبها المعتز من أعقاب آل مدرار، فانتزى بها أخوه
المنتصر بعد قفول جوهر
(7/50)
إلى المغرب وظفر بأميرهم الشاكر للَّه محمد
بن الفتح، فوثب المنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة وتملّكها. ثم وثب
به أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة فقتله وقام بأمر
سجلماسة، وأعاد بها ملك بني مدرار وتلقّب المعتز باللَّه فزحف إليه
خزرون ابن فلفول سنة سبع وستين وثلاثمائة في جموع مغراوة وبرز إليه
المعتز فهزمه خزرون واستولى على مدينة سجلماسة ومحا دولة آل مدرار
والخوارج منها آخر الدهر، وأقام الدعوة بها للمؤيد هشام، فكانت أول
دولة أقيمت للمروانيين بذلك الصقع، ووجد للمعتز مالا وسلاحا فاحتقنها
وكتب بالفتح إلى هشام وأنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدّته ونسب الأثر في
ذلك الفتح لصحابة محمد بن أبي عامر ويمن طائره، وعقد لخزرون على
سجلماسة وأعمالها، وجاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها وقام بأمرها إلى أن
هلك، فولي أمر سجلماسة من بعده ابنه وانودين.
ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع وستين وثلاثمائة
وفرّت زناتة أمامه إلى سبتة. وملك أعمال المغرب وولّى عليها من قبله
وحاصر سبتة. ثم أفرج عنها وشغل بجهاد برغواطة، وبلغه أن وانودين بن
خزرون أغار على نواحي سجلماسة، وأنه دخلها عنوة وأخذ عامله وما كان معه
من الأموال والذخيرة، فدخل إليها سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وفصل عنها
فهلك في طريقه، ورجع وانودين بن خزون إلى سجلماسة. وفي أثناء ذلك كان
استيلاء زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب وملك فاس بعهد
هشام. ثم انتقض على المنصور آخرا وأجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى
العدوة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فغلب عليها بني خزر ونزل فاس، وبثّ
العمّال في سائر نواحي المغرب لسدّ الثغور وجباية الخراج، وعقد فيما
عقد على سجلماسة لحميد بن يصل المكناسي [1] النازع إليهم من أولياء
الشيعة فعقد له على سجلماسة حين فرّ عنها بنو خزرون فملكها وأقام فيها
الدعوة. ولما قفل عبد الملك إلى العدوة وأعاد واضحا إلى عمله بفاس،
استأمن إليه كثير من بني خزر كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة
وابن عمّه فلفول بن سعيد فأمّنهم، ثم رجع وانودين إلى علمه بسجلماسة
بعد أن تضامن أمرها وانودين وفلفول بن سعيد على مال مفروض، وعدة من
الخيل والدرق [2] يحملان إليه ذلك كلّ سنة. وأعطيا في ذلك
__________
[1] حميد بن يصليتن الكتامي وقد مرّ معنا من قبل.
[2] الدرق: ج درقة وهي الترس من الجلد ليس فيه خشب ولا عقب.
(7/51)
أبناءهما رهنا فعقد لهما واضح بذلك، واستقل
وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين وأربعمائة مقيما فيها
للدعوة المروانية. ورجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفّر
بن أبي عامر سنة ست وتسعين وأربعمائة واستثنى عليه فيها أمر سجلماسة
لمكان وانودين بها. ولما انتثر سلك الخلافة بقرطبة، وكان أمر الجماعة
والطوائف واستبدّ أمراء الأمصار والثغور وولاة الأعمال بما في أيديهم،
استبدّ وانودين هذا بأعمال سجلماسة وتغلّب على عمل درعة واستضافه إليه.
ونهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع وأربعمائة مع جموع من مغراوة
يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين، فبرز إليه في جموعه وهزمه،
وكان ذلك سببا في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك، واستفحل ملك وانودين
واستولى على صبرون [1] من أعمال فاس وعلى جميع قصور ملوية، وولّى عليها
من أهل بيته. ثم هلك وولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين، ولم أقف
على تاريخ ولايته ومهلك أبيه.
(ولمّا) ظهر عبد الله بن ياسين واجتمع إليه المرابطون من لمتونة ومسوفة
وسائر المتلثّمين، وافتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس وأربعين وأربعمائة
فأغاروا على إبل كانت هناك في حمى لمسعود بن وانودين وقتل كما ذكرناه
في أخبار لمتونة. ثم عاودوا الغزو إلى سجلماسة فدخلوها من العام المقبل
مدخلوها، وقتلوا من كان بها من فلّ مغراوة. ثم تتبّعوا من بعد ذلك
أعمال المغرب وبلاد سوس وجبال المصامدة، وافتتحوا صفروي سنة خمس وخمسين
وأربعمائة وقتلوا من كان بها من أولاد وانودين وبقية مغراوة. ثم
افتتحوا حصون ملوية سنة ثلاث وستين وأربعمائة وانقرض أمر بني وانودين
كأن لم يكن، والبقاء للَّه وحده وكل شيء هالك إلّا وجهه، سبحانه وتعالى
لا ربّ سواه، ولا معبود إلّا إيّاه، وهو على كل شيء قدير.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: صفروي
(7/52)
(الخبر عن ملوك
طرابلس من بني خزرون بن فلفول من الطبقة الأولى وأولية أمرهم وتصاريف
أحوالهم)
كان مغراوة وبنو خزر ملوكهم قد تحيّزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكّين،
ثم اتّبعهم سنة تسع وستين وثلاثمائة في زحفه المشهور، وأحجرهم بساحل
[1] سبتة حتى بعثوا صريخهم إلى المنصور. وجاءهم إلى الجزيرة مشارفا
لأحوالهم وأمدّهم بجعفر بن يحيى ومن كان معه من ملوك البربر وزناتة،
فامتنعوا على بلكّين، ورجع عنهم فتقرى أعمال المغرب، وهلك في منصرفه
سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة ورجع أحياء مغراوة وبنو يفرن إلى مكانهم
منه. وبعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بساحة.
(7/53)
على المغرب، وقدم سنة ست وسبعين وثلاثمائة
واختص مقاتلا وزيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة، ولحق
نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك، فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن
خزر إلى صنهاجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائه منحرفا عن طاعة الأموية.
ووافى المنصور بن بلكّين بأشير منصرفه من إحدى غزواته، فتلقّاه بالقبول
والمساهمة، وبالغ في تكرمته [1] وعقد له على عمل طبنة سنة إحدى وثمانين
وثلاثمائة وخرج للقائه، واحتفل في تكرمته ونزله. وأدركه الموت
بالقيروان فهلك لسنته. ووفد ابنه فلفول من مكان عمله، فعقد له على عمل
أبيه وخلع عليه، وزفّ إليه ابنته، وسوّغه ثلاثين حملا من المال،
وثلاثين تختا من الثياب، وقرّب إليه مراكب بسروج مثقلة وأعطاه عشرة من
البنود مذهّبة، وانصرف إلى عمله.
وهلك المنصور بن بلكّين سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وولي ابنه باديس
فعقد لفلفول على عمله بطبنة، ولما انتقض زيري بن عطيّة على المنصور بن
أبي عامر، وسرّح إليه ابنه المظفّر كما قلناه، فغلبه على أعمال المغرب.
ولحق زيري بالقفر، ثم عاج على المغرب الأوسط، ونازل ثغور صنهاجة، وحاصر
تيهرت، وبها يطّوفت بن بلكّين.
وزحف إليه حمّاد بن بلكّين من أشير في العساكر من تلكّانة، ومعه محمد
بن أبي العرب قائد باديس، بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان مددا
ليطّوفت. وأوغر إلى فلفول وهو بأشير أن يكون معهم. ولقيهم زيري بن
عطيّة ففضّ جموعهم، واستولى على معسكرهم، واضطربت إفريقية فتنة وتنكّرت
صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة. وخرج باديس بن المنصور من
رقادة في العساكر إلى المغرب. ولمّا مرّ بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن
خزرون ليستظهر به على حربه، فاستراب واعتذر عن الوصول. وسأل تجديد
العهد إلى مقدّم السلطان فأسعف. ثم اشتدّت استرابته ومن كان معه من
مغراوة فارتحلوا عن طبنة وتركوها. ولما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة
فعاث في نواحيها، ثم فعل في تيجس [2] كذلك، ثم حاصر باغاية. وانتهى
باديس
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة ثانية: واستبلغ في ترك الإحن.
[2] مدينة قديمة عتيقة كانت تسكنها قبيلة ورغروسة من القبائل البربرية
ولعلّها تيجيساس التي وصفها مولييراس بأنها مدينة صغيرة جميلة ومرسى
بحري وأنها محاطة بالحدائق الغناء (قبائل المغرب/ ص 307) (المغرب
المجهول ج 2/ 256) .
(7/54)
إلى أشير وفرّ زيري بن عطيّة إلى صحراء
المغرب ورجع على باديس بعد أن ولّى على تاهرت وأشير عمّه يطوفت بن
بلكّين وانتهى إلى المسيلة فبلغه خروج عمومته ماكسن وزاوي وغرم ومغنين
فخاف أبو البهار إحن زيري ولحق بهم من معسكره، وبعث باديس في أثرهم
عمّه حمّاد بن بلكّين، ورحل هو إلى فلفول بن سعيد بعد أن كان سرّح
عساكره إليه، وهو محاصر باغاية، فهزمهم وقتل قائدهم أبا رعبل [1] . ثم
بلغه وصول باديس فأفرج عنها، واتبعه باديس إلى مرماجنّة، فتزاحفوا وقد
اجتمع لفلفول من قبائل زناتة والبربر أمم، فلم يثبتوا للّقاء وانكشفوا
عنه. وانهزم إلى جبل الحناش، ونزل القيطون بما فيه. وكتب باديس بالفتح
إلى القيروان، وقد كان الإرجاف أخذ منهم المأخذ، وفرّ كثير منهم إلى
المهديّة وشرعوا في عمل الدروب بما كانوا يتوقّعون من فلفول بن سعيد
حين قتل أبا رعبل، وهزم جيوش صنهاجة، وكانت الواقعة آخر سنة تسع
وثمانين وثلاثمائة وانصرف باديس إلى القيروان، ثم بلغه ان أولاد زيري
اجتمعوا مع فلفول بن سعيد وعاقدوه، ونزلوا جميعا فحصروا تبسة فخرج
باديس من القيروان إليهم، فافترقوا ولحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا
ماكسن وابنه حسنا [2] ، فإنّهما أقاما مع فلفول. ورجع باديس في أثره
سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وانتهى إلى بسكرة ففرّ فلفول إلى الرمال.
وكان زيري بن عطية محاصرا لأشير أثناء هذه الفتنة، فأفرج عنها، ورجع
عنها أبو البهار إلى باديس، وقفل معه إلى القيروان وتقدّم فلفول بن
سعيد إلى نواحي قابس وطرابلس فاجتمع إليه من هنالك من زناتة، وملك
طرابلس على ما نذكره.
(وذلك) أنّ طرابلس كانت من أعمال مصر وكان العامل عليها بعد رحيل معدّ
إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي. ولما هلك معدّ رغب بلكّين من
نزال العزيز إضافتها إلى عمله، فأسعفه بها، وولّى عليها تمصولة بن
بكّار من خواصّ مواليه.
نقله إليها من ولاية بونة، فلم يزل عليها إلى أن أرسل إلى الحاكم [3]
بمصر يرغّب الكون في حضرته، وأن يتسلّم منه عمل طرابلس. وكان برجوان
الصقلّي يستبد على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبا زعيل.
[2] وفي نسخة ثانية: محسن.
[3] وفي نسخة ثانية: فأقام عليها عشرين سنة إلى أيام باديس، فتنكّرت له
الأحوال عما عهد، وبعث الى الحاكم.
(7/55)
الدولة، وكان يغصّ بمكان يأنس الصقلي منها،
فأبعده عن الحضرة لولاية برقة.
ثم لمّا تتابعت رغبة تمصولة صاحب طرابلس، أشار برجوان ببعث يأنس إليها،
فعقد له الحاكم عليها، وأمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين
وثلاثمائة ولحق تمصولة بمصر وبلغ الخبر إلى باديس، فسرّح القائد جعفر
بن حبيب في العساكر ليصدّه عنها. وزحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة
وقتل. ولحق فتّوح بن علي من قوّاده بطرابلس، فامتنع بها ونازلة جعفر بن
حبيب وأقام عليها مدّة. وبينما هو محاصر له إذ وصله كتاب يوسف بن عامر
عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس، وأنه قاصد إلى طرابلس،
فرحل جعفر عن البلد إلى ناحية الجبل، وجاء فلفول بن سعيد فنزل بمكانه،
وضاقت الحال بجعفر وأصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة وقاصدين قابس،
فتخلى فلفول عن طريقهم وانصرفوا الى قابس.
