تاريخ ابن خلدون

الخبر عن بني عبد الواد من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم
قد تقدّم لنا في أوّل هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء وأنهم من ولد يادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد، وأن نسبهم يرتفع إلى رزجيك بن واسين بن ورسيك بن جانا، وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك. وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية، ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في رزجيك بن واسين.
ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك وبنو راشد بنو زردال ومصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف، وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم. ولم يزالوا جميعا متغلّبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان، وكانوا تبعا فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلّب فيهم. وربما يقال: كان شيخهم لذلك العهد يعرف بيوسف بن تكفا، حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحّدون نواحي تلمسان، وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص، فأوقعوا بهم كما ذكرناه، وحسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحّدين. وكانت بطونهم وشعوبهم كثيرة أظهرها فيما يذكرون ستة: بنو ياتكين وبنو ولّلوا وبنو ورصطف ومصوصة وبنو تومرت وبنو القاسم. ويقولون بلسانهم أيت القاسم وأيت حرف الإضافة النسبية عندهم. ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من أولاد القاسم بن إدريس. وربّما قالوا في هذا القاسم إنه ابن محمد بن إدريس، أو ابن محمد بن عبد الله، أو ابن محمد بن القاسم وكلّهم من أعقاب إدريس، زعما لا مستند له إلّا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه، مع أن البادية بعداه عن معرفة هذه الأنساب. والله أعلم بصحة ذلك.
(وقد قال يغمراسن) بن زيّان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبه إلى إدريس كما يذكرون فقال برطانتهم ما معناه: إن كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله. وأمّا الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا. ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدّة شوكتهم واعتزاز

(7/97)


عصبيتهم، وكانوا بطونا كثيرة فمنهم: بنو يكمثين [1] بن القاسم. وكان منهم ويعزن ابن مسعود بن يكمثين وأخواه يكمثين وعمر، وكان أيضا منهم أغدوي [2] بن يكمثين الأكبر، ويقال الأصغر. ومنهم أيضا عبد الحق بن منغفاد من ولد ويعزن، وكانت الرئاسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد وأغدوي بن يكمثين وعبد الحق ابن منغفاد هو الّذي استنقذ الغنائم من يدي بني مرين، وقتل المخضب المسوّف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحّدين لذلك، والمؤرّخون يقولون: عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال، وهو غلط، وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة، وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون مفتوحتين وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة، والله أعلم.
(ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو مطهر بن يمل بن يزكين [3] بن القاسم وكان حمامة ابن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن، وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين، ثم حسنت طاعته وانحياشه. (ومن بطون) بني القاسم أيضا: بنو عليّ، وإليهم انتهت رياستهم وهم أشدّ عصبيّة وأكثر جمعا، وهم أربعة أفخاذ: بنو طاع الله، وبنو دلول وبنو كمين [4] وبنو معطي بن جوهر، والأربعة بنو عليّ. ونصاب الرئاسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكراز [5] بن تيدوكسن بن طاع الله، هذا ملخص الكلام في نسبهم.
(ولما) ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وأبلوا من طاعتهم وانحياشهم ما كان سببا لاستخلاصهم، فأقطعوهم عامّة بلاد بني ومانوا، وأقاموا بتلك المواطن، وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمين إلى أن قتل كندوز بن [6] من بني كمين زيّان بن ثابت كبير بني محمد بن زكراز [7] وشيخهم وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد، فثار كندوز بزيّان ابن عمه وقتله في بعض أيامهم وحروبهم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مكنيمن.
[2] وفي نسخة ثانية: أعدوي.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: يزكن وفي نسخة ثانية بني مزكن.
[4] وفي نسخة ثانية: بنو كمي.
[5] وفي نسخة ثانية: ابن زكرّان.
[6] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد كندوز هذا في المراجع التي بين أيدينا.
[7] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان وفي نسخة ثانية: زكدار وفي أخرى أيضا: زكداز

(7/98)


ويقال قتله غيلة، وبعث برأسه ورءوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيّان بن ثابت، فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيّان.
وافترق بنو كمين، وفرّ بهم كبيرهم عبد الله بن كندوز، فلحقوا بتونس. ونزل على الأمير أبي زكريا كما نذكره بعد. واستبدّ جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد. وأقام هذا الحيّ من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط، حتى إذا فشل ريح بني عبد المؤمن، وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس، وردّد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها. وكبس الأمصار فأقتحمها بالغارة وإفساد السابلة وانتساف الزرع، وحطّم النعم إلى أن خربت، وعفا رسمها لسني الثلاثين من المائة السابعة. وكانت تلمسان نزلا للحامية ومناخا للسيد من القرابة الّذي يضمّ نشرها، ويذبّ عن أنحائها وكان المأمون قد استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد، وكان مغفّلا ضعيف التدبير. وغلب عليه الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية، وكان عاملا على الوطن. وكانت في نفسه ضغائن من بني عبد الواد جرّها ما كان حدث لهم من التغلّب على الضاحية وأهلها، فأغرى السيد أبا سعيد بجماعة مشيخة منهم وفدوا عليه فتقبّض عليهم واعتقلهم.
وكان في حامية تلمسان لمّة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم، وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان وجعلهم مع الحامية. وكان زعيمهم لذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علّان، فشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردّوه، فغضب وحمى أنفه وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية، فجدّد ملك المرابطين من قومه بقاصية المشرق، فاغتال الحسن بن حبون لحينه، وتقبّض على السيد أبي سعيد وأطلق المشيخة من بني عبد الواد، ونقض طاعة المأمون وذلك سنة أربع وعشرين وسبعمائة فطيّر الخبر إلى ابن غانية فأجدّ إليه السير. ثم بدا له في أمر بني عبد الواد، ورأى أنّ ملاك أمره في خضد شكوتهم [1] وقصّ جناحهم، فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم، ومكر بهم في دعوة وأعدهم لها، وفطن لتدبيره ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد، فواعده اللقاء والمؤازرة، وطوى له على النث [2] ، وخرج إبراهيم بن علّان إلى لقائه ففتك به جابر. وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون
__________
[1] خضد الشجر: قطع شوكه: (قاموس) .
[2] النث: نثّا الخبر: أفشاه (قاموس) .

(7/99)


وطاعته، وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علّان بهم، وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية، فحمدوا رأيه وشكروا جابرا على صنيعه، وجدّدوا البيعة للمأمون.
واجتمع إلى جابر في أمره هنا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد، وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر، وكتب له بالعهد على تلمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادات الذين كانوا يلون ذلك من القرابة، فاضطلع بأمر المغرب الأوسط.
(وكانت) هذه الولاية ركوبا إلى صهوة الملك الّذي اقتعدوه من بعد. ثم انتقض عليه أهل اربونة [1] بعد ذلك فنازلهم وهلك في حصارها بسهم غرب سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
وقام بالأمر بعده ابنه الحسن وجدّد له المأمون عهده بالولاية، ثم ضعف عن الأمر وتخلى عنه لستة أشهر من ولايته. ودفع إليه عمّه عثمان بن يوسف، وكان سيّئ الملكة كثير العسف والجور فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وارتضوا لمكانه ابن عمه زكراز [2] بن زيّان بن ثابت الملقّب بأبي عزة فاستدعوه لها، وولّوه على أنفسهم وبلدهم، وسلّموا له أمرهم وكان مضطلعا بأمر زناتة ومستبدا برياستهم ومستوليا على سائر الضواحي، فنفس بنو مطهر عليه وعلى قومه بني عليّ إخوانهم ما آتاهم الله من الملك، وأكرمهم الله به من السلطان وحسدوا زكراز وسلفه فيما صار لهم من الملك، فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه، واتبعهم بنو راشد أحلافهم منذ عهد الصحراء، وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد، فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وقام بالأمر بعده أخوه يغمراسن بن زيّان، فوقع التسليم والرضى به وسائر القبائل، ودان له بالطاعة جميع الأمصار. وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله وكان له ذلك سلّما الى الملك الّذي أورثه بنيه سائر الأيام. والملك للَّه يؤتيه من يشاء.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ندرومه وهو الصحيح كما في قبائل المغرب/ 426.
[2] وفي نسخة ثانية: زكران.

(7/100)


الخبر عن تلمسان وما تأدّى إلينا من أحوالها من الفتح إلى أنّ تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم
هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط، وأم بلاد زناتة اختطّها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم، ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك. وما يزعم بعض العامّة من ساكنها أنها أزليّة البناء، وأنّ الجدار الّذي ذكر في القرآن في قصّة الخضر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها، فأمر بعيد عن التحصيل لأنّ موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب، وبنو إسرائيل لم يبلغ ملكهم لإفريقية، فضلا عمّا وراءها. وإنما هي من مقالات التشيّع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو أعلم أو صناعة. ولم أقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأنّ أبا المهاجر الّذي وليّ إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية، توغّل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان، وبه سمّيت عيون أبي المهاجر قريبا منها. وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرّة وإجلائه مع أبي حاتم والخوارج على عمر بن حفص. ثم قال: فأفرجوا عنه وانصرف أبو قرّة إلى مواطنه بنواحي تلمسان.
وذكرها ابن الرقيق أيضا في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بإفريقية، وأنه توغّل في غزوة إلى المغرب ونزلها، واسمها في لغة زناتة مركّب من كلمتين: تلم سان [1] ومعناهما تجمع اثنين يعنون البرّ والبحر.
(ولما خلص) إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه، نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين ومائة فتلقّاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان، فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن وأمكنه من تلمسان فملكها، واختطّ مسجدها [2] وصعد منبره وأقام بها أشهرا وانكفأ راجعا إلى المغرب. وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها وولّاه أمرها. ثم هلك إدريس وضعف أمرهم. ولما بويع لابنه إدريس من بعده واجتمع إليه برابرة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ اخرى: تلم سين وتلم سن وتتم سين وهذا كله تحريف.
[2] ابرز ابن مرزوق اتفاق الرحالين. واجماع المتجولين على انهم لم يرو ثانيا لجامع تلمسان (المعجم التاريخي/ 20) .

(7/102)


المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين ومائة، فجدّد مسجدها وأصلح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين دوّخ فيها بلاد زناتة. واستوسقت له طاعتهم. وعقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان.
(ولما هلك إدريس) الأصغر واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمّه كنزة، كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان وأعمالها لبني أبيه محمد بن سليمان. فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب، وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة، نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة ومائتين وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان، ففرّ عنها إلى مليلة، وبنى حصنا لامتناعه بناحية نكور، فحاصره مدّة، ثم عقد له سلما على حصنه.
ولما تغلّب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر أعمال تلمسان، فأخذوا بدعوة بني أميّة من وراء البحر وأجازوا إليهم. وتغلّب يعلى بن محمد اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط، فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثمائة. ولما هلك يعلى وأقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين وثلاثمائة. وهلك في حروب صنهاجة وغلبوهم على بلادهم، وانجلوا إلى المغرب الأقصى ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إلى أن انقسمت دولتهم، وافترق أمرهم. واستقلّ بإمارة زناتة وولاية المغرب زيري بن عطيّة، وطرده المنصور عن المغرب أعوام [1] ، فصار إلى بلاد صنهاجة وأجلب عليها، ونازل معاقلهم وأمصارهم مثل تلمسان وهراة [2] وتنس وأشير والمسيلة. ثم عقد المظفّر بعد حين لابنه المعزّ بن زيري على أعمال المغرب سنة ست وتسعين وثلاثمائة فاستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري واستقرّت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة. وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي وأخيه تاشفين من بعده، واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حمّاد، ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقها، وكاد أن يغلب عليها كما ذكرنا ذلك كله في مواضعه.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة هذه السنة في المراجع التي بين أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: وهدان.

(7/103)


(ولما غلب) عبد المؤمن لمتونة وقتل تاشفين بن علي بوهران خرّبها وخرّب تلمسان بعد أن قتل الموحّدون عامّة أهلها، وذلك أعوام أربعين من المائة السادسة. ثم راجع رأيه فيها وندب الناس إلى عمرانها، وجمع الأيدي على رمّ ما تثلّم من أسوارها، وعقد عليها لسليمان بن واندين من مشايخ هنتاتة وآخر [1] بين الموحّدين بين هذا الحيّ من بني عبد الواد بما أبلى من طاعتهم وانحياشهم. ثم عقد عليها لابنه السيّد أبي حفص، ولم يزل آل عبد المؤمن بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم ويرجعون إليه أمر المغرب كلّه وزناتة أجمع اهتماما بأمرها واستعظاما لعملها.
وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط وملكوها. وتقلّبوا في بسائطها، واحتازوا باقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها، فإذا خرجوا إلى مشاتيهم بالصحراء خلّفوا أتباعهم وحاشيتهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم. وكان بنو عبد الواد من ذلك فيها بين البطحاء وملوية، ساحله وريفه وصحراءه. وصرف ولاة الموحّدين بتلمسان من السادة نظرهم واهتمامهم بشأنها إلى تحصينها وتشييد أسوارها، وحشد الناس إلى عمرانها والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها، والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطّة الدور. وكان من أعظمهم اهتماما بذلك وأوسعهم فيه نظرا السيّد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين وستمائة على عهد أبيه يوسف ابن عبد المؤمن. واتصلت أيام ولايته فيها، فشيّد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها، ووليها من بعد السيد ابو الحسن ابن السيّد أبي حفص بن عبد المؤمن، وتقبّل فيها مذهبه.
(ولما كان) من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدّمناه وكبسوا بجاية فملكوها، وتخطّوا الى الجزائر ومليانة فغلبوا عليها، تلافى السيد أبو الحسن أمره بأنعام النظر في تشييد أسوارها والاستبلاغ في تحصينها وسدّ فروجها، واعماق الحفائر نطاقا عليها، حتى صيّرها من أعز معاقل المغرب وأحصن أمصاره، وتقبّل ولاتها هذا المذهب من بعده في المعتصم بها. (واتفق من الغرائب) . أنّ أخاه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وآخى.

(7/104)


السيد أبا زيد هو الّذي دفع لحرب بني غانية فكان لها في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار. وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية، وخالفتهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحّدين، وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط، وكان مفزعهم جميعا ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم. وكان ابن غانية كثيرا ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها معه من ناعق الفتنة إلى أن خرّب كثيرا من أمصارها مثل تاهرت وغيرها، فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط، وأمّ هؤلاء الأحياء من زناتة والمغرب الكافية لهم المهيّئة في حجرها مهاد نومهم لما خرّبت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد في الدول السالفة والعصور الماضية، وهما أرشكول بسيف البحر وتاهرت فيما بين الريف والصحراء من قبلة البطحاء وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرّب من أمصار المغرب الأوسط فتنة ابن غانية وباجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب، وتخطّف الناس من السابلة وتخريب العمران ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين، مثل: قصر عجيسة وزرفة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات، ولم يزل عمران تلمسان يتزايد وخطّتها تتسع الصروح بها بالآجرّ والفهر [1] تعلى وتشاد إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها دارا لملكهم، وكرسيّا لسلطانهم، فاختطوا بها القصور المؤنقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه، فأصبحت أعظم أمصار المغرب. ورحل إليها الناس من القاصية ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع، فنشأ بها العلماء واشتهر فيها الأعلام. وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية.
والله وارث الأرض ومن عليها
(الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما اليها وكيف مهّد الأمر لقومه وأصاره تراثا لبنيه)
كان يغمراسن بن زيّان بن ثابت بن محمد من أشدّ هذا الحيّ بأسا، وأعظمهم في
__________
[1] الفهر: حجر رقيق تسحق به الادوية، وفي نسخة ثانية القرميد.

(7/105)


النفوس مهابة وإجلالا وأعرفهم بمصالح قبيله، وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعا بالتدبير والرئاسة، شهدت له بذلك آثاره قبل الملك وبعده. وكان مرموقا بعين التجلّة مؤمّلا للأمر عند المشيخة وتعظمه من أمره عند الخاصّة، ويفزع إليه في نوائبها العامّة. فلمّا ولي هذا الأمر بعد أخيه أبي عزّة زكراز بن زيّان سنة ثلاث وثلاثين قام به أحسن قيام، واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه، وأصارهم في جملته وتحت سلطانه. وأحسن السيرة في الرعيّة، واستمال عشيرته وقومه وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار، واتخذ الآلة ورتّب الجنود والمسالح، واستلحق العساكر من الروم والغزّ رامحة وناشنبة.
وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتّاب، وبعث في الأعمال ولبس شارة الملك والسلطان، واقتعد الكرسي ومحا آثار الدولة المؤمنية، وعطّل من الأمر والنهي دستها، ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلّا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش، وتقلّد [1] العهد من يده تأنيسا للكافة ومرضاة للأكفّاء من قومه. ووفد عليه لأوّل دولته ابن وضّاح إثر الموحدين، أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس، فآثره وقرّب مجلسه وأكرم نزله، وأحلّه من الخلّة والشورى بمكان اصطفاه له. ووفد في جملته أبو بكر بن خطّاب المبايع لأخيه بمرسية، وكان مرسلا بليغا، وكاتبا مجيدا، وشاعرا محسنا، فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحّدين بمراكش وتونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ. ولم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوّه. وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم آل أبي حفص مواطن في التمرّس به ومنازلة بلده، نحن ذاكروها كذلك. وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعدّدة. وله على زناتة الشرف من توجين ومغراوة في فلّ جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة، نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته)
لما استقلّ يغمراسن بن زيّان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط، وظفر بالسلطان وعلا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وتناول.

(7/106)


كعبه على سائر أحياء زناتة، نفسوا عليه ما آتاه الله من العزّ، وكرّمه به من الملك، فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة، وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة، فشمّر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في أمصارهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال ومتمنع الأمصار. وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع معروفة. وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن عبّاس شيخ بني توجين أقتالهم من بني يادين، والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة. وكان المولى الأمير أبو زكريا بن أبي حفص منذ استقلّ بأمر إفريقية واقتطعها من الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين وستمائة كما ذكرناه متطاولا إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسيّ الدعوة بمراكش، وكان يرى أنّ بمظاهرة زناتة له على شأنه يتمّ له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيرغّبهم ويراسلهم بذلك على الأحيان من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلّد طاعة بني عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليّهم وحربا على عدوّهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البرّ والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبع وثلاثين وستمائة تقمنا لمسرّاته، وميلا إليه عن جانب أقتال بني مرين المجلبين على المغرب والدولة. وأحفظ الأمير أبا زكريا بن عبد الواحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد، وهو من جواره بالمحل القريب، واستكره ذلك. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القويّ بن عبّاس، وولد منديل بن محمد صريخين على يغمراسن وسهّلوا له أمره وسوّلوا له الاستيلاء على تلمسان، وجمع كلمة زناتة واعتدّا ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحّدين وانتظامه في أمره، وسلّما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا للولوج على أهله، فحركه املاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم، وأهبّ بالموحّدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان، واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه، ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة، وسرّح أمام حركته عبد القويّ بن العبّاس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة، وأتباعهم وذؤبان قبائلهم، وأحياء زغبة أحلافهم من العرب، وضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب، وافته هنالك أحياء زغبة

(7/107)


من بني عامر وسويد، وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان، فجمع عساكر الموحّدين وحشد زناتة وظعن المغرب، بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء والطاعة فرجّعهم بالخيبة.
(ولما حلّت) عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران، وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه وخاصته، واعترضه عساكر الموحّدين فصمد نحوهم وجندل بعض أبطالهم، فأفرجوا له، ولحق بالصحراء. وانسلّت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان، واكتساح الأموال. ولما تجلّى عشاء تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم، وأمعن الأمير نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة المؤمن والمدافعة عنها.
واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرّأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن، وعلما بأنه الفحل الّذي لا يجدع أنفه، ولا يطرق غيله، ولا يصدّ عن فريسته، وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي العسكر فاختطفوا الناس من حوله، وأطلوا من المراقب عليه. وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكريا راغبا في القيام بدعوته بتلمسان، فراجعه بالاسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش، وسوّغه على ذلك جباية اقتطعها له، وأطلق أيدي العمّال ليغمراسن على جبايتها. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم وصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة، فأجابهم وقلّد عبد القويّ بن عطية التوجيني، والعبّاس بن منديل المغراوي، وعليّ بن منصور الملكيشي [1] على قومهم ووطنهم، وعهد إليهم بذلك، وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملك الموحّدين، وأقاموا مراسمها ببابه، وأغذّ السير لتونس قرير العين بامتداد ملكه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المليكشي.

(7/108)


وبلوغ وطره، والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده وحكمه، وإدالة عبد المؤمن فيه بدعوته. ودخل يغمراسن بن زيّان ووفّى للأمير أبي زكريا بعهده، وأقام بها الدعوة له على سائر منابره، وصرف إلى مشاقيه من زناتة وجوه عزائمه، فأذاق عبد القويّ وأولاد عبّاس وأولاد منديل نكال الحرب، وسامهم سوء العذاب والفتنة، وجاس خلال ديارهم وتوغّل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم، وشرّد عن الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم، ورفع عن الرعيّة ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقيل عسفهم وجورهم. ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش ومنازلته يغمراسن بجبل تامزردكت ومهلكه هنالك)
لما انقضت دولة بني عبد المؤمن. وانتزى الثوّار والدعاة بقاصية أعمالهم. وقطعوها عن ممالكهم، فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس واستبدّ بها، وورّى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العبّاسيين لعهده، ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، وسما إلى جمع كلمة زناتة والتغلّب على كرسي الدعوة بمراكش، فنازل تلمسان وغلب سنة أربعين وستمائة وقارن ذلك ولاية السعيد علي بن المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان شهما حازما يقظا بعيد الهمّة، فنظر في أعطاف دولته، وفاوض الملأ في تثقيف أطرافها وتقويم مائلها، وأثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب. ثم في أمصاره واستيلائهم على مكناسة، وإقامتهم الدعوة الحفصيّة فيها كما نذكره. فجهّز الملوك والعساكر وأزاح عللهم، واستنفر عرب المغرب وما يليه [1] ، واحتشد كافة المصامدة. ونهض من مراكش آخر سنة خمس وأربعين وستمائة يريد القاصية، ويشرّد بني مرين عن الأمصار الدانية. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وقبائله.

(7/109)


وأغدّ السير إلى تازى، فوصلته هناك طاعة بني مرين كما نذكره. ونفر معه عسكر منهم، ونهض إلى تلمسان وما وراءها ونجا يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد بأهليهم وأولادهم إلى قلعة تامزردكت قبلة وجدة، فاعتصموا بها.
ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤدّيا للطاعة ثابتا في مذاهب الخدمة، ومتوليا من حاجات الخليفة بتلمسان ما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله، ومعتذرا عن وصول يغمراسن، فلجّ الخليفة في شأنه ولم يعذره. وأبي إلّا مباشرة طاعته بنفسه، وساعده في ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من الملأ [1] ورجعوا عبدونا لاستقدامه، فتثاقل خشية على نفسه. واعتمد السعيد الجبل في عساكره وأناخ بها في ساحة [2] وأخذ بمخنقهم ثلاثا، ولرابعها ركب مهجرا على حين غفلة من الناس في قائلة ليتطوّف على المعتصم، ويتقرّى مكامنه، فبصر به فارس من القوم يعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان، كان أسفل الجبل للاحتراس وقريبا منه يغمراسن بن زيّان وابن عمّه يعقوب بن جابر فانقضوا عليه من بعض الشعاب، وطعنه يوسف فأكبّه عن فرسه، وقتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش. ثم استلحموا لوقتهم مواليه ناصحا من العلوج وعنبرا من الخصيان، وقائد جند النصارى أخو القمط، ووليدا يافعا من ولد السعيد.
(ويقال) إنما كان ذلك يوم عبّى العساكر وصعد الجبل للقتال، وتقدّم أمام الناس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعّرة في طريقه، فتواثب به هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه، وذلك في صفر سنة ست وأربعين وستمائة. ووقعت النفرة في العساكر لطائر الخبر فأجفلوا، وبادر يغمراسن إلى السعيد وهو صريع بالأرض فنزل إليه وحيّاه وفدّاه وأقسم له على البراءة من هلكته، والخليفة وأجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فاض وانتهب المعسكر بجملته، وأخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية والغازات.
واختصّ يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه، واستولى على الذخيرة التي كانت فيه، منها مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه يزعمون أنه أخذ المصاحف التي انتسخت لعهد خلافته، وأنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجلة.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم هذه الساحة في المراجع التي بين أيدينا.

(7/110)


الرحمن الداخل، ثم صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس، ثم إلى خزائن الموحّدين من خزائن لمتونة، وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيّان حين غلبهم إياهم على تلمسان، واقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن فريسة السلطان أبي الحسن، مقتحمها غلابا سنة سبع وثلاثين وسبعمائة كما نذكره. ومنها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر، المشتمل على مئين متعدّدة من حصبائه يسمى بالثعبان، وصار في خزائن بني مرين بعد ذلك الغلاب فيما اشتملوا عليه من ذخيرتهم إلى أن تلف في البحر عند غزو الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمرسى بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه مما يستخلصه الملوك لخزائنهم ويعنون به من ذخائرهم. ولما سكنت النفرة وركد عاصف تلك الهيعة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة، فجهّز ورفع على الأعواد إلى مدفنه بالعبّاد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه. ثم نظر في شأن حرمه وأخته تاعزونت الشهيرة الذكر، بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع، وأصحبهنّ جملة من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهنّ وألحقوهنّ بدرعة من تخوم طاعتهم، فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم ورعى حقوق الملك ورجع إلى تلمسان. وقد خضدت شوكة بني عبد المؤمن وأمّنهم على سلطانه والله أعلم.
(الخبر عما كان بينه وبين بني مرين من الاحداث سائر أيامه)
قد ذكرنا ما كان بين هذين الحيين من المناغاة والمنافسة منذ الآماد المتطاولة بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة، وكان التخم بين الفريقين واديا إلى فيكيك. وكان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة وتغلّب بني مرين على ضاحية المغرب يستجيشون بني عبد الواد مع عساكر الموحّدين على بني مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سبيل المظاهرة للموحدين والطاعة لهم. وسنذكر أخبار بني مرين كثيرا من ذلك. فلما هلك السعيد وأسف بنو مرين إلى ملك المغرب

(7/111)


سما ليغمراسن أمل في مزاحمتهم. وكان أهل فاس بعد تغلّب أبو يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة، وتمشّت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق، والرجوع إلى طاعة الخليفة. وأغدّ أبو يحيى المسير إلى منازلتهم، فحاصرهم شهورا وفي أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى ويغمراسن بن زيان في الأخذ بحجزة أبي يحيى بن عبد الحق بفاس، فأجاب يغمراسن داعيه، واستنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من توجين وكافة القبائل من زناتة والمغرب، ونهضوا جميعا إلى المغرب. وبلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس، فجهّز كتائبه عليها ونهض للقائهم في بقية العساكر، والتقى الجمعان بايسلي من ناحية وجدة، وكانت هناك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشف فيها جموع يغمراسن، وهلك منهم يغمراسن وغيره، ورجعوا في فلّهم إلى تلمسان، واتصلت بعد ذلك بينهم الحروب والفتنات سائر أيامه، وربما تخللتها المهادنات قليلا.
وكان بينه وبين يعقوب بن عبد الحق ذمّة مواصلة أوجب له رعيها، وكثيرا ما كان يثني عليه أخوه أبو يحيى من أجلها. ونهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس وخمسين وستمائة إلى قتاله وبرز إليه يغمراسن، وتزاحف جموعهم بأبي سليط، فانهزم يغمراسن واعتزم أبو يحيى على اتباعه، فردّه أخوه يعقوب بن عبد الحق.
(ولما) قفل إلى المغرب صمد يغمراسن إلى سجلماسة، لمداخلة كانت بينه وبين المنبات من عرب المعقل، أهل مجالاتها وذئاب فلاتها، حدّثته نفسه باهتبال الغرّة في سجلماسة من أجلها، وكانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم. ونذر بذلك أبو يحيى، فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها وسدّ فرجها. ووصل يغمراسن عقيب ذلك بعساكره، وأناح بها وامتنعت عليه فأفرج عنها قافلا إلى تلمسان. وهلك أبو يحيى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس، فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة وأحياء زغبة، ونهض إلى المغرب سنة سبع وخمسين وستمائة وانتهى إلى كلدامان. ولقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به. وولّى يغمراسن منهزما، ومرّ في طريقه بتافرسيت فانتسفها وعاث في نواحيها. ثم تداعوا للسلم ووضع أوزار الحرب، وبعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك بذلك، فتولّى عقده وإبرامه. ثم كان التقاؤهما سنة تسع وخمسين وستمائة

(7/112)


بواجر [1] قبالة بني يزناسن، واستحكم عقد الوفاق بينهما بذلك، واتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن كائنة النصارى وإيقاع يغمراسن بهم)
كان يغمراسن بن زيان بعد مهلك السعيد وانفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته مستكثرا بهم معتدّا بمكانهم مباهيا بهم في المواقف والمشاهد. وناولهم طرفا من حبل عنايته، فاعتزوا به واستفحل أمرهم بتلمسان حتى إذا كان سنة اثنتين وخمسين وستمائة بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها، كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله في دفاعها عن المسلمين. وذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب القرمادين [2] من أبواب تلمسان. وبينما هو واقف في موكبه عند قائلة الضحا عدا عليه قائدهم، وبادر النصارى إلى محمد بن زيّان أخي يغمراسن فقتلوه، وأشار له بالنجوى فبرز من الصف لاسراره وأمكنه من أذنه، فتنكّبه النصراني [3] وقد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه، وركض النصراني أمامه يطلب النجاة، وتبين الغدر، وثارت بهم الدهماء من الحامية والرعايا، فأحيط بهم من كل جانب وتناولتهم أيدي الهلاك بكل مهلك قعصا بالرماح وهبرا بالسيوف وشدخا بالعصي والحجارة حتى استلحموا، وكان يوما مشهودا. ولم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذرا من غائلتهم. ويقال إنّ محمد بن زيّان هو الّذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن، وأنه إنما قتله عند ما لم يتم لهم الأمر تبرءا من مداخلته، فلم يمهله غاشي الهيعة للتثبّت في شأنها والله أعلم.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: براجر.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: المفرمادين وفي نسخة ثانية الغزمادين وأخرى: الترمادين.
[3] الضمير هنا يعود الى قائدهم.

(7/113)


(الخبر عن تغلب يغمراسن على سجلماسة ثم مصيرها بعد الى إيالة بني مرين)
كان عرب المعقل منذ دخول العرب الهلاليين إلى صحراء المغرب الأقصى أحلافا وشيعا لزناتة، وأكثر انحياشهم إلى بني مرين إلّا ذوي عبيد الله منهم لما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد ومشاركة لها. ولما استفحل شأن بني عبد الواد بين يدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب، ونبذوا إليهم العهد واستخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم، فكانوا حلفاء وشيعة ليغمراسن ولقومه. وكانت سجلماسة في مجالاتهم ومنقلب رحلتهم، وكانت قد صارت إلى ملك بني مرين، ثم استبدّ بها القطراني، ثم ثاروا به ورجعوا إلى طاعة المرتضى. وتولّى كبر ذلك علي بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين. ثم تغلّب المنبات على سجلماسة وقتلوا عاملها علي بن عمر سنة اثنتين وستين وستمائة وآثروا يغمراسن بملكها، ودخل أهل البلد في القيام بدعوته وحملوهم عليها. فجأجئوا بيغمراسن فنهض إليها في قومه، وأمكنوه من قيادها فضبطها، وعقد عليها لولده يحيى. وأنزل معه ابن أخته حنينة، واسمه عبد الملك ابن محمد بن علي بن قاسم بن درم [1] من ولد محمد، وأنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم وحشمهم فأقام ابنه يحيى أميرا عليها إلى أن غلب يعقوب ابن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم. وإطاعته طنجة وعامّة بلاد المغرب، فوجّه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن وزحف إليها في العساكر والحشود من زناتة والعرب والبربر، ونصب عليها آلات الحصار إلى أن سقط جانب من سورها فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث وسبعين وستمائة واستباحوها وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة ومن معهم من بني عبد الواد أمراء المنبات، وصارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام: والملك بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: درع.

(7/114)


(الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق)
قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم، واستطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد واتصال اليد بهم في الأخذ بحجزة عدوهم من بني مرين عليهم. ولما هلك المرتضى وولى أبو دبوس سنة خمس وستين وستمائة وحمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق، فراسل يغمراسن في مدافعته، وأكّد العهد وأسنى الهدية، وأجلب إليه يغمراسن وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرمها نارا.
وكان يعقوب بن عبد الحق محاصرا لمراكش فأفرج عنها ورجع إلى المغرب. واحتشد جموعه، ونهض إلى لقائه وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وقد استكمل كل تعبيته، وكانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه واستلحم قومه، وهلك ابنه أبو حفص عمر أعزّ ولده عليه في أتراب له من عشيرته مثل: ابن أخته عبد الملك بن حنينة، وابن يحيى بن مكي، وعمر بن إبراهيم بن هشام، ورجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلّب عليها، ومحى أثر بني عبد المؤمن منها، ونزع لمحاربة بني عبد الواد وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل، ونهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين وستمائة فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائه من مغراوة والعرب، وتزاحفوا بايسلى من نواحي وجدة، فكانت الدبرة على يغمراسن انكشفت جموعه، وقتل ابنه فارس، ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره نارا تفاديا من معرّة اكتساحه، ونجا إلى تلمسان فانحجر بها، وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة، ثم نازلة بتلمسان، واجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد ابن عبد القوي، وصل يده بيد السلطان على يغمراسن وقومه، وحاصروا تلمسان أياما فامتنعت عليهم، وأفرجوا عنها. وولّى كل إلى عمله ومكان ملكه حسبما نذكره في أخبارهم. وانعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك وفرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد، ويغمراسن لمغالبة توجين ومغراوة على بلادهم إلى أن كان من شأنهم ما نذكره والله أعلم.

(7/115)


(الخبر عن شأن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وما كان بينهم من الأحداث)
كانت مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول عند تلاشي ملكهم، وساموهم الجباية فرضوا بها مثل: بني ورسفين وبني يلنث وبني ورتزمير، وكان فيهم سلطان لبني منديل بن عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى منذ عهد الفتح وما بعده على ما ذكرناه في خبرهم. فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش وتشظّت عصاها وكثر الثّوار والخوارج بالجهات، استقل منديل بن عبد الرحمن وبنوه بتلك الناحية وملكوا مليانة وتنس وشرشال وما إليها، وتطاولوا إلى متيجة فتغلّبوا عليها. ثم مدّوا أيديهم إلى جبل وانشريش وما إليه، فتناولوا الكثير من بلاده ثم أزاحهم عنها بنو عطيّة الحيو وقومه من بني توجين المجاورون لهم في مواطنهم بأعالي شلف شرقي أرض السوس [1] وكان ذلك لأوّل دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول، فتغلّب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا. وتغلّب بنو توجين على ما بين الصحراء والتل من بلد المريّة إلى جبل وانشريس، إلى مرات الجعبات، وصار التخم لملك بني عبد الواد سبك والبطحاء، فمن قبليها مواطن بني توجين ومن شرقيها مواطن مغراوة. وكانت الفتنة بين بني عبد الواد وبين هذين الحيّين من أوّل دخولهم إلى التلول.
(وكان المولى) الأمير أبو زكريا بن أبي حفص يستظهر بهذين الحيّين على بني عبد الواد ويراغمهم بهم، حتى كان من فتح تلمسان ما قدّمناه، وألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه ونذكره في أخبارهم، فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب وصرف هو إليهم وجه النقمة والحروب. ولم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك هذين الحيّين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن وعلى يده، ثم على يد بني مرين من بعدهم كما يأتي ذكره.
(ولما رجع) يغمراسن بن زيّان من لقاء بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: السرسو.

(7/116)


توجين، وهلك مرجعه منها، أنفذ [1] يغمراسن العهد لابنه محمد الأمير بعده، وزحف إلى بلاده فجاس خلالها، ونازل حصونها فامتنعت عليه. وأحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه، ثم زحف ثانية سنة خمسين وستمائة إليهم فنازل حصن تافركينت من حصونهم. وكان به علي بن أبي زيّان حافد محمد بن عبد القوي فامتنع به في طائفة من قومه. ورحل يغمراسن كظيما، ولم يزل يغمراسن بعدها يثير الغارات على بلادهم، ويجمع الكتائب على حصونهم. وكان بتافركينت صنيعة من صنائع بني عبد القوي ونسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية، اختصّ بهذا الحصن ورسخت قدمه فيه، واعتزّ بكثرة ماله وولده فأحسن الدفاع عنه، وكان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبار مذكورة حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته، وأنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه وتخطفوا نعمته، فكان حتف ذلك الحصن في حتفه كما يأتي ذكره.
(وعند) ما شبّت نار الفتنة بين يغمراسن ومحمد بن عبد القوي وصل محمد يده بيعقوب بن عبد الحق. فلمّا نازل يعقوب تلمسان سنة سبعين وستمائة بعد أن هدم وجدة، وهزم يغمراسن بايسلي، جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بني توجين، وأقام معه على حصارها ورحلوا بعد الامتناع عليهم، فرجع محمد إلى مكانه. ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين وستمائة بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة، فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات واتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن مليا، ونازلوا تلمسان أياما ثم افترقوا ورجع كل إلى بلده.
(ولما) خلص يغمراسن بن زيّان من حصاره زحف إلى بلادهم وأوطأ عسكره أرضهم، فغلب على الضاحية وخرّب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكره.
(وأمّا) خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التغريب [2] بين بني منديل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم. ولما رجع من واقعة تلاغ سنة ست وستين وستمائة وهي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة، فتوغّل فيها وتجاوزها إلى من وراءهم من مليكش والثعالبة، وأمكنه عمر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فنبد.
[2] وفي نسخة ثانية: التضريب.

(7/117)


من مليانة سنة ثمان وستين وستمائة على شرط المؤازرة، والمظاهرة على إخوته، فملكها يغمراسن يومئذ وصار الكثير من مغراوة إلى ولايته، وزحفوا معه إلى المغرب سنة سبعين وستمائة ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين وسبعين وستمائة فتجافى له ثابت ابن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم ورجع عنها، فاسترجعها ثابت، ثم نزل له عنها ثانيا سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه عند ما تمّ له الغلب عليهم والإثخان في بلادهم إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره إن شاء الله.
(الخبر عن انتزاء الزعيم بن مكن ببلد مستغانم)
كان بنو مكن هؤلاء من علية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكراز ابن تيدوكس [1] بن طاع الله، وكان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف ومن ولده جابر بن يوسف أوّل ملوكهم وثابت بن محمد ومن ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد، ودرع بن محمد ومن ولده عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم ابن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيّان ومكن بن محمد. وكان له من الولد يحيى وعمرس، وكان من ولد يحيى الزعيم وعلي، وكان يغمراسن بن زيّان كثيرا ما يستعمل قرابته في الممالك ويولّيهم على العمالات، وكان قد استوحش من يحيى بن مكن وابنه الزعيم وغرّبهما إلى الأندلس، فأجازا من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة ولقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده. وزحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ وهما في جملته فأدركتهما النغرة على قومهما وآثرا مفارقة السلطان إليهم، فأذن لهم في الانطلاق ولحقا بيغمراسن بن زيّان حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدّمناه، وزحف بعدها إلى بلاد مغراوة وتجافى له ثابت بن منديل عن مليانة وانكفّ راجعا إلى تلمسان، استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن. فلمّا وصل إلى تلمسان انتقض عليه. ودعا إلى الخلاف ومالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه، فصمد إليه يغمراسن وحجزه بها حتى لاذمنه بالسلم على شرط الإجازة إلى العدوة، فعقد له وأجازه. ثم أثره أباه
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن وفي شجرة النسب تيدوكس وكذلك في النسخة الباريسية.

(7/118)


يحيى واستقرّ بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين وتسعين وستمائة ووفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب وسخطه لبعض النزعات، فاعتقله وفرّ من محبسه. ولم يزل الاغتراب مطوّحا به إلى أن هلك والبقاء للَّه وحده. ونشأ ابنه الناصر بالأندلس فكانت مثواه وموقف جهاده إلى أن هلك.
(وأمّا) أخوه عليّ بن يحيى فأقام بتلمسان وكان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد صاحب شوراهم وكان منهم أيضا إبراهيم بن عليّ عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته، فكان منها ولد ذكر، وكان لداود ابن اسمه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن عبد الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم والأمر للَّه.
(الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الأحمر والطاغية على فتنة يعقوب بن عبد الحق والأخذ بحجزته)
كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد وأوقع بالعدوّ وخرّب حصونهم، ونازل إشبيليّة وقرطبة، وزلزل قواعد كفرهم. ثم أجاز ثانية، وتوغّل في دار الحرب وأثخن فيها، وتخلى له ابن اشقيلولة عن مالقة فملكها. وكان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه ثاني ملوك بني الأحمر ملكهم، هو الّذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبو الشيخ بذلك. فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس وتعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه، وتوقّع منه مثل فعل يوسف بن تاشفين بابن عبّاد، فاعتمل في أسباب الخلاص مما توهّم وداخل الطاغية في اتصال اليد والمظاهرة عليه، وكانت عالقة لعمر يحيى بن علي [1] ، استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد أشقيلولة، فاستماله ابن الأحمر وخاطبه مقارنة وعدا وأداله بشلوبانية من مالقة طعمة خالصة له فتخلى عن مالقة إليها.
وأرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان وعساكره، وراسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجزة يعقوب وشنّ الغارات على ثغوره ليكون
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بن محلى.

(7/119)


ذلك شاغلا له عنهم. فبادر يغمراسن بإجابتهم وتردّدت الرسل إليه من الطاغية ومنه إلى الطاغية كما نذكره. وبثّ السرايا والبعوث في نواحي المغرب، فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة وأن يفرغ لجهاد العدوّ فأبى عليه. وكان ذلك مما دعا يعقوب إلى الصمود إليه ومواقعته بخرزوزة كما ذكرناه. ولم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق وأيديهم متصلة عليه من كل جهة، وهو ينتهز الفرص في كل واحد منهم متى أمكنه حتى هلك وهلكوا. والله وارث الأرض ومن عليها سبحانه.
(الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني أبي حفص الّذي كان يقيم بتلمسان دعوتهم ويأخذ قومه بطاعتهم)
كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحّدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار، وبعد دخولهم إلى التلول. فلما فشل أمر بني عبد المؤمن ودعا الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، ونصب كرسيّ الخلاف للموحدين بتونس انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين، وأملوه الكرّة، وأوفد زناتة عليه رسلهم من كل حيّ بالطاعة، ولاذ مغراوة وبنو توجين بظل دعوته ودخلوا في طاعته، واستنهضوه لتلمسان، فنهض إليها وافتتحها سنة أربعين وستمائة ورجع إليها يغمراسن واستعمله عليها وعلى سائر ممالكها، فلم يزل مقيما لدعوته واتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب، وبعثوا إليه ببيعة مكناسة وتازى والقصر كما نذكره في أخبارهم إلى ما دانوا به ولابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل والإشارة بالطاعة والانقياد حتى غلبوا على مراكش، وخطبوا باسم المستنصر على منابرها حينا من الدهر. ثم تبين لهم بعد تناول تلك القاصية عليه، فعطّلوا منابرهم من أسماء أولئك وأقطعوهم جانب الوداد والموالاة. ثم سموا إلى اللقب والتفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول، وأما يغمراسن وبنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحدا بعد واحد متجافين عن اللقب أدبا معهم، مجدّدين البيعة لكل من يتجدّد قيامه بالخلافة، منهم يوفدون بها كبار أبنائهم وأولى الرأي من قومهم ولم يزل الشأن ذلك.
ولما هلك الأمير أبو زكريا وقام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده، وخرج عليه أخوه

(7/120)


الأمير أبو إسحاق في أحياء الزواودة من رياح، ثم غلبهم المستنصر جميعا. ولحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله فأكرم يغمراسن نزلهم وأجاز إلى الأندلس للمرابطة بها، والجهاد حتى إذا هلك المستنصر سنة سبع وسبعين وستمائة واتصل به خبر مهلكه ورأى انه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه ونزل بمرسى هني [1] سنة سبع وسبعين وستمائة ولقّاه يغمراسن مبرّة وتوقيرا، واحتفل لقدومه وأركب الناس لتلقّيه، وأتاه ببيعته على عادته مع سلفه، ووعده النصرة على عدوه والمؤازرة على أمره. وأصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده. وأسعفه وأجمل في ذلك وعده. وانتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق، وخلع طاعته ودعا للأمير أبي إسحاق واستحثّه للقدوم، فأغذّ إليه السير من تلمسان وكان من شأنه ما قدّمناه في أخباره فلما كانت سنة إحدى وثمانين وستمائة وزحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة، وغلبهم على الضواحي والأمصار، بعث من هنالك ابنه إبراهيم وتسميه زناتة برهوم، ويكنّى أبا عامر أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لإحكام الصهر بينهما، فنزلوا منه على خير نزل من إسناء الجراية، ومضاعفة الكرامة والمبرّة، وظهر من آثاره في حروب ابن أبي عمارة ما مدّ الأعناق إليه وقصّر الشيم الزناتية على بيته. ثم انقلب آخرا بظعينته محبوّا محبورا، وابتنى بها عثمان لحين وصولها وأصبحت عقيلة قصره، فكان ذلك مفخرا لدولته وذكرا له ولقومه. ولحق الأمير أبو زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلك قومه في واقعة الدعيّ ابن أبي عمارة عليهم بمرماجنّة جنّة سنة اثنتين وثمانين وستمائة فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل برّا واحتفاء وتكريما وملاطفة. وسرّبت إليه أخته من القصر أنواع التحف والانس، ولحق به أولياؤهم من صنائع دولتهم وكبيرهم أبو الحسن محمد بن الفقيه المحدّث أبي بكر بن سيّد الناس اليعمريّ، فتفيئوا من كرامة الدولة بهم ظلا وارفا واستنهضوه إلى تراث ملكه. وفاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك، فنكره لما كان قد أخذه بدعوة الحضرة. أوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك، فحدّث الأمير أبو زكريا نفسه بالفرار عنه. ولحق بداود ابن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر إحدى بطون زغبة، فأجاره وأبلغه مأمنه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هنين.

