تاريخ ابن خلدون
الخبر عن إجازة
السلطان أبي يوسف الرابعة ومحاصرة شريش وما تخلل ذلك من الغزوات
لما اعتزم أمير المسلمين على الإجازة واعترض جنوده وحاشيته، وأزاح
عللهم، وبعث في قبائل المغرب بالنفير، ونهض من مراكش في جمادى الآخرة
لثلاث وثمانين وستمائة واحتل رباط الفتح منتصف شعبان فقضى به صومه
ونسكه، ثم ارتحل إلى قصر مصمودة وشرع في إجازة العساكر والحشود من
المرتزقة والمطوّعة خاتم سنته. ثم أجاز البحر بنفسه غرّة صفر من سنة
أربع وثمانين وستمائة بعدها واحتلّ بظاهرها [1] . ثم سار منها إلى
الخضراء وأراح أياما. ثم خرج غازيا حتى انتهى إلى وادلك [2] ، وسرّح
الخيول في بلاد العدوّ وبسائطها يحرق وينسف. فلمّا خرّب بلاد النصرانية
ودمّر أرضهم قصد مدينة شريش [3] ، فنزل بساحتها وأناخ عليها، وبثّ
السرايا والغارات في جميع نواحيها، وبعث المسالح التي كانت بالثغور،
فتوافت لديه. ولحقه حافده عمر بن أبي مالك بجمع وافر من المجاهدين من
أهل المغرب فرسانا ورجالا، ووافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز
خمسمائة من الرجل. وأوعز إلى وليّ عهده الأمير أبي يعقوب باستنفار من
بقي بالعدوة من المسلمين الى الجهاد، وعقد لحافده الآخر منصور بن عبد
الواحد على ألف فارس من الغزاة. وأعطاه الراية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واحتل بطريق.
[2] وفي نسخة ثانية: وادي لك وفي نفح الطيب ج 1 ص 249 وادي لكة.
[3] شريش: قال الحجاري: ان مدينة شريش بنت إشبيليّة- تقع الى الجنوب
الشرقي من بطليوس وتشتهر اليوم بالنبيذ الجيّد- وواديها ابن واديها.
وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق، لأهلها همم، وظرف في اللباس وإظهار
الرفاهيّة وتخلّق بالآداب. ولا تكاد ترى فيها إلّا عاشقا ومعشوقا.
تشتهر بالمجنبات وهي نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها (نفح
الطيب ج 1 ص 184) .
(7/273)
وسرّحه لغزو إشبيلية لآخر صفر من سنته،
فغنموا ومرّوا بقرمونة [1] في منصرفهم.
فاستباحوها وأثخنوا بالقتل والأسر ورجعوا وقد امتلأت أيديهم من
الغنائم. وبعث وزيره محمد بن عطو [2] ومحمد بن عمران بن عبلة عيونا،
فوافوا حصن القناطر وروطة، واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور، فعقد
ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان لثالثة من ربيع
وأعطاه الراية، وسرّحه إلى بسائط وادلكّ، فرجعوا من الغنائم بما ملأ
العساكر بعد أن أثخنوا فيها بالقتل والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع
الثمار، وأبادوا عمرانها. ثم سرّح ثامن ربيع عسكرا للإغارة على حصن
أركش، ووافوه على غرّة فاكتسحوا أموالهم. ثم عقد تاسع ربيع لابنه أبي
معروف على ألف من الفرسان. وسرّحه لغزو إشبيلية فساروا حتى توقف عليها.
وانحجزت منه حاميتها، فخرّب عمرانها وحرق زروعها وقطع شجرها. وامتلأت
أيدي عسكره سبيا وأموالا، ورجع إلى معسكر السلطان مملوء الحقائب. ثم
عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع لغزو حصن كان بالقرب من معسكره، وسرّح
الرجل من الناشبة والفعلة بالآلات. وأمدّه بالرجل من المصامدة. وغزاة
سبتة فاقتحموه عنوة على أهله، وقتلوا المقاتلة وسبوا النساء والذريّة،
وأرغموا خده بالتراب.
ولسبع عشرة من الشهر ركب السلطان إلى حصن سقوط قريبا من معسكره، فخرّبه
وحرّقه بالنار، واستباحة. وقتل المقاتلة وسبى أهله. ولعشرين من شهره
وصل وليّ عهده، الأمير أبو يعقوب من العدوة بنفير أهل المغرب وكافّة
القبائل في جيوش ضخمة، وعساكر موفورة، وركب أمير المسلمين للقائهم
وبرور مقدمهم. واعترض العساكر الموافية يومئذ فكانت ثلاثة عشر ألفا من
المصامدة، وثمانية آلاف من برابرة المغرب متطوّعون كلّهم بالجهاد، فعقد
السلطان له على خمسة آلاف من المرتزقة وألفين من المتطوّعة وثلاثة عشر
ألفا من الرجل والفين من الناشبة وسرّحه لغزو إشبيلية والإثخان في
نواحيها، فعبّى كتائبه ونهض لوجهه. وبث الغارات بين يديه، فأثخنوا
وسبوا وقتلوا واقتحموا الحصون واكتسحوا الأموال. وعاج على الشرق
والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم من حصونها عدة، وقفل إلى
معسكر أمير المسلمين
__________
[1] قرمونة: مدينة الى الشمال الشرقي من إشبيلية على بعد 35 كلم وكانت
كورة واسعة تضم عدة مدن وحصون.
[2] وفي نسخة ثانية: محمد بن عتّو.
(7/274)
ظاهرا عزيزا غانما. ولسادس ربيع الثاني وصل
الأمير أبو زيّان منديل بن طريف بعسكر وافر من المسلمين فعقد له غداة
وصوله وأمدّه بعسكر آخر وأغزاه قرمونة والوادي الكبير، فأغار على
قرمونة. وطمعت حاميتها في المدافعة فبرزوا له وصدقهم القتال فانكشفوا
حتى احجزوهم في البلد. ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد، فقاتلوه
ساعة من نهار واقتحموه عنوة، ولم يزل يتقرّى المنازل والعمران حتى وقف
بساحة إشبيلية، فأغار واقتحم برجا كان هنالك عينا على المسلمين، وأضرمه
نارا.
وامتلأت أيدي عساكره، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين.
ولثلاث عشرة من ربيع الثاني عقد للأمير أبي يعقوب لمنازلة جزيرة كيوثر
[1] ، فصمد إليها وقاتلها واقتحمها عنوة. وفي ثاني جمادى عقد لطلحة بن
يحيى بن محلى، وكان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس وسبعين
وستمائة خرج إلى الحجّ، فقضى فرضه ورجع، ومرّ في طريقه بتونس واتهمه
الدعي ابن أبي عمارة كان بها يومئذ فاعتقله سنة اثنتين وثمانين، ثم
سرّحه ولحق بقومه بالمغرب. ثم أجاز الأندلس غازيا في ركاب السلطان،
فعقد له في هذه الغزاة على مائتين من الفرسان وسرّحه إلى إشبيلية ليكون
رتبة [2] للمعسكر وبعث معه لذلك عيونا من اليهود والمعاهدين من
النصارى، يتعرّفون له أخبار الطاغية شانجة وأمير المسلمين أثناء ذلك
يغادي شريش ويراوحها بالقتال والتخريب، ونسف الآثار، وبث السرايا كل
يوم وليلة في بلاد العدو، فلا يخلو يوما عن تجهيز عسكر أو اغزاء جيش أو
عقد راية أو بعث سرية، حتى انتسف العمران في جميع بلاد النصرانيّة،
وخرّب بسائط إشبيلية وليلة [3] وقرمونة واستجة وجبال الشرق وجميع بسائط
الفرنتيرة. وأبلى في هذه الغزوات عيّاد العاصمي من شيوخ جشم، وخضر
الغزي أمير الأكراد بلاء عظيما.
وكان لهم فيها ذكر. وكذلك غزاة سبتة وسائر المجاهدين والعرب من جشم
وغيرهم.
فلما دمّرها تدميرا ونسفها تخريبا واكتسحها غارة ونهبا، وزحم فصل
الشتاء وانقطعت الميرة عن العسكر، اعتزم على القفول وأفرج عن شريش لآخر
رجب، ووافاه مدد غرناطة من عساكر الغزاة وقائدهم يعلى بن أبي عياد بن
عبد الحق بوادي بردة،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جزيرة كبوتر.
[2] بمعنى قائدا وفي نسخة ثانية: ربيبة وليس لها أي معنى حسب مقتضى
السياق.
[3] وفي نسخة ثانية: لبلة كما في نفح الطيب 1/ 141.
(7/275)
فلقاهم مبرّة، وتكريما وانقلبوا إلى أهلهم.
واتصل به أنّ العدو أوعز إلى أساطيله باحتلال الزقاق والاعتراض دون
الفراض فأوعز أمير المسلمين الى جميع سواحله من سبتة وطنجة والمنكب
وجزيرة وطيف وبلاد الريف ورباط الفتح. واستدعى أساطيله فتوافت منها ستة
وثلاثون أسطولا متكاملة في عدّتها وعديدها، فأحجمت أساطيل العدوّ عنها
وارتدت على أعقابها. واحتلّ بالجزيرة غرّة رمضان. واستيقن الطاغية
شانجة وأهل ملّته أنّ بلادهم قد فنيت وأرضهم خربت وتبيّنوا العجز عن
المدافعة والحماية، فجنحوا إلى السلم وضرعوا إلى أمير المسلمين في كفّ
عاديته عنهم على ما يذكر ووصل إلى السلطان بمكانه من منازلة شريش عمر
بن أبي يحيى بن محلى نازعا إلى طاعته، فاتهمه لما سبق من تلاعبه وأمر
أخاه طلحة فنكبه. واحتمل إلى طريف فاعتقل بها، وسار طلحة إلى المنكب
فاستصفى أموال أخيه عمر وذخائره وسار إلى السلطان. وأقرّ ثانية أخاه
موسى على عمله بالمنكب، وأمدّه بعسكر من الرجل. ثم أطلق عمر لليال من
اعتقاله. وأجاز طلحة وعمر في ركاب السلطان.
ونزع منصور بن أبي مالك حافد السلطان إلى غرناطة، ثم لحق منها بالمنكب
وأقام مع موسى بن أبي يحيى بن محلى، فأقرّه السلطان ورضي بمقامه والله
تعالى أعلم.
(الخبر عن وفادة الطاغية شانجة وانعقاد
السلم ومهلك السلطان على تفيئة ذلك)
لما نزل ببلاد النصرانية بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من
تدمير قراهم واكتساح أموالهم وسبي نسائهم وإبادة مقاتلتهم وتخريب
معاقلهم وانتساف عمرانهم، زاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
واستيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين، فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة،
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة، متوجعين مما أذاقهم جنود الله من سوء
العذاب وأليم النكال. وحملوه على الضراعة لأمير المسلمين في السلم
وإيفاد الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك. وإلّا فلا تزال تصيبهم
منه قارعة، وتحل قريبا من دارهم فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف
والهضيمة لدينه. وأوفد على أمير المسلمين من بطارقتهم وشما مستهم
وأساقفهم يخطبون السلم ويضرعون في المهادنة والإبقاء ووضع أوزار الحرب،
فردّهم أمير المسلمين
(7/276)
اعتزازا عليهم. ثم أعادهم الطاغية بترديد
الرغبة على أن يشترط ما شاء من عزّ دينه وقومه. فأسعفهم أمير المسلمين
وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلّهم لعزّ الإسلام. وأجابهم
إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبّلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه
وغير قومه، والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو غداوتهم،
ورفع الضريبة عن تجّار المسلمين بدار الحرب من بلاده، وترك التضريب بين
ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة. وبعث لعمّه عبد الحق ابن
الترجمان باشتراط ذلك وأحكام عقده. فاستبلغ وأكّد في الوفاء. ووفدت رسل
ابن الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على
قومه، ومدافعته عنهم، فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد أمير
المسلمين على قومه وأهل ملّته. وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم
معي في مقام السلم والحرب، وهذا أمير المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا
دفاعه عنكم فانصرفوا. ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس
إليه بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة، وأراه مغبة ذلك في سل
السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة، فصغى إلى وفاته. وسأل لقيّ
الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه، فوصل إليه ولقيه على
فراسخ من شريش.
وباتا بمعسكر المسلمين هنالك. ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين
وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار شعار الإسلام
أبهته، فاحتفلوا وتأهّبوا وأظهروا عزّ الملّة وشدّة الشوكة ووفور
الحامية.
ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرّة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء
الملل. وقدّم الطاغية بين يديه هديّة أتحف بها أمير المسلمين وابنه من
ظرف بلاده، كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمّى بالفيل، وحمارة من
حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف. فقبلها السلطان وابنه وقابلوه بكفائها
ومضاعفتها، وكمل عقد السلم، وتقبّل الطاغية سائر الشروط ورضي بعزّ
الإسلام عنه. وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا والمسرّة وسأل منه
أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم
على مدن الإسلام، فاستكثر من أصنافها في ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه،
فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم.
وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان، فقضى صومه
ونسكه. وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم. وأعدّ الشعراء كلمات
أنشدوها يوم الفطر بمشهد
(7/277)
الملأ في مجلس أمير المسلمين. وكان من
أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزّوز المكناسي. ذكر فيها سير أمير
المسلمين وغزواته على نسق.
ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور فرتّب بها المسالح وعقد عليها
لابنه الأمير أبي زيّان منديل، وأنزله بركوان مقربة مالقة، واستوصاه
بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا. وعقد لعيّاد بن أبي عيّاض
العاصمي على مسلحة أخرى، وأنزله بأصطبونة. وأجاز ابنه الأمير أبا يعقوب
لتفقد أحوال المغرب ومباشرة أموره، فأجاز في أسطول القائد محمد بن
القاسم الرنداحي قائد سبتة. وأوعز إليه بالبناء على قبر أبيه أبي
الملوك عبد الحق، ولقيه إدريس بتافرطست، فاختطّ هنالك رباطا وبنى على
قبورهم أسمنة من الرخام، ونقشها بالكتابة، ورتّب عليها قرّاء لتلاوة
القرآن، ووقف على ذلك ضياعا وفدنا. وهلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي
منديل العسكري لمنتصف رمضان. ثم اعتلّ بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي
الحجة واشتدّ وجعه وهلك لآخر محرّم سنة خمس وثمانين وستمائة والله
أعلم.
(الخبر عن دولة السلطان وما كان فيها من الاحداث وشأن الخوارج لأوّل
دولته)
لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة، مرّضه نساؤه، وطيّرن الخبر
إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب وهو بمكانه من المغرب، فأغذّ السير،
وقضى أمير المسلمين قبل وصوله، فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه
وعظماء قومه، وأجاز إليهم البحر، فجدّدوا بيعته غرّة صفر سنة خمس
وثمانين وستمائة وأخذوها على الكافة. وانعقد أمر السلطان يومئذ ففرّق
الأموال وأجزل الصلات، وسرّح السجون ورفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر،
ووكّلهم فيها إلى أمانتهم. وقبض أيدي العمّال عن الظلم والاعتداء
والجور على الرعايا، ورفع المكوس ومحا رسم الرتب، وصرف اعتناءه إلى
إصلاح السابلة. وكان أوّل شيء أحدث من أمره إلى أن بعث ابن الأحمر وضرب
موعدا للقائه، فبدر إليه ولقيه بظاهر مربالة [1] لأوّل ربيع. ولقاه
مبرّة وتكريما
__________
[1] وفي نفح الطيب ج 5 ص 85: مربلة.
(7/278)
وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي
كانت لمملكته ما عدا الجزيرة وطريف.
وتفرّقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة، ورجع السلطان إلى
الجزيرة ووافاه بها وفد الطاغية شانجة مجدّدين عقد السلم الّذي عقد له
أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم. ولمّا تمهّد أمر الأندلس ومرّ عن
النظر فيها، عهد لأخيه أبي عطيّة العبّاس على الثغور الغربية والإمارة
عليها. وعقد لعلي بن يوسف بن يزكاسن على مسالحها، وأمدّه بثلاثة آلاف
من عساكره. وأجاز إلى المغرب فاحتلّ بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني. ثم
ارتحل إلى فاس، واحتلّ بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى، ولحين استقراره
بدار ملكه، خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته وبنيه وذويهم،
ولحق بجبل ورغة [1] . ودعا لنفسه، وسرّح إليه السلطان أخاه أبا معروف،
فبدا له في النزوع إليهم، ولحق بهم. فأغزاهم السلطان عساكره وردّد
إليهم البعوث والكتائب، وتلطّف في استنزال أخيه، فنزل عن الخلاف وعاد
إلى حسن طاعته. وفرّ أولاد إدريس إلى تلمسان، وتقبّض عليهم أثناء
طريقهم، وسرّح السلطان أخاه أبا زيّان إلى تازى، وأوعز إليه بقتلهم
بمليلي خارج تازى لرجب من سنة خمس وثمانين وستمائة ورهب الأعياص عند
ذلك من بادرة السلطان ففرقوا ولحق بغرناطة أولاد أبي العلاء إدريس بن
عبد الحق، وأولاد يحيى بن عبد الحق، وأولاد عثمان بن يزول.
ورجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد اقتضاء عهده وأمانه. وهلك أخوه
محمد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من منته. وهلك عمر ابن أخيه أبي مالك
بطنجة. ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة
قندلاوة، ونبذ الطاعة وأذن بالحرب. وأوعز السلطان إلى بني عسكر ومن
إليهم من القبائل المجاورين لها، فاحتشدوا له ونازلوه. ثم نهض بركابه
وعساكره إلى منازلته، واحتل بسدورة [2] ، وخافه عمر على نفسه، وأيقن
أنه أحيط به، فسأل الأمان.
وبذله السلطان على شريطة اللحاق بتلمسان، فبعث من يوثق به من الخيرة
فنزل.
فوفّى له السلطان بعهده، ولحق بتلمسان بأهله وولده.
ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها، وتثقيف
أطرافها،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: جبل درعة.
[2] وفي نسخة ثانية: بنبدورة.
(7/279)
واحتل بها في شوّال، واعتمل النظر في
مصالحها، ونزع خلال ذلك طلحة بن محلى البطوي إلى بني حسّان من المعقل،
وخرج على السلطان ودعا لنفسه. وعقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك
على العساكر، وعهد له بولاية السوس وسرّحه لاستنزال الخوارج، ومحو آثار
الفساد. وارتاب بمكان أخيه عمر فغرّبه إلى غرناطة، فقتله أولاد أبي
العلاء يوم وصوله إليها، فسار الأمير منصور في الجيوش والكتائب، وغزا
عرب المعقل وأثخن فيهم. وقتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة في
جمادى سنة ست وثمانين وستمائة وبعث برأسه إلى سدّة السلطان فعلق بتازى.
ثم نهض في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة لما أضرّوا العمران وأفسدوا
السابلة. وسار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان، ومرّ على بلاد
هسكورة معترضا جبل درن. وأدركهم بالقفر نواجع، فأثخن فيهم بالقتل
والسبي. واستكثر من رءوسهم فعلّقت بشرافات مراكش وسجلماسة وفاس. وعاد
من غزوة إلى مراكش آخر شوّال، فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم
الولاية عليها من لدن غلب الموحدين، لما وقع من الارتياب بأولاد محلى
لما آتاهم كبيرهم طلحة، فنكب غرّة المحرّم من سنة سبع وثمانين وستمائة.
وهلك في محبسه لشهر صفر بعده. وهلك على ذلك المزوار قاسم بن عتوّ [1] .
وعقد السلطان على مراكش وأعمالها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي
دولتهم ولاء الحلف. وترك معه ابنه أبا عامر. ثم ارتحل إلى حضرة فاس،
فاحتل بها منتصف ربيع، ووافته بها عرسه بنت موسى بن رحّو بن عبد الله
بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر وأهل دولته، فأعرس
بها وكان بعث إلى أبيها من قبل في الاصهار بها. ووافت معها رسل ابن
الأحمر يسألونه التجافي عن وادي آش، فأسعفهم بها، كما نذكره إن شاء
الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن دخول وادي آش في طاعة السلطان ثم رجوعها الى طاعة ابن
الأحمر)
كان أبو الحسن بن أشقيلولة ظهير السلطان ابن الأحمر على ملكه، ومعينة
على شأنه، وكان له في الدولة بذلك مكان. ولما هلك خلف من الولد أبا
محمد عبد الله وأبا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قاسم بن عبّو.
(7/280)
إسحاق إبراهيم، فعقد ابن الأحمر لأبي محمد
على مالقة ولأبي إسحاق على قمارش ووادي آش. ولما هلك السلطان ابن
الأحمر حدثت مغاضبات ومنافسات بينهما وبينه، وتأدى ذلك إلى الفتنة كما
قلناه ودخل أبو محمد في طاعة السلطان أبي يوسف. ثم هلك فلحق ابنه محمد
بالسلطان، ونزل له عن البلد سنة ست وسبعين وستمائة ثم هلك أبو إسحاق
سنة اثنتين وثمانين وستمائة وغلب ابن الأحمر على حصن قمارش وصار إليه.
وكان الرئيس أبو إسحاق قد عقد لابنه أبي الحسن على وادي آش وحصونها،
واتصلت الفتنة بينه وبين ابن الأحمر، وظاهر أبو الحسن عليه الطاغية
وأجلب أخوه أبو محمد معه على غرناطة هو وابن الدليل. وطال أمر الفتنة
بينهما وبين ابن الأحمر. ثم انعقد السلم بين المسلمين والنصارى، وخشي
أبو محمد بن أشقيلولة على نفسه عادية ابن الأحمر، فتذمم بطاعة صاحب
المغرب، وأقام دعوته بوادي آش سنة ست وثمانين وستمائة فلم يعرض لها ابن
الأحمر حتى إذا وقعت المواصلة بينه وبين ابن السلطان أبي يعقوب، وكان
شأن هذا الصهر على يده، بعث رسله إلى السلطان يسأله التجافي عن وادي
آش، فتجافى له عنها وبعث إلى أبي الحسن بن أشقيلولة بذلك فتركها.
وارتحل إليه سنة سبع وثمانين وستمائة ولقيه بسلا، فأعطاه القصر الكبير
وأعماله طعمة سوّغه إياها. ثم نزل لبنيه آخر دولتهم. واستمكن ابن
الأحمر من وادي آش وحصونها، ولم يبق له بالأندلس منازع من قرابته.
والله يؤتي ملكه من يشاء، والله أعلم.
(الخبر عن خروج الأمير أبي عامر ونزوعه الى مراكش ثم فيئته الى الطاعة)
لما احتل السلطان بفاس وأقام بها خرج عليه ابنه أبو عامر، ولحق بمراكش،
ودعا لنفسه أخريات شوال من سنة سبع وثمانين وستمائة وساعده على الخلاف
والانتزاء عاملها محمد بن عطّو. وخرج السلطان في أثره إلى مراكش، فبرز
إلى لقائه، فكانت الدائرة عليهم وحاصرهم السلطان بمراكش أياما. ثم خلص
أبو عامر إلى بيت المال فاستصفى ما فيه وقتل المشرف ابن أبي البركات،
ولحق بجبال المصامدة، ودخل السلطان من غده إلى البلد يوم عرفة، فعفا
وسكن ونهض منصور ابن أخيه
(7/281)
الأمير أبو مالك من السوس إلى حاجة فدوّخ
انحاءها. ثم سرّح إليه المدد من مراكش، فأوقعوا بوكنة [1] من برابرة
السوس، وقتل منهم ما يناهز أربعين من سرواتهم. وكان فيمن قتل منهم
شيخهم حيون [2] بن إبراهيم. ثم إنّ ابنه أبا عامر ضاق ذرعه بسخط أبيه
وإجلابه في الخلاف، فلحق بتلمسان ومعه وزيره ابن عطو فاتح سنة ثمان
وثمانين وستمائة فآواهم عثمان بن يغمراسن، ومهّد لهم المكان ولبثوا
عنده أياما. ثم عطف السلطان على ابنه رحم لما عطفت ابنته عليه، فرضي
عنه وأعاده إلى مكانه، وطالب عثمان بن يغمراسن أن يسلم إليه ابن عطو
الناجم في النفاق مع ابنه، فأبى من إضاعة جواره وإخفار ذمّته، وأغلظ له
الرسول في القول فسطا به واعتقله، فثارت من السلطان الحفائظ الكامنة،
وتحرّكت الإحن القديمة، والنزلات المتوارثة. واعتزم على غزو تلمسان
والله أعلم.
(الخبر عن تجدد الفتنة مع عثمان بن يغمراسن
وغزو السلطان مدينة تلمسان ومنازلته إياها)
كانت الفتنة بين هذين الحيّين قديمة من لدن مجالاتهم بالقفر من حمراء
ملويّة إلى صا، إلى فيكيك، ولما انتقلوا إلى التلول وتغلّبوا على
الضواحي بالمغرب الأقصى والأوسط، لم تزل فتنتهم متّصلة وأيام حروبهم
فيها مذكورة. وكانت دولة الموحدين عند اختلالها والتياثها تستنصر منهم
بالتضريب بينهم والفتنة، فتأكدت لذلك أحوالها واتصلت أيامها. وكان بين
يغمراسن بن زيّان وأبي يحيى بن عبد الحق فيها وقائع ومشاهد، نقلنا منها
بعضا من كل. واستظهر الموحدون بيغمراسن عليه في بعضها.
وكان الغلب أكثر ما يكون لأبي يحيى بن عبد الحق لوفور قبيلة. إلّا أنّ
يغمراسن كان يتصدّى لمقاومته في سائر وقائعه. ولما طمس أثر بني عبد
المؤمن واستولى يعقوب ابن عبد الحق على ملكهم، وصارت في جملته عساكرهم،
وتضاعف عليه، وأسف على ملك يغمراسن ملكه. وجمع له فأوقع به في تلاغ
الواقعة المعروفة. ثم أوقع به ثانية وثالثة. ولما استوت قدم يعقوب بن
عبد الحق في ملكه، واستكمل فتح
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكنة.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حبون- حبور- حنون.
(7/282)
المغرب وسائر أمصاره، وكبح يغمراسن عن
التطاول إلى مقاومته، وأوهن قواه بفلّ جموعه ومنازلته في داره، ومظاهرة
أقتاله من زناتة بني توجين ومغراوة عليه.
فانصرف بعد ذلك إلى الجهاد، فكان له فيه شغل عمّا سواه كما نقلناه في
أخباره.
ولما انصرف ارتاب ابن الأحمر بمكان السلطان يعقوب بن عبد الحق من
الأندلس، وحذّره على ملكه، وتظاهر مع الطاغية على منعه من الإجازة إلى
عدوتهم، ثم خشوا أن لا يستقلوا بمدافعته، فراسلوا يغمراسن في الأخذ
بحجزته. وأجابهم إليها وجرّد عزائمه لها، واتصلت أيديهم في التظاهر
عليه. ثم فسد ما بين ابن الأحمر والطاغية ولم يكن له بدّ من ولاية
يعقوب بن عبد الحق، فتولى [1] بواسطة ابنه يوسف بن يعقوب كما ذكرناه
وأطلعوه على خباء يغمراسن في مظاهرتهم، فأغزاه سنة تسع وسبعين وستمائة
وهزمه بخرزونة [2] . ونازلة بتلمسان ووطأ عدوّه من بني توجين بساحته
كما ذكرناه. ثم انصرف إلى شأنه من الجهاد، وهلك يغمراسن بن زيّان على
تفيئة ذلك سنة إحدى وثمانين وستمائة، وأوصى ابنه عثمان ولي عهده، زعموا
أن لا يحدّث نفسه بمقاومة بني مرين ومساماتهم في الغلب، وأن لا يبرز
إلى لقائهم بالصحراء، وأن يلوذ منهم بالجدران متى سموا إليه. وألقى
إليه، زعموا أنّ بني مرين بعد تغلّبهم على مراكش، وانضياف سلطان
الموحدين إلى سلطانهم، ازدادت قوّتهم وتضاعف غلبهم. وقال له زعموا فيما
أوصاه. ولا يغرّنك أني رجعت إليهم بعدها، وبرزت إلى لقائهم، فإنّي أنفت
أنّ أرجع عن مقاومتهم بعد اعتيادها، وأترك مبارزتهم وقد عرفها الناس.
وأنت لا يضرّك العجز عن مبارزتهم والنكول عن لقائهم، فليس لك في ذلك
مقام معلوم، ولا عادة سالفة، واجهد جهدك في التغلّب على إفريقية وراءك،
فإن فعلت كانت المناهضة. وهذه الوصاة زعموا هي التي حملت عثمان وبنيه
من بعده على طلب ملك إفريقية، ومنازلة بجاية وحربهم مع الموحدين. ولمّا
هلك يغمراسن ذهب ابنه إلى مسالمة بني مرين، فبعث أخاه محمدا إلى
السلطان يعقوب بن عبد الحق، وأجاز البحر إليه بالأندلس. ووافاه بأركش
في إجازته الرابعة سنة أربع وثمانين وستمائة فعقد له ما جاء إليه من
السلم والمهادنة، ورجّعه إلى أخيه وقومه ممتلئا كرامة وسرورا. وهلك
يعقوب بن عبد الحق أثر ذلك سنة خمس وثمانين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتولاه.
[2] وفي نسخة ثانية: خرزوزة.
(7/283)
وستمائة وقام بالأمر ابنه يوسف بن يعقوب.
وانتزى الخوارج عليه بكل جهة، فشمّر لهم واستنزلهم وحسم أدواءهم. ثم
خرج عليه ابنه آخرا كما ذكرناه بممالأة وزير السلطان محمد بن عطّو. ثم
فاء إلى طاعة أبيه ورضي عنه، وأعاده إلى مكانه من حضرته. وطالب عثمان
بن يغمراسن كما ذكرناه في ابن عطو المنتزي عليه مع ابنه، فأبى عثمان من
تسليمه وتحرّكت حفيظة السلطان واعتزم على غزوهم، فارتحل من مراكش لصفر
من سنة سبع وثمانين [1] وعقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الرحمن. ثم
نهض لغزاته من فاس آخر ربيع من سنته في عساكره وجنوده، وحشد القبائل
وكافة أهل المغرب، وسار حتى نزل تلمسان فانحجز عثمان وقومه بها، ولاذوا
منه بجدرانها.
فسار في نواحيها ينسف الآثار ويخرب العمران ويحطم الزرع. ثم نزل بذراع
الصابون بساحتها. ثم انتقل منه إلى تامة [2] وحاصرها أربعين يوما، وقطع
أشجارها، وأباد خضراءها. ولما امتنعت عليه أفرج عنها وانكفأ راجعا إلى
المغرب. وقضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يرناتن، ونسك الأضحى
وقربانه بتازى، وتلبّث بها، ومنها كان فصوله للغزو عند انتقاض الطاغية
كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض الطاغية واجازة السلطان
لغزوه)
لما رجع السلطان من غزو تلمسان وافاه الخبر بأنّ الطاغية شانجة انتقض
ونبذ العهد، وتجاوز التخوم وأغار على الثغور، فأوعز إلى قائد المسالح
علي بن يوسف بن يزكاسن بالدخول إلى دار الحرب ومنازلة شريش. وشنّ
الغارات على بلاد الطاغية، فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين
وستمائة وجاس خلالها، وتوغّل في أقطارها، وأبلغ في النكاية. وفصل
السلطان من تازى غازيا على أثره في جمادى، واحتل قصر مصمودة، واستنفر
أهل المغرب وقبائله. ونفروا وشرع في إجازتهم البحر. وبعث الطاغية
أساطيله إلى الزقاق حجزا دون الإجازة، فأوعز السلطان إلى قوّاد أساطيله
بالسواحل فأغزاهم. والتقت الأساطيل ببحر الزقاق في شعبان فاقتتلوا
وانكشف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تسع وثمانين.
[2] وفي نسخة ثانية: ثمامة.
(7/284)
المسلمون ومحصهم الله. ثم أغزاهم ثانية
وخامت أساطيل العدو عن اللقاء، وصاعدوا عن الزقاق. وملكته أساطيل
السلطان فأجاز أخريات رمضان واحتلّ بطريف. ثم دخل دار الحرب غازيا،
فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر، وضيّق عليهم. وبثّ السرايا في أرض العدو،
وردّد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيها إلى أن بلغ في النكاية
والإثخان. وقضى من الجهاد وطرا، وزاحمه فصل الشتاء وانقطاع الميرة عن
العسكر، فأفرج عن الحصن ورجع إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب فاتح
إحدى وتسعين وستمائة فتظاهر ابن الأحمر والطاغية على منعه كما نذكره إن
شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن انتقاض ابن الأحمر ومظاهرته
للطاغية على طريف أعادها الله للمسلمين)
لما قفل السلطان من غزاتة فاتح إحدى وتسعين وستمائة كما ذكرناه، وقد
أبلغ في نكاية العدوّ وأثخن في بلاده، فأهمّ الطاغية أمره، وثقلت عليه
وطأته، والتمس الوليجة من دونه. وحذّر ابن الأحمر غائلته، ورأى أنّ
مغبّة حاله الاستيلاء على الأندلس وغلبه على أمره، ففاوض الطاغية
وخلصوا نجيّا. وتحدّثوا أنّ استمكانه من الإجازة إليهم إنّما هو لقرب
مسافة بحر الزقاق، وانتظام ثغور المسلمين حفافيه لتصرف شوانيهم وسفنهم
متى أرادوا فضلا عن الأساطيل وأن أمّ تلك الثغور طريف، وأنهم إذا
استمكنوا منها كانت ربيئة لهم على بحر الزقاق. وكان أسطولهم بمرقاها
بمرصد الأساطيل صاحب المغرب الخائضين لجّة ذلك البحر، فاعتزم الطاغية
على منازلة طريف. وزعم له ابن الأحمر بمظاهرته على ذلك، وشرط له المدد
والميرة لأقوات العسكر أيام منازلتها، على أن تكون له إن خلصت.
وتعاونوا على ذلك وأناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف. وألحّ
عليها بالقتال ونصب الآلات وانقطع عنها المدد والميرة. واحتلت أساطيله
ببحر الزقاق، فحالفوا دون الصريخ من السلطان وإخوانهم المسلمين. وضرب
ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا منه، وسرّب إليه المدد من السلاح
والرجال والميرة من الأقوات، وبعث عسكرا لمنازلة حصن أصطبونة، وتغلّب
عليه بعد مدة من الحصار. واتصلت هذه الحال أربعة أشهر حتى أصاب
(7/285)
أهل طريف الجهد، ونال منهم الحصار، فراسلوا
الطاغية في الصلح والنزول عن البلد، فصالحهم واستنزلهم سنة إحدى وتسعين
وستمائة ووفّى لهم بعهده. واستشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية عنها
لما عقدوا عليه، فأعرض عن ذلك واستأثر بها بعد أن كان نزل له عن ستة من
الحصون عوضا منها، ففسد ذات بينهما، ورجع ابن الأحمر إلى تمسّكه
بالسلطان واستعانته به لأهل ملّته على الطاغية. وأوفد ابن عمّه الرئيس
أبا سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف ووزيره أبا سلطان عزيز الداني في وفد
من أهل حضرته لتجديد العهد وتأكيد المودّة وتقرير المعذرة عن شأن طريف.
فوافوه بمكانه من منازلة تازوطا كما يذكر بعد. فأبرموا العقد وأحكموا
الصلح وانصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين وتسعين وستمائة بأسعاف غرضه
من المواخاة واتصال اليد. وهلك خلال ذلك قائد المسالح بالأندلس علي بن
يزكاسن في ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وستمائة وعقد السلطان لابنه
ولي عهده، الأمير أبي عامر على ثغور الأندلس التي في طاعته، وعهد له
بالنظر في مصالحها. وأنفذه إلى قصر المجاز بعسكره فوافاه هنالك السلطان
ابن الأحمر كما يذكر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن وفادة ابن الأحمر على السلطان
والتقائهما بطنجة)
لما رجعت الرسل الى ابن الأحمر، وقد كرّمت وفادتهم وقضيت حاجتهم،
وأحكمت في المواخاة مقاصدهم، وقع ذلك من ابن الأحمر أجمل موقع، وطار
سرورا من أعواده. وأجمع الرحلة إلى السلطان لإحكام الودّ والاستبلاغ في
العذر عن واقعة طريف وشأنها، واستعدادهم لإغاثة المسلمين ونصرهم من
عدوّهم. فاعتزم على ذلك وأجاز البحر ذا القعدة سنة اثنتين وتسعين
وستمائة واحتل بنيونش من ساحة سبتة. ثم ارتحل إلى طنجة، وقدّم بين يدي
نجواه هدية سنيّة أتحف بها السلطان، كان من أحفلها وأحسنها موقعا لديه
فيما زعموا المصحف الكبير، أحد مصاحف عثمان ابن عفّان أحد الأربعة
المنبعثة إلى الآفاق، المختص هذا منها بالمغرب، كما نقله السلف. كان
بنو أمية يتوارثونه بقرطبة، فتلقاه الأمير أبو عامر هنالك، وأخوه
الأمير
(7/286)
أبو عبد الرحمن ابنا السلطان واحتفلا في
مبرّته. ثم جاء السلطان على أثرهما من حضرته لتلقّيه وبرور مقدمه،
ووافاه بطنجة، وبلغ في تكرمته وبرّ وفادته ما يكرّم به مثله. وبسط ابن
الأحمر العذر عن شأن طريف فتجافى السلطان عن العذل وأعرض عنه وقبل منه.
وبرّ واحتفى ووصل وأجزل، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة والغربية
وعشرين حصنا من ثغور الأندلس كانت من قبل لطاعة صاحب المغرب ونزل
عساكره. وعاد ابن الأحمر إلى الأندلس خاتم اثنتين وتسعين وستمائة
محبوّا محبورا. وأجازت عساكر السلطان معه لحصار طريف وعقد على حربها
ومنازلتها لوزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن الخرباش الجشمي،
فنازلها مدّة، وامتنعت فأفرج عنها. وصرف السلطان همّته إلى غزو تلمسان
وحصارها. كما يذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتزاء الوزير الوساطي بحصن
تازوطا من جهات الريف واستنزال السلطان إياه)
كان بنو الوزير هؤلاء رؤساء بني واطاس من قبل بني مرين، ويرون أن نسبهم
دخيل في بني مرين. وأنّهم من أعقاب علي بن يوسف بن تاشفين لحقوا بالبدو
ونزلوا على بني واطاس، ورسخت فيهم عروقهم حتى لبسوا جلدتهم. ولم يزل
السرو متربعا بين أعينهم لذلك، والرئاسة شامخة بأنوفهم. وكانوا يرومون
الفتك بالأمراء من أولاد عبد الحق، فلم يطيقوه. ولما احتلّ السعيد
بتازى غازيا إلى تلمسان كما ذكرناه، ولحق ببلدهم الأمير أبو يحيى بن
عبد الحق ائتمروا في الفتك به. ونذر بشأنهم فارتحل، ففرّوا إلى غبولة
وعين الصفا من بلاد بني يزناسن، وهنالك بلغه خبر مهلك السعيد.
وكانت بلاد الريف لبني واطاس من لدن دخول بني مرين المغرب واقتسامهم
لأعماله فكانت ضواحيها لنزلهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم. وكان حصن
تازوطا بها من أمنع المعاقل بالمغرب وكان الملوك من أولاد عبد الحق
يعتنون بشأنه، وينزلونه من أوليائهم من يثقون بغنائه واطلاعه، ليكون
آخذا بناصية هؤلاء الرهط. وشجا في صدورهم عمّا يسيمون إليه. وكان
السلطان قد عقد عليه لمنصور ابن أخيه الأمير أبي مالك بعد مهلك ابنه
أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق. وكان عمر بن يحيى ابن الوزير وأخوه
(7/287)
عامر رئيسين على بني واطاس لذلك العهد،
فاستوهنوا أمر السلطان بعد مهلك أبيه، وحدّثوا أنفسهم بالانتزاء
بتازوطا والاستبداد بتلك الناحية، فوثب عمر منهم بمنصور ابن أخي
السلطان شهر شوال من سنة إحدى وتسعين وستمائة وفتك برجاله وذويه وأزعجه
عنها، وغلبه على مال الجباية الّذي كان بقصره، فاستصفاه واستأثر به.
واستبدّ وشحن الحصن برجاله وحاشيته ووجوه قومه. ووصل منصور إلى السلطان
وهلك لليال من منجاته أسفا لما أصابه. وسرّح السلطان وزيره الطائر
الذكر عمر بن السعود بن خرباش بالعساكر لمنازلته فأناخ عليه. ثم نهض
السلطان على أثره ووافاه واضطرب معسكره بساحته. وخالف عامر أخاه عمر
إلى السلطان بقومه حذرا من مغبّة الأمر، وأشفق عمر لشدّة الحصار ويئس
من الخلاص، وظنّ أن قد أحيط به ودسّ إلى أخيه عامر، فاستأذن السلطان في
مداخلته في الدخول على الحصن فأذن له. واحتمل ذخيرته وفرّ إلى تلمسان.
وبدا لعامر في رأيه عند ما خلص إلى الحصن وخلاله من أخيه عمر الجوّ.
وحذر غائلة السلطان وخشي أن يثأر منه بابن أخيه، فامتنع بالحصن. ثم ندم
وسقط في يده، وفي خلال ذلك كان وصول وفد الأندلس، وأرسوا أساطيلهم
بمرسى غساسة، فبعث إليهم عامر أن يشفعوا له عند السلطان لوجاهتهم لديه،
فتقبّلت شفاعتهم على شريطة إجازته إلى الأندلس، وكره ذلك وقدّم بين
يديه بعض حاشيته إلى الأسطول مكرا بهم، وخاض الليل إلى تلمسان، وتقبّض
السلطان على ولده وقتل. وأسلم أهل الاسطول من كان من حاشيته لديهم،
وتجافوا عن إجازتهم على السلطان لما مكر بهم عامر فامر فاستلحموا مع من
كان بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذريّاتهم [1] وتملّك السلطان حصن
تازوطا وأنزل به عمّاله، ومسلحته وقفل إلى حضرته بفاس آخر جمادى من سنة
اثنتين وتسعين وستمائة والله تعالى أعلم.
(الخبر عن نزوع أبي عامر ابن السلطان الى بلاد الريف وجهات غمارة)
كان الأمير أبو عامر بعد إجازة ابن الأحمر إلى السلطان أبيه ورضاه عنه،
وتأكيد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ذويهم.
(7/288)
مؤاخاته وإغراء وزيره بمنازلة طريف،
واستنزاله أولاد الوزير المنتزين بحصن تازوطا رجع من قصر مصمودة إلى
بلاد الريف بإيعاز أبيه إليه بذلك لتسكين أحوالها. وكان أولاد الأمير
أبي يحيى بن عبد الحق قد نزعوا إلى تلمسان لسعاية فيهم، وقرت في صدر
السلطان، فأقاموا بها أياما، ثم استعطفوا السلطان واسترضوه، فرضي وأذن
لهم في الرجوع في محلّهم من قومهم ودولتهم. وبلغ الخبر الأمير أبا عامر
وهو بمعسكره من الريف، فأجمع على اغتيالهم في طريقهم فظنّ أنه يرضي
بذلك أباه.
واعترضهم بوادي القطف من ملويّة سنة خمس وتسعين وستمائة فاستلحمهم
وانتهى الخبر إلى السلطان فقام في ركائبه وقعد، وتبرّأ إلى ابنه [1] من
إخفار ذمّته. ومن صنيع ابنه. وسخطه وأقصاه، فذهب مغاضبا ولحق ببلاد
الريف. ثم صعد إلى جبل غمارة، فلم يزل طريدا بينهم. ونازلته عساكر أبيه
لنظر ميمون بن وردار [2] الجشميّ، ثم لنظر يرزيكن بن المولاة تاميمونت.
وأوقع بهم مرارا آخرها بيرزيكن سنة سبع وتسعين وستمائة، وذكر الربجي
[3] مؤرّخ دولتهم أنّ خروجه بجبل غمارة كان سنة أربع وتسعين وستمائة
وقتله لأولاد الأمير أبي يحيى كان سنة خمس وتسعين وستمائة بعدها أغزاهم
[4] من مثوى انتزائه، وقتلهم كما ذكرناه والله أعلم. ولم يزل هذا دأبه
إلى أن هلك ببني سعيد من جبال غمارة سنة ثمان وتسعين وستمائة ونقل شلوه
إلى فاس فووري بباب الفتوح ملحد قومهم هنالك. وأعقب ولدين نقلهما
السلطان جدّهما، فكانا الخليفتين من بعده ملي ما نذكره إن شاء الله
تعالى والله أعلم.
(الخبر عن حصار تلمسان الكبير وما تخلل ذلك
من الاحداث)
كان عثمان بن يغمراسن بعد إفراج السلطان سنة تسع وثمانين وستمائة
وانتقاض الطاغية
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلى الله.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: وردان.
[3] وفي نسخة ثانية: الزليخي.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: أغرابهم من مثوى انتزائه.
(7/289)
وابن الأحمر عليه كما قلناه، صرف إلى
ولايتهما وجه تدبيره وأوفد على الطاغية ابن بريدي من صنائع دولته سنة
اثنتين وتسعين وستمائة ووجّهه الطاغية مع الريك ريكسن رسول من كبار
قومه. ثم عاد إليه الحاج مسعود من حاشيته، ووصل يده بيده يظنّ ذلك
دافعا عنه. واعتدّها السلطان عليه وطوى له على النثّ. حتى إذا فرغ من
شأن الأندلس وهلك الطاغية شانجة سنة ثلاث وتسعين وستمائة لإحدى عشرة من
سني ملكه، وارتحل السلطان إلى طنجة لمشارفة أحوال الأندلس سنة أربع
وتسعين وستمائة فأجاز إليه السلطان ابن الأحمر ولقيه بطنجة، وأحكم معه
المؤاخاة. ولما استيقن سكون أحوالها، نزل لابن الأحمر عن جميع الثغور
التي بها الطاغية، وأجمع غزو تلمسان، ولحق به بين يدي ذلك ثابت بن
منديل المغراوي صريخا على ابن يغمراسن ومستجيشا بقومه فتقبله وأجاره.
وكان أصاب الناس أعوام اثنتين وتسعين وستمائة قحط، ونالتهم سنة وهنوا
لها. ثم أنّ الله رحم خلقه وأدرّ نعمته، وأعاد الناس إلى ما عهدوه من
سبوغ نعمهم وخصب عيشهم. ووفد عليه سنة أربع وتسعين وستمائة ثابت بن
منديل أمير مغراوة مستصرخا به من عثمان بن يغمراسن، فبعث من كبار قومه
موسى بن أبي حمّو إلى تلمسان شغيعا في ثابت بن منديل فردّه عثمان أقبح
ردّ وأساء في إجابته، فعاود الرسالة إليهم في شأنه، فلم يزدهم إلّا
إصرارا [1] فاعتزم على غزو بلادهم واستعدّ لذلك، ونهض سنة أربع وتسعين
وستمائة حتى انتهى إلى بلاد تاوريرت، وكانت تخما لعمل بني مرين وبني
عبد الواد في جانبها عامل السلطان أبي يعقوب، وفي جانبها الآخر عامل
عثمان بن يغمراسن. فطرد السلطان عامل ابن يغمراسن وتميز بها، واختطّ
الحصن الّذي هنالك لهذا العهد. تولاه بنفسه يغادي الفعلة ويراوحهم،
وأكمل بناءه في شهر رمضان من سنته. واتخذه ثغرا لملكه، وأنزل بني عسكر
لحياطته وسدّ فروجه.
وعقد عليهم لأخيه أبي يحيى بن يعقوب، وانكفأ راجعا إلى الحضرة.
ثم خرج من فاس سنة خمس وتسعين وستمائة غازيا إلى تلمسان، ومرّ بوجدة،
فهدم أسوارها وتغلّب على مسيفة والزغاوة [2] . وانتهى إلى ندرومة،
ونازلها أربعين يوما ورماها بالمنجنيق. وضيّق عليها وامتنعت عليه فأفرج
عنها ثاني الفطر. ثم أغزى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فلم تزدهم إلا ضرارا.
[2] وفي نسخة ثانية: الزغّارة.
(7/290)
تلمسان سنة ست وتسعين وستمائة وبرز
لمدافعته عثمان بن يغمراسن، فهزمه وحجزه بتلمسان، ونزل بساحتها وقتل
خلقا من أهلها، ونازلها أياما. ثم أقلع عنها وقفل إلى المغرب وقضى منسك
الأضحى من سنته بتازى. فأعرس هنالك لحافدة أبي ثابت ابن منديل، كان
أصهر فيها إلى جدّها قبل مهلكه سنة ست وتسعين وستمائة قتيلا ببحيرة
الزيتون من ظاهر فاس. قتله بعض بني ورتاجن في دم كان لهم في قومه، فثأر
السلطان به من قاتله وأعرس بحافدته. وأوعز ببناء القصر بتازى، وقفل إلى
فاس فاتح سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم ارتحل إلى مكناسة وانكفأ إلى فاس.
ثم نهض جمادى غازيا تلمسان ومرّ بوجدة فأوعز ببنائها وتحصين أسوارها،
واتخذ بها قصبة ودارا لسكناه ومسجدا وأغزى إلى تلمسان، ونزل بساحتها،
وأحاطت عساكره إحاطة الهالة بها، ونصب عليها القوس البعيدة النزع
العظيمة الهيكل المسمّاة بقوس الزيار ازدلف إليه الصنّاع والمهندسون
بعملها، وكانت توقر على أحد عشر بغلا. ثم لما امتنعت عليه تلمسان أفرج
عنها فاتح سنة ثمان وتسعين وستمائة ومرّ بوجدة، فأنزل بها الكتائب من
بني عسكر لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت، وأوعز إليهم
بترديد الغزاة على أعمال ابن يغمراسن وإفساد سابلتها. وضاقت أحوالهم
ويئسوا من صريخ صاحبهم، فأوفدوا على الأمير أبي يحيى وفدا منهم يسألون
الأمان بمن وراءهم من قومهم، على أن يمكّنوه من قياد بلدهم، ويدينوا
بطاعة السلطان، فبذل لهم من ذلك ما أرضاهم، ودخل البلد بعساكره،
واتبعهم أهل تاوونت وأوفد مشيختهم جميعا على السلطان آخر جمادى، فقدموا
عليه لحضرته وأدّوا طاعتهم، فقبلها. ورغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم
ليريحهم من ملكة عدوّه وعدوّهم ابن يغمراسن، ووصفوا من عسفه وجوره
وضعفه عن الحماية، ما استنهض السلطان لذلك على ما يذكر إن شاء الله
تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان وما تخلل
ذلك من الأحداث)
لما توفّرت عزائم السلطان عن النهوض إلى تلمسان، ومطاولة حصارها إلى أن
يظفر بها وبقومها، واستيقن أنه لا مدافع له عن ذلك، نهض من فاس شهر رجب
من سنة
(7/291)
ثمان وتسعين وستمائة بعد أن استكمل حشده.