وقدم فلفول مدينة طرابلس فتلقّاه أهلها، ونزل له فتوح بن علي عن
إمارتها فملكها، وأوطنها من يومئذ وذلك سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وبعث
بطاعته الى الحاكم فسرّح الحاكم يحيى بن علي بن حمدون، وعقد له على
أعمال طرابلس وقابس، فوصل إلى طرابلس، وارتحل معه فلفول وفتوح بن علي
بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس، فحاصروها مدّة ورجعوا إلى
طرابلس. ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر واستبدّ فلفول بعمل طرابلس، وطالت
الفتنة بينه وبين باديس، ويئس من صريخ مصر فبعث بطاعته إلى المهدي محمد
بن عبد الجبّار بقرطبة، وأوفد إليه رسله في الصريخ والمدد، وهلك فلفول
قبل رجوعهم إليه سنة أربعمائة، واجتمعت زناتة إلى أخيه ورّوا بن سعيد.
وزحف باديس إلى طرابلس وأجفل ورّوا ومن معه من زناتة عنها، ولحق بباديس
من كان بها من الجند، فلقوه في طريقه، وتمادى إلى طرابلس فدخلها ونزل
قصر فلفول، وبعث إليه وورّوا بن سعيد يسأل الأمان له ولقومه، فبعث إليه
محمد بن حسن من صنائعه، فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم، وولّى وورّوا على
نفزاوة والنعيم ابن كنون على قسطيلية وشرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن
أعمال طرابلس، فرجعوا إلى أصحابهم. وارتحل باديس إلى القيروان، وولّى
على طرابلس محمد بن الحسن. ونزل ورّوا بنفزاوة والنعيم بقسطيلية.
(ثم انتقض) ورّوا سنة إحدى وأربعمائة، ولحق بجبال ايدمر فتعاقدوا على
(7/56)
الخلاف، واستضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى
عمله. ورجع خزرون بن سعيد عن أخيه ورّوا إلى السلطان باديس، وقدم عليه
بالقيروان سنة اثنتين وأربعمائة فتقبّله ووصله، وولّاه عمل أخيه
نفزاوة، وولّى بني مجلية من قومه على قفصه، وصارت مدن الماء كلّها
لزناتة، وزحف ورّوا بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس، وبرز إليه
عاملها محمد بن حسن فتواقعوا ودارت بينهم حروب شديدة انهزم فيها ورّوا،
وهلك الكثير من قومه. ثم راجع حصارها وضيّق على أهلها فبعث باديس إلى
خزرون وأخيه وإلى النعيم بن كنون وأمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا
لحرب صاحبهم، فخرجوا إليه وتواقعوا بعبرة [1] ما بين قابس وطرابلس، ثم
اتفقوا ولحق أصحاب خزرون بأخيه ورّوا. ورجع خزرون إلى عمله واتّهمه
السلطان بالمداهنة في شأن أخيه ورّوا. فاستقدمه من نفزاوة فاستراب
وأظهر الخلاف وسرّح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن
عمله، واتبعه النعيم وسائر زناتة، ولحقوا جميعا بورّوا بن سعيد سنة
أربع وأربعمائة وتظاهروا على الخلاف ونصبوا الحرب على مدينة طرابلس.
واشتدّ فساد زناتة فقتل السلطان من كان عنده من رهن زناتة، واتفق وصول
مقاتل ابن سعيد نازعا عن أخيه ورّوا في طائفة من أبنائه وأخواله [2]
فقتلوا معهم جميعا، وشغل السلطان بحرب عمّه حمّاد. ولما غلبه بشلب سنته
وانصرف إلى القيروان بعث إليه وورّوا بطاعته، ثم كان مهلك ورّوا سنة
خمس وأربعمائة وانقسم قومه على ابنه خليفة وأخيه خزرون بن سعيد،
واختلفت كلمتهم ودسّ حسن بن محمد عامل طرابلس في التصريف [3] بينهم. ثم
صار أكثر زناتة إلى خليفة، وناجز عمّه خزرون الحرب فغلبه على القيطون
وضبط زناتة، وقام فيهم بأمر أبيه وبعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه
من حصار القلعة فتقبّلها. ثم هلك باديس وولي ابنه المعزّ سنة ست
وأربعمائة وانتقض خليفة بن ورّوا عليه، وكان أخوه حماد بن ورّوا يضرب
على أعمال طرابلس وقابس، ويواصل عليه الغارة والنهب إلى سنة ثلاث عشرة
وأربعمائة فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان وأمكنه من
طرابلس. وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بصبرة.
[2] وفي نسخة ثانية: إخوانه.
[3] وفي نسخة ثانية: التضريب.
(7/57)
سبب ذلك أنّ المعز بن باديس لأوّل ولايته
استقدم محمد بن حسن من عمله، واستخلف عليه أخاه عبد الله بن حسن وقدم
على المعز وفوّض اليه أمر [1] مملكته، وأقام على ذلك سبعا، وتمكّنت
حاله عند السلطان، وكثرت السعاية فيه فنكبه وقتله، وبلغ الخبر إلى أخيه
فانتقض كما قلناه، وأمكن خليفة بن وورّوا وقومه من مدينة طرابلس،
فقتلوا الصنهاجيين واستولوا عليها. ونزل خليفة بقصر عبد الله وأخرجه
عنه، واستصفى أمواله وحرمه. واتصل ملك خليفة بن وروّا وقومه بني خزرون
بطرابلس. وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحكم سنة سبع عشرة
وأربعمائة بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرّفاق، ويحفظ عهده على
طرابلس فأجابه إلى ذلك، وانتظم في عمله. وأوفد في هذه السنة أخاه
حمّادا على المعزّ بهديته فتقبلها وكافأه عليها.
(هذا آخر ما حدّث به) ابن الرقيق من أخبارهم، ونقل ابن حمّاد وغيره أنّ
المعزّ زحف أعوام ثلاثين وأربعمائة إلى زناتة بجهات طرابلس، فبرزوا
إليه وهزموه. وقتلوا عبد الله بن حمّاد وسبوا أخته أم العلو بنت باديس،
ومنّوا عليها بعد حين وأطلقوها إلى أخيها. ثم زحف إليهم ثانية فهزموه.
ثم أتيحت له الكرّة عليهم فغلبهم وأذعنوا لسلطانه، واتّقوه بالمهادنة،
فاستقام أمرهم على ذلك. وكان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن وروّا
على إمارة زناتة لحق بمصر، فأقام فيها بدار الخلافة ونشأ بنوه بها،
وكان منهم المنتصر بن خزرون وأخوه سعيد. ولما وقعت الفتنة بين الترك
والمغاربة بمصر وغلبهم الترك وأجلوهم عنها، لحق المنتصر وسعيد بطرابلس
وأقاما في نواحيها. ثم ولي سعيد أمر طرابلس ولم يزل واليا عليها إلى أن
هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، (وقال أبو محمد) التيجاني في رحلته عند
ذكر طرابلس: ولما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع وعشرين وأربعمائة
قدم خليفة بن خزرون من القيطون بقومه إلى ولايتها، فأمكنه منها رئيس
الشورى وبها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنتصر المشتهر بعلم
الفرائض، وبايع له، وقام بها خزرون إلى سنة ثلاثين وأربعمائة بعدها
فقام المنتصر بن خزرون في ربيع الأوّل منها، ومعه عساكر زناتة، ففرّ
خزرون بن خليفة من طرابلس مختفيا، وملكها المنتصر بن خزرون، وأوقع بابن
المنتصر ونفاه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تدبير.
(7/58)
واتصلت بها إمارته انتهى ما نقله التيجاني.
(وهذا الخبر) مشكل من جهة أنّ زغبة من العرب الهلاليين وإنّما جاءوا
إلى إفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك المائة، فلا يكون وجودهم
بطرابلس سنة تسع وعشرين وأربعمائة إلّا إن كان تقدّم بعض أحيائهم إلى
إفريقية من قبل ذلك.
فقد كان بنو مرّة ببرقة، بعثهم الحاكم مع يحيى بن علي بن حمدون. إلا
أنّ ذلك لم ينقله أحد.
ولم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين ولما وصل العرب الهلاليون
وغلبوا المعز بن باديس على أعمال إفريقية واقتسموها كانت قابس وطرابلس
في قسمة زغبة، والبلد لبني خزرون. ثم استولى بنو سليم على الضاحية
وغلبوا عليها زغبة ورحّلوهم عن تلك المواطن. ولم تزل البلد لبني خزرون.
وزحف المنتصر بن خزرون مع بني عدي من قبائل هلال مجلبا على بني حمّاد
حتى نزل المسيلة ونزل أشير. ثم خرج إليهم الناصر، ففرّ أمامه إلى
الصحراء، ورجع إلى القلعة، فرجعوا إلى الاحلاف على أعماله، فراسله
الناصر على الصلح وأقطعه ضواحي الزاب وريغة، وأوعز إلى عروس بن سندي
رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به، فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنزله عروس
ثم قتله غيلة أعوام ستين وأربعمائة، وولي طرابلس آخر من بني خزرون لم
يحضرني اسمه واختلّ ملك صنهاجة واتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة
أربعين وخمسمائة.
ثم نزل بطرابلس ونواحيها في هذا العام مجاعة، وأصابهم منه شدّة هلك
فيها الناس، وفرّوا عنها وظهر اختلال أحوالها وفناء حاميتها، فوجّه
إليها رجار طاغية صقلّيّة أسطولا لحاصارها بعد استيلائه على المهديّة
وصفاقس واستقرار ولايته فيهما، ووقع بين أهل طرابلس الخلاف فغلب عليهم
جرجي بن ميخايل قائد الأسطول وملكها، وأخرج منها بني خزرون وولّى على
البلد شيخهم أبا يحيى بن مطروح التميمي، فانقرض أمر بني خزرون منها.
وبقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون إفريقية آخر الدولة
الصنهاجية. والملك للَّه وحده يؤتيه من يشاء من عباده سبحانه لا إله
غيره
.
(7/59)
الخبر عن بني يعلى
ملوك تلمسان من آل خزر من أهل الطبقة الاولى والإلمام ببعض دولهم
ومصائرها
قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر وبنيه أنّ محمد بن الخير الّذي قتل نفسه
في معركة بلكين كان من ولده الخير ويعلى. وأنهما اللذان ثأرا منه
بأبيهما زيري فقتلوه واتبعهم بلكّين من بعد ذلك وأجلاهم إلى المغرب
الأقصى حتى قتل منهم محمد صبرا أعوام ستين وثلاثمائة بنواحي سجلماسة
قبل وصول معدّ إلى القاهرة، وولاية بلكّين على إفريقية وقام بأمر زناتة
بعد الخير ابنه محمد، وعمه يعلى بن محمد. وتكرّرت إجازة محمد بن الخير
هذا وعمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل. وغلبهم
ابنا عطية بن عبد الله بن خزر وهما مقاتل وزيري على رياسة مغراوة. وهلك
مقاتل واختصّ المنصور زيري بن عطيّة باثرته، وولّاه على المغرب كما
ذكرناه، وقارن ذلك مهلك بلكّين وانتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب
الأوسط على باديس،
(7/60)
فكان من شأنه مع زيري ويدوي [1] بن يعلى ما
قدّمناه. ثم استقلّ زيري وغلبهم جميعا على المغرب، ثم انتقض على
المنصور فأجاز إليه ابنه المظفّر وأخرج زناتة من المغرب الأوسط، فتوغّل
زيري في المغرب الأوسط ونازل أمصاره وانتهى إلى المسيلة وأشير. وكان
سعيد بن خزرون قد نزع إلى زناتة وملك طبنة. واجتمع زناتة بإفريقية عليه
وعلى ابنه فلفول من بعده. وانتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى
المسيلة وأشير، وشغل باديس ثم ابنه المنصور على المغرب الأوسط بحروب
فلفول وقومه، ودفعوا إليه حمّاد بن بلكّين فكانت بينه وبين زناتة حروب
سجال، وهلك زيري بن عطيّة واستقل المعزّ وابنه بملك المغرب سنة ثلاث
وتسعين وثلاثمائة، وغلب صنهاجة على تلمسان وما إليها، واختط مدينة وجدة
كما ذكرنا ذلك كله من قبل.
ونزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان فكانت خالصة له، وبقي ملكها وسائر
ضواحيها في عقبه. ثم هلك حمّاد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل
بلكّين وشغل بنوه بحرب بني باديس، فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك
بتلمسان، واختلفت أيامهم مع آل حمّاد سلما وحربا. ولما دخل العرب
الهلاليون إفريقية وغلبوا المعزّ وقومه عليها واقتسموا سائر أعمالها،
ثم تخطوا إلى أعمال بني حمّاد فأحجروهم بالقلعة، وغلبوهم على الضواحي
فرجعوا إلى استئلافهم واستخلصوا الأثبج منهم وزغبة، فاستظهروا بهم على
زناتة المغرب الأوسط وأنزلوهم بالزاب، وأقطعوهم الكثير من أعماله،
فكانت بينهم وبين بني يعلى أمراء تلمسان حروب ووقائع. وكان زغب أقرب
إليهم بالمواطن.
وكان أمير تلمسان لعهدهم بختي من ولد يعلى. وكان وزيره وقائد حروبه أبو
سعيد ابن خليفة بن [2] اليفرني، فكان كثيرا ما يخرج بالعساكر من تلمسان
لقتال عرب الأثبج وزغبة، ويحتشد من إليها من زناتة من أهل المغرب
الأوسط مثل، مغراوة وبني يفرن وبني يلومو وبني عبد الواد وتوجين وبني
مرين، وهلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعيد أعوام خمسين
وأربعمائة.