(7/121)


بحي الزواودة أمراء البدو بعمل الموحدين. ونزل منهم على عطية بن سليمان بن سبّاع كما قدّمناه، واستولى على بجاية سنة أربع وثمانين وستمائة بعد خطوب ذكرناها، واقتطعها عن ملك عمه صاحب الدولة بتونس أبي حفص، ووفّى لداود بن عطاف وأقطعه بوطن بجاية عملا كبيرا أفرده لجبايته، كان فيه ايقداران بالخميس من وادي بجاية. واشتغل الأمير أبو زكريا بمملكة بونة وقسنطينة وبجاية والجزائر والزاب وما وراءها وكان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن وبنيه.
(ولما نازل) يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة، وبعث الأمير أبو زكريا المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن، وبلغ الخبر بذلك إلى يوسف بن يعقوب، فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم، والتقوا بجبل الزاب، فكانت الدبرة على عسكر الموحّدين واستلحموا هناك. وتسمّى المعركة لهذا العهد بمرسى الرءوس. واستحكمت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين، وأوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية، وبعث معهم الهدية الفاخرة وبلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن من وراء جدرانه فتنكّر لها وأسقط ذكر الخليفة من منابره، ومحاه من عمله، فنسي لهذا العهد. والله مالك الأمر سبحانه.
(الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان وولاية ابنه عثمان وما كان في دولته من الاحداث)
كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة واستعمل عليها ابنه عثمان، وتوغّل في بلاد مغراوة وملك ضواحيهم. ونزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس، فتناولها من يده. ثم بلغه الخبر بإقبال ابنه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه عثمان، فتلوّم هنالك إلى أن لحقه بظاهر مليانة، فارتحل إلى تلمسان وأصابه الوجع في طريقه. وعند ما أحل سريره اشتدّ به وجعه فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته، والبقاء للَّه وحده. فحمله ابنه أبو عامر على أعواد وواراه في خدر موريا لمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك. ثم أغذّ السير إلى تلمسان، فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه في قومه، فبايعه الناس وأعطوه صفقة أيمانهم. ثم دخل تلمسان فبايعه العامّة والخاصة، وخاطب

(7/122)


لحينه الخليفة بتونس أبا إسحاق وبعث إليه ببيعته، فراجعه بالقبول وعقد له على عمله على الرسم. ثم خاطب يعقوب بن عبد الحق يخطب منه السلم، لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به.
(حدّثنا) شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآيلي قال: سمعت من السلطان أبي حمّو موسى بن عثمان، وكان قهرمانا بداره، قال: أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان (ودادا حرف كناية عن غاية التعظيم بلغتهم) فقال له: يا بني إنّ بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش، لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا الوفور مددهم، ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرّة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها. فإيّاك واعتماد لقائهم، وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك، وحاول ما استطعت الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحّدين وممالكهم يستفحل به ملكك، وتكافئ حشد العدو بحشدك.
ولعلك تصيّر بعض الثغور الشرقية معقلا لذخيرتك. فعلقت وصية الشيخ بقلبه، وعقدا عليها ضمائره، وجنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك. وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها فخاض إليه البحر ووصله بأركش، فلقاه برّا وكرامة، وعقد له على السلم ما أحب وانكفّ راجعا إلى أخيه، فطابت نفسه وفرغ لافتتاح البلاد الشرقية، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وغلبه على معاقلهم والكثير من أعمالهم)
لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين ومغراوة وما وراءها من أعمال الموحّدين، فتغلّب أولا على ضواحي بني توجين ومغراوة وما وراءها، ودوّخ قاصيتها، وسار إلى بلاد مغراوة كذلك، ثم إلى متيجة فانتسب نعمها وخطم زرعها. ثم تجاوزها إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد. وامتنعت عليه فانكفّ راجعا ومرّ في طريقه بمازونة، فحاصرها وأطاعته، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة ونزل له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن

(7/123)


تنس فاستولى عليها وانتظم سائر بلاد مغراوة في إيالته. ثم عطف في سنته على بلاد توجين فاكتسح حبوبها واحتكرها بمازونة استعدادا لما يتوقع من حصار مغراوة إياها.
ثم دلف إلى تافركنيت فحاصرها وأخذ بمخنقها. وداخل قائدها غالبا الخصيّ من موالي بني محمد بن عبد القوي، كان مولى سيّد الناس منهم، فنزل له غالب عنها واستولى عليها، وانكفأ إلى تلمسان. ثم نهض إلى بني توجين سنة سبع وثمانين وستمائة فغلبهم على وانشريس مثوى ملكهم ومنبت عزّهم، وفرّ أمامه أميرهم مولى بني زرارة من ولد محمد بن عبد القوي. وأخذ الحلف منهم فلحق بضواحي المرية في الأعشار وأولاد عزيز من قومه. واتبع عثمان بن يغمراسن آثارهم وشرّدهم من تلك القاصية، وهلك مولى زرارة في مغرّة. وكان عثمان قبل ذلك قد دوّخ بلاد بني يدللتين من بني توجين، ونازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرّات فامتنعوا عليه، ثم أعطوه أيديهم على الطاعة ومفارقة قومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن، فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأوّل. ووصلوا أيديهم بعثمان وألزموا رعاياهم وعمالهم المغارم له إلى أن ملك وانشريس من بعدها كما نذكر ذلك في أخبارهم. وصارت بلاد توجين كلها من عمله، واستعمل الحشم بجبل وانشريس. ثم نهض بعدها إلى المرية وبها أولاد عزيز من توجين فنازلها، وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية وإليهم ينسب، فأمكنوه منها سنة ثمان وثمانين وستمائة وبقيت في إيالته سبعة أشهر ثم انتقضت عليه ورجعت إلى ولاية أولاد عزيز [1] وصالحوه عليها، وأعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه محمد بن عبد القوي وبنيه. فاستقام أمره في بني توجين ودانت له سائر أعمالهم. ثم خرج سنة تسع وثمانين وستمائة إلى بلاد مغراوة لما كانوا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان، فدوّخها وأنزل ابنه أبا حمّو بشلف [2] مركز عملهم، فأقام به وقفل هو إلى الحضرة.
وتحيّز فلّ مغراوة إلى نواحي متيجة، وعليهم ثابت بن منديل أميرهم، فلم يزالوا به.
ونهض عثمان إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة بعدها فانحجزوا بمدينة برشك، وحاصرهم بها أربعين يوما ثم افتتحها. وخاض ثابت البحر إلى المغرب فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه ونذكره. واستولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وزحف الى ايالة أولاد عزيز.
[2] وفي النسخة الباريسية: شلب وفي قبائل الغرب: شلف.

(7/124)


استولى على عمل بني توجين، فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلّها وبلاد زناتة الأولى.
ثم اشغل بفتنة بني مرين كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها)
قد ذكرنا أنّ المولى أبا زكريا الأوسط ابن المولى أبي إسحاق بن أبي حفص لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة، ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل. ثم هلك الدعي ابن أبي عمارة واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة، وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة، وأوفد عليه وجوه قومه، ودسّ الكثير من أهل بجاية إلى الأمير أبي زكريا يستحثونه للقدوم، ويعدونه إسلام البلد إليه. وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبي عليه وفاء بحق البيعة لعمه الخليفة بالحضرة فطوى عنه الخبر وتردّد في النقض أياما. ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر، ونزل على داود بن هلال بن عطاف وطلب عثمان بن يغمراسن إسلامه فأبى عليه وارتحل معه إلى أعمال بجاية، ونزلوا على أحياء الزواودة كما قدّمناه ثم استولى المولى أبو زكريا بعد ذلك على بجاية في خبر طويل ذكرناه في أخباره.
واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان، وكانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس. فلما زحف إليه عثمان سنة ست وثمانين وستمائة وتوغّل في قاصية المشرق، أعمل الرحلة إلى عمل بجاية، ودوّخ سائر أقطارها. ثم نازلها بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة خليفته بتونس، ويسر بذلك حسوا في ارتقاء، فأناخ عليها بعساكره سبعا، ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط، فكان من فتح تافركنيت ومازونة ما قدّمناه.
(الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل)
لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقد بينه وبين بني عبد الواد لشغله بالجهاد، وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين

(7/125)


اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد. واسفهم يغمراسن وابنه بممالأة الطاغية وابن الأحمر فعقد يوسف بن يعقوب السلم مع الطاغية لحينه، ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم، وفرغ لحرب بني عبد الواد، واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه، دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين وستمائة ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها صباحا، وقطع شجرها ونصب عليها المجانيق والآلات ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعا. وتقبّل عثمان بن يغمراسن مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية، وأوفد رسله عليها فلم يغن ذلك عنه شيئا. وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب بتلمسان فنالوا منه أعظم النيل. فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوّخها وغلبهم عليها، وأنزل ابنه أبا حمّو بها كما قدّمناه. فلما كانت سنة خمس وتسعين وستمائة نهض يوسف بن يعقوب إلى حركته الثانية فنازل ندرومة، ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران وأطاعه جبل كيدره وتاسكدلت رباط عبد الحميد ابن الفقيه أبي زيد اليرناسي [1] ثم كرّ راجعا إلى المغرب. وخرج عثمان بن يغمراسن فأثخن في تلك الجبال لطاعتهم عدوّه واعتراضهم جنده، واستباح رباط تاسكدلت.
ثم أغزاه يعقوب بن يوسف ثالثة سنة ست وتسعين وستمائة ثم رجع إلى المغرب. ثم أغزاه رابعة سنة سبع وتسعين وستمائة فتأثّل [2] تلمسان وأحاط بها معسكره وشرعوا في البناء. ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر، ومرّ في طريقه بوجدة، فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها. واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك، وأقام لشأنه، ولحق يوسف بالمغرب. وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب، وتولّى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بني يدللتين، وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم. فلما أفرج عنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن فدوّخ بلادهم وحاصرهم بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه، وطال مغيبه في بلادهم، فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة فاقتحمها عنوة بعسكره بمداخلة من قائدها زكريا بن يخلف بن المطغري صاحب توقت [3] . فاستولى بنو مرين على ندرومة وتوقت، وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعا إلى تلمسان. وبلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: اليزناسني.
[2] وفي نسخة ثانية: فنازل.
[3] وفي نسخة ثانية: ثاونت.

(7/126)


حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان، فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم.
ثم أشرفت طلائع بني مرين عشيّ ذلك اليوم، فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها. وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها، وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها، واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سمّاها المنصورة. وأقام على ذلك سنين يغاديها القتال ويراوحها. وسرّح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط وثغوره، فملك بلاد مغراوة وبلاد توجين كما ذكرناه في أخباره وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره. وإلى الله المصير سبحانه وتعالى لا رب غيره.
(الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده الى غايته)
لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان، انحجز بها عثمان وقومه واستسلموا، والحصار آخذ بمخنقهم. وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد.
(أخبرني) شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي، وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس، وكان قد أعدّ لشربه لبنا، فلما أخذ منه الديماس وعطش، دعا بالقدح فشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه. وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرّة غلب عدوهم إياهم. قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، وخبرها الخبر فجاءت ووقعت عليه واسترجعت وخيّمت على الأبواب بسدادها. ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان وموسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما. وأحضرا مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم:
السلطان معنا آنفا، ولم يمتدّ الزمن لوقوع المرض، فإن يكن هلك فخبّرونا، فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؟ فقال: إنما نخشى من مخالفتك، وإلا فسلطاننا

(7/127)


أخوك الأكبر أبو زيان. فقام أبو حمّو من مكانه وأكبّ على يد أخيه يقبّلها، وأعطاه صفقة يمينه واقتدى به المشيخة، فانعقدت بيعته لوقته واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه، وبرزوا إلى قتال عدوّهم على العادة فكأنّ عثمان لم يمت.
(وبلغ الخبر) إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجّع له، وعجب من صرامة قومه من بعده. واستمرّ حصاره إيّاهم إلى ثمانية سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله، نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمّة من الأمم، واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس، وخرّبوا السقف للوقود، وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد. وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الّذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به، مقداره اثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب العين. وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا، ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصفا، وأثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم، تكون عشر المثقال والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما، والهرّ الداجن بمثقال ونصف، والكلب بمثله والفار بعشرة دراهم. والحية بمثله، والدجاجة بثلاثين درهما، والبيض واحدة بستة دراهم، والعصافير كذلك.
والأوقية من الزيت باثني عشر درهما، ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين، ومن الفول بمثلها، ومن الملح بعشرة، ومن الحطب كذلك. والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال. ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر درهما، والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما، والخيار بثلاثة أثمان الدينار، والبطيخ بثلاثين درهما، والحبة من التين والإجاص بدرهمين. واستهلك الناس أموالهم وموجودهم، وضاقت أحوالهم.
واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها، واتسعت خطة مدينة المنصور المشيّدة عليها. ورحل إليها التجّار بالبضائع من الآفاق، واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة، وخطب الملوك سلمه ووده، ووفدت عليه رسل الموحّدين وهداياهم من تونس وبجاية، وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم، واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره وهلك الجند حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة، فكيّف الله لهم الصنيع

(7/128)


الغريب. ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصيّ من العبيد، فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه، وطعنه بخنجر قطع أمعاءه، وأدرك فسيق إلى وزرائه فمزّقوه أشلاء. ولم يبق شيء من بقايا عهدهم كما ذكرناه والأمر للَّه وحده. وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث. وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها.
(وحدثني) شيخنا محمد بن إبراهيم الآيلي قال: جلس السلطان أبو زيّان صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره، واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها. وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمّو فأخبروه فوجم لها، وجلسوا سكوتا لا ينطقون. وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي إسحاق وحظية أبيهم خرجت من القصر إليهم، فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيّان حرمكم ما لنا وللبقاء، وقد أحيط بكم وأسف عدوّكم لاتهامكم، ولم يبق إلّا فواق بكيئة لمصارعكم. فأريحونا من معرّة السبي، وأريحوا فينا أنفسكم وقربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم. فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال: قد صدقتك الخبر فما تنظر بهنّ؟ فقال: يا موسى أرجئني ثلاثا لعلّ الله يجعل بعد عسر يسرا، ولا تشاورني بعدها فيهن، بل سرّح اليهود والنصارى إلى قتلهنّ وتعال إليّ نخرج مع قومنا إلى عدوّنا فنستميت، ويقضي الله ما يشاء. فغضب أبو حمو وأنكر الأرجاء في ذلك، وقال: إنما نحن والله نتربّص المعرّة بهنّ وبأنفسنا، وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء. قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدّما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلّا حرسيّ الباب يشير إليّ أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر، فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا، فأذنته واستدعاه.
فلما وقف بين يديه قال له: إنّ يوسف بن يعقوب هلك الساعة، وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم، فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته

(7/129)


بمسمع منهم، وكانت إحدى المغربات في الأيام [1] .
(وكان من خبر هذه الرسالة) أن يعقوب بن يوسف لما هلك تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته، وتحيّز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤولة كانت له فيهم، فاستجاش بهم واعصوصبوا عليه وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الآلة ويكونوا مفزعا له ومأمنا إن أخفق مسعاه على أنه إن تمّ أمره قوّض عنهم معسكر بني مرين فعاقدوه عليها. ووفّى لهم لما تمّ أمره ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم، وجاء بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط كلّها إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن شأن السلطان أبي زيان من بعد الحصار إلى حين مهلكه)
كان من أوّل ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هون الحصار وتناوله الأعمال من يد بني مرين، أن نهض من تلمسان ومعه أخوه أبو حمو آخر ذي الحجة من سنة ست وسبعمائة، فقصد بلاد مغراوة وشرّد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين، واحتاز الثغور من يد عمّالهم. ودوّخ قاصيتها. ثم عقد عليها المسامح مولاه، ورجع عنها، فنهض إلى السرسو، وكان العرب قد تملكوه أيام الحصار، وغلبوا زناتة عليه من سويد والد يالم ومن إليهم من بني يعقوب بن عامر فأجفلوا أمامه. واتبعوا آثارهم إلى أن أوقع بهم وانكفأ راجعا ومرّ ببلاد بني توجين، فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوى والحشم فأطاعوه، ورياستهم يومئذ لمحمد بن عطيّة الأصمّ من بني عبد القوي. وقفل إلى تلمسان لتسعة أشهر من خروجه، وقد ثقف أطراف ملكه، ومسح أعطاف دولته. فنظر في إصلاح قصوره ورياضه، ورمّ ما تثلّم من بلده، وأصابه المرض خلال ذلك فاشتدّ وجعه سبعا، ثم هلك أخريات شوّال من سنة سبع وسبعمائة والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إحدى المقربات في الأنام.

(7/130)


(الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان)
كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس وبجاية وأعمالها، وكان التخم بينهما بلد عجيسة ووشتاتة. وكان الخليفة بتونس الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكريا الأوّل منهم، وله الشفوف على صاحب بجاية والثغور الغربية بالحضرة. فكانت بيعة بني زيان له والدعاء على منابرهم باسمه، وكانت لهم مع المولى الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم وبينه، وكانت الوحشة قد اعترضت ذلك عند ما نزل عثمان بجاية كما قدّمناه. ثم تراجعوا إلى وصلتهم واستمرّوا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، والبيعة يومئذ للخليفة بتونس السلطان أبي عصيدة بن الواثق، والدعوة على منابر تلمسان باسمه، وهو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغر، فلما نزل يوسف بن يعقوب بأعلى تلمسان وبعث عساكره في قاصية الشرق استجاش عثمان بن يغمراسن بصاحب بجاية، فسرّح عسكرا من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية، والتقوا معهم بجبل الزاب فانكشف الموحّدون بعد معترك صعب واستلحمهم بنو مرين، ويسمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرءوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرءوس. واستحكمت المنافرة بين يوسف بن يعقوب وصاحب بجاية فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة من الموحّدين تجديدا لوصلة سلفهم مع سلفه وإغراء بصاحب بجاية وعمله، فجاء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن وأحفظه ممالأة [1] خليفته لعدوّه، فعطّل منابره من ذكره، وأخرج قومه وإيالته عن دعوته، وكان ذلك آخر المائة السابعة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن دولة أبي حمو الأوسط وما كان فيها من الاحداث)
لما هلك الأمير أبو زيان قام بالأمر بعده أخوه أبو حمّو في أخريات سنة سبع كما
__________
[1] وفي نسخة ثانية: موالاة الخليفة لعدوه.

(7/131)


قدّمناه، وكان صارما يقظا حازما داهية، قويّ الشكيمة صعب العريكة، شرس الأخلاق مفرط الدهاء [1] والحدة. وهو أوّل ملوك زناتة، رتّب مراسم الملك وهذّب قواعده، وأرهف في ذلك لأهل ملكه حدّه، وقلب لهم مجنّ بأسه حتى ذلّوا لعزّ ملكه وتأدّبوا بآداب السلطان.
(سمعت) عريف بن يحيى أمير سويد من زغبة وشيخ المجالس الملوكية يقول ويعنيه:
موسى بن عثمان هو معلّم السياسة الملوكية لزناتة، وإنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان، فحدّ حدودها، وهذّب مراسمها ونقل عنه ذلك أمثاله وأنظاره، فتقبّلوا مذهبه واقتدوا بتعليمه انتهى كلامه.
(ولما استقلّ) بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأوّل دولته فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت، وعقد له السلم كما رضي. ثم صرف وجهه إلى بني توجين ومغراوة، فردّد إليهم العساكر حتى دوّخ بلادهم وذلّل صعابهم، وشرّد محمد بن عطية الأصمّ عن نواحي وانشريس، وراشد بن محمد عن نواحي شلف، وكان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها، واستولى على العملين، واستعمل عليهما، وقفل إلى تلمسان، ثم خرج سنة عشر وسبعمائة في عساكره إلى بلاد بني توجين، ونزل تافركينت وسط بلادهم فشرّد الفلّ من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريس، واحتاز رياستهم في بني توجين دونهم. وأدام منهم بالحشم وبني تيغزين [2] . وعقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريس، وعقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية وأعمالها، وعقد لسعد من بني سلامة على قومه من بني يد لتين إحدى بطون بني توجين وأهل الناحية الغربية من عملهم. وأخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة والجباية، واستعمال عليهم جميعا من صنائعه قائده يوسف بن حيون الهواري، وأذن له في اتخاذ الآلة.
وعقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة وأذن له أيضا في اتخاذ الآلة. وعقد لمحمد بن عمه يوسف على مليانة، وأنزله بها وقفل إلى تلمسان. والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مفرط الذكاء.
[2] وفي نسخة ثانية: بني تيغرين.

(7/132)


(الخبر عن استنزال زيرم بن حماد من ثغر برشك وما كان قبله [1] )
كان هذا الغمر من مشيخة هذا القصر لوفور عشيرته من مكلاته داخله وخارجة، واسمه زيري بالياء، فتصرّفت فيه العامّة وصار زيرم بالميم. ولما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا القصر في طاعته. حتى إذا هلك حدّثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء والاستبداد بملك برشك ما بين مغراوة وبني عبد الواد، ومدافعة بعضهم ببعض. فاعتزم على ذلك وأمضاه وضبط برشك لنفسه سنة ثلاث وثمانين وستمائة ونهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع وثمانين وستمائة بعدها، ونازلة فامتنع. ثم زحف سنة ثلاث وتسعين إلى مغراوة، فلجأ ثابت بن منديل إلى برشك وحاصره عثمان بها أربعين يوما. ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه. وأخذ زيري بعدها بطاعة عثمان بن يغمراسن دافعه بها، وانتقض عليه، مرجعه إلى تلمسان، وشغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار، فاستبدّ زيري هذا ببرشك واستفحل شأنه بها.
واتقى بني مرين عند غلبهم على بلاد [2] مغراوة وتردّد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة والانقياد، فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب، وخرج بنو يغمراسن من الحصار رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة، ومناولة طرفها على البعد حتى إذا غلب أبو حمّو على بلاد مغراوة وتجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه، خشيه زيري على نفسه، وخطب منه الأمان على أن ينزل له عن المصر، فبعث إليه رئيس الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام، كان أبوه من أهل برشك، وكان زيري قد قتله لأوّل ثورته غيلة. وفرّ ابنه عبد الرحمن هذا وأخوه عيسى، ولحقا بتونس فقرءا بها، ورجعا إلى الجزائر فأوطناها. ثم انتقلا إلى مليانة واستعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة. ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان وأبي حمو مع عمّال بني مرين وقوّادهم بمليانة، وكان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم. وكانا يقرءان ولده محمدا فأشادا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وما كان من قتله.
[2] وفي نسخة ثانية: أعمال.

(7/133)


عند أبي زيان وأبي حو بمكانهما من العلم، ووقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع حتى إذا استقلّ بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطهر من تلمسان لطلبة العلم. وابتنى لهما دارين على جانبيها وجعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدّين لذلك. واختصّهما بالفتيا والشورى، فكانت لهما في دولته قدم علية فلما خطب زيري هذا الأمان من أبي حمّو وأن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول إلى بابه، بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما، فنهض لذلك بعد أن استأذنه في أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه، فأذن له. فلمّا احتلّ ببرشك أقام بها أياما يغاديه فيها زيري ويراوحه بمكان نزله، وهو يعمل الحيلة في اغتياله حتى إذا أمكنته فقتله في بعض تلك الأيام سنة ثمان وسبعمائة، وصار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو وانمحى منه أثر المشيخة والاستبداد والأمور بيد الله سبحانه.
(الخبر عن طاعة الجزائر واستنزال ابن علان منها وذكر أوليته)
كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة، ومختطها بلكّين بن زيري ونزلها بنوه من بعده. ثم صارت للموحّدين وانتظمها بنو عبد المؤمن في أمصار المغربين وإفريقية، ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر الموحدين وبلغت دولتهم بلاد زناتة. وكانت تلمسان ثغرا لهم، واستعملوا عليها يغمراسن وبنيه من بعده، وعلى ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن، وعلى وانشريس وما إليها من عمل توجين محمد بن عبد القوى وبنيه. وبقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحّدين أهل دولته، فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة.
وفي سنة أربع وستين وستمائة انتقضوا على المستنصر ومكثوا في ذلك الانتقاض سبعا.
ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى وسبعين وستمائة فحاصرها أشهرا وأفرج عنها. ثم عاودها بالحصار سنة أربع وسبعين وستمائة أبو الحسن ابن ياسين بعساكر الموحّدين فاقتحمها عليهم عنوة واستباحها. وتقبّض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين إلى أن هلك المستنصر. ولما انقسم أمر بني أبي حفص واستقل الأمير أو زكريا الأوسط بالثغور الغربية وأبوه، بعثوا إليه بالبيعة، وولّى عليهم ابن أكمازير،

(7/134)


وكانت ولايتها [1] من قبل، فلم يزل هو واليا عليها إلى أن أسنّ وهرم. كان ابن علّان من مشيخة الجزائر مختصا به، ومنتصبا في أوامره ونواهيه، ومصدّرا لإمارته وحصل له بذلك الرئاسة على أهل الجزائر سائر أيامه. فلمّا هلك ابن أكمازير حدّثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بمدينته، فبعث عن أهل الشوكة من نظائره ليله هلاك أميره. وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد، واتخذ الآلة واستركب واستلحق من الغرباء والثعالبة عرب متيجة، واستكثر من الرجال والرماة. ونازلته عساكر بجاية مرارا فامتنع عليهم. وغلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة، ونازلة أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية، وتوغلهم في القاصية، فأخذ بمخنقها وضيّق عليها، ومرّ بابن علّان القاضي أبو العبّاس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب، فأودعه الطاعة للسلطان والضراعة إليه في الإبقاء، فأبلغ ذلك عنه وشفع له، فأوعز إلى أبيه يحيى بمسالمته [2] . ثم نازلة الأمير خالد بعد ذلك فامتنع عليه وأقام على ذلك أربع عشرة سنة وعيون الخطوب تحدّده [3] ، والأيام تستجمع لحربه. فلمّا غلب السلطان أبو حمو على بلاد توجين واستعمل يوسف بن حبون الهواري على وانشريس، ومولاه مسامحا على بلاد مغراوة، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض سنة اثنتي عشرة وسبعمائة الى بلاد شلف فنزل بها، وقدم مولاه مسامحا في العساكر فدوّخ متيجة من سائر نواحيها، وترس بالجزائر، وضيّق حصارها حتى مسهم الجهد وسأل ابن علّان النزول على أن يشترط لنفسه، فتقبّل السلطان اشتراطه، وملك السلطان أبو حمو الجزائر وانتظمها في أعماله. وارتحل ابن علّان في جملة مسامح، ولحقوا بالسلطان بمكانه من شلف فانكفأ إلى تلمسان وابن علّان في ركابه، فأسكنه هنالك ووفّي له بشرطه إلى أن هلك والبقاء للَّه سبحانه.
(الخبر عن حركة صاحب المغرب الى تلمسان وأولية ذلك)
لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس،
__________
[1] بياض بالأصل وفي نسخة اخرى: لبطة، وفي ثانية: ليطة.
[2] وفي نسخة ثانية: بمصالحته.
[3] وفي نسخة ثانية: تحرزه.

(7/135)


وبايع له الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق صاحب بني مرين بمداخلة الوزير رحّو بن يعقوب كما قدّمناه في أخبارهم. وملكوا تازى، زحف إليهم السلطان أبو الربيع فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبي حمو صريخا. ثم أعجلهم أبو الربيع وأجهضهم على تازى، فلحقوا بالسلطان أبي حمو ودعوه إلى المظاهرة على المغرب ليكونوا رداء له دون قومهم. وهلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك واستقلّ بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، فطالب السلطان أبا حمو بإسلام أولئك النازعين إليه، فأبى من إسلامهم وإخفار زمّته فيهم وأجازهم البحر إلى العدوة، فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها، وعقد له السلم. ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى فيه عنده، فنزع عنه إلى تلمسان وأجاره السلطان أبو حمو على أخيه فأحفظه ذلك، ونهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة وعقد لابنه الأمير أبي عليّ وبعثه في مقدّمته، وسار هو في الساقة. ودخل أعمال تلمسان على هذه التعبية فاكتسح بسائطها، ونازل وجدة فقاتلها وضيّق عليها.
ثم تخطّاها إلى تلمسان فنزل بساحتها وانحجر موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على ضواحيها ورعاياها، وسار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرّى شعارها وبلادها بالحطم والانتساف والعيث. فلمّا أحيط به وثقلت وطأة السلطان عليه وحذر المغبة منه ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرّب أمواله فيهم ويخادعهم من نصائح سلطانهم حتى اقتضى مراجعتهم في جاره يعيش بن يعقوب وإدالته من أخته. ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد فامتلاء قلبه منها خشية ورهبة، واستراب بالخاصّة والأولياء ونهض إلى المغرب على تعبيته. ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه، وشغلوا عن تلمسان وأهلها برهة من الدهر حتى جاء أمر الله في ذلك عند وقته، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن مبدإ حصار بجاية وشرح الداعية اليه)
لما رجع السلطان أبو سعيد إلى المغرب وشغل عن تلمسان، فزع أبو حمو لأهل

(7/136)


القاصية من عمله. وكان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة، فاحتل بوطن شلف واجتمع إليه أوشاب قومه، وحين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان، وجمع له الجموع ففرّ أمامه ناجيا إلى مثوى اغترابه ببجاية. وأقام بنو سعيد بمعاقلهم من جبال شلف على دعوته، فاحتل السلطان أبو حمو بوادي تمل [1] فخيم به. وجمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد، واتخذ هنالك قصره المعروف باسمه. وسرّح العساكر لتدويخ القاصية ولحق به هنالك الحاجب ابن أبي [2] حين مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فأغراه بملك بجاية ورغبه فيه. وكان قد ثاب له طمع منذ رسالة السلطان مولانا أبي يحيى إليه.
وذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد ودعا لنفسه بقسنطينة، ونهض إلى بجاية فانهزم عنها كما قدمنا في أخباره. وأوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغريا له بابن خلوف وبجاية ثم بعث إليه ابن خلوف أيضا يسأله المظاهرة والمدد فأطمعه ذلك في ملك بجاية.
(ولما هلك) ابن خلوف كما قدّمناه، لحق به كاتبه عبد الله بن هلال، فأغراه واستحثّه، وشغله عن ذلك شأن الجزائر. فلما استولى على الجزائر، بعث مولاه مسامحا في عسكر مع ابن أبي حي، فبلغوا إلى جبل الزاب وهلك ابن أبي حي ورجع مسامح. ثم شغله عن شأنها زحف، وفرغ من أمر عدوّه، ونزل بلد شلف كما ذكرناه آنفا ولحق به عثمان بن سباع بن يحيى بن سبّاع بن سهل أمير الزواودة، يستحثّه لملك الثغور الغربية من عمل الموحّدين، فاهتز لذلك وجمع له الجموع، وعقد لمسعود ابن عمه أبي عامر برهوم على عسكر وأمره بحصار بجاية، وعقد لمحمد ابن عمّه يوسف قائد مليانة على عسكر، ولمولاه مسامح على عسكر آخر، وسرّحهم إلى بجاية وما وراءها لتدويخ البلاد. وعقد لموسى بن عليّ الكردي على عسكر ضخم، وسرّحه مع العرب من الزواودة وزغبة على طريق الصحراء. فانطلقوا إلى وجههم ذلك، وفعلوا الأفاعيل كلّ فيما يليه وتوغّلوا في البلاد الشرقية، حتى انتهوا إلى بلاد بونة. ثم انقلبوا من هنالك ومرّوا في طريقهم بقسنطينة، ونازلوها أياما.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهل.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة الاسم الكامل لهذا الحاجب في المراجع التي بين أيدينا.

(7/137)


وصعدوا جبل ابن ثابت المطلّ عليها فاستباحوه. ثم مرّوا ببني باورار فاستباحوها وأضرموها، واكتسحوا سائر ما مرّوا عليه. وحدثت بينهم المناكرة حسدا ومنافسة، فافترقوا ولحقوا بالسلطان ولحق مسعود بن برهوم محاصرا لبجاية وبنى حصنا بأصفون لمقامه. وكان يسرّح الجيوش لقتالها فتجوّل في ساحتها، ثم تراجع إلى الحصن. ولم يزل كذلك حتى بلغه خبر خروج محمد بن يوسف فأجفل عنها على ما نذكره الآن فلم يرجعوا لحصارها إلا بعد مدّة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحروب السلطان معه)
لما رجع محمد بن يوسف من قاصية الشرق كما قدّمناه، وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكرديّ، وجوانحه تلتهب غيظا وحقدا عليه. وسعى به عند السلطان فعزله عن مليانة، فوجم لها وسأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان، وهو ابن أخته فأذن له. وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه، فأبى من ذلك، وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله. ولما وصل إليه تنكّر له وحجبه، فاستراب وملاء قلبه الرعب، وفرّ من المعسكر ولحق بالمرية [1] ، ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين. فيقال انه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه، لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزاعته، فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب. وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل، فلقيهم في عساكره، فكانت الدبرة على السلطان، ولحق بتلمسان وغلب محمد بن يوسف على بني توجين ومغراوة ونزل مليانة. وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها، وقد جمع الجموع وأزاح العلل وأوعز إلى مسعود بن برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر، ليأخذ بحجزتهم من ورائهم، وخرج محمد بن يوسف على مليانة لاعتراضه، واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز، فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد بن يوسف. ولجأ إلى جبل مرصالة [2] وحاصره بها مسعود بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالمدية.
[2] وفي نسخة ثانية: موصاية.

(7/138)


برهوم أياما، ثم أفرج عنه. ولحق بالسلطان فنازلوا جميعا مليانة. وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه وأطلقه، ثم زحف إلى المرية فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي، وقفل إلى تلمسان.
واستطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية. وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية والآلة، وسوّغه سهام يغمراسن ابن زيّان بإفريقية، ووعده بالمظاهرة وغلب سائر بلاد بني توجين. وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريس، فاستولى عليه. ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة وسبعمائة وملك المرية واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف، واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب، حتى من قومه بني عبد الواد. ورجع إلى تلمسان وأنزله بالقصبة وهي الغور الفسيح الخطّة تماثل بعض الأمصار العظيمة، اتخذها للرهن. وكان يبالغ في ذلك حتى يأخذ الرهن المتعدّدة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط. وتجاوز ذلك إلى أهل الأمصار والثغور والمشيخة والسوقة فملأ تلك القصبة من أبنائهم وإخوانهم، وشحنها بالأمم بعد الأمم، وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء. واختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة، ونفقت بها الأسواق والصنائع وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن. ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد توجين إلى أن هلك السلطان، والبقاء للَّه.
(الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده)
كان السلطان أبو حمو قد اصطفى ابن عمه برهوم وتبناه من بين عشيرته وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه، واختصاص أبيه برهوم المكنّى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين إخوته [1] ، فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شئونه، ويصله إلى خلواته. وكان دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من العلوجين [2] يقومون
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بين سائر الاخوة.
[2] وفي نسخة ثانية: المعلوجي.

(7/139)


بخدمته في مرباه ومنتشئه، كان منهم: هلال المعروف بالقطاني [1] ، ومسامح المسمّى بالصغير، وفرج بن عبد الله وظافر ومهديّ وعليّ بن تاكررت وفرج الملقب شقّورة، وكان ألصقهم وأعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا، وكان أبو حمو أبوه كثيرا ما يقرّعه ويوبّخه إرهاقا في اكتساب الخلال، وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فيحفظه لذلك. وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب وحدوده في الزجر والأدب، فكان أولئك العلوجين تحت رهب منه، وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه، ويبعثون غيرته لما يذكرون له من اصطفاء ابن أبي عامر دونه. وقارن ذلك أن مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد ابن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عند ما رجع من حصار بجاية، فاستحمد له السلطان ذلك، وعيّر ابنه عبد الرحمن بمكان ابن عمّه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالا ويغريه بالكمال. وكان عمّه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن ثري بما نال من جوائز الملوك في وفاداته، وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما.
ولما هلك سنة ست وتسعين وستمائة أوصى أخاه عثمان بولده فضمهم إليه، ووضع تراثهم بموضع ماله، حتى يأنس منهم الرشد في أحوالهم، حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان هذه، وعلا فيها ذكره وبعد صيته، رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله، فاحتمل إليه من المودع. ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وباطنته السوء من العلوجين، فحسبوه مال الدولة قد حمل إليه لبعد عهدهم بما وقع في تراث أبي عامر أبيه، واتهموا السلطان بإيثاره بولاية العهد دون ابنه، فأغروا أبا تاشفين بالتوثّب على الأمر وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر، واعتقال السلطان أبي حمو ليتمّ له الاستبداد. وتحيّنوا لذلك قائلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه، وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصته من البطانة وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح. وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخصهم السلطان بحجابته سائر أيامه، وكان مسمّى الحجابة عنده قهرمة الدار والنظر في الدخل والخرج، وهم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكّة الدنانير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: القطلاني.

(7/140)


والدراهم، وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأماناتهم، نزل أوّلهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى وزادوا إليها الفلاحة وتحلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه، وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية، فولّى على حجابته منهم لأوّل دولته محمد بن ميمون بن الملاح. ثم ابنه محمد الأشقر من بعده. ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما، واشترك معه من قرابته علي بن عبد الله بن الملّاح، فكانا يتولّيان مهمه بداره ويحضران خلوته مع خاصته، فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انقضاض مجلسه كما قلناه، ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة. ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن عليّ أمير بني يزيد [1] بن توجين، وكان السلطان قد استوزره.
(فلما علم) أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من اغلاقه، حتى إذا توسّطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه. وحام أبو تاشفين عنها، فلم يفرجوا عليه ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار، واستمكن من غلقها دونهم، فكسروا الباب وقتلوه، واستلحموا من كان هنالك من البطانة، فلم يفلت إلا الأقل. وهلك الوزراء بنو الملّاح واستبيحت منازلهم. وطاف الهاتف بسكك المدينة بأنّ أبا سرحان غدر بالسلطان، وأنّ ابنه أبا تاشفين ثأر منه، فلم يخف على الناس الشأن. وكان موسى ابن عليّ الكرديّ قائد العساكر قد سمع الصيحة فركب إلى القصر، فوجده مغلقا دونه، فظنّ الظنون فخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث إلى العبّاس بن يغمراسن كبير القرابة، فأحضره عند باب القصر حتى إذا مرّ بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان، ردّ العباس على عقبه إلى منزله. ودخل إلى السلطان أبي تاشفين، وقد أدركه الدهش من المواقعة فثبته ونشطه فحفه، وأجلسه بمجلس أبيه وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامّة، وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة.
وجهّز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم، وأصبح مثلا في الآخرين والبقاء للَّه.
وأشخص السلطان لأوّل ولايته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يزناتن.

(7/141)


وأجازهم إلى العدوة حذرا من مغبّة ترشيحهم، وما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم وقلّد حجابته مولاه هلالا فاضطلع بأعبائها، واستبدّ بالعقد والحلّ والإبرام والنقض صدرا من دولته، إلى أن نكبه حسبما نذكره. وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف وسائر أعمال مغراوة، وعقد لمحمد بن سلامة بن عليّ على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين، وعزل أخاه سعدا، فلحق بالمغرب.
وعقد لموسى بن عليّ الكردي على قاصية المشرق، وجعل إليه حصار بجاية، وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين، فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك أربى عليه، فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت، واتسعت أخباره على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين لمحمد بن يوسف بجبل وانشريس واستيلاؤه عليه
كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو كما ذكرناه قد تغلّب على جبل وانشريس ونواحيه واجتمع إليه الفلّ من مغراوة فاستفحل أمره، واشتدّت في تلك النواحي شوكته. وأهمّ أبا تاشفين أمره فاعتزم على النهوض إليه، وجمع لذلك وأزاح العلل. وخرج من تلمسان سنة تسع عشرة وسبعمائة واحتشد سائر القبائل من زناتة والعرب، وأناخ على وانشريس وقد اجتمع به بنو توجين ومغراوة مع محمد بن يوسف. وكان يتغرين من بني توجين بطانة ابن عبد القويّ يرجعون في رياستهم إلى عمر بن عثمان بن عطيّة حسبما نذكره. وكان قد استخلص سواه من بني توجين دونه فأسفه بذلك، وداخل السلطان أبا تاشفين وواعده أن يتحرّك [1] عنه، فاقتحم السلطان عليهم الجبل وانحجزوا جميعا إلى حصن توكال، فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانيا، فتخرّم الجمع واختلّ الأمر وانفضّ الناس فاقتحم الحصن، وتقبّض على محمد بن يوسف وجيء به إلى السلطان أسيرا وهو في مركبه فعدّد عليه، ثم وخزه برمحه، وتناوله الموالي برماحهم فأقعصوه، وحمل رأسه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ان ينحرف عنه.

(7/142)


على القناة إلى تلمسان، فنصب بشرفات البلد، وعقد لعمر بن عثمان على جبل وانشريس وأعمال بني عبد القوي، ولسعيد العربيّ من مواليه على عمل المرية.
وزحف إلى الشرق فأغار على أحياء رياح وهم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة، وصبح أحياءهم فاكتسح أموالهم ومضى في وجهه إلى بجاية، فعرس بساحتها ثلاثا وبها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه، فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم. وقفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حصار بجاية والفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه وذهاب سلطانه وانقراض الأمر عن قومه برهة من الدهر
لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة اعتمل في ترديد البعوث إلى قاصية الشرق، والإلحاح بالغزو إلى بلاد الموحّدين، فأغزاها جيوشه سنة عشرين وسبعمائة فدوّخوا ضواحي بجاية وقفلوا. ثم غزاهم ثانية سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وعليهم موسى بن عليّ الكردي فانتهى إلى قسنطينة وحاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها، وابتنى حصن بكر لأوّل مضيق الوادي، وادي بجاية، وأنزل به العساكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف وقفل إلى تلمسان. ثم نهض موسى بن عليّ ثالثة سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فدوّخ نواحي بجاية ونازلها أياما وامتنعت عليه فأفرج عنها. ووفد سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخا على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى، فبعث معهم العساكر من زناتة وعامّتهم من بني توجين وبني راشد، وأمّر عليهم القواد وجعلهم لنظر قائده موسى بن علي الكردي، ففصلوا إلى إفريقية، وخرج السلطان للقائهم، فانهزموا بنواحي مرماجنّة، وتخطّفتهم الأيدي فاستلحموا، وقتل مسامح مولاه، ورجع موسى بن عليّ، فاتهمه السلطان بالادهان وكان من نكبته ما نذكره في أخباره وسرّح العساكر سنة أربع وعشرين وسبعمائة فدوّخت نواحي بجاية، ولقيهم ابن سيّد الناس فهزموهم، ونجا إلى البلد.
ووفد على السلطان سنة خمس وعشرين وسبعمائة مشيخة سليم حمزة بن عمر بن

(7/143)


أبي الليل وطالب بن مهلهل، الغملان المتزاحمان في رياسة الكعوب. ومحمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم، فاستحثوه للحركة واستصرخوه على إفريقية، وبعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي ونصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيّين. وخرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم وخشيهم على قسنطينة فسابقهم إليها، فأقام موسى بن عليّ بعساكره على قسنطينة، وتقدّم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس فملكها كما ذكرناه في أخبارهم. وامتنعت قسنطينة على موسى بن علي فأقلع [1] عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها وعاد إلى تلمسان. ثم أغزاه السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة في الجيوش وعهد إليه بتدويخ الضاحية ومحاصرة الثغور، فنازل قسنطينة وأفسد نواحيها. ثم رجع إلى بجاية فحاصرها، ثم عزم على الإقلاع ورأى أن حصن بكر غير صالح لتجهيز الكتائب إليها لبعده، وارتاد للبناء عليها ما هو أقرب منه، فاختط بمكان سوق الخميس بوادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب لها على بجاية، وجمع الأيدي على بنائها من الفعلة والعساكر، فتمت لأربعين يوما وسمّوها تامزيزدكت باسم الحصن القديم الّذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة، وأنزل بها عساكر تناهز ثلاثة آلاف، وأوعز السلطان إلى جميع عمّاله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إليها حيث كانت، والأدم وسائر المرافق حتى الملح، وأخذ الرهن من سائر القبائل على الطاعة واستوفوا جبايتهم. فثقلت وطأتهم على بجاية واشتدّ حصارها وغلت أسعارها.
(وبعث) مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه وقوّاده سنة سبع وعشرين وسبعمائة فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبّار، وخرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيّد الناس إلى ذلك الحصن. وقد كان موسى بن عليّ عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه، وبعث إلى القوّاد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بضاحية تامزيزدكت، فانكشف ابن سيّد الناس ومات ظافر الكبير مقدّم الموالي من العلوجين بباب السلطان واستبيح معسكرهم. ولمّا سخط السلطان قائده موسى بن عليّ ونكبه كما نذكره في أخباره أغزى يحيى بن موسى السنوسيّ في العساكر إلى إفريقية ومعه القوّاد، فعاثوا في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فأفرج عنها.