ونادى في قومه، واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم وأزاح عللهم. وارتجل في
التعبية واحتل بساحة تلمسان ثاني شعبان وأناخ عليها وضرب معسكره
بفنائها. وحجز عثمان بن يغمراسن وحاميتها من قومه، وأدار الأسوار سياجا
على عمرانها كلّه، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى.
ورتّب المسالح على أبوابها وفرجها، وسرّح عساكره لمحاصرتها فاقتحموها
[1] وآتوا طاعتهم، وأوفد مشيختهم وسط شعبان. ثم سرّح عساكره لمحاصرة
وهران وتقرّى البسائط ومنازلة الأمصار، فأخذت مازونة في جمادى الآخرة
من سنة تسع وتسعين وستمائة وتنس في شعبان بعده، وتالموت [2] والقصبات
وتامزردكت في رمضان منه، وفيه كان فتح مدينة وهران. وسارت عساكره في
الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره. وأخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي،
وتغلّب على ضواحي مغراوة وتوجين، وسارت فيها عساكره ودوّختها كتائبه،
واقتحمت أمصارها مثل مليانة ومستغانم وشرشال والبطحاء ووانشريش والمرية
[3] وتافركينت، وأطاعه زيري المنتزي ببرشك. وأتى بيعته، وابن علان
المنتزي بالجزائر. وأزعج الناكثين منهم عن طاعته، واستألف أهل الطاعة
[4] كما نذكره. وحذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية وملوك
تونس، فمدّوا إليه يد المواصلة ولاطفوه بالمتاحفة والمهاداة كما نذكره،
وخاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك وهاداه وراجعه كما نذكره، ووفد
عليه شرفاء مكة بني أبي نمى كما نذكر. وهو في خلال ذلك مستجمع للمطاولة
بالحصار والتضييق، متجاف عن القتال إلّا في بعض الأيام، ولم تبلغ أربعة
أو خمسة ينزل شديد العقاب والسطوة بمن يميرها ويأخذ بالمرصاد على من
يتسلّل بالأقوات اليها. قد جعل سرداق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في
ذلك، فلا يخلص إليهم الطيف ولا يكاد يصل إليهم العيث مدّة مقامه عليها،
إلى أن هلك بعد مائة شهر كما نذكره. واختطّ بمكان فسطاط المعسكر قصرا
لسكناه، واتّخذ به مسجدا لمصلّاه وأدار عليها السور، وأمر الناس
بالبناء فبنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وسرّح عساكره الى هنين فافتتحها.
[2] وفي نسخة ثانية: تاللوت.
[3] وفي نسخة ثانية: المدية.
[4] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخ أخرى: أهل الظاعنة. وأهل الصاغية
وأهل الطاغية.
(7/292)
والقصور الأنيقة، واتخذوا البساتين وأجروا
المياه. ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين وسبعمائة،
وصيّرها مصرا، فكانت من أعظم الأمصار والمدن وأحفلها اتساع خطة وكثرة
عمران ونفاق أسواق، واحتفال بناء وتشييد منعة. وأمر باتخاذ الحمامات
والمارستان، وابتنى مسجدا جامعا، وشيّد له مئذنة رفيعة، فكان من أحفل
مساجد الأمصار وأعظمها، وسمّاها المنصورة، واستبحر عمرانها ونفقت
أسواقها [1] ، ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق فكانت إحدى مدائن
المغرب.
وخرّبها آل يغمراسن عند مهلكه، وارتحال كتائبه عنها، بعد أن كان بنو
عبد الواد أشرفوا على الهلاك، وأذنوا بالانقراض كما نذكره، فتداركهم من
لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في المهالك، والله غالب على
أمره.
(الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة وما تخلل ذلك
من الأحداث)
لما أناخ السلطان على تلمسان وتغلّب على ضواحي بني عبد الواد، وافتتح
أمصارهم، سما إلى التغلّب على ممالك مغراوة وبني توجين. وكان ثابت بن
منديل قد وفد على السلطان بمقرّ ملكه من فاس سنة أربع وتسعين وستمائة
وأصهر إليه في حافدته، فعقد له عليها. وهلك ثابت بمكان وفادته من
دولتهم، وأعرس السلطان بحافدته سنة ست وتسعين وستمائة كما ذكرنا ذلك من
قبل، فلمّا تغلّب السلطان على مال بني عبد الواد جهّز عساكره إلى بلاد
مغراوة، وعقد عليها لعلي بن محمد من عظماء بني ورتاجن، فتغلّبوا على
الضواحي وشرّدوا مغراوة إلى رءوس المعاقل.
واعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن منديل صهر السلطان بمليانة فنازلوه
بها. ثم استنزلوه على الأمان تسع وتسعين وستمائة فأوفدوه على السلطان،
فلقاه مبرّة وتكرمة، وخلطه بجملته (لمكان) صهره معه. ثم افتتحوا مدينة
تدلس [2] ومازونة وشرشال.
وأعطى زيري بن حمّاد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة. وأوفد على
السلطان للبيعة، واستولوا على ضواحي شلف كلّها. ولاذت مغراوة بطاعة
السلطان.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وهالت أسواقها.
[2] وفي نسخة ثانية: تنس.
(7/293)
وعقد عليهم وعلى جميع بلادهم لعمر بن ويفرن
بن منديل فآسف ذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص. ولما
كانت أخته حظيّة السلطان وكريمته، ونافس عمر بن ويفرن في إمارة قومه،
فلحق بجبال متيجة، وأجلب على من هنالك من عمّال السلطان وعساكره وانحاش
إليه مرضى القلوب من قومه، فاعصوصبوا عليه. وداخلوا أهل مازونة
فانتقضوا على السلطان وملّكوه أمرهم في ربيع من المائة السابعة. ثم
بيّت عمر بن ويفرن بمعسكره من أزمور، فقتله واستباح المعسكر. وبلغ
الخبر إلى السلطان، فسرّح العساكر من بني مرين وعقد لعليّ بن الحسن بن
أبي الطلاق على قومه من بني عسكر، ولعليّ بن محمد الخيريّ على قومه من
بني ورتاجن، وجعل الأمر شورى بينهما، وأشرك معهما عليها الحسّاني من
صنائع دولته، وأبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين.
وعقد على مغراوة محمد بن عمر بن منديل، وأشركه معهم، وزحفوا إلى راشد.
ولمّا أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعة مغراوة.
وأنزل بمازونة عليا وحمّو ابني عمه يحيى بن ثابت، واستوصاهم بضبط
البلد، وأنه مشرف عليهم من الجبل.
وجاءت عساكر السلطان إلى بلاد مغراوة فتغلّبوا على البسائط وأناخوا
بمازونة، وضربوا معسكرهم بساحتها، وأخذوا بمخنقها، واهتبل عليّ وقومه
غرّة في معسكر بني مرين فبيّتهم سنة إحدى وسبعمائة. وانفضّ المعسكر
وتقبّض على علي بن محمد الخيريّ، ثم امتنعوا عليه وعاد المعسكر إلى
مكانهم من حصارهم، وجهدهم حالهم فنزل إليهم حمّو بن يحيى على حكم
السلطان. وأنفذوه إليه فتقبّض عليه. ثم نزل عليّ ثانية من غير عهد،
فأشخصوه إلى السلطان فلقاه مبرّة وتكريما، تأنيسا الراشد المنتزي
بمعقله.
واقتحمت على أهلها عنوة سنة ثلاث وسبعمائة فمات منهم عالم واحتملت
رءوسهم إلى سدّة السلطان، رءوسهم إلى سدّة السلطان، فرميت في حفائر
البلد المحصور إرهابا لهم وتخذيلا، ولما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى
على بلاد الشرق وسرّحه لتدويخ التخوم، نازل راشد بمعقله من بني بو
سعيد، فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه، فانفضّوا وقتل طائفة من بني
مرين. ووجد السلطان لها فأمر بقتل عليّ وحمّو ابني عمه يحيى، ومن كان
معتقلا معهما من قومهما. ورفعوا على الجذوع وأثبتوهم بالسهام، ونزل
راشد بعدها عن معقلة ولحق بمتيجة، وانحاش إليه منيف بن ثابت، وأوشاب من
مغراوة وتحيّز الآخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الّذي عقد له
السلطان
(7/294)
عليهم. ثم تأشّبت على راشد ومنيف خوارج
الثعالبة ومليكش، وصمد إليهم الأمير ابو يحيى في عساكره ثانية، ونازلهم
بمعاقلهم ورغبوا في السلم، فبذله السلطان لهم، وأجاز منيف بن ثابت إلى
الأندلس فيمن إليه من بنيه وعشيرة، فاستقرّوا بها آخر الأيام. ولحق
راشد ببلاد الموحّدين ووفد محمد بن منديل سنة خمس وسبعمائة على
السلطان، فأوسعه حبّا وتكريما. وتمهّدت بلاد مغراوة واستبدّ بملكها
السلطان، وصرف إليها العمّال، ولم يزل كذلك إلى أن هلك سنة ست وسبعمائة
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن افتتاح بلاد توجين وما تخلل ذلك)
لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وأحاط بها، وتغلّب على بني عبد الواد،
وسما إلى تملك بلاد توجين. وكان عثمان بن يغمراسن قد غلبهم على
مواطنهم، وملك جبل وانشريش وتصرّف في بني عبد القوي بالولاية والعزل
وأخذ الإتاوة سنة إحدى وسبعمائة، وأوعز إليه السلطان ببناء البطحاء
التي هدمها محمد بن عبد القويّ، فبناها وتوغّل في قاصية المشرق، ثم
انكفأ راجعا إلى حضرة أخيه وعطف على بلاد بني توجين سنة اثنتين
وسبعمائة وفرّ بنو عبد القوي إلى ضواحيهم بالقفر، ودخل إلى جبل وانشريش
وهدم حصونهم به، ورجع إلى الحضرة. ثم بادر أهل تافركينت سنة ثلاث
وسبعمائة بإيتاء طاعتهم [1] . وانتقضوا طاعتهم بعدها. ثم بعث أهل
المرية بطاعتهم السلطان، فتقبّلها وأوعز ببناء قصبتها. وراجع بنو عبد
القوي بعد ذلك بصائرهم فدخلوا في طاعة السلطان، ووفدوا عليه بمكانه من
المنصورة مدينته المحيطة على تلمسان سنة ثلاث وسبعمائة فتقبّل طاعتهم
ورعى سابقتهم، وأعادهم إلى بلادهم وأقطعهم، وولّى عليهم عليّ بن الناصر
بن عبد القوي، وأوعز ببناء قصبة المريّة سنة أربع وكملت سنة خمس
وسبعمائة وهلك عليّ بن الناصر خلال ذلك، فعقد عليهم لمحمد بن عطية
الأصمّ كما ذكرناه. فاستمرّ على الطاعة، ثم انتقض سنة ست وسبعمائة وحمل
قومه على الخلاف، وانتبذوا عن الوطن إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما
نذكره إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بإتيان الطاعة.
(7/295)
(الخبر عن مراسلة
الموحدين ملوك افريقية بتونس وبجاية لزناتة وأحوالهم معهم)
كان لبني أبي حفص ملوك إفريقية مع زناتة هؤلاء أهل المغرب من بني مرين
وبني عبد الواد سوابق مذكورة، فكان لهم على يغمراسن وبنيه طاعة معروفة
يؤدّون بيعتها ويخطبون على منابرهم بدعوتها مذ تغلّب الأمير أبي زكريا
بن عبد الواحد على تلمسان. وعقده عليها ليغمراسن، واستمرّ حالهم على
ذلك. وكانت لهم أيضا مع بني مرين ولاية وسابقة بما كان بنو مرين مذ أول
أمرهم يخاطبون الأمير أبا زكريا، ويبعثون له بيعة البلاد التي يتغلّبون
عليها، مثل مكناسة والقصر ومراكش آخرا. ثم صارت مخالصته من لدن عهد
المستنصر ويعقوب بن عبد الحق. وكانوا يتحفونهم بالمال والهدايا في سبيل
المدد على صاحب مراكش، وقد ذكرنا السفارة التي وقعت بينهما سنة خمس
وستين وستمائة وأن يعقوب أوفد عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز ومحمد
الكناني، وأوفد عليه المستنصر سنة سبع وستين وستمائة بعدها كبير
الموحّدين يحيى بن صالح الهنتاتي في وفد من مشيخة الموحّدين، ومعهم
هدية سنيّة. ثم أوفد الواثق ابنه سنة تسع وسبعين قاضي بجاية المذكور
أبا العبّاس أحمد الغماري، وأسنى الهديّة معه. ولم يزل الشأن بينهم هذا
إلى أن افترق أمر آل أبي حفص. وطار الأمير أبو زكريا بابن الأمير أبي
إسحاق بن يحيى بن عبد الواحد من عشه بتلمسان في وكر عثمان بن يغمراسن،
وأسف إلى بجاية فاستولى عليها سنة ثلاث وثمانين وستمائة، واستضاف إليها
قسنطينة وبونة، وصيّرهما عملا لملكه، ونصب لهما كرسيا لأمره، وأسف
عثمان بن يغمراسن لفراره من بلده لما كان عليه من التمسّك بدعوة عمّه
أبي حفص صاحب تونس، فشقّ ذلك عليه ونكره، واستمرّت الحال على ذلك. ولما
نزل السلطان يوسف بن يعقوب بمخنق تلمسان وأرسى قواعد ملكه بساحتها،
وسرّح عساكره لالتهام الأمصار والجهات، وتوجّس الموحّدون الخيفة منه
على أوطانهم.
وكان الأمير أبو زكريا في جهات تدلس محاميا عن حوزته وعمله. ووصله
هنالك راشد بن محمد نازعا عن السلطان أبي يعقوب. ثم طلعت العساكر على
تلك الجهات في اتباعه، فزحف إليه عسكر الموحّدين سنة تسع وتسعين
وستمائة بناحية
(7/296)
جبل الزاب، ففضّوا جمعه وأوقعوا به
واستلحموا جنوده، واستمرّ القتل فيهم، وبقيت عظامهم ماثلة بمصارعهم
سنين.
ورجع الأمير أبو زكريا إلى بجاية فانحصر بها وهلك على تفيئة ذلك على
رأس المائة السابعة. وقارن ذلك مغاضبة بينه وبين أمير الزواودة لعهده
عثمان بن سبّاع بن يحيى ابن دريد بن مسعود البلط، فوفد على السلطان
أخريات إحدى وسبعمائة، ورغّبه في ملك بجاية. واستمدّه للسير إليها،
فأوعز إلى أخيه الأمير أبي يحيى بمكانه من منازلة مغراوة ومليكش
والثعالبة، بأن ينهض إلى أعمال الموحّدين. وسار عثمان بن سبّاع وقومه
بين يدي العساكر يتقصّون الطريق إلى أن تجاوز الأمير أبو يحيى بعساكره
بجاية، واحتل بتاكرارت من أوطان سدويكش من أعمال بجاية. وأطلّ على بلاد
سدويكش وانكفأ راجعا، فأوطأ عساكره ساحة بجاية وبها الأمير خالد بن
يحيى، وناشبهم القتال بعض أيام، جلا فيها أولياء السلطان أبي البقاء عن
أنفسهم وسلطانهم. وأمر بروض السلطان المسمّى بالبديع فخرّبه، وكان من
آنق الرياض وأحفلها. وقفل إلى مكانه من تدويخ البلاد، وأعرض عن أعمال
الموحّدين. وكان صاحب تونس لذلك العهد محمد بن المستنصر الملقّب بأبي
عصيدة بن يحيى الواثق، فأوفد على السلطان شيخ الموحدين بدولته محمد بن
أكمازير عاقدا أسباب الولاية، ومحكما مذاهب الوصلة، ومقرّرا سوابق
السلف. فوفد في مشيخة من قومه لشعبان سنة ثلاث وسبعمائة. وناغاه الأمير
أبو البقاء خالد صاحب بجاية، وأوفد مشيخة من أهل دولته كذلك. وبرّ
السلطان وفادتهم وأحسن منقلبهم.
ثم عاد ابن أكمازير سنة أربع وسبعمائة، ومعه شيخ الموحدين وصاحب
السلطان أبو عبد الله بن يزريكن في وفد من عظماء الموحدين، وأوفد صاحب
بجابة حاجبه أبا محمد الرخامي، وشيخ الموحّدين بدولته عيّاد بن سعيد بن
عثيمن. ووفدوا جميعا على السلطان ثالث جمادى، فأحسن السلطان في تكرمتهم
ما شاء، ووصلهم إلى نفسه بمساكن داره وأراهم أريكة [1] ملكه وأطافهم
قصوره ورياضه بعد أن فرشت ونمّقت، فملأ قلوبهم جلالا وعظمة، ثم بعثهم
إلى المغرب ليطوفوا على قصور الملك بفاس ومراكش، ويشاهدوا آثار سلفهم،
وأوعز إلى عمّال المغرب بالاستبلاغ في
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبهة.
(7/297)
تكرمتهم واتحافهم، فانتهوا من ذلك إلى
الغاية، وانقلبوا إلى حضرته آخر جمادى، وانصرفوا إلى ملكهم [1] بالحديث
عن شأن رسالتهم وكرامة وفدهم.
ثم أعاد ملوكهم مراسلة السلطان سنة خمس وسبعمائة بعدها، فوفد أبو عبد
الله بن أكمازير من تونس وعيّاد بن سعيد من بجاية. وأوفد السلطان على
صاحب تونس مع رسوله صاحب الفتيا بحضرته الفقيه أبا الحسن التونسي [2]
وعليّ بن يحيى البركشي رسولين يسألان المدد بأسطوله، فقضوا رسالتهم
وانقلبوا سنة خمس وسبعمائة. ووصل بخبرها أبو عبد الله المزدوري من
مشيخة الموحدين، واقترن بذلك وصول حسّون بن محمد بن حسّون المكناسي من
صنائع السلطان، كما أوفده مع ابن عثيمن على مراسلة الأمير أبي البقاء
خالد صاحب بجاية في طلب الأسطول أيضا، فرجعوه بالمعاذير.
وأوفدوا معه عبد الله بن عبد الحق بن سليمان فتلقّاهم السلطان
بالمبرّة، وأوعز إلى عامله بوهران أن يستبلغ في تكريم عمرة الأسطول،
فجرى في ذلك على مذهبه وانقلبوا جميعا أحسن منقلب. وغنى السلطان عن
أسطولهم لفوات وقت الحاجة إليه من منازلة بلاد السواحل إذ كان قد
تملّكها أيام مما طلتهم ببيعته. واتصل الخبر بصاحب تلمسان الأمير أبي
زيان بن عثمان المبايع أيام الحصار عند مهلك أبيه عثمان بن يغمراسن آخر
سنة ثلاث وسبعمائة فبلغه صنيع الموحدين في موالاة عدوه السلطان يوسف بن
يعقوب ومظاهرته بأساطيلهم عليه، فأسفهم ذلك وأخرسوا منابرهم عما كانت
تنطق به من الدعاء من عهد يغمراسن، فلم يراجعوا دعوتهم من بعد، وهلك
السلطان على نفيئة ذلك، والبقاء للَّه وحده.
الخبر عن مراسلة ملوك المشرق الأقصى
ومهاداتهم ووقادة أمراء الترك على السلطان وما تخلل ذلك
لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه وأعماله، وهنأته ملوك
الأقطار وأعراب الضواحي والقفار، وصلحت السابلة ومشت الرفاق إلى
الآفاق، واستجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم، ورغبوا من السلطان إذنه
لركب الحاج في السفر إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملوكهم.
[2] وفي نسخة ثانية: التنسي.
(7/298)
مكة، فقد كان عهدهم بمثلها الفساد السابلة
واستهجان الدول. فبينما السلطان في ذلك آمل إذ داخله لحرم الله وروضة
نبيّه صلى الله عليه وسلّم شوق، فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة، كتبه
ونمقه أحمد بن الحسن الكاتب المحسن، واستوسع في جرمه وعمل غشاءه من
بديع الصنعة، واستكثر فيه من معالق الذهب المنظّم بخرزات الدرّ
والياقوت، وجعلت منها حصاة وسط المعلق تفوق الحصيات مقدارا وشكلا
وحسنا، واستكثر من الأصونة عليه ووقفه على الحرم الشريف، وبعث به مع
الحاج سنة ثلاث وسبعمائة وعني بشأن هذا الركب، فسرّح معهم حامية من
زناتة تناهز خمسمائة من الأبطال، وقلّد القضاء عليهم محمد بن رغبوش من
أعلام أهل المغرب، وخاطب صاحب الديار المصريّة واستوصاه بحاج المغرب من
أهل مملكته، وأتحفه بهدية من طرف بلاده استكثر فيها من الخيل العراب
والمطايا الفارهة، يقال إنّ المطايا كانت منها أربعمائة حدّثني بذلك من
لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب وما عونه. ونهج بها السبيل للحاج
من أهل المغرب، فأجمعوا الحج سنة أربع سبعمائة بعدها وعقد السلطان على
دلالتهم لأبي زيد الغفاريّ، وفصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأوّل.
وفي شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف ووفد معهم
على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعا عن سلطان الترك لما كان
تقبض على أخويه حميضة ورميثة اثر مهلك أبيهم أبي نمي صاحب مكة سنة إحدى
وسبعمائة، فاستبلغ السلطان في تكريمه وسرّحه إلى المغرب ليجول في
أقطاره، ويطوف على معالم الملك وقصوره، وأوعز إلى العمّال بتكريمه
واتحافه على شاكلته. ورجع إلى حضرة السلطان سنة خمس وسبعمائة وفصل منها
إلى المشرق، وصحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله موري [1] حاجا،
ولشعبان من سنة خمس وسبعمائة وصل أبو زيد الغفاريّ دليل ركب الحاج
الآخرين، ومعه بيعة الشرفاء أهل مكّة للسلطان، لما اسفهم صاحب مصر
بالتقبّض على إخوانهم، وكان شأنهم ذلك متى غاظهم السلطان. فقد سبق في
أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها، وأهدوا إلى السلطان ثوبا من كسوة
البيت شغف به، واتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع والأعياد يستبطنه بين
ثيابه تبركا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبو عبد الله فوزي.
(7/299)
به، ولما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر
لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه، وذهب إلى
المكافأة، فجمع من طرف بلاده من الثياب والحيوان ما يستغرب جنسه وشكله،
من نوع الفيل والزرافة، وأوفد بها من عظماء دولته الأمير اليليلي [1]
وفصل من القاهرة أخريات سنة خمس وسبعمائة ووصلت إلى تونس في ربيع من
سنة ست وسبعمائة بعدها. ثم كان وصولها إلى سدّة السلطان بالمنصورة من
البلد الجديد في جمادى الآخرة، واهتز السلطان لقدومها وأركب الناس إلى
لقائها، واحتفل للقاء هذا الأمير اليليلي ومن معه من أمراء الترك، وبرّ
وفادتهم، واستبلغ في تكريمهم نزلا وقرى، وبعثهم إلى المغرب على العادة
في مبرّة أمثالهم، وهلك السلطان خلال ذلك وتقبّل أبو ثابت سنة من بعده
في تكريمهم، فأحسن منقلبهم وملاء حقائبهم صلة، وفصلوا من المغرب لذي
الحجة سنة سبع وسبعمائة ولما انتهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة
ثمان وسبعمائة اعترضهم الأعراب بالقفر فانتهبوهم وخلصوا إلى مصر بجريعة
الزمن [2] . فلم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا ولا لفتوا إليه وجها.
وطالما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه له،
ويهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا، وكان الناس
لعهدهم ذلك يتهمون أنّ الذين نهبوهم أعراب حصين بدسيسة من صاحب تلمسان
أبي حمو لعهدهم، منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات والإحن
القديمة.
(أخبرني) شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلّي قال: حضرت بين يدي السلطان وقد
وصله بعض الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب عن شأن
هؤلاء الأمراء، وما أصابهم في طريقهم من بلاده، وأهدى له مع ذلك كوبين
من دهن البلسان المختص ببلدهم، وخمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس
من قسي الغزّ المؤنّقة الصنعة من العرى والعقب، فاستقل السلطان هديته
تلك بالنسبة إلى ما أهدوا إلى ملك المغرب، ثم استدعى القاضي محمد بن
هدية، وكان يكتب عنه فقال له: اكتب الآن إلى الملك الناصر كما أقول لك،
ولا تحرّف كلمة عن موضعها إلّا ما تقتضيه صناعة الإعراب، وقل له: أمّا
عتابك عن شأن الرسل وما أصابهم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: التليلي.
[2] وفي نسخة اخرى: بجريعة الذقن.
(7/300)
في طريقهم فقد حضروا عندي وأبنت لهم
الاستعجال حذرا مما أصابهم، وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من غوائل
الأعراب، فكان جوابهم أنّا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف مغترّين
بشأنهم يحسبون أنّ أمره نافذ في أعراب فلاتنا [1] . وأمّا الهدية فتردّ
عليك، أمّا دهن البلسان فنحن قوم بادية لا نعرف إلّا الزيت وحسبنا به
دهنا. وأمّا المماليك الرماة فقد افتتحنا بهم إشبيلية وصرفناهم إليك
لتستفتح بهم بغداد والسلام. قال لي شيخنا وكان الناس إذ ذاك لا يشكّون
أنّ انتهابهم كان باذن منه.
وكان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه. وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما
يعلنون.
الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء
الرئيس سعيد على سبتة وخروج عثمان بن العلاء في غمارة
لما أحكم السلطان عقد المهادنة والولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف
بالفقيه، عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين وتسعين وستمائة كما ذكرناه،
وفرغ لعدوّه تمسّك ابن الأحمر بولايته تلك إلى أن هلك سنة إحدى
وسبعمائة في شهر شعبان منه. وقام بالأمر الأندلسي من بعده ابنه محمد
المعروف بالمخلوع. واستبدّ عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشايخ
رندة، كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه. فاضطلع بأموره وغلب عليه. وكان
هذا السلطان المخلوع ضرير البصر ويقال إنه ابن الحكيم، فغلب عليه
واستبدّ إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان وسبعمائة كما
نذكره، وكان من أوّل آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه
المبادرة إلى إحكام ولاية السلطان، واتصال يده بيده، فأوفد إليه لحين
ولايته وزير أبيه السلطان أبي عزيز الداني، ووزيره الكاتب أبا عبد الله
بن الحكيم، فوصلا الى [2] السلطان بمعسكره من حصار تلمسان وتلقّاهما
بالقبول والمبرّة، وجدّدت له أحكام الودّ والولاية، وانقلبا إلى
مرسلهما خير منقلب. وتقدّم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس
وناشبتهم المعوّدين منازلة الحصون والمناغرة بالرباط، فتبادروا إلى
إسعافه، وبعثوا حصّتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم، فوصلت سنة اثنتين
وسبعمائة. وكانت لهم نكاية في العدو وأثر
__________
[1] وفي نسخة اخرى: في أعراب قبائلنا.
[2] وفي نسخة ثانية: فوفدوا على السلطان.
(7/301)
البلد المخروب. ثم بدا لمحمد بن الأحمر
المخلوع في ولاية السلطان لمنافسات جرت إلى ذلك. وبعث إلى أدفونش
هراندة بن شانجة، وأحكم له عقد السلم ولاطفة في الولاية، فانعقد ذلك
بينهما سنة ثلاث وسبعمائة واتصل خبره بالسلطان فسخطه ورجّع إليه حصتهم
آخر سنة ثلاث وسبعمائة، واتصل خبره بالسلطان لسنة من مقدمهم بعد أن
أبلوا وأثخنوا، وطوى لهم على النث واعتمل ابن الأحمر وشيعته في
الاستعداد لمدافعة السلطان والارصاد لسطوته بهم. وأوعز إلى صاحب مالقة
ابن عمّه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن محمد بن نصر، وليه من دون
القرابة بما كان له من الصهر على أخته، والمضطلع له بثغر الغربيّة،
فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان والقبض على ابن
العزفي، والرجوع إلى ولاية ابن الأحمر. وكان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم
الفقيه أبو القاسم العزفي سنة سبع وسبعين وستمائة قام بأمرهم ولده أبو
حاتم. وكان أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبدّ عليه بصاغيته
إلى الرئاسة، وإيثار أبي حاتم للخمول مع إيجابه حق أخيه الأكبر،
واجابته الداعي من دون دفع [1] إليه فاستقام أمرهما مدّة. وكان من
سياستهما من أوّل أمرهما، الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما، والعمل
بطاعته والتجافي عن السكني بقصور الملك والتحرّج من أبّهة السلطان
لمكانهم، فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات اصطنعوه
وجعلوا إليه أحكام البلد، وضبط الحامية له فاضطلع بذلك سنين. ثم أسفه
يحيى بن أبي طالب ببعض النزغات الرئاسيّة وحجر عليه الأحكام في ذويه.
ثم أغرى به أباه وطالبه، بحساب الخرج لعطاء الحامية وغفلوا عما وراءها
من التظنن فيه والريبة به ثقة بمكانه واستنامة إليه. وهم مع ذلك على
أوّلهم في موالاة السلطان والأخذ بدعوته والوفود عليه في أوقاته. ولما
فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان وعقد على محاولة سبتة وجدّ السبيل إلى
ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النثّ، فداخله الرئيس أبو سعيد
صاحب الثغر بمالقة جاره بسبتة، ووعده الغدر ببني العزفي وأن يصحبهم في
أساطيله، فشرّع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية، واستنفار
الناس للمثاغرة، وأنّ العدو لمالقة بالمرصاد، وشحنها بالفرسان والرجل
والناشبة والأقوات، وأخفى وجه قصده عن الناس، حتى إذا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: متى روفع إليه.
(7/302)
افلعت أساطيله بيّت سبتة لسبع وعشرين من
شوّال سنة خمس وسبعمائة وأرسى بساحتها الموعد صاحب القصبة، فأدخله إلى
حصنه فملكه، ونشر راياته بأسوارها، وسرّب جيوشه إلى البلد فتسايلوا
وركب إلى دور بني العزفي فتقبّض عليهم، وعلى والدهم وحاشيتهم. وطيّر
الخبر إلى السلطان بغرناطة، فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، ونادى
في الناس بالأمان، وبسط المعدلة، وأركب ابن العزفي السفن إلى مالقة. ثم
أجازوا غرناطة وقدموا على ابن الأحمر، فأجل قدومهم وأركب الناس إلى
لقائهم، وجلس لهم جلوسا فخما حتى أدّوا بيعتهم وقضوا وفادتهم، وأنزلوا
بالقصور وأجريت عليهم سنية الأرزاق. واستقروا بالأندلس إلى أن صاروا
بعد إلى المغرب كما نذكر واستبدّ الرئيس أبو سعيد بأمر سبتة وثقف
أطرافها وسدّ ثغورها، وأقام دعوة ابن عمه صاحب الأندلس بأنحائها. وكان
عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص الملك المريني
أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة بمالقة، وقائدا لعصبتهم تحت
لوائه. فموّه بنصبه للملك بالمغرب. وخاطب قبائل غمارة في ذلك، فوقفوا
بين الإقدام والإحجام واتصل ذلك كله بالسلطان وهو بمعسكره من حصار
تلمسان، فاستشاط لها غيظا وحمي أنفه نفرة، واستنفره الصريخ، فبعث ابنه
الأمير أبا سالم لسدّ تلك الفرجة، وجمع إليه العساكر وتقدّم إليه
باحتشاد قبائل الريف وبلاد تازى، فأغذّ السير إليها وأحاطت عساكره بها،
فحاصرها مدّة. ثم بيته عثمان بن أبي العلاء فاختلّ معسكره، وأفرج عنها
منهزما، فسخطه السلطان وذوى عنه وجه رضاه، وسار عثمان بن أبي العلاء في
نواحي سبتة، وبلاد غمارة، وتغلّب على تكيساس، وانتهى إلى قصر ابن عبد
الكريم في آخر سنة ست وسبعمائة لسنة من استيلائهم على سبتة، مقيما رسم
السلطان مناديا بالدعاء لنفسه، فاعتزم السلطان على النهوض إليه من أمر
تلمسان، لما كانت على شفا هلكة ومحا بينة انفضاض، لولا عوائق الأقدار
بمهلكه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض بني كمي من بني عبد الواد
وخروجهم بأرض السوس)
كان هؤلاء الرهط من بني عبد الواد من بطون بني علي من شعب أبي القاسم،
(7/303)
وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كندوز بن [1]
بن كمي ولما استقل زيان برياسة أولاد علي بن ثابت بن محمد من أولاد طاع
الله، ونفس عليه كنذوز هذا ما آتاه الله من الرئاسة، وجاذبه حبلها،
واحتقر زيّان شأنه فلم يحفل به. ثم تأشب عليه أخلاط من قومه وواضعه
الحرب [2] . وهلك زيّان بيد كندوز، وقام بأمر أولاد علي جابر بن يوسف
بن محمد. ثم تناقلت الرئاسة فيهم إلى أن عادت لولد ثابت بن محمد،
واستقل بها أبو عزة زكراز [3] بن زيّان ولم تطل أيامه. والتحم بين
أولاد كمي وبين أولاد طاع الله، وتناسوا الإحن، وصارت رياسة طاع الله
لولد يغمراسن بن زيّان، واستتبعوا قبائل عبد الواد كافة، واعتمل
يغمراسن في الثأر بأبيه زيّان من قاتله كندوز، فاغتاله ببيته، دعاه
لمأدبة جميع لها بني أبيه، حتى إذا اطمأنّ المجلس تعاوروه بأسيافهم
واحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى أمّهم، فنصبت عليه القدر ثالث أثافيها
تشفّيا منه وحفيظة. وطالب يغمراسن بقيّة بني كندوز ففرّوا أمام
مطالبته، وأبعدوا المذهب ولحقوا بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن
أبي حفص، فأقاموا بسدّته أحوالا، وكانوا يرجعون في رياستهم لعبد الله
بن كندوز، ثم تذكروا عهد البداوة وحنّوا إلى عشير زناتة، فراجعوا
المغرب ولحقوا ببني مرين أقتالهم. ونزل عبد الله بن كندوز على يعقوب بن
عبد الحق خير نزل، فلقاه من البرّ والترحيب بما ملأ صدره وأكد اغتباطه،
وأقطعه بناحية مراكش الكفاية له ولقومه، وأنزلهم هنالك. وجعل انتجاع
إبله وراحلته لحسّان بن أبي سعيد الصبيحي وأخيه موسى من ذويهم
وحاشيتهم، وألطف منزلة عبد الله ورفع مكانه بمجلسه، واكتفى به في كثير
من أموره، وأوفده على المستنصر صاحب إفريقية سنة خمس وستين وستمائة مع
عامر ابن أخيه إدريس كما قدّمناه. واستقرّ بنو كندوز هؤلاء بالمغرب
الأقصى، واستمرّت الأيام على ذلك، وصاروا من جملة قبائل بني مرين وفي
عدادهم.
وهلك عبد الله بن كندوز وصارت رياستهم لعمر ابنه من بعده.
ولما لفت السلطان يوسف بن يعقوب عزائمه إلى بني عبد الواد ونازل
تلمسان، وطاول حصارها، واستطال بنو مرين وذووهم على بني عبد الواد،
وأحسّوا بهم أخذتهم
__________
[1] بياض بالأصل ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا اي ذكر لوالد
كندوز هذا.
[2] وفي نسخة ثانية: ناشب عليه اخلاط من قومهم، وواضعهم الحرب.
[3] وفي نسخة ثانية: زكدان.
(7/304)
العزّة بالإثم، وأدركتهم النعرة، فأجمع بنو
كندوز هؤلاء الخلاف والخروج على السلطان ولحقوا بحاجة سنة ثلاث
وسبعمائة. واحتفل الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب لغزوهم سنة أربع
وسبعمائة، فناجزوه الحرب بتادرت، واستمروا على خلافهم. ثم قاتلهم يعيش
وعساكره ثانية بتامطريت سنة أربع وسبعمائة فهزمهم الهزيمة الكبرى التي
قصّت جناحهم وأوهت من رياستهم [1] . وقتل جماعة من بني عبد الواد
بأزعار وتاكما [2] ، وأثخن يعيش بن يعقوب في بلاد السوس، وهدم تارودانت
قاعدة أرضها وأمّ قراها، كان بها عبد الرحمن بن الحسن بن يدّر من بقية
الأمراء على السوس من قبل بني عبد المؤمن، وقد مرّ ذكرهم. وكانت بينه
وبين عرب المعقل من الشبانات وبني حسّان منذ انقرضت دولة الموحّدين حرب
سجال هلك في بعضها عمه عليّ بن يدّر سنة ثمان وستين وستمائة وصارت
إمارته بعد حين إلى عبد الرحمن هذا، ولم يزالوا في حربه إلى أن تملّك
السوس يعيش بن يعقوب، وهدم تارودانت قاعدة أرضها. ثم راجع عبد الرحمن
أمره وبنى بلده تارودانت هذه سنة ست بعدها. ويزعم بنو يدر هؤلاء أنهم
مستقرّون بذلك القصر من لدن عهد الطوالع من العرب، وأنهم لم يزالوا
أمراء به تعقد لهم ولايته كابرا عن كابر، ولقد أدركت على عهد السلطان
أبي عنّان وأخيه أبي سالم من بعده شيخا كبيرا من ولد عبد الرحمن،
فحدّثني بمثل ذلك، وأنهم من ولد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، والله
أعلم. ولم يزل بنو كندوز مشرّدين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان،
وراجعوا طاعة الملوك من بني مرين من بعده وعفوا لهم عما سلف من هذه
الجريمة، وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة
إلى هذا العهد كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن مهلك المشيخة من المصامدة بتلبيس
أبي الملياني)
قد ذكرنا شأن أبي علي الملياني وأوليته في أخبار مغراوة الثانية، وما
كان من ثورته
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأوهنت بأسهم
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: بارعارن بامكا.
(7/305)
بمليانة وانتزائه عليها. ثم إزعاج العسكر
إيّاه منها ولحاقه بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وما أحلّه من
مراتب التكرمة والمبرّة. وأقطعه بلد أغمات طعمة، فاستقرّ بها، وما كان
منه في العبث بأشلاء الموحّدين ونبش أجداثهم، وموجدة السلطان والناس
عليه لذلك. وأرصد له المصامدة الغوائل لما كان منه في ذلك، ولمّا هلك
يعقوب بن عبد الحق استعمله يوسف بن يعقوب على جباية المصامدة، فلم
يضطلع بها وسعى به مشيختهم عند السلطان أنه احتجز المال لنفسه، وحاسبوه
فصدقوه السعاية، فاعتقله السلطان وأقصاه، وهلك سنة ست وثمانين وستمائة
واصطنع السلطان أحمد ابن أخيه واستعمله في كتابته، وأقام على ذلك ببابه
وفي جملته.
وكان السلطان سخط على مشيخة المصامدة عليّ بن محمد كبير هنتاتة، وعبد
الكريم بن عيسى كبير كدميوة، وأوعز إلى ابنه الأمير علي بمراكش
باعتقالهما، فاعتقلهما فيمن لهما من الولد والجاشية. وأحسن بذلك أحمد
بن الملياني فاستعجل الثأر. وكانت العلامة السلطانية على الكتاب في
الدولة لم تختص بكاتب واحد، بل كل منهم يضع العلامة بخطّه على كتابه
إذا أكمله، لما كانوا كلّهم ثقاتا أمناء، وكانوا عند السلطان كأسنان
المشط. فكتب أحمد بن الملياني إلى ابن السلطان الأمير بمراكش سنة سبع
وتسعين وستمائة كتابا عن أمر أبيه، يأمره فيه بقتل مشيخة المصامدة ولا
يمهلهم طرفة عين. ووضع عليها العلامة التي تنفّذ بها الأوامر، وختم
الكتاب. وبعث به مع البريد ونجا بنفسه إلى البلد الجديد. وعجب الناس
بشأنه. ولما وصل الكتاب إلى ابن السلطان بمراكش أخرج أولئك الرهط
المعتقلين من المصامدة إلى مصارعهم، وقتل علي بن محمد وولده، وعبد
الكريم بن عيسى وولده عيسى، وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز. وطيّر
الأمير وزيره إلى أبيه بالخبر فقتله لحينه حنقا عليه، وأنفذ البريد
باعتقال ابنه، وجرّد على ابن الملياني ففقد ولحق بتلمسان.
ونزل على آل زيّان. ثم لحق من بعدها بالأندلس عند إفراج السلطان عنها
في تلك السنة كما ذكرناه. وبها هلك. واقتصر السلطان من يومئذ في علامته
على من يختاره من صنائعه ويثق بأمانته. وجعلها لذلك العهد لعبد الله بن
أبي مدين خالصته المضطلع بأمور مملكته، فاختصّت من بعده لهذا العهد،
والله تعالى أعلم
.
(7/306)
(الخبر عن رياسة
اليهود بني رقاصة ومقتلهم)
كان السلطان يعقوب [1] في صباه مؤثرا للذاته ومستترا بها عن أبيه يعقوب
بن عبد الحق لمكانه من الدين والوقار. وكان يشرب الخمر ويعاقر بها
الندمان. وكان خليفة بن رقاصة من اليهود المعاهدين بفاس قهرمانا لداره
على عادة الأمراء في مثله من المعاهدين، فكان يزدلف إليه بوجوه الخدم
ومذاهبها، فاستعمله هذا الأمير في اعتصارها والقيام على شئونها، فكانت
له بذلك خلوة منه أوجبت له الحظّ عنده، حتى إذا هلك يعقوب بن عبد الحق
واستقلّ ابنه يوسف بأعباء ملكه، واتصلت خلواته في معاقرة الندمان،
وانفرد ابن وقاصة بخلوته ذلك مع ما كان من القهرمة، عظمت رياسته وعلا
كعبه في الدولة. وتلقى الخاصة الأوامر منه، فصار له الوجه بينهم وعظم
قدره بعظم الدولة.
(أخبرني) شيخي الأبلّي قال: وكان لخليفة هذا أخ يسمى إبراهيم، وابن عم
يسمى خليفة، لقّبوه بالصغيرة لمكانه هو من هذا الاسم. وكان له صهر
يعرفون ببني السبتي، كبيرهم موسى، وكان رديفه في قهرمته، فلم يفق
السلطان من نشوة صباه وملهاه حتى وجدهم على حال استتبعوا فيها العلية
من القبيل والوزراء والشرفاء والعلماء. وأوجده السبيل عليهم، فسطا بهم
سطوة واحدة واعتقلوا في شعبان من سنة إحدى وسبعمائة بمعسكره من حصار
تلمسان. وقتل خليفة الكبير وأخوه إبراهيم وموسى بن السبتي وإخوته بعد
أن امتحنوا ومثّل بهم، وأتت النكبة على حاشيتهم وذويهم وأقاربهم، فلم
تبق منهم باقية. واستبقى منهم خليفة الأصغر احتقارا لشأنه، حتى كان من
قتله بعد ما نذكر، وعبث بسائرهم، وطهّرت الدولة من رجسهم، وأزيل منها
معرّة رياستهم، والأمور بيد الله سبحانه.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي يعقوب)
كان في جملة السلطان وحاشيته مولى من العبيد الخصيان من موالي ابن
الملياني يسمى
__________
[1] حسب مقتضى السياق السلطان يوسف.
(7/307)
سعادة، صار إلى السلطان من لدن استعماله
إيّاه بمراكش، وكان على ثبج من الجهل والغباوة. بمكان، وكان السلطان
يخلط الخصيان بأهله ويكشف لهم الحجاب عن ذوات محارمه، ولما كانت واقعة
العزّ مولاه، واتهم بمداخلة بعض الحرم، وقتل بالظنّة، واستراب السلطان
بكثير من حاشيته الملابسين لداره، اعتقل جملة من الخصيان كان فيهم عنبر
الكبير عريفهم. وحجب سائرهم فارتاعوا لذلك وسوّلت لهذا الخصيّ الخبيث
نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان، فعمد إليه وهو في بعض الحجر من قصره،
وآذنه فأذن له فألفاه مستلقيا على فراشه مختضبا بالحنّاء، فوثب عليه
وطعنه طعنات قطع بها أمعاءه وخرج هاربا. وانطلق بعض الأولياء في أثره،
فأدرك من العشيّ بناحية تاسالة فتقبّض عليه، وسيق إلى القصر فقتله
العبيد والحاشية. وصابر السلطان ميتته إلى آخر النهار، ثم قضى رحمه
الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست وسبعمائة وقبر هنالك. ثم
نقل بعد ما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة، فدفن بها مع سلفه والبقاء
للَّه وحده.
(الخبر عن ولاية السلطان أبي ثابت)
واستلحامه المرشحين وما تخلل ذلك من الاحداث
كان الأمير أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب وولي عهده لما هلك طريدا
ببلاد بني سعيد بغمارة والريف سنة ثمان وتسعين وستمائة كما ذكرنا، خلّف
ولديه عامرا وسليمان في كفالة السلطان جدّهما، فكان لهما بعينه حلاوة
وفي قلبه لوطة، لمكان حبه لأبيهما واغترابه عنه، فحدب عليهما وآثرهما
من نفسه بمكان. وكان الأمير أبو ثابت عامر أصغر قومه، إقداما وشجاعة
وجراءة، وكانت له في بني ورتاجن خؤلة. فلحين مهلك السلطان عرضوا له
ودعوه للبيعة فبايعوه، وحضر لها الأمير أبو يحيى بن يعقوب عمّ أبيه، عز
بمجتمعهم [1] اتفاقا، وحملوه على الطاعة، وكان أقرب للأمر منه لو حضره
رجال، فأعطى القياد في المساعدة، وطوى على النث. وبادر الحاشية
والوزراء بالبلد الجديد عند مهلك السلطان، فبايعوا ابنه الأمير أبا
سالم. وكاد أمر بني
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عثر بمجمعهم.
(7/308)
مرين أن يفترق وكلمتهم أن تفسد، فبعث
الأمير أبو ثابت لحينه إلى تلمسان للأمير أبي زيان وأبي حمو ابني عثمان
بن يغمراسن. وعقد لهما حلفا على الإفراج عنهم. ثم أمره أن يمدّه بالآلة
ويرفعا له كسر البيت إن كان غير ما أمل. وحضر للعقد أبو حمو فأحكمه
ومال أكثر بني مرين وأهل الحل والعقد إلى الأمير أبي ثابت. وتفرّد
ببيعة أبي سالم البطانة والوزراء والحاشية والأجناد ومن إليهم، وكان
بالبلد الجديد مسكنه، وأشاروا عليه بالمناجزة فخرج وقد عبّى كتائبه،
فوقف وتهيّب [1] وخام عن اللقاء ووعدهم الإقدام بالغداة، وكرّ راجعا
إلى قصره، فيئسوا منه، وتسلّلوا إذا إلى الأمير أبي ثابت، وهو بمرقب من
الجبل مطل عليهم حتى إذا انحجر أبو سالم بالبلد، انحاش إليه الجملة
دفعة واحدة. فلما استوفت القبائل والعساكر لديه، زحف إلى البلد الجديد
مثوى السلطان وسياج قصوره ومختط عزمه، وانتهى إلى ساحتها مغتنما
الفرصة. وخرج إليه أبو زيد [2] يخلف بن عمران الفودودي، فأرجل عن فرسه
بأمر أبي يحيى، وقتل بين يديه قعصا بالرماح. وكان قريب عهد بالوزارة،
استوزره السلطان قبيل مهلكه في شعبان من سنة ست وسبعمائة.
وفرّ أبو سالم إلى جهة المغرب وصحبه من عشيرة من أولاد رحّو بن عبد
الله بن عبد الحق العبّاسي وعيسى وعلي ابنا رحّو وابن أخيهم جمال الدين
بن موسى. وأتبعهم الأمير أبو ثابت شرذمة من عسكره أدركوهم بندرومة،
فتقبّضوا عليهم ونفذ أمر السلطان بقتل أبي سالم وجمال الدين، واستبقى
الآخرين. وأمر بإحراق باب البلد ليفتحها العسكر، فأطلّ عليهم قهرمان
دارهم عبد الله بن أبي مدين الكاتب، وأخبره بفرار أبي سالم، وباتفاق
الناس على طاعته. ورغب إليه في المسالمة ليلتهم حتى ينفجر الصباح خشية
على دارهم من معرّة العساكر وهجومها ففعل. وأمره الأمير أبو يحيى
باعتقال أبي الحجّاج بن اشقيلولة، فاعتقله لقديم من العداوة كانت
بينهما، ثم أمر بقتله، وإنفاذ رأسه فقتل. وأمر السلطان ليلتئذ بإضرام
النيران حتى إذا أضاء الظلام وبات راكبا، ودخل القصر لصبحه فوارى جده
بعد أن صلّى عليه.
وغصّ بمكان الأمير أبي يحيى لما تعدّد فيه الترشيح وفاوض في شأنه كبير
القرابة يومئذ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وبهت.
[2] وفي نسخة ثانية: الوزير.
(7/309)
عبد الحق بن عثمان ابن الأمير أبي يفرن [1]
، محمد بن عبد الحق ومن حضره من الوزراء مثل إبراهيم بن عبد الجليل
الونكاسي وإبراهيم بن عيسى اليرنياني وغيرهما من الخاصة، فأشاروا
بقتله، ونميت عنه كلمات في معنى التربّص بالسلطان ودولته، وابتغاء
العصابة لأمره. وركب الأمير أبو يحيى إلى القصر ثالث البيعة، فأخذ
السلطان بيده ودخل معه إلى الحرم لعزائهنّ عن أخيه السلطان. ثم خرج على
الخاصّة وتخلّف عنه السلطان وقد دسّ إلى عبد الحق بن عثمان أن يتقبّض
عليه ففعل. ثم برز السلطان إليهم وهو موثق فأمر بالإجهاز عليه، ولم
يمهله، وألحق به يومئذ وزيره عيسى بن موسى الفودودي، وفشا الخبر بمهلك
هؤلاء الرهط، فرهب منه القرابة، وفرّ يعيش بن يعقوب أخو السلطان وابنه
عثمان المعروف بأمّه قضينت [2] ومسعود بن الأمير أبي مالك، والعبّاس بن
رحو بن عبد الله بن عبد الحق ولحقوا جميعا بعثمان بن أبي العلاء بمكانه
من غمارة، وخلا الجو من المرشحين، واستبدّ السلطان بملك قومه، وأمن
غوائل المنازعين.