(ثم ملك) المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك يحيى [3] وولاية ابنه
العبّاس ابن يحيى بتلمسان. وسرّح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن [4] في
عساكر
__________
[1] هو يدّو بن يعلى كما في قبائل المغرب وفي أماكن من بعض نسخ ابن
خلدون وقد مرّ معنا من قبل.
[2] بياض بالأصل وفي نسخة أخرى أبو سعدى مكان أبو سعيد.
[3] وفي نسخة ثانية: بختي.
[4] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والد هذا القائد في المراجع التي
بين أيدينا.
(7/61)
لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة، ومن
لحق بهم من فلّ بني زيري وقومهم، فدوّخ المغرب الأوسط وظفر بمعلى بن
العبّاس بن بختي، وبرز لمدافعتهم، فهزمه وقتله وانكف راجعا إلى المغرب.
ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث وسبعين
وأربعمائة فافتتح تلمسان واستلحم بني يعلى ومن كان بها من مغراوة وقتل
العبّاس بن بختي أميرها من بني يعلى. ثم افتتح وهران وتنس وملك جبل
وانشريس وشلف إلى الجزائر وانكفّ راجعا وقد محى أثر مغراوة من المغرب
الأوسط وأنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان،
واختطّ مدينة تاكرارت بمكان معسكره وهو اسم المحلّة بلسان البربر، وهي
التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلدا واحدا،
وانقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كان لم يكن والبقاء للَّه وحده
سبحانه.
معلي بن العباس بن بختيّ بن [1] بن يعلي بن محمد بن الخير بن محمد بن
خزر
(الخبر عن أمراء اغمات من مغراوة)
لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم أمراء بأغمات آخر دولة بني زيري بفاس،
وبني يعلى اليفرني بسلا وتادلا في جوار المصامدة وبرّ غواطة. وكان لقوط
بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين وأربعمائة، وكانت امرأته زينب بنت
إسحاق النفزاوية من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة. ولما
غلب المرابطون على أغمات سنة تسع وأربعين وأربعمائة فرّ لقوط هذا إلى
تادلا سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وقتل الأمير محمد واستلحم بني يفرن،
فكان فيمن استلحم وخلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين على زينب بنت
إسحاق حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل
ابن عمّه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها
رياسة أمره وسلطانه، وما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في
إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نجد والد نجتي هذا في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/62)
ملكه كما ذكرناه في أخبارهم. ولم نقف من
لقوط بن يوسف وقومه على غير هذا الّذي كتبناه، والله وليّ العون
سبحانه.
الخبر عن بني سنجاس وريغة والاغواط وبني ورّا من قبائل مغراوة من أهل
الطبقة الاولى وتصاريف أحوالهم
هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة وقد زعم بعض الناس أنهم من بطون
زناتة غير مغراوة. أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التمر
وغني [1] قال وهو نسّابه زناتة لعهده: ولم تزل هذه البطون الأربعة من
أوسع بطون مغراوة. (فأمّا) بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية
والمغربين، فمنهم قبلة المغرب الأوسط بحبل راشد وجبل كريكرة [2] وبعمل
الزاب وبعمل شلف، ومن بطونهم بنو عيار [3] ببلاد شلف أيضا، وبنو عيار
بأعمال قسنطينة. وكان بنو سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل وأكثرهم عددا،
وكان لهم في فتنة زناتة وصنهاجة آثار بإفريقية والمغرب، وأكثرها في
إفساد السبيل والعيث في المدن، ونازلوا قفصة سنة أربع عشرة وخمسمائة
بعد أن عاثوا بجهات القصر، وقتلوا من وجدوا هنالك من عسكر تلكاتة [4] .
وخرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم، ثم كثر فسادهم، وسرّح السلطان
قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد فشرّدهم عنها
وأصلح السابلة. ثم عادوا إلى مثلها سنة خمس عشرة وخمسمائة فأوقع بهم
قائد بلاد الجريد وأثخن فيهم بالقتل، وحمل رءوسهم إلى القيروان فعظم
الفتح فيهم، ولم تزل الدولة تتبعهم بالقتل والإثخان إلى أن كسروا [5]
من شوكتهم.
وجاء العرب الهلاليون وغلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة
وزناتة، وتحيّز فلهم إلى الحصون والمعاقل، وضربت عليهم المغارم إلّا ما
كان ببلاد المغرب
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: التيمز وغتي.
[2] وفي النسخة الباريسية: كركرة.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: غيار وفي نسخة ثانية
عنّان.
[4] وفي نسخة ثانية: ملكاتة.
[5] وفي نسخة ثانية: خضدوا.
(7/63)
القفر مثل جبل راشد، فإنّهم لبعدهم عن
منازل الملك لا يعطون مغرما، إلا أنه غلب عليهم هنالك العمور من بطون
الهلاليّين، ونزلوا معهم. وملكوا عليهم أمرهم وصاروا لهم فيئه ومن بني
سنجاس من نزل الزاب، وهم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من
مشايخهم، وأمّا من نزل منهم ببلاد شلف ونواحي قسنطينة فهم لهذا العهد
أهل مغارم للدول، وكان دينهم جميعا الخارجية على سنن زناتة في الطبقة
الأولى، ومن بقي منهم اليوم بالزاب فعلى ذلك. ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض
المشيل [1] من جبل بني راشد وطنوا جبلا في جوار غمرة وصاروا عند تغلب
الهلاليين في ملكهم يقبضون الإتاوة منهم. ونزل منهم لهذا العهد الصحاري
من بطون عروة من زغبة، وغلبوهم على أمرهم وأصاروهم خولا.
(وأما بنو ريغة) فكانوا أحياء متعدّدة ولما افترق أمر زناتة تحيّز منهم
إلى جبل عيّاض وما إليه من البسيط إلى نقاوس وأقاموا في قياطينهم، فمن
كان بجبل عيّاض منهم أهل مغارم لأمراء عياض يقبضونها للدولة الغالبة
ببجاية، وأمّا من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد. ونزل
أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطوا قصورا [2] كثيرة
في عدوة واد ينحدر من المغرب الى المشرق يشتمل على المصر الكبير
والقرية المتوسطة، والأطم قد زفّ عليها الشجر ونضدت حفافيها النخيل،
وانساحت خلالها المياه، وزهت ينابعها الصحراء، وكثر في قصورها العمران
من ريغه هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها. ومن بني سنجاس وبني
يفرن وغيرهم من قبائل زناتة. وتفرّقت جماعتهم للتنازع في الرئاسة
فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد. ولقد كانت فيما يقال أكثر
من هذا العدد أضعافا وانّ ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد
إفريقية والمغرب في فتنته مع الموحدين خرّب عمرانها، واجتثّ شجرها،
وغوّر مياهها، ويشهد لذلك آثار العمران بها في أطلال الديار ورسوم
البناء وأعجاز النخل المنقعر، وكان هذا العمل يرجع في أوّل الدولة
الحفصيّة لعامل الزاب، وكان من الموحّدين، ونزل بسكرة ما بينها وبين
مغرة، وكان من أعماله قصور واركلا أيضا. ولما فتك المنتصر بمشيخة
الزواودة كما قلناه في أخباره، وقتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتوا من
مشيخة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المشنتل.
[2] وفي نسخة ثانية: قرى.
(7/64)
الموحدين، وغلبوا على ضواحي الزاب وواركلا.
وأقطعتهم إيّاها الدول بعد ذلك فصارت في أقطاعهم. ثم عقد صاحب بجاية
بعد ذلك على العمل كلّه لمنصور بن مزني واستقرّ في عقبه. فربما يسيمون
بعض الأحيان أهل تلك القصور المغرم للسلطان بما كان من الأمر القديم،
ويعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجّالة الزاب وخيّالة العرب، ويبرز عليها
بأمر الزواودة. ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم. وأكبر هذه الأمصار يسمّى
تقّرت، مصر مستبحر العمران بدويّ الأحوال، كثير المياه والنخل، ورياسته
في بني يوسف بن عبد الله كانت لعبيد الله بن يوسف، ثم لابنه داود، ثم
لأخيه يوسف بن عبيد الله. وتغلّب على واركلا من يد أبي بكر بن موسى
أزمان حداثته، وأضافها إلى عمله. ثم هلك وصار أمر تقّرت لأخيه مسعود بن
عبيد الله، ثم لابنه حسن بن مسعود، ثم لابنه أحمد بن حسن شيخها لهذا
العهد. وبنو يوسف بن عبد الله هؤلاء من ريغة، ويقال إنّهم من سنجاس،
وفي أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج وفرقهم كثير، وأكثرهم على دين
العزابية [1] ومنهم النكاريّة، وأقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم
عن منال الأحكام. ثم بعد مدينة تقّرت بلد تماسين وهي دونها في العمران
والخطة ورياسته لبني إبراهيم بن [2] من ريغة وسائر أمصارهم كذلك، كل
مصر منها مستبد بأمره وحرب لجاره.
(وأما لقواط) وهم فخذ من مغراوة أيضا فهم في نواحي الصحراء ما بين
الزاب وجبل راشد، ولهم هنالك قصر مشهور بهم، فيه فريق من أعقابهم على
سغب من العيش لتوغّله في القفر، وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من
العرب، وبينهم وبين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان، وتختلف قصودهم
إليهم لتحصيل المرافق منهم. والله يخلق ما يشاء ويختار.
وأمّا بنو ورا) فهم فخذ من مغراوة أيضا، ويقال من زناتة وهم متشعّبون
ومفترقون بنواحي المغرب: منهم بناحية مراكش والسوس ومنهم ببلاد شلف
ومنهم بناحية قسنطينة ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأوّلين،
وهم لهذا العهد أهل مغارم وعسكرة مع الدول، وأكثر الذين كانوا بمراكش
قد انتقل رؤساؤهم إلى ناحية شلف نقلهم يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين في
أوّل هذه المائة الثامنة، لما
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: الغرابة وفي نسخة ثانية:
القرابة.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم والده في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/65)
ارتاب بأمرهم في تلك الناحية، وخشي من
إفسادهم وعيثهم، فنقلهم في عسكر الى موطن شلف لحمايته، فنزلوا به. ولما
ارتحل بنو مرين من بعد مهلك يوسف بن يعقوب أقاموا ببلاد شلف فأعقابهم
بها لهذا العهد، وأحوالهم جميعا في كل قطر متقاربة في المغرم والعسكرة
مع السلطان وللَّه الخلق والأمر جميعا. سبحانه لا إله إلا هو الملك
العظيم.
(الخبر عن بني يرنيان اخوة مغراوة وتصاريف
أحوالهم)
قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء، وأنهم إخوة مغراوة وبني يفرن، والكل ولد
يصلتين.
ونسبهم جميعا إلى جانا مذكور هنالك، وهم مبثوثون كثيرا بين زناتة في
المواطن.
وأمّا الجمهور منهم فموطنهم بملويّة من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة
وكرسيف، كانوا هناك مجاورين لمكناسة في مواطنهم، واختطوا حفافي وادي
ملويّة قصورا كثيرة متقاربة الخطّة، ونزلوها وتعدّدت بطونهم وأفخاذهم
في تلك الجهات. ومنهم بنو وطاط متوطّنون لهذا العهد بالجبال المطلّة
على وادي ملوية من جهة القبلة، ما بينه وبين تازى وفاس، وبهم تعرف تلك
القصور لهذا العهد، وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة واعتزاز، وأجاز الحكم
بن المستنصر منهم، والمنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناتة
في المائة الرابعة، وكانوا من أفحل جند الأندلس وأشدّهم شوكة. وبقي أهل
المواطن منهم في مواطنهم مع مكناسة أيام ملكهم، ويجمعهم معهم عصبية
يحيى. ثم كانوا مع مغراوة أيضا أيام ملكهم المغرب الأقصى ولما ملك
لمتونة والموحّدون من بعدهم لحق الظواعن منهم بالقفر، فاختلطوا بأحياء
بني مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة، أقاموا معهم في أحيائهم،
وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم: مثل بني وطاط وغيرهم، ففرضت عليهم
المغارم والجبايات. ولما دخل بنو مرين للمغرب ساهموهم في اقتسام
أعماله، وأقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا والمعمورة، زيادة إلى وطنهم
الأوّل بملوية، وأنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عنهم في
سبيل المدافعة عن أوطانهم الأولى. ثم
(7/66)
اصطلحوا [1] ورعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم
معهم فاصطفوهم للوزارة والتقدّم في الحرب، ودفعوهم الى المهمات وخلطوهم
بأنفسهم. وكان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب وأخيه أبي
سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى، استخلصوه للوزارة مرّة بعد أخرى،
واستعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي، ثم لوزارته.
واستعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام
فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عند ما فتحها أعوام الثلاثين
والسبعمائة، ثم عزله بأخيه حسون، وعقد لحسون على بلاد الجريد من
إفريقية عند فتحه إيّاها سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وكان فيها مهلكه.