(7/144)


نواحي قسنطينة وانتهوا إلى بلد بونة ورجعوا. وفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخا، ووفد معه أو بعده عبد الحق ابن عثمان، فحلّ الشول من بني مرين. وكان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين، فسخط بعض أحواله ولحق بتلمسان، فبعث السلطان معهم جميع قوّاده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى. ونصب عليهم محمد بن أبي بكر بن عمران من أعياص الحفصيّين، ولقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالدياس [1] من نواحي بلاد هوّارة، وانخزل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه، وانكشفت جموعه واستولى على ظعائنه بما فيها من الحرم، وعلى ولديه أحمد وعمر، فبعثوا بهم إلى تلمسان، ولحق مولانا المنصور أبو يحيى بقسنطينة وقد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب، وسار يحيى بن موسى وابن أبي عمران إلى تونس، واستولوا عليها ورجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوما من دخولها، فقفل إلى تلمسان وبلغ الخبر إلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم، فنهض إلى تونس وأجهض عنها ابن أبي عمران بعد أن كان أوفد من بجاية ابنه أبا زكريا يحيى ومعه محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين صريخا على أبي تاشفين، فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد. وداخل السلطان أبا تاشفين بعض أهل بجاية، ودلّوه على عورتها، واستقدموه فنهض إليها وحذر بذلك الحاجب ابن سيّد الناس فسابقه إليها، ودخل يوم نزوله عليها، وقتل من اتهمه بالمداخلة فانحسم الداء.
وأقلع السلطان أبو تاشفين عنها، وولّى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على الجيش الّذي بتامزيزدكت، وأوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية من تامزيزدكت فبناه بالياقونه من أعلى واد قبالة بجاية. فأخذ بمخنقها واشتدّ الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجزتهم، فأجفلوا جميعا إلى تلمسان، ونفس مخنق الحصار عن بجاية. ونهض مولانا السلطان أبو يحيى بجيوشه من تونس إلى تامزيزدكت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فخرّبها في ساعة من نهار كأن لم تغن بالأمس، حسبما ذكرنا ذلك في أخباره. والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الرياس.
ابن خلدون م 10 ج 7

(7/145)


(الخبر عن معاودة الفتنة بين بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين ومصائر ذلك)
كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأوّل دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب، فلما انتقض عليه ابنه أبو عليّ سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة، بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجزة أبيه عنه، ونهض هو إلى مراكش فدخلها. وزحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن عليّ في العساكر إلى نواحي تازى، فاستباح عمل كارث، واكتسح زروعه وقفل. واعتدّها عليه السلطان أبو سعيد، وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولا إلى السلطان أبي عليّ بسجلماسة، فرجع عنه مغاضبا وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسّك بسلم السلطان أبي سعيد، فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدّة. فلما نفر ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب، وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم، وهلك السلطان أبو سعيد، نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدّم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع بجيوشه عن حصار بجاية، ويتجافى للموحدين عن عمل تنس [1] فأبى وأساء الردّ، وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول. وأفزع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين، فأحفظ ذلك السلطان أبو الحسن ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان فتخطّاها إلى تاسالت وضرب بها معسكره، وأطال المقام وبعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه، وركبوا في أساطيله من سواحل وهران ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان، فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وقد أجفل منها عساكر بني عبد الواد وتركوها قفرا [2] . ولحقت بها عساكر الموحدين، فعاثوا فيها تخريبا ونهبا.
وألصقت جدرانها بالأرض وتنفّس مخنق بجاية من الحصار، وانكمش بنو عبد الواد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تدلس.
[2] وفي نسخة ثانية: قواء.

(7/146)


إلى ما وراء تخومهم.
وفي خلال ذلك انتقض أبو عليّ ابن السلطان أبي سعيد على أخيه، وصمد من مقرّه بسجلماسة إلى درعة، وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد. وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحلّته بتاسالت، فنهض [1] راجعا إلى المغرب لحسم دائه، وراجع السلطان أبو تاشفين عزّه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله، وكتب الكتائب وبعث بها مددا للسلطان أبي عليّ. ثم استنفر قبائل زناتة وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ليأخذ بحجزة السلطان أبي الحسن عن أخيه، وانتهى إلى الثغر من تاوريرت ولقيه هناك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جهّزها أبوه معه هنالك لسدّ الثغور، ومعه منديل بن حمامة شيخ بني تيريفين من بني مرين في قومه. فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان. ولمّا تغلّب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين وسبعمائة جمع لغزو تلمسان وحصارها ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد استنفذ وسعه في الاحتفال لذلك واضطربت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسرادقات الحفائر أطيفت [2] عليهم، حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم. وسرّح كتائبه إلى القاصية من كل جهة، فتغلّب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعا، وخرّب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله. وألحّ عليها بالقتال يغاديها ويراوحها، ونصب المجانيق وانحجز بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الّذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم. وذلك أنّ السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضربها عليهم شوطا يرتّب المقاتلة ويثقف الأطراف ويسدّ الفروج ويصلح الخلل، وأبو تاشفين يبعث العيون في ارتصاد فرصه فيه، وأطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين الجبل والبلد انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها، وضايقوه حتى كاد السرعان من الناس أن يصلوا إليه، وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانا، وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره، وعقابا جحافله وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جوّ، فانكشفت عساكر البلد ورجعوا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فنكص.
[2] وفي نسخة ثانية: أطبقت.

(7/147)


القهقرى، ثم ولّوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد، واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه، فكان الهالك يومئذ بالردم أكثر من الهالك بالقتل. وهلك من بني توجين يومئذ كبير الحشم وعامل جبل وانشريس، ومحمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن وصاحب قلعة تاوغزوت [1] وما إليها من عملهم، وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما وأمثال استلحموا في هذه الوقعة فحط [2] هذا اليوم جناح الدولة وحطّم منها، واستمرّت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر رمضان من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابا. ولجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه، ومعه ولداه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين، وهو الّذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه، وسيأتي ذكره وخبره. ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو زيّان وأبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رءوسهم على عصيّ الرماح، فطيف بها، وغصت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر، وكظّت أبوابها بالزحام، حتى لقد كبّ الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب ما بين السقف ومسلك الباب وانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا، وخلص السلطان إلى المسجد الجامع، واستدعى رؤساء الفتيا والشورى أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى ابني الإمام، قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم، فحضروه ورفعوا إليه أمر الناس وما نالهم من معرة العسكر ووعظوه فأناب ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك، فسكن الاضطراب وأقصر العيث. وانتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله. وتاخم الموحدين بثغوره وطمس رسم الملك لآل زيّان ومعالمه، واستتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وأقطعهم ببلاد المغرب سهاما أدالهم بها من تراثهم من أعمال تلمسان، فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره، فأومض بارقه، وهبّت ريحه، والله يؤتي ملكه من يشاء.
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تاوعزدوت.
[2] وفي نسخة ثانية: في هذه الوقائع. فقصّ هذا اليوم.

(7/148)


(الخبر عن رجال دولته وهم موسى بن علي ويحيى بن موسى ومولاه هلال وأوليتهم ومصاير أمورهم واختصاصهم بالذكر لما صار من شهرتهم وارتفاع صيتهم)
فأمّا موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان، فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق، وقد أشرنا الى الخلاف في نسبهم بين الأمم. وذكر المسعودي منهم أصنافا سمّاهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم، وأنّ مواطنهم ببلاد أذربيجان والشام والموصل، وأنّ منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي انتهى كلامه.
(وكان) منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العجم وعامّتهم يتقلّبون في الرحلة.
وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث، ويتّخذون الخيام لسكناهم من اللبود، وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام، وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلّب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة. ولما طمس ملك بني العباس وغلب التتر على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيّين، وهو المستعصم. ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله، فاستولوا عليها وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام التتر لما كانوا يدينون بدين المجوسيّة وصاروا في إيالة الترك، فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم. وجاز منهم إلى المغرب عشيرتان تعرفان ببني لوين وبني بابير [1] فيمن إليهم من الأتباع ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحّدين ونزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم وأكرم مثواهم، وأسنى لهم الجراية والأقطاع وأحلّهم بالمحل الرفيع من الدولة.
(ولما انتقض) أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين، ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيّان، ونزع المستنصر إلى إفريقية يومئذ بيت من بني بابير لا أعرفهم، كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار، صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره منهم ركان [2] من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بني تابير.
[2] وفي نسخة ثانية: وكان.

(7/149)


من بني بابير علي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان، ومن بني لوين الخضر بن محمد، ثم بنو حمّور، ثم بنو بوصة. وكانت رياسة بني بابير لسلمان وعليّ، ورياسة لوين لخضر بن محمد. وكادت تكوّن الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الاولى، فإذا اتعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان، وكان نضالهم بالسهام وكانت القسيّ سلاحهم. وكان من أشهر الوقائع بينهم وقيعه بفاس سنة أربع وسبعين وستمائة، جمع لها خضر رئيس بني لوين وسلمان وعليّ رئيسا بني بابير، واقتتلوا خارج باب الفتوح. وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم، فلم يعرض لهم. وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا بثغر طريف عام تسعين وستمائة، وكان لعليّ بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب، وكشف له الحجاب عن داره، وربى بين حرمه فتمكّنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه، فذهب مغاضبا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن يعقوب محاصرا لها، فتلقّاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محلّه من قومه ومنزلته من اصطناع السلطان. وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقيه في حومة القتال وحادثة واعتذر له بكرامة القوم إياه، فحضّه على الوفاء لهم، ورجع إلى السلطان فخبّره الخبر فلم ينكر عليه. وأقام هو بتلمسان وهلك أبوه عليّ بالمغرب سنة سبع وسبعمائة.
ولما هلك عثمان بن يغمراسن بن زيّان زاده بنوه اصطناعا ومداخلة، وخلطوه بأنفسهم وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم. وولّوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة. ولما هلك السلطان أبو حمو وقام بأمره ابنه أبو تاشفين، وكان هو الّذي تولّى له أخذ البيعة على الناس، وغصّ بمكانه مولاه هلال فلما استبدّ عليه وكان كثيرا ما ينافس موسى بن علي ويناقشه، فخشيه على نفسه، وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس، فبادره هلال وتقبّض عليه وغرّبه إلى العدوة ونزل بغرناطة، وانتظم في الغزاة المجاهدين وأمسك عن جراية السلطان فلم يمدّ إليها يدا أيام مقامه، وكانت من أنزه ما جاء به وتحدّث به الناس فأغربوا، واتقدت لها جوانح هلال حسدا وعداوة، فأغرى سلطانه فخاطب ابن الأحمر في استقدامه، فأسلمه إليه. واستعمله السلطان في حروبه على قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وكانت الدبرة

(7/150)


عليه واستلحمت زناتة، ورجع في الفلّ فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به. ونمي ذلك إليه فلحق بالعرب الزواودة، وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى ابن موسى صاحب شلف، ونزل هو على سليمان ويحيى بن علي بن سبّاع بن يحيى من أمراء الزواودة في أحيائهم [1] فلقوه مبرة وتعظيما، وأقام بين أحيائهم مدّة، ثم استقدمه السلطان ورجع إلى محلّه من مجلسه. ثم تقبّض عليه لأشهر، وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها وضيّق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال، حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان، فانطلق إليه. فلما تقبّض على هلال قلّد موسى بن عليّ حجابته، فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان، فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه. وانقضى أمره والبقاء للَّه.
وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدوّ من الليل مثخنا بالجراح، وكانت حياته بعدها تعدّ من الغرائب، ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد، فكان له في سوقها نفاق حسبما نذكره والله غالب على أمره.
(وأمّا يحيى بن موسى) فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية، ولهم ولاء في بني كمين [2] بالاصطناع والتربية. ولمّا فصل بنو كمين إلى المغرب قعدوا عنهم واتصلوا ببني يغمراسن واصطنعوهم، ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم. (ولما كان) الحصار ولّاه أبو حمو مهمة من التطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار، وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار، وضبط الأبواب والتقدّم في حومة الميدان [3] ، وكان له أعوان على ذلك من خدّامه قد لزموا الكون معه في البكر والآصال. والليل والنهار، وكان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه وكان من أوّل ترشيحه ترديد أبي يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم: فيما يدور بينهم من المضاربة، فكان يجلّي في ذلك ويوفي من عرض مرسلة [4] ، ولما خرجوا من الحصار أربوا به على رتب الاصطناع والتنويه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المذكورين في أخبارهم.
[2] وفي نسخة ثانية: بني كمي.
[3] وفي نسخة ثانية: في حومة القتال.
[4] وفي نسخة ثانية: ويؤتي غرض مرسلة.

(7/151)


(ولما ملك أبو تاشفين) استعمله بشلف مستبدّا بها وأذن له في اتخاذ الآلة. ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به، وكانت المرية وتنس من عمله. فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله بالطاعة والكون معه، فتقبّله وجاء به [1] من مكان عمله، فقدم عليه بمخيّمه على تلمسان، فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساط، ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان والله مصرّف الأقدار.
(وأمّا هلال) فأصله من سبي النصارى القطلونيّين أهداه السلطان ابن الأحمر الى عثمان بن يغمراسن، وصار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه إلى ولده أبي تاشفين فيما أعطاه من الموالي المعلوجين، ونشأ عنده وتربّى، وكان مختصّا عنده بالراحلة والدالة، وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو. ولمّا ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولّاه على حجابته، وكان مهيبا فظّا غليظا، فقعد مقعد الفصل ببابه وأرف للناس سطوه [2] ، وزحزح المرشّحين عن رتب المماثلة إلى التعلّق بأهدابه، فاستولى على الأمر واستبدّ على السلطان. ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب، فاستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدّة والأقوات والمقاتلة، وأقام كاتبه الحاج محمد بن حواتة [3] بباب السلطان على رسم النيابة عنه، وأقلع سنة أربع وعشرين وسبعمائة فنزل بالإسكندرية وصحب الحاج من مصرفي جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من آل منسي موسى، واستحكمت بينهما المودّة. ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان. فلم يجد مكانه من السلطان ولم يزل من بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه، فتقبّض عليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأودعه سجنه، فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان، ومهلك السلطان بأيام، فكانت آية عجبا في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما. وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو، وأفلت هلال هذا من عقابه بموته. والله بالغ حكمه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وجأجأ.
[2] وفي نسخة ثانية: وأرهب الناس سطوته.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حونته.

(7/152)


الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار على ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان وعود الملك بذلك لبني زيان
كان بنو جرار هؤلاء من فضائل نيدوكسن [1] بن طاع الله وهم بنو جرار بن يعلى بن نيدوكسن، وكان بنو محمد بن زكراز يفضون إليهم من أوّل الأمر، حتى صار الملك إليهم واستبدوا به، فجرّوا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار. ونشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرّار هذا من بينهم مرموقا بعين التجلّة والرئاسة، وسعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولا للرئاسة فاعتقله مدّة. وفرّ من محبسه فلحق بملك المغرب السلطان سعيد فآثر محله وأكرم منزله، واستقرّ بمثواه فنسك وزهد. واستأذن السلطان عند تغلّبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له. وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه حتى استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحّدين، وحشد أهل المغرب من زناتة والمغرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته، واستأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فأذن له ولحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولد الأمير أبي عنّان، كان قد عقد له على عملها، ورشّحه لولاية العهد بولايتها، فازدلف إليه بما بثّه من الخبر عن أحوال أبيه، وتلطّف فيما أودع سمعه من تورّط أبيه في مهالك إفريقية، وإياسه من خلاصه، ووعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الخبراء والكهّان. وكان يظنّ فيه أنّ لديه من ذلك علما، وعلى تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. وظهر مصداق ظنّه وإصابة قياسه فأغراه بالتوثّب على ملك أبيه بتلمسان، والبدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عليها، كان استعمله جدّه أبو الحسن هنالك وأراه آية سلطانه وشواهد ملكه، وتحيّل عليه في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن وإلقائه على الألسنة حتى أوهم صدقه. وتصدّى الأمير أبو عنان للأمر، وتسايل إليه الفلّ من عساكر بني مرين، فاستلحق وبث العطاء وأعلن بابا لدعاء نفسه في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة وعسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم ولما فصل دعا عثمان لنفسه وانتزى على كرسيه واتخذ الآلة وأعاد من ملك بني عبد الواد رسما لم
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية نيدوكسن وفي نسخة أخرى: تيدوكسن.

(7/153)


يكن لآل جرار، واستبدّ أشهرا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه، وخسف به وبداره، وأعاد أمر بني عبد الواد في نصابه حسبما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن دولة أبي سعيد وأبي ثابت من آل يغمراسن وما فيها من الأحداث)
كان الأمير أبو يحيى جدّهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيّان، وكان ولي عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر. ولما تغلّب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى وستين وستمائة استعمله عليها، فأقام بها حولا وولد له هناك ابنه عبد الرحمن. ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها ونشأ عبد الرحمن بسجلماسة، ولحق بتلمسان بعد أمه [1] ، فأقام مع بني أبيه إلى أن غصّ السلطان بمكانه وغرّبه إلى الأندلس، فمكث بها حينا، وهلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد. وكان له بنون أربعة يوسف وعثمان والزعيم وإبراهيم، فرجعوا إلى تلمسان وأوطنوها أعواما حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم، وأضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم. ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله، فأذن لهم وفرض لهم العطاء وأنزلهم بالجزيرة فكانت لهم بالجهاد مواقف مذكورة ومواطن معروفة. ولما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد وفي رايتهم، ومكانهم معلوم بينهم. فلما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن وتألّب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية، وواضعوه الحرب بالقيروان، كان بنو عبد الواد أوّل النازعين عنه إليهم. فكانت النكبة وانحجز بالقيروان وانطلقت أيدي الأعراب على الضواحي وانتقض المغرب من سائر أعماله، أذنوا لبني عبد الواد في اللحاق بقطرهم ومكان عملهم، فمروا بتونس وأقاموا بها أياما، وخلص الملاء منهم نجيا في شأن أمرهم ومن يقدّمون عليهم فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن واجتمعوا إليه لعهده بهم يومئذ، وقد خرجوا به
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بعد أبيه.

(7/154)


إلى الصحراء وأجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة. ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن الناس، يسلّمون عليه بالإمارة ويعطونه الصفقة على الطاعة والبيعة حتى استهلوا [1] جميعا. ثم انطلقوا به إلى رحالهم. واجتمع مغراوة أيضا إلى أميرهم عليّ بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الّذي ذكرناه من قبل، وتعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم والمهادنة آخر الأيام واستئثار كل بسلطانه وتراث سلفه، وارتحلوا على تفيئة ذلك الى المغرب. وشنّت البوادي عليهم الغارات في كل وجه، فلم يظفروا منهم بقلامة ظفر: مثل ونيفن ونونة وأهل جبل بني ثابت. ولما مرّوا ببجاية وكان بها فلّ من مغراوة وتوجين، نزلوا بها منذ غلبوا على أعمالهم، وصاروا في جند السلطان فارتحلوا معهم. واعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة، فأوقعوا بهم وظهر من نجدتهم وبلائهم في الحروب ما هو معروف لأوليهم. ثم لحقوا بشلف فتلقّتهم قبائل مغراوة، وبايعوا لسلطانهم عليّ بن راشد فاستوسق ملكه.
وانصرف بنو عبد الواد والأميران أبو سعيد وأبو ثابت بعد أن أحكموا العقد [2] وأبرموا الوثاق مع عليّ بن راشد وقومه. وكان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد ومن معهم من أحلافهم قد نزلوا هناك مع شيخهم وترمار بن عريف، منهزمهم من تاسالت أمام جيوش السلطان أبي عنّان فأجفلوا من هنالك، ونزل بنو عبد الواد مكانهم، وكان في جملتهم جماعة من بني جرار بن نيدوكسن كبيرهم عمران بن موسى، ففرّ ابن عثمان بن يحيى بن جرار إلى تلمسان فعقد له على حرب أبي سعيد وأصحابه، فنزل الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد. وانقلب هو الى تلمسان والقوم في أثره، فأدرك بطريقة وقتل. ومرّ السلطان إلى البلد فثارت العامة بعثمان بن جرار فاستأمن لنفسه من السلطان فأمّنه ودخل إلى قصر الملك آخر جمادى الأخيرة من سنة تسع وأربعين وستمائة فاقتعد أريكته وأصدر أوامره واستوزر واستكتب، وعقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من متون [3] ملكهما، وعلى القبيل والحروب، واقتصر هو على ألقاب الملك وأسمائه ولزم الدعة. وتقبّض لأوّل دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته، ويقال قتيلا. وكان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حتى استكملوا جميعا.
[2] وفي نسخة ثانية: العهد.
[3] وفي نسخة ثانية: شئون.

(7/155)


من أوّل غزوات السلطان أبي ثابت غزاته إلى كومية، وذلك أن كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخا عليهم منذ حين من الدهر، وكان ينتسب في بني عابد، وهم قوم عبد المؤمن بن عليّ من بطون كومية. فلما وقع الهرج بتلمسان حسب أنه لا ينجلي غمامه [1] وحدّثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه، وأضرم بلاد كومية وما إليها من السواحل نارا وفتنة. فجمع له السلطان أبو ثابت ونهض إلى كومية فاستباحهم قتلا وسبيا واقتحم هنين، ثم ندرومة بعدها. وتقبّض على إبراهيم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلا إلى تلمسان وأودعه السجن، فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر.
وكانت أمصار المغرب الأوسط وثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن والقيام بدعوته، وبها حاميته وعمّاله وأقربها إلى تلمسان مدينة وهران، كان بها القائد عبد بن سعيد بن جانا من صنائع بني مرين، وقد ضبطها وثقفها وملأها أقواتا ورجلا وسلاحا، وملأ مرساها أساطيل، فكان أوّل ما قدّموه من أعمالهم النهوض إليه فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة والعرب ونزل على وهران وحاصرها أياما.
وكان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض فداخلوا قائد البلد في الانقضاض على السلطان أبي ثابت ووعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة، فبرز وناجزهم الحرب فانهزم بنو راشد وجرّوا الهزيمة على من معهم وقتل محمد بن يوسف بن عنّان بن فارس أخي يغمراسن بن زيّان من أكابر القرابة، وانتهب المعسكر ونجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن لقاء أبي ثابت مع الناصر ابن السلطان أبي الحسن وفتح وهران بعدها)
كان السلطان أبو الحسن بعد وقعة القيروان قد لحق بتونس، فأقام بها والعرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحّدين لطلب تونس واحدا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم. وبينما هو مؤمّل الكرّة ووصول المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السكك أجمع، وبانتقاض ابنه وحافده، ثم استيلاء بني عنّان على المغرب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تتجلّى غيابته.

(7/156)


كلّه، ورجوع بني عبد الواد ومغراوة وتوجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط ووفد عليه يعقوب بن علي أمير الزواودة، فاتفق مع عريف بن يحيى، أمير سويد وكبير مجلس السلطان، على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط. للدعوة التي كانت قائمة بأمصاره في الجزائر ووهران وجبل وانشريس، وكان به نصر بن عمر بن عثمان ابن عطيّة قائما بدعوته، وأن يكون عريف بن يحيى في جملة الناصر لمكانه من السلطان ومكان قومه من الولاية. وكان ذلك من عريف تفاديا من المقام بتونس فأجاب إليه السلطان وبعثهم جميعا، ولحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة وارتحلوا معه، ولقيه العطاف والديالم وسويد فاجتمعوا إليه وتألّبوا معه، وارتحلوا يريدون منداس. وبينما الأمير أبو ثابت يريد معاودة الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك، فطيّر به إلى السلطان أبي عنّان وجاءه العسكر من بني مرين مددا صحبة أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد، كان مستقرّا [1] بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان وبعث عنه أبوه فجاء مع المدد من العساكر والمال، ونهض أبو ثابت من تلمسان أوّل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة وبعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته، ولحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأوّل، فانكشفت جموع العرب وانهزموا، ولحق الناصر بالزاب فنزل على أبي مزني ببسكرة إلى أن أصحبه من رجالات سليم من أوصله إلى أبيه بتونس. ولحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى، واحتل عند السلطان أبي عنّان بمكانه من مجلسهم، فحصل على البغية ورجع العرب كلّهم إلى طاعة أبي ثابت وخدمته، واستراب بصغير بن عامر بن إبراهيم فتقبّض عليه وأشخصه معتقلا مع البريد إلى تلمسان، فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين. وقفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما، ثم نهض إلى وهران في جمادى من سنته، فحاصرها أياما، ثم افتتحها عنوة وعفا عن عليّ بن جانا [2] القائم بعد مهلك أخيه عبو وعلى من معه، وأطلق سبيلهم واستولى على ضواحي وهران وما إليها، ورجع إلى تلمسان وقد استحكمت العداوة بينه وبين مغراوة، وكان قد استجرّها ما قدّمناه من قعودهم عن نصره، فنهض إليهم في شوّال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مستنفرا.
[2] وفي نسخة ثانية: علي بن أجانا.

(7/157)


من سنته والتقوا في عدوة وادي زهير [1] فاقتتلوا مليا. ثم انكشفت مغراوة ولحقوا بمعاقلهم واستولى أبو ثابت على معسكرهم وملك مازونة، وبعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد. وكان على أثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس ونزوله بالجزائر وما دار بينه وبين أبي ثابت من الحروب ولحوقه بعد الهزيمة بالمغرب
كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان طال مقامه بتونس وحصار العرب إياه، واستدعاه أهل المغرب الأقصى وانتقض عليه أهل الجريد وبايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، فأجمع الرحلة إلى المغرب وركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة فعصفت به الريح وأدركه الغرق، فغرق أسطوله على ساحل بجاية ونجا بدمائه إلى بعض الجزائر هنالك، حتى لحقه أسطول من أساطيله، فنجا فيه إلى الجزائر وبها حمو بن يحيى بن العسري قائده وصنيعة أبيه، فنزل عليه.
وبادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش والثعالبة، فاستخدمهم وبثّ فيهم العطاء.
واتصل خبره بونزمار بن عريف وهو في أحياء سويد، فوفد عليه في مشيخة من قومه، ووفد معه نصر بن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريس من بني تيغرين، وعديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المرية من ولد عبد القوى، فأعطوه الطاعة واستحثوه للخروج معهم، فردّهم للحشد، فجمعوا من إليهم من قبائل العرب وزناتة. وبينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرا لهم في معاقلهم إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فعقد السلم معهم ورجع إلى قتال هؤلاء، فأخذ على منداس وخرج إلى السرسو قبلة وانشريس.
وأجفل أمامه ونزمار وجموع العرب الذين معه، ولحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي، فاتبع آثار العرب وشرّدهم.
ولحقت أحياء حصين بمعاقلهم من جبل تيطرى، ثم عطف على المرية ففتحها وعقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وادي رهيو.

(7/158)


عليها لعمر بن موسى الجلولي من صنائعهم. ثم نهض إلى حصين فاقتحم عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة وأعطوا أبناءهم رهنا عليها، فتجاوزهم إلى وطاء حمزة فدوّخها، واستخدم قبائلها من العرب والبربر، والسلطان أثناء ذلك مقيم بالجزائر. ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان وقد كان استراب بيحيى بن رحو وعسكره من بني مرين. وأنهم داخلوا السلطان أبا الحسن وبعث فيه إلى السلطان أبي عنّان، فأداله بعيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب فبعثه قائدا على الحصة المرينية، فتقبّض على يحيى بن رحو ولحقوا مع أبي ثابت بتلمسان. ثم أجاز إلى المغرب وأوعز السلطان أبو الحسن إلى ابنه الناصر مع أوليائه من زناتة والعرب فاستولى على المرية وقتل عثمان بن موسى الجلولي. ثم تقدّم إلى مليانة فملكها، وإلى تيمزوغت كذلك.
وجاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه، وقد اجتمعت إليه الجموع من زغبة ومن زناتة ومن عرب إفريقية سليم ورباح مثل: محمد بن طالب بن مهلهل، ورجال من عشيرته، وعمر بن عليّ بن أحمد الزواودي، وأخيه أبي دينار، ورجالات من قومهما. وزحف على هذه التعبية وابنه الناصر أمامه، فأجفل عليه بن راشد وقومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء، وطيّر الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه وحشوده، وزحفوا جميعا إلى السلطان أبي الحسن وقومه، فالتقى الجمعان بتيمغزين من شلف. وصابروا مليا، ثم انكشف السلطان أبو الحسن وقومه، وطعن ولده الناصر بعض فرسان مغراوة وهلك آخر يومه. وقتل محمد بن عليّ بن العربيّ قائد أساطيله وابن البواق والقبائلي كاتباه. واستبيح معسكره وما فيه من متاع وحرم، وخلص بناته إلى وانشريس، وبعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنّان بعد استيلائه على الجبل. وخلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد، بالصحراء فنجا به ونزمار بن عريف إلى سجلماسة كما يأتي ذكره في أخباره، ودوّخ أبو ثابت بلاد بني توجين وقفل إلى تلمسان والله تعالى أعلم.
الخبر عن حروبهم مع مغراوة واستيلاء أبي ثابت على بلادهم ثم على الجزائر ومقتل عليّ بن راشد بتنس على أثر ذلك
كان بين هذين الحيّين من عبد الواد ومعراوة فتن قديمة سائر أيامهم، قد ذكرنا الكثير

(7/159)


منها في أخبارهم. وكان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حتى قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة. ولما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد وجاءوه من إفريقية إلى أوطانهم مع بني عبد الواد، ولم يطيعوهم حينئذ أن يغلبوهم رجعوا حينئذ إلى توثيق العهد وتأكيد العقد [1] فأبرموه وقاموا على الموادعة والتظاهر على عدوهم، وعروق الفتنة تنبسط من كل منهم [2] . ولما جاء الناصر من إفريقية وزحف إليه أبو ثابت، قعد عنه علي بن راشد وقومه، فاعتدّها عليهم وأسرّها في نفسه. ثم اجتمع بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم ومضى إلى المغرب. فلما رأى أبو ثابت أنه قد كفى عدوّه الأكبر وفرغ إلى عدوّه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم. فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر أنّ بعض رجالات بني كمين [3] من مغراوة جاء إلى تلمسان فاغتالوه فحمى له أنفه وأجمع لحربهم.
وخرج من تلمسان فاتحة اثنتين وخمسين وسبعمائة وبعث في أحياء زغبة من بني عامر وسويد، فجاءوه بفارسهم وراجلهم وظعائنهم، وزحف إلى مغراوة فخافوا من لقائه، وتحصّنوا بالجبل المطل على تنس، فحاصرهم فيه أياما اتصلت فيها الحروب وتعدّدت الوقائع. ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد، ودوّخ أقطارها، وأطاعته مليانة والمرية وبرشك وشرشال. ثم تقدّم بجموعه إلى الجزائر فأحاط بها وفيها فلّ بني مرين وعبد الله بن السلطان أبي الحسن، تركه هناك صغيرا في كفالة علي بن سعيد ابن جانا، فغلبهم على البلد وأشخصهم في البحر إلى المغرب، وأطاعته الثعالبة ومليكش وقبائل حصين. وعقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي، ورجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأوّل بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها، فاشتدّ الحصار على مغراوة وأصاب مواشيهم العطش، فانحطت دفعة واحدة من الجبل تطلب المورد فأصابهم الدهش. ونجا ساعتئذ عليّ بن راشد إلى تنس، فأحاط به أبو ثابت أياما. ثم اقتحمها عليه غلابا منتصف شعبان من سنته، فاستعجل المنية وتحامل على نفسه فذبح نفسه، وافترقت مغراوة من بعده وصارت أوزاعا في القبائل
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: توثيق العقد وتأكيد العهد.
[2] وفي نسخة أخرى: تنبض في كل منهم.
[3] وفي نسخة أخرى: بني كمي.

(7/160)


وقفل أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان من حركة السلطان أبي عنّان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان على تلمسان وانقراض أمر بني عبد الواد ثانية
لما لحق السلطان أبو الحسن بالمغرب، وكان من شأنه مع ابنه أبي عنّان إلى أن هلك بجبل هنتاتة على ما نذكره في أخبارهم. فاستوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنّان وفرغ لعدوّه وسما لاسترجاع الممالك التي ابتزّها أبوه وانتزعها ممن توثّب عليه، وكان قد بعث إليه عليّ بن راشد من مكان امتناعه من جبل تنس يسأل منه الشفاعة، ونذر بذلك أبو سعيد وأخوه، فخرج أبو ثابت وحشد القبائل من زناتة والعرب منتصف ذي القعدة، ونزل بوادي شلف. واجتمع الناس إليه وواصلته هناك بيعة تدلس في ربيع من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. غلب عليها الموحدون جانا الخراساني [1] من صنائعه، وبلغه من مكانه ذلك زحف السلطان أبي عنّان فرجع إلى تلمسان، ثم خرج إلى المغرب. وجاء على أثره أخوه السلطان أبو سعيد في العساكر من زناتة ومعه بنو عامر من زغبة والفل من سويد، إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى وابنه من ولاية بني مرين، فزحفوا على هذه التعبية وزحف السلطان أبو عنّان في أمم المغرب من زناتة والعرب المعقل والمصامدة وسائر طبقات الجنود والحشد، وانتهوا جميعا إلى انكاد من بسيط وجدة، فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واجتمع بنو عبد الواد على صدمة العساكر وقت القائلة، وبعد ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم، فأعجلوهم عن ترتيب المصاف. وركب السلطان أبو الحسن لتلافي الأمر، فاجتمع إليه أوشاب من الناس وانفض [2] سائر المعسكر ثم زحف إليهم فيمن حضره وصدقوهم القتال، فاختلّ مصافهم ومنحوا أكتافهم وخاضوا بحر الظلماء.
واتبع بنو مرين آثارهم وتقبّض على أبي سعيد ليلتئذ مقيدا أسيرا إلى السلطان أبي
__________
[1] وفي نسخة أخرى: غلب عليها الموحدين جابر الخراساني.
[2] وفي نسخة بولاق المصرية: وانتقض.

(7/161)


عنّان، فأحضره بمشهد الملأ ووبخه. ثم نقل إلى محبسه وقتل لتاسعة من ليالي اعتقاله. وارتحل السلطان أبو عنّان إلى تلمسان، ونجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فلّ بني عبد الواد ومن خلص إليه منهم ذاهبا إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه، فبيّته زواوة في طريقه وألدّ عن أصحابه وأرجل عن فرسه [1] وذهب راجلا عاريا ومعه رفقاء من قومه منهم أبو زيّان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد، وأبو حمو وموسى ابن أخيهم يوسف ابن أخيه، ووزيرهم يحيى بن داود بن فكن [2] وكان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبيد الله حافد مولانا السلطان أبي بكر بأن يأخذ عليهم الطرق، ويذكي في طلبهم العيون، فعثر عليهم بساحة البلد وتقبّض على الأمير أبي ثابت الزعيم وابن أخيه محمد بن أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود وأدخلوا إلى بجاية. ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنّان، واقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره من ظاهر المرية [3] ، فأكرم وفادته وشكر صنيعه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود. وحمل يومئذ أبو ثابت ووزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحمل، فكان شأنهما عجبا. ثم سيقا ثاني يومهما الى مصرعهما بصحراء البلد، فقتلا قعصا بالرماح وانقرض ملك آل زيّان، وذهب ما أعاده لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان إلى أن كانت لهم الكرّة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتولّي لهذا العهد على ما سنذكره ونستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة السلطان أبى حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان في الكرّة الثالثة لقومه وشرح ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد
كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخيه السلطان أبي سعيد بتلمسان هو
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: فبيتته زواوة في طريقه، وأبعد عن صحبه وأرجل عن فرسه.
[2] وفي نسخة ثانية: مكن.
[3] وفي نسخة ثانية: المدية.

(7/162)


أخوه [1] أبو حمو موسى، وكان متكاسلا عن طلب الظهور، متجافيا عن التهالك في طلب العزّ جانحا إلى السكون ومذاهب أهل الخير، حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين، وتغلّب السلطان أبو عنان عليهم وابتزّهم ما كان بيدهم من الملك، وخلص ابنه أبو حمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق، وقذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقرّ به. ولما تقبّض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمو من بينهم ونبت عنه العيون، فنجا إلى تونس ونزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين، فأكرم نزله وأحلّه بمكان أعياص الملك من مجلس سلطانه، ووفر جرايته، ونظم معه آخرين من فل قومه، وأوعز السلطان أبو عنان إليه بإزعاجهم عن قرارهم في دولته، فحمى لها أنفه وأبى عن الهضيمة لسلطانه، فأغرى ذلك أبا عنّان بمطالبته، وكانت حركته إلى بلاد إفريقية ومنابذة العرب من رياح وسليم لعهده ونقضهم لطاعته كما نستوفي أخباره.
ولما كانت سنة تسع وخمسين وسبعمائة قبل مهلكه اجتمع أمر الزواودة من رياح إلى الحاجب أبي محمد بن تافراكين، ورغّبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالعرب من زغبة، وأنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان، ويجعل السلطان أبي عنّا شغلا عنهم. وسألوه أن يجهّز عليه بعض آلة السلطان. ووافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن، وكان يومئذ في أحياء يعقوب بن عليّ وجواره، فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه ودفعوه إلى مصاحبة صغير وقومه من بني عامر، وارتحل معهم من الزواودة عثمان بن سبّاع ومن أحلافهم بنو سعيد دعّار بن عيسى بن رحاب وقومه ونهضوا بجموعهم يريدون تلمسان وأخذوا على القفر ولقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنّان فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم، ورجع عنهم صولة بن يعقوب. وأغذّ السير إلى تلمسان وبها الكتائب المجمهرة من بني مرين، واتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن بن عمر القائم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، والمتغلّب على ولده السعيد من بعده، فجهّز المدد إلى تلمسان من الحامية والأموال، ونهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من المغرب في قومهم من سويد ومن إليهم من العرب لموافقة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هو وولده أبو حمو.

(7/163)


السلطان أبي حمو وأشياعه، فانفضّ جمعهم وغلبوا على تلك المواطن واحتل السلطان أبو حمو وجموعه بساحة تلمسان، وأناخوا ركابهم عليها، ونازلوها ثلاثا، ثم اقتحموها في صبيحة الرابع، وخرج ابن السلطان أبي عنان الّذي كان أميرا عليها في لمّة من قومه، فنزل على صغير بن عامر أمير القوم، فأحسن تجلّته وأصحبه من عشيرته إلى حضرة أخيه [1] ، ودخل السلطان أبو حمو تلمسان لثمان خلون من الربيع الأوّل سنة ستين وسبعمائة واحتلّ منها بقصر ملكه، واقتعد أريكته، وبويع بيعة الخلافة، ورجع إلى النظر في تمهيد قواعد ملكه وإخراج بني مرين من أمصار مملكته. والله أعلم.
(الخبر عن إجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب ثم عوده إليها)
كان القائم بأمر المغرب بعد السلطان أبي عنّان وزيره الحسن بن عمر كافل ابنه السعيد الّذي أخذ له البيعة على الناس، فاستبدّ عليه وملك أمره، وجرى على سياسة السلطان الهالك واقتفى أثره في الممالك الدانية والقاصية في الحماية والنظر لهم وعليهم. ولما اتصل به خبر تلمسان وتغلّب أبي حمو عليها قام في ركائبه وشاور الملأ في النهوض. إليه، فأشاروا عليه بالقعود وتسريح الجنود والعساكر، فسرّح لها ابن عمّه مسعود بن رحّو بن علي بن عيسى بن ماساي بن فودود [2] وحكمه في اختيار الرجال واستجادة السلاح وبذل الأموال واتخاذ الآلة، فزحف إلى تلمسان واتصل الخبر بالسلطان أبي حمّو وأشياعه من بني عامر، فأفرج عنها ولحق بالصحراء. ودخل الوزير مسعود بن رحّو تلمسان وخالفه السلطان أبي حمو إلى المغرب، فنزل بسيط أنكاد. وسرّح إليهم الوزير مسعود بن رحّو ابن عمه عامر بن عبد بن ماساي في عسكر من كتائبه ووجوه قومه، فأوقع بهم العرب وأبو حمّو ومن معهم واستباحوهم.
وطار الخبر إلى تلمسان واختلفت أهواء من كان بها من بني مرين، وبدا ما كان في قلوبهم من المرض لتغلّب الحسن بن عمر على سلطانهم، ودولتهم فتحيّزوا زرافات
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبيه.
[2] وفي نسخة ثانية: فردود.

(7/164)


لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق. وفطن الوزير مسعود بن رحّو لما دبّروه، وكان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها وبايع لمنصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلّة. وارتحل به وبقومه من بني مرين إلى المغرب، وتجافى عن تلمسان وشأنها واعترضه عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب، فأوقع بهم بنو مرين وصمّموا لصليهم، ورجع السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، واستقرّ بحضرته ودار ملكه، ولحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره وأسام إليه فاشتدّ به أزره وغلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك، والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة ونزوله من ايالة بني مرين إلى أبي حمو وتقليده إياه الوزارة وذكر أوليته ومصاير أموره
كان عبد الله بن مسلم من وجوه بني زردال من بني بادين إخوة بني عبد الواد وتوجين ومصاب، إلا أن بني زردال اندرجوا في بني عبد الواد لقلّتهم واختلطوا بنسبهم، ونشأ عبد الله بن مسلم في كفالة موسى بن علي لعهد السلطان أبي تاشفين مشهورا بالبسالة والإقدام، طار له بها ذكر وحسن بلاؤه في حصار تلمسان. ولما تغلّب السلطان أبو الحسن علي بني عبد الواد وابتزهم ملكهم استخدمهم، وكان ينتقي أولي الشجاعة والإقدام منهم، فيرمي بهم ثغور المغرب، ولما اعترض بنو عبد الواد ومرّ به عبد الله هذا ذكر له شأنه ونعت ببأسه، فبعثه إلى درعة واستوصى عامله به، فكان له عنه غناء في مواقفه مع خوارج العرب وبلاء حسن، جذب ذلك بضبعه، ورقى عند السلطان منزلته، وعرّفه على قومه.
ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان ومرج أمر المغرب، وتوثّب أبو عنّان على الأمر، وبويع بتلمسان واستجمع حافده منصور بن أبي مالك عبد الواحد لمدافعته، وحشد حامية الثغور للقائه، وانفضّت جموعه بتازى وخلص إلى البلد الجديد ونازلة، وكان عبد الله بن مسلم في جملته. ولما نازلة السلطان أبو عنّان واتصلت الحرب بينهم أياما، كان له فيها ذكر. ولما رأى أنه أحيط بهم، سابق الناس إلى السلطان أبي عنّان فرأى سابقيته وقلّده عمل درعة، فاضطلع بها مدّة

(7/165)


خلافته وتأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل وصلة وعهد ضرب بهما في مواخاتهم بسهم. وكان السلطان أبو عنّان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه لحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة، أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه، فداخل ابن حميدي ووعده وبذل له فأجاب وأسلمه. وقاده عبد الله بن مسلم أسيرا إلى أخيه السلطان أبي عنّان فقتله. ولما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في منوي اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب من بعد مهلك السلطان أبي عنّان، وما كان أثره من الخطوب، وذلك آخر سنة ستين وسبعمائة خشيه ابن مسلم على نفسه، ففارق ولايته ومكان عمله وداخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه، ولحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال وعصبة من العشيرة وأولياء من العرب، فسرّ بمقدمه وقلّده لحينه وزارته وشدّ به أواخي سلطانه، وفوّض إليه تدبير ملكه، فاستقام أمره وجمع القلوب على طاعته وجاء بالمعقل من مواطنهم الغريبة، فأقبلوا عليه وعكفوا على خدمته. وأقطعهم مواطن تلمسان وآخى بينهم وبين زغبة، فعلا كعبه واستفحل أمره، واستقامت رياسته إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم على تلمسان ورجوعه الى المغرب بعد أن ولى عليها أبو زيّان حافد السلطان أبي تاشفين وما آل أمره
لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب ومحا أثر الخوارج على الدولة، سما إلى امتداد ظلّه إلى أقصى تخوم زناتة كما كان لأبيه وأخيه، وحرّكه إلى ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم إلى تلمسان بحيالة [1] عمله، فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان وعسكر بظاهر فاس منتصف إحدى وستين وسبعمائة وبعث في الحشود فتوافت ببابه واكتملت. ثم ارتحل إليها، وبلغ الخبر الى السلطان أبي حمو ووزيره عبد الله ابن مسلم فنادوا في العرب من زغبة والمعقل كافة فأجابوهم إلّا شرذمة قليلة من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجباية.