ولما تمّ له الأمر واستوسق أمر الملك، وفّى لبني عثمان بن يغمراسن
بالإفراج عنهم، ونزل لهم عن جميع البلاد التي صارت إلى طاعته من بلاد
المغرب الأوسط من أعمالهم، وأعمال بني توجين ومغراوة. ودعاه إلى بدار
المغرب، ما كان من اختلال عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق
بسبتة، ودعائه لنفسه بين يدي مهلك السلطان، وخروجه إلى بلاد غمارة،
واستيلائه على قصر كتامة، فاعتزم على الرحلة إلى المغرب وفوّض الأمر في
الرحلة بأهل المدينة الجديدة للوزير إبراهيم بن عبد السلام لما كانت
حينئذ غاصّة بالساكن مستبحرة في الاعتمار، ممتلئة من الخرثيّ [3]
والآلة، فأحسن السياسة في أمرهم وضرب لهم الآجال والمواعيد إلى أن
استوقوا الرحلة، وتركوها قواء، خرّبها بنو عثمان بن يغمراسن عند رحلة
بني مرين إلى المغرب، وتحيّنوا لذلك فترات الفتن، فطمسوا معالمها طمسا
ونسفوها نسفا. وقدّم السلطان بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد
الحق انعجون [4] في العساكر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أبي معرّف.
[2] وفي نسخة ثانية: قضيب.
[3] وفي نسخة بولاق المصرية: من الخزائن.
[4] وفي نسخة بولاق المصرية: اتعجوب.
(7/310)
والجنود، وعقد له على حرب ابن أبي العلاء.
وتلوّم بالبلد الجديد لموافاة المسالح التي كانت بثغور المشرق، ولما
نزل عنها جميعا لبني عثمان بن يغمراسن ارتحل غرّة ذي الحجة، ودخل فاس
فاتح سبع وسبعمائة والله أعلم.
(الخبر عن انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش وتغلّب السلطان عليه)
لما فصل أبو ثابت عن معسكرهم بتلمسان إلى المغرب، قدّم بين يديه من
قرابته الحسن بن عامر بن عبد الحق انعجون ابن السلطان أبي يوسف في
العساكر والجنود، وعقد له على حرب عثمان بن أبي العلاء كما ذكرناه.
وعقد على بلاد مراكش ونواحيها لابن عمه الآخر يوسف بن محمد بن أبي
عيّاد بن عبد الحق، وعهد له بالنظر في أحوالها، فسار إليها واحتل بها.
ثم حدّثته نفسه بالانتزاء، فقتل الوالي بمراكش، واستركب واستلحق، واتخذ
الآلة، وجاهر بالخلعان. وتقبّض على والي البلد فقتله بالسوط في جمادى
سنة سبع وسبعمائة، ودعا لنفسه. واتصل الخبر بالسلطان لأوّل قدومه،
فسرّح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود الجشميّ، ويعقوب بن أصناك، في
خمسة آلاف من عساكره، ودفعهم إلى حربه. وخرج في أثرهم بكتائبه. وبرز
يوسف بن أبي عيّاد، وأجازوا أم الربيع فانهزم أمام الوزير وعساكره
واتبعه الوزير ففرّ إلى أغمات. ثم فرّ إلى جبال هسكورة، ولحق به موسى
بن سعيد الصبيحي من أغمات، تدلّى من سورها، ودخل الوزير يوسف إلى
مراكش.
ثم خرج إثره ولحقه، فكانت بينهما جولة، وقتل منهم خلق، ولحق بهسكورة.
ودخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع وسبعمائة وأمر بقتل
أوربة المداخلة كانوا له في انتزائه فاستلحموا. ولما لحق يوسف بن أبي
عياد بجبال هسكورة، ونزل على مخلوف بن عبّو، وتذمّم بجواره، فلم يجره
على السلطان.
وتقبّض عليه، واقتاده إلى مراكش مع ثمانية من أصحابه تولوا كبر ذلك
الأمر، فقتلوا في مصرع واحد بعد أن مثّل بهم السلطان بالسياط. وبعث
برأس يوسف إلى فاس، فنصب بسورها وأثخن القتل فيمن سواهم ممن داخله في
الانتزاء، فاستلحم منهم أمم بمراكش وأغمات. وسخط خلال ذلك وزيره
إبراهيم بن عبد الجليل
(7/311)
فاعتقله واعتقل عشيرة من بني دولين ومن بني
ونكاسن، وقتل الحسن بن دولين منهم، ثم عفا عنهم. وخرج منتصف شعبان إلى
منازلة السكسيوي وتدويخ جهات مراكش، فتلقّاه السكسيوي بطاعته المعروفة.
وأسنى الهديّة فتقبّل طاعته وخدمته.
ثم سرّح قائده يعقوب بن آصناد في اتباع زكنة حتى توغّل في بلاد السوس
ففرّوا أمامه إلى الرمال. وانقطع أثرهم ورجع إلى معسكر السلطان. وانكفأ
السلطان بعساكره إلى مراكش، فاحتل بها غرّة رمضان. ثم قفل إلى فاس بعد
أن قتل جماعة من شيوخ بني ورا. وجعل طريقه في بلاد صنهاجة، وسار في
بلاد تامسنا، وتلقّاه عرب جشم من قبائل الخلط وسفيان وبني جابر
والعاصم، فاستصحبهم إلى آنفى وتقبّض على ستين من أشياخهم، فاستلحم منهم
عشرين ممن نمي عنهم إفساد السابلة. ودخل رباط الفتح أخريات رمضان فقتل
هنالك من الأعراب أمّة ممن يؤثر عنه الحرابة. ثم ارتحل منتصف شوّال
الغز ورياح أهل آزغار والهبط. واثار بالإحن القديمة، فأثخن فيهم بالقتل
والسبي وقفل إلى فاس، فاحتلّ بها منتصف ذي القعدة. وفجأه الخبر بهزيمة
عبد الحق بن عثمان، واستلحام الروم من عساكره، ومهلك عبد الواحد
الفودودي من رجالات دولته. وأن عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمره
بجهات غمارة، فأجمع لغزوه، والله أعلم
(الخبر عن غزاة السلطان لمدافعة عثمان بن
أبي العلاء ببلاد الهبط ومهلكه بطنجة بعد ظهوره)
لما ملك الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر سبتة سنة خمس
وسبعمائة، وأقام بها الدعوة لابن عمّه المخلوع محمد بن محمد الفقيه ابن
محمد الشيخ ابن يوسف بن نصر كما ذكرناه، وأجاز معه رئيس الغزاة
المجاهدين بمحل إمارته من مالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله
بن عبد الحق من أعياص هذا البيت، كان مرشّحا للملك فيهم. واستقدمه معه
ليفرّق به الكلمة في المغرب بفتنة الدولة مدافعة عن سبتة لما كان هاج
السلطان قومه فأخذها [1] واستقام ملكها. وطمع
__________
[1] وفي نسخة بولاق المصرية: لما كانوا اهاجوا السلطان وقدمه بأخذها.
(7/312)
عثمان في ملك المغرب بامدادهم ومظاهرتهم،
وسوّلت له نفسه ذلك، فخرج من سبتة وولّى على جيش الغزاة بعده عمر ابن
عمّه رحّو بن عبد الله. ونجم هو ببلاد غمارة، فدعا لنفسه وإجابته
القبائل منهم. واحتلّ بحصن علودان من أمنع معاقلهم، وبايعوه على الموت.
ثم نهض إلى أصيلا والعريش فغلب عليها. واتصل ذلك كلّه بالسلطان الهالك
أبي يعقوب فلم يحركه استهانة بأمرهم. وبعث ابنه أبا سالم بالعساكر،
فنازل سبتة أياما. ثم أقلع عنها. وبعث بعده أخاه يعيش بن يعقوب وأنزله
طنجة، وجمّر معه الكتائب وجعلها ثغرا. وزحف إليه عثمان بن أبي العلاء
فتأخّر عن طنجة إلى القصر. ثم اتبعه فخرج إليه أهل القصر فرسانا ورجالا
ورماة مع يعيش، فوصلوا إلى وادي وراء، ثم انهزموا إلى البلد. ومات عمر
بن ياسين، ونزل عثمان عليهم القصر يوما، ثم دخله من غده. ثم كان مهلك
السلطان، وفرّ يعيش بن يعقوب خيفة من أبي ثابت، فلحق بعثمان بن أبي
العلاء واستقام أمره بتلك الجهات برهة. وكان السلطان أبو ثابت لمّا
احتل بالمغرب شغله ما كان من انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش كما
قدّمناه، فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء مكان عمّه يعيش بن يعقوب
لعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من رجال بيته، فزحف إليه. ونهض
عثمان إلى لقائه منتصف ذي الحجّة سنة سبع وسبعمائة فهزمه واستلحم من
كان معه من جند الروم. وهلك في تلك الوقعة عبد الواحد الفودودي من
رجالات السلطان المرشّحين ردفاء الوزارة. وسار عثمان إلى قصر كتامة
فنزله، واستولى على جهاته. وعلى تفيئة ذلك كان رجوع السلطان من غزاة
مراكش وقد حسم الداء ومحا أثر النفاق، فاعتزم على الحركة إلى بلاد
غمارة يمحو منها أثر دعوة ابن أبي العلاء التي كادت تلج عليه ممالكه
بالمغرب، ويردّه على عقبه ويستخلص سبتة من يد ابن الأحمر لما صارت
ركابا لمن يروم الانتزاء والخروج من القرابة والأعياص المستنفرين وراء
البحر غزاة في سبيل الله، فنهض من فاس منتصف ذي الحجة من سنة سبع
وسبعمائة ولما انتهى إلى قصر كتامة تلوم به ثلاثا حتى توافت عساكره
وحشوده، وكمل اعتراضها وفرّ عثمان بن أبي العلاء أمامه، وارتحل السلطان
في اتباعه فنازل حصن علودان واقتحمه عنوة. واستلحم به زهاء أربعمائة.
ثم نازل بلد الدمنة، واقتحمها وأثخن فيها قتلا وسبيا لتمسّكهم بطاعة
ابن أبي العلاء ومظاهرتهم له. ثم كبس القصر واستباحة. ثم ارتحل إلى
طنجة واحتلّ بها غرّة ثمان
(7/313)
وسبعمائة وانحجر ابن أبي العلاء بسبتة مع
أوليائه وسرّح السلطان عساكره، فتفرّقت نواحي سبتة بالاكتساح والغارة.
وأمر باختطاط بلد تيطاوين لنزول معسكره والأخذ بمخنق سبتة. وأوفد كبير
الفقهاء بمجلسه أبا يحيى بن أبي الصبر إليهم في شأن النزول عن البلد.
وفي خلال ذلك اعتلّ السلطان فمرض وقضى أياما قلائل وهلك في ثامن صفر من
سنته، ودفن بظاهر طنجة. ثم حمل شلوه بعد أيام إلى مدفن آبائه بشالة
فووري هنالك. رحمة الله عليه وعليهم.
(الخبر عن دولة السلطان أبي الربيع وما كان
فيها من الاحداث)
لما ملك السلطان أبو ثابت تصدّى للقيام بالأمر عمّه علي ابن السلطان
أبي يعقوب المعروف بأمّه رزيكة، وخلص الملأ من بني مرين أهل الحلّ
والعقد إلى أخيه أبي الربيع فبايعوه. وتقبّض على عمه عليّ بن رزيكة
المستام للإمرة، فاعتقله بطنجة إلى أن هلك بها سنة عشر وسبعمائة
لجمادى. وبثّ العطاء في الناس وأجزل وارتحل نحو فاس. واتبعه عثمان بن
أبي العلاء في جيش كثيف، وبيّته وقد نذر به العسكر فأيقظوا ليلتهم
ووافاهم على الظهر بساحة علودان، فناجزهم الحرب. وكانت الدائرة على
عثمان وقومه. وتقبّض على ولده وكثير من عساكره. وأثخن أولياء السلطان
فيهم بالقتل والسبي، وكان الظهور الّذي لا كفاء له. ووصل أبو يحيى بن
أبي الصبر إلى الأندلس، وقد أحكم عقدة الصلح. وقد كان ابن الأحمر جاء
للقاء السلطان أبي ثابت، ووصل إلى الجزيرة الخضراء فأدركه خبر مهلكه،
فتوقف عن الجواز، وأجاز ابن أبي الصبر بأحكام المؤاخاة. واجتاز عثمان
بن أبي العلاء إلى العدوة فيمن معه من القرابة. فلحق بغرناطة. وأغذّ
السلطان السير إلى حضرته، فدخل فاس آخر ربيع من سنة ثمان وسبعمائة
واستقامت الأمور وتمهّد الملك، وعقد السلم مع صاحب تلمسان موسى بن
عثمان بن يغمراسن، وأقام وادعا بحضرته. وكانت أيامه خير أيام، هدنة
وسكونا وترفا لأهل الدولة. وفي أيامه تغالى الناس في أثمان العقار،
فبلغت قيمتها فوق المعتاد. حتى لقد بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار
من الذهب العين.
وتنافس الناس في البناء فعالوا الصروح، واتخذوا القصور المشيّدة بالصخر
والرخام
(7/314)
وزخرفوها بالزليج والنقوش. وتناغوا في لبس
الحرير وركوب الفاره. وأكل الطيب واقتناء الحلي من الذهب والفضة.
واستبحر العمران، وظهرت الزينة والترف، والسلطان وادع بداره متملّى
أريكته إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
(الخبر عن مقتل عبد الله بن أبي مدين)
كان أبو شعيب بن مخلوف من بني أبي عثمان من قبائل كتامة المجاورين
للقصر الكبير، وكان منتحلا للدين ومشتهرا به. ولما أجلب بنو مرين على
المغرب وجالوا في بسائطه، وتغلّبوا على ضواحيه، صحب البرّ منهم البرّ
والفاجر من أهله مثله. وكان بنو عبد الحق قد تحيّزوا لأبي شعيب هذا
فيمن تحيّزوه للصحابة من أهل الدين، فكان إمام صلاتهم. وكان يعقوب بن
عبد الحق أشدّهم صحابة له، وأوفاهم به ذماما فاتصل به حبله، واتصلت [1]
صحابته، وعظم في الدولة قدره وانبسط بين الناس جاه ولده وأقاربه
وحاشيته. وربى بنو شعيب هذا عبد الله ومحمد المعروف بالحاج، وأبو
القاسم ومن بعدهم من إخوتهم بقصر كتامة في جو ذلك الجاه. وهلك السلطان
يعقوب بن عبد الحق فاستخلصهم يوسف بن عبد الحق لخدمته، واستعملهم على
مختصاته. ثم ترقى بهم في رتب خدمته وأخصّائه، درجة بعد أخرى إلى أن هلك
أبوهم أبو مدين شعيب سنة سبع وتسعين وستمائة وكان المقدّم منهم عند
السلطان عبد الله، فاربى [2] على ثنيات العزّ والوزارة والخلّة
والولاية. وتقدّم لحظوته في مجلسه كل حظوة، واختصه بوضع علامته على
الرسائل والأوامر الصادرة عنه، وجعل إليه حسبان الخراج والضرب على أيدي
العمّال، وتنفيذ الأوامر بالقبض والبسط فيهم. واستخلصه لمناجاة الخلوات
والإفضاء بذات الصدور، فوقف ببابه الإشراف من الخاصة والقبيل والقرابة
والولد، وسوّدوه وخطبوا نائله. وكان عبد الله قد استعمل مع ذلك أخاه
محمدا على جباية المصامدة بمراكش، وهنّأ أبا القاسم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: استمرت.
[2] وفي نسخة ثانية: فأوفى.
(7/315)
الدعة بفاس، فأقام بها متمليا راحته عريضا
جاهه، طاعما كاسيا، تتسرّب إليه أموال العمّال في سبيل الإتحاف، وتقف
ببابه صدور الركائب إلى أن هلك السلطان أبو يوسف. ويقال إنّ له خائنة
في دمه مع سعاية الملياني. ولما ولي من بعده أخوه أبو الربيع فتقبّل
فيه مذاهب سلفه. وكان بنو وقاصة اليهود حين نكبوا، باشر نكبتهم لمكانه
من إصدار الأوامر. ويزعمون أنّ له فيهم سعاية. وكان خليفة الأصغر منهم
قد استبقى كما ذكرناه، فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل
خليفة بداره في بعض المهن، وباشر [1] الخدم حتى اتصل بمباشرة السلطان،
فجعل غايته السعاية بعبد الله بن أبي مدين. وكان يؤثر عن السلطان أبي
الربيع بأنه لا تؤمن بوائقه مع حرم ذويه، وتعرف خليفة ذلك من مقالات
الناس، فدسّ إلى السلطان أنّ عبد الله بن أبي مدين يعرض باتهام السلطان
في ابنته، وأن صدره وغر بذلك، وأنه مترصد بالدولة. وكان يخشى العائلة
بما كان عليه من مداخلة القبيل، ولما كان داعيته من دواعي آل يعقوب،
فتعجّل السلطان دفع غائلته واستدعاه صبيحة زفاف ابنته، زعموا عن زوجها
فاستحثّه قائد الروم من داره بفاس. ونذر بالشر، فلم يغنه النذر، ومرّ
في طريقه إلى دار السلطان بمقبرة أبي يحيى بن العربيّ، فطعنه القائد
هنالك من ورائه طعنة أكبته على ذقنه. واحتزّ رأسه وألقاه بين يدي
السلطان.
ودخل الوزير سليمان بن يرزيكن فوجده بين يديه، فذهبت نفسه عليه وعلى
مكانه من الدولة حسرة وأسفا، وأيقظ السلطان لمكر اليهودي، فوقفه على
براءة كان ابن أبي مدين بعثها للسلطان معه بالتنصّل والحلف، فتيقّظ
وعلم مكر اليهودي به، فندم وفتك لحينه بخليفة بن وقاصة وذويه من اليهود
المتصدّين للخدمة، وسطا بهم سطوة الهلكة، فأصبحوا مثلا للآخرين، والله
أعلم.
(الخبر عن ثورة أهل سبتة بالأندلسيين
ومراجعتهم طاعة السلطان)
لما قفل السلطان أبو الربيع من غزاة سبتة بعد أن شرّد عثمان بن أبي
العلاء وأحجره
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولابس.
(7/316)
بسبتة، وأجاز منها إلى العدوة ومن كان معه
من القرابة كما قلناه، بلغه الخبر بضجر أهل سبتة، ومرض قلوبهم من ولاية
الأندلسيين وسوء ملكتهم. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد بمثل ذلك، فأغزى
صنيعته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخا وزيره في عساكر ضخمة من بني مرين.
وسائر الطبقات من الجند. وأوعز إليه بالتقدّم إلى سبتة ومنازلتها،
فأغذّ إليها السير ونزل بساحتها، ولما أحسّ به أهل البلد تمشت رجالاتهم
[1] وتنادوا بشعارهم، وثاروا على من كان بينهم من قوّاد ابن الأحمر
وعمّاله وأخرجوا منها حاميته وجنوده. واقتحمها العساكر واحتل بقصبتها
تاشفين بن يعقوب عاشر صفر من سنة تسع وسبعمائة. وطير الفوائق بالخبر
إلى السلطان فعمّ السرور وعظم شأن الفرح. وتقبّض على قائد القصبة أبي
زكريا يحيى بن مليلة، وعلى قائد البحر أبي الحسن بن كماشة، وعلى قائد
الحروب بها من الأعياص عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق. كان صاحب
الأندلس عقد له مكان ابن عمّه عثمان بن أبي العلاء عند إجازته البحر
إلى الجهاد كما ذكرناه. وكتب إلى السلطان بالفتح، وأوفد عليه الملأ من
مشيخة أهل سبتة وأهل الشورى. وبلغ الخبر إلى ابن الأحمر فارتاع لذلك
وخشي عادية السلطان، وجيوش المغرب حين انتهوا إلى الفرضة. وقد كان
الطاغية في تلك الأيام نازل الجزيرة الخضراء، وأقلع عنها على الصلح بعد
أن أذاقها من الحصار شدّة، وبعد أن نازل جبل الفتح، فتغلّب عليه وملكه.
وانهزم زعيم من زعمائه يعرف بألفنش بيرس، هزمه أبو يحيى بن عبد الله بن
أبي العلاء صاحب الجيش بمالقة، لقيه وهو يجوس خلال البلاد بعد تملّك
الجبل، فهزم النصارى وقتلوا أبرح قتل. وأهم المسلمين شأن الجبل فبادر
السلطان أبو الجيوش.
بإنفاذ رسله راغبين في السلم خاطبين للولاية. وتبرّع بالنزول عن
الجزيرة ورندة وحصونها، ترغيبا للسلطان في الجهاد، فتقبّل منه السلطان
وعقد له الصلح على ما رغب، وأصهر إليه في أخته، فأنكحه إياها. وبعث
بالمدد للجهاد، أموالا وخيولا وجنائب مع عثمان بن عيسى اليرنياني.
واتصلت بينهما الولاية إلى مهلك السلطان والبقاء للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بهشت. وتبهّش القوم: اجتمعوا (قاموس) .
(7/317)
(الخبر عن بيعة عبد
الحق بن عثمان بممالأة الوزير والمشيخة وظهور السلطان عليهم ثم مهلكه
باثر ذلك)
كانت رسل ابن الأحمر خلال هذه المهادنة والمكاتبات تختلف إلى باب
السلطان، ووصل منهم في بعض أحيانها خلف من مترفيهم، فجاهر بالكبائر،
فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر والإدمان عليه. وكان السلطان منذ شهر
جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة قد عزل القاضي بفاس أبا غالب المغيلي،
وعهد بأحكام القضاء لشيخ الفتيا المذكور بها أبي الحسن الملقّب
بالصغير. وكان على نهج [1] من تغيير المنكرات والتعسّف فيها، حتى لقد
كان مطاوعا في ذلك وسواس النسك الأعجمي، ومتجاوزا به الحدود المتعارفة
بين أهل الشريعة في سائر الأمصار. وأحضر عنده ذات يوم هذا الرسول ثملا،
وحضر العدول فاستروحوه، ثم أمضى حكم الله فيه، وأقام عليه الحدّ.
وأضرمته هذه الموجدة، فاضطرم غيظا وتعرّض للوزير رحّو بن يعقوب الوطاسي
منصرفه من دار السلطان في موكبه، وكشف عن ظهر يريه السياط وينعي عليهم
سوء هذا المرتكب مع الرسل. فتبرّم لذلك الوزير وأدركته الحفيظة، وسرّح
وزعته [2] وحشمه في إحضار القاضي على أسوإ الحالات من التنكيل والتلّ
لذقنه، فمضوا لتلك الوجهة، واعتصم القاضي بالمسجد الجامع، ونادى
المسلمين، فثارت العامّة فيهم، ومرج أمر الناس. واتصل الخبر بالسلطان
فتلافاه بالبعث في أولئك النفر من وزعة الوزير، وضرب أعناقهم، وجعلهم
عظة لمن وراءهم، فأسرّها الوزير في نفسه، وداخل الحسن بن عليّ بن أبي
الطلاق من بني عسكر بن محمد شيخ بني مرين، والمسلم له في شوارهم. وقائد
الروم غنصالة المنفرد برياسة العسكر وشوكته، وكان لهم بالوزير اختصاص
آثروه له على سلطانه، فدعا لهم لبيعة [3] عبد الحق بن عثمان بن محمد بن
عبد الحق كبير القرابة وأسد الأعياص، وخلع طاعة السلطان فأجابوه
وبايعوا له، وتمّ أمرهم نجيّا. ثم خرج عاشر جمادى من سنة عشر
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ثبج.
[2] الوزعة: ج وازع وهو الّذي يدير أمر الجيوش (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: فدعاهم إلى بيعة.
(7/318)
وسبعمائة إلى ظاهر البلد الجديد بمكان
الرمكة، وجاهروا بالخلعان وأقاموا الآلة وبايعوا سلطانهم عبد الحق على
عيون الملأ. وعسكروا بالعدوة القصوى من سبّو تخم بلاد العسكر، وإزاء
نبدورة من معاقل الحسن بن علي زعيم تلك الثورة. ثم ارتحلوا من الغد إلى
تازى وخرج السلطان في أثرهم فعسكر بسبّو وتلوّم لاعتراض العساكر،
وإزاحة العلل، واحتل القوم برباط تازي، وأوفدوا على موسى بن عثمان بن
يغمراسن سلطان بني عبد الواد يدعونه إلى المظاهرة واتصال اليد، والمدد
بالعساكر والأموال جنوحا إلى التي هي آثر لديه من تفريق كلمة عدوّه،
فتثاقل عن ذلك لمكان السلم الّذي عقد له السلطان مذ أوّل الدولة،
وليستبين سبيل القوم. وقدّم السلطان بين يديه يوسف بن عيسى الجشميّ،
وعمر بن موسى الفودودي في جموع كتيبة من بني مرين. وسار في ساقتهم،
فانكشف القوم عن تازى ولحقوا بتلمسان صرخا.
وحمد السلطان مغبّة تثاقله عن نصرهم ووجد بها الحجة عليهم، إذ غاية
مظاهرته إياهم أن يملّكهم تازى، وقد انكشفوا عنها فيئسوا من صريخه.
وأجاز عبد الحق بن عثمان ورحّو بن يعقوب إلى الأندلس، فأقام رحّو بها
إلى أن قتله أولاد ابن أبي العلاء، ورجع الحسن بن علي إلى مكانه من
قبيله ومحلّه من مجلس السلطان بعد أن اقتضى عهده بالأمان على ذلك. ولما
احتلّ السلطان بتازى حسم الداء ومحا أثر الشقاق، وأثخن في حاشية
الخوارج وذويهم بالقتل والسبي. ثم اعتلّ أثناء ذلك وهلك لليال من
اعتلاله سلخ جمادى الأخيرة من سنة عشر وسبعمائة ووري بصحن الجامع
الأعظم من تازى، وبويع السلطان أبو سعيد، كما نذكره إن شاء الله.
(الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد وما كان
فيها من الأحداث)
لما هلك السلطان أبو الربيع بتازى تطاول للأمر عمّه عثمان ابن السلطان
أبي يعقوب المعروف بأمّه قضنيت [1] . واستام المنصب وأسدى في ذلك
وألحم. وحضر الوزراء والمشيخة بالقصر بعد هدء من الليل، وأثاروا شيخ
القرابة يومئذ وكبير الأعياص
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: قضيب.
(7/319)
المرشحين، وسرّبت إليهم الأموال. وجاءهم
عثمان ابن السلطان أبي يعقوب مستاما، فزجروه واستدعوا السلطان أبا
سعيد، فحضر وبايعوه ليلتئذ وأنفذ كتبه إلى النواحي والجهات باقتضاء
البيعة. وسرّح ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن إلى فاس، فدخلها غرّة رجب
من سنة عشر وسبعمائة. ودخل القصر واطلع على أمواله وذخيرته، وفي غد
ليلته أخذت البيعة للسلطان بظاهر تازي على بني مرين، وسائر زناتة
والعرب والقبائل والعساكر والحاشية والموالي والصنائع والعلماء
والصلحاء ونقباء الناس وعرفائهم والخاصة والدهماء. فقام بالأمر واستوسق
له الملك. وفرّق الأعطيات وأسنى الجوائز، وتفقّد الدواوين ورفع
الظلامات، وحطّ المغارم والمكوس. وسرّح أهل السجون، ورفع عن أهل فاس
وظيفة الرباع [1] وارتحل لعشرين من رجب إلى حضرته، فاحتلّ بفاس. وقدم
عليه وفود التهنئة من جميع بلاد المغرب. ثم خرج لذي القعدة بعدها إلى
رباط الفتح لتفقّد الأحوال والنظر في أحوال الرعايا، واهتمّ بالجهاد،
وأنشأ الأساطيل للغزو في سبيل الله. ولما قضى منسك الأضحى بعده، رجع
إلى حضرته بفاس. ثم عقد سنة إحدى عشرة وسبعمائة لأخيه الأمير أبي
البقاء يعيش على ثغور الأندلس: الجزيرة ورندة وما إليها من الحصون. ثم
نهض من الحصون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة إلى مراكش لما كان بها من اختلال
الأحوال، وخروج عدي بن هنّو الهسكوري، ونقضه للطاعة، فنازله وحاصره
مدّة، واقتحم حصنه عنوة عليه، وحمله إلى دار ملكه عنوة، فأودعه المطبق.
ثم رجع إلى غزو تلمسان، والله أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي سعيد الى تلمسان أولى حركاته اليها)
لما خرج عبد الحق بن عثمان على السلطان أبي الربيع، وتغلّب على تازى
بمظاهرة الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق كبير بني عسكر، واختلف رسلهم إلى
أبي حمّو موسى بن عثمان سلطان بني عبد الواد، اسف ذلك بني مرين وحرّك
من
__________
[1] يعني أنه رفع عنهم ضريبة الربع التي كانوا يدفعونها للحاكم.
(7/320)
إحنهم [1] ، ولما لحق الخارجون على الدولة
بالسلطان أبي حمّو وأقبل عليهم أضرم ذلك حقد بني مرين. وولّى السلطان
أبو سعيد الأمر وفي أنفسهم من بني عبد الواد غصّة. فلما استوسق أمر
السلطان، ودوّخ الجهات المراكشية، وعقد على البلاد الأندلسية وفرغ من
شأن المغرب، اعتزم على غزو تلمسان فنهض إليه سنة أربع عشرة وسبعمائة
ولما انتهى إلى وادي ملويّة قدّم ابنيه أبا الحسن وأبا عليّ في عسكرين
عظيمين في الجناحين، وسار في ساقتهما، ودخل بلاد بني عبد الواد على هذه
التعبية، فاكتسح نواحيها واصطلم نعمها. ونازل وجدة، فقاتلها قتالا
شديدا وامتنعت عليه ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها. وانحجر
موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على معاقلها ورعاياها وسائر
ضواحيها، فحطّمها حطما، ونسف جهاتها نسفا، ودوّخ جبال بني يرناسن وفتح
معاقلها وأثخن فيها وانتهى إلى وجدة. وكان معه في معسكره أخوه يعيش بن
يعقوب، وقد أدركته بعض استرابة بأمره ففرّ إلى تلمسان، ونزل على أبي
حمّو ورجع السلطان على تعبيته إلى تازى، فأقام بها. وبعث ابنه الأمير
أبا عليّ إلى فاس فكان من خروجه على أبيه ما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي وما كان
بينه وبين أبيه من الواقعات)
كان للسلطان أبي سعيد اثنان من الولد أكبرهما لأمته الحبشية، وهو عليّ،
والأصغر لمملوكة من سبي النصارى وهو عمر. وكان هذا الأصغر آثرهما لديه،
وأعلقهما بقلبه منذ نشأ، فكان عليه حدبا وبه مشغوفا. ولما استولى على
ملك المغرب، رشّحه بولاية عهده، وهو شاب لم يطرّ شاربه. ووضع له ألقاب
الإمارة، وصيّر معه الجلساء والخاصّة والكتّاب وأمره باتخاذ العلامة في
كتبه. وعقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليرنياني من صنائع دولتهم
وكبار المرشحين بها. ولما رآه أخوه الأكبر أبو الحسن صاغية أبيه إليه،
وكان شديد البرور بوالديه، انحاش إليه وصار في جملته، وخلط نفسه
بحاشيته طاعة لأبيه واستمرّت حال الأمير أبي عليّ على هذا، وخاطبه
الملوك من
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: وحرّك مزاجهم.
(7/321)
النواحي وخاطبهم، وهادوه وعقد الرايات،
وأثبت في الديوان ومحا وزاد في العطاء ونقص، وكاد أن يستبدّ. ولما قفل
السلطان أبو سعيد من غزاته إلى تلمسان سنة أربع عشرة وسبعمائة أقام
بتازى وبعث ولديه إلى فاس، فلما استقرّ الأمير أبو عليّ بفاس حدّثته
نفسه بالاستبداد على أبيه، وخلعه وراوضه المداخلون له في المكر
بالسلطان حتى يتقبّض عليه، فأبي وركب الخلاف وجاهر بالخلعان ودعا
لنفسه، فأطاعه الناس لما كان السلطان جعل إليه من أمرهم. وعسكر بساحة
البلد الجديد يريد غزو السلطان، فبرز من تازى بعسكره يقدّم رجلا ويؤخر
أخرى.
ثم بدا للأمير أبي عليّ في شأن وزيره، وحدّثته نفسه بالتقبّض عليه
استرابة به لما كان بلغه من المكاتبة بينه وبين السلطان، فبعث لذلك عمر
بن يخلف الفردودي، وتفطّن الوزير لما حاوله من المكر، فتقبّض عليه ونزع
إلى السلطان أبي سعيد فتقبّله ورضي عنه. وارتحل إلى لقاء ابنه، ولما
تراءى الجمعان بالقرمدة ما بين فاس وتازى، واختل مصاف السلطان وانهزم
عسكره وأفلت بعد أن أصابته جراحة في يده وهن لها، ولحق بتازى فليلا
جريحا. ولحق به ابنه الأمير أبو الحسن نازعا إليه من جملة أخيه أبي علي
بعد المحنة وفاء لحق أبيه، فاستبشر السلطان بالظهور والفتح، وحمد
المغبة، وأناخ الأمير أبو علي بعساكره على تازى، وسعى الخواص بين
السلطان وابنه في الصلح على أن يخرج له السلطان عن الأمر ويقتصر على
تازى وجهاتها، فتمّ ذلك بينهما وانعقد. وشهد الملأ من مشيخة العرب
وزناتة وأهل الأمصار، واستحكم عقده وانكفأ الأمير أبو عليّ إلى حضرة
فاس مملّكا. وتوافت إليه بيعات الأمصار بالمغرب ووفودهم، واستوسق أمره.
ثم اعتلّ على أثر ذلك واشتدّ وجعه، وصار إلى حال الموت وخشي الناس على
أنفسهم تلاشى الأمر بمهلكه، فسايلوا إلى السلطان بتازى، ثم نزع على
الأمير أبي عليّ وزيره أبو بكر بن النوار [1] وكاتبه منديل بن محمد
الكتاني، وسائر خواصه، ولحقوا بالسلطان وحملوه على تلافي الأمر، فنهض
من تازى واجتمع إليه كافة بني مرين والجند. وعسكر على البلد الجديد
وأقام محاصرا لها، وابتنى دارا لسكناه وجعل لابنه الأمير أبي الحسن ما
كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد وتفويض الأمر.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: أبو بكر بن النوان.
(7/322)
وتفرد أبو عليّ بطائفة من النصارى
المستخدمين بدولتهم، كان قائدهم يمتّ إليه بخؤولة، وضبط البلد مدّة
مرضه حتى إذا أفاق وتبيّن اختلال أمره، بعث إلى أبيه في الصفح والرضى،
وان ينزل له عما انتزى عليه من الأمر على أن يقطعه سجلماسة وما إليها،
ويسوغه ما احتمل من المال والذخيرة من دراهم، فأجابه لذلك، وانعقد
بينهما سنة خمس عشرة وسبعمائة وخرج الأمير أبو علي بخاصّته وحشمه،
وعسكر بالزيتون من ظاهر البلد. وفي له السلطان بما اشترط وارتحل إلى
سجلماسة، ودخل السلطان إلى البلد الجديد ونزل بقصره، وأصلح شئون ملكه،
وأنزل ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصوره، وفوّض إليه في
سلطانه تفويض الاستقلال. وأذن له في اتخاذ الوزراء والكتّاب، ووضع
العلامة على كتبه وسائر ما كان لأخيه. ووفدت إليه بيعات الأمصار
بالمغرب، ورجعوا إلى طاعته.
ونزل الأمير أبو علي بسجلماسة فأقام بها ملكا، ودوّن الدواوين، واستلحق
واستركب، وفرض العطاء واستخدم ظواعن العرب من المعقل، وافتتح معاقل
الصحراء وقصور تاورت [1] وتيكورارين وتمنطيت، وغزا بلاد السوس فافتتحها
وتغلب على ضواحيها، وأثخن في أعرابها من ذوي حسّان والشبانات وزكنة،
حتى استقاموا على طاعته.
وبيّت عبد الرحمن بن يدر أمير الأنصار بالسوس في تارودانت مقرّه،
فافتتحها عليه عنوة وقتله، واصطلم نعمته وأباد سلطانه. وأقام لبني مرين
في بلاد القبلة ملكا وسلطانا، وانتقض على السلطان سنة عشرين وسبعمائة
وتغلّب على درعة، وسما إلى طلب مراكش، فعقد السلطان على حربه لأخيه
الأمير أبي الحسن، وجعله إليه، وأغزاه ونهض على أثره، واعتلّ [2]
بمراكش، وثقف أطرافها وحسم عللها. وعقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع
دولتهم، وقفل بعساكره إلى الحضرة. ثم نهض الأمير أبو علي سنة اثنتين
وعشرين وسبعمائة بجموعه من سلجماسة وأغذّ السير إلى مراكش، فاختلفت
عساكره بها قبل أن يجتمع لكندوز أمره. فتقبّض عليه وضرب عنقه ورفعه على
القناة وملك مراكش وسائر ضواحيها. وبلغ الخبر إلى السلطان، فخرج من
حضرته في عساكره بعد أن احتشد. وأزاح العلل، واستوفى
__________
[1] وفي النسخة المصرية: توات.
[2] وفي النسخة المصرية: فاحتلوا.
(7/323)
الأعطيات، وقدّم بين يديه ابنه الأمير أبا
الحسن ولي عهده الغالب على أمره في عساكره وجموعه. وجاء في ساقته، وسار
على هذه التعبية. ولما انتهى إلى بويو [1] من وادي ملويّة نذروا
بالبيات من أبي علي وجنوده، فحذروهم وأيقظوا ليلتهم.
وبيّتهم بمعسكرهم ذلك، فكانت الدبرة عليه. وفلّ عسكره. وارتحلوا من
الغد في أثره. وسلك على جبال درن، وافترقت جنوده في أوعاره، ولحقهم من
معراتها شناعات، حتى ترجّل الأمير أبو عليّ عن فرسه، وسعى على قدميه،
وخلص من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق، ولحق بسجلماسة، ومهّد السلطان
نواحي مراكش، وعقد عليها لموسى بن علي بن محمد الهنتاتي، فعظم غناؤه في
ذلك واضطلاعه وامتدّت أيام ولايته وارتحل السلطان إلى سجلماسة، فدافعه
الأمير أبو علي بالخضوع في الصفح والرضا والعودة إلى السلم، فأجابه
السلطان لما كان شغفه من حبّه، فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب. ورجع
إلى الحضرة وأقام الأمير أبو علي بمكانه من ملك القبلة إلى أن هلك
السلطان، وتغلّب عليه أخوه السلطان أبو الحسن كما نذكره إن شاء الله
تعالى.
(الخبر عن نكبة منديل الكتاني ومقتله)
كان أبوه محمد بن محمد الكتاني [2] من علية الكتاب بدولة الموحّدين،
ونزع من مراكش عند ما انحل نظام بني عبد المؤمن وانفض جمعهم إلى
مكناسة، فأوطنها في إيالة بني مرين. واتصل بالسلطان يعقوب بن عبد الحق
فصحبه فيمن كان يثائر على صحابته من أعلام المغرب. وسفر عنه إلى الملوك
كما ذكرناه في سفارته إلى المستنصر سنة خمس وستين وستمائة وهلك السلطان
يعقوب بن عبد الحق فازداد الكتاني عند ابنه يوسف بن يعقوب حظوة ومكانه
إلى أن سخطه ونكبه سنة سبع وستين وستمائة وأقصاه من يومئذ وهلك في حال
سخطته وبقي من بعده ابنه منديل هذا في جملة السلطان أبي يعقوب متبرما
بمقام عبد الله بن أبي مدين المستولي على قهرمة دار
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية توتو وفي نسخة أخرى
نونو.
[2] وفي النسخة المصرية: الكناني.
(7/324)
السلطان ومخالصته في خلواته مغضيا لذلك.
متوقعا النكبة في أكثر أيامه مضطرمة له بالحسد جوانحه، مع ما كان عليه
من القيام على حسبان الديوان عرف فيه بسبقه وتشابه صديقه وعدوه. ولما
تغلّب السلطان على ضواحي شلف ومغراوة واستعمل على حسبان الجباية، وجعل
إليه ديوان العسكر هنالك، وإلى نظره اعتراضهم وتمحيصهم، فنزل على
مليانة مع من كان هنالك من الأمراء مثل علي بن محمد الخيريّ والحسن بن
علي بن أبي الطلاق العسكري إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب، ورجّع أبو
ثابت البلاد إلى أبي زيّان وأخيه أبي حمّو فخفّ عليهما، وحلا بعيونهما،
واستبلغا في تكريمه وانصرف إلى مغربه. وكان معسكر السلطان يوسف بن
يعقوب على تلمسان قد صحب أخاه أبا سعيد عثمان بن يعقوب في حال خموله،
وتأكّدت بينهما الخلّة التي رعاها له السلطان أبو سعيد. فلمّا ولي أمر
المغرب متّ بذلك إليه، فعرفه له واختصّه وخالصة، وجعل إليه وضع علامته
وحسبان جبايته، ومستخلص أحواله، والمفاوضة بذات صدره. ورفع مجلسه في
بسائطه، وقدّمه على خاصته. وكان كثير الطاعة للأمير أبي علي ابنه
المتغلّب على أبيه قبل أوّل أمره [1] .
ولما استبدّ وخلع أباه انحاش منديل هذا إليه. ثم نزع عنه حين تبيّن
اختلال أمره، وكان الأمير أبو الحسن يحقد عليه ولاية أخيه أبي عليّ لما
كان بينهما من المنافسة.
وكان كثيرا ما يوغر صدره بإيجاب حق عمر عليه، وامتهانه في خدمته. وطوى
له على النث حتى إذا انفرد بمجلس أبيه وفصل عمر إلى سجلماسة أحكم
السعاية فيه وإلحاح [2] في الهلكة التي أحكم [3] السلطان عليها أذنا
واعية، حتى تأذّن الله بإهلاكه. وكان منديل هذا كثيرا ما يغضب السلطان
في المحاورة والخطاب دالة عليه وكبرا، فاعتدّ عليه من ذلك كلمات
وأحوالا، وسخطه سنة ثمان عشرة وسبعمائة واذن لابنه الأمير أبي الحسن في
نكبته، فاعتقله واستصفى أمواله، وطوى ديوانه وامتحنه أياما، ثم قتله
بمحبسه خنقا، ويقال جوعا. وذهب مثلا في الغابرين، والله خير الوارثين.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: المتغلب على أبيه أول مرّة.
[2] وفي النسخة المصرية: الآلاء.
[3] وفي النسخة المصرية: صرّ.
(7/325)
(الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة ومنازلته ثم
مصيرها الى طاعة السلطان بعد مهلكه)
كان بنو العز في لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد ونقلهم إلى غرناطة سنة
خمس وسبعمائة استقرّوا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بني الأحمر، حتى
إذا استولى السلطان أبو الربيع على سبتة سنة تسع وسبعمائة أذنوه في
الإجازة إلى المغرب، فأجازوا إلى فاس، فاستقروا بها. وكان يحيى وعبد
الرحمن ابنا أبي طالب من سراتهم وكبارهم، وكانوا يغشون مجالس أهل
العلم، لما كانوا عليه من انتحال الطلب [1] .
وكان أبو سعيد أيام إمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع القرويين شيخ
الفتيا أبا الحسن الصغير. وكان يحيى بن أبي طالب يلازمه، فاتصل به
وصارت له وسيلة يحتسبها عنده. فلمّا ولي الأمر واستقلّ به، رعى لهم
زمام صحابتهم، ووفّى لهم مقاصدهم. وعقد ليحيى على سبتة، ورجّعهم إلى
مقرّ إمارتهم منها ومحل رياستهم، فارتحلوا إليها سنة عشر وسبعمائة
وأقاموا دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته. ثم تغلّب الأمير أبو
علي على أمر أبيه، واستبدّ عليه فعقد على سبتة لأبي زكريا حيّون بن أبي
العلاء القرشي، وعزل يحيى بن أبي طالب عنها. واستقدمه إلى فاس فقدمها
هو وأبوه أبو طالب وعمّه حاتم، واستقرّوا في جملة السلطان. وهلك أبو
طالب بفاس خلال ذلك حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما
قدّمناه، لحق يحيى بن أبي طالب وأخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير
أبي علي. فلما اعتلّ بالبلد الجديد ونازلة السلطان بها فحينئذ عقد
السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة، وبعثه إليها ليقيم دعوته بتلك
الجهات. وتمسّك بابنه محمد رهنا على طاعته، فاستقلّ بإمارتها، وأقام
دعوة السلطان وطاعته بها. وأخذ بيعته على الناس، واتصل ذلك سنتين [2] .
وهلك عمّه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه من المغرب سنة ست عشرة
وسبعمائة. ثم انتقض على طاعة السلطان ونبذ طاعة الأمراء، ورجع إلى حال
سلفه من أمر الشورى في البلد. واستقدم من الأندلس عبد الحق بن
__________
[1] وفي النسخة المصرية: الطب.
[2] وفي نسخة ثانية: سنين.
(7/326)
عثمان فقدم عليه وعقد له على الحرب ليفرّق
الكلمة به، ويوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته. وجهّز السلطان إليه
العساكر من بني مرين وعقد علي حربه للوزير إبراهيم بن عيسى، فزحف إليه
وحاصره، وتعلّل عليهم بطلب ابنه، فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم
ليعطي طاعته، فيسلمه، وجاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر وأن ابنه كائن
بفسطاط الوزير بساحة البحر، بحيث تتأتى الفرصة في أخذه، فبيّت المعسكر،
وهجم عبد الحق بن عثمان بحشمه وذويه على فسطاط الوزير، فاحتمله إلى
أبيه وركبت العساكر للهيعة، فلم يقفوا على خبر حتى تفقّد الوزير ابن
العز في.
واتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدوّ على ذلك،
فاجتمعت مشيختهم وتقبّضوا عليه، وحملوه إلى السلطان ابتلاء للطاعة
واستبصارا في نصح السلطان، فشكر لهم وأطلق وزيره لابتلاء نصيحته. ورغب
يحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان وولايته. ونهض السلطان سنة تسع
عشرة وسبعمائة إلى طنجة لاختبار طاعته، فعقد له على سبتة واشترط هو على
نفسه الوفاء لجباية السلطان، وأسنى هديته في كل سنة. واستمرّت الحال
على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين وسبعمائة. وقام بالأمر بعده
ابنه محمد إلى نظر عمّه محمد بن عليّ بن الفقيه أبي القاسم شيخ
قرابتهم. وكان قائد الأساطيل بسبتة ووليّ النظر فيها بعد أن نزع القائد
يحيى الرنداحي إلى الأندلس، واختلف الغوغاء بسبتة، وانتهز السلطان
الفرصة فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وبادروا
بإيتاء طاعتهم. وعجز محمد ابن يحيى عن المناهضة، وظنّها محمد بن عيسى
من نفسه، فتعرّض للأمر في أوغاد من اللفيف، فاجتمعوا إليه وادفعهم
الملأ عن ذلك، وحملوهم على الطاعة، واقتادوا بني العز في إلى السلطان
فانقادوا، واحتل السلطان بقصبة سبتة، وثقف جهاتها ورمّ منثلمها وأصلح
خللها. واستعمل كبار رجالاته وخواصّ مجلسه في أعمالها، فعقد لحاجبه
عامر بن فتح الله الصدراتي على حاميتها، وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين
على جبايتها والنظر في مبانيها، وإخراج الأموال للنفقات فيها. وأسنى
جوائز الملأ من مشيختها، ووفر أقطاعاتهم وجراياتهم. وأوعز ببناء البلد
المسمّى أفراك على سبتة، فشرعوا في بنائها سنة تسع وعشرين وسبعمائة
وانكفأ راجعا إلى حضرته، والله تعالى أعلم
.
(7/327)
(الخبر عن استقدام
عبد المهيمن للكتابة والعلامة)
كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة، ونسبهم في حضرموت. وكانوا أهل
تجلّة ووقار، منتحلين للعلم. وكان أبو محمد قاضيا بسبتة أيام أبي طالب
وأبي حاتم، وكان له معهم صهر. ونشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطلب
والجلالة، وقرأ صناعة العربيّة على الأستاذ الغافقي وحذق فيها. ولما
نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس وسبعمائة واحتملوا إلى غرناطة،
احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه. وقرأ عبد المهيمن
بغرناطة على مشيختها، وازداد علما وبصرا باللسان والحديث. واستكتب بدار
السلطان محمد المخلوع، واختصّ بوزيره المتغلّب على دولته محمد بن
الحكيم الرنديّ فيمن اختص به من رؤساء بني العزفي. ثم رجع بعد نكبة ابن
الحكيم إلى سبتة، وكتب عن قائدها ابن مسلمة مدّة. ولما استخلص بنو مرين
سبتة سنة تسع وسبعمائة اقتصر على الكتابة، وأقام منتحلا مذاهب سلفه في
انتحال العلم ونزول المروءة. ولما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب
واستقل بولاية العهد، وتغلّب على الأمر ابنه أبو علي، وكان محبّا للعلم
مولعا بأهله منتحلا لفنونه.
وكانت دولته خلوا من صناعة التراسل مذ عهد الموحدين للبداوة الموجودة
في أوّلهم [1] . وحصل للأمير أبي عليّ بعض البصر بالبلاغة واللسان
تفطّن به لشأن ذلك، وخلو دولتهم من الكتّاب المرسلين، وأنهم إنما
يحكمون الخطّ الّذي حذقوا فيه. ورأى الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في
رياسة تلك الصناعة، فولع به. وكان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات
وفادتهم، فيختصه الأمير أبو علي بمزيد برّه وكرامته، ويرفع مجلسه،
ويخطبه للكتابة وهو يمتنع عليه. حتى إذا أمضى عزيمته في ذلك أوعز إلى
عامله بسبتة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أن يشخصه إلى بابهم فقلده كتابته
وعلامته حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن الى الأمير أبي
الحسن، فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد وكتب شرطه على
السلطان كان من جملتها كون عبد المهيمن معه، وأمضى له السلطان ذلك وأنف
الأمير أبو
__________
[1] وفي طبعة بولاق: الموجدة في دولتهم.
(7/328)
الحسن منها، فأقسم ليقتلنّه إن عمل بذلك،
فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان ولاذ به، وألقى نفسه بين يديه، فرقّ
لشكواه وأمره باعتزالهما معا والرجوع إلى خدمته. وأنزله بمعسكره وأقام
على ذلك، واختصه منديل الكتاني كبير الدولة وزعيم الخاصة، وأنكحه
ابنته، ولما نكب منديل جعل السلطان علامته لأبي القاسم بن أبي مدين،
وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد السلطان علامته لأبي
القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلوا من الآداب، فكان يرجع إلى عبد
المهيمن في قراءة الكتب وإصلاحها، وإنشائها حتى عرف السلطان له ذلك،
فاقتصر عليه وجعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة وسبعمائة فاضطلع بها
ورسخت قدمه في مجلس السلطان، وارتفع صيته. واستمرّ على ذلك أيام
السلطان وابنه أبي الحسن من بعده إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف
سنة تسع وأربعين وسبعمائة والله سبحانه وتعالى خير الوارثين.