ونظم أخاهما موسى في طبقة الوزارة، ثم أفرده بها أيام نكبته وإلحاقه
بجبل هنتاتة، واستعمله السلطان أبو عنان بعد في العظيمات، وعقد له على
أعمال سدويكش بنواحي قسنطينة. ورشّح ابنه محمد السبيع لوزارته إلى أن
هلك، وتقلّبت بهم الأيام بعده. وقلّد عبد الحميد [2] المعروف بحلي ابن
السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع بعد هذا أيام حصاره لدار ملكهم
سنة اثنتين وستين وسبعمائة كما نذكره في أخبارهم، فلم يقدّر لهم الظفر.
ثم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان وطبقة الوزارة، وما زال
يتصرّف في الخدم الجليلة والأعمال الواسعة ما بين سجلماسة ومراكش
وأعمال تازى وتادلا وغمارة، وهو على ذلك لهذا العهد.
والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه لا إله غيره.
(الخبر عن وجديجن وأوغمرت من قبائل زناتة
ومبادئ أحوالهم وتصاريفهم)
قد تقدّم أنّ هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا، وكان
لهم عدد وقوة، ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة. فأمّا وجديجن فكان
جمهورهم بالمغرب الأوسط، ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب
المغرب، ولواتة من جانب القبلة في السرسو، ومطماطة في جانب الشرق في
وانشريس، وكان أميرهم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم اصطلحوا.
[2] وفي نسخة ثانية: عبد الحليم.
(7/67)
لعهد يحيى بن محمد اليفرني رجلا منهم اسمه
عنّان، وكان بينهم وبين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة، يذكر أنها
بسبب امرأة من وجديجن نكحت في لواتة وتلا، جامعها نساء قيطونهم
فعيّرنها بالفقر، فكتبت بذلك إلى عنّان تذمّره [1] ، فغضب واستجاش بأهل
عصبته من زناتة وجيرانه، فزحف معه يعلى في بني يفرن وكلمام بن حياتي
[2] في مغيلة وغرابة في مطماطة، ودارت الحرب بينهم وبين لواتة مليا. ثم
غلبوا لواتة على بلاد السرسو وانتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها
وهلك عنّان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكوا من جهات السرسو. ثم
لجأت زناتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو، وكان يسكنه أحياء من مغراوة
يعرف شيخهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله،
ومعنى تامصا بلسان البربر الغول. ولما لجأت لواتة إليه غدر بهم وأغرى
قومه، فوضعوا أيديهم فيهم قتلا وسلبا فلاذوا بالفرار ولحقوا بجبل معود
[3] وجبل دراك فاستقرّوا هناك آخر الدهر. وورثت وجديجن مواطنهم بمنداس
إلى أن غلبهم عليها بنو يلومين [4] ، وبنو ومانوكل من جهته، ثم غلب
الآخرين عليها بنو عبد الواد، وبنو توجين إلى هذا العهد. والله وارث
الأرض ومن عليها.
(وأمّا أوغمرت [5] ) ويسمى لهذا العهد غمرت، وهم إخوة وجديجن من ولد
ورتنيص بن جانا كما قلناه. فكانوا من أوفر القبائل عددا، ومواطنهم
متفرّقة، وجمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى اللوسن
وكان لهم مع أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار، وأوقع بهم إسماعيل
القائم عند ظهوره على أبي يزيد وأثخن فيهم، وكذلك بلكّين وصنهاجة من
بعده. ولما افترق أمر صنهاجة لحمّاد وبنيه كانوا شيعا لهم على بني
بلكّين. ونزع عن حمّاد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم، وكان مختصا
بهم، إلى باديس، فوصله وحمل أصحابه، وعقد له على طبنة وأعمالها. حتى
إذا جاء العرب الهلاليون وغلبوهم على الضواحي اعتصموا بتلك الجبال قبلة
المسيلة وبلاد صنهاجة، وقعدوا بها عن الظعن، وتركوا القيطون إلى
__________
[1] ذمّره: هدده، وذمره على الأمر: حضّه مع لوم ليجدّ فيه.
[2] وفي نسخة ثانية: كلمام بن حيّان.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: العود، وفي نسخة أخرى:
يعود.
[4] وفي نسخة أخرى: يلومي.
[5] وفي نسخة أخرى: واغمرت.
(7/68)
سكنى المدن. ولما تغلّب الزواودة على ضواحي
الزاب وما إليها، أقطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت. وهم
لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سبّاع من بطونهم وكان في
القديم من غمرت هؤلاء كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الآن،
ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريق الرجز، فيها أخبار بالحدثان
فيما يكون لهذا الجيل الزناتي من الملك والدولة، والتغلّب على الأحياء
والقبائل والبلدان. شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها، حتى لقد
نقلوا من بعض كلماته ما معناه باللسان العربيّ أنّ تلمسان مآلها
الخراب، وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حرّاث أسود بثور أسود أعور.
وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلماته هذه أيام لحقها الخراب
في دولة بني مرين الثانية سنة ستين وسبعمائة، وأفرط الخلاف بين هذا
الجيل الزناتيّ في التشيع له والحمل عليه، فمنهم من يزعم أنه نبي أو
وليّ، وآخرون يقولون كاهن شيطان، ولم تقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي
من أمره. والله سبحانه وتعالى أعلم لا ربّ غيره.
(الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة والمصر
المنسوب إليهم بصحراء افريقية وتصاريف أحوالهم)
بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة كما تقدّم، من ولد فرني [1] بن جانا،
وقد مرّ ذكرهم. وأنّ إخوتهم الديرت ومرنجيصة وسبرترة ونمالة [2]
والمعروفون لهذا العهد، منهم بنو واركلا وكانت فئتهم قليلة، وكانت
مواطنهم قبلة الزاب، واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثمان
مراحل من بسكرة في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب، بنوها قصورا متقابلة
متقاربة الخطة. ثم استبحر عمرانها فأتلفت وصارت مصرا واحدا. وكان معهم
هناك جماعة من بني زنداك من مغراوة، وإليهم كان هرب أبي زيد النكارى
[3] عند فراره من الاعتقال سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان مقامه بينهم
سنة يختلف إلى بني برزال قبلة المسيلة بسالات، وإلى
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى فريني.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزمرتن ومنجصة وغالته.
[3] وفي نسخة ثانية: ابن أبي يزيد النكاري.
(7/69)
قبائل البربر بجبل أوراس، يدعوهم جميعا إلى
مذهب النكارية، إلى أن ارتحل إلى أوراس، واستبحر عمران هذا المصر
واعتصم به بنو واركلا هؤلاء، والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين
إيّاهم على الضواحي، واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها.
ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها
في اتباع بن غانية، مرّ بهذا المصر فأعجبه وكلف بالزيادة في تمصيره،
فاختطّ مسجده العتيق ومئذنته المرتفعة، وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه
نقشا في الحجر. وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر [1] من الزاب
إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان يسكنها التجّار
الداخلون لها بالبضائع وسكانه لهذا العهد من بني واركلا وأعقاب إخوانهم
من بني يفرن ومغراوة، ويعرف رئيسه باسم السلطان، شهرة غير نكيرة بينهم،
ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي عبدل [2] ، ويزعمون أنهم من بني
واكين إحدى بيوت بني واركلا، وهو لهذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان
من بني أبي عبدل، ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب وعلى عشرين مرحلة
من هذا في القبلة منحرفا إلى المغرب بيسير بلد تكرت [3] قاعدة وطن
الملثّمين وركاب الحجاج من السودان اختطّه الملثمون من صنهاجة وهم
سكانه لهذا العهد، وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان،
وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة. (ولقد) قدمت على بسكرة سنة أربع
وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض السلطانية ولقيت رسول
صاحب تكرت عند يوسف بن مزني أمير بسكرة، وأخبرني عن استبحار هذا المصر
في العمارة ومرور السابلة، وقال لي: اجتاز بنا هذا العام سفر من تجّار
المشرق إلى بلد مالي كانت ركابهم اثني عشر ألف راحلة. وذكر لي غيره أنّ
ذلك هو الشأن في كل سنة. وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما
في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بالملثمين [4] لهذا العهد،
والله غالب على أمره سبحانه.
__________
[1] بمعنى المسافرين.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أبي غبول.
[3] وفي نسخة ثانية: تكدت.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: باطلستين.
(7/70)
(الخبر عن دمر من
بطون زناتة ومن ولي منهم بالأندلس وأولية ذلك ومصائره)
بنو دمّر هؤلاء من زناتة وقد تقدّم أنهم من ولد ورسيك بن الديرت بن
جانا، وشعوبهم كثيرة، وكانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس وجبالها
وكان منهم آخرون ظواعن من عرب إفريقية. ومن بطون بني دمّر هؤلاء بنو
ورغمة، وهم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس. ومن بطونهم أيضا بطن
متسع كثير الشعوب وهم:
بنو ورنيدين بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وأن من شعوبهم بني ورتاتين
وبني عزرول وبني تغورت، وربما يقال إنّ هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى
بني ورنيدين كما تقدّم، وبقايا بني ورنيدين لهذا العهد بالجبل المطل
على تلمسان، بعد أن كانوا في البسيط قبلته، فزاحمهم بنو راشد حين
أجلوهم من بلادهم بالصحراء إلى التل، وغلبوهم على تلك البسائط فانزاحوا
إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد، وهو المطل على تلمسان وكان قد أجاز
إلى الأندلس من بني دمّر هؤلاء أعيان ورجالات حرب فيمن أجاز إليها من
زناتة وسائر البربر، أيام أخذهم بدعوة المنتصر [1] فضمّهم السلطان إلى
عسكره، واستظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه، وقوى بهم
المستعين أديم دولته، ولما اعصوصب البربر على المستعين وبني حمود من
بعده وغالبوا جنود الأندلس من العرب، وكانت الفتنة الطويلة بينهم التي
نثرت سلك الخلافة وفرّقت شمل الجماعة، واقتسموا خطط الملك وولايات
الأعمال، وكان من رجالاتهم نوح الدمري، وكان من عظماء أصحاب المنصور،
وولّاه المستعين أعمال مورور [2] وأركش فاستبدّ بها سنة أربع في غمار
الفتنة، وأقام بها سلطانا لنفسه إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين، فولى
ابنه أبا مناد محمد بن نوح وتلقّب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن
ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن عبّاد شأن غرب الأندلس. خطوب ومرّ
المعتضد في بعض أسفاره بحصن أركش، وتطوّف به مختفيا فقبض عليه بعض
أصحاب ابن نوح، وساقه إليه، فخلّى سبيله وأولاه كرامة احتسبها عنده
يدا،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بدعوة الحكم المستنصر.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: مودور وفي نسخة ثانية:
مدور.
(7/71)
وذلك سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فانطلق
إلى دار ملكه ورجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر. وأسجل
لابن نوح هذا على عملي أركش ومورور فيمن أسجل له منهم، فصاروا إلى
مخالصته إلى أن استدعاهم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة بعدها إلى صنع ودعا
إليه الجفلى من أهل أعماله، واختصّه بدخول حمام أعدّه لهم استبلاغا في
تكريمهم. وتخلّف ابن نوح عنده من بينهم، فلما حصلوا داخل الحمام أطبقه
عليهم، وسدّ المنافس للهوى دونهم إلى أن هلكوا. ونجا منهم ابن نوح
لسالفة يده، وطيّر في الحين من تسلّم معاقلهم وحصونهم، فانتظمهم في
أعماله. وكان منها رندة [1] وشريش وسائر أعمالها، وهلك من بعد ذلك
الحاجب أبو مناد بن نوح سنة [2] ، وولي ابنه أبو عبد الله، ولم يزل
المعتضد يضايقه إلى أن انخلع سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فانتظمها في
أعماله وسار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان وستين وانقرض
ملك بني نوح والبقاء للَّه وحده سبحانه.
أبو عبد الله بن الحاجب أبي مناد بن نوح الدمّري.
(الخبر عن بني برزال إحدى بطون دمر وما كان
لهم من الحال بقرمونة وأعمالها من الأندلس أيام الطوائف وأولية ذلك
ومصائره)
قد تقدّم لنا أنّ بني برزال هؤلاء من ولد ورنيدين [3] بن وانتن بن
وارديرن بن دمّر، كما ذكره ابن حزم، وأنّ إخوتهم بنو يصدرين وبنو صمغان
[4] وبنو يطوفت. وكان بنو برزال هؤلاء بإفريقية، وكانت مواطنهم منها
جبل سالات وما إليها من أعمال المسيلة. وكان لهم ظهور ووفور عدد،
وكانوا نكارية من فرق الخوارج. ولما فرّ أبو زيد أمام إسماعيل المنصور،
وبلغه أنّ محمد بن خزر يترصّد له، أجمع الاعتصام بسالات وصعد إليه،
وأرهقته عساكر المنصور فانتقل عنه إلى كتامة. وكان من أمره
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وفدة.
[2] بياض في الأصل ولم نستطع تحديد سنة مهلكه في المراجع التي بين
أيدينا.
[3] وفي نسخة ثانية: ورنيد.