(7/166)


الأحلاف، وخرجوا بهم إلى الصحراء ونازل حللهم بعسكره. ولما دخل السلطان أبو سالم وبنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب فنازلوا وطاط وبلاد ملويّة وكرسف، وحطّموا زروعها وانتسفوا أقواتها وخرّبوا عمرانها. وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم، فأهمّه أمر المغرب وأجلاب المفسدين عليه. وكان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان ابن السلطان أبي تاشفين ويكنى بأبي زيّان، ويعرف بالفنز [1] ومعناه العظيم الرأس فدفعه للأمر وأعطاه الآلة وكتب له كتيبة من توجين ومغراوة كانوا في جملته، ودفع إليه أعطياتهم وأنزله بقصر أبيه بتلمسان وانكفأ راجعا إلى حضرته، فأجفلت العرب والسلطان أبو حمو أمامه وخالفوه إلى تلمسان فأجفل عنها أبو زيان وتحيّز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء ومليانة ووهران وأوليائهم من بني توجين وسويد من قبائل زغبة ودخل السلطان أبو حمو ووزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان، وكان مقير [2] بن عامر هلك في مذهبهم ذلك. ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة عرب المعقل وزغبة في أتباع أبي زيّان ونازلوه بجبل وانشريس فيمن معه إلى أن غلبوا عليه وانفضّ جمعه، ولحق بمكانه من إيالة بني مرين بفاس.
ورجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين، فافتتح كثيرها وغلب على مليانة والبطحاء. ثم نهض إلى وهران ونازلها أياما واقتحمها غلابا، واستلحم بها من بني مرين عددا. ثم غلب على المرية والجزائر، وأزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم. وبعث رسله إلى السلطان أبي سالم فعقد معه المهادنة [3] ووضعوا أوزار الحرب. ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعا لولد السلطان أبي الحسن واحدا بعد آخر كما نذكره عند ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه وما كان من أحواله
كان أبو زيّان هذا، وهو محمد ابن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: القبى وفي نسخة ثانية الفتى.
[2] وفي نسخة أخرى: صغير.
[3] وفي نسخة أخرى: السلم.

(7/167)


الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، لما تقبّض عليه مع عمه أبي ثابت ووزيرهم يحيى بن داود بجاية من أعمال الموحّدين، وسيقوا إلى السلطان أبي عنّان، فقتل أبا ثابت ووزيره واستبقى محمدا هذا وأودعه السجن سائر أيامه، حتى إذا هلك واستوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب وأهوال يأتي ذكرها، امتنّ عليه السلطان أبو سالم وأطلقه من الاعتقال ونظمه بمجلس ملكه في مراتب الأعياص وأعدّه لمزاحمة ابن عمه. وجرت بينه وبين السلطان أبي حمو سنة اثنتين وستين وسبعمائة بين يدي مهلكه نكراء بعد مرجعه من تلمسان، ومرجع أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده، تحقق السعي فيما نصبه له، فسما له أمل في أبي زيّان هذا أن يستأثر بملك أبيه، ورأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له، فأعطاه الآلة ونصبه للملك، وبعثه إلى وطن تلمسان، وأتى إلى تازى ولحقه هنالك الخبر بمهلك السلطان أبي سالم. ثم كانت فتن وأحداث نذكرها في محلّها وأجلب عبد الحليم ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس، واجتمع إليه بنو مرين ونازلوا البلد الجديد. ثم انفضّ جمعهم ولحق عبد الحليم بتازى كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ورجا من السلطان أبي حمّو المظاهرة على أمره فراسله في ذلك واشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيّان فاعتقله مرضاة له، ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكره بعد ونازلة في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم وأحيائهم فاستغفل أبو زيان ذات يوم الموكّلين به، ووثب على فرس قائم حذاءه وركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلّة أولاد حسين مستجيرا بهم، فأجاروه. ولحق ببني عامر على حين غفلة، وجفوة كانت بين السلطان أبي حمو وبين خالد بن عامر أميرهم ذهب لها مغاضبا، فأجلب به على تلمسان. وسرّح إليهم السلطان أبو حمو عسكرا فشرّدهم عن تلمسان. ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح، ففعل وأوصله إلى الزواودة فأقام فيهم. ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد وصاحب وطن حمزة وبني حسن وما إليه، ونصبه للأمر مشاقة [1] وعنادا للسلطان أبي حمو. ونهض إليه الوزير عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد وحشود العرب وزناتة فأيقن أبو الليل بالغلب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مشافهة.

(7/168)


وبذل له الوزير المال وشرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيّان ففعل، وانصرف إلى بجاية ونزل بها على المولى أبي إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل، ثم وقعت المراسلة بينه وبين السلطان أبي حمو وتمت المهادنة وانعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه، فارتحل إلى حضرة تونس. وتلقّاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين، قيوم دولة الحفصيّين لذلك العهد من المبرّة والترحيب وإسناء الجراية له، وترفيع المنزلة بما لم يعهد لمثله من الأعياص.
ثم لم تزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره ان شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم أبي زيّان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب الى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله
كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة من عهد عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنّان، فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوّهم من بني مرين مع طاغية [1] الدولة لبني عامر أقتالهم، فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام، وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسف في جوار بني مرين، مذ مهلك السلطان أبي عنّان، وكان مرموقا بعين التجلّة يرجعون إلى رأيه ويستمعون إلى قوله. وأهمه شأن إخوانه في موطنهم ومع أقتالهم بني عامر، فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها، وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرّح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه، ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو وأحمد بن رحّو بن غانم كبير أولاد حسن من المعقل بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم، فاغتنمها عمر بن عبد الله وخرج أبو زيّان محمد بن عثمان سنة خمس وستين وسبعمائة فنزل في حلل المعقل بملوية. ثم نهضوا به إلى وطن تلمسان وارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عمر أمير بني عامر فتقبّض عليه وأودعه المطبق [2] ، ثم سرّح وزيره عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صاغية.
[2] سجن تحت الأرض.

(7/169)


والعرب، فأحسن دفاعهم وانفضّت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق، وهو في اتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح، وصاروا في جوار الزواودة. ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الّذي عاود أهل العمران عامئذ من بعد ما أهلكهم سنة تسع وأربعين وسبعمائة قبلها، فانكفأ به ولده وعشيرته راجعين، وهلك في طريقه وأرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها. وخرج السلطان أبو حمو إلى مدافعة عدوّه وقد فتّ مهلك عبد الله في عضده. ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها، ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم الرعب وانفضوا، وأعجلهم الأمر عن أبنيتهم وأزوادهم، فتركوها وانفضّوا وتسلّل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان واضطرب أبو زيّان فسطاطه بمكان معسكره، وسابقه أحمد بن رحّو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك وكرّ إليه السلطان أبو حمّو فيمن معه من خاصّته، وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه وقطع رأسه. ولحق السلطان أبو حمو بحضرته وارتحل أبو زيان والعرب في اتباعه إلى أن نازلوه بتلمسان أياما. وحدثت المنافسة بين أهل المعقل وزغبة، واسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم، فاغتنمها أبو حمّو وأطلق أميرهم عامر بن خالد من محبسه، وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلنّ الناس عنه ما استطاع، وليرجعنّ بقومه عن طاعة أبي زيّان وليفرقنّ جموعه، فوفّى له بذلك العهد ونفس عليه المخنق وتفرّقت أحزابهم ورجع أبو زيّان إلى مكانه من إيالة بني مرين واستقام أمر السلطان أبي حمّو وصلحت دولته بعد الالتياث، إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب)
كان ونزمار بن عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو، وبعث الأعياص عليه واحدا بعد واحد، لما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدّمناه. وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب. وكان جاره محمد بن زكراز [1] كبير بني علي من بني ونكاسن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: زكدان.

(7/170)


الموطنين بجبل دبدو، وكانت أيديهما عليه واحدة فلما سكن غرّب الثوار عنه وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب، وانعقد سلمه معهم، رأى أن يعتور هذين الأميرين في ثغورهما، فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين وسبعمائة وانتهى إلى دبدو وكرسيف، وأجفل ونزمار وامتنع بمعاقل الجبال، فانتهب أبو حمّو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي. وقصد محمد بن زكراز أيضا في معقل دبدو فامتنع بحصنه الّذي اتخذه هناك، وعاج عليه أبو حمّو بركابه، وجاس خلال وطنه، وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده، وانكفأ راجعا إلى حضرته، وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته، وثقلت عليهم وطأته، وانعقدت بينهما بعد بدء المهادنة والسلم. فانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية، فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل ونكبته عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان أبي حمّو إلى بجاية ونكبته عليها)
كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله لما استولى عليها وعادت إليه العودة الثانية سنة خمس وستين وسبعمائة كما ذكرناه في أخباره، زحف إلى تدلس، فغلب عليها بني عبد الواد، وأنزل بها عامله وحاميته. ثم أظلم الجوّ بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس ابن عمّه الأمير أبي عبد الله لما جرّته بينهما المتاخمة في العمالات، فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس، وألحت عليها عسكر بني عبد الواد بالحصار. وأحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمّو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس، فتسلّمها أبو حمو وأنزل بها حاميته. وعقد معه السلم وأصهر إليه في ابنته فأجابه، وزفّها إليه فتلقّاها قبلة زواوة بآخر عملهم من حدود بجاية. وفرغ صاحب بجاية لشأنه، وكان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمّه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس، ويشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته.
وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دسّ إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد

(7/171)


بتلمسان بالإجلاب على السلطان أبي حمو. ووعدوه عن أنفسهم الجنوح معه، فصغى إليها واعتدّها وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية. ومرّ بقسنطينة فتجافى عن الدخول إليها، وتنكّر لصاحبها، وبلغ خبره السلطان أبا العبّاس صاحبها يومئذ فأجمع أمره على صدّه عن وجهه، وحبسه بقسنطينة واتصلت الفتنة بينه وبين ابن عمه صاحب بجاية، وكان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحدّ لهم بالعقاب الشديد، حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يبلغ سنتين في ملكه، فاستحكمت النفرة وساءت الملكة، وعضل الداء وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العبّاس باستنفاذهم من ملكة العسف والهلاك، بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم، فنهض إليها آخر سنة سبع وستين وسبعمائة وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه وعسكر بنامروا [1] الجبل المطل على تاكردت [2] وصبحه السلطان أبو العبّاس بمعسكره هنالك، فاستولى عليه وركّض هو فرسه ناجيا بنفسه. ومرّت الخيل [3] تعادي في أثره حتى أدركوه، فأحاطوا به وقتلوا قعصا بالرماح عفا الله عنه. وأجاز السلطان أبو العبّاس إلى البلد فدخلها منتصف يوم العشرين من شعبان، ولاذ الناس به من دهش الواقعة وتمسّكوا بدعوته، وآتوه طاعتهم، فانجلت القيامة واستقام الأمر، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره وسيّر من ذلك حشوده في ارتقاء ونهض يجرّ الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأت مخيماته [4] الجهات بساحتها، وجنح السلطان الى مبارزته، فتمهّد به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم وطير البريد الى قسنطينة، فأطلق أبا زيّان من الاعتقال وسوّغه الملابس والمراكب والآلة، وزحف به مولاه بشير في عسكر إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو واضطربوا محلهم بسفح جبل بني عبد الجبّار وشنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباحا ومساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه. وبدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها، وكان تقدّم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها، ووثق بأنّ ذلك يغنيه عن الاستعداد، فاستبق إليها وأغفل الحزم فيما دونها، فلما امتنعت عليه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بليزو.
[2] وفي نسخة ثانية: تاكررت.
[3] وفي نسخة ثانية: الجنود.
[4] وفي نسخة ثانية: وملأ بخيامه.

(7/172)


انطبق الجوّ على معسكره وفسدت السابلة على العير للميرة، واستجم الزبون في احياء معسكره بظهور العدوّ المساهم في الملك. وتفادت رجالات العرب من سوء المغبّة وسطوة السلطان، فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة، وكان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم، واضطرب الفساطيط مضايقة للأسوار، متسنمة وعرا من الجبل لم يرضه أهل الرأي. وخرج رجل الجبل على حين غفلة فجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف. وعاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا وانفضّ المعسكر بأجمعه. وحمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة فأجهضوه عنها فتركها، وانتهب مخلفه أجمع. وتصايح الناس بهم من كل حدب، وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم، وكظّت بزحامهم، وتواقعوا لجنوبهم، فهلك الكثير منهم وكانت من غرائب الواقعات، تحدث الناس بها زمانا وسيقت حظاياه إلى بجاية، واستأثر الأمير أبو زيان منهنّ بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي، ينسب إلى عبد المؤمن بن علي. وكان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في سبيل الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق، وكانت أعلق بقلبه من سواها، فخرجت في مغانم الأمير أبي زيّان. وتحرّج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك لحنث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه. وخلص السلطان أبو حمو من هوّة ذلك العصب بعد غصّة الريق، ونجا إلى الجزائر لا يكاد يردّ النفس من شناعة ذلك الهول. ثم خرج منها ولحق بتلمسان، واقتعد سرير ملكه واشتدّت شوكة أبي زيّان ابن عمّه، وتغلب على القاصية واجتمعت إليه العرب، وكثر تابعه. وزاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعا نذكر الآن أخبارها، إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حصين وتغلبه على المرية والجزائر ومليانة وما كان من الحروب معه)
لما انهزم السلطان أبو حمّو بساحة بجاية عشيّ يومه من أوائل ذي الحجة، خاتم سنة سبع وستين وسبعمائة قرع الأمير أبو زيّان طبوله واتبع أثره، وانتهى إلى بلاد حصين

(7/173)


من زغبة. وكانوا سائمين من الهضيمة والعسف إذا كانت الدول تجريهم مجرى الرعايا المعبّدة في المغرم، وتعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم ووراءهم لبغية الغزو فبايعوه على الموت الأحمر ووقفوا بمعتصم [1] من جبل تيطري إلى أن دهمتهم عساكر السلطان. ثم أجلبوا على المرية [2] وكان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمو لنظر وزرائه: عمران بن موسى بن يوسف، وموسى بن برغوث، ووادفل ابن عبو بن حمّاد، ونازلوهم أياما ثم غلبوهم على البلد. وملكها الأمير أبو زيان ومن على الوزراء ومشيخة بني عبد الواد وترك سبيلهم إلى سلطانهم، وسلك سبيلهم الثعالبة في التجافي عن ذلّ المغرم، فأعطوه يد الطاعة والانقياد للأمير أبي زيّان، وكانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمّال عليهم، فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمير الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان. ثم دعا أبو زيّان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه. واعتمل السلطان أبو حمو نظره في الحركة الحاسمة لدائهم [3] ، فبعث في العرب وبذل المال، وأقطع البلاد على أشطاط منهم في الطلب. وتحرّك إلى بلاد توجين ونزل قلعة بني سلامة سنة ثمان وستين وسبعمائة يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد. فلم يلبث عنه خالد بن عامر ولحق بأبي بكر بن عريف، واجتمعا على الخلاف عليه ونقض طاعته. وشنّوا الغارة على معسكره، فاضطرب وأجفلوا وانتهبت محلّاته وأثقاله، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض إلى مليانة فافتتحها، وبعث إلى رياح على حين صاغية [4] إليه من يعقوب بن علي بن أحمد وعثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الزواودة لما كان وقع بينهما وبين السلطان مولانا أبي العباس من النفرة، فاستنظره للحركة على الأمير أبي زيان وبعدها إلى بجاية.
وضمنوا له طاعة البدو من رياح، وبعثوا إليه رهنهم على ذلك فردّها وثوقا بهم، ونهض من تلمسان وقد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة. ولم يزل أولاد عريف بن يحيى وخالد بن عامر في أحيائهما منحرفين عنه بالصحراء. وصمّم إليهم فاجفلوا أمامه، وقصد المخالفين من حصين والأمير أبا زيّان إلى معتصمهم بجبل تيطري.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ووثقوا بمعتصمهم.
[2] المرية: مدينة كبيرة من بلاد الأندلس وليست هي المقصودة في بحثنا هذا والمقصود المدية وهي بلدة من بلاد توجين في المغرب الأوسط.
[3] وفي نسخة بولاق المصرية: لرأيهم.
[4] وفي نسخة ثانية: على حين طاعتهم إليه.

(7/174)


وأغذّ إليه السير يعقوب بن علي وعثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح حتى نزلوا بالقلعة حذاءهم. وبدر أولاد عريف وخالد بن عامر إلى الزواودة ليشرّدوهم عن البلاد قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم، فصبحوهم يوم الخميس أخريات ذي القعدة من سنة تسع وستين وسبعمائة ودارت بينهم حرب شديدة، وأجفلت الزواودة أوّلا، ثم كان الظهور لهم آخرا. وقتل في المعركة من زغبة عدد، ويئسوا من صدّهم عما جاءوا إليه، فانعطفوا إلى حصين والأمير أبي زيّان، وصعدوا إليهم بناجعتهم، وصاروا لهم مددا على السلطان أبي حمّو، وشنّوا الغارة على معسكره، فصمدوا نحوه وصدقوه القتال، فاختلّ مصافه، وانهزمت عساكره، ونجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء. وأجفل الزواودة إلى وطنهم، وتحيّز كافة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان، واتبع آثار المنهزمين، ونزل بسيرات. وخرج السلطان أبو حمو في قومه ومن بقي معه من بني عامر. وتقدّم خالد إلى مصادمته ففلّه السلطان وأجفل القوم من ورائه. ثم تلطّف في مراسلته وبذل المال له وأوسع له في الاشتراط فنزع إليه والتبس بخدمته، ورجع الأمير أبو زيّان إلى أوليائه من حصين متمسّكا بولاية أولاد عريف.
ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان، وضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه، وطال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان وحمله خالد بن عامر عدوّه على نكبته، فتقبّض عليه وأودعه السجن. واستحكمت نفرة أخيه أبي بكر، ونهض السلطان بقومه وكافة بني عامر إليه سنة سبعين وسبعمائة واستغلظ أمر أبي بكر فجمع الحرث بن أبي مالك ومن وراءهم من حصين، واعتصموا بالجبال من دراك وتيطري، ونزل السلطان بجموعه لعود بلاد الديالمة من الحرث، فانتسفها والتمعها وحطّم زروعها ونهب مداثرها. وامتنع عليه أبو بكر ومن معه من الحرث وحصين والأمير أبي زيان بينهم، فارتحل عنهم وعطف على بلاد أولاد عريف وقومهم من سويد فملأها عيثا، وخرّب قلعة ابن سلّامة لما كانت أحسن أوطانهم. ورجع عليهم إلى تلمسان وهو يرى ان كان قد شفا نفسه في أولاد عريف، وغلبهم على أوطانهم، ورجع عليهم منزلة عدوّهم، فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب وحركة بني مرين ما نذكره
.

(7/175)


(الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز على تلمسان واستيلائه عليها ونكبة أبي حمو وبني عامر بالدوس من بلاد الزاب وخروج أبي زيان من تيطري الى أحياء رياح)
لما تقبّض أبو حمو على محمد بن عريف وفرق شمل قومه سويد، وعاث في بلادهم أجمع، رأى أخيه الأكبر الصريخ بملك المغرب. فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد والديالم والعطاف حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب.
وسار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقرّه من قصر مرادة الّذي اختطّه بإرجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم لما كان ملاك أمرهم بيده، ومصادرهم عن آرائه خطّة ورثها عن أبيه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وابنه أبي عنان. فتقبّل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه، وتيمنوا برأيه واستأمنوا إلى نصيحته. فلمّا قدم عليه أخوه أبو بكر مستحفيا بملك المغرب، وأخبر باعتقال أخيه الآخر محمد، قدح عزائمه، وأوفد أخاه أبا بكر ومشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هنتاتة، وظفر بعامر بن محمد بن عليّ النازع إلى الشقاق في معتصمه، فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة وتكرمة واستصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم، ورغبوه في ملك تلمسان وما وراءها، فوافق صاغيته لذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو لقبوله كل من ينزع إليه من عربان المعقل أشياع الدولة وبدوها، وما كان بعث إليه في ذلك، وصرف عن استماعه، فاعتزم على الحركة إلى تلمسان، وألقى زمامه بيد ونزمار وعسكر بساحة فاس. وبعث الحاشدين في الثغور والنواحي من المغرب، فتواقف الحاشدون ببابه، وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة واتصل الخبر بالسلطان أبي حمو وكان معسكرا بالبطحاء، فانكفأ راجعا إلى تلمسان، وبعث في أوليائه عبيد الله والأحلاف من عرب المعقل، فصموا عن إجابته ونزعوا إلى ملك المغرب، فأجمع رأيه إلى التحيّز إلى بني عامر وأجفل غرّة المحرم سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة واحتلّ السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها.
وأشار ونزمار بن عريف بتسريح العساكر في اتباعه، فسرّح السلطان وزيره أبا بكر بن

(7/176)


غازي بن السكّاء [1] حتى انتهى إلى البطحاء. ثم لحق به هنالك ونزمار وقد حشد العرب كافة، وأغذّ السير في اتباع السلطان أبي حمو وبني عامر، وكانوا قد أبعدوا المذهب، ونزلوا على الزواودة وسرّح إليهم السلطان يومئذ عبد العزيز يحملهم على طاعته، والعدول بهم عن صحابة بني عامر وسلطانهم. وسرّح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته، ونبذهم عهده، وانتهيا جميعا إلى أبي زيّان مقدمة أوليائه [2] ، ولحق بأولاد يحيى بن عليّ ابن سبّاع من الزواودة، وانتهيت أنا إليهم فخفظت عليهم الشأن في جواره لما كانت مرضاة السلطان، وحذّرتهم شأن أبي حمو وبني عامر، وأوفدت مشيختهم على ونزمار والوزير أبي بكر بن غازي فدلّوهما على طريقه، فأغذّوا السير وبيّتوهم بمنزلهم على الدوس آخر عمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم، وانتهبوا جميع معسكر السلطان أبي حمو بأموالهم وأمتعته وظهره. ولحق فلّهم بمصاب ورجعت العساكر من هنالك، فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء قبلة جبل راشد التي منها ربا ولون ساعون [3] إليها فأنتهبوها وخرّبوها وعاثوا فيها وانكفؤا راجعين إلى تلمسان. وفرّق السلطان عمّاله في بلاد المغرب الأوسط من وهران ومليانة والجزائر والمرية وجبل وانشريس. واستوسق به ملكه ونزع عنه عدوّه، ولم يبق به يومئذ إلّا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد عليّ بن راشد، سخط خالد في الديوان ولحق بجبل بني سعيد. واعتصم به فجهّز السلطان الكتائب لحصاره، وسرّح وزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة. واحتقر شأنه. وأوفدت أنا عليه يومئذ مشيخة الزواودة، فأوسعهم حباء وكرامة، وصدروا مملوءة حقائبهم خالصة قلوبهم منطلقة بالشكر ألسنتهم. واستمرّ الحال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بن الكاس.
[2] وفي نسخة ثانية: ففارقه أولياؤه.
[3] وفي نسخة أخرى: التي منها ربا ولون سمعون، وفي نسخة ثانية: التي منها ريا بن سمعون.
ابن خلدون م 12 ج 7

(7/177)


(الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطري واجلاب أبي حمو على تلمسان ثم انهزامهما وتشريدهما على سائر النواحي)
كان بنو عامر من زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد من أوّل أمرهم، وخلص سويد لبني مرين كما قدّمناه، فكان من شأن عريف وبنيه عند السلطان أبي الحسن وبنيه ما هو معروف. فلما استبيحت أحياؤهم بالدوس مع أبي حمو، ذهبوا في القفر إشفاقا ويأسا من قبول بني مرين عليهم لما كان ونزمار بن عريف وإخوانه من الدولة، فحدبوا على سلطانهم أبي حمو يتقلّبون معه في القفار. ثم نزع إليهم رحّو بن منصور فيمن أطاعه من قومه عبيد الله من المعقل، وأجلبوا على وجدة فاضطرم النفاق على الدولة نارا، وخشي حصين مغبة أمرهم من السلطان بما تسموا به من الشقاق والعناد، فمدّوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيّان، وأوفد مشيختهم لاستدعائه من حلّة أولاد يحيى بن علي فاحتلّ بينهم وأجلبوا به على المرية فملكوا نواحيها، وامتنع عليهم مصرها، واستمرّ الحال على ذلك واضطرب المغرب الأوسط على السلطان، وانتقضت به طاعته وسرّح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين، فأجمع أبو حمو وبنو عامر على قصده بتلمسان حتى إذا احتلوا قريبا منها دسّ السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر وزغبة في المال والحظ منه، وكان أبو حمّو قد آسفه بمخالطة بعض عشيرة وتعقّب رأيه برأي من لم يسم إلى خطته. ولم يرتض كفاءته فجنح إلى ملك المغرب، ونزع يده من عهد أبي حمّو، وسرّح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد فأوقع بأبي حمّو ومن كان من العرب عبيد الله وبني عامر، وانتهب معسكره وأمواله، واحتقبت حرمه وحظاياه إلى قصر السلطان، وتقبّض على مولاه عطيّة، فمنّ عليه السلطان وأصاره في حاشيته ووزرائه، وأصفقت زغبة على خدمة ملك المغرب وافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة، وتغلّب وزيره أبو بكر بن غازي على جبل بني سعيد، وتقبّض على حمزة بن علي بن راشد في لمّة من أصحابه، فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدّة السلطان، وصلب أشلاءهم بساحة مليانة معظم الفتح واكتمل الظهور. وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى

(7/178)


حصين، فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة في دعايته بأن احتشد أولياءه من الزواودة ورياح، والتقى الوزير والعساكر على حصن تيطري، فنازلناه أشهرا. ثم انفضّ جمعهم وفرّوا من حصنهم، وتمزّقوا كل ممزق، وذهب أبو زيّان على وجهه، فلحق ببلد واركلا قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر، فأجاروه وأكرموا نزله. وضرب الوزير على قبائل حصين والثعالبة المغارم الثقيلة، فأعطوها عن يد وجهضهم باقتضائها، ودوّخ قاصية الثغور ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز السلطان ظاهر اليد. وقعد له السلطان بمجلسه يوم وصوله قعودا فخما، وصل فيه إليه، وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل فقسّم فيهم برّه وعنايته وقبوله على شاكلته. واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهنا على الطاعة، وسرّحهم لغزو أبي حمّو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك، وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره، وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين وسبعمائة لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره. وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دراجا حماسيا، ولقّبوه بالسعيد وجعلوا أمره إلى الوزير أبي بكر بن غازي، فملك أمرهم عليهم واستمرّت حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن عود السلطان أبي حمو الأخير الى تلمسان الكرّة الثالثة لبني عبد الواد في الملك)
لما هلك السلطان عبد العزيز ورجع بنو مرين إلى المغرب، نصبوا من أعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمو من بعدهم عن تلمسان، إبراهيم بن السلطان أبي تاشفين، كان ناشئا بدولتهم مذ هلك [1] أبوه. وتسلّل من جملتهم عطيّة بن موسى مولى السلطان أبي حمو وخالفهم إلى البلد غداة رحيلهم، فقام بدعوة مولاه ودافع إبراهيم بن تاشفين عن مرامه، وبلغ الخبر أولياء السلطان أبي حمو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله، فطيّروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس. وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه، فأغذّ السير
__________
[1] وفي نسخة ثانية: منذ مهلك أبيه.

(7/179)


من مطرح اغترابه. وسابقه ابنه ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين مع ظهيرهم عبد الله بن صغير فدخلوا البلد، وتلاهم السلطان لرابعة دخولهم، وعاود سلطانه واقتعد أريكته، وكانت إحدى الغرائب وتقبّض ساعتئذ على وزرائه، اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فيما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه، فأودعهم السجن وذبحهم ليومهم حنقا عليهم. واستحكم لها نفرة خالد وعشيرته، وحصلت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بني عامر إيّاه، وإقبال السلطان عبد العزيز عليه، ووثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك المغرب عليه [1] . ورجع إلى تمهيد وطنه، وكان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من اقتال مغراوة، ثم بني منديل علي بن هارون بن ثابت بن منديل وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو، ونقضا لأطراف ملكه. وأجلب أبو زيان ابن عمّه على بلاد حصين، فكان من خبره معهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها)
كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد، لمّا هلك السلطان عبد العزيز وبلغه الخبر بمنجاته من واركلا، نهض منها إلى التلول، واسفّ إلى الناحية التي كان منتزيا بها مساهما لأبي حمو فيها، فاقتطعت لدعوته كما كانت، ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته، فنهض السلطان أبو حمو لتمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه، ودفع الخوارج عن ممالكه، وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد ابنا عريف بن يحيى، دسّ إليهما بذلك كبيرهما ونزمار، وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته، فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهل مركب. ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيرة، فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز. وابتدأ السلطان بما يليه، فأزعج بمظاهرتهما عليّ بن هارون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين وسبعمائة بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تسكين عادية ملوك العرب عنه.

(7/180)


هارون. وخلص إلى بجاية، فركب منها السفن إلى المغرب، ثم تخطّى السلطان أبو حمو إلى ما وراء شلف. وسفر محمد بن عريف بينه وبين ابن عمه بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة بما بذل لهم من الأموال، وبما سئموا من طول الفتنة، فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رياح على أتاوة وتحمل اليه، فقبل ووضع أوزار الحرب، وفارق مكان ثورته، وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود، واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلّب على بسيط متيجة وبلد الجزائر، بعد أن كان خبّ في الفتنة، وأوضع فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله. وقلّد السلطان أبناءه ثغور أعماله. فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده، وابنه أبا زيّان بالمدية، وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوّخ قاصيته، وثقف أطراف عمله، وأصلح قلوب أوليائه واستألف شيعة عدوه، فكان فتحا لا كفاء له من بعد ما خلع من ربقة الملك، ونزع من شرع [1] السلطان وانتبذ من قومه وممالكه إلى قاصية الأرض، ونزل في جوار من لا ينفذ أمره ولا يقوم بطاعته. والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
(الخبر عن اجلاب عبد الله بن صغير وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر الى الطاعة)
كانت خالد بن عامر وابن أخيه عبد الله بن صغير وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم قد لحقوا بالمغرب صرخى ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمو من الفعلة التي فعل خالد معه. ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان، فخاض القفر بمن معه من قومه ولحق بوطن زغبة، وأجلب على جبل راشد وبه العمّور أحلاف سويد من بني هلال.
فاعترضتهم سويد ودارت بينهم حرب شديدة، كان الظهور فيها لسويد عليهم. وفي خلال ذلك فسد ما بين السلطان وبين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب جبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من لبوس.

(7/181)


وانشريس يوسف بن عمر [1] بن عثمان، أراده السلطان على النزول عن عمله، فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما، ووصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة. ودعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه وأوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح، فوصلوه معهم ونصّبوه للأمر، وتحيّز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد. ونهض السلطان من تلمسان سنة سبع وسبعين وسبعمائة فيمن معه من قبائل بني عبد الواد وعرب المعقل وزغبة، ودس إلى أولياء أبي زيّان يرغّبهم في المواعد.
وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه ففاء إلى الطاعة والمخالصة. ورجع أبو زيّان إلى مكانه من حلل الزواودة، وأغذّ السلطان السير إلى حضرته فتملّى أريكته، وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب والحرب التي دارت بينه وبين سويد وأبي تاشفين هلك فيها عبد الله بن صغير وإخوانه)
لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير، قفل من المغرب يئسا من مظاهرة بني مرين فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من افتراق الأمر كما ذكرناه قبل. ووصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب، وتظاهر الحيّان على العيث في بلاد أبي حمّو. واجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب، فأجلبوا على الأطراف وشنّوا الغارة في البلاد، وجمع أولاد عريف لحربهم قومهم من سويد وأحلافهم من العطاف، وبعثوا بالصريخ إلى السلطان فسيّر لحرب عدوّه وعدوّهم ابنه أبا تاشفين وليّ عهده في قومه، وبرز لذلك في العساكر والجنود. ولما انتهى إلى بلاد هوّارة، واضطرب عسكره بها، أعجله صريخ أوليائه عن مناخ الركاب، فاستعجل الرحلة ولحق بأوليائه أولاد عريف ومن معهم من أشياع الدولة من زغبة.
وأغذّوا السير إلى واد هناك شرقي القلعة، فتلاقى [2] الجمعان وتواقفوا للقاء سائر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يوسف بن عاجز.
[2] وفي نسخة ثانية: فتراءى.

(7/182)


يومهم. واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات، وأصبحوا على التعبية. وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب، فأعجبهم مناشبة القوم، وتزاحفت الصفوف، وأعلم الكماة، وكشفت الحرب عن ساقها، وحمي الوطيس، وهبت الريح المبشرة، فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله، ودارت رحى الحرب وصمدت إليها كتائب العرب، فبرئ [1] فيها الأبطال منهم وانكشفوا، وأجلت المعركة عن عبد الله ابن صغير صريعا، فأمر أبو تاشفين فاحتزّ رأسه وطيّر به البريد إلى أبيه. ثم عثرت المواكب بأخيه ملّوك بن صغير مع العبّاس ابن عمه موسى بن عامر، ومحمد بن زيّان من وجوه عشيرتهم متواقعين بجنودهم متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردي، فوطأتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المراكب. وأطلقت العساكر أعنّتها في اتباع القوم فاستاقوا نعمهم وأموالهم. وكثرت يومئذ الأنفال، وغشيهم الليل فتستّروا بجناحه. ولحقهم فلّهم بجبل راشد، وأطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره وأملاه السرور بما صنع الله على يده، وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه. وطار له بها ذكر على الأيام، ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال والجوانح بالسرور والأيام بالذكر عنه وعن قومه، ومضى خالد لوجهه في فلّ من قومه. ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد بن عامر على الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان الى بلاد الجريد)
كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلّبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش، وكانت الرئاسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل. ولما كانت فتنة أبي زيّان بعد نكبة أبي حمّو على بجاية، وهبّت ريح العرب واستغلظ أمرهم، وكان سالم هذا أوّل من غمس يده في تلك الفتنة، ومكر بعليّ بن غالب من بيوتات الجزائر، كان مغربا عنها منذ تغلّب بني مرين على المغرب الأوسط
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتردى.

(7/183)


أيام بني عثمان [1] ولحق بها عند ما أظلم الجوّ بالفتنة، واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو، فأظهر بها الاستبداد واجتمع بها إليه الأوشاب والطغام. ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر، فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة، وحذّرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمّو، فاستشاطوا نفرة وثاروا به، حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به خلّصه من أيديهم وأخرجه إلى حيّه. وأبلغه [2] هنالك. وحوّل دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيّان تحت استبداده، حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان كما قدّمناه، أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين مهلكه ورجوع أبي حمّو إلى تلمسان. وأقبل جيش أبي زيّان إلى تيطري، فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر، خشية على نفسه من السلطان أبي حمو، لما كان يعتمد عليه في الادالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمّه. ولما كان من خروج أبي زيّان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدّمناه. واقتضى سالم عهده من السلطان، وولي سالم على الجزائر، أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه، وأوعز السلطان إلى سائر عمّاله باستيفاء جبايتها، فاستراب وبقي في أمره على المداهنة.
وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر، فتربّص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له، فيشغل السلطان عنه. ثم بدا له ما لم يحتسب، وكان الغلب للسلطان ولأوليائه. وكان قد حدثت بينه وبين بني عريف عداوة خشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه، فبادر إلى الانتقاض على أبي حمو، واستقدم الأمير أبو زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر من المخالفين معه من العرب، فوصلوا إليه أوّل سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وعقد بينهم حلفا مؤكّدا، وأقام الدعوة للأمير أبي زيّان بالجزائر. ثم زحفوا إلى حصار مليانة وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم، ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها، وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير، ونهض إليهم السلطان أبو حمّو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب، فامتنعوا بجبال حصين وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها، وانفضّت الناجعة عنهم من الديالم والعطاف وبني عامر، فلحقوا بالقفر.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أيام أبي عنّان.
[2] وفي نسخة ثانية: واتلفه هنالك.

(7/184)


ورأى سالم أصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ بالطاعة، وحمل عليها أصحابه. وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا. وارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب ريغ، ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد، ثم إلى توزر، فنزل على مقدّمها يحيى بن يملول، فأكرم نزله وأوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر.
ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان وفي نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن، حتى توسّط فصل الشتاء، وأبعدت العرب في مشاتيها، فنهض من تلمسان في جيوش زناتة، وأغذّ السير فصبح بحصن متيجة بالغارة الشعواء. وأجفلت الثعالبة فلحقوا برءوس الجبال وامتنع سالم بجبل بني خليل. وبعثوا ابنه وأولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها وحاصروه أياما. ثم غلبوه على مكامنه. فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة. وخلّف أهله ومتاعه، وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة، وابتهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة، وبعث هو أخاه ثانيا إلى السلطان بانتقاضه العهد [1] ، ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فأخفر عهده وذمّة ابنه، وتقبّض عليه صبيحة ليلته. وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها، وأوفد عليه مشيختها فتقبّض عليهم، وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن مرعوت [2] ، ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر، ثم أخرج سالم بن إبراهيم من محبسه إلى خارج البلد، وقتل قعصا بالرماح، ونصب شلوه وأصبح مثلا للآخرين، وللَّه البقاء.
وعهد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها، ولابنه أبي زيان على وهران.
وراسله ابن يملول صاحب توزر، وصهره ابن قرى صاحب بسكرة وأولياؤهما من الكعوب والزواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العبّاس، وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمّو يضمنون له مسالمة أبي زيّان على أن يوفي لهم بما اشترط له من المال، وعلى أن يشبّ نار الفتنة من قبله على بلاد الموحّدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجزه [3] وضعف الدولة عنه. فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك.
__________
[1] وفي نسخة ثانية العبارة مختلفة تماما: وبعث هو أخاه ثابتا الى السلطان، فاقتضى له العهد.
[2] وفي نسخة ثانية: موسى بن برغوث وقد مرّ معنا من قبل في غير هذا المكان.
[3] الضمير هنا يعود الى أبي حمّو.

(7/185)


وما زال يراجعهم ويراجعونه بالمقاربة والوعد إلى أن أحيط بابن يملول، واستولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة وهلك بها لسنة من خروجه آخر سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وبقي ابن مزني من بعده متعلّلا بتلك الأماني الكاذبة إلى أن ظهر أمره وتبيّن عجزه، فراجع طاعة السلطان أبي العباس واستقام على الموادعة، ولحق الأمير أبو زيّان بحضرة السلطان بتونس فنزل بها أكرم نزل مؤمّلا منه المظاهرة على عدوّه.
والحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مرارا من تغلّب العرب على الضواحي والكثير من الأمصار. وتقلّص ظلّ الدولة عن القاصية وارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر، وتضاؤل قدرتها على قدرتهم، وإعطاء اليد في مغالبتهم ببذل رغائب الأموال. وإقطاع البلاد والنزول عن الكثير من الأمصار، والقنوع بالتغريب بينهم وإغراء بعضهم ببعض والله وليّ الأمور.
(قسمة السلطان للأعمال بين ولده وما حدث بينهم من التنافس)
كان لهذا السلطان أبي حمّو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن. ثم بعده أربعة لأم واحدة، كان تزوّجها بميلة من أعمال قسنطينة أيام جولته في بلاد الموحدين، كبيرهم المنتصر. ثم أبو زيان محمد، عمر ويلقب عميرا، ثم بعد ولد كثيرون أبناء علات. وكان أبو تاشفين ولي عهده، وقد رفعه على الباقين وأشركه في رأيه [1] ، وأوجب له الحق على وزراء دولته، فكان لذلك رديفه في ملكه ومظهر سلطانه. وكان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه، ويقسّم لهم من ترشيحه والنجاء في خلوته، فتنغّص أبو تاشفين منهم، فلما استفحل أمر السلطان وانمحت من دولته آثار الخوارج [2] ، أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده وترشيحهم للإمارة والبعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين، أن يصيبهم بمكروه عند إيناس الغيرة منهم، فولّى المنتصر كبيرهم على مليانة وأعمالها، وأنفذه إليها ومعه أخوه عمر الأصغر في كفالته، وولّى أخاهما الأوسط أبا زيّان على المرية وما إليها من بلاد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أشركه في أمره.
[2] وفي نسخة ثانية: اثار الخلاف.

(7/186)


حصين. وولّى ابنه يوسف ابن الزابية على تدلس وما إليها من آخر أعماله. واستقرّ أمرهم على ذلك. ثم كان من انتقاض سالم الثعلبي بالجزائر ما قدّمناه، فنمي إلى السلطان أنّ ابنه أبا زيّان داخله في الخلاف، فلمّا فرغ من أمر سالم كما مرّ وطرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد، أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المرية إلى ولاية وهران وأعمالها بعدا له عن العرب المجلبين في الفتن، وأنزل معه بعض وزرائه عينا عليه، وأقام واليا عليها والله أعلم.
(وثبة أبي تاشفين بيحيى بن خلدون كاتب أبيه)
كان أوّل شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته، أن السلطان لمّا ولّى ابنه أبا زيّان على وهران وأعمالها طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهرا، وعهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك، فأقام الكاتب يطاوله. وكان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف، صحبهم أيام الاغتراب بتيكورارين أيام ملك تلمسان عليهم السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن كما مرّ. وخلاله وجه السلطان أبي حمو وابنه، فتقرّب إليه بخدمته ورعاها له. فلما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز قدّمه وآثره واستخلصه، فكان من أخلص بطانته. وكان أبو تاشفين أيضا استخلصه وجعله عينا على أبيه.
وكان هو أيضا يغص بابن خلدون كاتب السلطان، ويغار من تقدّمه عنده ويغري به أبا تاشفين جهده، فدسّ إليه أثناء هذه المطاولة أنّ الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيّان أخيه وإيثارا له عليه، فاستشاط له أبو تاشفين، وترصّد له منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح في احدى ليالي رمضان سنة ثمانين وسبعمائة في رهط من الأوغاد، كان يطوف بهم في سكك المدينة، ويطرق معهم بيوت أهل السرّ والحشمة في سبيل الفساد، فعرضوا له وطعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتا. وغدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه وبثّ الطلب عن أولئك الرهط في جوانب المدينة. ثم بلغه أنّ ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة، فأغضى وطوى عليها جوانحه، وأقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده. وبعث ابنه أبا زيّان

(7/187)


على بلاد حصين والمرية كما كان. ثم طلب أبو تاشفين من أبيه أن تكون الجزائر خالصة له فأقطعه إيّاها، وأنزل بها من إخوته يوسف ابن الزابية بما كان شيعة له من بينهم وفيئة في صحبته ومخالصته، فأقام واليا عليها، والله أعلم.
(حركة أبي حمو على ثغور المغرب الأوسط ودخول ابنه أبي تاشفين الى جهات مكناسة)
كان أبو العبّاس بن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد نهض في عساكره سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة [1] الى مراكش، وبها الأمير عبد الرحمن بن يفلوس ابن السلطان أبي عليّ مقاسمة في نسبه وملكه. وكان قد سوّغ له مراكش وأعمالها عند ما أجلب معه على البلد الجريد سنة خمس وسبعين وسبعمائة كما في أخبارهم. واستقرّ الأمير عبد الرحمن بمراكش. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أحمد، ونهض إليه من فاس فحاصره أوّلا وثانيا يفرج فيهما عنه. ثم نهض إليه سنة أربع وثمانين وسبعمائة فحاصره وأخذ بمخنقه وأطال حصاره. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضا على السلطان وقد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه، فهزموه وخرّبوا بيوته وبساتينه بسجلماسة ورجعوا. وأقام هو بصحرائه منتقضا. فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش، بعث أبا العشائر ابن عمّه منصور بن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم، ليجلب به على فاس وبلاد المغرب، فيأخذ بحجزة السلطان عنه وينفس من مخنقه، فسار يوسف بن على مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمّو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب، بما له من العساكر والأبهة، فأنجده على ذلك. وقدم ابنه أبا تاشفين معهم، وخرج هو في أثرهم، فساروا إلى المغرب. ونزل يوسف بن علي بقومه قريبا من مكناسة، ومعه الأميران أبو العشائر وأبو تاشفين. وجاء أبو حمّو من خلفهم فحصر تازى سبعا، وخرّب قصر تازروت المعدّ هنالك لنزل السلطان.
وكان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمّال
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إحدى وثمانين.