(الخبر عن صريخ أهل الأندلس ومهلك بطرة على
غرناطة)
كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه
هراندة الهالك سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ومنذ غلب على طريف شغل
السلطان يوسف بن يعقوب بعده ببني يغمراسن، ثم تشاغل حفدته من بعده
بأمرهم وتقاصرت مددهم، وهلك شانجة سنة ثلاث وسبعين [1] وولى ابنه
هراندة ونازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولا كاملا،
ونازلت أساطيله جبل الفتح واشتدّ الحصار على المسلمين. وراسل هراندة بن
أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم، ويأخذ بحجزتهم،
فنازل المريّة وحاصرها الحصار المشهور سنة تسع وسبعمائة ونصب عليها
الآلات. وكان منها برج العود المشهور بطول الأسوار بمقدار ثلاث قامات،
وتحيّل المسلمون على إحراقه فأحرق. وحفر العدوّ تحت الأرض مسربا مقدار
ما يسير فيه عشرون راكبا. وتفطّن المسلمون واحتفر قبالتهم مثله إلى أن
نفذ بعضهم
__________
[1] الصحيح ثلاث وتسعين وستمائة.
(7/329)
لبعض، واقتتلوا من تحت الأرض وعقد ابن
الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مددا لأهل
المريّة، فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة [1] ،
فهزمهم عثمان واستلحمهم، ونزل قريبا من معسكر الطاغية وألحّ بمغاداتهم
ومراوحتهم الى أن رغبوا إليه في السلم وأفرج عن البلد. وتغلّب الطاغية،
خلال ذلك على جبل الفتح، وأقامت عساكره على سماتة [2] واسطبونة [3] ،
وزحف العبّاس بن رحّو بن عبد الله وعثمان بن أبي العلاء في العساكر
لاغاثة البلدين، فأوقع عثمان بعسكر اسطبونة، وقتل قائدهم ألفنش بيرش
[4] في نحو ثلاثة آلاف فارس واستلحموا. ثم زحف عثمان لاغاثة العبّاس
وكان دخل عوجين فحاصرته جموع النصارى به، فانفضوا الخبر زحفه، وبلغ
الخبر إلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتكة عثمان في قومه، فسرّح
جموع النصرانية، ولقيهم عثمان فأوقع بهم، وقتل زعماءهم. وارتحل الطاغية
يريد لقاءهم فخالف أهل البلد إلى معسكره، وانتهبوا محلاته وفساطيطه،
وأتيحت للمسلمين عليهم الكرّة، وامتلأت الأيدي من غنائمهم وأسراهم. ثم
هلك الطاغية أثر هذه الهزائم سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وهو هراندة بن
شانجة. وولي بعد ابنه الهنشة طفلا صغيرا، جعلوه لنظر عمّه دون بطرة ابن
شانجة، وزعيم النصرانيّة جوان فكفلاه. واستقام أمرهم على ذلك، وشغل
السلطان أبو سعيد ملك المغرب بشأن ابنه وخروجه، فاهتبل النصرانية
الغرّة في الأندلس وزحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأناخوا
عليها بعسكرهم وأممهم. وبعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان واعتذر لهم
بمكان أبي العلاء من دولتهم، ومحله من رياستهم، وأنه مرشّح للأمر في
قومه بني مرين، يخشى معه تفريق الكلمة. وشرط عليهم أن يدفعوه إليه
برمّته حتى يتم أمرّ الجهاد، ويعيده إليهم حوطة على المسلمين. ولم
يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء لصرامته وعصابته
__________
[1] مرشانة: مدينة من أعمال قرمونة بالأندلس (معجم البلدان) .
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي طبعة بولاق شمانة وفي نسخة أخرى:
سماية وفي معجم البلدان ذكر سمانة وهو اسم موضع ولم يزد على ذلك.
[3] اسطبونة: لم يذكرها صاحب معجم البلدان ولعلها اسطبة المذكورة في
نفح الطيب ج 1 ص 165 وتبعد عن قرطبة 36 ميلا.
[4] وفي نسخة ثانية: ألفنس بترس.
(7/330)
من قومه، فأخفق سعيهم واستلحموا. وأطالت
أمم النصرانية بغرناطة، وطمعوا في التهامها. ثم إنّ الله نفّس مخنقهم،
ودافع قدرته عنهم، وكيّف لعثمان بن أبي العلاء وعصبته واقعة فيهم كانت
أغرب الوقائع. صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم، وكانوا زهاء مائتين أو
أكثر، وصابروهم حتى خالطوهم في مراكزهم، فصرعوا بطرة وجوان، وولوهم
الأدبار. واعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شقيل [1] فتطارحوا
فيها. وهلك أكثرهم، واكتسحت أموالهم، وأعزّ الله دينه، وأهلك عدوّه.
ونصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يذكر، وهو باق هنالك لهذا العهد.
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن صهر الموحدين والحركة الى تلمسان على اثره وما تخلل ذلك من
الاحداث)
لما انفرج الحصار عن ولد يغمراسن بن زيّان أحد ملوك بني عبد الواد سنة
ست وسبعمائة وتجافى أبو ثابت عن بلادهم، ونزل لهم عما كان بنو مرين
ملكوه منها بسيوفهم. واستقل أبو حمّو بملك بني عبد الواد على رأس الحول
منها، صرف نظره واهتمامه إلى بلاد المشرق، فتغلّب على بلاد مغراوة، ثم
على بلاد بني توجين، ومحا منها أثر سلطانهم. ولحق أعياصهم من ولد عبد
القوي بن عطيّة ولد منديل بن عبد الرحمن بالموحّدين بني أبي حفص مع من
تبعهم من رءوس قبائلهم، وصاروا في جملة عساكرهم. واستلحق مولانا
السلطان أبو يحيى وحاجبه يعقوب بن عمر منهم جندا كثيفا أثبتهم في
الديوان، وغالب بهم الخوارج والمنازعين للدولة. ثم زحف أبو حمّو إلى
الجزائر وغلب ابن علّان عليها سنة [2] ونقله إلى تلمسان ووفى له.
وفرّ بنو منصور أمراء ملكيش أهل بسيط متيجة من صنهاجة، فلحقوا
بالموحّدين واصطنعوهم. وتملّك قاصية المغرب الأوسط وتاخم عمل الموحدين
بعمله. ثم تغلّب على تدلس سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وتجنى على مولانا
السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزى ابن مخلوف
ببجاية كما ذكرناه في أخباره. فحثّ عزائمه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: شنيل.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/331)
لمنزلتها وطلب بلاد الموحّدين، وأوطأ
عساكره أرضهم، ونازل أمصارهم بجاية وقسنطينة. واختصّ بجاية بشوكته من
ذلك، وجهّز العساكر مع مسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها.
وكان خلال ذلك ما قدّمناه من خروج محمد بن يوسف ابن يغمراسن عليه سنة
[1] وقيام بني توجين بأمره، واقتطاع جبل وانشريس من عمالة ملكه.
واستمرّت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمّو سنة ثمان عشرة
وسبعمائة وقام بأمرهم ابنه أبو تاشفين عبد الرحمن فصنع له في ابن عمه
محمد بن يوسف. ونهض إليه بعساكر بني عبد الواد حتى نازلة بمعتصمه من
جبل وانشريش وداخله عمر بن عثمان كبير بني تيغرين في المكر به، فتقبّض
عليه وقتله سنة تسع عشرة وسبعمائة وارتحل إلى بجاية حتى احتل بساحتها،
وامتنع عليه الحاجب ابن عمر فأقام يوما أو بعضه. ثم انكفأ راجعا إلى
تلمسان، وردّد البعوث إلى أوطان بجاية، وابتنى الحصون لتجمير الكتائب،
فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر، ثم حصن تامزردكت. ثم اختط
بتيكلات على مرحلة منها بلدا سمّاها تامزيزدكت على اسم المعقل الّذي
كان لأوليهم بالجبل قبالة وجدة. وامتنع يغمراسن به على السعيد كما
قدّمناه، فاختطّ بلد تيكلات هذه، وشحنها بالأقوات والعساكر، وصيّرها
ثغرا لملكه، وأنزل بها جنده.
وعقد عليها لموسى بن علي الكردي كبير دولته، ودولة أبيه [2] . واستحثّه
أمراء الكعوب من بني سليم لملك إفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان
أبي يحيى اللحياني، وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي عمران، وأبي
إسحاق بن أبي يحيى الشهيد، مرّة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعا.
وكانت حروبهم سجالا إلى أن كان بين جيوش زناتة والموحدين الزحف المشهور
بالرياش من نواحي مرماجنّة سنة تسع وعشرين وسبعمائة زحفت فيه إلى
السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب. ومن إليه
من البدو، وعليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن. وقد نصبوا
للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص، ومعهم عبد الحق بن عثمان من أعياض
بني عبد الحق في بنيه وذويه. وكان نزع إليهم من عند الموحّدين كما
ذكرناه، فاختلّ مصاف مولانا السلطان أبي يحيى
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين
أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: لموسى بن علي العزفي كبير دولته ودولة ابنه.
(7/332)
وانهزم، واستولوا على فساطيطه بما فيها من
الذخيرة والحرم، وانتهبوا معسكره وتقبّضوا على ولديه الموليين أحمد
وعمر، وأشخصوهما إلى تلمسان. وأصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته،
وخلص إلى بونة ناجيا برمقه. وركب السفين منها إلى بجاية، فأقام بها
يدمل جراحة، واستولت زناتة على تونس. ودخلها محمد بن أبي عمران وسمّوه
باسم السلطان ومقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة. واعتزم مولانا
السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد صريخا
على آل يغمراسن. وأشار حاجبه محمد بن سيّد الناس بإنفاذ ابنه الأمير
أبي زكريا صاحب الثغر استنكافا له عن مثلها، فتقبّل إشارته وأركب ابنه
البحر لذلك. وبعث إليه معه أبا محمد عبد الله بن تاشفين من مشيخة
الموحّدين نافضا أمامه طرف المقاصد والمحاورات، ونزلوا بغسّاسة من
سواحل المغرب، وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته، وأبلغوه صريخ
مولانا السلطان أبي يحيى، فاهتزّ لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن، وقال
لابنه الأمير في ذلك المحفل: يا بني لقد قصدك أكبر أقوامنا وموصلك، وو
الله لأبذلنّ في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي، ولأسيرنّ بعساكري إلى
تلمسان فأنزلها مع أبيك، فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين. وكان فيما شرطه
عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره إلى
منازلة تلمسان معه فقبلوا. ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة
ثلاثين وسبعمائة ولما انتهوا إلى وادي ملويّة وعسكر بضره، جاءهم الخبر
اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس وإجهاضه زناتة
وسلطانهم عنها. فاستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكريا يحيى ابنه
ووزيره أبا محمد عبد الله بن تافراكين وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم
وأسنى جوائزهم وحاجاتهم [1] . وركبوا أساطيلهم من غسّاسة وأرسل معهم
للخطبة الصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي والقاضي بحضرته أبي عبد الله
بن عبد الرزاق، وانكفأ على عقبه راجعا إلى حضرته. ولما انعقد الصهر بين
الأمير أبي الحسن، والسلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى،
زفّها إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين، كبيرهم أبو القاسم بن
عبّو [2] . ووصلوا بها إلى موسى غسّاسة سنة إحدى وثلاثين بين يدي مهلك
السلطان أبي سعيد، فقاموا لها على أقدام البرّ
__________
[1] وفي النسخة المصرية: وحباءهم.
[2] وفي النسخة المصرية: بن عقّور.
(7/333)
والتكرمة، وبعثوا الظهر إلى غسّاسة لركوبها
وحمل أثقالها، وصيغت حكمات الذهب والفضّة ومدّت ولايا الحرير المغشّاة
بالذهب، واحتفل لوافدها وأعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في
دولتهم. وتولت قهارمة الدار من عجز النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك فطم
الصنيع، وتحدّث الناس به. وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها،
والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد عفا الله
عنه وولاية السلطان أبي الحسن وما تخلل ذلك من الاحداث)
كان السلطان لما بلغه وصول العروس بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة
إحدى وثلاثين وسبعمائة واهتزّت الدولة لقدومها عليهم تعظيما لحق أبيها
وقومها واحتفاء بها، ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها
بنفسه احتفاء [1] في تكرمتها وسرورا بعرس ابنه. واعتلّ هنالك ومرض حتى
إذا أشفى على الهلكة، ارتحل به وليّ العهد الأمير أبو الحسن إلى
الحضرة، وحمله في فراشه على أكتاف الحاشية والخول، حتى نزل بسبو، ثم
أدخله كذلك ليلا إلى داره. وأدركته المنية في طريقه، فقضى رحمة الله
عليه، فوضعوه بمكانه من البيت. واستدعى الصالحين لمواراته، فووري لشهر
ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك
إلّا وجهه.
ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصّة من المشيخة ورجالات الدولة
لوليّ عهده الأمير أبي الحسن، وعقدوا له على أنفسهم، وآتوه طاعتهم
وبيعتهم. وأمر بنقل معسكره من سبو، وأضرب بالزيتون من ساحة فاس. ولما
ووري السلطان، خرج إلى معسكره بالتعبية، واجتمع إليه الناس على طبقاتهم
لأداء البيعة، وجلس بفسطاطه، وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس
المزوار عبّو بن قاسم رئيس الوزعة [2] ، والمتصرّفين وحاجب الباب
القديم الولاية بذلك في دارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب. وزفّت
إليه يومئذ عروسه بنت السلطان أبي يحيى،
__________
[1] وفي النسخة المصرية: استبلاغا.
[2] ج وازع وهو الّذي يتولى أمر الجيوش. (قاموس) .
(7/334)
فأعرس بها بمكانه من المعسكر، وأجمع أمره
على الانتقام لأبيها من عدوّه. وبدأ باستكشاف حال أخيه أبي عليّ، وكان
السلطان أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة. وكان ولي
العهد هذا يؤثر لرضاه جهده، فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة
أحواله، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلماسة وانكفائه عنها الى
تلمسان بعد الصلح مع أخيه والاتفاق)
لما هلك السلطان أبو سعيد وكملت بيعة السلطان أبي الحسن، وكان كثيرا ما
يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفا به شفوقا عليه، فأراد مشارفة
أحواله قبل النهوض إلى تلمسان، فارتحل من معسكره بالزيتون قاصدا
سجلماسة، وتلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤدّيا حقه، موجبا
مبرّته، مهنئا له بما آتاه الله من الملك، متجافيا عن المنازعة فيه،
قانعا من تراث أبيه بما سأل، في يده، طالبا العقد له بذلك من أخيه.
فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل، وعقد له على سجلماسة وما إليها
من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما. وشهد الملأ من القبيل وسائر زناتة
والعرب، وانكفأ راجعا إلى تلمسان لإجابة صريخ الموحّدين، وأغذّ السير
إليها.
ولما انتهى إلى تلمسان تنكّب عنها متجاوزا إلى جهة المشرق لوعد مولانا
السلطان أبي يحيى بالنزول معه على تلمسان، كما كان عليه وفاقهم
ومشارطتهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم. فاحتل بتاسالت في شعبان
من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وتلوّم بها وأوعز إلى أساطيله بمراسي
المغرب فأغزاها إلى سواحل تلمسان. وجهّز لمولانا السلطان أبي يحيى مددا
من عسكره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران، وعقد عليهم لمحمد البطوي من
صنائع دولته. ونزلوا بجاية، ووافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى فصاروا
في جملته. ونهضوا معه إلى تيكلات ثغر بني عبد الواد المجمّرة بها
الكتائب لحصار بجاية، وبها يومئذ ابن هزرع من قوّادهم، وأجفل من كان
بها من العسكر قبل وصوله إليهم، فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط.
وأناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكر من الموحّدين والعرب
والبربر وسائر الحشود، فخرّبوا عمرانها وانتهبوا ما كان من الأقوات
مختزنا بها، وكان بحرا لا يدرك ساحله، لما كان
(7/335)
السلطان أبو حمو من لدن اختطها قد أوعز إلى
العمّال بسائر البلاد الشرقيّة، منذ عمل البطحاء أن ينقلوا أعشار
الحبوب إليها وسائر الأقوات. وتقبّل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في
ذلك. ولم يزل دأبهم إلى حين حلّت بها هذه الفاقرة فانتهب الناس من تلك
الأقوات ما لا كفاء له. وأضرعوا مختطّها بالأرض فنسفوها نسفا، وذروها
قاعا صفصفا. والسلطان أبو الحسن خلال ذلك متشوّف لأحوالهم منتظر قدوم
مولانا السلطان أبي يحيى عليه لمنازلة تلمسان، حتى وافاه الخبر بانتقاض
أخيه كما نذكره، فانكفأ راجعا، واتصل الخبر بمولانا السلطان أبي يحيى
فقفل إلى حضرته. وحمل البطوي معه وأسنى جائزته وجوائز عسكره، وانصرفوا
إلى السلطان مرسلهم في سفنهم من ساعتها. وانقبض عنان السلطان أبي
تاشفين عن غزو بلاد الموحّدين إلى أن انقرض أمره، والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي ونهوض
السلطان أبي الحسن اليه وظفره به)
لما توغّل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان وتجاوزها إلى تاسالت لوعد
مولانا السلطان أبي يحيى، دسّ أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال
اليد والاتفاق على السلطان أبي الحسن، وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته
عن صاحبه متى همّ به، وانعقد بينهما على ذلك. وانتقض الأمير أبو علي
على أخيه السلطان أبي الحسن، ونهض من سجلماسة إلى درعة فقتل بها عامل
السلطان، واستعمل عليه من ذويه، وسرّح العسكر إلى بلاد مراكش. واتصل
الخبر بالسلطان وهو بمعسكره بتاسالت، فأحفظه شأنه، وأجمع على الانتقام
منه، فانكفأ راجعا إلى الحضرة.
وأنزل بثغر تاوريرت تخم عمله معسكرا، وعقد عليه لابنه تاشفين، وجعله
إلى نظر وزيره منديل بن حمامة بن تيربيغين، وأغذّ السير إلى سجلماسة،
فنزل عليها وأحاطت عساكره بها، وأخذ بمخنقها وحشد الفعلة والصنّاع لعمل
الآلات لحصارها، والبناء بساحتها. وأقام يغاديها القتال ويراوحها حولا
كريتا. ونهض أبو تاشفين في عساكره وقومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره،
وبعث في نواحيه يجاذب السلطان عن مكانه من حصاره. ولما انتهى إلى
تاوريرت برز إليه ابن السلطان في وزرائه وعساكره،
(7/336)
وزحفوا إليه في التعبية، فاختلّ مصافه
وانهزم ولم يلق أحدا، وعاد إلى منحجره وبادر إلى إمداد الأمير أبي علي
بعسكره، فعقد على حصة من جنده وبعث بهم إليه، فتسرّبوا إلى البلد
زرافات ووحدانا حتى استكملوا عنده، وطاولهم السلطان الحصار وأنزل بهم
أنواع الحرب والنكال حتى تغلّب عليهم، واقتحم البلد عنوة، وتقبّض على
الأمير أبي علي عند باب قصره. وسيق إلى السلطان فأمهله واعتقله،
واستولى على ملكه. وعقد على سجلماسة واستعمل عليها، ورحل منكفئا إلى
الحضرة، فاحتل بها سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقل أخاه في إحدى حجر
القصر إلى أن قتله لأشهر من اعتقاله خنقا بمحبسه. وعدد له هذا الفتح
بفتح الجبل واسترجاعه من يد العدّ ودمره الله بأيدي عسكره، وتحت راية
ابنه أبي مالك، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن منازلة جبل الفتح واستئثار
الأمير أبي مالك والمسلمين به)
لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد المتغلّب على ملك
الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش، قام بالأمر بعده ابنه محمد طفلا
صغيرا لنظر وزيره محمد بن المحروق من بيوت الأندلس وصنائع الدولة.
واستبدّ عليه. فلمّا شب وناهز أنف من الاستبداد عليه، وأغراه المعلوجي
من حشمه بالوزير، فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين وسبعمائة وشمّر
للاستبداد وشدّ أواخي الملك. وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع،
وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة، وكان شجى في صدرها، وأهمّ المسلمين
شأنه. وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان فيه من فتنة ابنه، فرجّعوا
الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأوّل
المائة الثامنة.
واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك فرجّعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة
تسع وعشرين وسبعمائة وولّي عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان
بن مهلهل من عرب الخلط أخواله. وأسفّ الطاغية إلى حصونها عند مهلك
السلطان أبي سعيد فملك أكثرها، ومنع البحر من الإجازة. وقارن ذلك
استبداد صاحب الأندلس، وقتله لوزيره ابن المحروق. وأهمّه شأن الطاغية،
فبادر لإجازة البحر. ووفد على ابن خلدون م 22 ج 7
(7/337)
السلطان أبي الحسن بدار ملكه من فاس سنة
اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأكبر موصله وأركب الناس للقائه، وأنزله بروض
المصارّة لصق داره، واستبلغ في تكريمه.
وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر، وما أهمّهم من عدوّهم،
وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور، فأشكاه السلطان.
وعامل الله في أسباب الجهاد، وكان مشغوفا به متقبّلا مذهب جدّه يعقوب
فيه. وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين، وأنفذه مع
السلطان محمد بن إسماعيل لمنازلة الجبل، فاحتل بالجزيرة، وتتابع إليه
الأطول بالمدد. وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس، فتسايلوا إليه،
وأضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل.
وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن، إلى أن تغلّبوا عليه سنة ثلاث
وثلاثين وسبعمائة واقتحمه المسلمون عنوة، ونفلهم الله من كان به من
النصرانيّة بما معهم، ووافاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه، وقد شحنه
المسلمون بالأقوات، نقلوها من الجزيرة على خيولهم. وباشر نقلها الأمير
أبو مالك وابن الأحمر، فنقلها الناس عامّة. وتحيّز الأمير أبو مالك إلى
الجزيرة وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه.
ووصل الطاغية بعد ثلاث فأناخ عليه. وبرز أبو مالك بعساكره، فنزل بحذائه
[1] وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس. فوصل بحشد المسلمين
بعد أن دوّخ أرض النصرانيّة. وخرج فنزل بإزاء عسكر الطاغية، وتحصّن
العدوّ في محلّتهم.
وقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه، وخفّة ما به من الحامية
والسلاح، فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية. وسبق الناس إلى
فسطاطه عجلا بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين، وسدّ فرجتهم، فتلقاه
الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله، وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن
هذا المعقل، وأتحفه بذخائر مما لديه، وارتحل لفوره. وأخذ الأمير أبو
مالك في تثقيف أطراف الثغر، وسدّ فروجه، وأنزل الحامية به، ونقل
الأقوات إليه، وكان فتحا طوّق دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر إلى
آخر الأيام. ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان، والله تعالى
أعلم.
__________
[1] وفي النسخة المصرية: قبالته.
(7/338)
(الخبر عن حصار
تلمسان وتغلب السلطان أبي الحسن عليها وانقراض أمر بني عبد الواد بمهلك
أبي تاشفين)
لما تغلّب السلطان على أخيه وحسم علّة انتزائه ومنازعته وسدّ ثغور
المغرب، وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية، وارتجاع جبل
الفتح من أيديهم بعد أن أقام في ملكة الطاغية نحوا من عشرين سنة. فرغ
لعدوه وأجمع على غزو تلمسان.
ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة
أبي تاشفين على الثغور. وأوفد السلطان إلى أبي تاشفين شفعاء في أن
يتخلى عن عمل الموحّدين جملة، ويتراجع لهم عن تدلس، ويرجع إلى تخوم
عمله منذ أوّل الأمر، ولو عامئذ ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك،
ويقدّروه حقّ قدره، واستنكف أبو تاشفين مع ذلك وأغلظ للرسل في القول،
وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبيد في الردّ عليهم والنيل من مرسلهم،
فانقلبوا إليه بما أحفظه، فانبعثت عزائم السلطان للصمود إليهم. وعسكر
بساحة البلد الجديد، وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشيّة لحشد
القبائل والعساكر. ثم تعجّل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبّى مواكبه،
وسار في التعبية. وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين وسبعمائة وسار
يجرّ الشوك والمدر من أمم المغرب وجنوده. ومرّ بوجدة، فجمّر الكتائب
لحصارها. ثم مرّ بند رومة فقاتلها بعض يوم واقتحمها، فقتل حاميتها
واستولى عليها آخر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ثم سار على تعبيته حتى
أناخ على تلمسان، وبلغه الخبر بتغلّب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين
وسبعمائة فأوعز إليه بتخريب أسوارها، فأضرعوها بالأرض.
وتوافت إليه إمداد النواحي وجهاتها وحشودها، وربض على فريسته. ووفدت
إليه قبائل مغراوة وبني توجين فآتوه طاعتهم. ثم سرّح عساكره إلى الجهات
فتغلّب على وهران وهنين، ثم على مليانة وتنس والجزائر كذلك سنة ست
وثلاثين وسبعمائة ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من
عمله، والمتاخم كان لعمل الموحّدين، والقائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى
بن علي فلقاه مبرّة وتكريما، ورفع بساطه ونظمه في طبقات وزرائه
وجلسائه. وعقد على فتح البلاد الشرقيّة ليحيى
(7/339)
ابن سليمان العسكري كبير بني عسكر بن محمد
وشيخ بني مرين، وصاحب شوراهم بمجلس السلطان، والمخصوص بصهر من السلطان.
عقد له على ابنته فسار في الألوية والجنود وطوّع ضاحية الشرق وقبائله،
وافتتح أمصاره حتى انتهى إلى المريّة [1] . ونظّم البلاد في طاعة
السلطان، وأحشد مقاتلتها إلى معسكره فلحقوا له وكاثروا جنوده. واستعمل
السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين.
وعقد لسعد بن سلامة بن علي على بني يدللتين. وجعل الوالي بالقلعة إلى
نظره. وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه
قريعة محمد من الدولة.
واستعمل السلطان أيضا على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط. واختطّ
السلطان بغربي [2] تلسمان البلد الجديد لسكناه، ونزل عساكره وسماه
المنصورية [3] . وأدار على البلد المخروب سياجا من السور ونطاقا من
الخندق. ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه وشيّد قبالة كل برج من
أبراج البلد برجا على ساقة خندقه ينضح رماته بالنبل رماتهم، ويشغلونهم
بأنفسهم حتى شيّد برجا آخر أقرب منه، وترتفع شرفاته فوق خندقهم. ولم
يزل يتقرّب بوضع الأبراج من حدّ إلى ما بعده، حتى اختطها من قرب على
ساقه خندقهم. وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعيالها، ورتّب المجانيق إلى
رجمها ودكّها، فنالت من ذلك فوق الغاية. واشتدّ الحرب وضاق نطاق
الحصار. وكان السلطان يصحبهم كل يوم بالبكور والتطواف على البلد من
جميع جهاته لتفقّد المقاتلة في مراكزهم، وربما ينفرد في طوافه بعض
الأيام عن حاشيته، فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرّة. وصفّوا جيوشهم من وراء
السور مما يلي الجبل المطلّ على البلد، حتى إذا حاذاه السلطان في
تطوافه فتحوا أبوابهم، وأرسلوا عليه عقبان جنودهم، واضطرّوه إلى سفح
الجبل حتى لحق بأوعاره، وكاد أن ينزل عن فرسه هو وولّيه عريف بن يحيى
أمير سويد. ووصل الصائح إلى المعسكر فركب الأميران ابناه:
ابو عبد الرحمن وأبو مالك، في جموع بني مرين، وتهاوت فرسان المعسكر من
كلّ جانب، فشمّر جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم. ثم دفعوهم عنها،
وحملوهم على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المدية.
[2] وفي نسخة ثانية: بقرب تلسمان.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية المنصورة.
(7/340)
هوّة الخندق فتطارحوا فيه وترادفوا وهلك
بالكظيظ أكثر ممن هلك بالقتل. واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملئهم [1]
مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بني توجين، ومحمد بن سلامة بن عليّ
كبير بني يدللتن منهم أيضا وغيرهم. وكان يوما له ما بعده. واعتز بنو
مرين عليهم من يومئذ. ونذر بنو عبد الواد بالتغلّب عليهم، واتصلت الحرب
مدّة عامين. ثم اقتحمها السلطان غلابا لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع
وثلاثين وسبعمائة. ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصّته، وقاتل هنالك
حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ ووليّه عبد الحق بن
عثمان من أعياص عبد الحق. نزع إليه من جملة الموحّدين كما أشرنا إليه
ونستوفي خبره. فهلك هو وابنه وابن أخيه، وأثخنت السلطان أبا تاشفين
الجراحة ووهن لها، فتقبّض عليه. واختبنه [2] بعض الفرسان إلى السلطان
فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب وأورد غمرتها بنفسه،
فاعترضه وقد غضّ الطرف بموكبه، فأمر به في الحين فقتل، واحتزّ رأسه،
وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتفريعه، وذهب مثلا في
الغابرين. واقتحم السلطان بكافّة عساكره، وتواقع الناس بباب كشوط [3]
لجنوبهم من كظيظ الزحام، فهلك منهم أمم.
وانطلقت أيدي النهب على البلد فلحقت الكثير من أهله معرّات في أموالهم
وحرمهم.
وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمّة من خواصه وحاشيته. واستدعى
شيوخ الفتيا بالبلد أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام، وفاء بحق العلم
وأهله، فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب،
فركب لذلك بنفسه وسكن وأوزع جنوده وأشياعه من الرعيّة، وقبض أيديهم عن
الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد. وقد كمل الفتح وعزّ النصر، وشهد
ذلك اليوم أبو محمد بن تافراكين، وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي
يحيى مجدّدا للعهد، فأعجله السلطان إلى مرسلة بالخبر وسابق السابقين.
ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح، فعظم السرور عند السلطان أبي
يحيى بمهلك عدوّه والانتقام منه بشارة، واعتدّها بمساعيه. ورفع السلطان
أبو الحسن القتل عن بني عبد الواد أعدائهم، وشفى نفسه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ملاحمهم.
[2] اختبن الشيء: اخذه في خبنة ثيابه (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: كشوك.
(7/341)
بقتل سلطانهم، وعفا عنهم وأثبتهم في
الديوان، وفرض لهم العطاء، واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم،. وجمع كلمة
بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين، وسائر زناتة وأنزلهم
ببلاد المغرب وسدّ بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله، وساروا عصبا تحت
لوائه، فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة، وأجاز منهم إلى ثغور عمله
بالأندلس حامية ومرابطين، واندرجوا في جملته، واتسع نطاق ملكه. وأصبح
ملك زناتة بعد أن كان ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان
المغرب.
والأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
(الخبر عن نكبة الأمير عبد الرحمن بمتيجة
وتقبض السلطان عليه ثم مهلكه آخرا)
قد قدّمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحّدين منازلتهم
تلمسان مع عساكره، وتلوّم السلطان أبي الحسن بتاسالت لانتظار مولانا
السلطان أبي يحيى.
ولما نازل تلمسان بعساكره المرّة الثانية، لم يطالبهم بذلك. وكان أبو
محمد بن تافراكين يتردّد إليه وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤدّيا حقه
مستخبرا مآل عدوّهم. فلمّا تغلّب على تلمسان أسرّ إليه سفيره أبو محمد
بن تافراكين بأنّ سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوّه.
وتشوّف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به، وارتحل من
تلمسان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وعسكر ببسيط بمتيجة منتظرا وفادة
مولانا السلطان أبي يحيى عليه، وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه
المتحكّم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها، وقال له: إنّ لقاء
سلطانين لا يتّفق إلّا في يوم على أحدهما، فكره ذلك السلطان وتقاعد
عنه: وطال مقام السلطان أبي الحسن في انتظار الموعد الّذي ألقى إليه
أبو محمد بن تافراكين، واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه. وتحدّث أهل
المعسكر بمهلكه. وكان ابنا الأمير أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين
في ولاية عهده منذ أيام جدّهما أبي سعيد. وكان السلطان قد جعل لهما من
أوّل دولته ألقاب الإمارة وأحوالها من اتخاذ الوزراء والكتّاب ووضع
العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء. واستلحاق الفرسان والانفراد
بالعساكر، فكانا من ذلك على ثبج. وجعل لهما مع ذلك الجلوس لمقعد فصله،
(7/342)
مناوية لتنفيذ الأوامر السلطانيّة، فكانا
لذلك رديفين له في سلطانه.
ولما اشتدّ وجع السلطان تمشّت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزّب
أهل المعسكر لهما أحزابها، وبثّ كل واحد منهما المال وحمل على
المقربات. وصارت شيعا وانقسموا فرقا. وهمّ الأمير أبو عبد الرحمن
بالتوثّب على الأمر قبل أن يتبيّن حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته
بذلك. وتفطّن خاصّة السلطان لها، فأخبروه الخبر وحضّوه على الخروج إلى
الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتّسع الخرق، فبرز إلى فسطاط جلوسه وتسامع
أهل المعسكر به، فازدحموا على مجلسه وتقبيل يده. وتقبّض على أهل الظنّة
من العساكر، فأودعهم السجن وسخط على الأميرين. ورحل الناس من معسكرهما،
فردّهما إلى معسكره. ثم رجع إلى فسطاطه فارتاب الأميران لذلك ووجما،
وطفئت نار فتنتهما وسكن سعي المفسدين عندهما وانتبذ الناس عنهما.
فاشتدّت روعة الأمير أبي عبد الرحمن، وركب من فساطيطه وخاض الليل،
وأصبح بحلّة أولاد علي [1] أمراء زغبة الموطّنين بأرض حمزة، فتقبّض
عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل. وردّه إلى أبيه، فاعتقله بوجدة، ورتّب
العيون لحراسته من حشمه إلى أن قتل بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين
وسبعمائة. وثبت بالسجّان فقتله. وأنفذ السلطان حاجبه علّان بن محمد
فقضى عليه. ولحق وزيره زيّان بن عمر الوطاسي بالموحدين فأجاروه. ورضي
السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك، وعقد له على ثغور
عمله بالأندلس، وصرفه إليها، وانكفأ إلى تلمسان.
والله أعلم.
(الخبر عن خروج ابن هيدور وتلبسيه بابي عبد
الرحمن)
لما تقبّض السلطان على ابنه عبد الرحمن وأودعه السجن، تفرّق خدمة وحشمه
وانذعروا في الجهات. وهمل جازر من مطبخه، كان يعرف بابن هيدور، كان
شبيها له في الصورة، فلحق ببني عامر من زغبة، وكانوا لذلك العهد
منحرفين عن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: أولاد زغلي.
(7/343)
الطاعة، خوارج على الدولة لما كان السلطان
وأبوه اختصا عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم، منذ نزع إليهم عن أبي
تاشفين. فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق، وانتبذوا بالقفار.
ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر وإخوته. وعقد السلطان على حربهم
لونزمار ابن وليّه عريف. وكان سيّد البدو يومئذ، فجمع لهم وشمّر
لطلبهم، وأبعدوا أمامه في المذاهب، وأوقع بهم مرارا. ولحق بهم هذا
الجازر، وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن وأنه أبو عبد الرحمن ابنه
النازع عنه، فشبّه لهم وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المرية [1] . وبرز
إليهم قائدها مجاهد بن [2] من صنائع الدولة، ففضّوا جمعه وانهزم
أمامهم. ثم جمع لهم ونزمار وفرّوا عن تلك النواحي وافترق جمعهم. ونبذوا
لذلك الجازر عهده، فلحق ببني يرناتن من زواوة، ونزل على سيّدتهم شمسي
فقامت بأمره. وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته. وشاع في
الناس خبره فمن مصدّق ومن مكذّب حتى تبيّنت ووقفوا على كذبه في
انتسابه، فنبذوا عهده ولحق بالزواودة أمراء رياح، ونزل على سيّدهم
يعقوب بن عليّ، وانتسب له في مثل ذلك، فأجاره إن صدق نسبه.
وأوعز السلطان إلى السلطان أبي يحيى صاحب إفريقية في شأنه، فبعث إلى
يعقوب وأشخصه إلى السلطان مع ذويه، فلحق به بمكانه من سبتة فامتحنه
السلطان وقطعه من خلاف وانحسم دواؤه. وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة
إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وسبعمائة [3] والله تعالى أعلم.
(الخبر عن شأن الجهاد واغزاء السلطان ابنه
الأمير ابا مالك واستشهاده)
لما فرغ السلطان من أمر عدوّه وما تبع من ذلك من الأحوال، صرف اعتزامه
إلى الجهاد لما كان كلفا به. وكان الطاغية منذ شغل بني مرين عن الجهاد
منذ عهد يعقوب بن عبد الحق قد اعتزوا على المسلمين بالعدوة. ونازلوا
معاقلهم،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المدية.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع معرفة والد مجاهد هذا في المراجع التي بين
أيدينا.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: ثمان وستين.
(7/344)
وتغلّبوا على الكثير منها، وارتجعوا الجبل
ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة. ووضعوا عليه الجزية
فتقبّلها وأسفّوا إلى التهام المسلمين بالأندلس. فلما فرغ السلطان أبو
الحسن من شأن عدوّه وعلت على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته نفسه
إلى الجهاد.
وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك أمير الثغور من عمله بالعدوة سنة
أربعين وسبعمائة بالدخول إلى دار الحرب، وجهّز إليه العساكر من حضرته
وأنفذ إليه الوزراء، فشخص غازيا في الحفل، وتوغّل في بلاد الطاغية
واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدره من أرضهم وأناخ بها.
واتصل به الخبر بأنّ النصارى جمعوا له، وأغذّوا السير في اتباعه. وأشار
عليه الملأ بالخروج من أرضهم وإجازة الوادي الّذي كان تخما بين أرض
الإسلام ودار الحرب. وأن يصير إلى مدن المسلمين فيمتنع بها، فلج في
إبايته وصمّم على التعريس. وكان قرما ثبتا إلا أنه غير بصير بالحروب
لمكان سنه، فصبحهم عساكر النصرانيّة في مضاجعهم قبل أن يركبوا وخاطبوهم
في ابايتهم. وأدرك الأمير أبو مالك بالأرض قبل أن يستوي على فرسه
فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه، واحتووا على المعسكر بما فيه من
أموال المسلمين وأموالهم، ورجعوا على أعقابهم. واتصل الخبر بالسلطان
فتفجّع لهلاك ابنه، واسترحم له، واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله.
وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل.
(الخبر عن واقعة الملند والظفر به وظهور
اساطيل المسلمين على اسطول النصارى)
لما بلغ الخبر إلى السلطان باستشهاد ابنه، أخرج وزراءه إلى السواحل
لتجهيز الأساطيل. وفتح ديوان العطاء، واعترض الجنود وأزاح عللهم.
واستنفر أهل المغرب وارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد. وتسامعت أمم
النصرانية بذلك، فاستعدّوا للدفاع. وأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق
ليمنع السلطان من الإجازة. واستحثّ السلطان أساطيل المسلمين من مراسي
العدوة. وبعث إلى الموحدين بتجهيز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن
فرحون قائد أسطول بجاية من صنائع دولتهم، ووافى ستة
(7/345)
في ستة عشر من أساطيل إفريقية، كان من
طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجّاية. وتوافت أساطيل المغربين بمرسى
سبتة تناهز المائة. وعقد السلطان عليها لمحمد بن عليّ العزفي الّذي كان
صاحب سبتة يوم فتحها، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق. وقد اكتمل
عديدهم وعدّتهم، فاستلأموا وتظاهروا في السلاح.
وزحفوا إلى أسطول النصارى وتواقفوا مليا. ثم قرّبوا الأساطيل بعضها إلى
بعض وقرنوها للمصاف، فلم يمض إلا كلا ولا [1] حتى هبّت ريح النصر،
وأظفر الله المسلمين بعدوّهم، وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبرا
بالسيوف، وطعنا بالرماح، وألقوا أشلاءهم في اليم وقتلوا قائدهم الملند
واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها وطيف
بكثير من رءوسهم في جوانب البلد.
ونظمت أصفاد الأسرى بدار الإنشاء. وعظم الفتح وجلس السلطان للتهنئة،
وأنشدت الشعراء بين يديه، وكان يوما من أعز الأيام، والمنّة للَّه.
(الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين)
لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى وخضّدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز، شرع
السلطان في إجازة العساكر الغزاة من المطوّعة والمرتزقة، وانتظمت
الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ولما استكمل إجازة العساكر
أجاز هو في أسطوله مع خاصّته وحشمه آخر سنة أربعين وسبعمائة ونزل بساحة
طريف وأناخ بعساكره عليها، واضطرب معسكره بفنائها، وبدأ بمنازلتها.
ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجّاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر
الأندلس من غزاة زناتة وحامية الثغور ورجل البدو، فعسكروا حذاء معسكره
وأحاطوا بطريف نطاقا واحدا، وأنزلوا بهم أنواع القتال، ونصبوا عليها
الآلات. وجهّز الطاغية أسطولا آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن
المعسكر، وطال ثواؤهم [2] بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزودتهم
وافتقدوا العلوفات، فوهن الظهر واختلّت أحوال المعسكر. واحتشد الطاغية
أمم النصرانيّة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ولم يكن إلا كلا ولا.
[2] بمعنى مقامهم.
(7/346)
وظاهره البرتقال صاحب أشبونة، وغرب
الأندلس، فجاء معه في قومه. وزحف إليهم لستة أشهر من نزولهم. ولما قرب
معسكرهم سرّب إلى طريف جيشا من النصارى أكمنه بها، فدخلوه ليلا على حين
غفلة من العسس الّذي أرصد لهم. وأحسّوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من
مراصدهم وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددا ولبسوا على
السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذرا من سطوته. وزحف الطاغية من الغد
في جموعه، وعبّى السلطان مواكب المسلمين صفوفا، وتزاحفوا ولما نشب
الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى
فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدّوا لحراسته فاستلحموهم.
ثم دافعهم النساء عن أنفسهنّ فقتلوهنّ وخلصوا إلى خطايا السلطان: عائشة
بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب، وفاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك
إفريقية، وغيرهما من حظاياه فقتلوهنّ واستلبوهنّ. وانتهبوا سائر
الفساطيط وأضرموا المعسكر نارا وأحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم
فاختلّ مصافهم وارتدّوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في
طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبّضوا عليه،
وولّى السلطان متحيزا إلى فئة المسلمين، واستشهد كثير من الغزاة ووصل
الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحلّة وأنكر قتل النساء والولدان، ووقف
منه لمنتهى أثره، وانكفأ راجعا إلى بلاده، ولحق ابن الأحمر بغرناطة،
وخلص السلطان إلى الجزيرة، ثم إلى الجبل. ثم ركب السفين إلى سبتة في
ليله ومحّص الله المسلمين وأجزل ثوابهم. وأرجأ لهم الكرّة على عدوّهم.
(الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة، ثم
تغلبه عليها بعد أن غلب على القلعة من ثغور ابن الأحمر)
لما رجع الطاغية من طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في
التهامهم، وجمع عساكر النصرانية، ونازل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة. وعلى
مرحلة منها وجمع الآلات والأيدي على حصارها، واشتدّ مخنقها وأصابهم
الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأدال
الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف إلى بلده. وكان السلطان أبو الحسن لما
أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع
(7/347)
الكرّة وبعث في الأمصار للاستنفار، وأخرج
قوّاده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى اكتمل له منها عدد. ثم
ارتحل إلى سبتة لمشارفتها، وقدّم عساكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن
تاحضريت. وبعث على الجزيرة محمد بن العبّاس بن تاحضريت من قرابة
الوزير، وبعثه إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من
المرشحين للوزارة ببابه، وبلغ الطاغية خبره فجهّز أسطوله وأجراه إلى
بحر الزقاق لمدافعته. وتلاقت الأساطيل ومحّص الله المسلمين واستشهد
منهم أعاد وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق وملكوه دون المسلمين
وأقبل الطاغية من إشبيلية في عساكر النصرانية حتى أناخ بها على الجزيرة
الخضراء مرفا أساطيل المسلمين وفرضة المجاز. وأمّل أن ينظمها في مملكته
مع جارتها طريف، وحشد الفعلة والصنّاع للآلات، وجمع الأيدي عليها
وطاولها الحصار. واتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة. وجاء
السلطان أبو الحجّاج بعساكر الأندلس فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل
الفتح في سبيل الممانعة. وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة
ليسرّب عليها المدد من الفرسان والمال والزرع في أحايين الفعلة من
أساطيلهم، وتحت جناح الليل، فلم يغنهم ذلك، واشتدّ عليهم الحصار
وأصابهم الجهد. وأجاز إليه السلطان أبو الحجّاج يفاوضه في شأن السلم مع
الطاغية، بعد إذن الطاغية له في الإجازة مكرا به وترصّد له بعض
الأساطيل في طريقه فصدقهم المسلمون القتال وخلصوا إلى الساحل بعد غصّ
الريق، وضاقت أحوال الجزيرة ومن كان بها من عساكر السلطان. وسألوا من
الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد فبذله وخرجوا فوفّى لهم.
وأجازوا إلى المغرب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فأنزلهم السلطان ببلاده
على خير نزل، ولقّاهم من المبرّة والكرامة ما أعاضهم ممّا فاتهم، وخلع
عليهم وحملهم وأجازهم بما تحدّث به الناس. وتقبّض على وزيره عسكر بن
تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة، مع تمكّنه منها بما كان لديه من
العساكر. وانكفأ السلطان إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده
في رجوع الكرّة وعلوّ الدين. والله متمّ نوره ولو كره الكافرون
.
(7/348)
(الخبر عن شفاعة صاحب تونس في أولاد أبي
العلاء ووصولهم الى السلطان)
كان عثمان بن أبي العلاء من أعياض آل عبد الحق، شيخ الغزاة المجاهدين
من زناتة والبربر بالأندلس. وكان له فيها مقام معلوم في حماية الثغور
ومدافعة العدوّ، وغزو دار الحرب، ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما
نستوفي أخباره. وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ بأهل الأندلس اعتذر
بمكانه بينهم. واشترط عليهم أن يمكّنوه من قياده حتى يقضي نوبة الجهاد،
فلم يسعفوه بذلك. ولمّا هلك عثمان بن أبي العلاء، قام بالأمر من بعده
في مراسم الجهاد بنوه وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم أبي ثابت
عامر. وقويت عصابتهم بالموالي والأبناء، وغلبت على يد السلطان يدهم،
واستبدّوا عليه في أكثر الأحوال، واستنكف لها، وكان ذلك مما دعاه إلى
القدوم على السلطان أبي الحسن. وارتاب بنو أبي العلاء في إجازته إليه،
واتهموه على أنفسهم، وأسعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره. فلمّا
تغلّب المسلمون عليه، وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة
ما قضى كما ذكرناه، واعتزم على القفول إلى حضرته، أجمعوا الفتك به في
طريقه. وداخلوا في ذلك مولاه ابن المعلوجي لما أسفهم به من إرهاف حدّه
والتضييق عليهم في جاههم، فبرموا وطووا على البث [1] ، حتى إذا وجدوا
من أبي العلاء صاغية إلى ذلك، خفّوا إلى إجابتها، ونذر بهم محمد بن
الأحمر فبعث عن السفن تعرضه في طريقه [2] وساحل إليهم، وتسابقوا لشأنهم
قبل فوته، فأدركوه دون حصن أصطبونة. وعتبوه فاستعتب، وأغلظوا له في
القول، وقتلوا مولاه عاصما صاحب ديوان العطاء تجنّيا عليه. ونكر ذلك
السلطان فتناولوه بالرماح قعصا وطعنا حتى أقعصوه. ورجعوا إلى المعسكر
فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي. وجاءوا بأخيه أبي الحجّاج يوسف بن
أبي الوليد، فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه. وسرّح لحينه قائده ابن
عزّون، فاستولى له على دار ملكه، وتمّ أمره وحجبه رضوان مولى أبيهم،
واستبدّ عليه، وسكن بين
__________
[1] وفي نسخة ثانية: على النث.
[2] وفي نسخة ثانية: فبعث على السفين يعترضه في طريقه.
(7/349)
جنبيه من بني أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء
دخيل، حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد، وأجاز المدد إلى ثغور
عمله بالأندلس، وعقد لابنه الأمير أبي مالك، أسرّ إليهم في شأن بني أبي
العلاء بما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط عليهم في مثلها. ووافق منه
داعية لذلك فتقبّض عليهم أبو الحجّاج وأودعهم المطبق أجمع. ثم أشخصهم
في السفين إلى مراسي إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي
يحيى. وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه فاعتقلهم، ثم أوعز إليه مع
عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته، فتوقّف عنها.
وأبى من إخفار ذمّتهم ووسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد
السلطان فيهم غير ما ظنّوا به من الشرّ. ورغب ببعثهم إليه والمبالغة في
الشفاعة فيهم، علما بأنّ شفاعته لا تردّ فأجابه لذلك، وجنبوهم إليه مع
ابن بكرون. واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتاب الشفاعة فيهم من
السلطان. وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين
وأربعين وسبعمائة فتلقّاهم بالبرّ والترحيب إكراما لشفيعهم. وأنزلهم
بمعسكره وجنّب لهم المقرّبات بالمراكب الثقيلة، وضرب لهم الفساطيط،
وأسنى لهم الخلع والجوائز وفرض لهم أعلى رتب العطاء وصاروا في جملته.
ولمّا احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة، سعى عنده فيهم بأنّ كثيرا من
المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثّب على الملك، فتقبّض عليهم
وأودعهم في السجن بمكناسة، إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنّان ما
نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(الخبر عن هدية السلطان الى المشرق وبعثه بنسخ المصحف من خطه الى
الحرمين والقدس)
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في ولاية ملوك المشرق، والكلف بالمعاهد
الشريفة تقبّله من سلفه. وضاعفه لديه متن ديانته. ولمّا قضى من أمر
تلمسان ما قضى، وتغلّب على المغرب الأوسط، وصار أهل النواحي تحت ربقة
منه، واستطال بجناح سلطانه، خاطب لحينه صاحب مصر والشام محمد بن قلاوون
الملك الناصر، وعرّفه بالفتح وارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم.
وكان فرانقه [1] في ذلك
__________
[1] الفرانق: البريد وربما سمعوا دليل الجيش فرانقا، فارسي معرب
(قاموس) .