[4] وفي نسخة ثانية: بنو صغمار.
(7/72)
ما قدّمناه. ثم استقام بنو برزال على طاعة
الشيعة وموالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب، حتى صاروا
له شيعا.
(ولما انتقض) جعفر بن معد سنة ستين وثلاثمائة كان بنو برزال هؤلاء في
جملته من أهل خصوصيته، فأجازوا معه البحر إلى الأندلس أيام الحكم
المستنصر، فاستخدمهم ونظمهم في طبقات جنده إلى من كان به من قبائل
زناتة وسائر البربر أيام أخذهم بالدعوة الأموية، ومحاربتهم عليها
للادارسة، فاستقروا جميعا بالأندلس.
وكان لبني برزال من بينهم ظهور وغنى مشهور.
(ولما أراد) المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام، وتوقع
النكير من رجالات الدولة وموالي الحكم، استكثر بني برزال وغيرهم من
البربر وأفاض فيهم الإحسان، فاعتز أمره واشتدّ أزره حتى أسقط رجال
الدولة ومحى رسومها، وأثبت أركان سلطانه. ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى
كما ذكرناه خشية عصبيته بهم.
واستمالهم من بعده فأصبحوا له عصبة. وكان يستعملهم في الولايات النبيهة
والأعمال الرفيعة. وكان من أعيان بني برزال هؤلاء إسحاق بن [1] فولّاه
قرمونة وأعمالها، فلم يزل عليها أيام بني عامر وجدّد له العقد عليها
المستعين في فتنة البرابرة ووليها من بعده ابنه عبد الله.
(ولما انقرض) ملك بني حمّود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم
سنة أربع عشرة وأربعمائة أراد اللحاق بأشبيليّة، وبها نائبة محمد بن
أبي زيري من وجوه البربر، بقرمونة عبد الله بن إسحاق البرزالي فداخلهما
القاضي ابن عبّاد في خلع طاعة القاسم، وصدّه عن العملين فأجابا إلى
ذلك. ثم دسّ للقاسم بالتحذير من عبد الله ابن إسحاق فعدل القاسم عنهما
جميعا إلى شريش، واستبدّ كل منهم بعمله. ثم هلك عبد الله من بعد ذلك،
وولي ابنه محمد سنة [2] وكانت بينه وبين المعتمد بن عبّاد حرب، وظاهر
عليه يحيى بن علي بن حمود في منازلة إشبيليّة سنة ثمان عشرة وأربعمائة
ثم اتفق مع ابن عبّاد بعدها وظاهره على عبد الله الأفطس. وكانت بينهما
حرب كانت الدائرة فيها على ابن الأفطس. وحصل ابنه المظفّر قائد العسكر
في قبضة محمد بن عبد الله بن إسحاق إلى أن من عليه ذلك وأطلقه. ثم كانت
الفتنة بين محمد
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد إسحاق هذا في المراجع التي بين
أيدينا.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة سنة ولايته في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/73)
ابن إسحاق وبين المعتضد وأغار إسماعيل بن
المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيّالة
والرجل، وركب إليه محمد في قومه فاستطرد له إسماعيل إلى أن بلغوا
الكمائن فثاروا بهم وقتلوا محمدا البرزالي وذلك سنة أربع وثلاثين
وأربعمائة وولي ابنه العزيز بن محمد وتلقّب بالمستظهر مناغيا لملوك
الطوائف لعهده. ولم يزل المعتضد يستولى على غرب الأندلس شيئا فشيئا إلى
أن ضايقه في عمل قرمونة، واقتطع منه أسجه والمورو [1] ثم انخلع له
العزيز عن قرمونة سنة تسع وخمسين وأربعمائة ونظّمها المعتضد في ممالكه،
وانقرض ملك بني برزال من الأندلس ثم انقرض من بعد ذلك حيهم من جبل
سالات، وأصبحوا في الغابرين. والبقاء للَّه وحده سبحانه.
العزيز محمد بن عبد الله بن إسحاق البرزالي
(الخبر عن بني وماتوا وبني يلومي من الطبقة
الأولى من زناتة وما كان لهم من الملك والدولة بأعمال المغرب الأوسط
ومبدإ ذلك وتصاريفه)
هاتان القبيلتان من قبائل زناتة ومن توابع الطبقة الأولى، ولم نقف على
نسبهما إلى جانا، إلّا أنّ نسّابتهم متفقون على أنّ يلومي وورتاجن
الّذي هو أبو مرين أخوان، وأنّ مديون أخوهما للأم، ذكر ذلك غير واحد من
نسّابتهم. وبنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب، ويوجبون لهم
العصبيّة له.
وكانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة وأشدّهم شوكة، ومواطنهم
جميعا بالمغرب الأوسط. وبنو وماتوا منهم إلى جهة المشرق عن وادي ميناس
ومرات وما إليها من أسافل شلف وبنو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات
والبطحاء وسيد [2] وسيرات وجبل هوّارة وبني راشد.
(وكان لمغراوة) وبني يفرن التقدّم عليهم في الكثرة والقوّة. ولما غلب
بلكّين بن زيري
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أسيجة والمدور.
[2] وفي نسخة ثانية: سيك.
(7/74)
مغراوة وبني يفرن على المغرب الأوسط،
وأزاحهم إلى المغرب الأقصى بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما، واستعملهم
صنهاجه في حروبهم، حتى إذا تقلّص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط واعتزوا
عليهم. واختصّ الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني وماتوا
هؤلاء بالولاية، فكانوا شيعا لقومه دون يلومي. وكانت رياسة بني وماتوا
في بيت منهم يعرفون ببني ماخوخ. وأصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ
منهم في أخته، فزوّجها إليه فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة.
ولمّا ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين وأربعمائة وأنزل يوسف بن
تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي، ودوّخ أعمال المنصور وملك
أمصارها إلى أن نازل الجزائر.
وهلك فولي أخوه تاشفين على عمله، فغزا أشير وافتتحها وخرّبها وكان
لهذين الحيين في مظاهرته وإمداده أحقد عليهم المنصور بعدها وأغرى بني
وماتوا في عساكر صنهاجة، وجمع له ماخوخ فهزمه وأتبعه منهزما إلى بجاية،
وقتل لمدخله إلى قصره قتلته زوجه أخت ماخوخ تشفّيا وضغنا. ثم نهض إلى
تلمسان في العساكر واحتشد العرب من الأثبج ورياح وزغبة ومن لحق به من
زناتة وكانت الغزاة المشهورة سنة ست وثمانين وأربعمائة أبقى فيها ابن
تينعمر المسوفي بعد استمكانه من البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة. ثم
هلك المنصور وولي ابنه العزيز، وراجع ماخوخ ولايته وأصهر إليه العزيز
أيضا في ابنته فزوّجها إيّاه. واعتز البدو في نواحي المغرب الأوسط،
واشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني وماتوا وبني يلومي فكانت
بينهم حروب ومشاهد. وهلك ماخوخ وقام بأمره في قومه بنوه تاشفين وعلي
وأبو بكر، وكان أحياء زناتة الثانية من بني عبد الواد وتوجين وبني راشد
وبني ورسفان من مغراوة مددا للفريقين، وربّما مادّ بنو مرين إخوانهم
بني يلومي لقرب مواطنهم منهم، إلا أنّ زناتة الثانية لذلك العهد
مغلوبون لهذين الحيّين، وأمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين. وزحف
عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في اتباع تاشفين بن علي، وتقدّم أبو بكر
بن ماخوخ ويوسف بن زيد من بني وماتوا إلى طاعته، ولحقوه بمكانه من أرض
الريف، فسرّح معهم عسكر الموحّدين لنظر يوسف بن واندين وابن يغمور،
فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي
بن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم
بتاشفين بن علي ابن يوسف، فأمدّهم بالعساكر ونزلوا منداس. واجتمع لبني
يلومي بنو ورسفان من
(7/75)
مغراوة وبني توجين من بني بادين وبنو عبد
الواد منهم أيضا، وشيخهم حمامة بن مظهر، وبنو يكناسن من بني مرين
وأوقعوا ببني وماتوا وقتلوا أبا بكر في ستمائة منهم واستنفذوا غنائمهم.
وتحصّن الموحدون وفلّ بني ومانوا بجبل سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ
صريخا بعبد المؤمن، وجاء في جملته حتى نزل تاشفين بن علي بتلمسان. ولما
ارتحل في أثره إلى وهران كما قدّمناه سرّح الشيخ أبو حفص في عساكر
الموحّدين إلى بلاد زناتة فنزلوا منداس وسط بلادهم، وأثخنوا فيهم حتى
أذعنوا لطاعته ودخلوا في الدعوة. ووفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار
وهران مقدمهم سيّد الناس بن أمير الناس شيخ بني يلومي وحمامة بن مظهر
شيخ بني عبد الواد. وعطية الخير شيخ بني توجين وغيرهم، فتلقاهم
بالقبول.
ثم انتقضت زناتة بعدها وامتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات ومعهم شيخهم
سيّد الناس ومدرج [1] ابنا سيّد الناس. فحاصرتهم عساكر الموحدين
وغلبوهم عليها وأشخصوهم إلى المغرب. ونزل سيّد الناس بمراكش، وبها كان
مهلكه أيام عبد المؤمن. وهلك بعد ذلك بنو ماخوخ.
(ولما) أخذ أمير هذين الحيين في الانتقاض جاذب بنو يلومي في تلك
الأعمال بنو توجين، وشاجروهم في أحواله ثم واقعوهم الحرب في جوانبه
وتولّى ذلك فيهم عطية الخير شيخ بني توجين، وصلى بنارها معه منهم بنو
منكوش [2] من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم وأذلّوهم وأصاروهم جيرانا
لهم في قياطينهم. واستعلى بنو عبد الواد وتوجين على هذين الحيّين
وغيرهم بولايتهم للموحدين ومخالطتهم إيّاهم، فذهب شأنهم وافترق قيطونهم
أوزاعا في زناتة الوارثين أوطانهم من عبد الواد وتوجين والبقاء للَّه
سبحانه. (ومن بطون بني وماتوا هؤلاء بنو يامدس [3] ) وقد يزعم زاعمون
أنهم من مغراوة ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق
المحيط بعمرانها المذكور قبل. واختطوا في المواطن القصور والأطم،
واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه، فمنها على ثلاثة
مراحل قبلة سجلماسة، ويسمى وطن توات، وفيه قصور متعدّدة تناهز
المائتين، آخذة من المشرق إلى المغرب وآخرها
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة بولاق: بدرج وفي نسخة أخرى:
مضرج.
[2] وفي نسخة ثانية: بنو منكرس.
[3] وفي نسخة ثانية: ومن بطون بني وماتوا هؤلاء قبائل بني يالدسّ.
(7/76)
من جانب المشرق يسمّى تمنطيت، وهو بلد
مستجر في العمران، وهو محط ركاب التجار المتردّدين من المغرب إلى بلد
مالي من السودان لهذا العهد، ومن بلد مالي إليه، وبينه وبين ثغر بلاد
مالي المسمّى غار، المفازة المجهلة لا يهتدي فيها للسبل، ولا يمر
الوارد إلّا بالدليل الخبير [1] من الملثمين الظواعن بذلك القفز،
يستأجره التجّار على الدربة بهم فيها بأوفر الشروط، وكانت بلد بودي [2]
وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من بادية السوس هي الركاب إلى
والاتن الثغر الآخر من أعمال مالي. ثم أهملت لما صارت الأعراب بادية
السوس يغيرون على سابلتها ويعترضون رفاقها، فتركوا تلك ونهجوا الطريق
إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت.
ومن هذه القصور قبلة تلمسان، وعلى عشر مراحل منها قصور تيكارين [3] وهي
كثيرة تقارب المائة في بسيط واد منحدر من المغرب إلى المشرق، واستبحرت
في العمران وغصت بالساكن. وأكثر سكان هذه القصور الغريبة في الصحراء
بنو يامدس هؤلاء ومعهم من سائر قبائل البربر مثل ورتطغير ومصاب وبني
عبد الواد وبني مرين، وهم أهل عدد وعدة وبعد عن هضمة الأحكام وذلّ
المغارم، وفيهم الرجّالة والخيّالة وأكثر معاشهم من بلح النخل [4] ،
وفيهم التجّار إلى بلاد السودان وضواحيهم كلّها مشتاة للعرب، ومختصة
بعبيد الله من المعقل، عيّنتها لهم قسمة الرحلة. وربما شاركهم بنو عامر
بن زغبة في تيكرارين فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين.
وأمّا عبيد الله فلا بدّ لهم في كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات
وبلد تمنطيت، ومع ناجعتهم تخرج قفول التجّار من الأمصار والتلول حتى
يحطوا بتمنطيت. ثم يبذرقون منها إلى بلاد السودان. وفي هذه البلاد
الصحراوية غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب،
وذلك أنّ البئر تحفر عميقة بعيدة المهوى وتطوى جوانبها إلى أن يوصل
بالحفر إلى حجارة صلدة، فتنحت بالمعاول والفؤوس إلى أن يرقّ جرمها، ثم
تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المخرّيث.