(7/188)


دولته ووجوه قبيله، وكان هنالك عرب المنبأة [1] من المعقل قد أخذوا الميرة، فأهاب بهم ونزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد، وهو نازل بقصر مرادة من جوار [2] تازى، فاستألفهم لمدافعة أبي حمو وابنه. وخرج بهم علي بن مهدي. ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصف خمس وثمانين وسبعمائة فأجفل أبو تاشفين وأبو العشائر ومن معهما من العرب، واتبعهم علي بن مهدي بمن معه من المنباة. وأجفل أبو حمّو على تازى ومرّ بمرادة على قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان. وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر والعرب ولحق بأبيه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(نهوض السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب إلى تلمسان واستيلاؤه عليها واعتصام أبي حمو بجبل تاحجموت [3] )
لما استولى السلطان أبو العبّاس على مراكش كما قلناه، رجع إلى دار ملكه بفاس وقد آسفه السلطان أبو حمو باجلابه على وطنه هو وابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش، فأجمع الرحلة إلى تلمسان، وخرج في عساكره. وراجع يوسف بن علي الطاعة ورحل معه في جموعه. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فتردد بين الحصار بتلمسان أو مفارقتها. وكان بينه وبين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة، ولابن الأحمر دالة على السلطان أبي العباس كما مرّ. فكان يحفظ له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك، فيعلّل هو السلطان أبا حمو بأنّ السلطان أبا العبّاس لا يصل إليه. ثم أجمع السلطان أبو العبّاس أمره، ونهض على حين غفلة مغذّا إلى تلمسان. وتقدّم الخبر إلى أبي حمو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليائه وأهل دولته أنه على الحصار. ثم خرج حين غشية الليل الى معسكره بالصفيف، وافتقده أهل بلده من صبيحتهم، فتبادر أكثرهم إليه متعلّقين بأذياله خوفا من معرّة العدوّ، ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء، ودخل السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المنبات.
[2] وفي نسخة ثانية: من أحواز.
[3] وفي نسخة ثانية: بحصن تاجحمومت.

(7/189)


العبّاس تلمسان واستولى عليها، وجهّز العساكر لاتباع أبي حمو وقومه، فأجفل من البطحاء ولحق بتاحجموت فاعتصم بمعقلها ولحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة، فاستمدّ بها وأقام هناك عازما على الامتناع والله تعالى أعلم.
(رجوع السلطان أبي العباس الى المغرب واختلال دولته ورجوع السلطان أبي حمو الى ملكه بتلمسان)
كان السلطان أبو العباس لما استولى على مملكة تلمسان، طيّر كتبه ورسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس، ويعتذر إليه من مخالفة رأيه في الحركة إليها. وقد كان ابن الأحمر آسفه ذلك إلى ما انتظم إليه من النزعات الملوكية التي يؤسف بها بعضهم بعضا، وهو يطوي جوانحه عليها، واطلع على فساد طاقة السلطان أبي العبّاس في أهل دولته وفقد [1] ضمائرهم له، فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياص ملكهم، كان عنده بالأندلس، وجهّزه بما يحتاج إليه وبعث في خدمته مسعود بن رحّو بن ماسالي [2] وزيرهم المشهور، وأركبه السفن إلى سبتة، فنزلوا بساحتها أوّل ربيع سنة ست وثمانين وسبعمائة واستولوا عليها. ثم تقدّموا إلى فاس فنازلوا دار الملك أياما وبها محمد بن حسن كاتب محمد بن عنان القائم بدولة السلطان أبي العباس والمستبدّ عليه، واشتدّوا في حصارها وتوافت إليهم الأمداد والحشود فداخله الخور وألقي بيده، وداخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأوّل من السنة، وجلس على أريكته، وآتاه الناس طاعتهم. وطار الخبر إلى السلطان أبي العباس بتلمسان وقد تجهّز لاتباع أبي حمو، ونزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه ونزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان، وكانت لا يعبّر عن حسنها، اختطّها السلطان أبو حمو الأوّل وابنه أبو تاشفين، واستدعى لها الصنّاع والفعلة من الأندلس لحضارتها وبداوة دولتهم يومئذ بتلمسان، فبعث إليهما السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة والحذّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ونغل.
[2] وفي نسخة ثانية: ماساي.

(7/190)


فأشار ونزمار على السلطان أبي العبّاس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاما بزعمه من أبي حمو، وأخذا بالثأر منه فيما أعتمده من تخريب قصر الملك بتازى، وتخريب قصره هو بمرادة، فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر. وبينما هو في ذلك وهو يروم السفر لاتباع أبي حمو، إذ جاءه الخبر بأنّ السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنّان قد استولى على دار ملكهم بفاس، واقتعد أريكتهم، فكرّ راجعا إلى المغرب لا يلوي على شيء، وترك تلمسان لشأنها، وكان من أمره ما يأتي ذكره في أخبارهم، وطار الخبر إلى السلطان أبي حمو بمكانه من تاحجموت، فاغذّ السير إلى تلمسان ودخلها، وعاد إلى ملكه بها، وتفجّع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنها، وراجع دولته بني عبد الواد وسلطانهم بتلمسان والله سبحانه وتعالى أعلم.
(تجدّد المنافسة بين أولاد السلطان أبي حمو ومجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم ولأبيه)
كان التنافس بين هؤلاء الأولاد خفيّا على الناس بما كان السلطان أبوهم يؤامل بينهم ويداري بعضهم عن بعض. فلما خرجوا أمام بني مرين وعادوا إلى تلمسان صار تنافسهم إلى العداوة. واتّهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه، فشمّر لعقوقه وعداوته! وشعر السلطان بذلك فأعمل الحركة إلى ناحية البطحاء موريا بإصلاح العرب، ومعتزما على لقاء ابنه المنتصر بمليانة جناحه، ويتخطّى إلى الجزائر فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين وحالفه على المناصحة. واطلع موسى بن يخلف على خبيئة السلطان بذلك، فدسّ بها إلى أبي تاشفين على عادته، فطار به الأسف كل مطار وأغذّ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر، وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر، وكشف القناع عن التكبّر والتسخط على ما بلغه، فحلف له السلطان على ذلك وأرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعا.
(خلع السلطان أبي حمو واستبداد ابنه أبي تاشفين بالملك واعتقاله إياه)
ولما رجع السلطان من البطحاء وبطل ما كان يؤمّله من الاتصال بالمنتصر، دسّ إليه

(7/191)


مع خالصة من أهل دولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال يودعها إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه. وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه. واطلع موسى على ذلك فأطلع أبا تاشفين على الخبر، فبعث في أثره من حاشيته من اغتال ابن الكليب وجاء إليه بالمال والكتب، فاطلع منها على حقيقة أمرهم وأنهم متربّصون به، فاستشاط وجاهر أباه وغدا عليه بالقصر، فأوقفه على الكتاب وبالغ في عذله. وتحيّز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين، وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه فغدا على أبيه بالقصر بعد أيام وخلعه، وأسكنه بعض حجر القصر، ووكّل به، واستخلص ما كان معه من الأموال والذخيرة. ثم بعث به إلى قصبة وهران فاعتقله بها، واعتقل من حضر بتلمسان من إخوته، وذلك آخر ثمان وثمانين وسبعمائة وبلغ الخبر إلى المنتصر بمليانة وأبي زيان وعمير، فلحقوا بقبائل حصين واستذمّوا بهم، فأذمّوهم وأنزلوهم عندهم بجبل تيطري. وجمع أبو تاشفين العساكر واستألف العرب من سويد وبني عامر، وخرج في طلب المنتصر وإخوته، ومرّ بمليانة فملكها. ثم تقدّم إلى جبل تيطري وأقام في حصارهم به، وهم ممتنعون عليه. والله تعالى أعلم.
(خروج السلطان أبي حمو من الاعتقال ثم القبض عليه وتغريبه الى المشرق)
لما طال مقام أبي تاشفين على تيطري لحصار إخوته، ارتاب بأمر أبيه وطول مغيبه عنه. وشاور أصحابه في شأنه، فأشاروا بقتله واتفقوا على ذلك، فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيّان في لمة من حاشيته فيهم ابن الوزير عمران بن موسى، وعبد الله ابن الخراساني، فقتلوا من كان معتقلا بتلمسان من أبناء السلطان، وتقدّموا إلى وهران وسمع أبو حمّو بقدومهم، فأوجس الخيفة منهم واطلع من جدران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد، فتبادروا إليه من كل جهة، وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته التي كان متعمما بها، فشالوه حتى استقرّ بالأرض واجتمعوا إليه. وكان الرهط الذين جاءوا والقتلة بباب القصر، وقد أغلقه دونهم. فلما سمعوا الهيعة واستيقنوا الأمر، طلبوا

(7/192)


النجاة بدمائهم. واجتمع أهل البلد على السلطان، وتولى كبر ذلك خطيبهم، وجدّدوا له البيعة وارتحل من حينه إلى تلمسان، فدخلها أوائل تسع وثمانين وسبعمائة وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا من أسوارها وأزالوا حصنها. وبعث فيمن كان مخلفا بأحياء بني عامر من أكابرهم ووجوههم، فقدموا عليه. وطار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطري، فانكفأ راجعا إلى تلمسان فيمن معه من العساكر والعرب، وبادره قبل أن يستكمل أمره فأحيط به. ونجا إلى مئذنة الجامع فاعتصم بها، ودخل أبو تاشفين القصر، وبعث في طلبه. وأخبر بمكانه فجاء إليه بنفسه واستنزله من المئذنة، وأدركته الرقّة، فجهش بالبكاء وقبّل يده، وغدا به إلى القصر واعتقله ببعض الحجر هنالك، ورغب إليه أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه، فشارط بعض تجّار النصارى المتردّدين إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية، وأركبه السفن معهم بأهله من فرضة وهران ذاهبا لطيبة موكّلا به، وأقبل أبو تاشفين على القيام بدولته، والله تعالى أعلم.
(نزول السلطان أبي حمو ببجاية من السفين واستيلاؤه على تلمسان ولحاق أبي تاشفين بالمغرب)
لما ركب السلطان أبو حمّو السفين ذاهبا إلى الإسكندرية، وفارق أعمال تلمسان وحاذى بجاية، داخل صاحب السفينة في أن ينزله ببجاية، فأسعفه بذلك. فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلا، وصار الموكّلون به في طاعته. وبعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبدّ على أميرها من ولد السلطان أبي العبّاس بن أبي حفص. وكان محمد خالصة المستنصر بن أبي حمو من ناحية دولتهم. قد خلص إلى بجاية من تيطري بعد ما تنفس لحصار عنهم فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمّو بالإجابة إلى ما سأل. وأنزله ببجاية آخر تسع وثمانين وسبعمائة وأسكنه بستان الملك المسمّى بالرفيع، وطيّر بالخبر إلى السلطان بتونس، فشكر له ما آتاه من ذلك، وأمره بالاستبلاغ في تكريمه، وأن يخرج عساكر بجاية في خدمته إلى حدود عمله متى احتاج إليها. ثم خرج السلطان أبو حمو من بجاية ونزل متيجة واستنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه ونهض يريد تلمسان واعصوصب

(7/193)


قومه بنو عبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء وقسم من الأموال، فنابذوا السلطان أبا حمّو واستصعب عليه أمرهم. وخرج إلى الصحراء وخلف ابنه أبا زيّان في جبال شلف مقيما لدعوته. وبلغ إلى تاسة [1] من ناحية المغرب. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فبعث عسكرا إلى شلف مع ابنه أبي زيّان ووزيره محمد بن عبد الله ابن مسلم، فتواقفوا مع أبي زيّان ابن السلطان أبي حمو فهزمهم. وقتل أبو زيان بن أبي تاشفين ووزيره ابن مسلم، وجماعة من بني عبد الواد. وكان أبو تاشفين لما بلغه وصول أبيه إلى تاسة، سار إليه من تلمسان في جموعه، فأجفل أبو حمو إلى وادي صا [2] واستجاش بالأحلاف من عرب المعقل هنالك، فجاءوا لنصره، ورعوا زمامه فنزلها، وأقام أبو تاشفين قبالته وبلغه هنالك هزيمة ابنه ومقتله، فولّى منهزما إلى تلمسان وأبو حمّو في اتباعه. ثم سرّح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلّي عن أبي حمو، فانتهز فيه الفرصة وهزمه وقبض عليه، وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين بتلمسان، وكان يؤمّل النجاح عند سعادة فيما توجه فيه، فأخفق سعيه، وانفض عنه بنو عبد الواد والعرب الذين معه، وخرج هاربا من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء. ودخل السلطان أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة وقدم عليه أبناؤه فأقاموا معه بتلمسان، فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان، واستقرّ الأمر على ذلك، والله أعلم.
(نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين ومقتل السلطان أبي حمو)
لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه، واتصل بأحياء سويد، أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب، فوفد أبو تاشفين ومعه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صاحب فاس، وسلطان بني مرين صريخين على شأنهما، فقبل وفادتهما ووعدهما بالنصر من عدوّهما. وأقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تامة.
[2] ويدعى وادي (زا) وهو الى يمين وادي ملوية. ونطقه عند أهل المغرب بين الصاد والزاي.

(7/194)


وكان بين أبي حمو وابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ودّ وعقيدة وصلة، ولابن الأحمر دالة وتحكّم في دولة أبي العبّاس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته، فبعث أبو حمو في الدفاع عنه من إجازة أبي تاشفين من المغرب إليه، فلم يجبه صاحب المغرب وفاء بذمّته وعلّله بالقعود عن نصره. وألحّ عليه ابن الأحمر في ذلك، فتعلّل بالمعاذير. وكان أبو تاشفين قد عقد لأوّل قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علّال حلفا اعتقد الوفاء به، فكان هواه في إنجاده ونصره من عدوّه، فلم يزل يفتّل لسلطانه في الذروة والغارب، ويلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه.
وسرّح ابنه الأمير أبا فارس والوزير محمد بن يوسف بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين. وفصلوا عن فاس أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وانتهوا إلى تازى. وبلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمّو فخرج من تلمسان وجمع أشياعه من بني عامر والخراج [1] بن عبيد الله وقطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان، وأقام بالغيران من جهاته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين فقدم إلى تلمسان فجدد المكر والخديعة وشيطان الفتنة والشر موسى بن يخلف، فاستولى عليها وأقام دعوة أبي تاشفين فيها، فطيّر الخبر إلى أبي حمو ابنه عمير، فصبحه بها لليلة من مسيرة، فأسلمه أهل البلد.
وتقبّض عليه، وجاء به أسيرا إلى أبيه بمكانه من الغيران، فوبّخه أبو حمّو على فعاله. ثم أذاقه أليم عقابه ونكاله، وأمر به فقتل أشنع قتلة. وجاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب ووزيره ابن علال بمكان أبي حمّو واغرابه بالغيران، فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه، وسار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل، يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه ومن معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران. وناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم، وولّوا منهزمين، وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه فسقط وأدركه بعض فرسانهم وعرفه فقتله قعصا بالرماح، وجاءوا برأسه إلى الوزير ابن علّال وأبي تاشفين، وجيء بابنه عمير أسيرا. وهمّ أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياما، ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل أبو تاشفين تلمسان أواخر إحدى وتسعين وسبعمائة وخيّم الوزير وعساكر بني مرين
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الجراح.

(7/195)


بظاهر البلد حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام هو بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب ويخطب له على منابره، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(مسير أبي زيان بن أبي حمو لحصار تلمسان ثم اجفاله عنها ولحاقه بصاحب المغرب)
كان السلطان أبو حمو قد ولّى على الجزائر ابنه أبا زيّان لما عاد إلى ملكه بتلمسان، وأخرج منها أبا تاشفين. فلما قتل أبو حمّو بالغيران كما قلناه، وخرج أبو زيّان من الجزائر ناجيا إلى أحياء حصين يؤمّل الكرّة بهم والأخذ بثأر أبيه وأخيه، فاشتملوا عليه وأجابوا صريخه. ثم وفد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه، فسار إليهم وقام بدعوته وطاعته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصروها أياما، وسرّب أبو تاشفين المال في العرب، فافترقوا على أبي زيّان، وخرج إليه أبو تاشفين فهزمه في شعبان من السنة. ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوّال، وبعث أبو تاشفين ابنه صريخا إلى المغرب، فجاءه بمدد من العسكر. ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان، وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب فوفد عليه صريخا، فتلقّاه وبرّ مقدمه، ووعده النصر من عدوّه، وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين والله تعالى أعلم.
(وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب على تلمسان)
لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكا على تلمسان ومقيما فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم، ومؤدّيا للضريبة التي فرضها عليه منذ أوّل ملكه، وأخوه الأمير أبو زيّان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه

(7/196)


حتى تغيّر السلطان أبو العبّاس على أبي تاشفين في بعض النزغات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان، فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازي وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمن به. ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم، وكان يمت إليه بخؤولة، فولّى بعده مكانه صبيا من أبنائه وقام بكفالته، وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية واليا على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلما بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب، ودخل تلمسان فقتل أحمد بن العز والصبيّ المكفول ابن أخيه تاشفين. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب، خرج إلى تازى وبعث من هناك ابنه أبا فارس في العساكر، ورد أبا زيان بن أبي حمو إلى فاس ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام فيها دعوة أبيه، وتقدّم وزير أبيه صالح بن حمو إلى مليانة فملكها، وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف ابن الزابية بحصن تاحجموت. وأقام الوزير صالح يحاصره، وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط، والله غالب على أمره.
(وفاة أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمو على تلمسان والمغرب الأوسط)
كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم لما وصل إلى تازى، وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، وأقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الّذي تقدّم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حجّ سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق، وتقدّمت إلى السلطان فئة وأخبرته بمحلّه من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّة هدية إلى صاحب المغرب، يطوقه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك.
فلمّا قدم بها يوسف على السلطان أبي العباس عظم موقعها، وجلس في مجلس جعله لعرضها والمباهاة بها، وشرع في المكافأة عنها بتخيّر الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه، واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول.
وأنه يرسله من تازى أيام مقامته هناك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم

(7/197)


سنة ست وتسعين وسبعمائة واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان فبايعوه بتازى، وولّوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس، وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال، وبعثوا به إلى تلمسان أميرا عليها، وقائما بعد السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها، وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عند ما بلغه ذلك وبذل لهم عطاء جزيلا على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان، وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله، وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان فسكنت أحواله، وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته، وهم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره.
وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، (وبقي) علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين منذ أول الدولة، وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندور أمرائهم بمراكش، فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
.

(7/198)


(الخبر عن بني كميّ أحد بطون بني القاسم بن عبد الواد وكيف نزعوا إلى بني مرين وما صار لهم بنواحي مراكش وأرض السوس من الرئاسة)
قد تقدّم لنا أوّل الكلام في بني عبد الواد أنّ بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم، وأنهم بنو كمي بن يمل بن يزكن بن القاسم إخوة طاع الله وبني دلول وبني معطي دلول. وبني معطي بن جوهر بن علي [1] . وذكرنا ما كان بين طاع الله وبين إخوانهم بني كمي من الفتنة، وكيف قتل كندوز بن عبد الله كبير بني كمي زيّان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله، وأنّ جابر بن يوسف بن محمد القائم بالأمر من بعده ثار منهم بزيّان، وقتل كندوزا غيلة أو حربا، وبعث برأسه إلى يغمراسن بن زيّان فنصب عليها أهل. بيته القدور شفاية لنفوسهم. واستمرّ الغلب بعدها على بني كمي، فلحقوا بحضرة تونس وكبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز. ونزلوا على الأمير أبي زكريا حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدّمنا ذكره. وطمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان، فلم يتفق ذلك. ولما هلك مولانا الأمير أبو زكريا، وولي ابنه المنتصر، أقام عبد الله صدرا من دولته. ثم ارتحل هو وقومه إلى المغرب ونزل على يعقوب بن عبد الحق قبل فتح مراكش، فاهتزّ يعقوب لقدومه وأحلّه بالمكان الرفيع من دولته. وأنزل قومه بجهات مراكش، وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم.
وجعل السلطان انتجاع إبله وراحلته في أحيائهم. وقدّم على رعايتها حسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخاه موسى، وصلا في لفيفه من بلاد المشرق، وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها، وأقاموا يتقلّبون في تلك البلاد، ويتعدّون في نجعتها إلى أرض السوس. وأوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المنتصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. والتحم بنو كمي ببني مرين وأصبحوا إحدى بطونهم. وهلك عبد الله بن كندوز، وصارت رياستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله. فلمّا نهض يوسف بن يعقوب بن عبد الحق
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وبني دلوك وبني موطي بن جوهر بن علي.

(7/200)


إلى المغرب الأوسط وشغل بحصار تلمسان، وتحدّث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين، أخذت بني كمي الحمية وامتعضوا لقومهم، وأجمعوا الخلاف والخروج على السلطان. ولحقوا بحاجة [1] سنة ثلاث وسبعمائة، واستولوا على بلاد السوس، فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب، فناجزوه الحرب بتادارت وغلبوه، واستمرّوا على خلافهم. ثم عاود محاربتهم بتامطولت سنة أربع وسبعمائة بعدها، فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصّت جناحهم. وقتل عمر بن عبد الله وجماعة من كبرائهم، وفرّوا أمامه إلى الصحراء، ولحقوا بتلمسان وهدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس، وأقام بنو كندوز بعدها بتلمسان نحوا من ستة أشهر. ثم توجّسوا الغدر من ولد عثمان بن يغمراسن فرجعوا إلى مراكش. واتبعهم عساكر السلطان وأبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز، وخلصوا إلى منجاتهم مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب. وراجعوا طاعة الملوك بالمغرب فعفوا لهم عما سلف من هذه الجزيرة وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة. وكان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد، وأقام في إمارتهم سنين [2] ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك.
واستخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه وبين أخيه أبي عليّ، لعهد أبيهما السلطان أبي سعيد ومن بعده، فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار وأيام. ثم هلك موسى بن محمد فولّى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى. ولما غلب على تلمسان وأصار بني عبد الواد في خوله وجنوده، تمشّت رجالاتهم وساموا أشجانهم حتى إذا كانت واقعة القيروان وتواقف السلطان وبني سليم داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان إليهم ببني عبد الواد ومن إليهم من مغراوة وتوجين، وأوعدهم لذلك، ثم مشى في قومه وكافة بني عبد الواد فأجابوه الى ذلك. ولحقوا جميعا ببني سليم، فجرّوا بذلك الهزيمة على السلطان وكانت نكبة القيروان المشهورة. ولحقوا [3] بعدها بتلمسان، وولّوا أمرهم في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ولحقوا بالحاحة. ولم يذكر صاحب معجم البلدان هذه ولا تلك وانما ذكر حاجة:
موضع في قول لبيد: فذكّرها مناهل آجنات بحاجة، لا تنزّح بالدّوالي.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: سنتين.
[3] الضمير يعود الى بني عبد الواد.

(7/201)


بني يغمراسن. وهلك يعقوب بن موسى بإفريقية، ولحق أخوه رحو بالمغرب. وكان السلطان أبو عنّان قد استعمل على جماعتهم وعملهم عبو بن يوسف بن محمد. وهو ابن عمهم دنيا، فأقام فيهم كذلك حتى هلك، فولي من بعده ابنه محمد بن عبو وهم على ذلك لهذا العهد، يعسكرون للأمير بمراكش، ويتولون من خدمة السلطان هنالك ما لهم فيه الغناء والكفاية. فكأنّهم بمعزل عن بني عبد الواد لاستحكام العداوة بمقتل زيان بن ثابت. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، لا رب غيره ولا معبود سواه
.

(7/202)


(الخبر عن بني راشد بن محمد بن يادين وذكر أوّليتهم وتصاريف أحوالهم)
وإنما قدّمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني يادين لأنهم لم يزالوا أحلافا لبني عبد الواد ومن جملتهم، فكانت أخبارهم من أخبارهم، وأمّا راشد أبوهم فهو أخو يادين.
واختصّ بنوه كما قلنا ببني عبد الواد، وكانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أبيهم. وكانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالت وبنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان الى قصر سعيد. وكان جبل هوّارة موطنا لبني يلوما الذين كان لهم الملك كما قدّمنا. ولما اضمحل أمر بني يلوما وذهبت دولتهم، زحف بنو راشد هؤلاء من بطونهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة وبني ورنيد، فشنّوا عليهم الغارات، وطالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم وألجئوهم إلى الأوعار، فاستوطن بنو ورنيد الجبل المطل على تلمسان، واستوطن مديونة جبل تاسالت. وملك بنو راشد بسائطهم القبلية. ثم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد، وهو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأوّل الإسلام، وكان منهم أبو قرّة الصفري كما قدّمناه.
وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد الأمير الّذي قتله جوهر الصقلي قائد الشيعة كما ذكرناه في أخبارهم. ويعلى هذا هو الّذي اختط بهذا الجبل مدينة ايفكان التي هدمها جوهر يوم قتله. فلما ملك بنو راشد هذا الجبل استوطنوه وصار حصنا لهم، ومجالاتهم في ساحة القبلة إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد، وألجئوهم إلى الجبل.
وكان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط، وكانوا شيعة لهم وأحلافا في فتنتهم مع بني توجين وبني مرين، وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران، وكان القائم بها لأوّل دخولهم إبراهيم بن عمران واستبدّ عليه أخوه وترمار [1] وقام بأمرهم إلى أن هلك، فولى ابنه مقاتل بن وترمار وقتل عمه إبراهيم وافترقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم وبني وترمار إلا أنّ رياسة بني إبراهيم أظهر، فولي بعد إبراهيم بن عمران ابنه وترمار وكان معاصرا ليغمراسن بن زيّان وطال عمره، ولما هلك لتسعين من المائة السابعة ولي
__________
[1] هكذا في الجدول المرفق وترمار وفي نسخة أخرى: وترمار.

(7/203)


أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم. ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن وترمار، لا أدري معاقبا لغانم أو توسطهما أحد. ولما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم، صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن، وشيخهم لذلك العهد أبو يحيى موسى بن عبد الرحمن بن وترمار بن إبراهيم. وانحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن وترمار وانقرض أمر بني عبد الواد وأشياعهم. ونقل بنو مرين رءوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى، فكان بنو وترمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب وأوطنوه إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد الكرّة الثالثة على يد أبي حمو الأخير موسى بن يوسف. وكان شيخ بني راشد لعهده ابن أبي يحيى بن موسى المذكور أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين، فاتهمه أبو حمّو بمداخلتهم، فتقبّض عليه واعتقله مدّة بوهران. وفرّ من معتقله فلحق بالمغرب وارتحل بين أحيائهم مدّة. ثم رجع إلى الطاعة واقتضى العهد من السلطان أبي حمو، وولّاه على قومه. ثم تقبّض عليه واعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان وستين وسبعمائة، وانقرض أمر بني وترمار بن إبراهيم، وأمّا بنو وترمار بن عمران فقام بأمرهم بعد مقاتل بن وترمار أخوه أبو زركن [1] بن وترمار، ثم ابنه يوسف بن أبي زركن، ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم إلى أن غلب عليهم بنو وترمار بن إبراهيم. وقد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعا، وصار بنو راشد هؤلاء خولا للسلطان وجباية، وبقيتهم بجبلهم على الحال التي ذكرناها، والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تورزكن.

(7/204)


(الخبر عن بني توجين من شعوب بني يادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب الأوسط وأوّلية ذلك ومصايره)
كان هذا الحيّ من أعظم أحياء بني يادين وأوفرهم عددا. وكانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريس من أرض السرسو، وهو المسمّى لهذا العهد نهر صا [1] وكان بأرض السرسو بجهة الغرب منه بطون من لواتة، وغلبهم عليها بنو وجديجن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نهر واصل واما صاحب معجم البلدان فقد ذكر صا: بالقصر كورة بمصر، وصا مسماة بصا بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح.

(7/205)


ومطماطة. ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء واستضافوها الى مواطنهم الأولى وصارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد وجبل دراك في جانب القبلة. وكانت لهم رياسة أيام صنهاجة لعطيّة بن دافلتن، وابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق. ولما كانت فتنة حمّاد بن بلكين مع عمه باديس، ونهض إليه باديس من القيروان حتى احتل بوادي شلف، تحيّز إليه بنو توجين هؤلاء، وكان لهم في حروب حمّاد آثار مذكورة. وكان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن، وكان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. وأوفد لقمان ابنه بدرا على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا. فلما انهزم حمّاد رعى لهم باديس انحياشهم إليه، وسوّغ لهم ما غنموه، وعقد للقمان على قومه ومواطنه، وعلى ما يفتحه من البلاد بدعوته. ثم انفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن. ويقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب. وكانت رياستهم لعهد الموحدين لعطية بن مناد بن العبّاس بن دافلتن، وكان يلقّب عطية الحيو.
وكانت بينهم لعهده وبين بني عبد الواد حروب، كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد عدوى بن يكنيجن [1] بن القاسم، فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد آخرا على مواطنهم كما نذكره.
ولما هلك عطية الحيو قام بأمرهم أبو العبّاس، وكانت له آثار في الإجلاب على ضواحي المغرب الأوسط. ونقض طاعة الموحدين إلى أن هلك سنة سبع وستمائة، دسّ عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن لوحان [2] من اغتاله فقتله. وقام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي، فانفرد برياستهم وتوارثها عقبه من بعده كما نذكره. وكان من أشهر بطون بني توجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن وبنو قمري [3] وبنو مادون وبنو زنداك وبنو وسيل وبنو قاضي وبنو مامت، ويجمع هؤلاء الستة بنو مدن. ثم بنو تيغرين وبنو يرناتن وبنو منكوش، ويجمع هؤلاء الثلاثة بنو سرغين [4] ، ونسب بني زنداك دخيل فيهم، وإنما هم من بطون مغراوة. وبنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العبّاس ابن عطية الحيو، هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرّخي زناتة المنكوشي. وكانت رياسة بني
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يكنمن.
[2] وفي نسخة ثانية: بوجان.
[3] وفي نسخة ثانية: نمزي.
[4] وفي نسخة ثانية: رسوغين.

(7/206)


توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القويّ بن العبّاس بن عطية الحيو، وأحياؤهم جميعا بتلك المجالات القبلية.
فلمّا وهن أمر بني عبد المؤمن وتغلّب مغراوة على بسائط متيجة، ثم على جبل وانشريس، نازعهم عبد القوي هذا وقومه أمر وانشريس، وغالبوهم إلى أن غلبوهم عليه، واستقرّ في ملكهم وأوطنه بنو تيغرين وبنو منكوش من أحيائهم. ثم تغلبوا على منداس وأوطنها أحياء بني مدن جميعا. وكان الظهور منهم لبني يدللتن، ورياسة بني يدللتن لبني سلامة. وبقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة وانشريس. وكان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم خاصة، وأولاد عزيز بن يعقوب، ويعرفون جميعا بالوزراء [1] ولما تغلّبوا على الأوطان والتلول، وأزاحوا مغراوة عن المدية ووانشريس وتافركينت، واستأثروا بملكها وملك الأوطان عن غربيها مثل:
منداس والجعبات وتاوغزوت، ورئيسهم لذلك العهد عبد القويّ بن العبّاس، والكل لأمره. فصار له ملك بدوي ولم يفارق فيه سكنى الخيام ولا أبعاد النجعة ولا ائتلاف الرحلتين. ينتابون في مشاتيهم إلى مصاب والزاب، وينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل ولم يزل هذا شأن عبد القوي وابنه محمدا، إلى أن تنازع بنوه الأمر من بعده، وقتل بعضهم بعضا. وتغلّب بنو عبد الواد على عامّة أوطانهم وأحيائهم، واستبدّ عليهم بنو يرناتن وبنو يدللتن فصاروا إلى بني عبد الواد. وبقي أعقابهم بجبل وانشريس إلى أن انقرضوا على ما نذكره بعد.
وكان عبد القويّ لما غلب مغراوة على جبل وانشريس، اختطّ حصن مرات، بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه، فبنى منه القصبة ولم يكمله، فأكمله محمد بن عبد القوي من بعده. ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر إفريقية، وصارت لهم خلافة الموحّدين نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط، ودخلت في طاعته قبائل صنهاجة، وفرّت زناتة أمامه. وردّد إليهم الغزو فأصاب منهم. وتقبّض في بعض غزواته على عبد القوي بن العبّاس أمير بني توجين فاعتقله بالحضرة. ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه، فصاروا شيعة له ولقومه آخر الدهر. ونهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان، فكان عبد القوي وقومه في جملته حتى إذا ملك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالحشم.

(7/207)


تلمسان، ورجع إلى الحضرة عقد لعبد القويّ هذا على قومه ووطنه، وأذن له في اتخاذ الآلة، فكانت أوّل مراسم الملك لبني توجين هؤلاء. وكانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم والحروب. ولما هلك السعيد على يد يغمراسن وقومه كما ذكرناه، استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو المغرب، ومسابقة بني مرين إليه، فنفر معه عبد القوي في قومه سنة سبع وأربعين وستمائة وانتهوا إلى تازى، واعترضهم أبو يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين في قومه، فنكصوا واتبعهم إلى انكاد فكان اللقاء، وانكشفت جموع بني يادين وكانت الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد. وهلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف باحمون [1] من مواطنهم. وتصدّى للقيام بعده بأمرهم ابنه يوسف، فمكث في تلك الإمارة أسبوعا، ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القويّ، وولي عهد أبيه سابع مواراته. وفرّ ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية، فأقام بها هو وبنوه. واستقلّ محمد برياسة بني توجين، واستغلظ ملكه، وكان الفحل الّذي لا يقرع أنفه. ونازعه يغمراسن أمره ونهض إلى حربه سنة تسع وأربعين وستمائة وعمد إلى حصن تافركينت فنازله، وبه يومئذ حافده عليّ بن زيان بن محمد في عصابة من قومه، فحاصره أياما وامتنعت عليه فارتحل عنها، ثم تواضعوا أوزار الحرب ودعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب. ونهضوا سنة سبع وخمسين وستمائة ومعهم مغراوة فانتهوا إلى كلدمان ما بين تازى وأرض الريف. ولقيهم يعقوب بن عبد الحق في جموعه فانكشفوا ورجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه. وكانت بينه وبين يغمراسن بعد ذلك فتن وحروب، فنازله فيها بجبل وانشريس مرّات، وجاس خلال وطنه. ولم يقع بعدها بينهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك، وسمّوه إلى التغلّب على زناتة أجمع وبلادهم، وكانوا جميعا منحاشين إلى الدولة [2] الحفصيّة. وكان محمد بن عبد القوي كثير الطاعة للسلطان المستنصر.
(ولما نزل) النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان وستين وستمائة وطمعوا في ملك الحضرة، بعث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريخ فصرفوا وجوههم إليه، وخفّ من بينهم محمد بن عبد القويّ في قومه ومن احتشد من أهل وطنه، ونزل على السلطان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ماحنون، وفي نسخة أخرى: ماحيون.
[2] وفي نسخة ثانية: الدعوة الحفصيّة.

(7/208)


بتونس وأبلى في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وكانت له في أيامه معهم مقامات مذكورة، ومواقف مشهورة، وعند الله محتسبة معدودة. ولما ارتحل العدوّ عن الحضرة وأخذ محمد بن عبد القويّ في الانصراف إلى وطنه، أسنى السلطان جائزته، وعمّ بالإحسان وجوه قومه وعساكره، وأقطعه بلاد مغراوة وأوماش من وطن الزاب، وأحسن منقلبه. ولم يزل بعد ذلك معتقلا بطاعته مستظهرا على عدوه بالانحياش إليه. ولما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه، وصل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن، وأوفد ابنه زيّان بن محمد عليهم.
ولما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين وستمائة وأوقع بيغمراسن في الوقيعة التي هلك فيها ابنه فارس. نهض محمد بن عبد القوي للقائه ومرّ في طريقه بالبطحاء، وهي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها. ولقي يعقوب بن عبد الحق في ساحة تلمسان مباهيا بآلته فأكرم يعقوب وفادته وبرّ مقدمه. ونازلوها أياما فامتنعت عليهم، وأجمعوا على الإفراج وتأذن لهم يعقوب بن عبد الحق متلوما عليها إلى أن يلحق محمد وقومه ببلادهم، حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل، وملأ حقائبهم باتحافه، وجنّب لهم مائة من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب، وعمّهم بالصلات والخلع الفاخرة، واستكثر لهم من السلاح والفازات والأخبية والحملان وارتحلوا، ولحق محمد بن عبد القويّ بمكانه من جبل وانشريس، واتصلت حروبه مع يغمراسن، وكثر اجلابه على وطنه وعيثه في بلاده. وهو مع ذلك مقيم على موالاة يعقوب واتحافه بالعتاق من الخيل والمستجاد من الطرف. حتى أنّ يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته جعل سلمهم من سلمه، وحربهم من حربه، وبسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة لما اشترط عليه ذلك، ولجّ في قبوله، فنهض إليه وأوقع به بخرزوزة. ثم أناخ عليه بتلمسان، ووافاه هنالك محمد بن عبد القويّ فلقيه بالقصاب [1] ، وعاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريبا. ثم أذن يعقوب لمحمد وقومه في الانطلاق إلى بلادهم، وتلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان مدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريس حذرا عليهم من اعتراض
__________
[1] وهي القصبات: مدينة بالمغرب من بلاد البربر: معجم البلدان.
ابن خلدون م 14 ج 7

(7/209)


يغمراسن. ولم يزل شأنهما ذلك إلى أن هلك يغمراسن بسدلونة [1] من بلاد مغراوة خاتمة إحدى وثمانين وستمائة وفي خلال ذلك استغاظ بنو مرين على بني عبد الواد، واستوسق لمحمد هذا ملكه، فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية، وأخرج الثعالبة من جبل تيطري بعد أن غدر بمشيختهم وقتلهم، فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة وأوطنوها. واستولى محمد على حصن المدية وهو المسمى بأهله لمديّة (بفتح اللام والميم وكسر الدال وتشديد الياء بعدها وهاء النسب في آخرها) . وهم بطن من بطون صنهاجة وكان المختط لها بلكّين بن زيري. ولما استولى محمد عليها وعلى ضواحيها انزل أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه بها، وجعلها لهم موطنا وولاية. وفرّ بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد القوي من مكانهم بين صنهاجة منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه. ولحقوا ببلاد الموحدين بإفريقية، فلقوهم مبرّة وتكريما. وأقطعوا لهم بضواحي قسنطينة، وكانوا يقولون عليهم أيام حروبهم وفي مواطن قتالهم.
وكان من أظهرهم عمر بن صالح وابناه صالح ويحيى بن عمر، وحافده يحيى بن صالح بن عمر في آخرين مشاهير.
وأعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة وفي إيالة الملوك من آل أبي حفص، يعسكرون معهم في غزواتهم ويبلون في حروبهم، ويقومون بوظائف خدمتهم. وكان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بن يعقوب، وبنوه من بعده يوسف وعليّ، وكانت مواطنهم ما بين المدية وموطنهم الأوّل ماخنون. وكان بنو يدللتن أيضا من بني توجين قد استولوا على حصن الجعبات وقلعة تاوغزوت. ونزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي وقومه، فاتصل ملك محمد بن عبد القوي في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى جبال صنهاجة بنواحي المدية، وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو وجباله إلى أرض الزاب. وكان يبعد الرحلة في مشتاه فينزل الروسن ومغرة [2] والمسيلة. ولم يزل دأبه ذلك. ولما هلك يغمراسن سنة إحدى وثمانين وستمائة كما ذكرناه استجدّت الفتنة بين عثمان ابنه وبين محمد بن عبد القوى على أثر ذلك سنة أربع وثمانين وستمائة وولي من بعده ابنه سيّد الناس، فلم تطل مدّة ملكه. وقتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعده مهلك أبيه. وقام موسى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: شدبوية ولم يذكرها ياقوت الحموي في معجمه.
[2] وفي نسخة ثانية: الدوسن والمقرة.

(7/210)


محمد في إمارة بني توجين نحوا من عامين. وكان أهل مرات من أشدّ أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة، فحدّثته نفسه أن يستلحم مشيختهم ويريح نفسه من محاذرتهم، فأجمع لذلك ونزلها، ونذروا بشأنه ورأيه فيهم فاستماتوا جميعا وثاروا به فقاتلهم. ثم انهزم مثخنا بالجراحة وألجئوه إلى مهاوي الحصن فتردّى منها وهلك. وولي من بعده عمر ابن أخيه إسماعيل بن محمد مدّة أربعة أعوام، ثم غدر به أولاد عمّه زيان بن محمد فقتلوه وولّوا كبيرهم إبراهيم بن زيان وكان حسن الولاية عليهم، يقال: ما ولي بعد محمد فيهم مثله. وفي خلال هذه الولايات استغلظ عليهم بنو عبد الواد واشتدّت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد، فنهض إليهم سنة ست وثمانين وستمائة وحاصرهم بجبل وانشريس وعاث في أوطانهم ونقل زروعها إلى مازونة حين غلب عليها مغراوة. ثم نازل حصن تافركينت وملكها بمداخلة القائد بها غالب الخصيّ مولى سيّد الناس بن محمد، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوت، وامتنعوا عليه مرارا، ثم أعطوه اليد على الطاعة ومفارقة بني محمد بن عبد القوي فنبذوا لهم العهد، وصاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن. وفرضوا لهم المغارم على بني يدللتن. وسلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين وتحريضهم على إبراهيم بن زيّان أميرهم، فعدا عليه زكراز [1] بن أعجمي شيخ بني مادون وقتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه. وولي بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي، بايع له بنو تيغرين واختلف سائر بني توجين فأقام بعض سنة. وعثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل وانشريس فملكه. وفرّ أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية وهلك في مفرّه ذلك. ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان وثمانين وستمائة بعدها فملكها بمداخلة المدية من قبائل صنهاجة، غدروا بأولاد عزيز وأمكنوه منها. ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر ورجعوا إلى إيالة أولاد عزيز، فصالحوا عثمان بن يوسف على الإتاوة والطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي وبنيه، فملك عثمان بن يغمراسن عامّة بلاد توجين. ثم شغل بما دهمه من مطالبة بني مرين أيام يوسف بن يعقوب، فولّى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدّة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان.

(7/211)


عامين، أخاف فيها الناس وأساء السيرة. ثم هلك فنصب بنو تيغرين بعده أخاه عطية المعروف بالأصمّ، وخالفهم أولاد عزيز وجميع قبائل توجين فبايعوا ليوسف ابن زيان بن محمد. وزحفوا إلى جبل وانشريس فحاصروا به عطية وبني تيغرين عاما أو يزيد. وكان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الّذي تولّى البيعة لعطية الأصمّ.
فلما اشتدّ بهم الحصار واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان ورغبه في ملك جبل وانشريس فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان، ثم أخيه أبي يحيى. وكان نهوض أبي يحيى سنة إحدى وسبعمائة، فتوغّل في ناحية الشرق، ولما رجع صمد إلى جبل وانشريس، فهدم حصونه، وقفل ونهض ثانية إلى بلاد بني توجين فشرّدهم عنها، وأطاعه أهل تافركينت، ثم انتهى إلى المدية فافتتحها صلحا، واختطّ قصبتها ورجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب، فانتقض أهل تافركينت بعد صدوره عنهم. ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم في التمسّك بالطاعة. ووفدوا على يوسف بن يعقوب فتقبّل طاعتهم وأعادهم إلى بلادهم، وأقطعهم. وولّى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي، وجعل وزارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته، واستقام ملكه. وهلك خلال ذلك فعقد يوسف بن بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصمّ، واستقام على طاعته وقتا، ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف. ولما هلك يوسف بن يعقوب وتجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملّكوها بالمغرب الأوسط، استمكن بنو يغمراسن منها ودفعوا المتغلّبين عنها. ولحق الفلّ من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين، فحلّوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة. وكان للعبّاس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخلّة والمصافاة إلى أن هلك، وبقي عقبه في جند السلطان. ولما خلا الجوّ من هؤلاء المرشحين تغلّب على جبل وانشريس من بعدهم كبير بني تيغرين أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن.
فأقام يحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما، ثم هلك، وقام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية. ثم هلك وولي من بعده ابنه عمر بن عثمان، واستقل مع قومه بجبل وانشريس، واستقلّ أولاد عزيز بالمدية ونواحيها ورياستهم ليوسف وعليّ ابني حسن ابن يعقوب، والكل في طاعة أبي حمو سلطان بني عبد الواد لما غلبهم على أمرهم،

(7/212)


وانتزع الرئاسة من بني عبد القوي [1] أمرائهم إلى أن خرج على السلطان أبي حمو ابن عمه يوسف بن يغمراسن، ولحق بأولاد عزيز فبايعوه وداخلوا في كشانة عمر بن عثمان كبير بني تيغرين وصاحب جبل وانشريس، فأجابهم وأصفق معهم سائر الأعشار ويكوشة [2] وبنو يرناتن. وزحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمو في عسكره بتهل ففضّوه، وكان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد إلى أن هلك السلطان أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين، فنهض إليهم في العساكر، وكان عمر بن عثمان قد لحقته الغيرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه، فداخل السلطان أبا تاشفين في الانحراف عنه، فلما نزل بالجبل، ولحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع له، نزع عنه عمر بن عثمان ولحق بأبي تاشفين ودلّه على مكامن الحصن، فدلف إليه أبو تاشفين وأخذ بمخنقه. وافترق عن محمد بن يوسف أولياؤه وأشياعه فتقبّض عليه، وقيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين فقتل بين يديه قعصا بالرماح سنة تسع عشرة وسبعمائة وبعث برأسه إلى تلمسان، وصلب شلوه بالحصن الّذي امتنع فيه أيام انتزائه. ورجع أمر وانشريس إلى عمر بن عثمان هذا، وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان في بعض أيامهم مع بني مرين، أعوام نازلها السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار.
ثم لما تغلّب بنو مرين على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل، وكان خير وال وفاء بالذمّة والطاعة [3] وخلوصا في الولاية، وصدقا في الانحياش، وإحسانا للمملكة، وتوفيرا للجباية. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، وتطاول الأعياص من زناتة إلى استرجاع ملكهم، انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي، وناغى الخوارج في دعوتهم، واشتمل عليه بنو عزيز هؤلاء وبنو يرناتن جيرانهم، وزحف إلى جبل وانشريس لينال مع الحشم من يلي أمرهم والمداخلين لعدوّهم في قطع دابرهم، وكبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان. وبايع نصر المسعود ابن أبي زبد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم، ثم خلص إليهم من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: من بني عبد الواد.
[2] وفي نسخة ثانية: منكوشة.
[3] وفي نسخة ثانية: وفاء بأزمّة الطاعة.