(7/350)
فارس بن ميمون بن وردار. وعاد بجواب الكتاب
وتقرير المودّة بين السلف. وأجمع السلطان على كتب نسخة عتيقة من المصحف
الكريم بخط يده ليوقفها بالحرم الشريف قربة إلى الله تعالى، وابتغاء
للمثوبة، فانتسخها وجمع الورّاقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها، والقرّاء
لضبطها وتهذيبها حتى اكتمل شأنها، وصنع لها وعاء مؤلفا من خشب الأبنوس
والعاج والصندل فائق الصنعة وغشي بصفائح الذهب ونظم الجوهر والياقوت
واتخذ له اصونه الجلد المحكمة الصنعة وغشّي بصفائح الذهب، ونظم بالجوهر
والياقوت، واتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة، المرقوم أديمها
بخطوط الذهب من فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتّان. وأخرج من
خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القرّاء
فيها، وأوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام، خواص
مجلسه وكبار أهل دولته، مثل عريف بن يحيى أمير زغبة، والسابق المقدّم
في بساطه على كل خالصة عطيّة بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة. وبعث كاتبه
أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين وعريف الوزعة ببابه وصاحب دولته عبو بن
قاسم المزوار [1] ، واحتفل في الهدية للمزوار للسلطان صاحب مصر احتفالا
تحدّث الناس به دهرا. ووقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي
مدين هذا الرسول ووعيته وأنسيته وذكر لي بعض قهارمة الدار أنه كان فيها
خمسمائة من عتاق الخيل المقرّبات، بسروج الذهب والفضة ولجمها، خالصا
ومغشي ومموها، وخمسمائة حمل من متاع المغرب وما عونه وأسلحته، ومن نسج
الصوف المحكّم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم، وأزرا معلمة وغير معلمة.
ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملوّنا وغير ملوّن، وساذجا
ومنمّقا.
ومن الدّرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف، وتنسب
إلى اللمط.
ومن خرثيّ المغرب وما عونه وما يستظرف صناعته بالمشرق، حتى لقد كان
فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت. واعتزمت حظية من حظايا أبيه على
الحج في ركابه ذلك، فأذن لها واستبلغ في تكريمها. واستوصى بها وافده
وسلطان مصر في كتابه.
وفصلوا من تلمسان سنة [2] وأدّوا رسالتهم إلى الملك الناصر وهديتهم،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وعريف الوزعة بدولته، وصاحب الباب عبّو بن قاسم
المزوار.
[2] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين
أيدينا.
(7/351)
فتقبّلها وحسن لديه موقعها. وكان يوم
وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا، تحدّث به الناس دهرا، ولقاهم في طريقهم
أنواع البرّ والتكرمة حتى قضوا فرضهم، ووضعوا المصحف الكريم حيث أمرهم
صاحبهم. وأسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الشكل والصنعة
بالمغرب، ومن ثياب الإسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب، ورجّعهم
بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في تكريمهم ووصلتهم. وبقي حديث هذه الهديّة
مذكورا بين الناس لهذا العهد.
ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأوّل،
ووقفها على القراءة بالمدينة، وبعث بها من تخيّره لذلك العهد من أهل
دولته. سنة [1] واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة
إحدى وأربعين وسبعمائة وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل،
فخاطبه السلطان وأتحفه وعزّاه عن أبيه، وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان
الخراج أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين فقضى من وفادته ما حمل. وكان
شأنه عجبا في إظهار أبّهة سلطانه، والإنفاق على المستضعفين من الحاج في
طريقه، واتحاف رجال الدولة التركيّة بدأت يده والتعفّف عمّا في أيديهم.
ثم شرع بعد استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتاب نسخة أخرى من
المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس، فلم يقدر إتمامها، وهلك قبل فراغه
من نسخها، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن هدية السلطان الى ملك مالي من السودان المجاورين للمغرب)
كان للسلطان أبي الحسن مذهب في الفخر يتطاول به إلى مناغات الملوك
الأعاظم واقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال والأمصار [2] ، وإيفاد الرسل
على ملوك النواحي القاصية والتخوم البعيدة. وكان ملك مالي أعظم ملوك
السودان لعهده مجاورا لملكه بالمغرب على مائة مرحلة في القفر من ثغور
ممالكه القبليّة. ولمّا غلب بني عبد الواد على تلمسان وابتزّهم ملكهم،
واستولى على ممالك المغرب الأوسط، وتحدّث الناس
__________
[1] بياض بالأصل ولم نستطع تحديد هذه السنة في المراجع التي بين
أيدينا.
[2] وفي نسخة ثانية: الانظار.
(7/352)
بشأن أبي تاشفين وحصاره ومقتله، وما كان
للسلطان في ذلك من سورة التغلّب وآية العزّ وإهانة العدو وشاعت أخبار
ذلك في الآفاق. وسما سلطان مالي منسا موسى المتقدّم ذكره في أخبارهم
إلى مخاطبته. فأوفد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثّمين
المجاورين لممالكهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان في التهنئة بالغلب
والظفر بالعدو، فأكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم. ونزع إلى طريقته
في الفخر، فأتحف طرفا من متاع المغرب وماعونه من ذخيرة داره وأسناها،
وعيّن رجالا من أهل دولته، كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن
أبي مدين ومولاه عنبر الخصيّ. وأوفدهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن
منسا موسى، لمهلك أبيه قبل مرجع وفده. وأوعز إلى أعراب الفلاة من
المعقل بالسير معهم ذاهبين وجائين، فشمّر لذلك علي بن غانم أمير أولاد
جار الله من المعقل، وصحبهم في طريقهم امتثالا لأمر السلطان. وتوغّل
ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي بعد الجهد وطول المشقة، فأحسن
مبرّتهم وأعظم موصلهم وأكرم وفادتهم ومنقلبهم. وعادوا إلى مرسلهم في
وفد من كبار مالي يعظّمون سلطانه، ويوجبون حقّه، ويؤدّون طاعته من خضوع
مرسلهم وقيامه بحق السلطان واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به، فأدّوا
رسالتهم وبلغ السلطان أربا من اعتزازه على الملوك وخضوعهم لسلطانه،
وقضاء حقّ الشكر للَّه في صنعه.
(الخبر عن اصهار السلطان الى صاحب تونس)
لما هلكت ابنة السلطان أبي يحيى بطريف فيمن هلك من حظايا السلطان أبي
الحسن بفساطيطه، بقي في نفسه منها شيء حنينا إلى ما شغفته به من خلالها
وعزة سلطانها، وقيامها على بيتها، وظفرها في تصريفها [1] ، والاستمتاع
بأصول الترف ولذاذة العيش في عشيرتها، فسما أمله إلى الاعتياض عنها
ببعض أخواتها. وأوفد في خطبتها وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة، وكاتب
الجباية والعساكر بدولته أبا الفضل ابن عبد الله بن أبي مدين، وفقيه
الفتوى بمجلسه أبا عبد الله محمد بن سليمان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تصرفاتها. ابن خلدون م 23 ج 7
(7/353)
السطي، ومولاه عنبر الخصّي، فوفدوا يوم
مثنى من سنة ست وأربعين وسبعمائة وأنزلوا منزل البرّ، واستبلغ في
تكريمهم ودسّ الحاجب أبو عبد الله بن تافراكين إلى سلطانه غرض وفادتهم،
فأبى من ذلك صونا لحرمة عن جولة الأقطار وتحكّم الرجال، واستعظاما لمثل
هذا العرس. ولم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن ويعظّم عليه
حقّ السلطان أبي الحسن في ردّ خطبته مع الأذمّة السابقة بينهما من
الصهر والمخالصة إلى أن أجاب وأسعف. وجعل ذلك إليه فانعقد الصهر بينهما
وأخذ الحاجب في شوار العروس، وتأنق فيه واحتفل واستكثر وطال ثواء الرسل
إلى أن استكمل وارتحلوا من تونس لربيع من سنة تسع [1] وأربعين وسبعمائة
وأوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة وشقيق هذا
العروس أن يزفّها على السلطان أبي الحسن قياما بحقّه، وبعث من بابه
مشيخة من الموحدين مقدّمهم عبد الواحد بن محمد بن أكمازير، صحبوا
ركابها إليه. ووفدوا جميعا على السلطان واتصل الخبر أثناء طريقهم بمهلك
مولانا السلطان أبي يحيى عفا الله عنه، فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه
عند ما وصلوا إليه، واستبلغ في تكريمهم وأجمل موعد أخيها الفضل بسلطانه
ومظاهرته على تراث أبيه فاطمأنت به الدار الى أن سار في جملة السلطان
وتحت ألويته إلى إفريقية كما نذكر إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن حركة السلطان الى إفريقية واستيلائه عليها)
كان السلطان أبو الحسن قد امتدّت عينه إلى ملك إفريقية لولا مكان
السلطان أبي يحيى من ولايته وصهره، وأقام يتحيّن لها الأوقات، ولمّا
بعث إليه في الصهر وأشيع بتلمسان أن الموحدين ردّوا خطبته، نهض من
المنصورة بتلمسان وأغذّ السير إلى فاس ففتح ديوان العطاء، وأزاح علل
العسكر، وعقد على المغرب الأقصى لحافده منصور ابن الأمير أبي مالك،
وفوّض إلى الحسن بن سليمان بن يرزيكن في أحكام الشرطة، وعقد له على
الضاحية، وارتحل إلى تلمسان مضمرا الحركة إلى إفريقية حتى إذا جاء
الخبر اليقين بالإسعاف والزفاف سكن عزمه [2] وهدأ طائره. فلمّا هلك
السلطان أبو
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سنة سبع.
[2] وفي نسخة ثانية: سكن غربة.
(7/354)
يحيى في رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة،
وكان من قيام ابنه عمر بالأمر، ونزوع الحاجب أبي محمد بن تافراكين في
رمضان منها ما ذكرناه، تحرّكت عزائم السلطان لذلك. ورغبه ابن تافراكين
في ملك الموحّدين، فرغب وجاء على أثره الخبر بما كان من قتل عمر لأخيه
أحمد وليّ العهد، وكان يستظهر على عهده بكتاب أبيه، وما أودعه السلطان
بحاشيته من الوفاق على ذلك بخطه، واقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عتّو
في سفارته إليه، فامتعض السلطان لما أضاع عمر من عهد أبيه، وهدر من دم
أخيه. وارتكب مذاهب العقوق فيهم، وخرق السباج الّذي فرضه بخطّه عليهم،
فأجمع الحركة إلى إفريقية ولحق به خالد بن حمزة بن عمر نازعا إليه
ومستغذّا مسيره، ففتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالمسير إلى
إفريقية، وأزاح عللهم. وكان صاحب بجاية المولى أبو عبد الله حافد
مولانا الأمير أبي يحيى، وفد على السلطان أبي الحسن إثر مهلك جدّه بقرب
المآب [1] بسفارة أبيه إليه، ويطلب الإقرار على عمله. فلما استيأس منه
واستيقن حركته بنفسه إلى إفريقية، طلب الرجوع إلى مكانه فأسعف وفصل إلى
بجاية.
ولما قضى السلطان منسك الأضحى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد لابنه
الأمير أبي عنّان على المغرب الأوسط، وعهد إليه بالنظر في أموره كافة،
وجعل إليه جبايته، وارتحل يريد إفريقية. وسار في جملته هو وخالد بن
حمزة أمير البدو. ولما احتلّ بوهران ووافاه هنالك وفد قسطيلة وبلاد
الجريد، يقدمهم أحمد بن مكي أمير حربه [2] ورديف أخيه عبد الملك في
إمارته، ويحيى بن محمد بن يملول أمير توزر سقط إليها بعد خروج الأمير
أبي عمر العبّاس ولي العهد عنها، ومهلكه بتونس، وأحمد بن عامر بن
العابد رئيس نفطة، رجعا إليهما كذلك بعد مهلك وليّ العهد، فلقيه هؤلاء
الرؤساء بوهران في ملإ من وجوه بلادهم، فآتوه بيعتهم وقضوا حق طاعته.
وتثاقل محمد بن ثابت أمير طرابلس عن اللحاق به، فبعث بيعته معهم، فأكرم
وفدهم وعقد لهم على أمصارهم، وصرفهم إلى أعمالهم. وتمسّك بأحمد بن مكي
لصحابة ركابه، وفي جملته، وأغذّ السير. ولما احتل ببني حسن من أعمال
بجاية، وافاه بها منصور بن فضل بن مزني أمير بسكرة وبلاد الزاب في وفد
من أهل
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي النسخة المصرية: المتات وفي نسخة
ثانية: المتاب وفي أخرى المناب.
[2] وفي نسخة أخرى: أمير جربة.
(7/355)
وطنه، ويعقوب بن علي بن أحمد سيّد الزواودة
وأمير البدو بضاحية بجاية وقسنطينة، فتلقّاهم بالمبرّة والاحتفاء
وألزمهم ساقته. وسرّح بين يديه قائده حمو بن يحيى العسكري [1] من صنائع
أبيه، فلمّا عسكر بساحة بجاية أبو عبد الله وأبي عليه أهل البلد رهبة
من السلطان ورغبة فيه، وانفضّوا من حوله، ولحقت مشيختهم من القضاة وأهل
الفتيا والشورى بمجلس السلطان. وسابقهم إليه حاجبه فارح مولى ابن سيد
الناس، فأدّى طاعته ورجّعه إليه للخروج للقاء ركابه. وارتحل حتى إذا
أطلّت راياته على البلد، بادر المولى أبو عبد الله ولقيه بساحة البلد،
واعتذر من تخلّفه فتقبّل عذره وأحله من البرّ والتكرمة محل الولد
العزيز. وأقطعه عمل كومية من نواحي هنين، وأسنى جرايته بتلمسان وأصحبه
إلى ابنه أبي عنّان صاحب المغرب الأوسط واستوصاه به. ودخل بجاية فرفع
عنهم الظلامات وحطّ عنهم الربع من المغارم. ونظر في أحوال ثغورها
فثقفها وسدّ فروجها. وعقد عليها لمحمد بن النوار [2] من طبقة الوزراء
والمرشحين لها، وأنزل معه حامية من بني مرين. وكاتب الخراج ببابه بركات
بن حسّون بن البوّاق، وارتحل مغذّا لسيرة حتى احتل بقسطينة. وتلقّاه
أميرها أبو زيد حافد مولانا السلطان أبي يحيى وأخواه أبو العبّاس أحمد
وأبو يحيى زكريا وسائر إخوتهم، فأتوه ببيعتهم ونزلوا له عن عملهم.
وأدالهم السلطان منه بندرومة من عمل تلمسان، عقد للمولى أبي زيد على
إمارتها، وجعل له إسوة إخوته في أقطاع جبايتها، ودخل البلد وعقد عليها
لمحمد بن العبّاس، وانزل معه العبّاس بن عمر في قومه من بني عسكر.
وأمضى أقطاعات الزواودة ووافاه هنالك عمر بن حمزة سيّد الكعوب لعهده
وأمير البدو مستحثا لركابه. وأخبره برحيل السلطان عمر ابن مولانا
السلطان أبي يحيى من تونس فيمن اجتمع إليه من أولاد مهلهل أقتالهم من
الكعوب موجها إلى ناحية قابس. وأشار على السلطان بتسريح العساكر
لاعتراضه قبل أن يخلص إلى طرابلس، فسرّح معه حمّو بن يحيى العسكري
قائده في عسكر من بني مرين والجند. وارتحلوا في اتباع السلطان أبي حفص،
وتلوّم السلطان أبو الحسن بقسنطينة، واعترض عساكره بسطح الجعاب منها.
وصرف يوسف بن مزني إلى عمله بالزاب، بعد أن خلع عليه وحمله.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: العشري.
[2] وفي نسخة ثانية: بن الثوار.
(7/356)
ثم عقد للمولى الفضل ابن مولانا السلطان
أبي يحيى على مكان عمله ببونة، وملأ حقائبه جائزة وخلعا نفيسة وسرّحه،
ثم ارتحل على أثرهم وأوعز حمّو بن يحيى مع الناجعة من أولاد أبي الليل،
ولحقوا بالأمير أبي حفص بمباركة من ناحية قابس، فأوقعوا به وتردّى عن
فرسه في حومة القتال هو ومولاه ظافر السنان القائم بدولته من المعلوجي،
فتقبّض عليهما وسيقا إلى أبي حمّو فاعتقلهما إلى الليل، ثم ذبحهما
وأنفذ برءوسهما إلى السلطان. ولحق الفلّ بقابس، فتقبّض عبد الملك بن
مكي على أبي القاسم بن عتّو صاحب الأمير أبي حفص وشيخ الموحدين، وعلى
صخر بن موسى شيخ بني سكين من سدويكش فيمن تقبّض عليه من ذلك الفلّ،
وأشخصهم مقرنين في الأصفاد إلى السلطان. وسرّح السلطان عساكره إلى
تونس، وعقد عليهم ليحيى بن سليمان صهره من بني عسكر على ابنته، وأنفذ
معه أحمد بن مكي فاحتلوا بتونس، واستولوا عليها. وانطلق ابن مكي إلى
مكان عمله من هنالك لما عقد له السلطان عليه وسرّحه إليه بعد أن خلع
عليه وعلى حاشيته وحمّلهم. ونزل السلطان بناحية باجة، فوافاه هنالك
البريد برأس الأمير أبي حفص. وعظم الفتح.
ثم ارتحل إلى تونس واحتلّ بها يوم الأربعاء الثامن لجمادى الآخرة من
سنة ثمان.
وتلقّاه وفد تونس وملؤها من شيوخ الشورى وأرباب الفتيا، فآتوا طاعتهم
وانقلبوا مسرورين بملكتهم. ثم عبّى يوم السبت إلى دخولها مواكبه، وصفّ
جنوده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد يناهز ثلاثة أميال أو
أربعة. وركب بنو مرين إلى مراكزهم في جموعهم وتحت راياتهم. وركب
السلطان من فسطاطه وراكبه من على يمينه وليّه عريف بن يحيى أمير زغبة،
ويليه أبو محمد عبد الله بن تافراكين ومن على يساره الأمير أبو عبد
الله محمد أخو مولانا السلطان أبي يحيى، ويليه الأمير أبو عبد الله ابن
أخيه خالد، كانا معتقلين بقسنطينة مع ولدهما منذ خروج أخيه الأمير أبي
فارس فأطلقهم السلطان أبو الحسن وصحبوه إلى تونس، فكانوا طرازا في ذلك
الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين وكبرائهم. وهدرت طبوله، وخفقت
راياته، وكانت يومئذ مائة. وجاء والمواكب تجتمع عليه صفّا صفّا إلى أن
وصل إلى البلد، وقد ماجت الأرض بالجيوش، وكان يوما لم ير مثله فيما
عقلناه. ودخل السلطان إلى القصر وخلع على أبي محمد بن تافراكين كسوته
وقرّب إليه فرسه بسرجه ولجامه.
وطعم الناس بين يديه وانتشروا. ودخل السلطان مع أبي محمد بن تافراكين
إلى حجر
(7/357)
القصر ومساكن الخلفاء، فطاف عليها ودخل منه
إلى الرياض المتصلة به المدعوّة برأس الطابية، فطاف على بساتينه
وجوائزه، وأفضى منه إلى معسكره وأنزل يحيى ابن سليمان بقصبة تونس في
عسكر لحمايتها. ووصل إليه فلّ الأمير أبي حفص والأسرى بقابس مقرنين في
أصفادهم، فأودعهم السجن بعد أن قطع أبا القاسم بن عتّو وصخر بن موسى من
خلاف، لفتيا الفقهاء بحرابتهم [1] . وارتحل من الغد إلى القيروان فجال
في نواحيها. ووقف على آثار الأوّلين ومصانع الأقدمين والطلول الماثلة
لصنهاجة والعبيديين، وزار أجداث العلماء والصالحين.
ثم سار إلى المهديّة ووقف على ساحل البحر، ونظر في عاقبة الذين كانوا
من قبل أشدّ قوّة وآثارا في الأرض، واعتبر بأحوالهم. ومرّ في طريقه
بقصر الأجم ورباط المنستير، وانكفأ راجعا إلى تونس، واحتل بها غرّة
رمضان وأنزل المسالح على ثغور إفريقية، وأقطع بني مرين البلاد
والضواحي، وأمضى أقطاعات الموحّدين للعرب. واستعمل على الجهات وسكن
القصر وقد عظم الفتح وعظمت في الاستيلاء على الممالك والدول المنّة.
واتصلت ممالكه ما بين مسراته والسوس الأقصى من هذه العدوة، وإلى رندة
من عدوة الأندلس. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده، والعاقبة
للمتقين ودفع إليه الشعراء بتونس يهنّئونه بالفتح، وكان سابقهم في تلك
النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب فرفع إليه قوله:
أجابك شرق إذ دعوت ومغرب ... فمكّة هشّت للّقاء ويثرب
وناداك مصر والعراق وشامه ... بدارا، فصدع الدين عندك يشعب
وحيّتك أو كادت تحيّى منابر ... عليها دعاة الحقّ باسمك تخطب
فسارع منّا كلّ دان وشاسع ... إلى طاعة من طاعة الله تحسب
وتاقت لك الأرواح حبّا ورغبة ... وأنت على الآمال تنأى وتقرب
ففي البلدة البيضاء معشر ... وأنت بأفق الناصريّة ترقب
ووافتك من ذات النخيل وفودها ... فلقاهم أهل لديك ومرحب
ولم تتلكّأ عن إباء بجاية ... ولكنّ تراض الصعب حينا وتركب
تأبّت فلمّا أن أطلّت عساكر ... ترى الشهب منها تستباح وتنهب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بجرايتهم.
(7/358)
تبادر منهم مذعن ومسلم ... وأذعن منهم شاغب
ومؤلّب
وما تونس إلّا بمصر مروع ... وفي حرم أمست لديك تسرّب
وما أهلها إلا بغاث لصائد ... وبالعزّ منها استنصروا وتعقّبوا
وقد كنت قبل اليوم كهف زعيمهم ... فها أنت كهف للجميع ومهرب
فكل يرى أنّ الزمان أداله ... بكم فأجاب العيش والعيش مخصب
وكذلك ابن طائع وإن اعتلت ... به السنّ أحوالا وأنت له أب
وما ذاك إلا أن عدلك ينتمي ... إلى الخلفاء الراشدين وينسب
تساميت في ملك ونسك بحظة ... حذيّاك محراب لديها ومركب
إذا لذّ للأملاك خمر مدامة ... فلذّ لك القرآن يتلى ويكتب
وإن أد من القوم الصبوح فإنّما ... على ركعات بالضحى أنت تدأب
وإن حمدوا الشرب الغبوق فإنّما ... شرابك بالإمساء ذكر مرتّب
وإن خشنت أخلاقهم وتحجّبوا ... فما أنت فظّ بل، ولا متحجّب [1]
لقد كرمت منك السجايا فأصبحت ... إذا ما أمرّ الدهر تحلو وتعذب
كما شيّدت بيتا في ذؤابة معشر ... يزيدهم قحطان فخرا ويغرب
هم التاركو قلب القساور خضّعا ... وعن شأوهم كفّت عبيد وأغلب
هم الناس والأملاك تحت جوارهم ... هم العظم الأرض العظيمة مغرب [2]
هم المالكو الملك العظيم فبيتهم [3] ... على كاهل السبع الشداد مطنّب
لقد أصبحت بغداد تحسد بأسهم ... وحلة ودّت أن تكون مناسب [4]
تجلّت ببيت [5] المجد منهم كواكب ... لقد حلّ منها شارق ومغرّب
فاللَّه منهم ثلّة بغريبة [6] ... يروم بناها الأعجميّ فيعرب
لقد قام عبد الحقّ للحقّ طالبا ... فما فاته منه الّذي قام يطلب
وأعقب يعقوبا يؤم سبيله ... فلم يخطه وهو السبيل المنجب [7]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فما أنت فظ لا ولا متحجب.
[2] وفي نسخة ثانية: تغرب.
[3] وفي نسخة ثانية: ودستهم.
[4] وفي نسخة ثانية: ودجلة ودّت ان يكون بها سب.
[5] وفي نسخة ثانية: تحلت سماء.
[6] وفي نسخة ثانية: «ثلّة يعربية يروم ثباها» .
[7] وفي نسخة ثانية: الملحّب.
(7/359)
وخلّف عثمانا فلله صارم ... به بان للإسلام
شرع ومذهب
فكم في سبيل الله شنّ إغارة ... لما شاد أهل الكفر أمست تخرّب
ولمّا أراد الله إتمام منّة ... تقلّدها منّا مطيع ومذنب
أتى بك للدين الحنيفيّ آية ... تعرّى بها عن لامع الحقّ غيهب
فجئت بما يرضى به الله سالكا ... سبيلا إلى رضوانه بك يذهب
وقمت بأمر الله حقّ قيامه ... يناضل عنه منك نضل مدرّب
وأصبح أهل الله أهلا وشيعة ... لكم ولهم منكم مكان ومنصب
وحلّ بأهل الفتك ما حلّ عزمهم ... وقام لديهم واعظ مترقّب [1]
وجاهدت في الرحمن حقّ جهاده ... فراهب أهل الكفر بأسك يرهب
وأنقذت من أيدي الإغارة أمّة ... وأولى جهاد كان بل هو أوجب
فأصبحت الدنيا عروسا يزفّها ... لأمرك من جاري المقادير [2] مغرب
فلا مصر إلا قد تمنّاك أهله ... ولا أرض إلّا باذّكارك تخصب
وما الأرض إلّا منزل أنت ربّه ... وما حلّها إلّا الودود المرجّب
تملّكت شطر الأرض كسبا وشطرها ... وراثا [3] فطاب الكلّ إرثا ومكسب [3]
بجيش على الألواح والماء يمتطي ... وجيش على الضمر السوابق يركب
وجيش من الإحسان والعدل والتقى ... وذلك لعمر الله أغلى وأغلب
فلا مركب إلا يزيّن راكبا ... ولا راكب إلّا به ازدان مركب
ولا رمح إلّا وهو أهيف خاطر ... ولا سيف إلّا وهو أبيض فأضب [4]
فكم كاتب خطّيّه ودواته ... ولم يقر خطا يغتدى وهو يكتب [5]
يمرّ على الأبطال وهو كأنّه ... هزبر وأبطال الفوارس ربرب
وكم كاتب لا ينكر الطعن رمحه ... خبير بأيام الأعاريب معرب
له من عجيب السّحر بالقول أضرب ... وفي هامة القوم المضارب مضرب
فها هو في الأقوال واش محبّر ... وها هو في الأمثال ثاو مجرّب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومثّوب.
[2] وفي نسخة ثانية: التقادير.
[3] وفي نسخة ثانية: تراثا فطاب الملك إرثا ومكسب.
[4] وفي نسخة ثانية: مقضب.
[5] ولم يقر خطا لا، ولا هو يكتب.
(7/360)
ومن ساحب بردا من العلم والتقى ... عليه
ذيول الداوديّة تسحب
له صبغة في العلم جاءت بأصبغ ... وشهبان فهم لم يشمهنّ أشهب
فيا عسكرا قد ضمّ أعلام عالم ... به طاب في الدنيا لنا متقلّب
هم الفئة العلياء والمعشر الّذي ... إذا حلّ شعبا [1] فهو للحق مشعب
لك الفضل في الدنيا على كل قاطن ... ومرتحل أنّى يجيء ويذهب
ويا مالكا [2] عدلا رضى متورّعا ... مناقبه العلياء تتلى وتكتب
شرعت من الإحسان فينا شريعة ... تساوى بهاناء ومن يتقرّب
وأسميت أهل النسك إذ كنت منهم ... فمنك أخو التقوى قريب مقرّب
وأعليت قدر العلم إذ كنت عالما ... فقيها وفي طلّابه لك مأرب
فمدحك محتوم على كلّ قائل ... ومن ذا الّذي يحصي الرمال ويحسب
فلله كم تعطي وتمطي وتجتبي ... فللبحر من كفيك قد صحّ منسب
فلا برحت كفّاك في الأرض مزنة ... يطيب بها للخلق مرعى ومشرب
ولا زلت في علياء مجدك راقيا ... وشانئك المدحوض ينكى وينكب
توافي على أقصى أمانيك آمنا ... فلا برّ يستعصى ولا يتعصّب
الخبر عن واقعة العرب مع السلطان أبي الحسن
بالقيروان وما تخللها من الأحداث
كان هؤلاء الكعوب من بني سليم رؤساء البدو بإفريقية، وكان لهم اعتزاز
على الدولة لا يعرفون غيره مذ أوّلها بل وما قبله، إذ كان سليم هؤلاء
منذ تغلّب العرب من مضر على الدول والممالك أوّل الإسلام انتبذوا إلى
الضواحي والقفار، وأعطوا من صدقاتهم عن عزّة، وارتاب الخلفاء بهم لذلك
حتى لقد أوصى المنصور ابنه المهدي أن لا يستعين بأحد منهم كما ذكر
الطبري. فلما انثالت الدولة العبّاسية واستبدّ الموالي من العجم عليهم،
اعتز بنو سليم هؤلاء بالقفر من أرض نجد، وأجلبوا على الحاج بالحرمين،
ونالتهم منهم معرّات، ولما انقسم ملك الإسلام بين العبّاسية والشيعة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: صعبا.
[2] وفي نسخة ثانية: يا ملكا.
(7/361)
واختطّوا القاهرة، نفقت لهم أسواق الفتنة
والتعزز، وساموا الدولتين بالهضيمة وقطع السابلة. ثم أغراهم العبيديّون
بالمغرب وأجازوا إلى برقة على أثر الهلاليّين فخرّبوا عمرانها وأجروا
في خلائها، حتى إذا خرج ابن غانية على الموحّدين وانتزى بالثغور
الشرقيّة طرابلس وقابس، واجتمع معه قراقش الغزيّ مولى بني أيوب ملوك
مصر والشام، وانضاف إليهم أفاريق العرب من بني سليم هؤلاء وغيرهم،
أجلبوا معه على الضواحي والأمصار، وصاروا في جملتهم من ناعق فتنتهم.
ولمّا هلك قراقش وابن غانية واستبدّ آل أبي حفص بإفريقية وأعزّ
الزواودة على الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص، استظهر
عليهم ببني سليم هؤلاء، وزاحمهم بظواعنهم وأقطعهم بإفريقية ونقلهم عن
مجالاتهم بطرابلس وأنزلهم بالقيروان، فكان لهم من الدولة مكان وعليها
اعتزاز، ولما افترق سلطان بني أبي حفص، واستبدّ الكعوب برياسة البدو،
وضربوا بين أعياصها وسعوا في شقاقها، وأصابت منهم وأصابوا منها، وكان
بين مولانا الأمير أبي يحيى وبين حمزة بن عمر أخي الأمير منازعة وفتن
وحرب سجال أعانه عليها ما كان من زحف بني عبد الواد إلى إفريقية وطمعهم
في تملّك ثغورها، فكان يستجرّ جيوشهم لذلك، وينصب الأعياص من بني أبي
حفص يزاحم بهم، ثم غلبه مولانا السلطان أبو بكر آخرا واستجرّه إلى
الطاعة ما كان من قطع كلمة الزبون [1] عن مولانا السلطان أبي يحيى،
وهلاك عدوّه من آل يغمراسن، بسيف وليّه وظهيره السلطان أبي الحسن،
فأذعن وسكن غرب اعتزازه. وحمل بني سليم على إعطاء صدقاتهم، فأعطوها
بالكراهة. ثم هلك باغتيال الدولة له فيما يزعمون، وقام بالأمر بنوه ولم
يعرفوا عواقب الأمور ولا أبلوا باعتساف الدولة، ولم يعهدوا ولا سمعوا
لسلفهم غير الاعتزاز فحدّثتهم أنفسهم بالفتنة والاعتزاز على قائد
الدولة. وحاربوه فغلبوه، وأجلبوا على السلطان في ملكه، ونازلوه بعقر
داره سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ولما سامهم الأمير ابن مولانا
السلطان أبي يحيى الهضيمة بعد مهلك أبيه، نزعوا إلى أخيه وليّ العهد،
فجاء إلى تونس وملكها سبعا. ثم اقتحم عليه أخوه الأمير أبو حفص فقتله.
وتقبّض يوم اقتحامه البلد
__________
[1] الزبن: دفع الشيء عن الشيء، وجرب زبون. تزين الناس، أي تصدعهم
وتدفعهم، على التشبيه بالناقة التي تزبن ولدها عن ضرعها وتزبن الحالب
أي تدفعه بثفناتها وقال الجوهري: أما الزبون للغبي والحريف فليس من
كلام أهل البادية (لسان العرب) .
(7/362)
على أبي الهول بن حمزة أخيهم، فقتله صبرا
بباب داره بالقصبة، فأسفهم بها.
ونزعوا الى السلطان أبي الحسن ورغّبوه في ملك إفريقية واستعدّوه إليها.
ولما تغلب السلطان على الوطن وكانت حاله في الاعتزاز على من في طاعته
غير حال الموحدين وملكته للبدو غير ملكتهم، وحين رأى اعتزازهم على
الدولة وكثرة ما أقطعتهم من الضواحي والأمصار، نكره وأدالهم من الأمصار
التي أقطعهم الموحدون بأعطيات فرضها لهم في الديوان. واستكثر جبايتهم،
فنقصهم الكثير منها وشكا إليه الرعيّة من البدو وما ينالونهم به من
الظلامات والجور بفرض الاتاوة التي يسمونها الخفارة، فقبض أيديهم عنها
وأوعز إلى الرعايا بمنعهم منها، فارتابوا لذلك، وفسدت نياتهم وثقلت
وطأة الدولة عليهم فترصّدوا لها. وتسامع ذؤبانهم وبواديهم بذلك،
فأغاروا على قياطين [1] بني مرين ومسالحهم بثغور إفريقية وفروجها،
واستاقوا أموالهم، وكثر شاكيهم [2] وأظلم الجو منهم بينهم وبين السلطان
والدولة.
ووفد عليه بتونس بعد مرجعه من المهديّة وفد من مشيختهم، كان فيهم خالد
بن حمزة مستحبة [3] إلى إفريقية، وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن
مسكين، وابن عمه خليفة بن بو زيد من أولاد القوس، فأنزلهم السلطان
وأكرمهم.
ثم رفع إليه الأمير عبد الرحمن ابن السلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني
كان في جملته، وكان من خبره أنه رجع من المشرق بعد مهلك أبيه بمصر كما
قدّمناه سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فدعا لنفسه بجهات طرابلس. وتابعه
أعراب ذباب، وبايع له عبد الملك بن مكي صاحب قابس. ونهض معه إلى تونس
في غيبة السلطان لتخريب تامزيزدكت كما ذكرناه، فملكها أياما وأحس بمرجع
السلطان فأجفل عنها. ولحق عبد الواحد بن اللحياني إلى تلمسان، إلى أن
دلف إليها السلطان أبو الحسن بعساكره، ففارقهم وخرج إليه، فأحلّه محل
التّكرمة والمبرة واستقرّ في جملته إلى أن ملك تونس. ورفع إليه عند
مقدم هذا الوفد أنّهم دسّوا إليه مع بعض حشمه، وطلبوه في الخروج معهم
لينصّبوه للأمر بإفريقية وتبرّأ إلى السلطان من
__________
[1] القيطون: المخدع، أعجمي، وقيل: بلغة أهل مصر وبربر: قال ابن بري:
القيطون بيت في بيت (لسان العرب) .
[2] وفي نسخة ثانية: كثر شكاتهم.
[3] كذا في النسخة الباريسية ولا معنى لها هنا وفي نسخة ثانية: مستحثه.
(7/363)
ذلك، فأحضروا بالقصر ووبخهم الحاجب علال بن
محمد بن المصمود، وأمر بهم، فسحبوا إلى السجن.
وفتح السلطان ديوان العطاء وعسكر بسيجوم من ساحة البلد بعد قضائه منسك
الفطر من سنته. وبعث في المسالح والعساكر فتوافت إليه واتصل الخبر
بأولاد أبي اليل وأولاد القوس باعتقال وفدهم وعسكرة السلطان لهم، فضاقت
عليهم الأرض بما رحبت وتعاقدوا على الموت، وبعثوا إلى أقتالهم أولاد
مهلهل بن قاسم بن أحمد.
وكانوا بعد مهلك سلطانهم أبي حفص قد لحقوا بالقفر وانتبذوا عن إفريقية
فرارا من مطالبة السلطان بما كانوا شيعة لعدوّهم. فأغذّ السير إليهم
أبو الليل بن حمزة متطارحا عليهم بنفسه في الاجتماع على الخروج على
السلطان، فأجابوه وارتحلوا معه. وتوافت أحياء بني كعب وحكيم جميعا
بتوزر من بلاد الجريد، فهدروا الدماء بينهم وتدامروا وتبايعوا على
الموت، والتمسوا من أعياص الملك من ينصبونه للأمر، فدلّهم بعض سماسرة
الفتن على رجل من أعقاب أبي دبّوس فريسة بني مرين من خلفاء بني عبد
المؤمن بمراكش، عند ما استولى عليها. وكان من خبره أنّ أباه عثمان بن
إدريس بن أبي دبّوس لحق بمهلك أبيه بالأندلس، وصحب هنالك مرغم بن صابر
شيخ بني ذباب وهو أسير ببرشلونة. فلما انطلق من أسره صحبه إلى وطن ذباب
بعد أن عقد قمص برشلونة بينهما حلفا، وأمدّهما بأسطول على مال التزماه
له. ونزل بضواحي طرابلس وجبال البربر بها، ودعا لنفسه هنالك وقام
بدعوته كافة العرب من ذباب، وقاتل طرابلس، فامتنعت عليه. ثم بايعه أحمد
بن أبي الليل شيخ الكعوب بإفريقية، وأجلب به على تونس، فلم يتم أمره
لرسوخ دعوة الحفصيّين بإفريقية وانقطاع أمر بني عبد المؤمن منها،
وآثارهم منذ الأحوال العديدة والآماد المتقادمة فنسي أمرهم.
وهلك عثمان بن إدريس هذا بجربة، ثم ابنه عبد السلام بعده، وترك من
الولد ثلاثة: أصغرهم أحمد، وكان صناع اليدين. ولحقوا بتونس بعد ما
طوّحت بهم طوائح الاغتراب، وظنّوا أن قد تنوسي شأن أبيهم، فتقبّض عليهم
مولانا السلطان أبو يحيى وأودعهم السجن إلى أن غرّبهم إلى الاسكندرية
سنة أربع وأربعين وسبعمائة ورجع أحمد إلى إفريقية، واحتل بتوزر محترفا
بالخياطة يتعيّش منها، فاستدعاه بنو كعب هؤلاء حين اتفقت أهواؤهم ومن
اتبعهم من أحلافهم أولاد القوس، وسائر
(7/364)
شعوب علاق. وخرج إليهم من توزر فنصّبوه
للأمر وجمعوا له شيئا. من الفساطيط والآلة والكسوة الفاخرة والمقربات.
وأقاموا له رسم السلطان، وعسكروا عليه بحللهم وقياطينهم، وارتحلوا
لمناجزة السلطان، ولما قضى منسك الأضحى من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة
ارتحل من ساحة تونس يريدهم، فوافاهم في الفرح بين بسيط تونس وبسيط
القيروان المسمى بالثنيّة، فأجفلوا أمامه وصدقوه القتال منهزمين، وهو
في اتباعهم إلى أن احتلّ بالقيروان، ورأوا أن لا ملجأ منه، فتذامروا
واتفقوا على الاستماتة، ودسّ إليهم من عسكر السلطان بنو عبد الواد
ومغراوة وبنو توجين فغلبوا بني مرين، ووعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم
ليتحيّزوا إليهم براياتهم، وصبحوا معسكر السلطان، وركب إليهم في الآلة
والتعبية، فاختلّ المصاف، وتحيّز إليهم الكثير، ونجا السلطان إلى
القيروان فدخلها في الفلّ من عساكره ثامن المحرم سنة تسع وأربعين
وسبعمائة، وتدافعت ساقات العرب في أثره وتسابقوا إلى المعسكر، فانتهبوه
ودخلوا فسطاط السلطان، فاستولوا على ذخيرته والكثير من حرمه، وأحاطوا
بالقيروان، وأحاطت [1] حللهم بها سياجا، وتعاوت ذئابهم بأطراف البقاع،
وأجلب ناعق الفتنة من كل مكان. وبلغ الخبر إلى تونس فاستحصن بالقصبة
أولياء السلطان وحرمه، ونزع ابن تافراكين من جملة السلطان بالقيروان
إليهم، فعقدوا له على حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس ودفعوه إلى
محاربة من كان بالقصبة بتونس، وأغذّ إليها السير واجتمع إليه أشياخ
الموحّدين وزعانف الغوغاء والجند، وأحاطوا بالقصبة، وعاودها [2]
القتال، ونصب المنجنيق لحصارها. ووصل سلطانه أحمد على أثره، فامتنعت
عليهم، ولم يغنوا فيها غناء، وافترق أمر الكعوب وخالف بعضهم بعضا إلى
السلطان، وتساقطوا إليه، فتنفّس مخنق الحصار عن القيروان، واختلفت إليه
رسل أولاد مهلهل، وأحسن بهم أولاد أبي الليل بن حمزة بنفسه، وعاهد
السلطان على الإفراج، ولم يفوا بعهده. وداخل السلطان أولاد مهلهل في
الخروج إلى سوسة، فعاهدوه على ذلك. وأوعز أسطوله بمرساها وخرج معهم
ليلا على تعبية، فلحق بسوسة وبلغ الخبر إلى ابن تافراكين بمكانه من
حصار القصبة، فركب السفين ليلا إلى الإسكندرية. وارتاب سلطانهم ابن أبي
دبّوس، لما وقف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأحدقت.
[2] وفي نسخة ثانية: وغاداها.
(7/365)
على خبره فانفضّ جمعهم وأفرجوا عن القصبة.
وركب السلطان أسطوله من سوسة، ونزل بتونس آخر جمادى واعتمل في إصلاح
أسوارها وإدارة الخندق عليها، وأقام لها من الامتناع والتحصين رسما ثبت
له من بعده، ودفع به في نحر عدوّه.
واستقلّ من نكبة القيروان وعثرتها، وخلص من هوّتها والله يفعل ما يشاء.
ولحق أولاد أبي الليل وسلطانهم أحمد بن أبي دبّوس بتونس، فأحاطوا
بالسلطان واستبلغوا في حصاره، وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان، فعوّل
عليهم ثم راجع بنو حمزة رأيهم في طاعة السلطان فدخل كبيرهم عمر إليه في
شعبان، وتقبّضوا على سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس وقادوه إلى السلطان
استبلاغا في الطاعة، وامحاضا للولاية فتقبّل فيئتهم، وأودع ابن أبي
دبّوس السجن، وأصهر إلى عمر بابنه أبي الفضل، فعقد له على بنته،
واختلفت أحوالهم في الطاعة والانحراف إلى أن كان ما نذكر. والله غالب
على أمره.
(الخبر عن انتقاض الثغور الغربية ورجوعها
إلى دعوة الموحدين)
كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، لمّا قدم على السلطان
أبي الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين وسبعمائة بعد ما
اتصل به في طريقه مهلك أبيه، أوسع له السلطان كنفه، ومهّد له جانب
كرامته وبرّه، وغمز له بوعد في المظاهرة على ملك أبيه تعزى به عن فقده.
وارتحل السلطان إلى إفريقية. والمولى الفضل يرجو أن يجعل سلطانها إليه،
حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطينة، وارتحل إلى تونس،
عقد له على مكان إمارته أيام أبيه ببونة، فصرفه إليه، فانقطع أمله وفسد
ضميره وطوى على البث [1] حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان، سما إلى
التوثّب على ملك سلفه. وكان أهل قسنطينة وبجاية قد برموا من الدولة،
واستنقلوا وطأة الإيالة لما اعتادوا من الملك الرفيق [2] ، فأشرأبّوا
إلى الثورة
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى النث. ونثّ الخبر أفشاه.
وبثّ الخبر اذاعه ونشره.
والأصح البث بمعنى أشدّ الحزن أو الحزن الشديد (قاموس) وقد مرّت معنا
هذه الكلمة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
[2] وفي نسخة ثانية: لما اعتادوا من الملكة الرقيقة
(7/366)
عند ما بلغهم خبر النكبة. وقد كان توافي
بقسنطينة ركاب من المغرب في طوائف من الوفود والعساكر، وكان فيهم ابن
صغير من أبناء السلطان، عقد له على عسكر من أهل المغرب، وأوعز إليه
باللحاق بتونس، وفيهم عمّال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم
وحسبانهم، وفيهم أيضا وفد من زعماء النصارى بعثهم الطاغية ابن أدفونش
مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر بعد ما عقد السلم والمهادنة،
وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه. وكان أصابه مسّ من
الجنون.
فلمّا خلصت الولاية بين السلطان والطاغية، وعظم عنه الإتحاف والمهاداة،
وبلغه خبر السلطان وتملّكه إفريقية، أطلق ابنه تاشفين وبعث معه هؤلاء
الزعماء للتهنئة، وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب،
أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنئة بسلطان إفريقية. وكان معهم أيضا يوسف
بن مزتي عامل الزاب وأميره، قدم بجباية عمله. واتصل به خبر الركّاب
بقسنطينة فلحق بهم مؤثرا صحابتهم إلى سدّة السلطان. وتوافت هؤلاء
الوفود جميعا بقسنطينة، واعصوصبوا على ولد السلطان.
فلما وصل خبر النكبة اشرأبّ الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة، وتحلّبت
شفاههم إلى ما بأيديهم من أموال الجباية وأحوال الثورة، فنقموا عليهم
سوء الملكة، ودسّ مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي
يحيى بمكانه من بونة، وقد كشف القناع في الانتزاء على عمله والدعاء
لنفسه، فخطبوه للأمر، واستحثّوه للقدوم، فأغذّ السير. وتسامع بخبره
أولياء السلطان، فخشي ابن مزني على نفسه، وخرج إلى معسكره بحلّة أولاد
يعقوب ابن علي أمير الزواودة، ولجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة.
ومكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم حتى إذا أطلت رايات المولى الفضل
وثبوا بهم، وحجزوهم إلى القصبة وأحاطوا بها حتى استنزلوهم على أمان
عقدوه لهم. ولحقوا بحلة يعقوب، فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلاد
عهدهم في ذات يدهم، فاستصفوه وأشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة
لتكون ركابهم إلى السلطان، فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له في تلك
الضواحي، حتى لحقوا ببسكرة، ونزلوا منها على ابن مزني خير نزل، وكفاهم
كل شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم، وعناية السلطان بمن كان وافدا
منهم، حتى سار بهم يعقوب بن علي إلى السلطان وأوفدهم عليه في رجب من
سنته. واتصل الخبر بأهل بجاية بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة، فساجلوهم
في الثورة. وكنسوا منازل أولياء السلطان وعمّاله،
(7/367)
فاستباحوها واستلبوهم وأخرجوهم من بين
ظهرانيهم عراة، فلحقوا بالمغرب وطيّروا الخبر إلى المولى الفضل،
واستحثّوه للقدوم، فقدم عليهم وعقد على قسنطينة وبونة لمن استكفى به من
خاصّته ورجالات دولته، واحتل بجاية لشهر ربيع من سنته.
وأعاد ملك سلفه. واستوسق أمره بهذه الثغور إلى أن كان من خبره مع
السلطان بعد خروجه من بجاية ما نذكره ان شاء الله.
الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب
الأوسط والأقصى ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب
لما اتصل خبر النكبة بالقيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان، وكان
صاحب تلمسان والمغرب الأوسط، وتساقط إليه الفلّ من عسكر أبيه عراة
زرافات ووحدانا، وأرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان، فتطاول الأمير
أبو عنّان للاستئثار بسلطان أبيه دون الأبناء، لما كان له من الإيثار
عند أبيه لصيانته وعفافه، واستظهاره القرآن، فكان محلا بعين أبيه
لأمثالها. وكان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد وأولاد
يندوكسن [1] بن طاع الله منهم، وكان له محل من الدولة كما ذكرناه عند
أخباره، وكان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب، فرجع من معسكره
بالمهدية، ونزل بزاوية العبّاد من تلمسان، وكان مسمتا وقورا، جهينة خبر
ممتعا في حديثه، وكان مرجما فيه الوقوف على الحدثان. وكان الأمير أبو
عنّان متشوّقا إلى خبر أبيه، ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها.
واستدعاه وأنس به، وكان في قلبه مرض من السلطان، فأودع إذن الأمير أبي
عنّان ما أراد من الأماني بتورّط السلطان في المهلكة، وبشرّه بمصير
الأمر إليه، فصادف منه إذنا واعية. واشتمل عليه ابن جرار من بعدها.
وردّ الخبر بنكبة السلطان فأغراه ابن جرار بالتوثّب على الملك، وسوّل
له الاستئثار به من دون إخوانه يقينا بمهلك السلطان. ثم أوهمه الصدق
بإرجاف الناس بموت السلطان، فاعتزم وشحذ عزيمته في ذلك ما اتصل به من
حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس وأعمال المغرب من
الانتزاء على عمله، وأنه فتح ديوان العطاء واستلحق واستركب لغيبة بني
مرين عن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تيدوكسن.
(7/368)
بلادهم، وخلاء جوّه من عساكرهم، وأظهر
العسكر والحشد لاستنقاذ السلطان من هوّة القيروان يسدّ منها حسوا في
ارتقاء، وتفطّن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن عامل القصبة بفاس،
وصاحب الشرطة بالضواحي، فاستأذنه باللحاق بالسلطان، فأذن له راحة من
مكانه. وأصحبه عمال المصامدة ونواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان
بجباياتهم، فلحق بالأمير أبي عنّان على حين أمضى عزيمته على التوثّب
والدعاء لنفسه، فقبض أموالهم وأخرج ما كان بموضع السلطان بالمنصورة من
المال والذخيرة، وجاهر بالدعاء لنفسه، وجلس للبيعة بمجلس السلطان من
قصره في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة فبايعه الملأ. وقرأ كتاب بيعتهم
على الإشهاد، ثم بايعه العامّة، وانفض المجلس وقد عقد سلطانه ورست
قواعد ملكه. وركب في التعبية والآلة حتى نزل بقبة الملعب. وطعم الناس
وانتشروا وعقد على وزارته للحسن بن يرزيكن، ثم لفارس بن ميمون بن وردار
وجعله رديفا له وتبعا. ورفع مكان ابن جرار عليهم. واختصّ لولايته
ومناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمر [1] وسنذكر
خبره. ثم فتح الديوان واستركب من تساقط إليه من فلّ أبيه، وخلع عليهم
ودفع إليهم أعطياتهم وأزاح عللهم. وبينما هو يريد الرحلة إلى المغرب
بلغه أن ونزمار بن عريف وليّ السلطان، وخالصته عريف بن يحيى، وكان أمير
زغبة لعهده ومقدّما على سائر البدو، وبلغه أنه قد جمع له يريد حربه،
وغلبه على ما صار إليه من الانتزاء والثورة على أبيه. وأنه قصد تلمسان
بجموعه من العرب وزناتة المغرب الأوسط، فعقد للحسن بن سليمان وزيره على
حربه وأعطاه الآلة وسرّحه للقائه، وسرّح معه من حضر من بني عامر أقتال
سويد، وارتحل في عسكره حتى احتلّ تسالة، وناجزه ونزمار الحرب، ففلّت
جموعه ومنحوا أكتافهم، واتبع الوزير عسكرهم [2] ، واكتسح أموالهم
وحللهم، وعاد إلى سلطانه بالفتح والغنائم.