[2] وفي النسخة الباريسية: هودي.
[3] وفي نسخة ثانية: تيكورارين.
[4] وفي نسخة ثانية: من فلح النخل.
(7/77)
فينبعث صاعدا فيعمّ البئر ثم يجري على وجه
الأرض واديا، ويزعمون أنّ الماء ربّما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه
الغريبة موجودة في قصور توات وتيكرارين وواركلا وريغ. والعالم أبو
العجائب والله الخلّاق والعليم. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من
زناتة فلترجع إلى أخبار الطبقة الثانية. وهم الذين اتصلت دولتهم إلى
هذا العهد.
(أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر
أنسابهم وشعوبهم وأوليتهم ومصائر ذلك)
قد تقدّم لنا في أضعاف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة من زناتة ما
كان على يد صنهاجة والمرابطين من بعدهم، وأنّ عصبية أجيالهم افترقت
بانقراض ملكهم ودولهم، وبقي منهم بطون لم يمارسوا الملك، ولا أخلقهم
ترفه، فأقاموا في قياطينهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر
والتلّ، ويعطون الدول حق الطاعة. وغلبوا على بقايا الأجيال الأولى من
زناتة بعد أن كانوا مغلوبين لهم فأصبحت لهم السورة والعزة وصارت الحاجة
من الدول إلى مظاهرتهم ومسالمتهم، حتى انقرضت دولة الموحدين فتطاولوا
إلى الملك وضربوا فنيه مع أهلهم بسهم. وكانت لهم دول نذكرها إن شاء
الله تعالى. وكان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتن إخوة مغراوة
وبني يفرن، ويقال إنهم من بني وانتن بن ورسيك بن جانا إخوة مسارة
وتاجرت، وقد تقدّم ذكره هذه الأنساب. وكان من بني واسين هؤلاء ببلد
قسطيلية. وذكر ابن الرقيق أنّ أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب
إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين
وثلاثمائة. وربما كان منهم ببلد الحامة لهذا العهد، ويعرفون ببني
ورتاجن إحدى بطونهم. وأمّا جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب الأقصى بين
ملوية إلى جبل راشد.
(وذكر موسى) بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرّفه بحربة
مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعيّ، ومن صار إليه من قبائل زناتة، فذكر
فيمن ذكر ملوية، وسار من قبائل بني واسين وبني يفرن وبني يرناتن وبني
ورنمت [1] ومطماطة، فذكر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بني ورتاسن وبني وريمت، وبني يزناسن في قبائل
المغرب/ 137.
(7/78)
منهم بني واسين لأنّ تلك المواطن من
مواطنهم قبل الملك.
(وفي هذه الطبقة منهم بطون) : فمنهم بنو مرين، وهم أكثرهم عددا وأقواهم
سلطانا وملكا وأعظمهم دولة. (ومنهم) : بنو عبد الواد تلوهم في الكثرة
والقوّة، وبنو توجين من بعدهم كذلك هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة.
وفيها غير أهل الملك بنو راشد إخوة بني يادين كما نذكره، وفيها أهل
الملك أيضا من غير نسبهم بقية من مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف
نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأوّل، فتجاذبوا حبله مع أهل
هذا الجيل وكانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره.
(ومن أهل هذه الطبقة) كثير من بطونهم ليس لهم ملك نذكرهم الآن عند
تفصيل شعوبهم. وذلك أنّ أحياءهم جميعا تشعّبت من زرجيك بن واسين فكان
منهم بنو يادين بن محمد، وبنو مرين بن ورتاجن، فأمّا بنو ورتاجن فهم من
ولد ورتاجن بن ماخوخ بن جريح [1] بن فاتن بن بدر بن يخفت بن عبد الله
ورتنيد بن المعز بن إبراهيم بن زحيك. (وأمّا بنو مرين) بن ورتاجن
فتعدّدت أفخاذهم وبطونهم كما نذكر بعد، حتى كثروا سائر شعوب بني
ورتاجن، وصار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم وشعوبهم. (وأما بنو
يادين) بن محمد فمن ولد زرجيك ولا أذكر الآن كيف يتصل نسبهم به.
وتشعّبوا إلى شعوب كثيرة، فكان منهم: بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو
مصاب وبنو زردال [2] يجمعهم كلّهم نسب يادين بن محمد. وفي محمد هذا
يجتمع يادين وبنو راشد، ثم يجتمع محمد مع ورتاجن في زرجيك [3] بن
واسين، وكانوا كلّهم معروفين بين زناتة الأولى ببني واسين قبل أن تعظم
هذه البطون والأفخاذ، وتتشعب مع الأيام. وبأرض إفريقية وصحراء برقة
وبلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى
المغرب، فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبلة سرت، وكانت مختطّة منذ
عهد الإسلام، وهي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة، وبعضها لبني ورتاجن
وبعضها لبني واطاس من أحياء بني مرين، يزعمون أنّ أوليتهم اختطّوها،
وهي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بن وجديج.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زردان وفي نسخة ثانية:
ازردال.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زحيك وفي نسخة ثانية:
زجيك.
(7/79)
واتسعت في التمدّن بما صارت محطّا لركاب
الحاج من السودان، وقفل التجّار إلى مصر والاسكندرية عند اراحتهم من
قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول،
وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم ومنهم ببلد الحامة
[1] غربيّ قابس أمّة عظيمة من بني ورتاجن. وفرّت منهم حاميتها، واشتدّت
شوكتها ورحل إليها التجر بالبضائع لنفاق أسواقها، وتبحّر عمرانها،
وامتنعت لهذا العهد على من يرومها ممن يجاورها، فهم لا يؤدّون خراجا
ولا يسامون بمغرم، حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب، وفضل بأس ومنعة.
ويزعمون أنّ سلفهم من بني ورتاجن اختطّوها، ورياستهم في بيت منهم
يعرفون ببني وشاح، ولربّما طال على رؤسائهم عهد الخلافة ووطأة الدولة
فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلة، ويبرزون في زيّ
السلطان أيام الزينة تهاونا بشعار الملك، ونسيانا لمألوف الانقياد شأن
جيرانهم رؤساء توزر ونفطة. وسابق الغاية في هذه الضحكة هو يملول مقدّم
توزر.
(ومن بني واسين) هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل قيطري في
القبلة لما دون الرمال على ثلاث مراحل من قصور بني ريغة في المغرب،
وهذا الاسم للقوم الذين اختطّوها ونزلوها من شعوب بني يادين [2] حسبما
ذكرناهم الآن.
وضعوها في أرض حرّة على أحكام [3] وضراب ممتنعة في قننها. وبينها وبين
الأرض المحجرة المعروفة بالجمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك
البلاد على فراسخ في ناحية القبلة، وسكانها لهذا العهد شعوب بني يادين
من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن انضاف إليهم من
شعوب زناتة، وإن كانت شهرتها مختصة بمصاب، وحالها في المباني والاغتراس
وتفرّق الجماعات بتفرّق الرئاسة شبيهة بحال بني ريغة والزاب. ومنهم
بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطّنوه منذ العهد القديم
لأوّل الفتح، معروفون بين ساكنيه.
(وقد ذكر) بعض الأخباريين أنّ بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في
فتح المغرب عند ايغاله في ديار المغرب، وانتهائه إلى البحر المحيط
بالسوس في ولايته
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومنهم ببلاد الحمة.
[2] وفي نسخة ثانية: بني يادين.
[3] وفي نسخة ثانية: آكام.
(7/80)
الثانية. وهي الغزاة التي هلك فيها في
منصرفه منها، وأنهم أبلوا البلاء الحسن فدعا لهم وأذن في رجوعهم قبل
استتمام الغزاة. ولما تحيّزت زناتة أمام كتامة وصنهاجة اجتمع شعوب بني
واسين هؤلاء كلّهم ما بين ملوية كما ذكرناه. وتشعّبت أحياؤهم وبطونهم،
وانبسطوا في صحراء المغرب الأقصى والأوسط إلى بلاد الزاب وما إليها من
صحارى إفريقية إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلّها مذهب ولا مسلك
إلى المائة الخامسة كما سبق ذكره. ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس
العزّ مشمّرين للانفة، وكانت مكاسبهم [1] الأنعام والماشية، وابتغاؤهم
الرزق من تحيّف السابلة، وفي ظل الرماح المشرّعة، وكانت لهم في محاربة
الأحياء والقبائل ومنافسة الأمم والدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع،
نلمّ بها ولم تعظم العناية باستيعابها، فنأتي به. والسبب في ذلك أنّ
اللسان العربيّ كان غالبا لغلبة دولة العرب وظهور الملّة العربية،
فالكتاب والخط بلغة الدولة ولسان الملك، واللسان العجمي مستتر بجناحه
مندرج في غماده، ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك
يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم، ولم تكن
مخالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر، حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في
القفار كما رأيت في مواطنهم، وتوحّشهم عن الانقياد، فبقوا غفلا إلى أن
درس منها الكثير، ولم يصل إلينا بعد ملكهم إلّا الشارد القليل يتبعه
المؤرّخ المضطلع في مسالكه، ويتقرّاه في شعابه ويثيره من مكامنه،
وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنّموا منها هضبات الملك على ما تصفه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وكان جل مكاسبهم.
(7/81)
(الخبر عن أحوال هذه الطبقة قبل الملك وكيف
كانت تصاريف أحوالهم الى أن غلبوا على الملك والدول)
وذلك أنّ أهل هذه الطبقة من بني واسين وشعوبهم التي سمّيناها كانوا
تبعا لزناتة الأولى. ولما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة
وصنهاجة، خرج بنو واسين هؤلاء إلى القفر ما بين ملوية وصا، فكانوا
يرجعون إلى ملك المغرب لذلك العهد.
مكناسة أوّلا ثم مغراوة من بعدهم. ثم حسر تيّار بني صنهاجة عن المغرب
وتقلّص ملكهم، بعض الشيء وصاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل
زناتة، فأومضت بروقهم، ورفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدّمناه.
واقتسم أعمالها بنو ومانو وبنو يلومي ناحيتين، وكانت ملوك صنهاجة أهل
القلعة إذا عسكروا للغرب يستنفرونهم لغزوه، ويجمعون حشدهم للتوغّل فيه،
وكان بنو واسين هؤلاء ومن تشعّب معهم من القبائل الشهيرة الذكر مثل بني
مرين وبني عبد الواد وبني توجين ومصاب قد ملكوا القفر ما بين ملوية
وأرض الزاب، وامتنعت عليهم المغربان ممن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم.
(وكان) أهل الرئاسة بتلك الأرياف والضواحي من زناتة مثل بني ومانوا
وبني يلومي بالمغرب الأوسط، وبني يفرن ومغراوة بتلمسان يستجيشون بني
واسين هؤلاء وشعوبهم، ويستظهرون بجموعهم على من زاحمهم أو نازعهم من
ملوك صنهاجة وزناتة وغيرهم، يحاجون [1] بهم عن مواطنهم لذلك، ويقرضونهم
القرض الحسن من المال والسلاح والحبوب المعوزة لديهم بالقفار، فيتأثلون
منهم ويرتاشون.
وعظمت حاجة بني حمّاد إليهم في ذلك عند ما عصفت بهم ريح العرب الضوالع
من بني هلال بن عامر، وصرعوا دولة المعزّ وصنهاجة بالقيروان والمهديّة
والإيواء عن مدّهم [2] ، وزحفوا إلى المغرب الأوسط فدافعوا بني حمّاد
عن حوزته وأوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضا، فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك
تلمسان من مغراوة وجمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين
وعبد الواد وتوجين وبني راشد. وعقدوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يجأجئون بهم من مواطنهم لذلك.
[2] وفي نسخة ثانية: والأنواء من حدهم.
(7/83)
على حرب الهلاليين لوزيرهم أبي سعدى خليفة
بن [1] اليفرني، فكان له مقامات في حروبهم ودفاعهم عن ضواحي الزاب وما
إليه من بلاد إفريقية والمغرب الأوسط إلى أن هلك في بعض أيامه معهم،
وغلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي وأزاحوهم عن الزاب وما
إليه من بلاد إفريقية، وانشمر بنو واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد
وتوجين عن الزاب إلى مواطنهم بصحراء المغرب الأوسط من مصاب وجبل راشد
إلى ملوية فيكيك. ثم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا وبني يلومي ملوك
الضواحي بالمغرب الأوسط، وتفيّؤا ظلّهم واقتسموا ذلك القفر بالمواطن،
فكان لبني مرين الناحية الغربية منها قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين
ودبّروا إلى ملوية وسجلماسة، وبعدوا عن بني يلومي إلا في الأحايين وعند
الصريخ، وكان لبني يادين منها الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما
بين فيكيك ومديونة إلى جبل راشد ومصاب. وكان بينهم وبين بني مرين فتن
متصلة باتصال أيامهم في تلك المواضع [2] بسيل القبائل الجيران في
مواطنهم، وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني يادين لما كانت
شعوبهم أكثر وعددهم أوفر، فإنّهم كانوا أربعة: شعوب بني عبد الواد وبني
توجين وبني زردال وبني مصاب، كان معهم شعب آخر وهم إخوانهم بنو راشد،
لأنّا قدّمنا أنّ راشدا أخو يادين. وكان موطن بني راشد الجبل المشهور
بهم بالصحراء، ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين، فكان
لبني عبد الواد وتوجين ومغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما
هو مذكور في أخبارهم.
ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط وقبائله من زناتة فأطاعوا وانقادوا،
وتحيّز بنو عبد الواد وبنو توجين إلى الموحدين وازدلفوا إليهم بامحاض
النصيحة ومشايعة الدعوة، وكان التقدم لبني عبد الواد دون الشعوب الآخر،
وأمحضوا النصيحة للموحدين فاصطنعوهم دون بني مرين كما نذكر في أخبارهم
وترك [3] الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي وبني
ومانوا فملكوها. وتفرّد بنو مرين بعد دخول بني يادين إلى المغرب الأوسط
بتلك الصحراء، لما اختار الله لهم
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد اسم والده في المراجع التي بين
أيدينا.
[2] وفي نسخة أخرى: المواطن.
[3] وفي نسخة أخرى: واقطعهم.
(7/84)
من وفور قسمهم في الملك، واستيلائهم على
سلطان المغرب الّذي غلبوا به الدول، واشتملوا الأقطار ونظّموا المشارق
إلى المغارب، واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس
الأقصى إلى إفريقية. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده.
فأخذ بنو مرين وبنو عبد الواد من شعوب بني واسين بحظ من الملك أعادوا
فيه لزناتة دولة وسلطانا في الأرض، واقتادوا الأمم برسن الغلب، وناغاهم
في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين، وكان في هذه الطبقة الثانية
بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى، كانوا موطنين بقرار
عزّهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف، فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك وناغوهم
في أطوار الرئاسة، واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه العشائر فتطاولوا
إلى مقاسمتهم في الماء [1] ومساهمتهم في الأمر، وما زال بنو عبد الواد
في الغضّ من عنانهم وجدع أنوف عصبيتهم حتى أوهنوا من بأسهم، وخصّت
الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلّفة من جناح
تطاولهم، وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم لجميع هؤلاء
العصائب كما نذكر لك الآن دولهم واحدة بعد أخرى، ومصائر هؤلاء القبائل
الأربعة التي هي رءوس هذه الطبقة الثانية من زناتة. والملك للَّه يؤتيه
من يشاء والعاقبة للمتقين.
ولنبدأ منها بذكر مغراوة) بقية الطبقة الأولى وما كان لرؤسائهم أولاد
منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية
وما أعادوا لقومهم مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلب وما إليه من
نواحي المغرب الأوسط)
لما ذهب الملك من مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر، واضمحلت دولتهم
بتلمسان وسجلماسة وفاس وطرابلس، وبقيت قبائل مغراوة متفرقة في مواطنها
الأولى بنواحي المغربين وإفريقية بالصحراء والتلول، والكثير منهم
بعنصرهم ومركزهم الأول بوطن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الملك.
(7/85)
شلف وما إليه، فكان به بنو ورسيفان وبنو
يرنا وبنو ينلت [1] . ويقال إنهم من وترمار وبنو سعيد وبنو زحاك [2]
وبنو سنجاس، وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة، وكان بنو
خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم، وافترقوا في البلاد، ولحق منهم
عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك الذين
استولوا على الأمر وجدّه خزرون بن خليفة السادس من ملوكهم بطرابلس،
فأقام بينهم أعواما. ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من
بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بوسعيد وغيرهم، فتلقّوهم بالمبرّة
والكرامة، وأوجبوا له حق البيت الّذي ينسب إليه فيهم، وأصهر إليهم
فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد، ثم بالخزريّة نسبة إلى سلفه
الأول. وكان من ولده الملقّب أبو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد
الصمد. وكان منتحلا للعبادة والخيرية، وأصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك
بني وماتوا بابنته، فأنكحه إيّاها، فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره.
وجاءت دولة الموحدين على أثر ذلك فرمقوه بعين التجلّة لما كان عليه من
طرق الخير، فأقطعوه بوادي شلف وأقام على ذلك. وكان له من الولد ورجيع
وهو كبيرهم، وغربي ولغريات [3] وماكور، ومن بنت ماخوخ عبد الرحمن، وكان
أجلّهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا، لما يوجبون له بولادة
ماخوخ لأمّه، ويتفرّسون فيه أنّ له ولعقبه ملكا.
وزعموا أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة وذهبت في
بعض حاجاتها، فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه، وبصرت به على
البعد فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة، فقال لها بعض العارفين: خففي
عنك فو الله ليكوننّ لهذا شأن. ونشأ عبد الرحمن هذا في جوّ هذه التجلّة
مدلّا بنسبه وبأسه، وكثرت عشيرته من بني أبيه، واعصوصب عليه قبائل
مغراوة، فكان له بذلك شوكة. وفي دولة الموحدين تقدمة، لما كان يوجب لهم
على نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدّم في مذاهب الطاعة. وكان السادة
منهم يمرّون به غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وجائين [4] ، فينزلون منه
خير نزل، وينقلبون بحمده والشكر لمذهبه،
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: بنو ووترمار وبنو يلتت وفي نسخة ثانية: بنو
ووتزمان وبنو ايليت.
[2] وفي نسخة ثانية: زجاك.
[3] وفي نسخة ثانية: عزيز ويغريان.
[4] وفي نسخة ثانية: راجعين.
(7/86)
فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به. وأدرك بعض
السادة وهو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش، فخلف الذخيرة
والظهر، وأسلمها لعبد الرحمن هذا، ونجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخوم
وطنه، فكانت له بها ثروة أكسبته قوّة وكثرة فاستركب من قومه، واستكثر
من عصابته وعشيرته. وهلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن وضعف أمر
الخليفة بمراكش.
(وكان له من الولد) منديل وتميم، وكان أكبرهما منديل، فقام بأمر قومه
على حين عصفت رياح الفتنة، وسما لمنديل أمل في التغلّب على ما يليه،
فاستأسد في عرينه وحامي عن أشباله. ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من
البلاد فملك جبل وانشريس والمريّة وما إلى ذلك واختط قصبة مرات. وكان
بسيط متيجة لهذا العهد في العمران آهلا بالقرى والأمصار.
(ونقل الأخباريون) أنّ أهل متيجة لذلك العهد يجمعون في ثلاثين مصرا
فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها وخرّب عمرانها حتى تركها خاوية على
عروشها. وهو في ذلك يوهم التمسّك بطاعة الموحدين، وأنه سلم لمن سالمهم
حرب لمن عاداهم. وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون عن إفريقية قد
أزاحوه إلى قابس وما إليها، فنزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس
ودفعه إلى إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة فطمع يحيى بن
غانية في استرجاع أمره وسبق إلى الثغور والأمصار يعبث فيها ويخرّبها،
ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشنّ عليها الغارات واكتسح البسائط،
وتكرّرت الوقائع بينه وبينهم، فجمع له منديل بن عبد الرحمن ولقيه
بمتيجة، وكانت الدبرة عليه وانفضت عنه مغراوة، فقتله ابن غانية صبرا
سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين وستمائة وتغلّب على الجزائر أثر نكبته، فصلب
شلوه بها وصيره مثلا للآخرين. وقام بأمره في قومه بنوه، وكان منجبا
فكان لهم العدد والشرف، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العبّاس،
فتقلّد [1] مذاهب أبيه واقتصر على بلاد متيجة. ثم غلبهم بنو توجين على
جبل وانشريس وضواحي المريّة وما إلى ذلك.
وانقبضوا إلى مركزهم الأوّل شلف، وأقاموا فيها ملكا بدويا لم يفارقوا
فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط. واستولى على مدينة مليانة وتنس
وبرشك وشرشال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتقبّل مذاهب أبيه وأقصر على بلاد متيجة.
(7/87)
مقيمين فيها للدعوة الحفصيّة واختطوا قرية
مازونة.
(ولما استوسق) الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان، واستفحل سلطانه بها
وعقد له عليها ولأخيه من قبله عبد المؤمن، سما على التغلّب على أعمال
المغرب الأوسط، وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمكناسة فلفتوا
وجوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من
بني عبد المؤمن، وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن، فاحتشد لهم جميع
الموحدين والعرب، وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه.
ولما قفل إلى الحضرة عقد في مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه،
فعقد للعبّاس ابن منديل على مغراوة، ولعبد القوي على توجين ولا ولاد
حورة [1] على ملكيش، وسوّغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه. وعقد
العبّاس السلم مع يغمراسن، ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرّة وتكريما،
وذهب عنه بعدها مغاضبا. يقال إنه تحدّث بمجلسه يوما فزعم أنه رأى فارسا
واحدا يقاتل مائتين من الفرسان، فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد
وعرّضوا بتكذيبه، فخرج العبّاس لها مغاضبا حتى أتى بقومه، وأتى يغمراسن
مصداق قوله، فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه.
وهلك العبّاس لخمس وعشرين سنة بعد أبيه سنة سبع وأربعين وستمائة وقام
بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا
إلى الاتفاق والمهادنة، ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة
كلومان [2] وهي سنة سبع وأربعين وستمائة، هزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق
فرجعوا إلى أوطانهم وعاودوا شأنهم في العداوة. وانتقض عليهم أهل مليانة
وخلعوا الطاعة الحفصيّة.
(وكان من خبر) هذا الانتقاض أنّ أبا العباس أحمد الملياني كان كبير
وقته علما ودينا ورواية، وكان عالي السند في الحديث فرحل إليه الأعلام،
وأخذ عنه الأئمة وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة، فانتهت إليه رياسة
بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه. ونشأ ابنه أبو عليّ في جوّ هذه
العناية وكان جموحا للرئاسة طامحا للاستبداد، وهو مع ذلك خلو من
المغارم. فلمّا هلك أبوه جرى في شأو رياسته طلقا، ثم رأى ما بين مغراوة
وبني عبد الواد من الفتنة، فحدّثته نفسه بالاستبداد ببلده، فجمع لها
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: حتورة وفي نسخة ثانية: حبورة.
[2] وفي نسخة اخرى: كلدمان.
(7/88)
جراميزه، وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة
تسع وخمسين وستمائة، وبلغ الخبر الى تونس فسرّح الخليفة أخاه في عسكر
من الموحدين في جملته «دون الديك بن هرنزة [1] » من آل أدفونش ملوك
الجلالقة، كان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه، فنازلوا مليانة
أياما. وداخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن ابن الملياني،
فسرّب إليهم جنودا بالليل واقتحموها من بعض المداخل، وفرّ أبو عليّ
الملياني تحت الليل. وخرج من بعض قنوات البلد، فلحق بأحياء العرب، ونزل
على يعقوب بن موسى بن العطاف من بطون زغبة، فأجاره إلى أن لحق بعدها
بيعقوب بن عبد الحق، فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم. وانصرف عسكر
الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة، وعقد لمحمد بن منديل على مليانة،
فأقام بها الدعوة الحفصية على سنن قومه. ثم هلك محمد بن منديل سنة
اثنتين وستين وستمائة لخمس عشرة من ولايته، قتله أخواه ثابت وعابد
بمنزل ظواعنهم بالخيس [2] من بسيط بلادهم، وقتل معه عطية ابن أخيه منيف
وتولّى عابد وشاركه ثابت في الأمر، واجتمع إليه قومه وتقطع ما بين
أولاد منديل وخشّنت صدورهم. واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم، وداخله عمر
بن منديل في أن يمكّنه من مليانة، ويشدّ عضده على رياسة قومه، فشارطه
على ذلك وأمكنه من أزمّة البلد سنة ثمان وستين وستمائة ونادى بعزل ثابت
ومؤازرة عمر على الأمر فتمّ لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة.
واستمكن بها يغمراسن من قيادة قومه. ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف
إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر، فاتفق ثابت وعابد أولاد منديل أن
يحكماه من تونس [3] فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين وستمائة على اثني
عشر ألفا من الذهب.
واستمرّت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست وسبعين وستمائة، فاستقل ثابت بن
منديل برياسة مغراوة، وأجاز عابد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع
صاحبيه زيّان بن محمد بن عبد القوي وعبد الملك بن يغمراسن فحوّل زناتة
واسترجع ثابت بلاد تونس ومليانة من يد يغمراسن، ونبذ إليه العهد، ثم
استغلظ يغمراسن عليهم واستردّ تونس سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي
مهلكه.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: دون الريك بن هراندة.
[2] وفي نسخة اخرى: بالخميس.
[3] وفي نسخة ثانية: في تنس.