(7/213)


جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه. وقاتلهم عدي وقومه فامتنعوا عليه، ودارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها والظهور لنصر بن عمر وقومه. ثم دخل عدي في جملة السلطان أبي الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر، وبقي مسعود بينهم وملّكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك تلمسان هو وقومه. فلم يزل هنالك الى أن غلبهم السلطان أبو عنان، فسار في جملته بعد أن فرّ إلى زواوة. واستنزله منها ونقله إلى فاس، وانقضى ملكهم ودولتهم، وانقطع أثر بني محمد بن عبد القوي. وأقام نصر بن عمر في ولاية جبل وانشريس وعقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته. ولم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبو حمو الأخير، وهو ابن موسى بن يوسف على الأمر، فأعطاه نصر الطاعة. ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين وسبعمائة، وقاموا بدعوة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو، فانحاش نصر بن عمر إليهم، وأخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا. ثم هلك أيام تلك الفتنة وقام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبّلا مذاهبه. وهو لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة صاحب جبل وانشريس، وحاله مع أبي حمّو مختلف في الطاعة والخلاف، والله مالك الأمور، لا رب غيره ولا معبود سواه
.

(7/214)


(الخبر عن بني سلامة أصحاب قلعة تاوغزوت رؤساء بني يدللتن من بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وأوّليتهم ومصايرهم)
كان بنو يدللتن هؤلاء من شعوب بني توجين وأشدّهم شوكة وأوفرهم عددا، وكان لهم ظهور من بين سائر تلك البطون. وكان بنو عبد القويّ ملوك بني توجين يعرفون لهم ذلك، ويوجبون لهم حقّه. ولما دخلوا إلى التلول بعد انقراض بني يلومي وبني ومانوا نزل بنو قاضي وبنو مادون بأرض منداس، فأوطنوها. وجاء بنو يدللتن على أثرهم، فأوطنوا الجعبات وتاوغزوت ورياستهم يومئذ لنصر بن سلطان بن عيسى. ثم هلك فقام بأمرهم ابنه مناد بن نصر، ثم أخوه عليّ بن نصر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن عليّ من بعده. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه سلامة بن عليّ على حين استفحل ملك عبد القويّ وبنيه، فاستفحل أمره هو في قومه واختطّ القلعة بتاوغزوت المنسوبة إليه وإلى بنيه، وكانت من قبل رباطا لبعض المنقطعين من عرب سويد. ويزعم بنو سلامة هؤلاء أنهم دخلاء في نسب توجين، وأنهم من العرب من بني سليم بن منصور. وجاء جدّهم عيسى أو سلطان نازعا عن قومه لدم أصابه فيهم، فخلطه شيخ بني يدللتن من بني توجين بنسبه، وكفل بنيه من بعده فكانت له سببا في رياسته على بني يدللتن وبنيه من بعده.
ولما هلك سلامة بن علي قام بأمرهم من بعده ابنه يغمراسن بن سلامة، على حين استغلظ بنو عبد الواد على بني توجين من بعد مهلك محمد بن عبد القوي سلطانهم الأكبر. فكان عثمان بن يغمراسن يتردّد إلى بلادهم بالغزو، ويطيل فيها العيث.
ونازل في بعض غزواته قلعتهم هذه، وبها يغمراسن فامتنع عليه. وخالفه يوسف بن يعقوب وبنو مرين إلى تلمسان، فأجفل على القلعة وسابق بني مرين إلى دار ملكه.
واتبعه يغمراسن بن سلامة مغيرا في أعقابه، فكرّ عليه بالمكان المعروف بتليوان.
ودارت بينهم هناك حروب هلك فيها يغمراسن بن سلامة، وقام بالأمر من بعده أخو محمد بن سلامة، فأذعن لطاعة عثمان بن يغمراسن، وخالف بنو عبد القوي وجعل الإتاوة على قومه ووطنه لملوك بني عبد الواد، فلم تزل عليهم لملوك تلمسان. ولحق

(7/216)


اخوه سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان يوسف بن يعقوب في غزوته التي حاصر فيها تلمسان حصاره الطويل، فرعى لسعد بن سلامة هجرته إليه وولّاه على بني يدللتن والقلعة. وفرّ أخوه محمد بن سلامة فلحق بجبل راشد وأقام هنالك الى أن هلك يوسف بن يعقوب ورجع أمر المغرب الأوسط لبني عبد الواد فوضعوا الإتاوة على بني توجين وأصاروهم الى الجباية. ولم يزل سعد على ولايته إلى أن هلك أبو حمو وولي تاشفين، فسخط سعدا وبعث عن أخيه محمد من جبل راشد، فولّاه مكانه.
ولحق سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان أبي الحسن، ودخل أخوه محمد مع أبي تاشفين فانحصر بتلمسان، وولي سعد بن سلامة مكانه. ثم هلك محمد في بعض أيام الحصار وحروبه. ولما انقرض أمر بني عبد الواد رغب سعد من السلطان تخلية سبيله لقضاء فرضه، فحجّ وهلك مرجعه من الحج في طريقه. وعهد إلى السلطان أبي الحسن واستوصاه ببنيه على لسان وليّه عريف بن يحيى كبير بني سويد. فولّى السلطان أبو الحسن ابنه سليمان بن سعد على بني يدللتن والقلعة، وانتقض أمر السلطان أبي الحسن وعاد الأمر إلى أبي سعيد وأبي ثابت ابني عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فكانت بينه وبينهم ولاية انحراف. وكان أولياؤهم من العرب بني سويد من زغبة لما كانوا جيرانهم في مواطنهم من ناحية القبلة، فطمع وترمار بن عريف شيخهم في التغلّب على وطن بني يدللتن، ومانعه دونه سليمان هذا، وبالغ في دفاعه إلى أن ملك السلطان أبو عنّان بلاد المغرب الأوسط، ورعى لوترمار وابنه عريف حق انحياشهم إليه وهجرتهم إلى قومه، فأقطع وترمار بن عريف القلعة وما إليها وجباية بني يدللتن أجمع. وألحق سليمان بن سعد بن سلامة في جنده ووجوه عسكره إلى أن هلك السلطان، وعاد الأمر لبني عبد الواد على يد أبي حمو الأخير، فولّي سليمان على القلعة وعلى قومه. واستغلظ أمر العرب عليه فاستراب سليمان هذا ونذر بالشرّ منه، فلحق بأولاد عريف، ثم راجع الطاعة فتقبّض عليه واغتاله، وذهب دمه هدرا. ثم غلبه العرب على عامّة المغرب الأوسط، وأقطع القلعة وبني يدللتن لأولاد عريف استئلافا لهم. ثم أقطعهم بني مادون ثم منداس، فأصبحت بطون بني توجين كلّها خولا لسويد وعبدا لجبايتهم إلّا جبل وانشريس فإنه لم يزل لبني تيغرين والوالي عليهم يوسف بن عمر منهم كما قلناه. ونظّم أبو حمو أولاد سلامة في جنده وأثبتهم في ديوانه وأقطعهم القصبات من نواحي تلمسان في عطائهم.

(7/217)


وهم على ذلك لهذا العهد. وللَّه الخلق والأمر، لا ربّ سواه ولا معبود إلّا إيّاه، له الحكم وإليه ترجعون، وهو نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم.
الخبر عن بني يرناتن إحدى بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم من التقلب والامارة وذكر أوّليتهم ومصايره
كان بنو يرناتن هؤلاء من أوفر قبائل بني توجين وأعزّهم جانبا وأكبرهم صيتا. ولما دخل بنو توجين إلى تلول المغرب الأوسط، أقاموا بمواطنهم الأولى ما بين واضون وزمتة [1] . ثم يعودون من القبلة يجولون جانبي نهر واصل من أعلى وادي شلف.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: رينه.

(7/218)


وكانت رياستهم في نصر بن عليّ بن تميم بن يوسف بن بونوال، وكان شيخهم مهيب ابن نصر منهم، وكان عبد القوي بن العبّاس وابنه محمد أمراء بني توجين يختصّونهم بالإثرة والتجلّة لمكانهم من قومهم، وما يؤنسون من عظيم عنائهم. وكان محمد بن عبد القوي في سلطانه يؤثر عليهم من الحشم أولاد عزيز، وكان واليهم لعهده وعهد بنيه عبو بن حسن بن عزيز. وقد كان أصهر مهيب بن نصر إلى عبد القوي في ابنته، فأنكحه إياها وولدت له نصر بن مهيب، فشرفت خؤولته لمحمد بن عبد القوي وعلا كعبه في إمارته. ثم ولي بعده ابنه عليّ بن نصر، وكان له من الولد نصر وعنتر وآخرون يعرفون بأمّهم، واسمها تاسرغينت. وولي بعده ابنه نصر بن علي فطال أمد إمارته في قومه. واختلف بنو عبد القوي وغلبهم بنو عبد الواد على ما بأيديهم، فصرفت ملوك زناتة وجه العناية إليه، فبعد صيته وعرف بنوه من بعده بشهرته، وكان ولودا فيقال: إنّه خلّف ثلاثة عشر من البنين، ما منهم إلّا صاحب حرب أو مقنب. ومن مشاهيرهم عمر الّذي قتله السلطان أبو الحسن بمرات حين سعى به أنه داخل في اغتياله، ففرّ وأدرك فقتل بمرات. ومنهم منديل الّذي قتله بنو تيغرين أيام ولّوا عليّ ابن الناصر وقتلوا معه عبو بن حسن بن عزيز، ومنهم عنّان ومات قتيلا في حصار تلمسان أيام أبي تاشفين، ومنهم مسعود ومهيب وسعدو وداود وموسى ويعقوب والعبّاس ويوسف في آخرين معروفين عندهم. هذا شأن أولاد نصر بن علي بن نصر ابن مهيب.
وأمّا ولد عنتر أخيه فكان منهم أبو الفتوح بن عنتر. ثم من ولده عيسى بن أبي الفتوح، فكان رئيسا على بني أبيه، وكانت إحدى وصائفهم سقطت بدار عثمان بن يغمراسن، وادّعت الحمل من سيّدها أبي الفتوح، وجاءت بأخ لعيسى يسمّى معروفا، ربّي بدارهم. واستوزره أبو حمو وابنه من بعده، وبلغ المبالغ في دولتهم وكان يدعى معروفا الكبير. ولحق به أيام رياسته في دولة أبي حمو الأوّل أخوه عيسى ابن أبي الفتوح مغاضبا لقومه، فسعى له في الولاية على بني راشد وجباية أوطانهم، وأنزله بلد سعيدة، فكانت له بها إمارة، وكان له من الولد أبو بكر وعبو وطاهر ووترمار، وعند ما غلب بنو مرين على بني عبد الواد ولّاهم السلطان أبو الحسن على بني يرناتن متداولين وأما ولد تاسرغينت من بني علي بن نصر بن مهيب، فلم يكن لهم ذكر في رياسة قومهم، إلا أنّ بعض وصائفهم سقطت أيضا إلى دار أبي تاشفين

(7/219)


فولدت غلاما يعرف بعطية بن موسى نشأ في دارهم ينسب إلى بني تاسرغينت هؤلاء.
وتناولته النجابة في خدمتهم، فولّوه الأعمال النبيهة، وهو لهذا العهد عامل أبي حمو الأخير على شلف وما إليها. وقد غلب العرب لهذا العهد على وطن بني يرناتن، وملكوا عليهم يعود ماحنون. وبقيت صبابتهم بجبل ورنيد [1] . وعليهم لهذا العهد سعيد بن عمر من ولد نصر بن عليّ بن نصر بن مهيب، يعطون المغرم للسلطان ويصانعون العرب بالإتاوة. وبيد الله تصاريف الأمور سبحانه لا رب غيره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبل ورينة.

(7/220)


الخبر عن بني مرين وأنسابهم وشعوبهم وما تأثلوا بالمغرب من السلطان والدولة التي استعملت سائر زناتة وانتظمت كراسيّ الملك بالعدوتين وأولية ذلك ومصايره
قد ذكرنا أنّ بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين، وذكرنا نسب واسين في زناتة، وذكرنا أنهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن جديج بن فاتن بن يدر بن يخفت ابن عبد الله بن ورتنيص بن المعز بن إبراهيم بن سجيك بن واسين، وأنهم إخوة بني يلومي ومديونة. وربّما يشهد بذلك جوار مواطنهم قبل الملك ما بين صا [1] وملويّة.
وذكرنا كيف اقتسموا الضاحية والقفر مع إخوانهم بني بادين [2] بن محمد، وكيف اتصلت فتنتهم معهم سائر أيامهم. وكان الغلب أولا لبني بادين بن محمد لكثرة عددهم، فإنّهم كما ذكرنا خمسة بطون: بنو عبد الواد وتوجين ومصاب، وبنو زردال وإخوانهم بنو راشد بن محمد. وكانوا أهل تلول المغرب الأوسط دونهم. وبقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى سجلماسة إلى ملويّة. وربما يتخطّون في ظعنهم إلى بلاد الزاب. ويذكر نسّابتهم أن الرئاسة فيهم قبل تلك العصور كانت لمحمد بن ورزين [3] بن فكوس بن كوماط بن مرين، وأنه كان لمحمد إخوة آخرون يعرفون بأمهم تنالفت. وكان بنو عمّه ونكاسن بن فكوس. وكان لمحمد من الولد سبعة: شقيقان وهما حمامة وعسكر. وأبناء علات أمهات أولاد، وهم سنكمان وسكميان وسكم ووراغ وقزونت [4] وتسمّى هذه الخمسة في لسانهم تيريغين، ومعناه عندهم الجماعة.
يزعمون أن محمدا لما هلك قام بأمره في قومه ابنه حمامة، وكان الأكبر. ثم من بعده أخوه عسكر، وكان له من الولد ثلاثة: نكوم وأبو يكنى، ويلقب المخضّب، وعلي ويلقّب لاعدر. ولما هلك قام برياسته فيهم ابنه المخضّب، فلم يزل أميرا عليهم إلى أن كان أمر الموحّدين. وزحف عبد المؤمن إلى تاشفين بن علي بن يوسف، فحاصره
__________
[1] كذا، وهو وادي (زا) . (وقد مرّ معنا من قبل ولم نجد له ذكر في معجم البلدان) .
[2] وفي نسخة ثانية: بني يادين.
[3] كذا، وفي نسخة: ورزير.
[4] كذا، وفي نسخة: فرونت.

(7/221)


بتلمسان. وسرّح الشيخ أبا حفص في العساكر لحرب زناتة بالمغرب الأوسط، وجمع له بنو بادين كلّهم وبنو يلومي وبنو مرين ومغراوة، ففضّ الموحّدون جموعهم واستلحموا أكثرهم. ثم راجع بنو يلومي وبنو بادين طاعتهم، وأخلص بنو عبد الواد في خدمتهم ونصيحتهم. ولحق بنو مرين بالقفر، فلما غلب عبد المؤمن على وهران واستولى على أموال لمتونة وبعث ذخيرتهم بتلك الغنائم إلى جبل تين ملّل حيث داره، ومن أين كان منبعث الدعوة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بمكانهم من الزاب، وشيخهم يومئذ المخضّب بن عسكر، فأجمع اعتراضهما بقومه. ولحق العير بوادي تلاغ، فاحتازها من أيدي الموحدين. واستنفر عبد المؤمن لاستنقاذها أولياءه من زناتة، وسرّحهم مع الموحدين لذلك، فأبلى بنو عبد الواد فيها بلاء حسنا. وكان اللقاء في فحص مسون، وانكشف بنو مرين، وقتل المخضّب بن عسكر، واكتسح بنو عبد الواد حللهم، وذلك سنة أربعين وخمسمائة. فلحق بنو مرين بعدها بصحرائهم ومجالات قفرهم، وقام بأمرهم من بعد المخضّب أبو بكر ابن عمّه حمامة ابن محمد إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه محيو، ولم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم المنصور لغزاة الأركة، فشهدوها وأبلوا البلاء الحسن. وأصابت محيو يومئذ جراحة انتقضت عليه مرجعه منها، فهلك بصحراء الزاب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
وكان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده، وبقائها في عقبه ما نذكره إن شاء الله تعالى
.

(7/222)


الخبر عن إمارة عبد الحق بن محيو المستقرة في بنيه وإمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما وما كان فيها من الأحداث
لمّا هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه، وكان له من الولد عبد الحق ووسناف ويحياتن. وكان عبد الحق أكبرهم، فقام بأمر بني مرين، وكان خير أمير عليهم قياما بمصالحهم وتعففا عما في أيديهم، وتقويما لهم على الجادة ونظرا في العواقب، واستمرّت أيامهم. ولما هلك الناصر رابع خلفاء الموحّدين بالمغرب سنة عشر وستمائة مرجعه من غزاة العقاب، وقام بأمر الموحّدين من بعده ابنه يوسف المستنصر، نصبه الموحّدون للأمر غلاما لم يبلغ الحلم. وشغلته أحوال الصبا وجنونه عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم وأغفل الأمور. وتواكل الموحّدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه. ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور وضعفت الحامية. وتهاونوا بأمرهم، وفشلت ريحهم. وكان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار، من فيكيك الى صا وملويّة كما قدمناه من شأنهم. وكانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول والأرياف منذ أول دولة الموحدين وما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط، ويأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأولى: مثل مكناسة بجبال تازى، وبني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور وطاط من أعالي ملوية. فيتقلّبون بتلك الجهات عام المربع والمصيف، وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم. فلما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا فيها الفرصة، وتخطّوا إليها القفر، ودخلوا ثناياه، وتفرّقوا في جهاته.
وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ساكنه، واكتسحوا بالغارة والنهب عامة بسائطهم. ولجأت الرعايا إلى معتصماتهم ومعاقلهم، وكثر شاكيهم. وأظلم الجو بينهم وبين السلطان والدولة، فآذنوهم بالحرب وأجمعوا لغزوهم وقطع دابرهم. وأغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحّدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر والحشود من مراكش، وسرّحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحّدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من إمارة فاس. وأوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين، وأمره أن يثخن ولا

(7/224)


يستبقي. واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطويّة، فتركوا أثقالهم بحصن تازوطا، وصمدوا إليهم. والتقى الجمعان بوادي نكور، فكان الظهور لبني مرين والدبرة على الموحّدين. وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم، ورجعوا إلى تازى وفاس عراة يخصفون عليهم من ورق النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة. يوارون به سوءاتهم لكثرة الخصب عامئذ، واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلّاء. حتى لقد سميت الواقعة يومئذ بعام المشغلة.
وصمد بنو مرين بعدها إلى تازى، ففلّوا حاميتها أخرى. ثم اختلفت بنو محمد رؤساؤهم وانتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد، لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم، بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر، وابنه المخضّب إيماض من أخلف بارقه. فحالفوا عبد الحق أميرهم وقومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين، وحامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط وأزغار لحديث عهدهم بالتوحّش والعزّ منذ إنزال المنصور إيّاهم بذلك القطر من إفريقية، فتحيّزوا إليهم وكاثروهم على قومهم.
وصمدوا جميعا للقاء بني مرين سنة أربع عشرة وستمائة، ودارت بينهم حرب تولّى الصبر مقامها. وهلك فيها أميرهم عبد الحق وكبير بنيه إدريس. وتذامر لمهلكها بنو مرين. وجلّى في تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر، والأمير ابن محيو السكمي. فانكشفت رياح آخرا، وقتل منهم أبطال. وولّى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس، وشهرته بينهم أدرغال، ومعناه برطانتهم الأعور. وكان لعبد الحق من الولد عشرة، تسعة ذكور وأختهم ورتطليم: فإدريس وعبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء، وعثمان ومحمد لامرأة من بني ونكاسن اسمها النّوار بنت تصاليت، وأبو بكر لامرأة من بني تنالفت وهي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص، وزيّان لامرأة من بني ورتاجن، وأبو عياد لامرأة من بني وللوى إحدى بطون عبد الواد واسمها أم الفرج، ويعقوب لأم اليمن بنت محلى من بطوية. وكان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق، فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان، بايعه لوقته حمامة بن يصليتن ولمير بن محيو ومن إليهما من مشيخة قومهما. واتبعوا منهزمة رياح وأثخنوا فيهم. وثار عثمان بأبيه وأخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم، فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه وإلى قومه كل سنة. ثم

(7/225)


استشرى من بعد ذلك داء بني مرين وأعضل خطبهم، وكثر الثّوار بالمغرب، وامتنع عامة الرعايا عن المغرم، وفسدت السابلة. واعتصم الأمراء والعمّال من السلطان فمن دونه بالأمصار والمدن، وغلبوا أولئك على الضاحية. وتقلّص ظل الحكّام عن البدو جملة. وافتقد بنو مرين الحامية دون الوطن والدفاع، فمدوا إلى البلاد يدا. وسار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه، ويضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره، فبايعه من الظواعن الشاوية والقبائل الآهلة: هوّارة وزكارة، ثم تسول ومكناسة، ثم بطوية وقشتالة، ثم سدراتة وبهلولة ومديونة. ففرض عليهم الخراج وألزمهم المغارم، وفرّق فيهم العمّال. ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس وتازى ومكناسة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول، على أن يكفّ الغارة عنهم ويصلح سابلتهم. ثم غزا ظواعن زناتة سنة عشرين وستمائة، وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وقبض أيديهم عمّا امتدت إليه من الفساد والنهب. وعطف بعدها على رياح أهل أزغار والهبط وأثأر به بأبيه، فأثخن فيهم وأبادهم. ولم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وقام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق، فتقبّل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم والوضائع من ظواعنه وبدوه وسائر رعاياه. وبعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم. وعقد له على مكناسة، فدخلها وأجحف بأهلها في المغارم. ثم نزل بنو مرين بمتيجة وغيرها من ضواحيها، فنادى في عساكره وخرج إليهم، فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين. وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من الروم، واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما، وانجرح محمد في وجهه بالأخرى. واندمل جرحه، فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة. ثم شدّ بنو مرين على الموحّدين، فانكشفوا ورجع ابن وانودين إلى مكناسة مفلولا. وبقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام، وتثاقل عن الحماية. ثم أومضت دولتهم آخرا إيماض الخمود. وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستمائة، وولي أخوه علي وتلقّب بالسعيد، وبايعه أهل المغرب، انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين، وقطع أطماعهم عما سمت إليه من تملّك الوطن، فأغزى عسكر الموحّدين لقتالهم، ومعهم قبائل العرب والمصامدة

(7/226)


وجموع الروم. فنهضوا سنة اثنتين وأربعين وستمائة في جيش كثيف يناهز عشرين ألفا فيما زعموا. وزحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش، وصبر الفريقان، وهلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم. وانكشفت بنو مرين واتبعهم الموحدون، ودخلوا تحت الليل، فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى واعتصموا بها أياما. ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء، وولّوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق، فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من امرائهم
لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين وستمائة، كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه، أن قسّم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين. وأنزل كلّا منهم في ناحية تسوّغها سائر الأيام طعمة. فاستركبوا الرجل أتباعهم، واستلحقوا من غاشيتهم، وتوفّرت عساكرهم. ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر جماعتهم، وصاروا إلى الموحدين، فحرّضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم. وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان، فوصل في قومه إلى فاس. واجتمعوا جميعا إلى قائد الموحّدين. وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه. وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة، ثم إلى كرت [1] . وأعجزهم فانكفّوا راجعين إلى فاس. ونذر يغمراسن بغدر الموحدين، فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر. وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو، فلم يطق حربهم. ورجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد. ثم بعثوا إليهم لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة، القائد عنبر الخصيّ مولى الخليفة في حصّة من الروم والناشبة، فتقبّض عليهم بنو عسكر وتمسّكوا بهم في رهنهم. وقتلوا كافة النصارى، فأطلق أبناءهم ولحق
__________
[1] هي كرت: مدينة في أقصى بلاد المغرب قرب بلاد السودان وربما قبلت بالثاء. (معجم البلدان) .

(7/227)


يغمراسن وقومه بتلمسان. ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى. واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملّكوا الأعمال. ثم مدوا عينهم إلى تملّك الأمصار، فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون. ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب إفريقية، لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته، فحاصرها وضيّق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب، إلى أن أذعنوا لطاعته، فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعيمها أبي الحسن بن أبي العافية.
وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة، كان قاضيا فيهم يومئذ، فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها، ثم أحسّ الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد، ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة. وبلغ الخبر إلى السعيد بتغلّبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص، فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره، وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا:
فابن أبي حفص اقتطع إفريقية. ثم يغمراسن بن زيّان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط، وأقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص، وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم. وابن هود اقتطع عدوة الأندلس، وأقام فيها دعوة بني العباس، وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص. وهؤلاء بنو مرين تغلّبوا على ضواحي المغرب، ثم سموا إلى تملّك الأمصار. ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص، وجاهر بالاستبداد. ويوشك إن رضينا هذه الدّنيّة، وأغضينا عن هذه الواقعات، أن يختلّ الأمر أو تنقرض الدعوة. فتذامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود إليهم، فجهّز السعيد عساكره.
واحتشد عرب المغرب وقبائله، واستنفر الموحدين والمصامدة، ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين وستمائة يريد مكناسة: وبني مرين أوّلا، ثم تلمسان ويغمراسن ثانيا، ثم إفريقية وابن أبي حفص آخرا. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت.
ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه، حتى صدقهم كنه الخبر. وعلم أن لا طاقة له بهم، فأفرج عن البلاد. وتناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم، فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف. ونزل سعيد مكناسة، ولاذ أهلها بالطاعة، وسألوا العفو عن الجريرة. واستشفعوا بالمصاحف، برز بها الأولاد على رءوسهم، وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من

(7/228)


الخشوع ووجوم الذنب والتوسّل. فعفا عنهم وتقبّل فيئهم، وارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين. وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة، ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم، فترحّل عنهم إلى بلاد بني يزناسن، ونزل بعين الصفا.
ثم راجع نظره في مسالمة الموحّدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوّهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد، ليكون فيها شفاء نفسه منهم، فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى، فأدوا طاعته وفيئته، فتقبّلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها.
وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن، على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة، فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبيّة، فأمرهم السعيد بالعسكرة معه، فأمده الأمير أبو يحيى بخمسمائة من قبائل بني مرين. وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة، وخرجوا تحت رايات السلطان. ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها، وكان من خبر مهلكه على جبل تامززدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم.
ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش، وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله ابن الخليفة السعيد ولي عهده، وتحت رايات أبيه. وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وهو بجهات بني يزناسن. وقد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد. وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة، فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحدين وفلّهم بكرسيف، فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم، وانتزعوا الآلة من أيديهم. وأصار إليه كتيبة الروم والناشبة من الغزو، واتخذ الموكب الملوكي. وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة، ويئسوا للموحدين بعدها من الكرّة. ونهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين، أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم، فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس، إلى القصر مع عساكر الموحدين، فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجدّع من أنوفهم.
وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط، فافتتح حصونهم بملوية

(7/229)


ودوّخ جبلهم. ثم رحل إلى فاس، وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بني عبد المؤمن، وإقامة الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها. والعامل بها يومئذ السيد أبو العبّاس، فأناخ عليها بركابه. وتلطّف في مداخلة أهلها، وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة. وكفّ الأيدي عنهم، والحماية لهم بحسن المغبّة، وصالح العائدة، فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه. وآووا إلى ظلّه وركنوا إلى طاعته، وانتحال الدعوة الحفصيّة بأمره. ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم. وحضر أبو محمد القشتالي، وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذبّ عنهم، وحسن الملكة والكفالة. وتقبّل مذاهب العدل فيهم، فكان حضوره ملاك تلك العقدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة. وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح. ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد، فاتح ست وأربعين وستمائة. وأخرج السيد أبا العبّاس من القصبة، وبعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا. ثم نهض إلى منازلة تازى، وبها السيد أبو علي، فنازلها أربعة أشهر. ثم نزلوا على حكمه، فقتلهم ومن على آخرين منهم. وسدّ ثغرها، وثقف أطرافها، وأقطع رباط تازى وحصون ملويّة لأخيه يعقوب بن عبد الحق. ورجع إلى فاس، فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة، وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم. ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح، فتملّك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمّهات أمصار المغرب. واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع، فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص، وبعث بها إليه. واستبدّ بنو مرين بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وخمد ذبال آل عبد المؤمن، وركدت ريحهم، وآذنت بالانقراض دولتهم، وأشرف على الفناء أمرهم. وإلى الله عاقبة الأمور.
الخبر عن انتقاض أهل فاس على أبي يحيى بن عبد الحق وظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن وقومه بايسلى
لما ملك الأمر أبو يحيى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست وأربعين وستمائة، استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد. وقام بأمر الموحّدين بمراكش أبو حفص عمر

(7/230)


المرتضى ابن السيّد أبي إبراهيم إسحاق الّذي كان قائد عسكر الموحدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة، ابن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. كان السعيد تركه واليا بقصبة رباط الفتح من سلا، فاستدعاه الموحدون وبايعوه بيعة الخلافة. وقام بأمرهم، فلما تغلّب الأمير أبو يحيى على بلاد المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرناه، خرج إلى بلاد فازاز والمعدن لفتح بلاد زناتة وتدويخ نواحيها.
واستعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش، من جماعة الحشم أخلاف بني مرين وصنائعهم. وكان الأمير أبي يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة. وكان فيهم طائفة من الروم، استخدمهم إلى نظر قائدهم شأنه، وكانوا من حصّة السعود هنالك. ووقعت بينهم وبين شيع الموحدين من أهل البلد مداخلة، وفكوا بالسعود عاملهم وقلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة ومخلف المضمار. وكان المتولي لكبر تلك الثورة ابن حشّار المشرف وأخوه وابن أبي طاهر [1] وابنه، اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي، زعيم فئة الشورى بينهم يومئذ وتوامروا فيها. وأغروا قائد الروم بقتل السعود، وعدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة، وهاجوه ببعض المحاورات فغضب. ووثب عليه الرومي، فقتله وطاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شوال سنة سبع وأربعين وستمائة. وانتهبت داره، واستبيحت حرمه. ونصبوا قائد الروم لضبط البلد، وبعثوا بيعتهم إلى المرتضى. واتصل الخبر بالأمير أبي يحيى، وهو منازل بلد فازاز، فأفرج عنها. وأغذّ السير إلى فاس، فأناخ بعساكره عليها. وشمّر لحصارها، وقطع السابلة عنها. وبعثوا إلى المرتضى بالصريخ، فلم يرجع إليهم قولا، ولا ملك لهم ضرّا ولا نفعا، ولا وجّه لما نزل بهم وجها. حاشا إنّه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره، وأغراه بعدوه، وأمّله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته.
وتعلّقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب، فاحتشد لحركته. ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس، وإجابة صريخ الخليفة لذلك. وبلغ الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد، فجمّر الكتائب عليها.
__________
[1] كذا، في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: طاطو.

(7/231)


صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده، والتقى الجمعان بايسلى من بسائط وجدة، فتزاحف القوم وأبلوا. وكانوا ملحمة عظيمة، هلك فيها عبد الحق بن محمد بن عبد الحق بيد إبراهيم بن هشام من بني عبد الواد. ثم انكشف بنو عبد الواد، وهلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم، ونجا يغمراسن بن زيّان إلى تلمسان.
وانكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس، فسقط في أيدي أهلها، ولم يجدوا وليجة من دون طاعته، فسألوا الأمان، وبذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة، وقدره مائة ألف دينار، فتحمّلوها. وأمكنوه من قياد البلد، فدخلها في جمادى من سنة ثمان وأربعين وستمائة. وطالبهم بالمال، فعجزوا ونقضوا شرطه، فحقّ عليهم القول. وتقبّض على القاضي أبي عبد الرحمن وابن أبي طاطو وابنه، وابن حشار وأخيه المتولّين كبر الفعلة فقتلهم، ورفع على الشرفات رءوسهم.
وأخذ الباقين بغرم المال طوعا أو كرها، فكان ذلك مما عبّد رعية فاس وقادهم لأحكام بني مرين. وضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد، فخشعت منهم الأصوات وانقادت الهمم، ولم يحدّثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة. والله مالك الأرض ومن عليها.
الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيى على مدينة سلا وارتجاعها من يده وهزيمة المرتضى بعدها
لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس، واستوسق أمر بني مرين بها، رجع إلى ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها. ودوّخ أوطان زناتة، واقتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين فيها. ثم تخطّى إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين وستمائة، فملكها وتاخم الموحّدين بثغرها. واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله ابن عبد الحق، وعقد له على ذلك الثغر، وضمّ إليه الأعمال. وبلغ الخبر بذلك إلى المرتضى، فأهمّه الشأن. وأحضر الملأ من الموحّدين وفاوضهم، واعتزم على حرب بني مرين. وسرّح العساكر سنة خمسين وستمائة، فأحاطت بسلا، فافتتحوها وعادت إلى طاعة المرتضى. وعقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين. وكان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع وأربعين وستمائة إلى محاربة بني

(7/232)


مرين في جموع الموحّدين وعساكر الدولة، صمد بنو مرين للقائه. والتقى الجمعان بايملولين، ففضّوا جموعه، وكانت الدبرة عليه والظهور لهم. ثم كان بعدها فتح سلا، وغلب الموحدين عليها. وأجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه، ومعاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم. وتقلّص ملك الموحّدين، فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث وخمسين وستمائة وبعث الحاشرين في الجهات، فاجتمع إليه أمم الموحدين والعرب والمصامدة. وأغذّ السير تلقاءهم، حتى إذا انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس، وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين، ومن اجتمع إليهم من دونهم. والتقى الجمعان هنالك. وصدقهم بنو مرين القتال، فاختلّ مصاف السلطان، وانهزمت عساكره وأسلمه قومه. ورجع إلى مراكش مفلولا. واستولى القوم على معسكره واستباحوا سرادقه وفساطيطه، وانتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال والذخيرة، واستاقوا سائر الكراع والظهر، وامتلأت أيديهم من الغنائم. واعتزّ أمرهم، وانبسط سلطانهم، وكان يوما له ما بعده. وأغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا [1] واستباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس، واستلحم أبطالهم، وألان من حدّهم، وخضّد من شوكتهم. وفي أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق، وهو ابن أخي الأمير أبي يحيى. شعر منه بفساد الدخلة والاجتماع للتوثّب به، فدسّ لابنه أبي حديد مفتاح بقتله، بجهات مكناسة سنة إحدى وخمسين وستمائة. والله تعالى أعلم.
(الخبر عن فتح سجلماسة وبلاد القبلة وما كان في ذلك من الاحداث)
لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صار في أيديهم من بلاد المغرب وعادوا إلى مدافعتهم عن صمامة الدولة التي تحملت إياها شفافهم لو أطاقوا المدافعة عنها وملك بنو مرين عامّة بلاد التلول، اعتزم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة ففتح سجلماسة ودرعة وما إليها سنة ثلاث وخمسين وستمائة وافتتحها بمداخلة من ابن القطراني، غدر بعامل الموحّدين فتقبّض عليه، وأمكن منها الأمير
__________
[1] كذا بالأصل في جميع النسخ، وفي معجم البلدان: تادلة.

(7/233)


أبا يحيى فملكها، وما إليها من درعة سائر بلاد القبلة. وعقد لابنه أبي حديد. وبلغ الخبر إلى المرتضى فسرّح العساكر سنة أربع وخمسين وستمائة لاستنقاذها، وعقد عليهم لابن عطّوش، ففرّ راجعا إلى مراكش، ثم نهض سنة خمس وخمسين وستمائة إلى محاربة يغمراس وبنيه بأبي سليط، فأوقع بهم واعتزم على اتباعه، فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق لعهد تأكد بينه وبين يغمراس فرجع. ولما انتهى إلى المقر مدة هذه، بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة ودرعة لمداخلة من بعض أهلها أطمعته في ملكها، فأغذّ السير إليها بجموعه، ودخلها ولصبيحة دخوله وصل يغمراسن لشأنه، فلمّا علم بمكان أبي يحيى من البلد سقط في يده ويئس من غلابه، ودارت بينهم حرب تكافئوا فيها وهلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى، وانقلب يغمراسن إلى بلده، وعقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، واستعمل على الجباية عبد السلام الأوربي وداود بن يوسف، وانكفأ راجعا إلى فاس. والله تعالى أعلم.
الخبر عن مهلك أبي يحيى وما كان اثر ذلك من الاحداث التي تمحضت عن استبداد أخيه يعقوب بن عبد الحق بالأمر
لما رجع الأمير أبو يحيى من حرب يغمراسن بسجلماسة، أقام أياما بفاس. ثم نهض إلى سجلماسة متفقدا لثغورها، فانقلب منها عليلا. وهلك حتف أنفه على سرير ملكه في رجب سنة ست وخمسين وستمائة أمضى ما كان عزما، وأطول إلى تناول الملك يدا. اختطفته المنون عن شأنه ودفن بمقبرة باب الفتوح من فاس، ضجيعا للمولى أبي محمد الفشتالي كما عهد لأهل بيته. وتصدّى للقيام بأمره ابنه عمر واشتمل عليه عامّة قومه. ومالت المشيخة وأهل الحل والعقد إلى عمّه يعقوب بن عبد الحق، وكان غائبا عن مهلك أخيه بتازي، فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس وتوجهت إليه وجوه الأكابر. وأحس عمر بصاغية الناس إليه، وحرّضه أتباعه على الفتك بعمه [1] ، فاعتصم بالقصبة، وسعى الناس في إصلاح ذات بينهما، فتفادى يعقوب عن الأمر، ودفعه لابن أخيه، على أن تكون له بلاد تازى وبطوية وملوية، ولما لحق
__________
[1] وفي نسخة ثانية: به.

(7/234)


بتازى واجتمع إليه كافة بني مرين، عذلوه فيما كان منه فاستلأم، وحملوه على العودة في الأمر، ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والمؤازرة فأجاب، وبايعوه وصمد إلى فاس، وبرز عمر للقائه فانتهى إلى المسجدين، ولما تراءى الجمعان خذ له جنوده وأسلموه، فرجع إلى فاس مغلولا، ووجّه الرغبة إلى عمه أن يقطعه مكناسة وينزل له عن الأمر، فأجابه إلى ذلك، ودخل السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق مدينة فاس فملكها سنة سبع وخمسين وستمائة وتمشت طاعته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم الربيع وسجلماسة وقصر كتامة. واقتصر عمر على إمارة مكناسة فتولاها أياما، ثم اغتاله من عشيرة عمر وإبراهيم ابنا عمّه عثمان بن عبد الحق والعباس ابن عمه محمد بن عبد الحق فقتلوه وثأروا منه بدم كانوا يعتدّونه عليه. وهلك لعام أو بعد عام من إمارته، فكفى يعقوب شأنه واستقام سلطانه، وذهب التنازع والمشاق عن أمره. وكان يغمراسن بعد مهلك قرنه الأمير أبي يحيى سما له أمل في الاجلاب على المغرب، فجمع لذلك قومه واستجاش بني توجين ومغراوة وأظمعهم في غيل الأسود ونهضوا إلى المغرب حتى انتهوا إلى كلدامان وصمد السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى لقائهم فغلبهم ورجعوا الى تفيئته [1] ، ومرّ يغمراسن ببلاد بطوية فأحرق وانتسف واستباح وأعظم فيها النكاية. ورجع السلطان إلى فاس وتقبّل مذاهب أخيه الأمير أبي يحيى في فتح أمصار المغرب وتدويخ أقطاره. وكان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي النصارى، فكان له بها أثر جميل وذكر خالد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن فجأة العدو مدينة سلا واستنقاذها من أيديهم)
كان يعقوب بن عبد الله [2] قد استعمله عمّه الأمير أبو يحيى على مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه. ولما استرجعها الموحّدون من يده أقام يتغلب في جهاتها مراصدا لأهلها وحاميتها. ولما بويع عمّه يعقوب بن عبد الحق اسقته بعض الأحوال، فذهب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ورجعوا على تعبية.
[2] وفي نسخة ثانية: بن عبد الحق.

(7/235)


مغاضبا حتى نزل غبولة، وألطف الحيلة في تملك رباط الفتح وسلا ليعتدّها ذريعة لما أسرّ في نفسه، فتمّت له الحيلة، وركب عاملها ابن يعلو البحر فارا إلى أزمور.
وخلف أمواله وحرمه فتملّك يعقوب بن عبد الله البلد وجاهر بالخلع، وصرف إلى منازعة عمه السلطان أبي يوسف وجوه العزم، وداخل تجار الحرب في الامداد بالسلاح. فتماروا في ذلك وكثر سفر المتردّدين بينهم، حتى كثروا أهلها وأسملوا فيها غرّة عيد الفطر من سنة ثمان وخمسين وستمائة عند شغل الناس بعيدهم. وثاروا بسلا، وسبوا الحرم وانتهبوا الأموال، وضبطوا البلد وامتنع يعقوب بن عبد الله برباط الفتح، وطار الصريخ إلى السلطان أبي يوسف، وكان بتازى مستشرفا لأحوال يغمراسن، فنادى في قومه، وطار بأجنحة الخيول ووصلها ليوم وليلة، وتلاحقت به أمداد المسلمين من أهل الديوان والمطوعة. ونازلها أربع عشرة ليلة، ثم اقتحمها عليهم عنوة، وأثخن فيهم بالقتل. ثم رمّ بالبناء ما كان متثلّما بسورها الغربي حيث أمكنت منه الفرصة في البلد وتناول البناء فيه بيده والله لا يضيع عمل عامل.
وخشي يعقوب بن عبد الله بادرة السلطان، فخرج من رباط الفتح وأسلمه فضبطه السلطان وثقفه. ثم نهض إلى بلاد تامسنا وأنفى، فملكها وضبطها ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة، فامتنع به وسرّح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعليّ بن زيّان لمنازلته. وسار إلى لقاء يغمراسن لقاء المهادنة، فلقيه بجوحرمان [1] وافترقا على السلم ووضع أوزار الحرب، ورجع السلطان إلى المغرب فخرج عليه أبناء أخيه أولاد إدريس. ولحقوا بقصر كتامة. شايعوا يعقوب ابن عمهم عبد الله على رأيه. واجتمعوا إلى أكبرهم محمد بن إدريس فيمن إليهم من العشير والصنائع، فنهض إليهم واعتصموا بجبال غمارة، ثم استنزلهم واسترضاهم وعقد لعامر ابن إدريس سنة ستين وستمائة على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المطوعة من بني مرين، وأغزاهم إلى العدوة لجهاد العدوّ وحملهم، وفرض لهم. وشفع بها عمله في واقعة سلا وهو أوّل جيش أجاز من بني مرين، فكان لهم في الجهاد والمرابطة مقامات محمودة وذكر خالد تقبّل سلفهم فيها خلفهم من بعدهم حسبما نذكره.
وأقام يعقوب بن عبد الله خارجا بالنواحي مثقلا في الجهات إلى أن قتله طلحة بن على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلقيه بوادي محرمان.