وارتحل الأمير أبو عنّان إلى المغرب، وعقد على تلمسان لعثمان بن جرّار
وأنزله بالقصر القديم منها، حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما
ذكرناه في أخبارهم.
ولما انتهى إلى وادي الزيتون وشى إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه
مضمر الفتك به بتازى تزلفا إلى السلطان ووفاء بطاعته، وأنه داخل في ذلك
الحافد منصورا صاحب
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابا عبد الله بن محمد ابن القاضي عبد الله بن أبي
عمر.
[2] وفي نسخة ثانية: وابتع الوزير وعسكره آثارهم. ابن خلدون م 24 ج 7
(7/369)
أعمال المغرب، بما كان يظهر من طاعة جدّه،
فارتاب الأمير أبو عنّان به واستظهر واشيه على ذلك بكتابه. فلما قرأه
تقبّض عليه، وقتله بالمساء خنقا، وأغذ السير إلى المغرب.
وبلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس فزحف للقائه، والتقى الجمعان
بناحية تازى وبوادي أبي الاجراف، فاختلّ مصاف منصور وانهزمت جموعه ولحق
بفاس. وانحجر بالبلد الجديد وارتحل الأمير أبو عنّان في أثره، وتسايل
الناس على طبقاتهم إليه، وآتوه الطاعة وأناخ بعساكره على البلد الجديد
في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين، وأخذ بمخنقها وجمع الأيدي والفعلة على
الآلات لحصارها، ولحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكانه،
أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة، فأطلقهم ولحقوا به
فأقاموا معه على حصار البلد الجديد، وطال تمرّسه بها إلى أن ضاقت
أحوالهم واختلفت أهواؤهم، ونزع إليه أهل الشوكة منهم. ونزع إليهم عثمان
بن إدريس بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا
ليمكن إليه [1] ، فدسّ إليه وواعدوه الثورة بالبلد، فثار بها واقتحمها
الأمير أبو عنّان عليهم، ونزل منصور بن أبي مالك على حكمه، فاعتقله إلى
أن قتله بمحبسه، واستولى على دار الملك وسائر أعمال المغرب وتسابقت
إليه وفود الأمصار للتهنئة بالبيعة.
وتمسّك أهل سبتة بطاعة السلطان والانقياد لقائدهم عبد الله بن علي بن
سعيد من طبقة الوزراء حينا، ثم توثّبوا به وعقدوا على أنفسهم للأمير
أبي عنّان، وقادوا عاملهم إليه. وتولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف
أبو العبّاس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسين [2]
، كانوا انتقلوا إليها من صقلّيّة، واستوسق للأمير أبي عنان ملك
المغرب، واجتمع إليه قومه من بني مرين للأمر، وأقام مع السلطان بتونس
وفاء بحقّه، وحصّ جناح أبيه عن الكرّة على الكعوب الناكثين لعهده،
الناكبين عن طاعته، فأقام بتونس يرجو الأيام، ويؤمّل الكرّة.
والأطراف تنتقض والخوارج تتجدّد إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس،
كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ليمكنه منهم.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: آل الحسن.
(7/370)
الخبر عن انتقاض
النواحي وانتزاء بني عبد الواد بتلمسان ومغراوة بشلف وتوجين بالمرية
لما كانت نكبة السلطان بالقيروان وانتثر ملك زناتة، وانتقضت قواعد
سلطانهم، اجتمع كل قوم منهم لإبرام أمرهم والنظر في شأن جماعتهم،
وكانوا جميعا نزعوا إلى الكعوب الخارجين على السلطان، وبنزوعهم تمت
الدبرة عليه. ولحقوا بتونس مع الحاجب أبي محمد بن تافراكين ليلحقوا
منها بأعمالهم. وكان في جملة السلطان جماعة من أعياصهم منهم عثمان
وإخوته الزعيم ويوسف وإبراهيم أبناء عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمراسن بن
زيّان سلطان بني عبد الواد، صار في إيالة السلطان منذ فتح تلمسان
وإنزالهم بالجزيرة للرباط. ثم رجعوا بعد استئثار الطاغية بها من مكانهم
من دولته، وساروا إلى القيروان تحت لوائه ومنهم علي بن راشد بن محمد بن
منديل. وقد ذكرنا أخبار أبيه وأنه ربي في إيالة السلطان وجوّ الدولة
يتيما، وكفلته نعمتها منذ نشأته حتى كأنه لا يعرف سواها، فاجتمع بنو
عبد الواد بتونس وعقدوا على أنفسهم لعثمان ابن عبد الرحمن لما كان كبير
إخوته، وأتوه ببيعتهم شرقي المصلى العتيق المطلّ على سيجوم من ساحة
البلد، لعهده بهم يومئذ. وقد وضعوا له درقة بالأرض من اللمط أجلسوه
عليها، ثم ازدحموا مكبين على يده يقبّلونها للبيعة. ثم اجتمع من بعدهم
مغراوة إلى علي بن راشد وبايعوه وحفوا به. وتعاهد بنو عبد الواد
ومغراوة على الألفة وانتظام الكلمة وهدر الدماء. وارتحلوا إلى أعمالهم
بالمغرب الأوسط، فنزل علي بن راشد قومه بموضع عملهم من ضواحي شلف،
وتغلّبوا على أمصاره وافتتحوا تدلس [1] وأخرجوا منها أولياء السلطان
وعسكره، وقتلوا القاضي بمازونة سرحان، كان مقيما بها لدعوة السلطان، ثم
سولت له نفسه التوثّب والانتزاء، فدعا لنفسه، وقتله علي بن راشد وقومه.
وأجاز عبد الرحمن وقومه من بني عبد الواد إلى محل ملكهم بتلمسان،
فألفوا عثمان ابن جرار قد انتزى بها بعد منصرف الأمير أبي عنّان ودعا
لنفسه، فتجهّم له الناس لتوثّبه على المنصب الّذي ليس لأبيه، واستمسك
بالبلد أياما يؤمّل نزوع قومه إليه. ثم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنس
(7/371)
زحف إليه بنو عبد الواد وسلطانهم فصدقوه
الزحف، وثارت به الغوغاء، وكسروا أبواب البلد، وخرجوا إلى السلطان
فأدخلوه القصر، واحتلّ به في جمادى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وتسابق
الناس إلى مجلسه مثنى وفرادى، وبايعوه البيعة العامّة.
ثم تفقد ابن جرار، ثم أغرى به البحث، فعثر عليه ببعض زوايا القصر،
واحتمل إلى المطبق فأودع به إلى أن سرّب إليه الماء فمات غريقا في
هوته. وساهم السلطان أبو سعيد عثمان أخاه أبا ثابت الزعيم في سلطانه،
وأشركه في أمره، وأردفه في ملكه، وجعل إليه أمر الحرب والضواحي والبدو
كلها. واستوزر قريبه يحيى بن داود بن مكن، من ولد محمد بن يندوكس بن
طاع الله، واستوسق ملكهم، وأوفدوا مشيختهم على الأمير أبي عنّان صاحب
المغرب، وسلطان بني مرين، فعقدوا معه السلم والمهادنة، واشترطوا له عن
أنفسهم دفاع السلطان إليه. وزحفوا إلى وهران من ثغور أعمالهم، ونازلوا
بها أولياء السلطان وعساكره، وعاملها يومئذ عبد الله بن أجانا [1] من
صنائع السلطان أبي الحسن إلى أن غلبوه عليها، واستنزلوه صلحا لأشهر من
حصارها.
واستمسك أهل الجزائر بطاعة السلطان، واعتصموا بها، وعقد عليها لقائده
محمد ابن يحيى بن العسكري [2] من صنائع أبيه، بعثه إليهم من تونس بعد
نكبة القيروان.
ونجم بالمدية علي [3] بن يوسف بن زيّان بن محمد بن عبد القوي داعيا
لنفسه، وطالبا سلطان سلفه، وامتنع عليه معقل ملكهم بجبل وانشريش لمكان
ولد عمر بن عثمان وقومهم من بني تيغرين في رياسته، وانحاش إليه أولاد
عزيز من بني توجين أهل ضاحية المدية فقاموا بأمره، واعصوصبوا عليه،
وكانت بينه وبين أبناء عمر بن عثمان بوانشريش حرب سجال إلى أن هلك،
وخلص أمر بني توجين لأبناء عمر بن عثمان، وهم على مذهبهم من طاعة
السلطان وتمسّكهم بدعوته، وهو مقيم خلال هذا بتونس إلى أن أزمع الرحلة،
واحتل بالجزائر كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: عبّو بن جانا.
[2] وفي نسخة ثانية: محمد بن يحيى العشري.
[3] وفي نسخة ثانية: عدي.
(7/372)
(الخبر عن رجوع
الثغور الغربية لأمراء الموحدين ببجاية وقسنطينة)
لما توثّب الأمير أبو عنان على ملك أبيه وبويع بتلمسان، وكانت للأمير
أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية لديه خلّة ومصافاة،
من لدن بعثه إليه السلطان أبوه من بجاية. وأنزله بتلمسان فدعا له
السابقة وآثره بالإمارة، وعقد له على محل إمارته من بجاية، وأمدّه بما
يرضيه من المال والسلاح. ودفعه إليها ليكون حجرا دون السلطان بتونس،
وضمن له هذا الأمير صدّه عن الخلوص إليه، وسدّ المذاهب دونه. وأوعز أبو
عنّان إلى أساطيله بوهران، فركبها الأمير إلى تدلس ودخلها. ونزل إليه
صنهاجة أهل ضاحية بجاية، عن عمّه الأمير أبي العبّاس الفضل، واعصوصبوا
عليه، وقاموا بأمره لقديم نعمته وسالف إمارة أبيه. ولما ارتحل الأمير
أبو عنّان إلى المغرب، رحل في جملته الأمير أبو زيد عبد الرحمن ابن
الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة ومعه إخوته، فاختصّهم يومئذ بتغريبه
وخلطهم بنفسه.
فلما غلب الأمير أبو عنان منصور ابن أخيه أبي مالك على البلد الجديد،
واستولى على المغرب، رأى أن يبعث ملوك الموحّدين إلى بلادهم، ويدفع في
صدر أبيه بمكانهم، فسرّح الأمير أبا زيد وإخوته، وكان منهم السلطان أبو
العبّاس الّذي جبر الله به الصدع، ونظم الشمل، فوصلوا إلى موطن ملكهم
ومحل إمارتهم. وكان مولاهم نبيل حاجب أبيهم قد تقدّم إلى بجاية، ولحق
بالأمير أبي عبد الله من حصارها. ثم تقدّم إلى قسنطينة وبها مولى من
موالي السلطان المتغلّب عليها، وهو الأمير أبو العبّاس الفضل. فلحين
إطلاله على جهاتها وشعور أهلها بمكانه، لفحت منهم عزائز المودّة،
وذكروا جميع الإيالة، وأجمعوا التوثّب بواليهم. واحتلّ نبيل بظاهر
قسنطينة، فشرهت العامّة إلى إمارته، والقيام بدعوة مواليه. وتوثّب
أشياعهم على أولياء عمّهم، فأخرجوهم، واستولى القائد نبيل على قسنطينة
وأعمالها، وأقام دعوة الأمير أبي زيد وإخوته كما كانت أوّل مرّة بها:
وجاءوا من المغرب إلى مراكز إمارتهم، ودعوتهم بها قائمة، ورايتهم على
أنحائها خافقة، فاحتلوا بها حلول الآساد
(7/373)
بعرانينها [1] والكواكب بآفاقها، ونهض
الأمير أبو عبد الله محمد فيمن اجتمع إليه من البطانة والأولياء، إلى
محاصرة بلد بجاية، فأحجر عمّه بالبلد، وأخذ بمخنقها أياما، ثم أفرج
عنها، ثم رجع إلى مكانه من حصارها. ودسّ إليه بعض أشياعه بالبلد، وسرّب
إليه المال في الغوغاء، فواعدوه فتح أبواب الربض في إحدى ليالي رمضان
سنة تسع وأربعين وسبعمائة واقتحم البلد وملاء الفضاء بهدير طبوله، فهبّ
الناس من مراقدهم فزعين وقد ولج الأمير وقومه البلد. ونجا الأمير الفضل
إلى شعاب الجبل وكواريه المطلّ على القصبة راجلا حافيا، فاختفى به إلى
أن عثر عليه ضحى النهار، وسيق إلى ابن أخيه، فحنّ عليه وأركبه السفين
إلى محل إمارته من بونة.
وخلص ملك بجاية للأمير أبي عبد الله هذا واقتعد سرير آبائه بها، وكتبوا
للأمير أبي عنان بالفتح، وتجديد المخالصة والموالاة، والعمل عن مدافعة
أبيه من جهاته، والله تعالى أعلم.
الخبر عن نهوض الناصر ابن السلطان ووليه عريف بن يحيى من تونس الى
المغرب الأوسط
لما بلغ السلطان خبر ما وقع بالمغرب من انتقاض أطرافه، وتغلّب الأعياص
من قومه وسواهم على أعماله، ووصل إليه يعقوب بن علي أمير الزواودة
بولده وعماله ووفده، نظر في تلافي أمره بتسريح ولده الناصر إلى المغرب
الأوسط لارتجاع ملكه، ومحو آثار الخوارج من أعمالهم. فنهض مع يعقوب بن
علي وأصحبه وليه عريف بن يحيى أمير زغبة ليستظهر به على ملك المغرب،
وقدّمهما طليعة بين يديه، وسار الناصر إلى بسكرة، واضطرب معسكره بها،
ثم فصل من بلاد رياح إلى بلاد زغبة، واجتمع إليه أولياؤهم من العرب ومن
زناتة من بني توجين أهل وانشريش وغيرهم. وزحف إليهم الزعيم أبو ثابت من
تلمسان في قومه من بني عبد الواد وغيرهم للمدافعة. والتقى الجمعان
بوادي ورك فانفضّت جموع الناصر وانذعروا، ورجع على عقبه إلى بسكرة وخلص
عريف بن يحيى إلى قومه سويد، ثم قطع القفر إلى المغرب الأقصى. ولحق
__________
[1] العرانين جمع عرنين وهو السيد الشريف والصحيح ان يقول عرائنها: جمع
عرين وهو مأوى الأسد (قاموس) .
(7/374)
بالأمير أبي عنان فنزل منه بألطف محل، ورجع
الناصر إلى بسكرة، وارتحل مع أوليائهم أولاد مهلهل لمدافعة أولاد أبي
الليل وسلطانهم المولى الفضل عن تونس كما ذكرناه. وأحسّوا به، فنهض
إليهم، وفرّوا أمامه، إلى أن خلص الناصر إلى بسكرة ثانية، واتخذها مثوى
إلى أن لحق بأبيه بالجزائر عند رحلته من تونس إليها كما نذكره إن شاء
الله تعالى.
الخبر عن رحلة السلطان أبي الحسن الى المغرب وتغلب المولى الفضل على
تونس وما دعا إلى ذلك من الأحوال
لما خلص المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى من نكبة بجاية،
وامتنّ عليه ابن أخيه، فلحق بمحل إمارته من بونة. ووافته بها مشيخة
أولاد أبي الليل، أوفدهم عليه بنو حمزة بن عمر يستحثّونه لملك إفريقية،
يرغّبونه فيه، فأجاب داعيتهم ونهض إليهم بعد قضاء نسك الفطر من سنة تسع
وأربعين، ونزل مجللهم وأوجفوا بخيلهم وركابهم على ضواحي إفريقية،
وجبوها، وصمدوا إلى تونس فنازلوها وأخذوا بمخنقها أياما، ثم أخذ
بحجزتهم عنها شيعة السلطان وأولياؤه من أولاد مهلهل وابنه الناصر عند
قفوله من المغرب الأوسط مفلولا فرحلوهم وشرّدوهم.
ثم رجعوا إلى مكانهم من حصارها، ثم انفضوا عنها. وتحيّز خالد بن حمزة
إلى شيعة السلطان أبي الحسن مع أولاد مهلهل وقومه، فاعتزّوا به وذهب
عمر بن حمزة إلى المشرق لقضاء فرضه، وأجفل أبو الليل أخوه مع المولى
الفضل إلى القفر حتى كان من دخول أهل الجريد في طاعته ما نذكره إن شاء
الله تعالى. وكان السلطان لمّا خلص من القيروان إلى تونس، وفد إليه
أحمد بن مكي مهنيا ومفاوضا في شأن الثغر وما مني به من انتقاض الأطراف
وفساد الرعية. وتدارك السلطان أمره عند فواته بالتولية على أهل القطر
من جنسهم استئلافا للكافة. واستبقاء لطاعتهم. فعقد على عمل قابس وجربة
والحامة [1] ، وما إليها لعبد الواحد ابن السلطان زكريا بن أحمد
اللحياني، وأنفذه مع أحمد بن مكي إلى عمله، فهلك بجربة لليال من مقدمه
في الطاعون
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحمة وهي أصح، وهي مدينة بإفريقية من عمل قسطيلية
من نواحي بلاد الجريد (معجم البلدان) .
(7/375)
الجارف عامئذ.
وعقد لأبي القاسم بن عتّو شيخ الموحدين على توزر ونفطة وسائر بلاد
الجريد، بعد أن كان استخلصه بعد مفرّ أبي محمد بن تافراكين قريعة، وما
أضمر [1] من سوء دخلته، فنزل بتوزر وجمع أهل الجريد على الولاية
والمخالصة، ولما نازل المولى أبو العبّاس الفضل تونس مرتين، وشرّد
أولاد مهلهل وامتنعت عليه، عمد إلى الجريد سنة خمس وأربعين وسبعمائة
يحاول فيه ملكا، وخاطب أبا القاسم بن عتّو يذكّره عهده وعهد سلفه
وحقوقهم، فتذكّر وحنّ، ونظر إلى ما ناله به السلطان من المثلة في
أطرافه.
واستثار كامن حقده، فانحرف وحمل الناس على طاعة المولى الفضل ابن
مولانا السلطان أبي يحيى، فسارعوا إلى الإجابة وبايعه أهل توزر وقفصة
ونفطة والحامة، ثم دعا ابن مكين إلى طاعته فأجاب إليها وبايعه أهل قابس
وجربة أيضا.
وانتهى الخبر إلى السلطان باستيلاء المولى الفضل على أمصار إفريقية،
وأنه ناهض إلى تونس، فأهمّه الشأن وخشي على أمره، وكانت بطانته يوسوسون
إليه بالرحلة إلى المغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه، فأجابهم إليه
وشحن أساطيله بالأقوات، وأزاح علل المسافرين. ولما قضى منسك الفطر من
سنة خمسين وسبعمائة ركب البحر أيام استفحال فصل الشتاء، وعقد لابنه أبي
الفضل على تونس ثقة بما بينه وبين أولاد حمزة من الصهر، وتفاديا بمكانه
من معرّة الغوغاء وثورتهم. وأقلع من مرسى تونس، ولخمس دخل مرسى بجاية،
وقد احتاجوا إلى الماء فمنعهم صاحب بجاية من الورود، وأوعز إلى سائر
سواحله بمنعهم، فزحفوا إلى الساحل وقاتلوا من صدّهم عن الماء إلى أن
غلبوهم واستقوا وأقلعوا، وعصفت بهم الريح ليلتئذ وجاءهم الموج من كل
مكان، وألقاهم اليمّ بالساحل بعد أن تكسّرت الأجفان، وغرق الكثير من
بطانته وعامّة الناس، وقذف الموج بالسلطان فألقاه إلى الجزيرة قرب
الساحل من بلاد زواوة مع بعض حشمه عراة، فمكثوا ليلتهم وصبحهم جفن من
الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف، فقرّبوا إليه حين رأوه وقد تصايح
به البربر من الجبال وتواثبوا إليه فاختطفه أولياؤه من أهل الجفن قبل
أن يصل إليه البربر،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: وما ظهر.
(7/376)
وقذفوا به إلى الجزائر فنزل بها، ولأم
صدعه. وخلع على من وصل من فلّ الأساطيل ومن خرج إليه من أوليائه، ولحق
به ابنه الناصر من بسكرة، واتصل بالمولى الفضل خبر رحيله من تونس وهو
ببلاد الجريد، فأغذ السير إلى تونس، ونزل بها على ابنه ومن كان بها من
مخلف أوليائه، فغلبوهم عليها. واتصل أهل البلد بهم وأحاطوا يوم منى
بالقصبة. واستنزلوا ابن السلطان أبا الفضل الأمير بالقصبة على الأمان،
فخرج إلى بيت أبي الليل بن حمزة، وأنفذ معه من أبلغه إلى مأمنه، فلحق
بأبيه بالجزائر وبادر إلى السلطان عليّ بن يوسف المنتزى بالمدية من بني
عبد القوي، فصار في جملته، وخرج له عن الأمر، وزعم أنه إنما كان قائما
بدعوته، فتقبّل منه وأقرّه على عمله.
ووفد عليه أولياؤه من العرب سويد والحرث والحصين ومن إليهم ممن اجتمع
إلى وليه ونزمار بن عريف المتمسّك بطاعته. ووفد عليه أيضا علي بن راشد
أمير مغراوة، وأغزاه بني عبد الواد [1] ، واشترط عليه إقراره بوطنه
وعمله إذا تمّ أمره، فأبى من قبول الاشتراط ظنّا بعهده عن النكث، فنزع
عنه وصار إلى مظاهرة بني عبد الواد عليه. وبعث أبو سعيد عثمان صاحب
تلمسان إلى الأمير أبي عنان في المدد، فبعث إليه بعسكر من بني مرين عقد
عليهم ليحيى بن رحّو بن تاشفين بن معطي من تيربيغن، وزحف الزعيم أبو
ثابت إلى حرب السلطان أبي الحسن فيمن اجتمع له من عسكر بني مرين
ومغراوة. وخرج السلطان من الجزائر وعسكر بمتيجة، واحتشد ونزمار سائر
العرب بحللهم، ووافاه بهم، وارتحلوا إلى شلف، ولما التقى الجمعان
بشدبونة صدقه مغراوة الحملة وصابرهم ابنه الناصر وطعن في الجولة فهلك
واختلّ مصاف السلطان واستبيح معسكره، وانتهب فساطيطه، وخلص مع وليّه
ونزمار بن عريف وقومه بعد أن استبيحت حللهم، فخرجوا إلى جبل وانشريش،
ثم لحقوا بجبل راشد، ورجع القوم عن اتباعهم، وانكفؤا إلى الجزائر
فتغلّبوا عليها، وأخرجوا من كان بها من أولياء السلطان ومحوا آثار
دعوته من المغرب الأوسط جملة.
والأمر بيد الله يؤتيه من يشاء.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأغراه ببني عبد الواد.
(7/377)
الخبر عن استيلاء
السلطان على سجلماسة ثم فراره عنها امام ابنه إلى مراكش واستيلائه
عليها وما تخلل ذلك
لما انفضت جموع السلطان بشدبونة وقلّ عساكره، وهلك الناصر ابنه، خلص
إلى الصحراء مع وليّه ونزمار ولحق بحلل قومه سويد وأوطانهم قبلة جبل
وانشريش، وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه ومنبت عزّه ودار ملكه.
وارتحل معه وليّه ونزمار بالنازعة [1] من قومه، وخرجوا إلى جبل راشد.
ثم أبعدوا المذاهب وقطعوا المفاوز إلى سجلماسة في القفر. فلما أطلوا
عليها وعاين أهلها السلطان تهافتوا عليه تهافت الفراش، وخرج إليه
العذارى من وراء ستورهنّ صاغية إليه، وإيثارا لإيالته. وفرّ العامل
بسجلماسة إلى منجاته. وكان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصد
سجلماسة، ارتحل إليها في قومه وكافة عساكره بعد أن أزاح عللهم وأفاض
عطاءه فيهم، وكان ببني مرين نفرة عن السلطان وحذر من غائلته لجنايتهم
بالتخاذل في المواقف، والفرار عنه في الشدائد، ولما كان يبعد بهم في
الأسفار ويتجشّم بهم المهالك، فكانوا لذلك مجتمعين على منابذته،
ومخلصين في مناصحة ابنه منازعة، فما لبث السلطان أن جاءه الخبر بوصولهم
إليه في العساكر الضخمة، مغذّين السير إلى دفاعه، وعلم من حاله أنه لا
يطيق دفاعهم، وأجفل عنه ونزمار وليّه في قومه سويد. وكان من خبره أنّ
عريف بن يحيى كان نزع إلى الأمير أبي عنان وأحلّه بمحله المعهود من
تشريفهم وولايتهم، حتى إذا بلغه الخبر بمناصحة ونزمار للسلطان ومظاهرته
وقصده المغرب معه بناجعته، زوى عنه وجه رضاه بعض الشيء، وأقسم له لئن
لم تفارق السلطان لأوقعنّ بك وبابنك عشر [2] وكان معه في جملة الأمير
أبي عنان، وأمره بأن يكتب له بذلك، فآثر ونزمار رضى أبيه. وعلم أنّ
غناءه عن السلطان في وطن المغرب قليل، فأجفل عنه ولحق بالزاب وانتبذ عن
قومه، وألقى عصاه ببسكرة، فكان ثواؤه بها إلى أن لحق بالأمير أبي عنان
على ما نذكره.
ولما أجفل السلطان عن سجلماسة، دخل الأمير أبو عنان إليها وثقف أطرافها
وسدّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالناجعة.
[2] وفي نسخة ثانية: عنتر.
(7/378)
فروجها، وعقد عليها ليحياتن بن عمر بن عبد
المؤمن كبير بني ونكاسن، وبلغه قصد السلطان إلى مراكش، فاعتزم على
الرحلة إليها وأبى عليه قومه، فرجع بهم إلى فاس إلى أن كان من خبرهم مع
السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء السلطان على مراكش ثم
انهزامه أمام الأمير أبي عنان ومهلكه بجبل هنتاتة عفا الله عنه
لما أجفل السلطان عن سجلماسة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بين يدي الأمير
أبي عنان وعسكر بني مرين، قصد مراكش، وركب إليها الأوعار من جبال
المصامدة.
ولما شارفها تسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل أوب، ونسلوا من كل
حدب.
ولحق عامل مراكش بالأمير أبي عنان ونزع إلى السلطان صاحب ديوان الجباية
أبو محمد [1] بن محمد بن أبي مدين بما كان في المودع من مال الجباية،
فاختصّه واستكتبه وجعل إليه علامته، واستركب واستلحق وجبى الأموال،
وبثّ العطاء، ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم وسائر المصامدة. وثاب
له بمراكش ملك أمّل معه أن يستولي على سلطانه، ويرتجع فارط أمره من يد
مبتزّه. وكان الأمير أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها، وشرع في
العطاء وإزاحة العلل، وتقبّض على كاتب الجباية يحيى بن حمزة بن شعيب بن
محمد بن أبي مدين، اتّهمه بممالأة بني مرين في الإمالة عليه عن اللحاق
بمرّاكش من سجلماسة. وأثار حقده في ذلك ما كان من نزوع عمّه أبي المجد
إلى السلطان بأموال الجباية، ووسوس إليه في السعاية به كاتبه وخالصته
أبو عبد الله محمد بن أبي محمد بن أبي عمر [2] لما بينهما من المنافسة،
فتقبّض عليه وامتحنه، ثم قطع لسانه وهلك في ذلك الامتحان، وارتحل
الأمير أبو عنان وجموع بني مرين إلى مراكش، وبرز السلطان إلى لقائهم
ومدافعتهم، وانتهى كل واحد من الفريقين إلى وادي أم ربيع، وتربّص كل
بصاحبه إجازة الوادي. ثم أجازه السلطان أبو الحسن وأصبحوا جميعا في
التعبية،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ابو المجد.
[2] وفي نسخة ثانية: ابو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمرو.
(7/379)
والتقى الجمعان بتامرغوست [1] في آخر صفر
من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلّ مصاف السلطان وانهزم عسكره، ولحق
به أبطال بني مرين فرجعوا عنه حياء وهيبة.
وكبا به فرسه يومئذ في مفرّه، فسقط إلى الأرض والفرسان تحوم حوله.
واعترضهم دونه أبو دينار سليمان بن علي بن أحمد أمير الزواودة، ورديف
أخيه يعقوب، كان هاجر مع السلطان من الجزائر، ولم يزل في جملته إلى
يومئذ. فدافع عنه حتى ركب وسار من ورائه ردءا له. وتقبّض على حاجبه
علال بن محمد، فصار في يد الأمير أبي عنان وأودعه السجن إلى أن امتن
عليه بعد مهلك أبيه.
وخلص السلطان إلى جبل هنتاتة ومعه كبيرهم عبد العزيز بن محمد بن علي،
فنزل عليه وأجاره واجتمع إليه الملأ من قومه هنتاتة ومن انضاف إليهم من
المصامدة، وتدامروا وتعاهدوا على الدفاع عنه، وبايعوه على الموت، وجاء
أبو عنان على أثره حتى احتل بمرّاكش، وأنزل عساكره على جبل هنتاتة،
ورتّب المسالح لحصاره وحربه، وطال عليه ثواؤه، وطلب السلطان من ابنه
الإبقاء، وبعث في حاجبه محمد بن أبي عمر فحضر عنده، وأحسن العذر عن
الأمير أبي عنان والتمس له الرضى منه، فرضي عنه، وكتب له بولاية عهده.
وأوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى، فسرّح الحاجب ابن أبي عمر بإخراجها
من المودع بدار ملكهم، واعتلّ السلطان خلال ذلك، فمرّضه أولياؤه
وخاصّته، وافتصد لإخراج الدم، ثم باشر الماء لفصده للطهارة، فورم وهلك
لليال قريبة عفا الله عنه، لثلاث وعشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين
وخمسين وسبعمائة وبعث أولياؤه الخبر إلى ابنه بمعسكره من ساحة مراكش،
ورفعوه على أعواده إليه فتلقّاه حافيا حاسرا، وقبّل أعواده وبكى،
واسترجع ورضي عن أوليائه وخاصّته، وأنزلهم بالمحل الّذي رضوه من دولته،
ووارى أباه بمراكش إلى أن نقله إلى مقبرة سلفهم بشالة في طريقه إلى فاس
وتلقى أبا دينار ابن علي بن أحمد بالقبول والكرامة، وأحلّه محل الرحب
والسعة، وأسنى جائزته، وخلع عليه وحمّله. وانصرف من فاس إلى قومه
يستحثّهم للقاء السلطان أبي عنان بتلمسان لما كان أجمع على الحركة
إليها بعد مهلك أبيه، ورعى لعبد العزيز بن محمد أمير هنتاتة إجارته
للسلطان واستماتته دونه، فعقد له على قومه وأحلّه بالمحل الرفيع من
دولته ومجلسه، واستبلغ في تكريمه، والله تعالى أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تامدغرست.
(7/380)
الخبر عن حركة
السلطان أبي عنان إلى تلمسان وإيقاعه ببني عبد الواد بانكاد ومهلك
سلطانهم سعيد
لما هلك السلطان أبو الحسن وانقضى شأن الحصار ارتحل السلطان أبو عنان
إلى فاس ونقل شلو أبيه إلى مقبرتهم بشالة فدفنه مع من هنالك من سلفه.
وأغذّ السير إلى فاس وقد استبدّ بالأمر، وخلت الدولة عن المنازع، فاحتل
بفاس وأجمع أمره على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك
الّذي سموا لاستخلاصه. ولما كان فاتح سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة نادى
بالعطاء وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد، واعترض العساكر وارتحل
يريد تلمسان، واتصل الخبر بأبي سعيد وأخيه، فجمعوا قومهم ومن إليهم من
الأشياع والأحزاب من زناتة والعرب، وارتحلوا إلى لقائه، ونزل السلطان
بعساكره وادي ملوّية، وتلوّم به أياما لاعتراض الحشود والعرب. ثم رحل
على التعبية حتى إذا احتل ببسيط أنكاد وتراءى الجمعان، انفضّ سرعان
المعسكر ولحقوا بالعرب [1] وركب السلطان في التعبية وخاض بحر القتال،
وقد أظلم الجوّ به حتى إذا خلص إليهم من غمره، وخالطهم في صفوفهم،
ولّوا الأدبار، ومنحوهم الأكتاف، واتبع بنو مرين آثارهم فاستولوا على
معسكرهم واستباحوه واستباحوهم قتلا وسبيا، وصفدوهم أسرى، وغشيهم الليل
وهم متسايلون في أثرهم، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم، فسيق إلى السلطان
فأمر باعتقاله، وأطلق أيدي بني مرين من الغد على حلل العرب من المعقل،
فاستباحوهم واكتسحوا أموالهم جزاء بما شرهوا إليه من النهب في المحلّة
في هيعة ذلك المجال. ثم ارتحل على تعبيته إلى تلمسان فاحتلّ بها لربيع
من سنته، واستوت في ملكها قدمه، وأحضر أبا سعيد فقرّعه ووبّخه وأراه
أعماله حسرة عليها، وأحضر الفقهاء وأرباب الفتيا، فأفتوا بحرابته
وقتله. فأمضى حكم الله فيه، فذبح في محبسه لتاسعة من اعتقاله، وجعله
مثلا للآخرين. وخلص أخوه الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق، فكان من
خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بالمغرب.
(7/381)
الخبر عن شأن أبي
ثابت وإيقاع بني مرين به بوادي شلف وتقبض الموحدين عليه بجاية
لما أوقع السلطان ببني عبد الواد بأنكاد، وتقبّض على أبي سعيد سلطانهم،
خلص أبو ثابت أخوه في فلّ منهم، ومرّ بتلمسان، فاحتمل حرمهم ومخلفهم،
وأجفل إلى الشرق، فاحتل بشلف من بلاد مغراوة وعسكر هنالك. واجتمع إليه
أوشاب من زناتة، وحدّث نفسه باللقاء، ووعدها بالصبر والثبات، وسرّح
السلطان وزيره فارس بن ميمون بن ودرار في عساكر بني مرين والجند، فأغذ
السير إليهم وارتحل من تلمسان على أثره، ولما تراءى الجمعان صدق
الفريقان المجاولة، وخاضوا النهر بالقراع. ثم صدق بنو مرين الحملة
واجتازوا النهر إليهم، فانكشفوا واتبعوا آثارهم واستلحموهم، واستباحوا
معسكرهم واستاقوا أموالهم ودوابهم ونساءهم، وارتحلوا في اتباعهم، وكتب
الوزير بالفتح إلى السلطان، ومرّ أبو ثابت بالجزائر طارقا، وأجاز إلى
قاصية المشرق، فاعترضهم قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم، وانتهبوا
أسلابهم، ومرّوا حفاة عراة، واحتل الوزير بالجزائر، واستولى عليها
واقتضى بيعة السلطان منهم فآتوها، واحتل الوزير بالمدية وأوعز إلى أمير
بجاية المولى أبي عبد الله حافد مولانا الأمير أبي يحيى مع وليّه
ونزمار وخالصته يعقوب بن علي بالتقبّض على أبي ثابت وأشياعه فأذكوا
العيون عليهم وقعدوا لهم بالمرصاد، وعثر بعض الحشم على أبي ثابت وأبي
زيّان ابن أخيه أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود، فرفعوهم إلى الأمير
ببجاية، فاعتقلهم وارتحل للقاء السلطان بالمدية وبعثهم مع مقدّمته،
وجاء على أثرهم ونزل على السلطان بمعسكره من المدية خير نزل، بعد أن
تلقّاه بالمبرّة والاحتفاء، وركب للقائه، ونزل عن فرسه للسلطان، فنزل
السلطان برّا له، وأودع أبا ثابت السجن. وتوافت إليه وفود الزواودة
بمكانه من المدية، فأكرم وفدهم وأسنى أعطياتهم من الخلع والحملان
والذهب، وانقلبوا خير منقلب، ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل
الزاب ووفدهم، فأكرمهم ووصلهم. وفرغ السلطان من شأن المغرب الأوسط،
وبثّ العمّال في نواحيه، وثقف أطرافه، وسما إلى ملك إفريقية كما نذكره
إن شاء الله تعالى
.
(7/382)
(الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية
وانتقال صاحبها الى المغرب)
لما وصل السلطان أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا يحيى صاحب
بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية في شعبان من سنته، وأقبل السلطان
عليه، وبوّأه كنف ترحيبه وكرامته، خلص الأمير به نجيّا، وشكا إليه ما
يلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية والسعي في الفساد، وما يتبع
ذلك من زبون الحامية واستبداد البطانة. وكان السلطان متشوّقا لمثلها،
فأشار عليه بالنزول عنها، وأن يديله عنها بما شاء من بلاده، فسارع إلى
قبول إشارته، ودسّ إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يشهد بذلك على
رءوس الملاء، ففعل، ونقم عليه بطانته ذلك، وفرّ بعضهم من معسكره، فلحق
بإفريقية، ومنهم علي ابن القائد محمد بن الحكيم. وأمره السلطان أن يكتب
بخطّه إلى عامله على البلد بالنزول عنها وتمكين عمّال السلطان منها
ففعل وعقد السلطان عليها لعمر بن علي الوطاسي من أولاد الوزير الّذي
ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل، ولما قضى السلطان حاجته من المغرب
الأوسط واستولى على بجاية، انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفطر بها،
ودخلها في يوم مشهود، وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين
يخطوان بهما في ذلك المحفل بين السماطين، فكانا عبرة لمن حضر وسيقا من
الغد إلى مصارعهما، فقتلا قعصا بالرماح، وأنزل السلطان المولى الأمير
أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل، وفرش له في مجلسه تكرمة له إلى أن
كان من توثّب صنهاجة وأهل بجاية بعمر بن علي ما نحن ذاكروه إن شاء الله
تعالى.
(الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب
اليها في العساكر)
كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة [1] ملوك القلعة وبجاية، نزل أولوهم
بوادي
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تكلاته.
(7/383)
بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين
في مواطن بني ورياكل منذ أوّل دولة الموحدين، وأقطعوهم على العسكرة
معهم، ولما ضعفت جنود الموحّدين وقلّ عددهم انفردوا بالعسكرة مع
السلطان، وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة.
وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأوّل أمره، وقتل محمد بن
تميم من أكابر مشيختهم، وكان صاحبه فارح مولى ابن سيّد الناس عريفا
عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا، وكان مستبدّا على المولى أبي عبد
الله، فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه،
وأسرّها في نفسه ولم يبدها لكماله، وسرّحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي
لينقل حرمه ومتاعه وماعون داره، فوصل إليها وشكا إليه الصنهاجيون مغبّة
أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة فأشكاهم ودعاهم إلى الثّورة ببني
مرين، والقيام بدعوة الموحّدين للمولى أبي زيّان صاحب قسنطينة، فأجابوه
وتواعدوا بالفتك بعمر بن علي بمجلسه من القصبة. وتولى كبرها منصور بن
الحاج من مشيختهم، وباكره بداره على عادة الأمراء، ولما أكبّ عليه
ليلثم أطرافه طعنه بخنجره، وفرّ إلى بيته جريحا فولجوا عليه واستلحموه.
وثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وركب الحاجب فارح وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة،
وطيروا بالخبر واستدعوه، فتثاقل عن إجابتهم، وبعث مولى ابن المعلوجي
للقيام بأمرهم.
وبلغ الخبر إلى السلطان فاتّهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة،
فاعتقله بداره.
واعتقل وفدا من ملاء بجاية كان ببابه، وثبتت آراء المشيخة من أهل
بجاية، وتمشّت رجالاتهم وأولو الرأي والشورى منهم في الفتك بصنهاجة
والعلج، وداخلهم القائد هلال مولى ابن سيّد الناس من المعلوجي، وعلي بن
محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى، ومحمد ابن الحاجب أبي عبد
الله بن سيّد الناس وتواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب
قسنطينة، فجهروا بالنكير على الحاجب، ودعوه إلى المسجد ليؤامروه. ونذر
بأمرهم فاعتدّ دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار،
وباشره مولاه محمد بن سيّد الناس، فطعنه وأشواه، ورمي بشلوه من سقف
الدار، وقطع رأسه، فبعثوا به إلى السلطان، وفرّ منصور بن الحاج وقومه
صنهاجة من البلد، وكان بالمرسي أحمد بن سعيد القرموني من خاصّة
السلطان، جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس، ووافى مرسي بجاية يومئذ
فأنزلوه
(7/384)
واعصوصبوا عليه، وتنادوا بدعوة السلطان
وطاعته، فأشار عليهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة
بني مرين يحياتن [1] بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي، فاستدعوه ووصل
إليهم في جملة [2] من العسكر، وبعثوا بأخبارهم إلى السلطان وانتظروا.
فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى
بجاية، فعسكر بساحة تلمسان. وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة
آلاف فارس أزاح عللهم، واستوفى أعطياتهم وسرّحه فنهض من تلمسان بعد
قضاء منسك الأضحى، وأغذ السير إلى بجاية، ولما نزل ببني حسن جمع له
بمعسكرهم من تيكلات، وخرج إليه المشيخة والوزراء، فتقبّض على القائد
هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد على التعبية، واحتلّ بقصبتها
لمحرّم فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وسكن الناس وخلع على المشيخة، واختص
علي بن ألميت [3] ومحمد بن سيّد الناس، واستظهر بهم على أمره، وتقبّض
على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتهم بالمداخلة في الثورة
[4] يناهزون مائتين، واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب، فودّع الناس
وسكنوا وتوافت وفود الزواودة من كل جهة، فأجزل صلاتهم واقتضى الطاعة
منهم [5] . ووصل عامل الزاب يوسف، وسدّ فروجه وارتحل إلى تلمسان أوّل
جمادى لشهرين من مدخله، وأغذّ السير بمن معه من العرب والوفود، وكنت
يومئذ في جملتهم، وقد خلع عليّ وحملني وأجزل صلتي، وضرب لي الفساطيط،
فوفدت في ركابه، وقدم تلمسان لأوّل جمادى الأخيرة، فجلس السلطان للوفد
واعترض ما جنب له من الجياد والهديّة، وكان يوما مشهودا.
ثم أسنى السلطان جوائز الوفد، واختصّ يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد
من البرّ والصلة، وخصوا بجاه من الكرامة، وآمرهم في شأن إفريقية
ومنازلة قسنطينة.
ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره،
وانصرفوا إلى مواطنهم لأوّل شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة وانقلبت
معه بعد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: يحيى.
[2] وفي نسخة ثانية: في لمّة.
[3] وفي نسخة ثانية: المنت.
[4] وفي نسخة ثانية: التوثب.
[5] وفي نسخة ثانية: واقتضى على الطاعة رهنهم. ابن خلدون م 25 ج 7
(7/385)
إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان،
والوعد الجميل بتجديد ما إلى قومه ببلده من الأقطاع والله أعلم.
الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو وما عقد له
السلطان على ثغر بجاية وعلى منازلة قسنطينة ونهوضه لذلك
سلف هذا الرجل من أهل المهديّة من أجواد العرب من بني تميم بإفريقية،
وانتقل جدّه عليّ إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر، وكان فقيها
عارفا بالفتيا والأحكام، وقلّده القضاء بالحضرة واستعمله على كتب
علامته في الرسائل والأوامر الكبرى والصغرى، فاضطلع بذلك، وهلك على
حالة من التجلّة والمنصب، وقلّد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام
أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكريا كما كان لأبيه، فاضطلع لذلك وكان
أخوه أحمد بن علي مستنا [1] وقورا منتحلا للعلم.
ونشأ ابنه محمد وقرأ بتونس، وتفقّه على مشيختها. ولما التاثت أمورهم
وتلاشت أحوالهم، خرج محمد بن أحمد بن على مبتغيا للرزق والمعاش، وطوّحت
به الطوائح إلى بلد القلّ. وكان منتحلا للطلب [2] والكتابة، فاستعمل
شاهدا بمرسى القلّ أيام رياسة الحاجب ابن أبي عمرو [3] ، وكانت له صحبة
مع حسن بن محمد السبتي المنتحل بنسب الشرف. وكانا رفيقين في مطارح
اغترابهما، فسعى له في مرافقة الشهرة، فأسعفا واتصلا بابن أبي عمرو
فحمد مذاهبهما، ولما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة
الموحّدين أيام التياث أبي حمّو بخروج محمد بن يوسف عليه، واعتلال
الدولة، ودخل في أمر ابن أبي عمرو وجملته، فبعث محمد ابن أبي عمرو هذا
وصاحبه إلى تدلس، واستعمل حسن الشريف في القضاء، ومحمد بن أبي عمرو في
شهادة الديوان. فلما برئت الدولة من مرضها، واستفحل أمر أبي حمّو
وتغلّب على تدلس، وصار رئيس الفتيا من الإمام لاقتضاء طاعتها، وإنفاذ
أهلها على السلطان في الوفد، واستقرّا بتلمسان يومئذ واستعملا في خطة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مسمتا، واستعملت هنا بمعنى مرضعا.
[2] أي لطلب العلم. وربّما تكون محرفة عن (الطب) .
[3] وفي نسخة ثانية: الحاجب ابن غمر.
(7/386)
القضاء متعاقبين أيام بني عبد الواد وأيام
السلطان أبي الحسن. وتعصّب على بن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة
البلد، وسعوا به إلى السلطان أبي الحسن، وتظلّموا فأشكاهم على علم
ببراءته، واختصّه بتأديب ولده فارس هذا وتعليمه، فأفرغ وسعه في ذلك
وربّى ولده محمدا هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان توأما وخليلا وألقى
عليه محبته حتى إذا خلص له الملك رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا، ورقاه
من منزلة إلى أخرى حتى إذا أربى به على سائر المراتب، وجعل إليه
العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة
وسائر ألقاب دولته، وخصوصيات داره، فانصرفت إليه الوجوه، ووقفت ببابه
الأشراف من الأعياص والقبائل والشرفاء والعلماء، وسرّب إليه العمّال
أموال الجباية تزلفا، وطال أمره واستيلاؤه على السلطان ونفس عليه رجال
الدولة ووزراؤها ما آتاه الله من الحظ، حتى إذا خلا لهم وجه السلطان
منه عند نهوضه إلى بجاية، حامت أغراض السعاية على مكانه فقرطست وألقى
السلطان أذنه إلى استماعها. فلمّا رجع من بجاية، وكانت له الدالّة على
السلطان، وجدّ عليه في قبول الألاقي. ولقيه مغاضبا فتنكّر له السلطان،
ثم تجنّى بطلب الغيبة عن الدولة، ويعقد له على بجاية متوهّما أنّ
السلطان ضنين به، فبادر السلطان إلى إسعافه، وبدا له ما لم يحتسب من
الأعراض عنه.
ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف. وعقد له على حرب قسنطينة وحكّمه
في المال والجيش، وارتحل في شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة واحتل
ببجاية آخرها وأشتى بها.
ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد
المولى الفضل واعتقاله إيّاه، فنصّبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين
وجمعوا له الآلة والفساطيط، وقام بأمره ميمون بن علي لمنافسته مع أخيه
يعقوب، وسمع بخبره يعقوب، فأغذّ السير بحاله من بلاد الزاب، وفرّق
جمعهم وردّهم على أعقابهم، وأحجزهم بالبلد. ولمّا انصرم الشتاء وقضى
منسك الأضحى، عسكر بساحة البلد، واعترض العساكر وأزاح عللهم، وفرّق
أعطياتهم، وارتحل إلى منازلة قسنطينة، واجتمع إليه الزواودة بحللهم،
وجمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة
وميمون بن علي بن أحمد وشيعته من الزواودة، وعقد عليهم لحاجبه نبيل
وسرّحه للقاء ابن أبي عمرو وعساكره، فأوقع بهم الحاجب
(7/387)
لجمادى من سنة خمس وخمسين وسبعمائة واكتسح
أموالهم ونازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان
أبي الحسن المنصوب للأمر، فاقتادوه إليه وأشخصه إلى أخيه السلطان.
وأوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان، فتقبّل وفادته وشكر
مراجعته، وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية، وأقام بها إلى أن هلك
في المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة فذهب حميد السيرة عند أهل البلد،
وتفجّعوا لمهلكه، وبعث السلطان دوابه لارتحال عياله وولده، ونقل شلوه
إلى مقبرة أبيه بتلمسان. وسرّح ابنه أبا زيّان في عساكر بني مرين
لمواراته بها. وعقد على بجاية لعبد الله بن علي بن سعيد وزيره، فنهض
إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين وسبعمائة واستقرّ بها وتقبّل ما
حمده الناس من مذاهب الحاجب وسيرته فيها على ما نذكره، وجهّز العساكر
إلى حصار قسنطينة إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن خروج أبي الفضل ابن السلطان أبي
الحسن بجبل السكسيوي ومكر عامل درعة به ومهلكه
كان السلطان أبو عنان بعد مهلك أبيه لحق به في جملته أخواه أبو الفضل
محمد وأبو سالم إبراهيم، وتدبّر في ترشيحهما وحذر عليهما مغبته،
فأشخصهما إلى الأندلس، واستقرّا بها في إيالة أبي الحجّاج ابن السلطان
أبي الوليد ابن الرئيس أبي سعيد. ثم ندم على ما أتاه من ذلك، فلما
استولى على تلمسان والمغرب الأوسط، ورأى أن قد استفحل أمره واعتز
بسلطانه، أوعز إلى أبي الحجّاج أن يشخصهما إليه ليكون مقامهما لديه
أحوط للكلمة من أن يعتمد على تفريقهما سماسرة الفتن. وخشي أبو الحجّاج
عليهما غائلته فأبى من إسلامهما إليه، وأجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمّته
وجوار المسلمين المجاهدين، فأحفظ السلطان كلمته، وأوعز إلى حاجبه محمد
بن أبي عمرو بأن يخاطبه في ذلك بالتوبيخ واللائمة، فكتب له كتابا قرّعه
فيه وقفني عليه الحاجب ببجاية أيام كوني معه، فقضيت عجبا من فصوله
وأغراضه، ولما قرأه أبو الحجّاج دسّ إلى كبيرهما أبي الفضل باللحاق
بالطاغية، وكانت بينهما ولاية ومخالصة منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل
الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، فنزع إليه أبو
(7/388)
الفضل وأجاره، وجهز به أسطولا إلى مراسي
المغرب. وأنزله بساحة السوس، فلحق بالسكسيوي عبد الله ودعا لنفسه. وبلغ
الخبر إلى السلطان بين مقدم حاجبه ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع
وخمسين وسبعمائة فجهّز عساكره إلى المغرب، وعقد على حرب السكسيوي
لوزيره فارس بن ميمون بن وردار وسرّحه إليه، فنهض من تلمسان لربيع سنة
أربع وخمسين وسبعمائة وأغذّ السير إلى السكسيوي ونزل بمخنقه، وأحاط به،
واختطّ مدينة لمعسكره وتجهيز كتائبه بسفح جبله، سماها القاهرة.