(7/89)
(ولما) هلك يغمراسن وقام بالأمر بعده ابنه
عثمان انتقضت عليه تونس، ثم ردّد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى
غلبهم آخرا على ما بأيديهم، وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة
سبع وثمانين وستمائة وغلب ثابت بن منديل على مازونة، فاستولى عليها ثم
نزل له عن تونس أيضا فملكها. ولم يزل عثمان مراغما لهم إلى أن زحف
إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة فاستولى على أمصارهم وضواحيهم، وأخرجهم
عنها وألجأهم إلى الجبال. ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها،
فزحف إليهم عثمان وحاصره بها حتى إذا استيقن أنه محاط به [1] ، ركب
البحر إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخا سنة
أربع وتسعين وستمائة فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوّه، وأقام بفاس وكانت
بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحبة ومداخلة، فجاءه بعض
الأيام الى منزله، ودخل عليه من غير استئذان وكان ابن الأشهب ثملا،
فسطا به وقتله وثأر السلطان به منه، وانفجع لموته. وكان ثابت بن منديل
قد أقام ابنه محمد الأمير في قومه، وولّاه عليهم لعهده واستبدّ بملك
مغراوة دونه.
(ولما انصرف) أبوه ثابت إلى قومه أقام هو في إمارته على مغراوة. وهلك
قريبا من مهلك أبيه، فقام بأمرهم من بعده شقيقه عليّ، ونازعه الأمر
أخواه رحمون ومنيف، فقتله منيف ونكر ذلك قومهما وأبوا من إمارتهما
عليهم، فلحقا بعثمان بن يغمراسن فأجازهما إلى الأندلس.
(وكان) أخوهما معمّر بن ثابت قائدا على الغزاة بالعزة [2] فنزل لمنيف
عنها، فكانت أوّل ولاية وليها بالأندلس. ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن
فكانوا جميعا هنالك ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن،
ومن أعقاب منيف [3] بن عمر بن منيف وجماعة منهم لهذا العهد بالأندلس.
(ولما هلك) ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين وستمائة كما قلناه، كفل
السلطان ولده وأهله، وكان فيهم حافده راشد بن محمد، فأصهر إليه في أخته
فأنكحه إياها.
ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة فأناخ عليها، واختطّ مدينته
لحصارها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انه محيط به.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالبغيرة، وفي نسخة ثانية
بالنغيرة.
[3] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم ابن عمر هذا في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/90)
وسرّح عساكره في نواحيها، وعقد على مغراوة
وشلف لعمر بن يعزن [1] بن منديل، وبعث معه جيشا ففتح مليانة وتونس
ومازونة سنة تسع وتسعين وستمائة ووجد راشد في نفسه إذ لم يوله على
قومه، وكان يرى أنه الأحق لنسبه وظهره، فنزع عن السلطان ولحق بجبال
متيجة ودسّ إلى أوليائه من مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة، فأجدّ [2]
السير ولحق بهم، فافترق أمر مغراوة، وداخل أهل مازونة فانتقضوا على
السلطان وبيّت عمر بن ويعزن بأزمور [3] من ضواحي بلادهم فقتله، واجتمع
عليه قومه وسرّح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن عليّ
بن أبي الطلاق، ومن بني ورتاجن لنظر عليّ بن محمد الخير، ومن بني توجين
لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي. ومن الجند لنظر علي بن حسّان
الصبحي من صنائعه، وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وزحفوا إلى
مازونة وقد ضبطها راشد، وخلّف عليها عليّا وحمّوا ابني عمه يحيى بن
ثابت. ولحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم وأناخت العساكر على مازونة،
ووالوا عليها الحصار سنين حتى أجهدوهم. وبعث عليّ بن يحيى أخاه حمّو
إلى السلطان من غير عهد فتقبّض عليه. ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور
فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث وسبعمائة وأشخصوه إلى السلطان فعفا عنه
واستبقاه، واحتسبها تأنيسا واستمالة لراشد ثم سرّح العساكر الى قاصية
الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب، فنازل راشد بن محمد في معقل بني
بوسعيد، وطال حصاره إياه، وأمكنته الغرّة بعض الأيام في العساكر، وقد
تعلقوا بأوعار البلد زاحفين إليه فهزمهم. وهلك في تلك الواقعة خلق من
بني مرين وعساكر السلطان، وذلك سنة أربع وسبعمائة. وبلغ الخبر الى
السلطان فأحفظه ذلك عليهم، وأمر بابن عمّه علي بن يحيى وأخيه حمّو ومن
معهم من قومهم، فقتلوا رشقا بالسهام واستلحمهم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ويعزن وفي نسخة ثانية: ويغرن.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: فأغذّ.
[3] سمّاها ياقوت في معجم البلدان أزمورة بثلاث ضمات وكذلك ابن حوقل.
وأزمور مدينة صغيرة على شاطئ المحيط الأطلنطي بين الدار البيضاء
والجديدة على ضفة وادي أم الربيع، تعتبر مركزا مهما لقبائل.
الحوزية وشتوكه بدكاله. ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها
الفينيقيون. (تقع المدينة على بعد 2 كلم من الشاطئ و 17 كلم من الجديدة
و 80 كلم من البيضاء) . (المعجم التاريخي 3- كتاب المغرب/ 42.
(7/91)
ثم سرّح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة
أربع وسبعمائة فاستولى على بلاد مغراوة، ولحق راشد بجبال صنهاجة من
متيجة، ومعه عمّه منيف بن ثابت ومن اجتمع إليهم من قومهم، فنازلهم أبو
يحيى بن يعقوب. وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم، ورجعت
العساكر عنهم. وأجاز منيف بن ثابت معه بنيه وعشيرته إلى الأندلس،
فاستقرّوا هنالك آخر الأيام.
(ولمّا هلك) يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست وسبعمائة
انعقدت السلم بين حافده أبي ثابت وبين أبي زيّان بن عثمان سلطان بني
عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم
وأعمالهم وثغورهم، وبعثوا في حاميتهم وعمّالهم وأسلموها لعمّال أبي
زيّان. وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده، وزحف إلى مليانة فأحاط بها.
فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيّان وصارت مليانة وتونس له، أخفق سعي
راشد وأفرج عن البلد. ثم كان مهلك أبي زيّان قريبا، وولّى أخوه أبو
حمّو موسى بن عثمان واستولى على المغرب الأوسط فهلك تافريكت [1] سنة
سبع وسبعمائة وملك بعدها مليانة والمريّة، ثم ملك تونس وعقد عليها
لمولاه مسامح، وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن
مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع
الجزائر من يد ابن علان الثائر بها عليهم، فلقيه هنالك راشد بن محمد
وصار في جملته وظاهره على شأنه. ولقاه السلطان تكرمة وبرّا، وعقد له
ولقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة والمتغلّبين على ضاحية بجاية
وجبال زواوة، فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد زعماء
الدولة.
ولما نهض السلطان للاستيثار بملك الحضرة بتونس، استعمل يعقوب بن خلوف
على بجاية وعسكر معه راشد بقومه، وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في
مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم واستولى على تراث سلفهم، أسف حاجب
الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه، وتعرّض للحرابة في
السابلة، فتقبّض عليه ورفع إلى سدّة السلطان فأمضى فيه حكم الله. وذهب
راشد مغاضبا ولحق بوليّه ابن خلوف ومضطربه من زواوة. وكان يعقوب بن
خلوف قد هلك وولّى السلطان مكانه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تافركينت.
(7/92)
ابنه عبد الرحمن، فلم يرع حق أبيه في إكرام
صديقه راشد. وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها
ملاحاة راشد له، وأنف منها، وأدلّ فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس
قومه، فلدغه بالقول وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزا بالرماح إلى أن
أقعصوه [1] وانذعر جمع مغراوة ولحقوا بالثغور القاصية، وأقفر منهم شلف
وما إليه كأن لم يكونوا به فأجاز منهم بنو منيف وبنو يعزن إلى الأندلس
للمرابطة بثغور المسلمين، فكانت منهم عصابة موطّنة هناك أعقابهم لهذا
العهد. وأقام في جوار الموحّدين فلّ آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في
عساكر الدولة إلى أن انقرضوا ولحق علي بن راشد بعمّته في قصر بني يعقوب
بن عبد الحق فكفلته، وصار أولاد منديل عصبا إلى وطن بني مرين فتولّوهم
وأحسنوا جوارهم، وأصهروا إليهم سائر الدولة، إلى أن تغلّب السلطان أبو
الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيّان، وجمع كلمة زناتة، وانتظم
مع بلادهم بلاد إفريقية وعمل الموحدين وكانت نكبته على القيروان سنة
تسع وأربعين وسبعمائة كما شرحناه قبل. فانتقضت العمالات والأطراف
وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى، فتوثّب عليّ بن راشد بن محمد ابن
ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملّكها وتغلّب على أمصارها مليانة وتنس
وبرشك وشرشال، وأعاد ما كان لسلفه بها من الملك على طريقتهم البدوية،
وأرهفوا حدّهم لمن طالبهم من القبائل.
وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته إلى إفريقية، ثم من ورطة البحر من
مرسى الجزائر إلى بجاية يحاول استرجاع ملكه المفرّق، فبعث إلى عليّ بن
راشد وذكّره ذمّتهم فتذكر وحنّ، واشترط لنفسه التجافي له عن ملك قومه
بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من
اشتراط ذلك له، فتحيّز عنه إلى فينة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان
كما ذكرناه قبل، وظاهرهم عليه وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر
والتقى الجمعان بشربونة [2] سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلف مصافّ
السلطان أبي الحسن وانهزم جمعه، وهلك ابنه الناصر، طاح دمه في مغراوة
وهؤلاء. وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد.
وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن الى انتظام بلاد مغراوة في
ملكهم كما كان
__________
[1] قال الجوهري: يقال ضربه فاقعصه أي قتله مكانه.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: شربوبة وفي نسخة ثانية:
شدبونة.
(7/93)
لسلفهم، فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد
رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن بن يحيى بن
يغمراسن، فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وفلّ
جموعهم وغلبهم على الضاحية والأمصار. وأحجر عليّ بن راشد بتنس في شرذمة
من قومه، وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب ولما رأى علي بن
رشد أن قد أحيط به دخل الى زاوية من زوايا قصره انتبذ فيها عن الناس
وذبح نفسه بحدّ حسامه، وصار مثلا وحديثا للآخرين. واقتحم البلد لحينه،
واستلحم من عثر عليه من مغراوة، ونجا الآخرون إلى أطراف الأرض، ولحقوا
بأهل الدول فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جندا للدول وحشما وأتباعا،
وانقرض أمرهم من بلاد شلف.
ثم كانت لبني مرين الكرّة الثانية إلى تلمسان، وغلبوا آل زيّان ومحوا
آثارهم. ثم فاء ظلّهم بملك السلطان أبي عنّان، وحسر تيارهم، وجدّد
الناجمون من آل يغمراسن دولة ثانية بمكان عملهم على يد أبي حمّو الأخير
ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم. ثم كانت لبني مرين الكرّة
الثالثة إلى بلاد تلمسان، ونهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي
الحسن إليها فدخلها فاتح سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وسرّح عساكره في
اتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فرّ أمامه في قومه وأشياعه
من العرب كما يأتي ذلك كله. ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا
هنالك أياما لإزاحة عللهم. وكان في جملتهم صبيّ من ولد عليّ بن راشد
الذبيح اسمه حمزة، ربّي يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الّذي لقومه
فيهم، فكفلته نعمهم وكنفه جوّهم، حتى شبّ واستوى وسخط رزقه في ديوانهم
وحاله بين ولدانهم، واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن
غازي شاكيا، فجبهه وأساء ردّه، فركب الليل ولحق بمعقل بني بو سعيد من
بلاد شلف فأجاروه ومنعوه، ونادى بدعوة قومه فأجابوه، وسرّح إليه
السلطان وزيره عبد العزيز عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير يتريعن
[1] في جيش كثيف من بني مرين والجند فنزل بساحة ذلك الجبل حولا كريتا
[2] فحاصرهم ينال منهم وينالون منه، وامتنعوا عليه واتهم السلطان وزيره
بالمداهنة، وسعى به منافسوه، فتقبّض عليه، وسرّ وزيره الآخر أبا بكر بن
غازي، فنهض يجرّ العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تيربيغين.
[2] قال الجوهري: سنة كريت أي سنة تامة..
(7/94)
بهم وصبحهم القتال، فقذف الله في قلوبهم
الرعب وأنزلهم من معقلهم. وفرّ حمزة بن عليّ في فلّ من قومه، فنزل
ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيّان بن أبي سعيد
الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكره. وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم، وأخلصوا
الضمائر في مغبتها فحسن موقعهم وبدأ حمزة في الرجوع إليهم فأغذّ السير
في لمّة من قومه، حتى إذا ألمّ بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل
الطاعة، فتساهل إلى البسائط وقصد تيمروغت [1] يظنّ بها غرّة ينتهزها،
فبرز إليه حاميتها ففلّوا حدّة وردّوه على عقبه، وتسابقوا في اتباعه
إلى أن تقبّضوا عليه، وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس. فأوعز إليه
السلطان بقتله مع جملة أصحابه، فضربت أعناقهم، وبعث بها إلى سدّة
السلطان وصلب أشلاؤهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة، ومحّى أثر
مغراوة، وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء، وجندا في الدول، وأوزاعا
في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم. والبقاء للَّه وحده،
وكل شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون لا ربّ غيره ولا معبود
سواه وهو على كل شيء قدير.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: تيمزوغت.
(7/95)
|