(7/236)


بساقيه غبّولة من ناحية سلا سنة ثمان وستين وستمائة فكفى السلطان شأنه. وكان المرتضى مذ توالت عليهم الوقائع واستمرّ الظهور لبني مرين انحجر في جدرانه وتوارى بالأسوار عن عدوّه، فلم يسم إلى لقاء زحف ولا حدّث نفسه بشهود حرب، واستأسد بنو مرين على الدولة وشرهوا إلى التهام البقية، وأسفوا إلى منازلة مراكش دار الخلافة، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن منازلة السلطان أبي يوسف حضرة مراكش دار الخلافة وعنصر الدولة وما كان أثر ذلك من نزوع أبي دبوس إليه وكيف نصبه للامر وكان مهلك المرتضى على يده ثم انتقض عليه
لما فرغ السلطان من شأن الخوارج عليه من عشيرة، استجمع لمنازلة المرتضى والموحّدين في دارهم، ورأى أنه أوهن لدولتهم وأقوى لأمره عليهم. وبعث قومه واحتشد أهل ممالكه، واستكمل تعبيته وسار حتى انتهى إلى ايكليز [1] واعتزم على ذلك سنة ستين وستمائة وشارف دار الخلافة. ثم نزل بقعرها وأخذ بمخنقها. وعقد المرتضى لحربهم للسيد أبي العلاء إدريس المكنّى بأبي دبّوس ابن السيّد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن، فعبّى كتائبه ورتّب مصافه، وبرز لمدافعتهم ظاهر الحضرة، فكانت بينهم حروب بعد العهد بمثلها، استشهد فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وكانوا يسمونه برطانتهم المعجوب [2] ففتّ مهلكه في عضدهم، وارتحلوا عنها إلى أعمالهم، واعترضهم عساكر الموحّدين بوادي أمّ الربيع، وعليهم يحيى بن عبد الله بن وانودين، فاقتتلوا في بطن الوادي وانهزمت عساكر الموحدين. وكان في مسيل الوادي كدي تحسر عنها غمر الماء تبدو كأنها أرجل، فسميت الواقعة بها أمّ الرجلين. ثم سعى سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى في ابن عمّه وقائد حربه السيّد أبي دبوس بطلبه الأمر لنفسه، وشعر بالسعاية فخشي
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ايكلين.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: ايعجوب.

(7/237)


بادرة المرتضى ولحق بالسلطان أبي يوسف مدخله إلى فاس من منازلته آخر سنة إحدى وستين وستمائة نازعا إليه، فأقام عنده مليا. ثم سأل منه الإعانة على أمره بعسكر يمدّه وآلة يتّخذها لملكه، ومال يصرفه في ضروراته على أن يشركه في القسمة والفتح والسلطان، فأمدّه بخمسة آلاف من بني مرين، وبالكفاية من المال والمستجاد من الآلة وأهاب له بالعرب والقبائل من أهل مملكته ومن سواهم أن يكونوا يدا معه. وسار في الكتائب حتى شارف الحضرة، ودسّ إلى أشياعه ومن يداخله من الموحّدين في أمره، فثاروا بالمرتضى وأخفضوه [1] عنها، فلحق بأزمور مستجيشا بصهره ابن عطوش. ودخل أبو دبوس الحضرة في المحرّم فاتح خمس وستين وستمائة وتقبّض ابن عطوش عامل أزمور على المرتضى واقتاده أسيرا إلى أبي دبوس، فبعث مولاه مزاحما فاحتزّ رأسه في طريقه، واستقلّ بالخلافة صبابه آل عبد المؤمن. ثم بعث إليه السلطان في الوفاء بالمشارطة، فاستنكف، وعثا ونقض العهد وأساء الخطاب، فنهض إليه في جموع بني مرين وعساكر المغرب، فخام عن اللقاء وانحجز بمراكش. ونازلة السلطان أياما تباعا ثم سار في الجهات والنواحي يحطّم الزرع وينسف الأقوات. وعجز أبو دبوس عن دفاعه، فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان ليفت في عضده ويشغله عما وراءه، ويأخذ بحجزته عن التهامه على ما نذكر لو أمهلته الأيام، وانفسح له الأجل.
الخبر عن وقيعة تلاغ بين السلطان يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زيان بإغراء أبي دبوس وتضريبه
لما نازل السلطان أبو يوسف حضرة مراكش وقعد على ترائبه للتوثّب عليها، لم يجد أبو دبّوس وليجة من دون قصده إلّا استجاشته بيغمراسن وقومه عليه، ليأخذوا بحجزته عنه، ويشغلوه من ورائه. فبعث إليه الصريخ في كشف بلواه ومدافعة عدوّه. وأكد العهد وأسنى الهديّة، فشمّر يغمراسن لاستنقاذه وجذب عدوّه من ورائه، وشنّ الغارات على ثغور المغرب وأضرم نارا فأهاج عليه وعلى قومه من السلطان يعقوب ليثا عاديا، وأرهف منه عزما ماضيا، وأفرج يعقوب على مراكش بعزم النهوض إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: اجهضوه.

(7/238)


تلمسان، ونزل بفاس، فتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة الحرب، وأكمل استعدادها ورحل فاتح ست وستين وستمائة وسلك على كرسيف، ثم على تافرطا، وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وعبّى كل منهم كتائبه ورتّب مصافه، وبرز النساء سافرات الوجوه على سبيل التحريض لحسن وسعد بن ويرغين [1] ولما فاء الفيء ومال النهار، وكثرت حشود المغرب وجموع بني عبد الواد ومن إليهم، انكشفوا ومنحوا العدوّ أكتافهم. وهلك أبو حفص عمر كبير ولد يغمراسن وولي عهده في جماعة من عشيرة، ذكرناهم في أخباره. وأخذ يغمراسن بأعقاب قومه، فكان لهم ردءا إلى أن خلصوا من المعترك ووصلوا إلى بلادهم في جمادى من سنتهم، وعاد السلطان أبو يوسف إلى مكانه من حصار مراكش والله أعلم.
الخبر عن السفارة والمهاداة التي وقعت بين السلطان يعقوب ابن عبد الحق وبين المستنصر الخليفة بتونس لن آل أبي حفص
كان الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص منذ دعا لنفسه بتونس سنة خمس وعشرين وستمائة طموحا إلى ملك مرّاكش مقر الدعوة ومنبعث الدولة وأصل الخلافة. وكان يؤمّل لذلك زناتة، وإلّا فما دونه من خضد شوكة آل عبد المؤمن، وتقليم أظافر بأسهم، وردّهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه، وتغلّب على تلمسان سنة أربعين وستمائة ودخل يغمراسن بن زيان في دعوته وصار فيئة له وتبعه على عدوّه كما ذكرناه، فوصل به جناحة للمدافعة. وناغاه بنو مرين في مراسلة ابن أبي حفص ومخاطبته، والتخفيض عليه فيما يهمه من شأن عدوه، وحمل ما يفتحون من بلاد المغرب على البيعة له والطاعة مثل: فاس ومكناسة والقصر. وكان هو يلاطفهم بالتحف والهدايا، ويريهم البرّ في الكتاب والخطاب والمعاملة والتكريم للوفد غير سبيل آل عبد المؤمن، فكانوا يجنحون بذلك إلى مراسلته، وإيفاد قرابتهم عليه.
وولي ابنه المستنصر بعده سنة سبع وأربعين وستمائة فتقبّل مذاهب أبيه وأوفى عليه بالإيعاز إليهم بمنازلة مراكش، وضمان الإنفاق عليهم فيها، فكان يبث لذلك أحمالا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على سبيل التحريض، يحيين ويعدين ويرغبن.

(7/239)


من المال والسلاح وأعدادا وافرة من الخيل بمراكبها للحملان، ولم يزل ذلك دأبه معهم. ولما فعل أبو دبّوس فعلته في نقض العهد واستجمع السلطان لمنازلته، قدم بين يدي عمله مراسلة الخليفة المستنصر يخبره الخبر ويتلطّف له في استنزال المدد، فأوفد عليه ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد الحق، وأصحبه عبد الله بن كندوز لعبد الواد كبير بني كمي، وقريع يغمراسن الّذي ثأر يغمراسن من أبيه كندوز بأبيه زيان كما ذكرناه في أخبارهم. وكان خلص إليه من حضرة المستنصر فلقاه مبرّة وتكريما، وأوفد معهم الكاتب أبا عبد الله محمد الكناني من صنائع دولة آل عبد المؤمن، كان نزع إلى أخيه الأمير أبي يحيى لما رأى من اختلال الدولة، وأنزله مكناسة وآثره بالصحبة والخلّة، فجمع له يعقوب بن عبد الحق في هذا الوفد من الأشراف من يحسن الرئاسة، ويعرب عما في ضمائر الناس، ويدله على شرف مرسلة. فوفدوا على المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وأدّوا رسالتهم وحركوا له جوار المظاهرة على صاحب مراكش وكبح عنانه، فحنّ واهتز سرورا من أعواده، ولقاهم مبرّة التكريم وإحسان النزل، وردّ الأمير عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز لوقتهما. وتمسّك بالكناني من بينهم لمصاحبة وفده، فطال مقامه عنده إلى أن كان من فتح مراكش ما نذكره.
ثم أوفد المستنصر على السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر سنة تسع وستين وستمائة بعدها شيخ الجماعة من الموحّدين لعهده أبا زكريا يحيى بن صالح الهنتاني مع جماعة من مشيخة الموحدين في مرافقة محمد الكناني، وبعث معهم إلى السلطان هدية سنيّة يلاطفه بها ويتاحفه، انتخب فيها من الجياد والسلاح وأصناف الثياب الغريبة العمل ما انتقاه. ووفق رضاه وهمته على الاستكثار منه، فحسن موقعها وتحدّث وانقلب وفده أحسن منقلب بعد أن تلطّف محمد الكناني في ذكر الخليفة المستنصر على منبر مراكش، فتم له، وشهد له وفد الموحّدين فعظم سرورهم وانقلبوا محبورين مسرورين، واتصلت بعد ذلك مهاداة المستنصر ليعقوب بن عبد الحق إلى أن هلك، وحذا ابنه الواثق من بعده على سننه، فبعث إليه سنة سبع وسبعين وستمائة هدية حافلة، بعث بها القاضي أبا العباس الغماريّ قاضي بجاية فعظم موقعها، وكان لأبي العبّاس الغماري بالمغرب ذكر تحدّث به الناس والله أعلم
.

(7/240)


(الخبر عن فتح مراكش ومهلك أبي دبوس وانقراض دولة الموحدين من المغرب)
لما رجع السلطان أبو يوسف من حرب يغمراسن ورأى أن قد كفى عدوّه وكف غربة وردّ من كيده وكيد أبي دبوس صريخه، صرف حينئذ عزائمه إلى غزو مراكش، والعودة إلى مضايقتها كما كان لأول أمره، ونهض لغزاته من فاس في شعبان من سنته. ولما جاوزوا أمّ الربيع، بثّ السرايا وسرّح الغارات، وأطلق الأيدي والأعنة للنهب والعيث، فحطّموا زروعها وانتسفوا آثارها، وتقرى نواحيها كذلك بقية عامة.
ثم غزا عرب الخلط من جشم بتادلا، فأثخن فيهم واستباحهم. ثم نزل وادي العبيد، ثم غزا بلاد صنهاجة، ولم يزل ينقل ركابه بأنحاء البلاد المراكشية وأحوازها حتى حضرت صدور بني عبد المؤمن وقومه، وأغزاهم أولياء الدولة من عرب جشم بنهوض الخليفة لمدافعة عدوّه، فجمع لذلك وبرز في جيوش ضخمة وجموع وافرة، واستجرّه أبو يوسف بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ، فيستمكن منه حتى نزل عفو. ثم كرّ إليه والتحم القتال فاختل مصافه وفرّت عساكره. وانهزم يريد مراكش فأدركوه دون أمله. واعتاقه أجله، فطعن في مفرّه وخرّ صريعا لليدين وللفم واجتز رأسه. وهلك بمهلكه وزيره عمران وكاتبه عليّ بن عبد الله المغيلي. وارتحل السلطان أبو يوسف إلى مراكش وفرّ من كان بها من الموحدين، فلحقوا بجبل تين ملّل، وبايعوا إسحاق أخا المرتضى، فبقي ذبالة هنالك سنين. ثم تقبّض عليه سنة أربع وسبعين وستمائة، وسيق إلى السلطان هو وأبو سعيد ابن عمّه السيد أبي الربيع والقبائلي وأولاده فقتلوا جميعا. وانقرض أمر بني عبد المؤمن. والله وارث الأرض ومن عليها.
وخرج الملاء وأهل الشورى من الحضرة إلى السلطان فأمّنهم ووصلهم. ودخل مراكش في بروز فخم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وورث ملك آل عبد المؤمن وتولّاه. واستوسق أمره بالمغرب، وتطامن الناس لبأسه، وسكنوا لظلّ سلطانه. وأقام بمراكش إلى رمضان من سنته، وأغزى ابنه الأمير أبا مالك إلى بلاد السوس فافتتحها وأوغل في ديارها ودوّخ أقطارها، ثم خرج بنفسه إلى بلاد درعة فأوقع بهم

(7/241)


الوقيعة المشهورة التي خضدت من شوكتهم، ورجع لشهرين من غزاته، ثم أجمع الرحلة إلى داره بفاس فعقد على مراكش وأعمالها لمحمد بن عليّ بن يحيى من كبار أوليائهم ومن أهل خؤولته، وكان من طبقة الوزراء حسبما يأتي التعريف به وبعشيرته، وأنزله بقصبة مراكش، وجعل المسالح في أعمالها لنظره، وعهد إليه بتدويخ الأقطار ومحو آثار بني عبد المؤمن، وفصل إلى حضرته في شوّال وأراح بسلا، فكان من خبر عهده لابنه ما نذكره ان شاء الله تعالى.
الخبر عن عهد السلطان لابنه أبي مالك وما كان عقب ذلك من خروج القرابة عليه أولاد أخيه إدريس واجازتهم الى الأندلس
لما تلوم السلطان بسلا منصرفه من رباط الفتح وأراح بها ركائبه عرض له طائف من المرض ووعك وعكا شديدا. فلمّا أبلّ جمع قومه وعهد لابنه فيهم أبي مالك عبد الواحد كبير ولده، لما علم من أهليته لذلك. وأخذ له البيعة عليهم، فأعطوها طواعية، وأسف القرابة من ولد أخويه عبد الله وإدريس لأمّهما سوط النساء، ووجدوا في أنفسهم لما يرون أنّ عبد الله وإدريس أكابر ولد عبد الحق، ولهما التقدّم على من بعدهما من ولده، وأنهما أحق بالأمر، فرجعت هنت إلى أذنابها [1] ، ونفسوا عن ابن السلطان لما أخذ له من البيعة والعهد. ونزعوا عنه إلى جبل علودان من جبال غمارة عشّ خلافهم. ومدرج فتنتهم، وذلك سنة تسع وستين وستمائة ورياستهم يومئذ لمحمد بن إدريس وموسى بن رحّو بن عبد الله، وخرج معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق وأغزاهم السلطان ولده أبا يعقوب يوسف في خمسة آلاف من عسكره، فأحاط بهم وأخذ بمخنقهم، ولحق به أخوه أبو مالك في عسكره، ومعه مسعود بن كانون شيخ سفيان. ثم خرج في أثرهم السلطان أبو يوسف واجتمع معسكرهم بتافركا ونازلوهم ثلاثا. وهلك في حروبهم منديل بن ورتطليم. ولما رأوا أن أحيط بهم سألوا الأمان، فبذله وأنزلهم. واستلّ سخائمهم ومسح ما في صدورهم، ووصل بهم إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فعادت هيف الى أديانها.

(7/242)


حضرته. وسألوا منه الاذن في اللحاق بتلمسان حياء من كبر ما ارتكبوه، فأذن لهم، وأجازوا البحر إلى الأندلس، وخالفهم عامر بن إدريس لما أنس من صاغية السلطان إليه، فتخلّف عنهم بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد الى قومه بعد منازلة السلطان بتلمسان كما نذكره الآن.
واحتلّ بنو إدريس وعبد الله وابن عمهم أبو عياد بأندلس على حين أقفر من الحامية جوها، واستأسد العدوّ على ثغرها. وغلبت شفاههم فاحتلّوها أسودا ضارية، وسيوفا ماضية، معوّدين لقاء الأبطال وقراع الحتوف والنزال. مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة العز وبسالة التوحّش فعظمت نكايتهم في العدوّ واعترضوا شجي في صدره دون الوطن الّذي كان طعمه له في ظنّه، وارتدّوه على عقبه، ونشطوا من همم المسلمين المستضعفين وراء البحر وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم. وزاحموا أمير الأندلس في رياستها بمنكب، فتجافى لهم عن خطّة الحرب ورياسة الغزاة من أهل العدوة من أعياصهم وقبائلهم ومن سواهم من أمم البرابرة، وتناقلوه وساهموه في الجباية لفرط العطاء والديوان، فبذله لهم واستمدّوا على العدوّ [1] وحسن أثرهم فيها كما نذكره بعد في أخبار القرابة. ثم أعمل السلطان نظره في غزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حركة السلطان أبي يوسف الى تلمسان وواقعيته على يغمراسن وقومه بايسيلى
لما غلب السلطان أبو يوسف على بني عبد المؤمن وفتح مراكش واستولى على ملكهم سنة ثمان وستين وستمائة وعاد إلى فاس كما ذكرناه، تحرّك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن وبني عبد الواد، وما أسفوا به من تخذيل عزائمه ومجادلته [2] عن قصده.
ورأى أنّ واقعة تلاغ لم تشف صدره، ولا أطفأت نار موجدته، فأجمع أمره على غزوهم. واقتدر بما صار إليه من الملك والسلطان على حشد أهل المغرب لحربهم وقطع دابرهم، فعسكر بفاس، وسرّح ولده وولّي عهده أبا مالك إلى مراكش في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واستمروا على ذلك لهذا العهد.
[2] وفي نسخة اخرى: مجاذبته.

(7/243)


خواصّه ووزرائه حاشدين في مدائنها وضواحيها وقبائل العرب والمصامدة وبني ورا وغمرة وصنهاجة، وبقايا عساكر الموحدين بالحضرة، وحامية الأمصار من جند الروم وناشبة الغزو فاستكثر من أعدادهم واستوفى حشدهم. واحتفل السلطان بحركته وارتحل عن فاس سنة سبعين وستمائة وتلوم بملوية إلى أن لحقته الحشود وتوافت إليه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا الذين هم سفيان والخلط والعاصم، وبنو جابر ومن معهم من الأثبج، وقبائل ذوي حسّان والشبانات من المعقل أهل السوس الأقصى، وقبائل رياح أهل أزغار والهبط. فاعترض هنالك عساكر وعبّى مواكبه، فيقال بلغت ثلاثين ألفا. وارتحل يريد تلمسان، ولما انتهى إلى أنكاد [1] وافته رسل ابن الأحمر هنالك ووفد المسلمين بالأندلس صريخا على العدوّ يستجيشون بإخوانهم المسلمين ويسألونهم الإعانة، فتحرّكت همته للجهاد ونصر المسلمين من عدوّهم. ونظر في صرف الشواغل عن ذلك، وجنح إلى السلم مع يغمراسن، وصوّب الملاء في ذلك رأيه لما كانوا عليه من إيثار الجهاد. وانتدب جماعة من المشيخة إلى السعي في صلاح ذات بينهما، وانكفأ من غرب عدوتهما.
وساروا إلى يغمراسن فوافوه بظاهر تلمسان وقد أخذ أهبته واستعدّ للقاء. واحتشد زناتة أهل ممالكه بالشرق من بني عبد الواد وبني راشد ومغراوة وأحلافهم من العرب زغبة. فلجّ في ذلك واستكبر وصم عن إسعافهم. وزحف في جموعه، والتقى الجمعان بوادي ايسيلي من بسائط وجدة، والسلطان أبو يوسف قد عبى كتائبه، ورتّب مصافه وجعل ولديه الأميرين أبا مالك وأبا يعقوب في الجناحين، وسار في القلب، فدارت بينهم حرب شديدة انجلت عن هلاك فارس بن يغمراسن، وجماعة من بني عبد الواد. وكاثرهم حشود المغرب الأقصى وقبائله، وعساكر الموحدين والبلاد المراكشية، فولوا الأدبار. وهلك عامّة عسكر الروم لثباتهم بثبات السلطان فطحنتهم رحى الحرب. وتقبّض على قائدهم بيرنيس. ونجا يغمراسن بن زيان في فلّه مدافعا دون أهله إلى تلمسان. ومرّ بفساطيطه، فأضرمها نارا، وانتهب معسكره، واستبيحت حرمه. وأقام السلطان أبو يوسف على وجدة حتى خرّبها وأصرع بالتراب
__________
[1] انكاد: مدينة قرب تلمسان من بلاد البربر من أرض المغرب، كانت لعليّ بن أحمد قديما، ذات سور من تراب في غاية الارتفاع والعرض، وواديها يشقها نصفين، منها الى تاهرت بالعرض مشرقا ثلاث مراحل (معجم البلدان) .

(7/244)


أسوارها، وألصق بالرغام جدرانها. ثم نهض إلى تلمسان فحاصرها أياما وأطلق الأيدي في ساحتها بالنهب والعيث، وشنّ الغارات على البسائط، فاكتسحها سبيا ونسفها نسفا.
وهلك في طريقه إلى تلمسان وزيره عيسى بن ماساي، وكان من علية وزرائه وحماة ميدانه له في ذلك أخبار مذكورة. وكان مهلكه في شوّال من هذه السنة. ووصله بمثواه من حصارها محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، ومستصرخه على بني عبد الواد لما نال منه يغمراسن من طبخ القهر وذلّ الغلب والتحيف في كافة قبيلة مباهيا بآلته، فأكرم السلطان أبو يوسف وفادته واستركب الناس للقائه وبرور مقدمه. واتخاذ رتبة السلاح لمباهاته، وأقام محاصرا لتلمسان معه أياما حتى وقع اليأس وامتنع البلد، واشتدّ شوكة حاميته ثم أجمع السلطان أبو يوسف على الإفراج عنها وأشار على الأمير محمد بن عبد القويّ وقومه بالقفول قبل قفوله، وان يغذّوا السير إلى بلادهم.
وملاء حقائبهم باتحافه وجنب لهم من المائة من المقرّبات بمراكبها، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب. وعمهم بالخلع مع الصلات والخلع الفاخرة. واستكثر لهم من السلاح والفازات والفساطيط، وحملهم على الظهر، وارتحلوا وتلوّم السلطان أياما لمنجاتهم إلى مقرّهم من جبل وانشريس حذرا من غائلة يغمراسن من انتهاز الفرصة فيهم.
ثم دخل إلى فاس ودخلها مفتتح إحدى وسبعين وستمائة وهلك ولده الأمير أبو مالك وليّ عهده لأيام من مقدمه، فأسف لمهلكه. ثم تعزّى بالصبر الجميل عن فقده، ورجع إلى حاله في افتتاح بلاد المغرب. وكان في غزوته هذه ملك حصن تاونت، وهو معقل مطغرة، وشحنه بالأقوات لما رآه ثغرا مجاورا لعدوّه. وأسلمه لنظر هارون ابن شيخ مطغرة. ثم ملك حصن مليلة بساحل الريف مرجعه من غزاته هذه. وأقام هارون بحصن تاونت، ودعا لنفسه. ولم يزل يغمراسن يردّد الغزو إليه حتى فرّ من الحصن واستلمه سنة خمس وسبعين وستمائة ولحق بالسلطان أبي يوسف كما ذكرناه في أخباره، عند ذكر قبيلة مطغرة وكان من شأنه ما ذكرناه.
الخبر عن افتتاح مدينة طنجة وطاعة أهل سبتة وفرض الاتاوة عليهم وما قارن ذلك من الاحداث
كانت هاتان المدينتان سبتة وطنجة من أوّل دولة الموحّدين من أعظم عمالاتهم وأكبر

(7/245)


ممالكهم بما كانت ثغر العدوة ومرفأ الأساطيل، ودارا لإنشاء الآلات التجرية [1] ، وفرضة الجواز إلى الجهاد. فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن.
وقد ذكرنا أن الرشيد كان عقد علي أعمالها لأبي عليّ بن خلاص من أهل بلنسية، وأنه بعد استفحال الأمير أبي زكريا بإفريقية ومهلك الرشيد، صرف الدعوة إليه سنة أربعين وستمائة وبعث إليه بالمال والبيعة مع ابنه أبي القاسم. وولّى على طنجة يوسف ابن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمدانيّ المعروف بابن الأمير قائدا على الرجل الأندلسيين، وضابطا للقصبة. وعقد الأمير أبو زكريا على سبتة لأبي يحيى بن أبي زكريا، ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص فنزل بها واستراب أبو علي ابن خلاص من العواقب عند مهلك ابنه الوافد على السلطان غريقا في البحر، فرحل بجملته إلى تونس في السفن، وأراح ببجاية، فكان فيها هلاكه سنة ست وأربعين وستمائة ويقال هلك في سفينته ودفن بجاية، ولما هلك الأمير أبو زكريا سنة سبع وأربعين وستمائة بعدها انتقض أهل سبتة على ابنه المستنصر وطردوا ابن الشهيد، وقتلوا العمّال الذين كانوا معه، وصرفوا الدعوة للمرتضى. وتولّى ذلك حجفون [2] الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي كبير المشيخة بسبتة، وأعظمهم تجلّة، نشأ في حجر أبيه الفقيه الصالح أبي العبّاس أحمد مكنوفا بالجلالة مغذّوا بالعلم والدين، لما كان له فيها قدم إلى أن هلك، فأوجب أهل البلد لابنه ما عرفوه من حقّه وحق أبيه من قبله، وكانوا يفزعون إليه في المهمّات ويسلمون له في الشورى، فأغرى الرنداحي بهذه الفعلة ففعلها وعقد المرتضى لأبي القاسم العزفي على سبتة مستقلا من غير إشراف أحد من السادة، ولا من الموحّدين. واكتفى بغنائه في ذلك الثغر وعقد لحجبون الرنداحي على قيادة الأساطيل بالمغرب، فورثها عنه بنوه إلى أن زاحمهم العزفي بمناكب رياسته، فقوضوا عن سبتة فمنهم من نزل بمالقة على ابن الأحمر ومنهم من نزل بجاية على أبي حفص، ولهم في الدولتين آثار تشهد برياستهم. واستقل الفقيه أبو القاسم العزفي برياسة سبتة، وأورثها بنيه من بعده على ما نذكره بعد.
وكانت طنجة تالية سبتة في سائر الأحوال وتبعا لها، فاتبع ابن الأمير صاحبها إمارة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: البحرية.
[2] وفي نسخة اخرى: حجبون الرنداحي وفي نسخة ثانية: حجبون الزنداحي.

(7/246)


الفقيه أبي القاسم. ثم انتقض عليه لسنة واستبدّ وخطب لابن أبي حفص، ثم للعباسي، ثم لنفسه، وسلك فيها مسلك العزفي في سبتة، ولبثوا كذلك ما شاء الله، حتى إذا ملك بنو مرين المغرب وانبثوا في شعابه، ومدّوا اليد في ممالكه فتناولوها، ونزلوا معاقلة وحصونه فافتتحوها، وهلك الأمير أبو يحيى عبد الحق وابنه عمر من بعده. وتحيّز بنوه في ذويهم وأتباعهم وحشمهم إلى ناحية طنجة وأصيلا، فأوطنوا ضاحيتها وأفسدوا سابلتها وضيقوا على ساكنها، واكتسحوا ما حواليها، وشارطهم ابن الأمير على خراج معلوم على أن يكفوا الأذيّة ويحموا الحوزة ويصلحوا السابلة.
فاتصلت يده بيدهم، وتردّدوا إلى البلد لاقتضاء حاجاتهم. ثم مكروا وأضمروا الغدر ودخلوا في بعض أيامهم متأبطين السلاح، وفتكوا بابن الأمير غيلة، فثارت بهم العامّة لحينهم واستلحموا في مصرع واحد سنة خمس وستين وستمائة واجتمعوا إلى ولده وبقيت في ملكته خمسة أشهر. ثم استولى عليها العزفي فنهض إليها بعساكره من الرجل برّا وبحرا، واستولى عليها، وفرّ ابن الأمير ولحق بتونس ونزل على المستنصر واستقرّت طنجة في إيالة العزفي فضبطها وقام بأمرها، وولّى عليها من قبله. وأشرك الملاء من أشرافها في الشورى. ونازلها الأمير أبو مالك سنة ست وستين وستمائة فامتنعت عليه وأقامت على ذلك ستا، حتى إذا انتظم السلطان أبو يوسف ببلاد المغرب في ملكته، واستولى على حضرة مراكش ومحا دولة بني عبد المؤمن، وفرغ من أمر عدوه يغمراسن، وهم بتلك الناحية واستضافة عملها، فأجمع الحركة إليها ونازل طنجة مفتتح سنة اثنتين وسبعين بما كانت في البسيط من دون سبتة، وأقام عليها أياما. ثم اعتزم على الإفراج عنها، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وافترق بينهم. وتنادى في بعض الناشية من السور بشعاب بني مرين، فبادر سرعان أناس إلى تسوّر حيطانها فملكوها عليهم، وقاتلوا أهل البلد ظلام ليلتهم، ثم دخلوا البلد من صبيحتها عنوة، ونادى منادي السلطان في الناس بالأمان والعفو عن أهل البلد، فسكن روعهم ومهد وفرغ من شأن طنجة. ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في عساكر ضخمة لمنازلة العزفي في سبتة وارغامه على الطاعة، فنازلها أياما، ثم لاذ بالطاعة على المنعة. واشترط على نفسه خراجا يؤديه كل سنة، فتقبّل السلطان منه، وأفرجت عساكره عنهم، وقفل إلى حضرته. وصرف نظره إلى فتح سجلماسة وإزعاج بني عبد الواد المتغلّبين عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى.

(7/247)


الخبر عن فتح سجلماسة الثاني ودخولها عنوة على بني عبد الواد والمنبات من عرب المعقل
قد ذكرنا ما كان من تغلّب الأمير أبي يحيى بن عبد الحق على سجلماسة وبلاد درعة، وأنه عقد عليها وعلى سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، وأنزل معه ابنه مفتاحا المكنّى بأبي حديد في مشيخته لحياطتها. وأنّ المرتضى سرّح وزيره ابن عطوش سنة أربع وخمسين وستمائة في العساكر لارتجاعها، فنهض الأمير أبو يحيى إليه وشرّده عنها ورجعه على عقبه. وأن يغمراسن بن زيّان من بعد واقعة أبي سليط سنة خمس وخمسين وستمائة، قصدها لعورة دلّ عليها، وغرّة أمل إصابتها، فسابقه إليها الأمير أبو يحيى ومالقة من دونها ورجع عنها خائب المسعى مفلول الحامية. وكان الأمير أبو يحيى من بعد أن عقد عليها ليوسف بن يزكاسن عقد عليها من بعده لسنة ونصف من ولايته ليحيى بن أبي منديل كبير بني عسكرا قتالهم، ومقاسميهم نسب محمد بن وطيص [1] ثم عقد عليها لشهرين لمحمد بن عمران ابن عبلة من بني يرنيان صنائع دولتهم. واستعمل معه على الجباية أبا طالب الحبشي [2] وجعل مسلحة الجند بها لنظر أبي يحيى القطراني، وملّكه قيادتهم. وأقاموا على ذلك سنتين اثنتين.
ولما هلك الأمير أبو يحيى وشغل السلطان أبو يوسف بحرب يغمراسن ومنازلة مراكش، سما للقطراني أمل في الاستبداد بها، وداخل في ذلك بعض أهل الفتن وظاهره يوسف بن الغزي [3] وفتكوا بعمّار الورند غزاني شيخ الجماعة بالبلد. وائتمروا بمحمد بن عمران بن عبلة، فخرج ولحق بالسلطان، واستبدّ القطراني بها. ثم ثار به أهل البلد سنة ثمان وخمسين وستمائة لسنة ونصف من لدن استبداده وقتلوه.
وصرفوا بيعتهم إلى الخليفة المرتضى بمراكش. وتولّى كبر ذلك القاضي ابن حجّاج وعليّ بن عمر، فعقد له المرتضى عليها وأقام بها أميرا. ونازلتهم عساكر بني مرين والسلطان أبو يوسف سنة ستين وستمائة ونصب عليها آلات الحصار فأحرقوها وامتنعوا،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ورصيص.
[2] وفي نسخة ثانية: أبا طالب بن الحبسي.
[3] وفي نسخة أخرى: يوسف بن فرج العزفي.

(7/248)


وأفرج عنهم. وأقام عليّ بن عمر في سلطانه ذلك ثلاث سنين، ثم هلك. وكان الأمير يغمراسن بن زيان منذ غلب الموحدين على تلمسان والمغرب الأوسط، وصار في ملكته، تحيّز إليه من عرب المعقل قبيل المنبات من ذوي منصور، بما كانت مجالات المعقل مجاورة لمجالات بني يادين في القفر. وإنما ارتحلوا عنها من بعد ما جأجأ يغمراسن من بني عامر بمجالاتهم من مصاب ببلاد بني يزيد، فزاحموا المعقل بالمناكب عن مجالاتهم ببلاد فيكيك وصا. ورحّلوهم إلى ملويّة وما وراءها من بلاد سجلماسة، فملكوا تلك المجالات.
ونبذ يغمراسن العهد إلى ذوي عبيد الله منهم واستخلص المنبات هؤلاء، فكانوا له حلفاء وشيعة ولقومه ودعوته خالصة. وكانت سجلماسة في مجالاتهم منقلب ظعنهم وناجعتهم، ولهم فيها طاعة معروفة. فلما هلك عليّ بن عمر آثروا يغمراسن بملكها، فحملوا أهل البلد على القيام بطاعته، وخاطبوه وجأجئوا به، فغشيها بعساكره وملكها وضبطها. وعقد عليها لعبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد بن زكراز بن يندوكس [1] ويعرف بابن حنينة نسبه إلى أمّ أبيه أخت يغمراسن ومعه يغمراسن بن حمامة. وأنزل معهما ولده الأمير يحيى لإقامة الرسم الملوكي. ثم أداله بأخيه من السنة الأخرى، وكذا كان شأنه في كل سنة. ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وانتظم أمصاره ومعاقلة في طاعته، وغلب بني عبد المؤمن على دار خلافتهم، ومحا رسمهم، وافتتح طنجة وطوع سبتة مرفأ الجواز إلى العدوة، وثغر المغرب، سما أمله إلى بلاد القبلة فوجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلّبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وستمائة فنازلها وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرّادات، وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانه أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة تردّ الأفعال إلى قدرة باريها. فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها، إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوها عنوة من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: زكدان بن تيدوكسن.

(7/249)


تلك الفرجة في صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة فقتلوا المقاتلة والحامية وسبوا الذرية [1] ، وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة، ومن كان معهم من بني عبد الواد وأمراء المنبات، وكمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي يوسف، وتمشّت طاعته في أقطاره. فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته، ولا جماعة تتحيّز إلى غير فيئته ولا أمل ينصرف إلى سواه، ولما كملت له نعم الله في استيساق ملكه وتمهيد أمره، انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه، واستنقاذ المستضعفين من وراء البحر من عباده على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ولما انكفأ راجعا من سجلماسة، قصد مراكش من حيث جاء، ثم وقف إلى سلا فأراح بها أياما ونظر في شئونها، وسدّ ثغورها. وبلغه الخبر بوفادة أبي طالب صاحب سبتة الفقيه أبي القاسم العزفي على فاس، فأغذّ السير إلى حضرته، وأكرم وفادته وأحسن منقلبه إلى أبيه مملوء الحقائب ببرّه، رطب اللسان بشكره. ثم شرع في إجازة ولده كما نذكره الآن إن شاء الله تعالى.
الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف على النصارى وقتل زعيمهم ذننه وما قارن ذلك
كانت عدوة الأندلس منذ أوّل الفتح ثغرا للمسلمين، فيه جهادهم ورباطهم ومدارج شهادتهم وسبيل سعادتهم. وكانت مواطنهم فيه على مثل الرضف، وبين الظفر والناب من اسود الكفر لتوقر أممهم جوارها [2] وإحاطتهم بها من جميع جهاتها، وحجز البحر بينهم وبين إخوانهم المسلمين وقد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم، وبعدهم عن الصريخ.
وشاور في ذلك كبار التابعين وأشراف العرب فرأوه رأيا. واعتزم عليه لولا ما عاقه من المنية وعلى ذلك، فكان للإسلام فيه اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر، بطول دولة العرب من قريش ومضر واليمن. وكانت نهاية عزّهم وسورة غلبهم أيام بني أمية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سبوا الرعية.
[2] وفي نسخة ثانية: لتوفر أمتهم في جوارها.

(7/250)


بها، الطائرة الذكر الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئات من السنين أو ما يقاربها.
حتى انتثر سلكها بعد المائة الرابعة من الهجرة، وافترقت الجماعة طوائف وفشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب. واعتز البربر بالمغرب واستفحل شأنهم وجاءت دولة المرابطين فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام. وتمسكوا بالسنّة وتشوّقوا إلى الجهاد، واستدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم، فأجازوا إليهم وأبلوا في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وأوقعوا بالطاغية ابن أدفوش يوم الزلّاقة وغيرها. وفتحوا حصونا واسترجعوا أخرى واستنزلوا الثوّار ملوك الطوائف، وجمعوا الكلمة بالعدوتين. وجاء على أثرهم الموحّدون سالكين أحسن مذاهبهم، فكان لهم في الجهاد آثار على الطاغية أيام، منها يوم الأرك ليعقوب بن المنصور وغيره من الأيام، حتى إذا فشلت ريح الموحدين وافترقت كلمتهم وتنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس، وتحاربوا على الخلافة واستجاشوا بالطاغية وأمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمة على الاستظهار، فخشي أهل الأندلس على أنفسهم وثاروا بالموحدين وأخرجوهم وتولى ذلك ابن هود بمرسية وشرق الأندلس، وعمّ بدعوته سائر أقطارها، وأقام الدعوة فيها للعبّاسيّين، وخاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخبارهم. واستوفينا كلا بما وضعناه في مكانه. ثم انحجز ابن هود على الغريبة [1] لبعدها عنه، وفقده للعصابة المتناولة لها، وأنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة وتكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة، وكثر اختلاف المسلمين بينهم. وشغل بنو عبد المؤمن بما دهمهم من المغرب من شأن بني مرين وزناتة. فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية، وثار بحصنه أرجونة وكان شجاعا قدما ثبتا في الحروب، فتلقّف الكرّة من يد ابن هود خلع الدعوة العبّاسية، ودعا للأمير أبي زكريا بن أبي حفص سنة تسع وعشرين وستمائة فلم يزل في فتنة ابن هود يجاذبه الحبل ويقارعه على عمالات الأندلس واحدة بعد أخرى إلى أن هلك ابن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وتكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب ووفر له ابن هود
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم عجز ابن هود عن الغربية.

(7/251)


الجزية وبلغ بها أربعمائة ألف من الدنانير في كل سنة. ونزل له على اثنتين [1] من حصون المسلمين. وخشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية فجنح هو إليه وتمسّك بعروته، ونفر في جملته إلى منازلة إشبيليّة نكاية لأهلها. ولما هلك الأمير أبو زكريا نبذ الدعوة الحفصيّة، واستبدّ لنفسه، وتسمّى بأمير المسلمين، ونازعه بالشرق أعقاب ابن هود وبني مردنيش، ودعاه الأمر إلى النزول للطاغية من بلاد الفرنتيرة، فنزل عليها بأسرها. وكانت هذه المدّة من سنة اثنتين وعشرين إلى سنة سبعين، فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين واستبيح حماهم، والتهم العدوّ بلادهم وأموالهم نهبا في الحروب، ووضيعة ومداراة في السلم. واستولى طواغيت الكفر على أمصارها وقواعدها فملك ابن أدفوش قرطبة سنة ست وثلاثين، وجيان سنة أربع وأربعين، وإشبيليّة سنة ست وأربعين.
وتملك قمط برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع وثلاثين إلى ما بينهما من الحصون والمعاقل التي لا تعدّ ولا تحصى، وانقرض أمر الثوار بالشرق وتفرّد ابن الأحمر بغرب الأندلس، وضاق نطاقه على الممانعة دون البسائط الفيح من الفرنتيرة وما قاربها، ورأى أنّ التمسك بها مع قلّة العدد وضعف الشوكة مما يوهن أمره ويطمع فيه عدوّه، فعقد السلم مع الطاغية على النزول عنها أجمع. ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوّهم. واختار لنزله مدينة غرناطة، وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه. وفي أثناء هذا كلّه لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر والملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة ونصر الملة، واستنقاذ الحرم والولدان من أنياب العدو فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة الحبل مع الموحدين، ثم مع يغمراسن. ثم شغله بفتح بلاد المغرب وتدويخ أقطاره إلى أن هلك السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر المعروف بالشيخ، وأبي دبوس، لقبين كانا له على حين استكمال أمير المسلمين فتح المغرب وفراغه من شأن عدوّه سنة إحدى وسبعين وستمائة على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد ويسمون إليه وفي نفوسهم جنوح إليه وصاغية.
ولما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق وخرجوا سنة إحدى وستين وستمائة على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثلاثين.

(7/252)


السلطان يعقوب بن عبد الحق واسترضاهم واستصلحهم انتدب الكثير منهم للغزو وإجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس، واجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة ثلاثة آلاف أو يزيدون وعقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس فوصلوا إلى الأندلس فكان لهم فيها ذكر ونكاية في العدوّ، وكان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بالأمر بعده محمد، الشهير بالفقيه، لانتحاله طلب العلم أيام أبيه. وأوصاه أن يتمسّك بعروة أمير المسلمين ويخطب نصره، ويدرأ به ويقدّمه عن نفسه وعن المسلمين تكالب الطاغية. فبادر لذلك لحين مواراة أبيه وأوفد مشيخة الأندلس كافة عليه، ولقيه وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة خاتم الفتوح بالثغور المغربية وملاذ العز ومقاد الملك. وتبادروا للإسلام [1] وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين، وثقل وطأته، فحيّا وفدهم ورؤساءهم، وبادر لإجابة داعي الله واستئثار الجنة. وكان أمير المسلمين منذ أوّل أمره مؤثرا أعمال الجهاد كلفا به مختارا له حتى أعطي الخيار سائر آماله، حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى وطلب إذنه في ذلك عند ما ملكوا مكناسة سنة ثلاث وأربعين وستمائة فلم يأذن له وفصل إلى الغزو في حشمه وذويه ومن أطاعه من عشيرته. وأوعز الأمير أبو يحيى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي علي بن خلاص بأن يمنعه الإجازة، ويقطع عنه أسبابها. ولما انتهى إلى قصر الجواز، ثنى عزمه عن ذلك الولي يعقوب بن هارون الخبري، ووعده بالجهاد أميرا مستنفرا للمسلمين ظاهرا على العدوّ، فكان في نفسه من ذلك شغل وإليه صاغية.
فلما قدم عليه هذا الوفد نبّهوا عزائمه وذكروا همته، فأعمل في الاحتشاد وبعث في النفير. ونهض من فاس شهر شوّال من سنة ثلاث وسبعين وستمائة إلى فرضة المجاز من طنجة. وجهّز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم واستوفى أعطياتهم وعقد عليهم لابنه منديل وأعطاه الراية. واستدعى من الغد صاحب سبتة في السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل، فأجاز العسكر ونزل بطريف، وأراح ثلاثا، ودخل دار الحرب وتوغّل فيها، وأجلب على ثغورها وبسائطها. وامتلأت أيديهم من المغانم وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف الآثار، حتى نزل
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وتنادوا للإسلام بالثأر.

(7/253)


بساحة شريس، فخام حاميتها عن اللقاء وانحجروا في البلد، وقفل عنها إلى الجزيرة وقد امتلأت أيديهم من الأموال وحقائبهم من السبي وركائبهم من الكراع والسلاح.
ورأى أهل الأندلس قد ثاروا بعام العقاب حتى جاءت بعدها الطاعة الكبرى على أهل الكفر، واتصل الخبر بأمير المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه، وخشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة، فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن والرجوع للاتفاق والموادعة. ووضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله وموصل قومه. وبادر إلى الإجابة والألفة، وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم. وبعث معهم الرسل وأسنى الهديّة وجمع الله كلمة الإسلام، وعظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد، وإيثاره مبرورات الأعمال. وبثّ الصدقات يشكر الله على ما منحه من التفرّغ لذلك. ثم استنفر الكافة واحتشد القبائل والجموع، ودعا المسلمين إلى الجهاد. وخاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة والعرب والموحّدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأوربة ومكناسة وجميع قبائل البرابرة وأهل المغرب من المرتزقة والمطّوعة. وأهاب بهم وشرع في إجازة البحر، فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع وسبعين وستمائة واحتلّ بساحة طريف.
وكان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر وأوفد عليه مشايخ الأندلس اشترط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره، فتجافى له عن رندة وطريف. ولما احتل بطنجة بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء، وأجاز البحر إليه. ولقيه بظاهر طنجة فأدّى له طاعته وأمكنه من قياد بلده. وكان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق صهر السلطان ابن الأحمر تبعا له في أمره ومؤازرا له على شأنه كله. وأبوهما أبو الحسن هو الّذي تولى كبر الثورة على ابن هود ومداخلة أهل إشبيليّة في الفتك بابن الباجي. فلما استوت قدمه في ملكه وغلب الثوّار على أمره فسد ما بينهما بعد أن كان ولّى أبا محمد على مقاله وأبا إسحاق على وادي آش [1] ، فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة واستأثر بها وبغربيتها دونه. ومع ذلك فكانوا على
__________
[1] أش: بالفتح والشين مخففة، وربما مدت همزته: مدينة الأشات بالأندلس من كورة البيرة وتعرف بوادي أش، والغالب على شجرها الشاهبلوط، وتنحدر إليها أنهار من جبال الثلج، بينها وبين غرناطة أربعون ميلا، وهي بين غرناطة وبجّانة (معجم البلدان) .