واستبدّ الحصار على السكسيوي وأرسل إلى الوزير في الرجوع إلى طاعته
المعروفة، وأن ينبذ العهد إلى أبي الفضل، ففارقه وانتقل إلى جبال
المصامدة.
ودخل الوزير فارس إلى أرض السوس فدوّخ أقطارها، ومهّد الحال [1] ،
وسارت الألوية والجيوش في جهاته، ورتّب المسالح في ثغوره وأمصاره مثل
ايغري وفوريان وتارودانت، وثقف أطرافه وسدّ فروجه. وسار أبو الفضل في
جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة، وألقى بنفسه على ابن حميدي منهم
مما يلي بلاد درعة، فأجاره وقام بأمره. ونازلة عامل درعة يومئذ عبد
الله بن مسلم الزردالي من مشيخة دولة بني عبد الواد، كان اصطنعه
السلطان أبو الحسن منذ تغلّبه عليهم، وفتحه لتلمسان سنة سبع وثلاثين
وسبعمائة فاستقرّ في دولتهم، ومن جملة صنائعهم، فأخذ بمخنق ابن حميدي
وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إليه، وداخله في التقبّض على أبي الفضل،
وأن يبذل له في ذلك ما أحبّ من المال، فأجاب ولاطف عبد الله بن مسلم
الأمير أبا الفضل ووعده من نفسه الدخول في الأمر، وطلب لقاءه، فركب
إليه أبو الفضل. ولما استمكن منه عبد الله بن مسلم تقبّض عليه، ودفع
لابن الحميدي ما اشترط له من المال، وأشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان
أبي عنان سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأودعه السجن، وكتب بالفتح إلى
القاصية. ثم قتله لليال من اعتقاله خنقا بمحبسه. وانقضى أمر الخوارج،
وتمهّدت الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ومهّد انحاءه.
(7/389)
(الخبر عن انتقاض
عيسى بن الحسن بجبل الفتح ومهلكه)
كان عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق هذا من مشيخة بني مرين، وكان
صاحب شوراهم لعهده، وقد كنا قصصنا من أخبار أبيه الحسن عند ذكر دولة
أبي الربيع. وكان السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس،
وأنزله بجبل الفتح عند ما أكمل بناءه وجعل إليه النظر في مسالح الثغور
وتفريق العطاء على مسالحها، فطال عهد ولايته ورسخ فيها قدمه، وكان
السلطان أبو الحسن يبعث عنه في الشورى متى عنت. وحضره عند سفره إلى
افريقية وأشار عليه بالاقتصار عنها، وأراه ان قبائل بني مرين لا تفي
اعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر وأنّ إفريقية
تحتاج من ذلك إلى أوفر الأعداد وأشدّ الشوكة، لتغلّب العرب عليها، وبعد
عهدهم بالانقياد، فأعرض السلطان عن نصيحته لما كان شره إلى تملكها،
وصرفه إلى مكان عمله بالثغور الأندلسية. ولما كانت نكبة القيروان
وانتزى الأبناء بفاس وتلمسان، أجاز البحر لحسم الداء ونزل بغسّاسة ثم
انتقل إلى وطنه بتازى وجمع قومه بني عسكر، وألقى السلطان أبا عنان قد
هزم عساكر ابن أخيه وأخذ بمخنقه، فأجاب عليه وبيته بمعسكره من ساحة
البلد الجديد وعقد السلطان أبو عنان على حربه لصنيعته سعيد بن موسى
العجيسي، وأنزله بثغر بلاد بني عسكر على وادي بوحلوا. وتواقفا كذلك
أياما حتى تغلّب السلطان أبو عنان على البلد الجديد، ثم أرسل عيسى بن
الحسن في الرجوع إلى طاعته وأبطأ عنه صريخ السلطان أبي الحسن بإفريقية
فراجعه واشترط عليه، فتقبل وسار إليه فتلقاه السلطان وامتلاء سرورا
بمقدمه، وأنزله بصدوره [1] وجعل الشورى إليه في مجلسه، واستمرّت على
ذلك حاله.
ولما تمكّنت حال ابن أبي عمرو بعد مهلك السلطان أبي الحسن انفرد بخلة
السلطان ومناجاته، وحجبه عن الخاصة والبطانة، أحفظه ذلك ولم يبدها.
واستأذن السلطان في الحجّ، فأذن له وقضى فرضه، ورجع إلى محله من بساط
السلطان سنة
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وأنزله قصوره.
(7/390)
ست وخمسين وسبعمائة ولقي ابن أبي عمرو
بجباية، وتطارح عليه في ان يصلح حاله عند سلطانه، فوعده في ذلك، ولما
وفد على السلطان وجده قد استبدّ في الشورى، وتنكّر للخاصة والجلساء،
فاستأذنه في الرجوع إلى محلّه من الثغر لإقامة رسم الجهاد فأذن له.
وأجاز البحر إلى جبل الفتح من سنته، وكان صاحب ديوان العطاء بالجبل
يحيى الفرقاجي، وكان مستظهرا على العمّال، وكان ابنه أبو يحيى قدم برم
بمكانه.
فلمّا وصل عيسى إلى الجبل اتبعه السلطان بأعطيات المسالح مع مسعود بن
كندوس [1] من صنائع دولته، فسرّب الفرقاجي إلى الضرب على يده شأنه مع
ابنه أيام مغيبه، وأنف عيسى من ذلك فتقبّض عليه، وأودعه المطبق، وردّ
ابن كندوس على عقبه، وأركبه السفين من ليلته إلى سبتة، وجاهر بالخلعان،
وبلغ الخبر إلى السلطان أبي عنان فقلق لذلك، وقام في ركائبه وقعد،
وأوعز بتجهيز الأساطيل، وظنّ أنه قد تدبّر من الطاغية وابن الأحمر.
وبعث أحمد بن الخطيب قائد البحر بطنجة عينا على شأنهم، فوصل إلى مرسى
الجبل. وكان عيسى بن الحسن لما جاهر بالخلعان تمشّت رجالات الثغر
وعرفاء الرجل من غمارة الغزاة الموطنون بالجبل، وتحدّثوا في شأنه،
وامتنعوا من الخروج على السلطان، وتآمروا في إسلامه برمته.
وخلا به سليمان بن داود من عرفاء العسكر [2] ، كان من خواصه وأهل
شوراه، وكان عيسى قد مكن قومه عند السلطان واستعمله على رنده، فلما
جاهر عيسى بالخلعان، وركب ظهر الغدر، خالفه سليمان هذا إلى طاعة
السلطان، وأنفذ كتبه وطاعته، واشتبه عليه الأمر فندم إذ لم يكن بني
أمره على أساس من الرأي، فلما احتلّ أسطول أحمد بن الخطيب بمرسى الجبل،
خرج إليه وناشده الله والعهد أن يبلغ السلطان طاعته، والبراءة مما صنع
أهل الجبل، ونسبها إليهم. فعند ذلك خشي غمارة على أنفسهم، فثاروا به،
ولجأ إلى الحصن فاقتحموه عليه وشدّوه وابنه وثاقا، وألقوه في أسطول ابن
الخطيب، وأنزله بسبتة وطيّر للسلطان بالخبر، فخلع عليه وأمر خاصّته
فخلعوا عليه. وبعث عمر ابن وزيره عبد الله بن علي وعمر بن العجوز قائد
جند النصارى، فأحضروهما بدار السلطان يوم منى من سنة ست وخمسين
وسبعمائة وجلس لهما السلطان ووقفا بين يديه وتنصّلا واعتذرا، فلم يقبل
منهما وأودعهما السجن وشدد
__________
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابن كندوز
[2] وفي نسخة ثانية: سليمان بن داود بن أعراب العسكري.
(7/391)
وثاقهما، حتى قضى منسك الأضحى. ولما كان
ختم سنته أمر بهما فجنبا إلى مصارعهما وقتل عيسى قعصا بالرماح، وقطع
ابنه أبو يحيى من خلاف، وأبى من مداواة قطعه، فلم يزل يتخبّط في دمه
إلى أن هلك لثالثة [1] قطعه، وأصبحا مثلا في الآخرين، وعقد على جبل
الفتح وسائر ثغور الأندلس لسليمان بن داود إلى أن كان من أمره ما نذكره
إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض السلطان الى فتح قسنطينة وفتحها ثم فتح تونس عقبها)
لما هلك الحاجب محمد بن أبي عمرو، عقد السلطان على ثغور بجاية وما
وراءها من بلاد إفريقية لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد، وسرّحه إليها
وأطلق يده في الجباية والعطاء. وكانت جبال ضواحي قسنطينة قد تملكها
السلطان لما كانت الزواودة متغلّبة عليها. وكان عامّة أهل ذلك الوطن
قبائل سدويكش، وعقد السلطان عليهم لموسى ابن إبراهيم بن عيسى، وأنزله
بتاوريرت آخر عمل بجاية في أقاربه وولده وصنائعه.
ولما نزل ابن أبي عمرو بجاية وأخذ بمخنق قسنطينة، ثم أرحل عنها على ما
عقد من السلم مع المولى الأمير أبي زيد، أنزل موسى بن إبراهيم بميلة،
فاستقرّ بها. ولمّا ولي الوزير عبد الله بن علي أمر إفريقية، أوعز إليه
السلطان بمنازلة قسنطينة، فنزلها سنة سبع وخمسين وسبعمائة وأخذ
بمخنقها، ونصب المنجنيق عليها، واشتدّ الحصار بأهلها، وكادوا أن يلقوا
باليد لولا ما بلغ العسكر من الإرجاف بمهلك السلطان فأفرجوا عنها، ولحق
المولى أبو زيد ببونة، وأسلم البلد إلى أخيه مولانا الأمير أبي العبّاس
أيّده الله تعالى، عند ما وصل إليه من إفريقية، كان بها مع العرب طالبا
ملكهم بتونس، ومجلبا بهم على ابن تافراكين منذ نازلوا تونس سنة ثلاث
وخمسين وسبعمائة كما مرّ، فلمّا رجع الآن إلى قسنطينة مع خالد بن حمزة،
داخل المولى أبا زيد في خروجه إلى حصار تونس، وإقامة مولانا أبي
العبّاس بقسنطينة، فأجاب لذلك وخرج معه، ودخل مولانا أبو العبّاس إلى
قسنطينة، ودعا لنفسه، وضبط قسنطينة وكان مدلا ببأسه وإقدامه، وداخله
بعض المنحرفين من بني مرين من أولاد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لثانية
(7/392)
بو سعيد وسدويكش في تبييت موسى بن إبراهيم
بمعسكره من ميلة، فبيّتوه وانتهبوا معسكره وقتلوا أولاده وخلص إلى
تاوريرت، ثم إلى بجاية، ولحق بمولانا السلطان مفلولا. ونكر السلطان على
وزيره عبد الله بن علي ما وقع بموسى بن إبراهيم، وأنه قصّر في إمداده،
فسرّح شعيب بن ميمون وتقبّض عليه، وأشخصه إلى السلطان معتقلا، وعقد على
بجاية مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود من صنائع دولته، وفي خلال ذلك
راسل المولى أبو زيد الحاجب أبا محمد عبد الله بن تافراكين المتغلّب
على عمّه إبراهيم في النزول لهم عن بونه، والقدوم عليهم بتونس، فقبلوه
وأحلّوه محل وليّ العهد، واستعملوا على بونة من صنائعهم، ولما بلغ خبر
موسى بن إبراهيم إلى السلطان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين وسبعمائة
اعتزم على الحركة إلى إفريقية، واضطرب معسكره بساحة البلد الجديد، وبعث
في الحشد إلى مراكش. وأوعز إلى بني مرين بأخذ الأهبة للسفر، وجلس
للعطاء والاعتراض من لدن وصول الخبر إليه إلى شهر ربيع من سنة ثمان
وخمسين وسبعمائة. ثم ارتحل من فاس وسرّح في مقدمته وزيره فارس بن ميمون
في العساكر، وسار في ساقته على التعبية إلى أن احتل ببجاية، وتلوّم
لإزاحة العلل. ونازل الوزير قسنطينة. ثم جاء السلطان على أثره ولما
أطلّت راياته، وماجت الأرض بعساكره، ذعر أهل البلد، وألقوا بأيديهم إلى
الإذعان، وانفضّوا من حول سلطانهم مهطعين إلى السلطان، وتحيّز صاحب
البلد في خاصّته إلى القصبة. ووصل أخوه المولى الفضل فطلب الأمان،
فبذله السلطان لهم وخرجوا، وأنزلهم بمعسكره أياما، ثم بعث بالسلطان في
الاسطول إلى سبتة فاعتقله بها إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد.
وعقد على قسنطينة لمنصور ابن الحاج خلوف الباباني [1] من مشيخة بني
مرين وأهل الشورى منهم، وأنزله بالقصبة في شعبان من سنته، ووصل إليه
بمعسكره من ساحة قسنطينة بيعة يحيى بن يملول صاحب توزر، وبيعة علي بن
الخلف صاحب نفطة.
ووفد ابن مكي مجدّدا طاعته. ووصل إليه أولاد مهلهل أمراء الكعوب وأقتال
بني أبي الليل يستحثّونه لملك تونس، فسرّح معهم العساكر وعقد عليهم
ليحيى بن رحّو بن تاشفين، وبعث أسطوله في البحر مددا لهم، وعقد عليه
للرّئيس محمد بن يوسف
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الياباني
(7/393)
الأبكم، وساروا إلى تونس وأخرج الحاجب أبا
محمد بن تافراكين سلطانه أبو إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى مع
أولاد أبي الليل، وجهّز معه العساكر لما أحسّ بقدوم عساكر السلطان.
ووصل الأسطول إلى مرسى تونس فقاتلهم يوما أو بعض يوم، وركب الليل إلى
المهديّة فتحصّن بها. ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة
ثمان وخمسين وسبعمائة وأقاموا بها دعوته. واحتل يحيى بن رحّو بالقصبة،
وأنفذ الأوامر، وكتبوا إلى السلطان بالفتح. ونظر السلطان بعد ذلك في
أحوال ذلك، وقبض أيدي العرب من رياح عن الإتاوة التي يسمونها الخفارة
فارتابوا، وطالبهم بالرهن فأجمعوا على الخلاف. فأرهف لهم حدّه، وتبيّن
يعقوب ابن علي أميرهم مكره، فخرج معهم ولحقوا جميعا بالزاب، وارتحل في
أثرهم.
وسار يوسف بن مزني عامل الزاب ببعض الطريق أمامه حتى نزل ببسكرة. ثم
ارتحل إلى طولقة [1] فتقبّض على مقدّمها عبد الرحمن بن أحمد بإشارة ابن
مزني، وخرّب حصون يعقوب بن علي، وأجفلوا إلى القفر أمامه. ورجع عنهم.
وحمل له ابن مزني جباية الزاب بعد أن ردّ عامّة معسكره بالقرى من الأدم
والحنطة والحملان والعلوفة ثلاث ليال نفذت في ذلك، وكافأه السلطان على
صنيعه، فخلع عليه وعلى أهله وولده وأسنى جوائزهم ورجع إلى قسنطينة،
واعتزم على الرحلة إلى تونس.
وضاق ذرع العساكر بشأن النفقات والأبعاد في المذهب، وارتكاب الخطر في
دخول افريقية، فتمشّت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان. وداخلوا الوزير
فارس بن ميمون فوافقهم على ذلك وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم
من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفردوا، وأنهى إلى السلطان أنّهم
تآمروا في قتله. ونصب إدريس بن أبي عثمان بن أبي العلاء للأمر، فأسرّها
في نفسه ولم يبدها لهم. ورأى قلّة من معه من العساكر، وعلم بانفضاضهم،
فكرّ راجعا إلى المغرب بعد أن ارتحل عن قسنطينة مرحلتين إلى الشرق،
وأغذ السير إلى فاس، واحتل بها غرّة ذي الحجة من سنته. وتقبّض يوم
دخوله على وزيره فارس بن ميمون، اتهمه بمداخلة بني مرين في شأنه، وقتله
رابع أيام التشريق قعصا بالرماح، وتقبّض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم
وأودع منهم السجن، وبلغ إلى الجهات خبر رجوعه من قسنطينة إلى
__________
[1] مدينة بالمغرب من ناحية الزاب الكبير من صقع الجريد (معجم البلدان)
.
(7/394)
المغرب فارتحل أبو محمد بن تافراكين من
المهديّة إلى تونس، ولما أطلّ عليها ثار شيعته بالبلد على من كان بها
من عساكر السلطان، وخلصوا إلى السفين، فنجوا إلى المغرب، وجاء على
أثرهم يحيى بن رحّو بمن معه من العساكر من أولاد مهلهل، كان بناحية
الجريد لاقتضاء جبايته، واجتمعوا جميعا بباب السلطان، وأرجأ حركته إلى
العام [1] القابل، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وزارة سليمان بن داود ونهوضه
بالعساكر إلى إفريقية)
لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها، بقي في نفسه منها شيء.
وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الزواودة
المخالفين، فأهمّه شأنهم، واستدعى سليمان بن داود من مكانه بثغور
الأندلس، وعقد له على وزارته، وسرّحه في العساكر إلى إفريقية، فارتحل
إليها في ربيع من سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان يعقوب بن علي لمّا كشف
وجهه في الخلاف، أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن علي منازعة، وقدّمه
على أولاد محمد من الزواودة، وأحله بمكانه من رياسة البدو والضواحي،
ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثير من قومهم، وتمسّك بطاعة السلطان طوائف
من أولاد سبّاع بن يحيى وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان،
فانحاشوا جميعا للوزير ونزلوا على معسكره بحللهم. وارتحل السلطان في
أثره حتى احتل بتلمسان فأقام بها لمشارفة أحواله منها، واحتل الوزير
سليمان بوطن قسنطينة. وأغذّ السير إلى عمال الزاب يوسف بن مزني بأن
تكون يده معه، وأن يؤامره في أحوال الزواودة لرسوخه في معرفتها، فارتحل
إليه من بسكرة، ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبايته ومغارمه. وشرّدوا
المخالفين من الزواودة عن العيث في الوطن، فتمّ غرضهم من ذلك. وانتهى
الوزير وعساكر السلطان إلى أوّل أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح،
وانكفأ راجعا إلى المغرب. ووافى السلطان بتلمسان، ووصلت معه وفود العرب
الذين أبلوا في الخدمة، فوصلهم السلطان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الى اليوم القابل.
(7/395)
وخلع عليهم وحملهم، وفرض لهم العطاء بالزاب
وكتب لهم به، وانقلبوا إلى أهلهم، ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن
مزني، أوفده أبوه بهديّة السلطان من الخيل والرقيق والرزق [1] فتقبّلها
السلطان وأكرم وفادته وأنزله، واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته،
وليستبلغ في الاحتفاء به، واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع
وخمسين وسبعمائة والله أعلم.
الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان ونصب
السعيد للأمر باستبداد الوزير حسن بن عمر في ذلك
لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس، احتل بها بين يدي العيد الأكبر حتى
إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض، وأعجله طائف الوجع عن
الجلوس يوم العيد على العادة، فدخل إلى قصره ولزم فراشه، واستبدّ به
وجعه، وأطاف به النساء يمرّضنه. وكان ابنه أبو زيان ولي عهده، وكان
وزيره يحيى بن موسى القفولي [2] من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم، قد
عقد له السلطان على وزارته واستوصاه به، فتعجّل الأمر، وداخل رءوس بني
مرين في الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر وداخله في
ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهما الحسن بن عمر على
نفسه. وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره، وكانت نفرتهم عن وليّ العهد
مستحكمة لما أبلوا من سوء خلته وشرّ ملكته، فاتفقوا على تحويل الأمر
عنه. ثم نمي إليهم أنّ السلطان مشرف على الهلكة لا محالة، وأنه موقع
بهم من قبل مهلكه، فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد
طفلا خماسيا، وباكروا دار السلطان فتقبّضوا على وزيره موسى بن عيسى
وعمر بن ميمون فقتلوهما، وأجلسوا السعيد للبيعة. وأوعز وزيره مسعود بن
رحو بن ماسى بالتقبّض على أبي زيّان من نواحي القصر، فدخل إليه وتلطّف
في إخراجه من بين الحرم.
وقاده إلى أخيه فبايع وتلّ إلى بعض حجر القصر، فأتلف فيها مهجته.
واستقلّ الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة
من سنة تسع
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الدرق.
[2] وفي نسخة ثانية: العقولي.
(7/396)
وخمسين وسبعمائة والسلطان أثناء ذلك على
فراشه يجود بنفسه. وارتقب الناس دفنه يوم الأربعاء والخميس بعده، فلم
يدفن فارتابوا، وفشا الكلام وارتاب الجماعة، فأدخل الوزير زعموا إليه
بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه. ودفن يوم السبت، وحجب الحسن بن عمر
الولد المنصوب للأمر، وأغلق عليه بابه، وتفرّد بالأمر والنهي دونه.
ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل الكاي يوم بيعة أخيه، وكان
أسنّ منه وإنما آثروه لمكان ابن عمّه مسعود بن ماسي من وزارته، فبعثوا
إليه من لاطفه واستنزله على الأمان، وجاء به إلى أخيه فاعتقله الحسن
بالقصبة من فاس.
وبعث على أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور، فجاء المعتصم من
سجلماسة، وامتنع المعتمد بمراكش، وكان بها في كفالة عامر بن محمد
الهنتاتي استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره، فمنعه من الوصول، وخرج
به من مراكش إلى معقلة من جبل هنتاتة، وجهّز الوزير العساكر لمحاربته،
ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمّه السلطان أبو سالم عند استيلائه على
ملك المغرب، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن تجهيز العساكر الى مراكش ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة
عامر بن محمد
كان عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة من قبائل المصامدة. وكان السلطان
يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جبايتهم، والسلطان أبو سعيد
استعمل عمّه موسى بن علي وربّي عامر هذا في كفالة الدولة، وسار في جملة
السلطان إلى إفريقية، وولّاه السلطان أحكام الشرطة بتونس. ولمّا ركب
البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفن، وجعلهم إلى نظر عامر بن
محمد. وأجازوا البحر إلى الأندلس فنزلوا المريّة وبلغهم غرق السلطان
أبي الحسن وعسكره، فأقام بهم بمكانه من المريّة، ودعي للسلطان أبي
عنان، فلم يجب داعية وفاء ببيعة أبيه، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن
بدارهم بالجبل، ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه، حين لفظته
البلاد وتحاماه الناس، أجمع أمره على الوفادة عليه، فوفد بمن معه من
الحرم. وأكرم السلطان أبو عنان وفادته وأحسن نزله، ثم عقد له على جباية
المصامدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة وبعثه لها من تلمسان، فاضطلع بهذه
الولاية وأحسن
(7/397)
الغناء فيها، والكفاية عليها، حتى كان
السلطان أبو عنان يقول: وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من
سلطاني كما كفاني عامر بن محمد ناحية المغرب، وأتورع، ونافسه الوزراء
في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته. وانفرد الحسن بن عمر آخر الأمر
بوزارة السلطان، واشتدّت منافسته وانتهت إلى العداوة والسعاية.
وكان السلطان بين يدي مهلكه ولّى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه، فعقد
لابنه محمد المعتمد على مراكش، واستوزر له، وجعله إلى نظر عامر
واستوصاه به. فلمّا هلك السلطان واستقل الحسن بن عمر بالأمر ونصّب
السعيد للملك، استقدم الأبناء من الجهات، فبعث عن المعتمد من مراكش
فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم، وصعد به إلى معقلة من جبل هنتاتة،
وبلغ الحسن بن عمر خبره، فجهّز إليه العساكر وأزاح عللهم، وعقد على
حربه للوزير سليمان بن داود مساهمه في القيام بالأمر، وسرّحه في المحرم
سنة ستين وسبعمائة، فأغذ السير إلى مراكش واستولى عليها، وصعد إلى
الجبل فأحاط به، وضيّق على عامر وطاول منازلته. وأشرف على اقتحام معقلة
إلى أن بلغه خبر افتراق بني مرين، وخروج منصور بن سليمان من أعياص
الملك على الدولة، وأنه منازل للبلد الجديد، فانفضّ العسكر من حوله
وتسابقوا إلى منصور بن سليمان، فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفّس
الحصار عن عامر، إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في
شعبان من سنة ستين وسبعمائة واستقدم عامرا والمعتمد ابن أخيه من مكانهم
بالجبل، فقدم عليه وأسلمه إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن ظهور أبي حمو بنواحي تلمسان
وتجهيز العساكر لمدافعته، ثم تغلبه وما تخلل ذلك من الأحداث
كان ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن هؤلاء أربعة كما ذكرناه في
أخبارهم، وكان يوسف كبيرهم، وكان سكوتا منتحلا لطرق الخير لا يريد علوا
في الأرض، ولما هلك أخوه عثمان بتلمسان، عقد له على هنين [1] ، وكان
ابنه يوسف بن موسى [2]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: تنس.
[2] وفي نسخة ثانية: وكان ابنه موسى.
(7/398)
متقبّلا مذهبه في السكوت والدعة ومجانبة
أهل الشرّ، ولما تغلّب السلطان أبو عنان عليهم سنة ثلاث وخمسين
وسبعمائة وفرّ أبو ثابت إلى قاصية المشرق، واستلبهم [1] قبائل زواوة
وأرجلوهم عن خيلهم سعوا على أقدامهم، وانتبذ أبو ثابت وأبو زيّان ابن
أخيه أبي سعيد وموسى ابن أخيه يوسف ووزيرهم يحيى بن داود ناحية عن
قومهم، وسلكوا غير طريقهم، وتقبّض على أبي ثابت ويحيى بن داود محمد بن
عثمان، وخلص موسى إلى تونس، فنزل على الحاجب محمد بن تافراكين وسلطانه
خير نزل، وأجارهم مع فلّ من قومه خلصوا إليهم وأسنوا جرايتهم. وبعث
السلطان أبو عنان فيهم إلى ابن تافراكين فأبى من إسلامهم وجاهر
بإجارتهم على السلطان.
ولما استولت عساكر السلطان على تونس، وأجفل عنها سلطانها أبو إسحاق
إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، خرج موسى بن يوسف هذا في جملته،
ولما رجع السلطان إلى المغرب صمد المولى أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا
السلطان أبي يحيى، وابن أخيه المولى أبي زيد صاحب قسنطينة مع يعقوب بن
علي وقومه من الزواودة إلى منازلة قسنطينة وارتجاعها، وسار في جملتهم
موسى بن يوسف هذا فيمن كان عنده من زناتة قومه. وكان بنو عامر من زغبة
خارجين على السلطان أبي عنان منذ غلبه بنو عبد الواد على تلمسان. وكانت
رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم، لحق بإفريقية في قومه ونزلوا على
يعقوب بن علي، وجاوروه بحللهم وظعنهم، فلما أفرجوا عن قسنطينة بعد
امتناعها، واعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب
الأوسط، دعوا موسى بن يوسف هذا إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر، ويجلبوا
به على تلمسان، فخلّى الموحدون سبيله، وأعانوه بما اقتدروا عليه
لوقتهم، وعلى حال سفرهم من آلة وفسطاط. وارتحل مع بني عامر، وارتحل مع
صولة بن يعقوب بن علي، وزيّان بن عثمان بن سبّاع من أمراء الزواودة،
وصغار [2] بن عيسى في حلل من بني سعيد إحدى بطون رياح. وأغذّوا السير
إلى المغرب للعيث في نواحيه. وجمع لهم أقتالهم من سويد أولياء السلطان
والدولة، والتقوا بقبلة تلمسان، فانهزمت سويد وهلك عثمان بن ونزمار
كبيرهم، وكان مهلك السلطان في خلال ذلك.
وكان السلطان حين استعمل الأبناء على الجهات، عقد لمحمد المهدي من
أولاده على
__________
[1] وفي نسخة ثانية: واهتبلتهم.
[2] وفي نسخة ثانية: دغار.
(7/399)
تلمسان. ولما اتصل الخبر بوفاة السلطان
بالمغرب، أغذّوا السير إلى تلمسان، وملكوا ضواحيها، وجهّز الحسن بن عمر
لها عسكرا عقد عليه وعلى الحامية الذين بها لسعيد ابن موسى العجيسي من
صنائع السلطان. وسرّحه إليها، وسار في جملته أحمد بن مزني فاصلا إلى
عمله بعد أن وصله وخلع عليه وحمله، وسار سعيد بن موسى في العساكر إلى
تلمسان، واحتل بها في صفر من سنة ستين وسبعمائة وزحف إليه جموع بني
عامر وسلطانهم أبو حمّو موسى بن يوسف، فغلبوهم على الضاحية وأحجزوهم
بالبلد. ثم ناجزوهم الحرب أياما، واقتحموها عليهم لليال خلون من ربيع،
واستباحوا من كان بها من العسكر، وامتلأت أيديهم من أسلابهم ونهابهم.
وخلص سعيد بن موسى بابن السلطان إلى حلّة صغير بن عامر فأجاره ومن جاء
على أثره من قومه، وأوفد برجالات من بني عامر ينصبون [1] له الطريق
أمامه إلى أن أبلغوه مأمنه من دار ملكهم، واستولى أبو حمّو على ملك
تلمسان، واستأثر بالهدية التي ألفى بمودعها، كان السلطان انتقاها وبعث
بها إلى صاحب برشلونة بطرة بن ألقنط وبعث إليه فيه بفرس أدهم من
مقرباته بمركب ولحام مذهبين ثقيلين. فاتخذ أبو حمّو ذلك الفرس لركوبه،
وصرف الهديّة في مصارفه ووجوه مذاهبه. والله غالب على أمره.
الخبر عن نهوض الوزير مسعود بن ماسي إلى
تلمسان وتغلبه عليها ثم انتقاضه ونصبه سليمان بن منصور للامر
لما بلغ الوزير الحسن بن عمر خبر تلمسان واستيلاء أبي حمو عليها، جمع
مشيخة بني مرين وأمرهم بالنهوض إليها، فأبوا عليه من النهوض بنفسه،
وأشاروا بتجهيز العساكر ووعدوه مسيرهم كافة، ففتح ديوان العطاء وفرّق
الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد. ثم عقد
عليهم لمسعود بن رحّو بن ماسي وحمل معه المال وأعطاه الآلة وسار في
الألوية والعساكر. وكان في جملته منصور بن سليمان بن منصور بن أبي مالك
بن يعقوب بن عبد الحق، وكان الناس يرجفون بأنّ
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ينفضون: نفض المكان واستنقضه إذا نظر جميع ما فيه
حتى يعرفه. وعن الليث:
النفضة، بالتحريك، الجماعة يبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها
عدو أو خوف (لسان العرب) .
(7/400)
سلطان المغرب صائر إليه بعد مهلك أبي عنان.
وشاع ذلك على ألسنة الناس وذاع وتحدّث به السمّر والندمان، وخشي منصور
على نفسه لذلك، فجاء إلى الوزير الحسن وشكا إليه ذلك، فانتهره أن يختلج
بفكره هذا الوسواس انتهارا خلا من وجه السياسة، فانزجر واقتصر. ولقد
شهدت هذا الموطن، ورحمت ذلّة انكساره وخضوعه في موقفه. ورحل الوزير
مسعود في التعبية وأفرج أبو حمّو عن تلمسان، ودخلها مسعود في ربيع
الثاني واستولى عليها. وخرج أبو حمّو إلى الصحراء، وقد اجتمعت عليه
جموع العرب من زغبة والمعقل. ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا
بانكاد بحللهم وظواعنهم، وجهز إليهم مسعود بن رحّو عسكرا من جنوده
انتقى فيه مشيخة بني مرين وأمراءهم، وعقد عليهم لعامر ابن عمّه عبّو بن
ماسي [1] ، وسرّحهم فزحفوا إليه بساحة وجدة، وصدقهم العرب الحملة،
فانكشفوا واستبيح معسكرهم، واستلبت مشيختهم، وأرجلوا عن خيلهم، ودخلوا
إلى وجدة عراة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بتلمسان، وكان في قلوبهم مرض
من استبداد الوزير عليهم وحجره لسلطانهم، فكانوا يتربّصون بالدولة.
فلما بلغ الخبر وحاص الناس لها حيصة الحمر، خلص بعضهم نجيا بساحة
البلد، واتفقوا على البيعة ليعيش بن علي بن أبي زيّان ابن السلطان أبي
يعقوب فبايعوه.
وانتهى الخبر إلى الوزير مسعود بن رحّو، وكان متحيّنا السلطان منصور بن
سليمان فاستدعاه وأكرهه على البيعة، وبايعه معه الرئيس الأكبر من بني
الأحمر، وقائد جند النصارى القهردور [2] ، وتسايل إليه الناس، وتسامع
الملأ من بني مرين بالخبر، فتهاووا إليه من كل جانب. وذهب يعيش بن أبي
زيّان لوجهه، فركب البحر وخلص إلى الأندلس، وانعقد الأمر لمنصور بن
سليمان. واحتمل بني مرين على كلمته، وارتحل بهم من تلمسان يريد المغرب.
واعترضهم جموع العرب في طريقهم فأوقعوا بهم، وامتلأت أيديهم من أسلابهم
وظعنهم. وأغذّوا السير إلى المغرب، واحتلوا بسبّو في منتصف جمادى
الأخيرة، وبلغ الخبر إلى الحسن بن عمر فاضطرب معسكره بساحة البلد.
وأخرج السلطان في الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه. ولما غشيهم
الليل انفضّ عنه الملأ إلى السلطان منصور بن سليمان، فأوقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ماساي.
[2] وفي نسخة ثانية: القمندوز.
ابن خلدون م 26 ج 7
(7/401)
الشموع وأذكى النيران حوالي الفسطاط، وجمع
الموالي والجند وأركب السلطان، ودخل إلى قصره، وانحجز بالبلد الجديد،
وأصبح منصور بن سليمان فارتحل في التعبية حتى نزل بكدية العرائس في
الثاني والعشرين لجمادى الأخيرة، واضطرب معسكره بها، وغدا عليها
بالقتال وشدّ عليها الحملات، وامتنعت يومها. ثم جمع الأيدي على اتخاذ
الآلات للحصار. واجتمعت إليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة، ولحقت به
كتائب بني مرين التي كانت محجّرة بمراكش لحصار عامر مع الوزير سليمان
بن داود فاستوزره، وأطلق عبد الله بن علي وزير السلطان أبي عنان من
معتقله بسبتة، فخلص منه خلوص الإبريز بعد السبك. وأمر منصور بن سليمان
بتسريح السجون، فخرج من كان بها من دعّار بجاية وقسنطينة، وكانوا
معتقلين من لدن استيلاء السلطان أبي عنان على بلادهم. وانطلقوا إلى
مواطنهم، وأقام على البلد الجديد يغاديها القتال ويراوحها ونزع عنه إلى
الوزير الحسن بن عمر طائفة من بني مرين. ولحق آخرون ببلادهم، وانتقضوا
عليه ينتظرون مآل أمره. ولبث على هذه الحال إلى غرّة شعبان، فكان من
قدوم السلطان أبي سالم لملك سلفه بالمغرب، واستيلائه عليه، ما نذكره إن
شاء الله تعالى.
الخبر عن نزول المولى أبي سالم بجبال غمارة
واستيلائه على ملك المغرب ومقتل منصور بن سليمان
كان السلطان أبو سالم بعد مهلك أبيه واستقراره بالأندلس، وخروج أبي
الفضل بالسوس لطلب الأمر، ثم ظفر السلطان أبي عنان به ومهلكه كما
ذكرناه، قد تورّع وسكن وسالمه السلطان. ثم لما هلك سلطان الأندلس أبو
الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة يوم الفطر بمصلى العيد طعنه أسود مدسوس
كان ينسب إلى أخيه محمد من بعض إماء قصرهم. ونصّبوا للأمر ابنه محمدا
وحجبه مولاه رضوان [1] .
واستبدّ عليه. وكان للسلطان أبي عنان اعتزاز كما ذكرناه، وكان يؤمّل
ملك الأندلس. وأوعز إليهم عند ما طرقه طائف المرض سنة سبع وخمسين
وسبعمائة أن
__________
[1] وفي نسخة ثانية: روضان.
(7/402)
يبعثوا إليه طبيب دارهم إبراهيم بن زرور
الذمّي، وامتنع من ذلك اليهودي، واعتذر وردّوه فتنكّر لهم السلطان،
ولما وصل إلى فاس من فتح قسنطينة وإفريقية تقبّض على وزيره والمشيخة من
قبله، تجنيا عليهم إذ لم يبادروا السلطان بنفسه أو حاجبه للتهنئة [1] .
وأظلم الجوّ بينهم، واعتزم على النهوض إليهم وكانوا منحاشين بالجملة
إلى الطاغية بطرة بن أدفونش صاحب قشتالة، منذ مهلك أبيه الهنشة على جبل
الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثم استبدّ رضوان على الدولة بعد مهلك
أبي الحجّاج، فكانت له صاغية إليه، ظاهرها النظر للمسلمين بمسالمة
عدوّهم. وكان السلطان أبو عنان يعتدّ ذلك عليهم، وعلم أنه لا بدّ أن
يمدّهم بأساطيله ويدافعوه عن الإجازة إليهم. وكان بين الطاغية بطرة
وبين قمص برشلونة فتنة هلك فيها أهل ملّتهم، فصرف السلطان قصده إلى قمص
برشلونة وخاطبه في اتصال اليد على ابن أدفونش، واجتمع أسطول المسلمين
وأسطول النصارى القمص بالزقاق، وضربوا لذلك الموعد وأتحفه السلطان
بهديّة سنيّة من متاع المغرب وماعونه، ومركب ذهبيّ صنيع، ومقرب من
جياده وأنفذها إليه، فبلغت تلمسان، وهلك قبل وصولها إلى محلها، ولما
هلك السلطان أبو عنان أمّل أخوه المولى أبو سالم ملك أخيه، وطمع في
مظاهرة أهل الأندلس له على ذلك لما كان بينهم وبين أخيه، واستدعاه
أشياع من أهل المغرب، ووصل البعض منهم إليه بمكانه من غرناطة، وطلب
الاذن من رضوان في الإجازة، فأبى عليه، فأحفظه ذلك. ونزع إلى ملك
قشتالة متطارحا بنفسه عليه أن يجهّز له الأسطول للإجازة إلى المغرب،
فاشترط عليه وتقبّل شرطه. وأجازه في أسطوله إلى مراكش، فامتنع عامر من
قبوله لما كان فيه من التضييق والحصار بحضرة سليمان بن داود كما
ذكرناه. فانكفأ راجعا على عقبه. فلما حاذى طنجة وبلاد غمارة وألقى
بنفسه إليهم، ونزل من الصفيحة من بلادهم. واشتملت عليه قبائلهم،
وتسايلوا إليه من كل جانب وبايعوه على الموت.
وملك سبتة وطنجة، وبها يومئذ السلطان أبو العبّاس بن أبي حفص صاحب
قسنطينة لحق بها بعد الخروج من اعتقاله بسبتة كما ذكرناه، فاختصّه
المولى أبو سالم
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إبراهيم بن زرزر الذمي، وامتنع من ذلك اليهودي،
واعتذر واعذره، فنكر لهم السلطان قبله، ولما وصل الى فاس من فتح
قسنطينة وافريقية وتقبّض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم، إن
لم يبادر السلطان بنفسه وحاجبه للتهنئة.
(7/403)
بالصحبة والخلّة، والبواء [1] في اغترابه
ذلك، إلى أن استولى على ملكه، وألفى بطنجة الحسن بن يوسف الورتاجني،
وكاتب ديوان الجند أبا الحسن بن علي بن السعود، والشريف أبا القاسم
التلمساني. فكان منصور بن سليمان ارتاب بهم واتهمهم بمداخلة الوزير
الحسن بن عمر بمكانه من البلد الجديد، فصرفهم من معسكره إلى الأندلس،
فوافوا الأمير [2] أبا سالم عند استيلائه على طنجة، فصاروا إلى إيالته،
واستوزر الحسن بن يوسف، واستكتب لعلامته أبا الحسن علي بن السعود،
واختص الشريف بالمجالسة والمراكبة. ثم قام أهل الثغور الأندلسية
بدعوته، وأجاز يحيى بن عمر صاحب جبل الفتح بمن كان معه من العسكر،
وطالت حصاة المولى أبي سالم واتسع معسكره، وبلغ الخبر إلى الثائر على
البلد الجديد منصور بن سليمان، فجهّز عسكرا لدفاعه وعقد عليه لأخويه
عيسى وطلحة، وأنزلهما قصر كتامة، وقاتلوه فهزموه، واعتصم بالجبل وبادر
الحسن بن عمر من وراء الجدران فبعث طاعته إليه، ووعده بالتمكين من دار
ملكه. وداخل بعض أشياع المولى أبي سالم مسعود بن رحّو بن ماسي وزير
منصور في النزوع إلى السلطان، وكان قد ارتاب بمنصور وابنه عليّ، فنزع
وانفضّ الناس من حول منصور، وتخاذل أشياعه من بني مرين، ولحق بباديس من
سواحل المغرب. ومشى أهل العسكر بأجمعهم في ساقاتهم ومواكبهم على
التعبية، فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستعدوه إلى دار ملكه، فأغذّ السير
وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد من الأمر لتسعة أشهر من خلافته،
وأسلمه عمّه وخرج إليه فبايعه.
ودخل السلطان إلى البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من سنة ستين
وسبعمائة واستولى على ملك المغرب، وتوافت وفود النواحي بالبيعات، وعقد
للحسن بن عمر على مراكش، وجهّزه إليها بالعساكر ريبة بمكانه. واستوزر
مسعود بن رحّو بن ماسي والحسن بن يوسف الورتاجني، واصطفى من خواصّه
خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وجعل إلى مؤلف
هذا الكتاب توقيعه وكتابة سرّه. وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن
سليمان بكدية العرايس لما رأيت من اختلال أحواله، ومصير الأمر إلى
السلطان، فأقبل عليّ وأنزلني بمحل التنويه،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وألفه.
[2] وفي نسخة ثانية: المولى.
(7/404)
واستخلصني لكتابته. واستوسق أمره بالمغرب
وتقبّض شيعة السلطان بباديس على منصور بن سليمان وابنه عليّ وقادوهم
مصفّدين إلى سدّته، وأحضرهم ووبّخهم، وجنبوا إلى مصارعهم، فقتلوا قعصا
بالرماح آخر شعبان من سنته. وجمع الأبناء والقرابة المرشّحين من ولد
أبيه، وأشخصهم إلى رندة من ثغورهم بالأندلس، ووكّل بهم من يحرسهم، ونزع
محمد ابن أخيه أبو عبد الرحمن منهم إلى غرناطة. ثم لحق منها بالطاغية،
واستقرّ لديه حتى كان من تملّكه المغرب ما نقصّه إن شاء الله تعالى.
وهلك الباقون غرقا بالبحر بإيعاز السلطان بذلك بعد مدّة من سلطانه،
أركبهم السفن إلى المشرق، ثم غرّقهم. وخلص الملك من الخوارج
والمنازعين، واستوسق له الأمر، والله غالب على أمره. واحتفل السلطان في
كرامة مولانا السلطان أبي العبّاس، وأشاد ببره وأوعز باتخاذ دار عامر
بن فتح الله وزير أبيه لنزله، ومهّد له المجلس لضيق أريكته، ووعده
بالمظاهرة على ملكه إلى أن بعثه من تلمسان عند استيلائه عليها، كما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة
ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان)
لما هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصّب ابنه محمد
للأمر، واستبدّ عليه رضوان مولى أبيه، وكان قد رشّح ابنه الأصغر
إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته. فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه
ببعض قصورهم، وقد كان له صهر من ابن عمّه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس
أبي سعيد في شقيقته فكان يدعوه سرّا إلى القيام بأمره متى أمكنته فرصة
في الدولة، فخرج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه، فصعد سور الحمراء
ليلة سبع وعشرين من رمضان من سنة ستين وسبعمائة في بعض أوشاب، جمعهم من
الطغام لثورته. وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين
حرمه وبناته، وقربوا إلى إسماعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا
بيعته، وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفرّ السلطان من مكانه بمنتزهه إلى
وادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم،
فامتعض لمهلك رضوان، وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم، وأزعج
(7/405)
لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه
لاستقلاله، فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من
وادي آش إلى المغرب، وأطلق اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن
الخطيب، كانوا اعتقلوه لأوّل أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا
لدولة المخلوع. فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه، فأطلقوه. ولحق
الرسول أبو القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى
المغرب، وأجاز لذي القعدة من سنته. وقدم على السلطان بفاس وأجلّ قدومه،
وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه [1] ، وغصّ
بالمشيخة والعلية. ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائقة
يستصرخه لسلطانه، ويستحثّه لمظاهرته على أمره. واستعطف واسترحم بما
أبكى الناس شفقة له ورحمة، ونصّ القصيدة:
سلا هل لديها من محبّرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونمّ به الزهر
وهل باكر الوسميّ دارا على اللوى ... عفت آيها إلّا التوهّم والذكر
بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر
وجوّي الّذي ربّى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر
نبت بي لا عن جفوة وقلالة ... ولا نسخ الوصل الهنيّ لها هجر
ولكنّها الدنيا قليل متاعها ... ولذّاتها دأبا تزور وتزوّر
فمن لي بنيل القرب منها ودوننا ... مدى طال حتّى يومه عندنا شهر
وللَّه عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كلّ جانحة جمر
وقد بدّدت درّ الدموع يد النوى ... وللبين أشجان يضيق لها الصدر
بكينا على النهر السرور عشيّة ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر
أقول لأظعاني وقد غالها السري ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر
رويدك بعد العسر يسر فأبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر
وإن تجبن الأيام لم تجبن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخدل الصبر
وإن عركت منّي الخطوب مجرّبا ... نقابا تسوّى عنده الحلو والمرّ [2]
__________
[1] وفي نسخة ثانية: بزينته.
[2] وفي نسخة ثانية: نفاقا تساوي عنده الحلو والمرّ.
(7/406)
فقد عجمت عودا صليتا مقوما [1] ... وعزما
كما تمضي المهنّدة البتر
إذا أنت بالبيضاء قد زرت منزلي ... فلا اللّحم حلّ ما جنيت [2] ولا
الظهر
زجرنا بإبراهيم ملء [3] همومنا ... فلمّا رأينا وجهه صدق الزجر
بمنتخب من آل يعقوب كلّما ... دجا الخطب لم يكذب لعرمته فخر
تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلمّا رأته صدّق الخبر الخبر
ندي لو حواه البحر لذّ مذاقه ... ولم يتعقّب مدّه أبدا جزر
وباس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أذياله الفتية [4] البكر
أطاعته حتى العصم في قنن الربا ... وهشّت إلى تأميله الأنجم الزّهر
قصدناك يا مولى الملوك على النوى ... لتنصفنا ممّا جنى عبدك الدهر
كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسّف والكبر
وعدنا بذاك المجد فانصرف الردى ... ولذنا بذاك العزّ فانهزم الشرّ
ولما أتينا البحر نرهب موجه ... ذكرنا بذاك العزّ الغمر فاحتقر البحر
[5]
خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر
ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضلّ في أوصاف من دونك الشعر
دعتك قلوب المسلمين وأخلصت ... وقد طاب منها السرّ للَّه والجهر
ومدّت إلى الله الأكفّ ضراعة ... فقال لهنّ الله قد قضي الأمر
وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحرّ
فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان ممّا نابه ليس يفتر
وأمّنت بالسّلم البلاد وأهلها ... فلا ضيمة تعدو ولا روعة تعرو
وقد كان مولانا أبوك مصرّحا ... بأنك في أولاده الولد البرّ
وقد كنت حقا بالخلافة بعده [6] ... على الفور لكن كلّ شيء له قدر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فقد عجمت عددا صليبا على النوى.
[2] وفي نسخة ثانية: ما حييت.
[3] وفي نسخة ثانية: برء.
[4] وفي نسخة ثانية: البتكة.
[5] وفي نسخة ثانية:
ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا بذاك الغمر ما احتقر البحر
[6] وفي نسخة ثانية: وكنت حقيقا بالخلافة بعده.
(7/407)
فأوحشت من دار الخلافة أهلها [1] ... أقامت
زمانا لا يلوح بها البدر
وردّ عليك الله حقّك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل السّتر
وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الأمانة واضطرّوا
وزادك بالتمحيص عزّا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر
وأنت الّذي تدعى إذا دهم الرّدى ... وأنت الّذي ترجى إذا أخلف القطر
وأنت إذا جار الزمان بحكمه ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر
وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... كسير ومن علياك يلتمس النصر
غريب يرجّي منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر
فعد يا أمير المؤمنين [2] لبيعة ... موثّقة قد حلّ عقدتها الغدر
ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بآل مرين جاءه العزّ والنصر
وخذ يا إمام الحقّ للحقّ ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العزّ والأجر
وأنت لها يا ناصر الحقّ فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو
فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر الحرّ [3]
يكفّ بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر
أعده إلى أوطانه عنك ثانيا ... وقلّده نعماك التي ما لها حصر
وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدّهم عنه التغلّب والقهر
وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر
مرامك سهل لا يؤدك كفله ... سوى أنّه عرض له في الغلى حظر [4]
وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكنّ الثناء هو العمر
ومن باع ما يفنى بباق مخلّد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر
ومن دون ما تبقيه يا مالك العلى ... جياد المذاكي والمحجّلة الغرّ
وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأراجلها درّ
وشهب إذا ما ضمّرت يوم غارة ... مطهّمة غارت بها الأنجم الزهر
__________
[1] وفي نسخة ثانية: هالة.
[2] وفي نسخة ثانية: المسلمين.
[3] وفي نسخة ثانية: المجر.
[4] وفي نسخة ثانية: سوى عرض ما ان له في العلى خطر.