(7/254)


الصاغية فيئة ولحمة. ولما أحس أبو محمد بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق، قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم، وانحاش إلى جانب السلطان وولايته، وأمحضه المخالصة والنصيحة. فلما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينهما وبين الجزيرة وتسابق السلطان ابن الأحمر، وهو الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة والرئيس أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة والغربية، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان وتناغوا في برور مقدمه والإذعان له، ففاوضهما في أمور الجهاد، وأرجعهما لحينه إلى بلديهما. وانصرف ابن الأحمر مغاضبا لبعض النزعات أحفظته وأغذّ السير إلى الفرنتيرة، وعقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره. وسرّح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل تنسف الزرع وتحطّم الغروس وتخرّب العمران وتنتهب الأموال وتكتسح السرح وتقتل المقاتلة وتسبي النساء والذرّية، حتى انتهى إلى المدور وتالسة [1] وأبدة [2] واقتحم حصن بلمة عنوة. وأتى على سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها واكتسح أموالها. وقفل والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب. وجاء النذير باتباع العدو وآثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم. وأنّ زعيم الروم وعظيمهم ذنّته [3] خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه. فقدّم السلطان الغنائم بين يديه وسرّح ألفا من الفرسان أمامها، وسار يقتفيها، حتى إذا طلّت رايات العدو من ورائهم كان الزحف، ورتّب المصاف وحرّض وذكّر. وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحرّكت هممها، وأبلت في طاعة ربّها والذبّ عن دينها. وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقفها.
ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى هبت ريح النصر وظهر أمر الله وانكشفت جموع النصرانية، وقتل الزعيم ذنّنه والكثير من جموع الكفر. ومنح الله المسلمين أكتافهم، واستمرّ القتل فيهم. وأحصي القتلى في المعركة فكانوا ستة آلاف، واستشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة وآثرهم بما عنده. ونصر الله حزبه
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بايسة.
[2] أبّدة: بالضم ثم الفتح والتشديد: اسم مدينة بالأندلس من كورة جيّان تعرف بأبدة العرب، اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وتمّمها ابنه محمد. (معجم البلدان) .
[3] وفي نسخة أخرى دتنه، وكذا في نفح الطيب ج 1 ص 449 وقد ذكر أيضا ذونّنه ودونّنه.

(7/255)


وأعزّ أولياءه ونصر دينه. وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملّة وقيامها بنصر الكلمة. وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذنّنه إلى ابن الأحمر فردّه زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيّبه وأكرمه، ولاية أخلصها لهم، مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين، ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره، وقفل أمير المسلمين من غزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته، فقسّم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوّهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم، بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنّة ليصرفه في مصارفه. ويقال: كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا، ومن الأسارى سبعة آلاف وثمان مائة وثلاثين، ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة، وأمّا الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة، حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد، وكذلك السلاح. وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى إشبيليّة فجاس خلالها وتقرّى نواحيها وأقطارها، وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرانها. وارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث والاكتساح. ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته، ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم. وتحيّز لها مكانا لصق الجزيرة، فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية وجعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه [1] . ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر، واحتل بقصر مصمودة وأمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة. وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو. ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان، وصرف النظر إلى أحوال دولته، واختطاط البلد الجديد لنزله ونزل حاشيته، واستنزال الثوّار عليه بالمغرب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان على بقية ذلك من الأحداث)
لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاتة الجهاديّة، وتمّ صنع الله لديه في ظهور
__________
[1] وفي نسخة ثانية: دونه.

(7/256)


الإسلام على يديه، واعتزاز أهل الأندلس بفيئته، راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه وحسم أدواء الفساد في دولته، شفعت مواهب السعادة، وأجملت [1] عوائد الصنع، وذلك أنّ صبابة بني عبد المؤمن وفلّهم، لمّا فرّوا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تين ملّل جرثومة أمرهم، ومنبعث دعوتهم. وملاحد خلفائهم، وحضرة سلفهم، ودار إمامهم، ومسجد مهديّهم. كانوا يعكفون عليه متيّمنين بطيره، ملتمسين بركة زيارته، ويقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتدّونها من صالح مساعيهم. فلما خلص الفلّ إليه اعتصموا بمعقله وآووا إلى ركونه، ونصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه [2] خاسر الصفقة من مواهب الحظ، وهو إسحاق أخو المرتضى. وبايعوه سنة تسع وستين وستمائة يرجون منه رجع الكرّة، وإدالة الدولة، وكان المتولي لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطّوش.
ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش، لم يقدّم عملا على محاربتهم، وتخذيل الناس عنهم، واستمالة أشياعهم. وجمعوا له سنة أربع وسبعين وستمائة على غرّة ظنّوها، فأوقع بهم وفلّ من غربهم. ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتضّ عذرته وفضّ ختامه، واقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال والحرب. وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة، وتقبّض على خليفته المستضعف. وابن عمّه أبي سعيد ابن السيّد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء. وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش، فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم. وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده، وعاثت العساكر في جبل تينما [3] واكتسحت أمواله. وبعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن. واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور، فقطعت رءوسهم. وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته ومواطن انتزائه كما قدّمناه وكان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته، فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأكملت.
[2] وفي نسخة ثانية: ضعيف المنية.
[3] تين ملل: جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البرابرة، بين أوّلها ومراكش، سرير ملك بني عبد المؤمن، نحو ثلاثة فراسخ، بها كان أول خروج محمد بن تومرت المسمّى بالمهديّ الّذي أقام الدولة.

(7/257)


وراى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم، والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحّدون. وأزعجوه من قراره، فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدّها من هناته.
ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد، ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهّد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أنّ أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه.
وجمع الأيدي عليها، وحشد الصنّاع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزّى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية مما يرضون أثره، ورصدوا أوانه.
وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطّان وأبو عبد الله بن الحبّاك، المقدّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته، وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه. واختطّوا بها الدور والمنازل، وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته، وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو [1] نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فاغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أزور.

(7/258)


وفي سنة خمس وسبعين وستمائة من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، وصاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة، ورأى أنها على قلّة عددها أحفل هدية. وفي نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر.
(الخبر عن إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات)
لما قفل أمير المسلمين من غزاته الأولى، واستنزل الخوارج وثقف الثغور، وهادي الملوك واختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله. ثم خرج فاتح سنة ست وسبعين وستمائة إلى جهة مراكش لسدّ ثغوره، وتثقيف أطرافه. وتوغّل في أرض السوس، وبعث وزيره فتح الله السدراتي بالعساكر فجاس خلاله، ثم انكفأ راجعا. وخاطب قبائل المغرب كافة بالنفير إلى الجهاد، فتباطئوا واستمرّ على تحريضهم، ونهض إلى رباط الفتح وتلوم بها في انتظار الغزاة فثبطوا، فخفّ هو واحتل بطريف آخر محرم.
ثم ارتحل إلى الجزيرة، ثم إلى رندة. ووافاه هنالك الرئيسان أبو إسحاق بن أشقيلولة صاحب قمارش، وأبو محمد صاحب مالقة للغزو معه. وارتحلوا إلى منازلة إشبيليّة فعرسوا عليها يوم المولد النبوي. وكان بها ملك الجلالقة ابن أدفونش، فخام عن اللقاء وبرز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها. ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدّمة، وزحف في التعبية فأحجروا العدو في البلد، واقتحموا أثرهم الوادي وأثخنوا فيهم. وباتت العساكر ليلتهم يجادون في متون الخيل وقد أضرموا النيران بساحتها. وارتحل من الغد إلى أرض الشرط، وبثّ السرايا والغوازي في سائر النواحي. وأناخ بجمهور العسكر عليها، فلم يزل يتقرّى تلك الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها. ودخل حصن قطيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنوة، وأثخن في القتل والسبي. ثم ارتحل بالغنائم والأثقال [1] إلى الجزيرة لسرار شهره، فأراح وقسّم الغنائم في المجاهدين. ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تم قفل بالغنائم والأنفال.

(7/259)


فنازلها وأذاقها نكال الحرب. وأقفر نواحيها، وقطع أشجارها وأباد خضراءها وحرق ديارها، ونسف آثارها، وأثخن فيها بالقتل والأسر. وبعث ولده الأمير أبي يعقوب في سريّة من معسكره للغوار على اشبيلية وحصون الواد [1] ، فبالغ في النكاية واكتسح حصن روطة وشلوقة وغليانة والقناطير [2] . ثم صبح إشبيلية بمقارة فاكتسحها وانفكأ إلى أمير المسلمين، فقفلوا جميعا إلى الجزيرة. وأراح وقسّم في المجاهدين غنائمهم. ثم ندب إلى غزو قرطبة، ورغبهم في عمرانها وثروة مساكنها، وخطب بلادها، فانعطفوا إلى إجابته، وخاطب ابن الأحمر يستنفره. وخرج لأوّل جمادى من الجزيرة، ووافاهم ابن الأحمر بناحية أرشدونة، فأكرم وصوله وشكر حفوفه الى الجهاد وبداره. ونازلوا حصن بني بشير فدخلته عنوة، وقتلت المقاتلة وسبيت النساء، ونفلت الأموال وخرّب الحصن. ثم بثّ السرايا والغارات في البسائط فاكتسحها وامتلأت الأيدي وأثرى العسكر. وتقرّوا المنازل والعمران في طريقهم حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها، وانحجرت حامية العدوّ من وراء الأسوار وانبثت بعوث المسلمين وسراياهم في نواحيها، فنسفوا آثارها وخرّبوا عمرانها واكتسحوا قراها وضياعها. وتردّدوا على جهاتها، ودخل حصن بركونة عنوة، ثم أرجونة كذلك، وقدّم بعثا إلى حيانة [3] قاسمها حظها من الخسف والدمار. وخام الطاغية عن اللقاء وأيقن بخراب عمرانها. وإتلاف بلده. فجنح إلى السلم وخطبه من أمير المسلمين، فدفعه إلى ابن الأحمر وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده ووفاء بحقه، وأجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه على أمير المسلمين والتماس إذنه فيه لما فيه من المصلحة وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدد الطويلة، فانعقد السلم. وقفل أمير المسلمين من غزاته وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر وخرج له عن الغنائم كلّها، فاحتوى عليها. ودخل أمير المسلمين الى الجزيرة في أوّل رجب من عامئذ، فأراح ونظر في ترتيب المسالح على الثغور، وتملّك مالقة كما نذكره.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: حصون الوادي.
[2] وفي نسخة ثانية: القناطير.
[3] حيانة: لا وجود لحيانة وإنما حيّانية وهي في أرض دمشق والمقصود جيان كما في نسخة أخرى.

(7/260)


(الخبر عن تملك السلطان مدينة مالقة من يد ابن اشقيلولة)
كان بنو اشقيلولة هؤلاء من رؤساء الأندلس المؤمّلين لمدافعة العدوّ، وكانوا نظراء لابن الأحمر في الرئاسة، وهما أبو محمد عبد الله وأبوا إسحاق إبراهيم ابنا أبي الحسن بن أشقيلولة. وكان أبو محمد منهم صهرا له على ابنته فكانوا له بذلك خاصة فأشركهم في أمره واعتضد بعصابتهم وبأبيهم من قبل على مقاومة ابن هود وسائر الثوّار حتى إذا استمكن من فرصته واستوى على كرسيه استبدّ دونهم وأنزلهم الى مقامات الوزراء.
وعقد لأبي محمد صهره على ابنته على مدينة مالقة والغربيّة، وعقد لأبي الحسن صهره على أخته على وادي آش وما إليها، وعقد لابنه أبي إسحاق إبراهيم بن عليّ على قمارش وما إلى ذلك. ووجدوا في أنفسهم، واستمرّ الحال على ذلك. ولما هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة وولي ابنه الفقيه محمد، سموا إلى منازعته. وأوفد أبو محمد صاحب مالقة ابنه أبا سعيد على السلطان يعقوب بن عبد الحق، وهو منازل طنجة. ووفد معه أبو محمد إلى السلطان بطاعته وبيعته أهل مالقة سنة ثلاث وسبعين وستمائة وعقد له عليها. ونزع ابنه أبو سعيد فرج إلى دار الحرب، ثم رجع لسنته فقتل بمالقة. ولما أجاز السلطان إلى الأندلس إجازته الأولى سنة أربع وسبعين وستمائة تلقّاه أبو محمد بالجزيرة مع ابن الأحمر وفاوضهما السلطان في أمر الجهاد وردّهما إلى أعمالها. ولما أجاز إجازته الثانية سنة ست وسبعين وستمائة لقيه بالجزيرة الرئيسان ابنا أشقيلولة: أبو محمد صاحب مالقة، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش وقمارش، فشهدا معه الغزاة. ولما قفل اعتلّ أبو محمد صاحب مالقة، ثم هلك غرة جمادى من سنته فلحق ابنه محمد بالسلطان آخر شهر رمضان. وهو متلوّم بالجزيرة، منصرفه عن الغزو كما ذكرناه، فنزل له عن البلد ودعاه إلى احتيازها، فعقد عليها لابنه أبي زيّان منديل، فسار إليها في بعث، وكان ابن أشقيلولة لحين فصوله إلى لقاء السلطان، أمر ابن عمّه محمد الأزرق بن أبي الحجّاج يوسف بن الزرقاء بإخلاء منازل السلطان بالقصبة واعدادها، فتمّ ذلك لثلاث ليال، واضطرب الأمير أبو زيّان معسكره بخارجها، وأنفذ محمد بن عمران بن عيلة في

(7/261)


رهط من رجال بني مرين إلى القصبة فنزلها وملك أمر البلد. وكان السلطان ابن الأحمر لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة سما أمله إلى الاستيلاء على مالقة وأنّ ابن أخته شيعة له. وبعث لذلك وزيره أبا سلطان عزيز الداني، فوافى معسكر الأمير أبي زيان بساحتها. ورجا أن يتجافى عنها لسلطانه، فأعرض عن ذلك وتجهّم له.
ودخل إليها لثلاث بقين من رمضان. وانقلب الداني عنها بخفي حنين، ولما قضى السلطان بالجزيرة صومه ونسكه، خرج إلى مالقة فوافاها سادس شوّال، وبرز إليه أهلها في يوم مشهود، واحتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان، ودخولهم في إيالته. وأقام فيهم إلى خاتم سنته. ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن محلى من صنائع دولتهم. وأنزل معه المسالح وزيان بن أبي عيّاد بن عبد الحق في طائفة لنظره من أبطال بني مرين. واستوصاه بمحمد بن أشقيلولة وارتحل إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب سنة سبع وسبعين وستمائة وقد اهتزت الدنيا لقدومه وامتلأت القلوب سرورا بما كيّفه الله من نصر المسلمين بالعدوة، وعلوّ راية السلطان على كل راية.
وعظمت لذلك موجدة ابن الأحمر، ونشأت الفتنة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن تظاهر ابن الأحمر والطاغية على منع السلطان أبي يوسف من إجازة ابن الأحمر واصفاق يغمراسن بن زيان معهم من وراء البحر على الأخذ بحجزته عنهم وواقعة السلطان على يغمراسن بخرزوزة
لما أجاز أمير المسلمين إلى العدوة إجازته الأولى، ولقي العدو بأستجة، وقتل الله ذنّنه بأيدي عسكره. وصنع له من الظهور والعزّ ما لا كفاء له، ارتاب ابن الأحمر بمكانه، فبدا له ما لم يكن يحتسب، وظنّ بأمير المسلمين الظنون، واعترض ذكره شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عبّاد سلطان الأندلس. وأكّد ذلك عنده جنوح الرؤساء من بني أشقيلولة وغيرهم إليه وانقيادهم لأمره، فشرق بمكانه وحذر غوائله. وتكدّر الجو بينهما وأجاز الإجازة الثانية، فانقبض ابن الأحمر عن لقائه، ودارت بينهما مخاطبات شعريّة في معنى العتاب على ألسنة كتّابهما نسردها الآن،

(7/262)


(فمن ذلك قصيدة كتبها إليه ابن الأحمر سنة أربع وسبعين وستمائة بعد واقعة ذنّنه واعتزامه على الرجوع إلى المغرب، فخاطبه بها ليلة الإقامة بالجزيرة حذرا من غائلة العدو، وينحو فيها منحى الاستعطاف وهي من نظم كاتبه أبي عمر بن المرابط:
هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو من منجد
هذا الهوى داع فهل من مسعف ... بإجابة وإنابة أو مسعد
هذا سبيل الرشد قد وضحت فهل ... بالعدوتين من امرئ مسترشد
يرجو النجاة بجنّة الفردوس أو ... يخشى المصير إلى الجحيم الموقد
يا آمل النصر العزيز على العدا ... أجب الهدى تسعد به وتؤيّد
سرّ النجاة إلى النجاة مشمّرا ... إنّ الهدى لهو النجاة لمن هدي
يا من يقول غدا أتوب ولا غد ... ألديك علم أن تعيش إلى غد
لا تغترر بنسيئة الأجل الّذي ... إن لم يحن لك نقده فكأن قد
سفر عليك طويلة أيامه ... لم تستعدّا لطوله فاستعدد
أو ما علمت بأنّه لا بدّ من ... زاد لكلّ مسافر فتزوّد
هذا الجهاد رئيس أعمال التقى ... خذمنه زادك لارتحالك تسعد
هذا الرباط بأرض أندلس فرح ... منه لما يرضي إلهك واغتدي
سوّدت وجهك بالمعاصي فالتمس ... وجها للقيا الله غير مسوّد
وامح الخطايا بالدموع فربّما ... محت الدموع خطيئة المتعمد
من ذا يتوب لربّه من ذنبه ... أو يقتدي بنبيّه أو يهتدي
وتعوّضت منهم بكلّ معاند ... مستكبر قد كان لم يتشهّد
كم من أسير عندهم وأسيرة ... فكلاهما يبغي الفداء فما فدي
كم من عقيلة معشر معقولة ... فيهم تودّ لو انها في ملحد
كم من وليد بينهم قد ودّ من ... ولداه ودّا أنّه لم يولد
كم من تقيّ في السلاسل موثق ... يبكي لآخر في الكبول مقيّد
وشهيد معترك توزّعه الردى ... ما بين حدّي ذابل ومهنّد
ضجّت ملائكة السماء لحالهم ... ورثى لهم من قلبه كالجلمد
أفلا تذوب قلوبكم إخواننا ... مما دهانا من ردى أو من ردي

(7/263)


أفلا تراعون الأذمّة بيننا ... من حرمة ومحبّة وتودد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم ... وسيوفكم للثأر لم تتقلّد
يا حسرتى لحميّة الإسلام قد ... خمدت وكانت قبل ذا تتوقّد
أين العزائم ما لها لا تقتضي [1] ... هل يقطع الهنديّ غير مجرّد
أبني مرين أنتم جيراننا ... وأحق من في صرخة بهم ابتدي
فالجار كان به يوصّي المصطفى ... جبريل حقا في الصحيح المسند
أبني مرين والقبائل كلّها ... في المغرب الأدنى لنا والأبعد
كتب الجهاد عليكم فتبادروا ... منه إلى الفرض الأحقّ الأوكد
وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا ... حسنا تفوزوا بالحسان الخرد
هذي الجنان تفتّحت أبوابها ... والحور قاعدة لكم بالمرصد
هل من بايع [2] من ربّه من مشتر ... منه الحصول على النعيم السرمد
للَّه في نصر الخليفة [3] موعد ... صدق فثوروا لانتجاز الموعد
هذي الثغور بكم إليكم تشتكي ... شكوى العديم إلى الغنيّ الأوجد
ما بال شمل المسلمين مبدّد ... فيها وشمل الكفر غير مبدّد
أنتم جيوش الله ملء فضائه ... تأسون للدّين الغريب المفرد
ماذا اعتذاركم غدا لنبيّكم ... وطريق هذا العذر غير ممهّد
إن قال لم فرّطتم في أمّتي؟ ... وتركتموهم للعدوّ المعتدي؟
تاللَّه لو أنّ العقوبة لم تخف ... لكفى الحياء من وجه ذاك السيّد
إخواننا صلّوا عليه وسلّموا ... وسلوا الشفاعة منه يوم المشهد
واسعوا لنصرة دينه يسقيكم ... من حوضه في الحشر أعذب مورد
وصدر جوابها من نظم عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق بما نصّه:
لبيّك لا تخش اعتداء المعتدي إلخ وكذلك أجاب عنها أيضا مالك بن المرحل بقوله:
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لا تنقضي.
[2] وفي نسخة ثانية: من بائع.
[3] وفي نسخة ثانية: الخليفة.

(7/264)


شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي إلخ فأجابهما أبو عمرو بن المرابط كاتب ابن الأحمر بقوله:
قل للبغاة وللعداة الحسّد إلخ ولما أجاز السلطان يعقوب بن عبد الحق الإجازة الثانية سنة ست وسبعين وستمائة كما نذكره، صار ابن الأحمر إلى الاستعتاب والرضا ولقي يعقوب بن عبد الحق فأنشد كاتبه أبو عمرو بن المرابط يوم اجتماعهما قوله بشرى لحزب الله والإيمان إلخ ولما انقضى المجلس أمر السلطان شاعره عبد العزيز بمساجلة قصيدته، وأنشدها ثاني المجلس بحضرة ابن الأحمر ونصّها اليوم كن في غبطة وأمان إلخ ثم كان أثناء ذلك ما وقع من استيلاء السلطان يعقوب بن عبد الحق على مدينة مالقة والغربيّة، جلّ عمله بعد مهلك صاحبها أبي محمد عبد الله بن أشقيلولة، فبرم لذلك وخيل عليه، ففزع الى مداخلة الطاغية في شأنه واتصال يده بيده، وان يعود إلى مكان أبيه من ولايته ليدافع به السلطان وقومه عن أرضه، ويأمن معه من زوال سلطانه، لما كانت كلمة الإسلام حجزا دونه. فاهتبل الطاغية غرّتها، ونكث عهد أمير المسلمين، ونقض السلم، ونبذ إليه العهد. واغزى أساطيله الجزيرة الخضراء حيث مسالح السلطان وعساكره. وأرست بالزقاق حيث فراض الجواز. هنا وانقطع المسلمون من جنود السلطان وقومه وراء البحر ويئسوا من صريخه. وانتبذ عمر ابن يحيى بن محلى عن قومه بمكان إمارته مالقة، وكان بنو محلى هؤلاء من كبار قومهم بطويّة وكانوا حلفاء لبني حمامة بن محمد منذ دخولهم المغرب. وأصهر عبد الحق أبو الأملاك إلى أبيهم محلى في ابنته أم اليمن، فكان من ولدها السلطان يعقوب بن عبد الحق. وكانت امرأة صالحة خرجت إلى الحجّ سنة ثلاث وأربعين وستمائة فقضت فريضة الله عليها وعادت إلى المغرب رابعة من السنين سنة سبع وأربعين وستمائة ثم خرجت ثانية سنة اثنتين وخمسين وستمائة فتطوّعت بحجة أخرى وهلكت بمصر منصرفها من تلك السنة سنة ثلاث وخمسين وستمائة فكان لبني محلى أبيها مكان من الدولة ودالة على السلطان لخؤولتهم ووشايج قرابتهم وغنائهم في قومهم ولما استولى السلطان على حضرة الموحّدين مراكش، عقد لمحمد بن علي بن محلى على جميع أعمالها، فكانت له بالاضطلاع بها مقاما محمودة. واتصلت ولايته عليها من لدن سنة ثمان وستين إلى سنة سبع وثمانين وستمائة ثم كان مهلكه أيام يوسف بن يعقوب كما نذكر. ولما نزع محمد بن أشقيلولة إلى السلطان بالجزيرة سنة ست وسبعين وستمائة

(7/265)


متجافيا له عن ولاية مالقة بعد وفاة أبيه الرئيس أبي محمد، واستولى السلطان عليها، واعتزم على الإجازة كما قدّمناه، وعقد على مالقة والغربية وسائر ثغورها وأعمالها لعمر بن يحيى بن محلى. وكان أخوه طلحة بن يحيى ذا بأس وصرامة وقوة شكيمة، واعتزاز على السلطان بمكان الخئولة، وهو الّذي قتل يعقوب بن عبد الحق بغبولة سنة ثمان وستين وستمائة كما قلناه، وظاهر فتح الله الهدراي [1] مولى السلطان ووزيره على قتال أبي العلاء بن أبي طلحة بن أبي قريش، عامل المغرب بكدية العرايش بظاهر فاس سنة اثنتين وستين وستمائة ونزع سنة أربع وسبعين وستمائة إلى جبل آزروا عند مرجع السلطان من إجازته الأولى، فاستنزله ورجّعه إلى مجلسه من جملته. ثم نزع من الجزيرة إلى غرناطة سنة ست وسبعين وستمائة عند مرجع السلطان من أمر مالقة، وأجاز البحر إلى بلاد الريف. ثم رجع إلى القبلة وأقام بين بني توجين. ثم أجازا إلى الأندلس سنة سبع وسبعين وستمائة عند ما أضرم نار هذه الفتنة بين هذا السلطان وبين ابن الأحمر والطاغية، واحتل أسطول النصارى بالزقاق، وانقطعت عساكر السلطان وراء البحر. وأحس أخوه عمر صاحب مالقة باظلام الجوّ بينه وبين السلطان بما كان من أمر أخيه طلحة من قبل فلاطفه ابن الأحمر عند استقراره بغرناطة في مداخلة أخيه عمر في النزول عن مالقة، والاعتياض عنها بشلوبانية [2] والمنكب طعمة. وخاطبه في ذلك أخوه طلحة فأجاب وخرج ابن الأحمر بعساكره إلى مالقة، وتقبّض عمر بن محلى على زيّان بن بو عياد قائد بني مرين ومحمد بن أشقيلولة. وأمكن ابن الأحمر من البلد فداخلها آخر رمضان من سنته.
وأنزل ابن محلى بشلوبانية واحتمل ذخيرته وما كان السلطان ائتمنه عليه من المال والعدد الجهاديّة. واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة، وراسلوا يغمراسن بن زيّان من وراء البحر وراسلهم في مشاقة السلطان وإفساد ثغوره وإنزال العوائق به المانعة من حركته، والأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد. وأسنوا فيما بينهما الإتحاف والمهاداة. وجنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السدراتي وقد مرّ معنا من قبل السدراتي.
[2] هي شلوبينية حصن بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة على شاطئ البحر كثير الموز وقصب السكر والشاه بلوط (معجم البلدان) .

(7/266)


من عتاق الخيل مع ثياب من عمل الصوف، وبعث إليه ابن الأحمر صحبة ابن مروان التجاني كفء ذلك عشرة آلاف دينار، فلم يرض بالمال في هديته وردّه.
وأصفقت أيديهم جميعا على السلطان، ورأوا أن قد بلغوا في إحكام أمرهم وسدّ مذاهبه إليهم، واتصل الخبر بأمير المسلمين وهو بمراكش. كان صمد إليها مرجعه من الغزو في شهر المحرّم فاتح سبع وسبعين وستمائة لما كان من عيث العرب جشم بتامسنا وإفسادهم السابلة. فنقف أطرافها وحسم أدواءها. ولما بلغه خبر ابن محلى ومالقة ومنازلة الطاغية للجزيرة، نهض لثالثة من شوّال يريد طنجة. ولما انتهى إلى تامسنا، وافاه الخبر بنزول الطاغية على الجزيرة، وإحاطة عساكره بها سادس شوال، بعد أن كانت أساطيله منازلتها منذ ربيع، وأنه مشرف على التهامها. وبعثوا إليه يستعدونه فاعتزم على الرحيل.
ثم اتصل به الخبر بخروج مسعود بن كانون أمير سفيان من جشم ببلاد نفيس من المصامدة خامس ذي القعدة. وأنّ الناس اجتمعوا إليه من قومه وغيرهم. فكرّ إليه راجعا وقدم بين يديه حافده تاشفين بن أبي مالك، ووزيره يحيى حازم، وجاء على ساقتهم وفرّوا أمام جيوشه، وانتهب معسكرهم وحللهم، واستباح عرب الحرث ابن سفيان. ولحق مسعود بمعقل السكسيوي، ونازلة السلطان بعساكره أياما.
وسرّح ابنه الأمير أبا زيّان منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها، فأوغل في ديارها وقفل إلى أبيه خاتم سنته. واتصل بالسلطان ما نال أهل الجزيرة من ضيق الحصار وشدّة القتال وإعواز الأقوات، وأنهم قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرّة الكفر، فأهمه ذلك وأعمل النظر فيه، وعقد لولي عهده ابنه الأمير أبي يعقوب من مراكش على الغزو إليها. وأغزى الأساطيل في البحر إلى جهاد عدوهم، فوصل إلى طنجة لصفر من سنة ثمان وسبعين وستمائة وأوعز إلى البلاد البحرية لاعداد الأساطيل بسبتة وطنجة وسلا، وقسّم الأعطيات وتوفّرت همم المسلمين على الجهاد، وصدقت عزائمهم على الموت. وأبلى الفقيه أبو حاتم العزفي صاحب سبتة لما بلغه خطاب أمير المسلمين في ذلك البلاء الحسن، وقام فيه المقام المحمود. واستقرّ كافة أهل بلده فركبوا البحر أجمعين من المحتلم فما فوقه.
ورأى ابن الأحمر ما نزل بالمسلمين في الجزيرة، وإشراف الطاغية على أخذها، فندم في ممالأته ونبذ عهده، وأعدّ أساطيل سواحله من المنكب والمريّة ومالقة مددا

(7/267)


للمسلمين. واجتمعت الأساطيل بمرفإ سبتة تناهز السبعين، قد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل زيّ وأحسن قوّة وأكمل عدة وأوفر عدد، وعقد عليهم الأمير أبو يعقوب رايته، وأقلعوا عن طنجة ثامن ربيع الأوّل. وانتشرت قلوعهم في البحر فأجازوه، وباتوا ليلة المولد الكريم بمرقى الجبل، وصبحوا العدوة وأساطيلهم تناهز أربعمائة، فتظاهروا في دروعهم وأسبغوا من شكّتهم، وأخلصوا للَّه عزائمهم، وصدقوا مع الله نياتهم، وتنادوا بالجنّة شعارهم. ووعظ وذكر خطباؤهم، والتحم القتال ونزل الصبر. ولم يكن إلا كلّا ولا حتى نضحوا العدوّ بالنبل، فانكشفوا وتساقطوا في العباب. فاستلحمهم السيف وغشيهم اليم، وملك المسلمون أساطيلهم ودخلوا مرقى الجزيرة وفرضتها عنوة، فاختل معسكر الطاغية. وداخلهم الرعب من إجازة الأمير أبي يعقوب ومن معه من الحامية، فأفرج لحينه عن البلد، وانتشرت النساء والصبيان بساحته، وغلبت المقاتلة كثيرا من العسكر على مخلفهم، فغنموا من الحنطة والأدم والفواكه ما ملأ أسواق البلد أياما، حتى وصلتها الميرة من النواحي.
وأجاز الأمير أبو يعقوب من حينه فأرهب العدوّ في كل ناحية، وصدّه عن الغزو شأن الفتنة مع ابن الأحمر، فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما، ويصل به لمنازلة غرناطة يدا. وأجابه إلى ذلك الطاغية رهبة من بأسه، وموجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة. وبعث أساقفته لعقد ذلك فأجازهم الأمير أبو يعقوب إلى أبيه أمير المسلمين فغضب لها، ونكر على ابنه. وزوى عنه وجه رضاه، ورجّعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي. وأجاز أبو يعقوب ابن السلطان إلى أبيه ومعه وفد أهل الجزيرة، فلقوا السلطان بمكانه من بلاد السوس. وولّى عليهم ابنه أبا زيّان فنزل بالجزيرة، وأحكم العقدة مع الطاغية، ونازل المريلة [1] من طاعة ابن الأحمر برا وبحرا فامتنعت عليه. وانضوى إليه أهل الحصون الغربيّة بطاعتهم حذرا من الطاغية فتقبّلهم. ثم جاءه المدد من المغرب، ونازل رندة فامتنعت. والطاغية أثناء ذلك يجوس خلال الأندلس. ونازل ابن الأحمر بغرناطة مع بني أشقيلولة وابن الدليل. ثم راجع ابن الأحمر مسالمة بني مرين، وبعث لأبي زيّان ابن السلطان بالصلح، واجتمع معه بأحواز مريلة كما نذكر بعد.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مرتلة وفي نسخة ثانية: مديلة.

(7/268)


ولما ارتحل السلطان من معسكره إلى جبل السكسيوي يريد السوس، ثم أغزى العساكر ورجع من طريقه الى مراكش حتى إذا انقضت غزاة البربر رجع إلى فاس، وبعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد. وفصل في رجب من سنة ثمان وسبعين وستمائة حتى انتهى إلى طنجة وعاين ما اختلّ من أحوال المسلمين في تلك الفترة، وما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعتزاز الطاغية، وما حدّثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية ومن فيها. وظاهره على ابن الأحمر منافسوه في رياسته بنو أشقيلولة، فاستجرّه الرئيس أبو الحسن بن أبي إسحاق صاحب وادي آش، ونازل معه غرناطة سنة تسع وسبعين وستمائة خمسة عشر يوما ثم أفرجوا، ولقيتهم عساكر غرناطة من زناتة بعد ذلك من سنتهم. وغلبهم [1] طلحة بن محلى وتاشفين بن معطي كبير تيربيغين بحصن المسلى، فأظهرهم الله عليهم. وهلك من النصارى ما يناهز سبعمائة من فرسانهم. واستشهد فيها من أعياص بني مرين عثمان بن محمد بن عبد الحق. واستجر الطاغية سنة ثمانين وستمائة بعدها الرئيس أبو محمد عبد الله أخو صاحب وادي آش إلى منازلة غرناطة، فنازلها الطاغية وأقام عليها أياما. ثم ارتحل وقد اعتز عليهم، وأشفق السلطان على المسلمين وعلى ما نال ابن الأحمر من خسف الطاغية، فراسله في الموادعة واتفاق الكلمة وشرط عليه النزول عن مالقة، فرجع السلطان إلى إزالة العوائق عن شأنه من الجهاد، وكان من أعظمها فتنة يغمراسن.
واستيقن ما دار بينه وبين ابن الأحمر والطاغية ابن أخي أدفونش من الاتصال والاصفاق في تجديد الصلح والاتفاق، فلجّ وكشف الوجه في العناد وأعلن بما وقع بينه وبين أهل العدوة مسلمهم وكافرهم من الوصلة، وأنه معتزم على طيّ [2] بلاد المغرب. فصرف أمير المسلمين عزمه إلى غزو يغمراسن. وقفل إلى فاس لثلاثة أشهر من نزوله طنجة، فدخلها آخر شوّال وأعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجّة عليه، والتجأ بمسالمة بني توجين والتجافي عنهم لموالاتهم أمير المسلمين. فقام يغمراسن في ركائبه وقعد ولج في طغيانه. وارتحل أمير المسلمين من فاس سنة تسع وسبعين وستمائة وقدم ابنه أبا يعقوب في العساكر وأدركه بتازى. ولما انتهى إلى ملوية تلوّم في انتظار
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وعليهم.
[2] وفي نسخة ثانية: وصلي.

(7/269)


العساكر ثم ارتحل إلى تاسة ثم تاقيا [1] وصمد إليه يغمراسن بحشود زناتة والعرب بحللهم وكافة ناجعتهم، والتقت عيون القوم، فكانت بينهم حرب. وركب على آثارهما العسكران والتحم القتال، وكان الزحف بخرزوزة من ملعب تيفني [2] ، ورتّب أمير المسلمين مصافه وجعل كتيبته وكتيبة ابنه الأمير أبي يعقوب جناحين للعسكر. واشتد القتال سائر النهار، وانكشف بنو عبد الواد عند ما أراح القوم، وانتهب جميع مخلفهم وما كان في معسكرهم من المتاع والكراع والسلاح والفساطيط، وبات عسكر أمير المسلمين ليلتهم في صهوات خيلهم، واتبعوا من الغد آثار عدوّهم. واكتسحت أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن، وامتلأت أيدي بني مرين من نعمهم وشائهم. ودخلوا بلاد يغمراسن وزناتة. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، لقيه بناحية القصبات، وعاثوا جميعا في بلاده نهبا وتخريبا ثم أذن لبني توجين في اللحاق ببلادهم وأخذ هو بمخنق تلمسان متلوّما لوصول محمد بن عبد القوي وقومه إلى منجاتهم من جبل ونشريس حذرا عليهم من غائلة يغمراسن. ثم أفرج عنها وقفل إلى المغرب ودخل فاس شهر رمضان من سنة ثمانين وستمائة ثم نهض إلى مراكش فاحتلّ بها فاتح إحدى وثمانين وستمائة بعدها، وسرّح ابنه الأمير أبا يعقوب إلى السوس لتدويخ أقطاره، ووافاه بمراكش صريخ الطاغية على ابنه شانجة الخارج عليه، فاغتنم الفرصة في فساد بينهم لقضاء أربه من الجهاد، وارتحل مبادرا بالإجازة إلى الأندلس. والله تعالى أعلم.
الخبر عن اجازة السلطان أبي يوسف صريخا للطاغية لخروج ابنه شانجة عليه وافتراق كلمة النصرانية وما كان في هذه الأخبار من الغزوات
لما رجع السلطان من غزاة تلمسان إلى فاس، وارتحل إلى مراكش وافاه بها وفد الطاغية من بطارقته وزعماء دولته، وقواميس ملّته صريخا على ابنه شانجة. خرج عليه في طائفة من النصارى وغلبوه على أمره، فانتصر أمير المسلمين ودعاه لحربهم
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية ونسخة أخرى، وفي نسخة ثانية: ثم ارتحل الى نامه ثم إلى تافنا.
[2] وفي نسخة ثانية: منقي.

(7/270)


وأمّله لاسترجاع ملكه من أيديهم، فأجاب أمير المسلمين داعية رجاء للكرة بافتراقهم، وارتحل حتى انتهى إلى قصر المجاز، وأوعز إلى الناس بالنفير إلى الجهاد، وأجاز إلى الخضراء فاحتل بها لربيع الثاني من سنة إحدى وثمانين وستمائة واجتمعت عليه مسالح الثغور بالأندلس وسار حتى نزل صخرة عبّاد [1] ، فوافاه بها الطاغية ذليلا لعزّ الإسلام مؤمّلا صريخ السلطان، فأكبر وفادته وأكرم موصله وعظّم قدره وأمدّه لنفقاته بمائة ألف من مال المسلمين استرهن فيها التاج الذخيرة عند سلفه، وبقي بدارهم فخرا للأعقاب لهذا العهد. ودخل معه دار الحرب غازيا حتى ينازل قرطبة، وبها شانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفة، فقاتلها أياما ثم أفرج عنها.
وتنقّل في جهاتها ونواحيها وارتحل إلى طليطلة فعاث في جهاتها، وخرّب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر، فامتلأت أيدي المسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها لشعبان من سنته، وكان عمر بن محلى نزع إلى طاعة السلطان فهمّ به ابن الأحمر، ونبذ إليه عهده. وارتجع المنكب من يده ونازلة بعساكره فاتح هذه السنة، فجهّز السلطان إليه لوصوله الجزيرة أسطوله. وأفرج ابن الأحمر عنه، فبادر إلى السلطان بطاعته، ووصل بيعة شلوبانية فأبقاه فيها بدعوته. ثم راجع طاعة ابن الأحمر في شوّال من سنته، فتقبّل فيئته وأعاضه عنها بالمنكب [2] إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن شأن السلم مع ابن الأحمر وتجافي السلطان له عن مالقة ثم تجدّد الغزو بعد ذلك
لما اتصلت يد السلطان بيد الطاغية، خشي ابن الأحمر غائلته، فجنح إلى موالاة شانجة الخارج عن أبيه. ووصل يده بيده، وأكّد له العقد على نفسه وأضرمت له الأندلس نارا وفتنة. ولم تغن شانجة عن ابن الأحمر شيئا ورجع السلطان من غزاته مع الطاغية، وقد ظهر على ابنه فأجمع على منازلة مالقة، ونهض إليها من الجزيرة فاتح اثنتين وثمانين وستمائة فتغلّب على الحصون الغربيّة كلّها. ثم أسعف إلى مالقة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: عياد.
[2] المنكب: كان حصنا قويا، وهو اليوم فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل في مديرية غرناطة.

(7/271)


فأناخ عليها بعساكره. وضاق النطاق على ابن الأحمر وبدا له سوء المغبّة في شأن مالقة ومداخلة ابن محلى في الغدر بها، وأعمل نظره في الخلاص من ورطتها. ولم ير لها إلّا وليّ عهد السلطان ابنه أبا يوسف، فخاطبه بمكانه من المغرب مستصرخا لرقع هذا الخرق، وجمع كلمة المسلمين على عدوّهم، فأجابه واغتنم المثوبة في مسعاه.
وأجاز لشهر صفر، فوافى أمير المسلمين بمعسكره على مالقة. ورغب منه السلم لابن الأحمر عن شأن مالقة والتجافي له عنها، فأسعف رغبة ابنه لما يؤمّل في ذلك من رضى الله في جهاد عدوّه وإعلاء كلمته. وانعقد السلم وانبسط أمل ابن الأحمر، وتجدّدت عزائم المسلمين، وقفل السلطان إلى الجزيرة وبثّ السرايا في دار الحرب فأوغلوا وأثخنوا. ثم استأنف الغزو بنفسه إلى طليطلة فخرج من الجزيرة غازيا غرّة ربيع الثاني من سنة اثنتين وثمانين وستمائة حتى انتهى إلى قرطبة، فأثخن وغنم وخرّب العمران وافتتح الحصون. ثم ارتحل نحو البرت وخلف معسكره بظاهر بيّاسة [1] وأغذ السير في أرض قفر لليلتين انتهى إلى البرت من نواحي طليطلة [2] ، فسرّح الخيل في البسائط حتى تقرّى جميع ما فيها. ولم ينته إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم، وأثخن في القتل، وقفل على غير طريقه فأثخن وخرّب وانتهى إلى أبدّة. ووقف بساحتها والعدوّ منحجزون، ثم رجع إلى معسكره بساسة وأراح ثلاثا ينسف آثارها ويقتلع أشجارها. وقفل إلى الجزيرة فاحتلّ بها شهر رجب وقسّم الغنائم ونفل من الخمس. وولّى على الجزيرة حافده عيسى ابن الأمير أبي مالك ابنه، فهلك شهيدا بالمعترك لشهرين من ولايته، وأجاز السلطان غرّة شعبان إلى المغرب، ومعه ابنه أبو زيّان منديل، وأراح بطنجة ثلاثا. وأغذّ السير إلى فاس فاحتل بها آخر شعبان، ولما قضى صيامه ونسكه، ارتحل إلى مراكش لتمهيدها. وتفقّد أحوالها. وقسّم من نظره لنواحي سلا وأزدرد [3] فأقام برباط الفتح شهرين اثنين، واحتل مراكش فاتح ثلاث وثمانين وستمائة وبلغه مهلك الطاغية ابن أدفونش واجتماع النصرانية على ابنه شانجة الخارج عليه، فتحرّكت إلى الجهاد عزائمه وسرّح الأمير أبا يعقوب وليّ عهده
__________
[1] بياسة: بينها وبين جيّان عشرون ميلا وتطل على النهر الكبير، استولى عليها الروم سنة 632 هجرية.
[2] طليطلة: كانت عاصمة الأندلس قبل دخول طارق بن زياد، وهي مشرفة على ما يليها من الأندلس الى الجنوب، وكانت من أولى المدن التي انتزعت من يد العرب إذ استولى عليها الفونش السادس عام 478 هـ وجرّ ذلك الى معركة الزلّاقة.
[3] وفي نسخة ثانية: أزور.

(7/272)


بالعسكر إلى بلاد السوس لغزو العرب، وكفّ عاديتهم، ومحو آثار الخوارج المنتزين على الدولة، فأجفلوا أمامه، واتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس، فهلك أكثر العرب في تلك القفار مسغبة وعطشا، وقفل لما بلغه من اعتلال أمير المؤمنين، ووصل إلى مراكش وقد أبلّ، وقد اعتزم على الجهاد والغزو وشكر الله، كما نذكره إن شاء الله تعالى.