(7/408)
وأسد رجال من مرين أعزة ... عمائمها بيض
وآمالها سمر
عليهم من الماذيّ كلّ مفاضة ... تدافع في أعطافها اللّجج الخضر
هم القوم إن هبّوا لكشف مملّة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر
إذا سئلوا أعطوا، وإن نوزعوا سطوا ... وإن وعدوا أوفوا وإن عاهدوا
برّوا
وإن سمعوا العواء وافوا بأنفس ... كرام على هاماتها في الورى البرّ [1]
وإن مدحوا هزّوا ارتياحا كأنّهم ... نشاوى تمشّت في معاطفهم خمر
وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر
أمولاي غاضت فكرتي وتبدّلت ... طباعي، فلا طبع يقيني [2] ولا فكر
ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم يبق عين ولا أثر
فأوجدت منى فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضمّ أشلاءه قبر
بدأت بفضل لم أكن لعظمه ... بأهل فحلّ اللّطف وانشرح الصدر
وطوّقتني النعمى المضعّفة [3] التي ... يقلّ عليها منّي الحمد والشكر
وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود العزّ والجاه والوقر
جزاك الّذي أسنى مقامك رحمة ... تفكّ بها العاني وينفس [4] مضطرّ
إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر
ولكنّنا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حقّ له العذر
ثم انقضى المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور
وقرّبت له الجياد بالمراكب المذهّبة، وبعث إليه بالكساء الفاخرة، ورتّب
الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع، وانحفظ عليه رسم
سلطانه في الركب والرجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الأداة أدبا مع
السلطان، واستقرّ في حملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه
سنة ثلاث وستين وسبعمائة ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وان سمعوا العوراء فروا بأنفس حرام على هماتها في
الوغي الغرّ
[2] وفي نسخة ثانية: بعين.
[3] وفي نسخة ثانية: المضاعفة.
[4] وفي نسخة ثانية: وينعش.
(7/409)
(الخبر عن انتقاض
الحسن بن عمر وخروجه بتادلا وتغلب السلطان عليه ومهلكه)
لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش واستقرّ بها، تأثّل له بها
سلطان ورياسة، نفسها أهل مجلس السلطان [1] وسعوا في تنكّر السلطان له،
حتى أظلم الجوّ بينهما، وشعر الوزير بذلك فارتاب بمكانه، وخشي بادرة
السلطان على نفسه، وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين
وسبعمائة فلحق بتادلّا منحرفا عن الطاعة، مرتبكا أمره، وتلقاه بنو جابر
من جشم، واعصوصبوا عليه وأجاروه.
وجهّز السلطان عساكره إلى حربه، وعقد عليها لوزيره الحسن بن يوسف
وسرّحه إليه فاحتل بتادلا، ولحق الحسن بن عمر بالجبل، واعتصم به مع
الحسين بن علي الورديغي كبيرهم. وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم،
وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم، وسرّب إليهم المال
فثاروا بهم، وانفض جمعهم، وتقبّض على الحسن بن عمر، وقاده برمّته إلى
عسكر السلطان فاعتقله الوزير، وانكفأ راجعا إلى الحضرة. وقدم بها على
السلطان في يوم مشهود، واستركب السلطان فيه العسكر وجلس ببرج الذهب
مقعده في ساحة البلد لاعتراض عساكره. وحمل السلطان الحسن بن عمر على
جمل طيف به بين أهل ذلك المحشر، وقرّب إلى مجلس السلطان فأومأ إلى
تقبيل الأرض فوق جمله، وركب السلطان إلى قصره، وانفضّ الجمع وقد شهروا
وصاروا عبرة من عبر الدنيا. ودخل السلطان قصره فاقتعد أريكته واستدعى
خاصّته وجلساءه، وأحضره فوبّخه وقرّر عليه مرتكبه، فتلوّى بالمعاذير
وفزع إلى الإنكار. وحضرت هذا المجلس يومئذ فيمن حضره من العليّة
والخاصّة، فكان مقاما تسيل فيه العيون رحمة وعبرة. ثم أمر به السلطان
فسحب على وجهه، ونتفت لحيته وضرب بالعصي، وتلّ إلى محبسه، وقتل لليال
من اعتقاله قعصا بالرماح بساحة البلد، ونصب شلوه بسور البلد عن باب
المحروق، وأصبح مثلا في الآخرين.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: نفسها عليه الوزراء بمجلس السلطان.
(7/410)
(الخبر عن وفد
السودان وهديتهم وأغرابهم فيها بالزرافة)
كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا
موسى هديّته المذكورة في خبره، اعتمل في مكافأته وجمع لمهادات من طرف
أرضه وغرائب بلاده، وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك، ووصلت الهديّة
إلى أقصى ثغورهم من الأرس [1] . وهلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف
أهل مالي وافترق أمرهم [2] . وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضا،
وشغلوا بالفتنة حتى قام فيهم منسا زاطة [3] واستوسق له أمرهم ونظر في
أعطاف ملكه، وأخبر بشأن الهديّة وأخبر أنّها بوالاتن فأمر بإنفاذها إلى
ملك المغرب، وضمّ إليها حيوان الزرافة الغريب الشكل، العظيم الهيكل،
المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى فاس في صفر
من سنة اثنتين وستين وسبعمائة وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا جلس لهم
السلطان ببرج الذهب مجلس العرض. ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء،
فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غصّ بهم الفضاء وركب بعضهم بعضا في
الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقتها وأنشد الشعراء في معرض المدح
والتهنئة، ووصف الحال. وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدّوا رسالتهم
بتأكيد الودّ والمخالصة، والعذر عن إبطاء الهديّة بما كان من اختلاف
أهل مالي وتواثبهم على الأمر، وتعظيم سلطانهم وما صار إليه. والترجمان
يترجم عنهم وهم يصدّقونه بالنزع في أوتار قسيّهم عادة معروفة لهم.
وحيّوا السلطان يحثون التراب على رءوسهم على سنّة ملوك العجم. ثم ركب
السلطان وانفضّ ذلك الجمع وقد طار به الذكر. واستقرّ ذلك الوفد في
إيالة السلطان وتحت جرايته، وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم
بالأمر من بعده، وانصرفوا إلى مراكش وأجازوا منها إلى ذوي حسّان عرب
المعقل من السوس المتّصلين ببلادهم. ولحقوا من هنالك بسلطانهم، والأمر
للَّه وحده.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: إلى أقصى تخومهم من والاتن.
[2] وفي نسخة ثانية: ملكهم.
[3] وفي نسخة ثانية: منساجاطه.
(7/411)
الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان
واستيلائه عليها وإيثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها وما كان من
ذلك من صرف أمراء الموحدين إلى بلادهم
لما استقلّ السلطان بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة كما ذكرناه، وكان
العامل على درعة عبد الله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد
وشيعة أبي زيان [1] ، اصطنعه السلطان أبو الحسن عند تغلّبه على تلمسان.
واستعمله أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما ذكرناه. وتأتى له [2]
المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن حين خروجه على أخيه السلطان
أبي عنان بجبل ابن حميدي، فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر.
وخشي بادرته لما رآه من حقده عليه بسبب أخيه أبي الفضل، لما كان بينهما
من لحمة الاغتراب، فداخل بطانة له من عرب المعقل، واحتمل ذخائره
وأمواله وأهله وقطع القفر إلى تلمسان، ولحق بالسلطان أبي حمّو آخر سنة
ستين وسبعمائة فنزل منه خير نزل، وعقد له حين وصوله على وزارته، وباهى
به وبمكانه، وفوّض إليه في التدبير والحلّ والعقد، فشمر عن ساعده في
الخدمة، وجأجأ بعرب المعقل من مواطنهم رغبة في ولايته وإيثارا لمكانته
من الدولة، ورهبة من سلطان المغرب لما كانوا ارتكبوه من موافقة بني
مرين مرّة بعد أخرى، فاستقرّوا بتلمسان وانحاشوا جميعا إلى بني عبد
الواد، وبعث السلطان أبو سالم إلى أبي حمّو في شأن عاملهم عبد الله بن
مسلم، فلم يرجع له جوابا عنه، وحضر عليه ولاية المعقل أهل وطنه، فلجّ
في شأنهم فأجمع السلطان أمره على النهوض إليهم. واضطرب معسكره بساحة
البلد وفتح ديوان العطاء ونادى في الناس بالنفير إلى تلمسان. وأزاح
العلل.
وبعث الحاشدين من وزرائه إلى مراكش فتوافت حشود الجهات ببابه، وفصل من.
فاس في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وجمع أبو حمّو من في إيالته
وعلى التشييع لدولته من زناتة والعرب من بني عامر والمعقل كافة، ما عدا
العمارنة، كان
__________
[1] وفي نسخة ثانية: آل زيّان.
[2] وفي نسخة ثانية: وتولى.
(7/412)
أميرهم الزبير بن طلحة متحيّزا إلى
السلطان. وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء. ودخل السلطان إلى
تلمسان ثالث رجب، وخالفه أبو حمّو وأشياعه إلى المغرب، فنزلوا كرسيف
بلد ونزمار بن عريف، وخرّبوه واكتسحوا ما وجدوا فيه حقدا على ونزمار
وقومه بولاية بني مرين. وتخطوا إلى وطاط، فعاثوا في نواحيه، وانقلبوا
إلى أنكاد، وبلغ السلطان خبرهم فتلافى أمر المغرب. وعقد على تلمسان
لحافد من حفدة السلطان أبي تاشفين، كان ربّي في حجرهم وتحت كفالة
نعمتهم، وهو أبو زيّان محمد بن عثمان، وشهرته بالفتى، وأنزله بالقصر
القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلّهم، واستوزر له ابن عمّه
عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكي [1] ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن
علي، وأعطاه عشرة أحمال من المال دنانير ودراهم، ودفع إليه الآلة. وذكر
حينئذ لمولانا السلطان أبي العبّاس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن،
فنزل له عن محل إمارته قسنطينة.
وصرف أيضا المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية، فعقد
لهما بذلك وحملهما. وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال.
وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلّب عليها عمّهم المولى أبو إسحاق إبراهيم
صاحب تونس، فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف أن ينزل
عن بلدة مولانا السلطان أبي العبّاس أحمد، ويمكّنه منها، وودّع هؤلاء
الأمراء وانكفأ راجعا إلى حضرته لسدّ ثغور المغرب، وحسم داء العدوّ،
فدخل فاس في شعبان من سنته. ولم يلبث أن رجع أبو زيّان على أثره بعد أن
أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش. وتغلّب عليه أبو حمّو وفضّ جموعه، فلحق
بالسلطان واستقلّ أبو حمّو بملك تلمسان، وبعث في السلم إلى السلطان
فعقد له من ذلك ما رضيه كما ذكرناه.
الخبر عن مهلك السلطان أبي سالم واستيلاء
عمر بن عبد الله على ملك المغرب ونصبه للملوك واحدا بعد واحد إلى أن
هلك
كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من
خبره أن
__________
[1] وفي نسخة: بن مكن.
(7/413)
سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين كان جدّه
قيّما على خدمة قبره ومسجده واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه، وكان
جدّه الثالث محمد معروفا بالولاية، ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر
القديم ليجاوره بجدثه تبرّكا به، وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل
إلى المشرق، وجاور الحرمين إلى أن هلك وربّى ابنه محمد بالمشرق ما بين
الحجاز ومصر. وقفل إلى المغرب بعد أن أسرّ أشياء [1] في الطلب وتفقّه
على أولاد الإمام، ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولّاه
الخطابة به، وسمعه يخطب على المنبر وقد أحسن في ذكره والدعاء له، فحلا
بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من نفسه [2] ، وجعله خطيبا حيث
يصلي من مساجد المغرب، وسفر عنه إلى الملوك، ولمّا كانت نكبة القيروان
خلص إلى المغرب واستقرّ برباط العباد بجبل سلفه، بعد أحوال أضربنا عن
ذكرها اختصارا.
ولما خلص السلطان إلى الجزائر داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة
عنه إلى السلطان أبي الحسن وصلاح ما بينهما فسار لذلك ونقمه أبو ثابت
وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم. وسرّحوا صغير بن عامر في اتباعه،
فتقبّض عليه وأودعوه المطبق. ثم أشخصوه بعد حين إلى الأندلس فاتصل بأبي
الحجّاج صاحب غرناطة.
وولّاه خطابته لما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم. وألف
السلطان أبا سالم في مثوى اغترابهما من غرناطة، وشاركه عند أبي الحجّاج
في مهمّاته. ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام
بدعوته. وكان له في ذلك مقام محمود. فرعى السلطان وسائله وبوآته [3]
القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه، فلما استوسق له ملك المغرب
استخصّه بولايته وألقى عليه محبّته وعنايته، وكان مؤامره ونجيّ خلوته
والغالب على هواه، فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطئ عقبه [4]
الأشراف والوزراء، وعطف على بابه القوّاد والأمراء وصار زمام الدولة
بيده. وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته حذرا من سوء المغبّة، ويزجر من
يتعرّض
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بعدان شدا شيئا.
[2] وفي نسخة أخرى: من مجلسه.
[3] وفي نسخة ثانية: ووالاته.
[4] وفي نسخة ثانية: عتبته.
(7/414)
له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب
والخطط بباب السلطان، وهم يعلمون أنه قد ضرب على أيديهم، فنقموا ذلك
وسخطوا الدولة من أجله. ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدّمه: ونفس
عليه الوزراء ما ثبت له عند السلطان من الحظ، فتربّصوا بالدولة، وشمل
هذا الداء الخاصّة والعامة. وكان عمر بن عبد الله ابن علي لما هلك أبوه
الوزير عبد الله بن علي في جمادى سنة ستين وسبعمائة عند استيلاء
السلطان على ملكه، تحلبّت شفاه أهل الدولة على تراثه. وكان مثريا
فاستجار منهم بابن مرزوق، وساهمه في تراث أبيه بعد أن حملوا السلطان
على النيل منه، والإهانة له، فأجاره منهم. ورفع عند السلطان رتبته
وحمله على الإصهار إليه في أخته، وقلّده السلطان أمانة البلد الجديد
دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها. وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن
ماسي تسكينا لروعته [1] واستخلاصا لمودّته، وسفر عن السلطان إلى صاحب
تلمسان في شعبان من سنة اثنين وستين وسبعمائة ونمي عنه أنه داخل صاحب
تلمسان في بعض المكر فهمّ بنكبته وقتله، ودافع عنه ابن مرزوق وخلص من
عقابه، وطوى على البثّ وتربّص بالدولة. وأعيد إلى مكانه من الأمانة على
دار الملك أوّل ذي القعدة مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحوّل
عنها إلى القصبة بفاس، واختطّ إيوانا فخما لجلوسه بها، لضيق قصوره بها
[2] . فلما استولى عمر على دار الملك حدّثته نفسه بالتوثّب وسوّل له
ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب والنكير على الدولة، لمكان ابن مرزوق
من السلطان فداخل قائد الجند غريسة ابن انطول [3] وتعدوا لذلك ليلة
الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة اثنين وستين وسبعمائة وخلصوا إلى
تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديد، فخلعوا
عليه وألبسوه شارة الملك، وقرّبوا له مركبه وأخرجوه إلى أريكة السلطان
فأقعدوه عليها. وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على
البيعة له، وجاهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال،
ففرضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان، وماج أهل البلد الجديد من الجند
بعضهم في بعض،
__________
[1] وفي نسخة ثانية: لغربه.
[2] وفي النسخة الجزائرية كلمتان زائدتان (متغنيا الابردين) وفي نسخة
أخرى: لصق قصوره. وفي النسخة الباريسية الكلمتان غير واضحتين وهما
محرفتان.
[3] وفي نسخة ثانية: انطون.
(7/415)
واختطفوا ما وصلوا إليه من العطاء،
وانتهبوا ما كان بالمخازن الخارجية من السلع والعدّة. وأضرموا النار في
بيوتها سترا على ما ضاع منها، وأصبح السلطان بمكانه من القصبة، فركب
واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل، وغدا على البلد الجديد وطاف
بها يروم منها منفذا، فاستعصب واضطرب معسكره بكدية العرائس لحصارها،
ونادى في الناس بالاجتماع إليه. ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطة،
فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجا بعد فوج بمرأى منه إلى أن سار
إليها أهل مجلسه وخاصته، فطلب النجاة بنفسه وركب في لمّة من الفرسان مع
وزرائه:
مسعود بن رحّو وسليمان بن داود ومقدّم الموالي والجند ببابه سليمان بن
نصار [1] ، وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره، ومضى على وجهه. ولما
غشيهم الليل انفضّوا عنه، ورجع الوزير إلى دار الملك فتقبّض عليهما عمر
بن عبد الله ومساهمه غريسة بن أنطول واعتقلاهما متفرقين، وأشخص علي بن
مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان، فعثر عليه نائما في بعض المحاشر [2]
بوادي ورغة، وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه، وتوارى على العيون
بمكانه، فتقبّض عليه وحمله على بغل، وطيّر الخبر إلى عمر بن عبد الله
فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن وردار [3] ، وفتح الله بن عامر ابن فتح
الله. وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه، فلقياه بخندق القصب إزاء كدية
العرائس، فأمر بعض جنود النصارى أن يتولى ذبحه وحمل رأسه في مخلاة،
فوضعه بين يدي الوزير والمشيخة. واستقلّ عمر بالأمر ونصب الموسوس
تاشفين يموه به على الناس، وذوات الأمور إلى غاياتها ولكل أجل كتاب.
الخبر عن الفتك بابن أنطول قائد العسكر من
النصارى ثم خروج يحيى بن رحو وبني مرين عن الطاعة
لما تقبّض عمر بن عبد الله على الوزير، كان معتقل سليمان بن داود بدار
غريسة قائد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: سليمان بن ونصار.
[2] وفي نسخة ثانية: المجاشر: «قال الاصمعي: بنو فلان جشر إذا كانوا
يبيتون مكانهم لا يأوون إلى بيوتهم. وابل جشر: تذهب حيث شاءت وكذلك
الحمر. وأصبحوا جشرا إذا كانوا يبيتون وكأنهم لا يرجعون إلى أهليهم»
وكلمة مجاشر عامية بمعنى المراعي، مأخوذة من معنى جشر (لسان العرب) .
[3] وفي نسخة ثانية: بن داود.
(7/416)
النصارى، ومعتقل ابن ماسي بداره ضنا به عن
الامتهان لمكان صهره. ولما كان يؤمّل منه من الاستظهار على أمره
بعصابته من الأبناء والإخوة والقرابة، وكان غريسة بن أنطول صديقا
لسليمان بن ونصار، فلما رجع عن السلطان ليلة انفضاضهم، نزل عليه وكان
يعاقره الخمر، فأتاه سحرا وتفاوضا في اعتقال عمرو [1] وإقامة معتقله
سليمان بن داود في الوزارة لما هو عليه من السنّ ورسوخ القدم في الأمر.
ونمي إلى عمر الخبر، فارتاب وكان خلوا من العصابة ففزع إلى قائد المركب
السلطاني من الرجل الأندلسيّين يومئذ إبراهيم البطروجي [2] ، فباثّه
أمره وبايعه على الاستماتة دونه. ثم استقل عصابتهم ففزع إلى يحيى بن
رحّو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه، فأشكاه ووعده الفتك بابن
أنطول وأصحابه. وانبرم عقد ابن أنطول وسليمان ابن ونصار على شأنهم
وغدوا إلى القصر. وداخل ابن أنطول طائفة من النصارى للاستظهار بهم،
ولمّا توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا، دعا عمر بن عبد
الله القائد ابن أنطول بين يدي يحيى بن رحّو وقد أحضر البطروجي رجل
الأندلسيّين، فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضنّ
به عن الإهانة حتى سأل مثلها من ابن ماسي صاحبه، فأمر عمر بالتقبّض
عليه، فكشّر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة، فتواثبت بنو مرين
وقتلوه لحينه.
واستلحموا من وجد بالدار من جند النصارى عند دخولهم [3] ، وفرّوا إلى
معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد.
وأرجف الغوغاء بالمدينة أنّ ابن أنطول غدر بالوزير فقتل جند النصارى
حيث وجدوا من سكك المدينة. وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من
الجند، وركب بنو مرين لحماية جندهم من معرّة الغوغاء، وانتهب يومئذ
الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم.
وقتل النصارى كثيرا من المجّان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح، واستبدّ
عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل. وبعث من قتله بمحبسه.
وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدار الملك واعتقله بها، واستولى
على أمره ورجع في الشورى إلى
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فباثه شجوه وتفاوضا في اغتيال عمر.
[2] وفي نسخة ثانية: البطروحي.
[3] وفي نسخة ثانية: بعد جولة. ابن خلدون م 27 ج 7
(7/417)
يحيى بن رحّو، واعصوصب بنو مرين عليه،
واعتز على الأمراء والدولة، وكان عد الخاصة السلطان أبي سالم حريصا على
قتلهم، وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمّله في ابن ماسي، فخشنت صدورهم
عليه، ودبّروا في شأنه. وخاطب هو عامر بن محمد في اتصال اليد واقتسام
ملك المغرب، وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم، اعتدّه عنده
وليجة لخلاصه من ربقة الحصار الّذي هم به مشيخة بني مرين. وكان أبو
الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والأرصاد، فتفقّد من مكانه.
وأغلظ المشيخة في العتب لعمر في ذلك، فلم يستعتب، ونبذ إليهم العهد
وامتنع بالبلد الجديد، ومنعهم من الدخول إليه فاعصوصبوا على كبيرهم
يحيى بن رحّو وعسكروا بباب الفتوح، وجأجئوا [1] بعبد الحليم ابن
السلطان أبي علي وكان من خبرهم معه ما نذكره. وأطلق عمر بن عبد الله
مسعود بن ماسي من محبسه وسرّحه إلى مراكش، وأوعده في الاجلاب عليهم إن
حاصروه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن وصول عبد الحليم ابن السلطان من
تلمسان وحصار البلد الجديد)
كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه السلطان أبا علي وقضى الحق الّذي
له في ذمته [2] عمل بالحق الّذي عليه في ولده وحرمه، فكفلهم وغذاهم
بنعمته، وساواهم بولده في كافة شئونهم، وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة
عليه عليا منهم المكنّى بأبي سلوس [3] ونزع عنه وهو بالقيروان أيام
النكبة ولحق بالعرب. وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس. ثم انصرف
من إفريقية ولحق بتلمسان ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد
الرحمن فبوّأه كرامته. ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس، وبعث فيه
السلطان أبو عنان قبل فصوله، فاشخصوه إليه فاعتقله. ثم أحضره ووبّخه
على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه. ثم قتله لليلتين من شهور
إحدى وخمسين وسبعمائة، ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وجاءوا.
[2] وفي نسخة ثانية: في دمه.
[3] وفي نسخة ثانية: بأبي يفلوسن.
(7/418)
الخاصّة والأبناء بالسلطان أبي عنان، وأشخص
إخوته إلى الأندلس، وأشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء عبد الحليم
وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيّان، فاستقرّوا
بالأندلس في جوار ابن الأحمر. ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد، كما طلب
إشخاص أخيه، فأجارهم ابن الأحمر جميعا وامتنع من إسلامهم إليه. وكان من
المغاضبة لذلك ما قدّمناه.
ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشّحين برندة، كما قدّمناه،
نزع منهم عبد الرحمن بن علي بن أبي يفلوسن إلى غرناطة فلحق بأعماله.
وكان السلطان أبو سالم بمكانهم مستريبا بشأنهم حتى لقد قتل محمد بن أبي
يفلوسن ابن أخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره، استرابه بما نمي عنه.
ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجّاج، إلى المغرب ونزل عليه
وصار إلى إيالته، ورأى أن قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة،
وأرسل الرئيس محمد بن إسماعيل عند توثّبه على الأمراء واستلحامه أبناء
السلطان أبي الحجّاج، فراسله في اعتقالهم ثم فسد ما بين الرئيس
والطاغية، وأخذ منه كثيرا من حصون المسلمين. وبعث إلى السلطان أبي سالم
في أن يخلي سبيل المخلوع إليه، فامتنع وفاء للرئيس. ثم دافع الطاغية عن
ثغوره بإسعاف طلبته، فجهّز المخلوع وملأ حقائبه صلة وأعطاه الآلة،
وأوعز إلى أسطوله بسبتة فجهّز وبعث علال بن محمد ثقة أبيه [1] فأركبه
الأسطول وركب معه إلى الطاغية. وخلص الخبر إلى الرئيس بمكانه من ملك
غرناطة، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي، وأن
يجيزهم إليه ليجدهم زبونا على السلطان أبي سالم، فبادر لحينه وأطلقهم
من مكان اعتقالهم، وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن
أخيهما على أبي يفلوسن. في الأسطول، وأجازهم إلى مرسى هنين بين يدي
مهلك السلطان أبي سالم، فنزلوا من صاحب تلمسان بأعزّ جوار. ونصّب عبد
الحليم منهم لملك المغرب.
وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان، فتوافى
معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالرحلة [2] إلى المغرب ثم
تتابعت وفود بني مرين بمثلها، فسرّحه أبو حمّو وأعطاه الآلة، واستوزر
له محمد السبيع وارتحل معه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثقة إليه.
[2] وفي نسخة ثانية: وأغراه بالدخلة.
(7/419)
يغذّ السير. ولقي في طريقه محمد بن زكراز
من أولاد علي من شيوخ بني ونكاس أهل دبدوا وثغر المغرب منذ دخول بني
مرين إليه، فبايعه وحمل قومه على طاعته، وأغذّ السير وكان يحيى بن رحّو
والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد، وعسكروا بباب الفتوح،
أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان لاستقدام السلطان عبد الحليم، فوافوه
بتازي ورجعوا معه، وتلقته جماعة بني مرين بسبّو، ونزلوا على البلد
الجديد يوم السبت سابع محرّم من سنة ثلاث وستين وسبعمائة واضطرب
معسكرهم بكدية العرائس، وغادوا البلد القتال وراوحوها سبعة أيام،
وتتابعت وفودهم وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تتسايل إليهم ثم إنّ
عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدّمة السلطان أبي عمر بمن
معه من جند المسلمين والنصارى، رامحة وناشبة.
ووكّل بالسلطان من جاء به في الساقة على التعبية المحكمة. وناشبهم
الحرب فدلفوا إليه فاستطرد لهم ليتمكّن الناشبة من عقرهم من الأسوار
حتى فشت فيهم الجراحات. ثم صمّم نحوهم وانفرج القلب وانفضت الجموع وزحف
السلطان في الساقة فانذعروا في الجهات. وافترق بنو مرين إلى مواطنهم
ولحق يحيى بن رحّو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط، ولحق عبد
الحليم وإخوته بتازي بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن
البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله قدوم محمد بن أبي عبد
الرحمن كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم الأمير محمد ابن الأمير عبد
الرحمن وبيعته بالبلد الجديد في كفالة عمر بن عبد الله
لما نبذ بنو مرين عهدهم واعصوصبوا عليه، ونكروا ما جاء به من البيعة
لأبي عمر مع فقده العقل الّذي هو شرط الخلافة شرعا وعادة، ونقموا عليه،
اتّهم نفسه في نظره، وفرع إلى التماس المرشحين، فوقع نظره على حافد
السلطان أبي الحسن محمد ابن الأمير أبي عبد الله النازع لأوّل دولة
السلطان أبي سالم من رندة إلى الطاغية.
وكان قد نزل منه بخير مثوى، فبعث إليه مولاه عتيقا الخصيّ، ثم تلاه
بعثمان بن الياسمين، ثم تلاهما بالرئيس الأبكم من بني الأحمر في كل ذلك
يستحثّ قدومه، وخاطب المخلوع ابن الأحمر وهو في جوار الطاغية كما
قدّمناه قريب عهد بجواره،
(7/420)
فخاطبه في استحثاثه واستخلاصه من يد
الطاغية. وكان المخلوع يرتاد لنفسه منزلا من ثغور المسلمين لما فسد
بينه وبين الطاغية ورام النزوع عن إيالته، فاشترط على الوزير عمر
النزول له عن رندة فتقبّل شرطه، وبعث إليه الكتاب بالنزول عنها بعد أن
وضع الملأ عليه خطوطهم من بني مرين والخاصة والشرفاء والفقهاء، فسار
ابن الأحمر إلى الطاغية. وسأله تسريح محمد هذا إلى ملكه، وأن قبيله
دعوه إلى ذلك، فسرّحه بعد أن شرط عليه، وكتب الكتاب بقبوله وفصل من
إشبيلية في شهر المحرّم فاتح ثلاث وستين وسبعمائة ونزل بسبتة وبها سعيد
بن عثمان من قرابة عمر بن عبد الله.
أرصده لقدومه فطير بالخبر إليه فخلع أبا عمر من الملك لعام من بيعته،
وأنزله بداره مع حرمه. وبعث الى السلطان أبي زيّان محمد بالبيعة والآلة
والفساطيط. ثم جهّز عسكرا للقائه فتلقّوه بطنجة. وأغذّ السير إلى
الحضرة فنزل منتصف شهر صفر بكدية العرائس. واضطرب معسكره بها، وتلقّاه
الوزير يومئذ وبايعه وأخرج فسطاطه، فاضطربه بمعسكره وتلوّم السلطان
هنالك ثلاثا. ثم دخل في الرابع إلى قصره واقتعد أريكته وتودّع ملكه
وعمر مستبدّ عليه لا يكل إليه أمرا ولا نهيا. واستطال عند ذلك
المنازعون أولاد أبي علي كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن تجهيز السلطان عبد الحليم واخوته الى سجلماسة بعد الواقعة
عليهم بمكناسة
لما سمع عبد الحليم بقدوم محمد بن أبي عبد الرحمن من سبتة إلى فاس وهو
بمكانه من تازى، سرّح أخاه عبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيه إلى
اعتراضه، فانتهوا إلى مكناسة وخاموا عن لقائه، فلما دخل إلى البلد
الجديد أجلبوا بالغارة على النواحي وكثر العيث. وأجمع الوزير عمر على
الخروج إليهم بالعساكر، فبرز بالتعبية والآلة، وبات بوادي النجاء. ثم
أصبح على تعبيته وأغذّ السير إلى مكناسة، فزحف إليه عبد المؤمن وابن
أخيه عبد الرحمن في جموعهما فجاولهما القتال ساعة، ثم صمم إليهم فدفعهم
عن مكناسة. وانكشفوا فلحقوا بأخيهم السلطان عبد الحليم بتازى، ونزل
الوزير عمر بساحة مكناسة، وأوفد بالفتح على السلطان، وكنت وافده إليه
يومئذ، فعمّت البشرى واتصل السرور. وتهنّأ السلطان بملكه وتودّع من
يومئذ سلطانه. ولمّا
(7/421)
وصل عبد المؤمن إلى أخيه عبد الحليم بتازى
مفلولا انتقض معسكره ونزعوا عنه إلى فاس، وذهب لوجهه هو وإخوته مع
وزيرهم السبيع بن محمد ومن كان معهم من عرب المعقل، فلحقوا بسجلماسة.
وكان أهلها قد دخلوا في بيعتهم ودانوا بطاعتهم فاستعروا بها. وجدّدوا
رسم الملك والسلطان إلى أن كان من خروجهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم عامر بن محمد ومسعود بن ماسي
من مراكش وما كان من وزارة ابن ماسي واستبداد عامر بمراكش
كان السلطان أبو سالم لما استقلّ بملك المغرب، استعمل على جباية
المصامدة وولاية مراكش محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة من أبناء
العمّال، وكان مطلعا بها.
وناقش الكبير من ذوي عامر فأحفظه ذلك وربما تكرّرت سعايته في عامر عند
السلطان ولم يقبل. ولما بلغ إلى عامر مهلك السلطان أبي سالم وقيام عمر
بالأمر، وكانت بينهما خلة بيت محمد ابن أبي العلاء فتقبّض عليه وامتحنه
وقتله، واستقلّ بأمر مراكش وبعث إليه الوزير عمر بأبي الفضل بن السلطان
أبي سالم يعتدّه لما يقع من حصار بني مرين إياه أن يجلب به عامر عليهم
ويستنقضه كما ذكرناه. ثم سرّح مسعود بن ماسي كما ذكرناه، ولما أحاط بنو
مرين بالبلد الجديد جمع عامر من إليه من الجند والحشود وزحف بأبي الفضل
بن السلطان أبي سالم إلى أنفى، ونزل بوادي أم ربيع، ولما انفضّ جمعهم
من على البلد الجديد، لحق به يحيى بن رحّو، وكان له صديقا ملاطفا،
فتنكّر له توفية لعمر بن عبد الله وصاحبه مسعود، وبعثه إلى الجبل ولم
يشهد الجمع، فذهب مغاضبا. ولحق بسجلماسة بالسلطان عبد الحليم وهلك في
بعض حروبه مع العرب. ولما انفضّ عبد المؤمن وأجفل عبد الحليم من تازي
ولحقوا بسجلماسة، واستوسق الأمر لعمر بن عبد الله وفرغ من شأن
المنازعين ومضايقتهم له، رجع إلى ما كان يؤمّله من الاستظهار على أمره
بمسعود بن ماسي وإخوته وأقاربه لمكان الصهر الّذي بينهما، فاستقدمه
للوزارة مرضاة لبني مرين لما كانوا عليه من استمالتهم لجميع المذاهب
والإغضاء عمّا نالوه به من النكاية. وكان عامر بن محمد مجمعا القدوم
على السلطان فقدم في صحابته ونزلا من الدولة بخير
(7/422)
منزل، وعقد السلطان لمسعود بن رحّو على
وزارته بإشارة الوزير عمر فاضطلع بها، ودفعه عمر إليها استمالة إليه
وثقة بمكانه واستظهارا بعصابته. وعقد مع عامر بن محمد الحلف على مقاسمة
المغرب من لحم وأدم رفيع [1] وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان
أبي سالم إسعافا بغرض عامر بن محمد في ذلك وأصهر عامر إليهم في بنت
مولانا السلطان أبي يحيى المتوفى عنها السلطان أبو عنان [2] ، فحملوا
أولياءها على العقد عليها وانكفأ راجعا إلى مكان عمله بمراكش يجرّ
الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعا لجمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وصرف
عمر عزيمته إلى تشريد عبد الحليم وأخيه من سجلماسة، كما نذكره إن شاء
الله تعالى.
(الخبر عن زحف الوزير عمر بن عبد الله الى سجلماسة)
لما احتلّ عبد الحليم وإخوته بسجلماسة، اجتمع إليهم عرب المعقل كافة
بحللهم.
واقتضوا خراج البلد فوزّعوه فيهم، وانتضوا على الطاعة رهنهم. وأقطعهم
جنات المختص [3] بأسرها واعصوصبوا عليه. واستحثه يحيى بن رحّو ومن
هنالك من مشيخة بني مرين إلى النهوض للمغرب، فأجمع أمره على ذلك.
وتدبّر الوزير عمر أمره وخشي أن يضطرم جمرة، فأجمع إليه الحركة. ونادى
في الناس بالعطاء والرحلة فاجتمعوا إليه وبثّ العطاء فيهم. واعترض
العساكر وأزاح العلل وارتحل من ظاهر فاس في شعبان من سنة ثلاث وستين
وسبعمائة وارتحل معه ظهيره مسعود بن ماسي وبرز السلطان عبد الحليم إلى
لقائهم. ولما تراءت الفئتان بتاغز وطت عند فرج الجبل المفضي من تلول
المغرب الى الصحراء، هموا باللقاء. ثم تواقفوا أياما وتمشّت بينهم
رجالات العرب في الصلح والتجافي لعبد الحليم عن سجلماسة تراث أبيه،
فعقد بينهما وافترقا. ورجع كل واحد منهما إلى عمله ومكانه من سلطانه.
ودخل عمر والوزير مسعود إلى البلد الجديد في رمضان من سنته، وتلقّاهما
سلطانهما بأنواع المبرّة والكرامة. ونزع الوزير محمد بن السبيع عن
السلطان عبد الحليم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تخم وادي أم ربيع وهذا أصح حسب مقتضى السياق.
[2] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: ابو الحسن.
[3] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: جهات المختص.
(7/423)
إلى الوزير عمر وسلطانه فتقبّل وحل محل
التكرمة والردافة للوزارة واستقرّ كل بمكانه.
وتوادعوا أمرهم إلى ما كان من خلع عبد المؤمن لأخيه عبد الحليم، ما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن بيعة العرب لعبد المؤمن وخروج عبد الحليم الى المشرق)
لما رجع عبد الحليم بعد عقد السلم مع الوزير عمر إلى سجلماسة واستقرّ
بها وكان عرب المعقل من ذوي منصور فريقين: الأحلاف وأولاد حسين. وكانت
سجلماسة وطنا للأحلاف وفي مجالاتهم منذ أوّل أمرهم ودخولهم المغرب.
وكان من أولاد حسين في ممالأة الوزير عمر ما قدّمناه، فكانت صاغية
السلطان عبد الحليم إلى الأحلاف بسبب ذلك أكثر، فأسفّ ذلك أولاد حسين
على الأحلاف وتجدّدت لذلك الفتنة وتزاحفوا. وأخرج السلطان عبد الحليم
أخاه عبد المؤمن لرقع ما بينهما من الخرق ولأمته، فلما قدم على أولاد
حسين دعوه إلى البيعة والقيام بأمره فأبى فأكرهوه عليها وبايعوه.
وزحفوا إلى سجلماسة في صفر من سنة أربع وستين وستمائة وبرز عبد الحليم
إليهم في أوليائه من الأحلاف وتواقفوا مليا وعقلوا رواحلهم وانكشف
الأحلاف وانهزموا. وهلك يحيى بن رحّو كبير المشيخة من بني مرين يومئذ
في حربهم. وتغلّبوا على سجلماسة، ودخل إليها عبد المؤمن وتخلّى له أخوه
عبد الحليم عن الأمر وخرج إلى المشرق لقضاء فرضه، فودّعه وزوّده بما
أرادوا وارتحل إلى الحج وقطع المفازة إلى بلد مالي من السودان. وصحب
منها ركّاب الحج إلى مصر، ونزل على أميرها المتغلّب على سلطانها يومئذ،
وهو مليغا الحاصكي [1] وأنهى خبره إليه وعرف بمكانه، فاستبلغ في تكريمه
بما يناسب بيته وسلطانه. وقضى حجه وانصرف إلى المغرب، فهلك بقرب
الإسكندرية سنة ست وستين وسبعمائة واستقل عبد المؤمن، بأمر سجلماسة حتى
كان من نهوض العسكر إليه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يلبغا الخاصكيّ.
(7/424)
(الخبر عن نهوض ابن ماسي بالعساكر الى
سجلماسة واستيلائه عليها ولحاق عبد المؤمن بمراكش)
لما افترقت كلمة أولاد السلطان أبي عنان وخلع عبد المؤمن أخاه تطاول
الوزير عمر إلى التغلّب عليهم. ونزع إليه الأحلاف عدوّ أولاد حسين
وشيعة عبد الحليم المخلوع، فجهّز العساكر وبثّ العطاء وأزاح العلل،
وسرّح ظهيره مسعود بن ماسي إلى سجلماسة، فنهض إليها في ربيع من سنة
أربع وستين وسبعمائة. وتلقّاه الأحلاف بحللهم وناجعتهم، وأغذّ السير
ونزع الكثير من أولاد حسين للوزير مسعود. وبعث عامر بن محمد عن عبد
المؤمن من سجلماسة، فتركها ولحق بعامر فتقبّض عليه واعتقله بداره من
جبل هنتاتة. ودخل الوزير مسعود إلى سجلماسة واستولى عليها. واقتلع منها
جرثومة الشقاق بافتراق دعوة أولاد أبي علي منها. وكرّ راجعا إلى المغرب
لشهرين من حركته، فاحتل بفاس إلى أن كان من خبر انتقاضه على عمر وفساد
ذات بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن انتقاض عامر ثم انتقاض الوزير
ابن ماسي على أثره)
لما استقل عامر بالناحية الغربيّة من جبال المصامدة ومراكش وما إلى ذلك
من الأعمال واستبد بها، ونصب لأمره أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم
واستوزر له واستكفأ لأمره [1] ، وصارت كأنها دولة مستقلة، فصرف إليه
النازعون من بني مرين على الدولة وجوه مفرّهم ولجئوا إليه، فأجارهم عن
الدولة واجتمع إليه منهم ملأ.
وأشاروا إليه باستقدام عبد المؤمن وأنه أبلغ ترشيحا من أبي الفضل بنسبه
وقيامه على أمره وصاغية بني مرين إليه، فاستدعاه وأظهر لعمر أنّه يروم
بذلك مصلحته والمكر بعبد المؤمن. ونمي ذلك كله إلى عمر فارتاب به ونزع
إليه آخرا السبيع بن موسى بن
__________
[1] وفي نسخة أخرى: واستكتب.
(7/425)
إبراهيم الوزير. كان لعبد الحليم فكشف
القناع في بطانته [1] وتجهيز العساكر إليه.
واستراب بأهل ولايته، وعثر على كتاب من الوزير مسعود بن ماسي إليه
يخالصه ويبذل له النصيحة، فتقبّض على حامله وأودعه السجن، فتنكّر مسعود
وأغراه صحابته الملاشون [2] له من بني مرين بالخروج ومنازعة عمر في
الأمر. ووعدوه النصر منه، فاضطرب معسكره بالزيتون من خارج فاس موريا
بالنزهة أبّان الربيع.
وزخرف الأرض في شهر رجب من سنة خمس وستين وسبعمائة. وبني أصحابه
الفساطيط في معسكره حتى إذا استوفى جمعهم واعتزم على الخروج، ارتحل
مجاهرا بالخلاف، وعسكر بوادي النجا بمن كان يعده الخروج معه من بني
مرين. ثم ارتحل إلى مكناسة، وكتب إلى عبد الرحمن بن علي بن يفلوسن.
يستقدمه للبيعة، وكان بجهات تادّلّا قد خرج بها بعد انصرافهم من
سجلماسة، وتخلف عن أخيه عبد المؤمن. وبعث عامر إليهم بعثا فهزموه ثم
لحق ببني ونكاسن، فبعث إليه ابن ماسي وأصحابه، فقدم عليهم وبايعوه.
وأخرج عمر سلطانه محمد بن أبي عبد الرحمن وعسكر بكدية العرائس. وبثّ
العطاء وأزاح العلل. ثم ارتحل إلى وادي النجا، فبيّته مسعود وقومه فثبت
هو وعسكره في مراكزهم حتى إنجاب الظلام وفرّوا أمامهم، فاتبعوا آثارهم
وانفضّ جمعهم وبدا لهم ما لم يحتسبوه من اصفاق الناس على السلطان
ووزيره عمر واعتصامهم بطاعته، فانذعروا.
ولحق مسعود بن ماسي بن رحّو بتادلّا، ولحق الأمير عبد الرحمن ببلاد بني
ونكاسن.
ورجع عمر والسلطان إلى مكانهما من الحضرة. واستمال مشيخة بني مرين
فرجعوا إليه وعفا لهم عنها واستصلحهم. وتمسّك أبو بكر بن حمامة بدعوة
عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأقامهما في نواحيه، وبايعه عليها موسى بن
سيّد الناس من بني علي أهل جبل دبدو من بني ونكاسن بما كان صهرا له.
وخالفه قومه إلى الوزير عمر وواعدوه بالنهوض إلى أبي بكر بن حمامة،
فنهض وغلبه على بلاده. واقتحم حصنه انكاوان [3] وفرّ هو وصهره موسى
وفارقوا سلطانهم عبد الرحمن ونبذوا إليه عهده.
ورجعوا إلى طاعة صاحب فاس، فلحق هو بتلمسان ونزل على السلطان أبي حمّو
__________
[1] وفي نسخة أخرى: مطالبته.
[2] وفي نسخة أخرى: الملابسون.
[3] وفي نسخة أخرى: ايكلوان.
(7/426)
فاستبلغ في تكريمه ولحق وزيره مسعود بن
ماسي بدبدة ونزل على أميره محمد بن زكراز [1] صاحب ذلك الثغر. وبعث إلى
الأمير عبد الرحمن من تلمسان ليطارد به لفرصة ظنّها في المغرب ينتهزها.
وأبي عليه أبو حمّو من ذلك، فركب مطيّة الفرار ولحق بابن ماسي وأصحابه،
فنصّبوه للأمر وأجلبوا على تازى. ونهض الوزير إليهم في العساكر واحتلّ
بتازى وتعرّضوا للقائه، ففضّ جموعهم وردّهم على أعقابهم إلى جبل دبدو
وسعى بينهم ونزمار بن عريف ولي الدولة في قبض عنانهم عن المنازعة
والتجافي عن طلب الأمر، وأن يجيزوا إلى الأندلس للجهاد فأجاز عبد
الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره ابن ماسي من غسّاسة فاتح سبع وستين
وسبعمائة وخلا الجو من أجلابهم وعنادهم ورجع الوزير إلى فاس واحتشد إلى
مراكش كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نهوض الوزير عمر وسلطانه الى مراكش)
لما فرغ عمر من شأن مسعود وعبد الرحمن بن أبي يفلوسن صرف نظره إلى
ناحية مراكش وانتزى عامر بن محمد بها. وأجمع أمره على الحركة إليه
فأفاض العطاء.
ونادى بالسفر إلى حرب عامر وأزاح العلل، وارتحل إليه لرجب من سنة سبع
وستين وسبعمائة وصعد عامر وسلطانه أبو الفضل إلى الجبل. فاعتصم به
وأطلق عبد المؤمن من معتقله، ونصب له الآلة وأجلسه على سرير حذاء سرير
أبي الفضل يوهم أنه قد بايع له، وانه أحكم أمره يجأجئ بذلك لبني مرين
لما يعلم من صاغيتهم إليه.
وخشي مغبّة ذلك، فألان له القول ولاطفه في الخطاب، وسعى بينهما في
الصلح حسّون بن علي الصبيحي فعقد له عمر من ذلك ما أرضاه وانقلب إلى
فاس.
ورجّع عامر عبد المؤمن إلى معتقله وأمر الأحوال على ما كانت من قبل إلى
أن بلغهم قتل الوزير لسلطانه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: محمد بن زكدان وقد مر معنا في السابق.
(7/427)
(الخبر عن مهلك
السلطان محمد بن أبي عبد الرحمن وبيعة عبد العزيز ابن السلطان أبي
الحسن)
كان شأن هذا الوزير عمر في الاستبداد على سلطانه هذا عجبا حتى بلغ مبلغ
الحجر من الصبيان. وكان جعل عليه العيون والرقباء حتى من حرمه وأهل
قصره. وكان السلطان كثيرا ما يتنفّس الصعداء مع ندمائه ومن يختصّه بذلك
من حرمه إلى أن حدّث نفسه باغتيال الوزير، وأمر بذلك طائفة من العبيد
كانوا يختصّون به، فنمى القول، وأرسل به إلى الوزير بعض الحرم كانت
عينا له عليه، فخشي على نفسه، وكان من الاستبداد والدولة أن الحجاب
مرفوع له عن خلوات السلطان وحرمه، ومكاشفة رتبه، فخلص إليه في حشمه وهو
معاقر لندمائه، فطردهم عنه وتناوله غطا حتى فاض وألقوه في بئر في روض
الغزلان. واستدعى الخاصّة فأراهم مكانه وأنه سقط عن دابته وهو ثمل في
تلك البئر، وذلك في المحرم فاتح ثمان وستين وسبعمائة لست سنين من
خلافته. واستدعى من حينئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن وكان في
بعض الدور من القصبة بفاس تحت الرقباء والحراسة من الوزير لما كان
السلطان محمد يروم الفتك به غيرة منه على الملك، لمكان ترشيحه، فحضر
بالقصر وجلس على سرير الملك. وفتحت الأبواب لبني مرين والخاصّة
والعامّة فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة بطاعته. وكمل أمره وبادر
الوزير من حينه إلى تجهيز العساكر إلى مراكش ونادى بالعطاء وفتح
الديوان وكمل الأعراض وارتحل بسلطانه من فاس في شهر شعبان، وأغذّ السير
إلى مراكش ونازل عامر بن محمد بمعقله من جبل هنتاتة ومعه الأمير أبو
الفضل ابن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن ابن السلطان أبي عليّ، أطلقه
من الاعتقال أيضا وأجلسه موازي ابن عمه، واتخذ له الآلة يموّه به في
شأنه الأوّل، ثم سعى بينه وبين عمر في الصلح، فانعقد بينهما وانكفأ
راجعا بسلطانه إلى فاس في شهر شوّال، فكان حتفه إثر ذلك، كما نذكره إن
شاء الله تعالى والله أعلم.
(7/428)
(الخبر عن مقتل
الوزير عمر بن عبد الله واستبداد السلطان عبد العزيز بأمره)
كان عمر قد عظم استبداده على السلطان عبد العزيز فحجره ومنعه من
التصرّف في شيء من أمره. ومنع الناس من النهوض له في شيء من أمورهم.
وكانت أمّه حذرة عليه إشفاقا وحبّا.
وكان عمر لما ملك أمره واستبدّ عليه، سما إلى الإصهار إليهم في بنت
السلطان أبي عنان، واشترط لها زعموا تولية أخيها الأمير ونمي ذلك إلى
السلطان، وأن عمر مغتاله لا محالة. وقارن ذلك أنّ عمر أوعز إلى السلطان
بالتحوّل عن قصره إلى القصبة، فركب أسنّة الغدر لاضطراره واعتزم على
الفتك به، وأكمن بزوايا داره جماعة من الرجال وأعدّهم بالتوثّب به. ثم
استدعاه إلى بيته للمؤامرة معه على سنته، فدخل معه وأغلق الموالي من
الخصيان باب القصر من ورائه. ثم أغلظ له السلطان بالقول وعتبة. ودلف
الرجال إليه من زوايا الدار فتناولوه بالسيوف هبرا. وصرخ ببطانته بحيث
أسمعهم فحملوا على الباب وكسروا أغلاقه فألفوه مضرّجا بدمائه، فولّوا
الأدبار وانفضّوا من القصر وانذعروا وخرج السلطان إلى مجلسه فاقتعد
أريكته واستدعى خاصته. وعقد لعمر بن مسعود بن منديل بن حمامة من بني
مرين وشعيب بن ميمون بن وردان من الجشم ويحيى بن ميمون بن المصمود من
الموالي، وكملت بيعته منتصف ذي القعدة سنة ثمان وستين وسبعمائة وتقبّض
على عليّ بن الوزير عمر وأخيه وعمّه وحاشيتهم، وسرّ بهم واعتقلهم حتى
أتى القتل عليهم لليال. واستأصل المكان شأفتهم وسكن وأمن ورد النافرين
بأمانه وبسط بشره ثم تقبّض لأيام على سليمان بن داود ومحمد السبيع،
وكانا في مخالصة عمر بمكان فاعتقلهما استرابة بهما ولشيء نمى له عنهما.
وأودعهما السجن إلى أن هلكا واعتقل معهما علال بن محمد والشريف أبا
القاسم ريبة بصحابتهما. ثم امتنّ عليهما بشفاعة ابن الخطيب وزير ابن
الأحمر وأقصاه. ثم أطلق عنانه في الاستبداد وقبض أيدي الخاصّة والبطانة
عن التصرّف في شيء من سلطانه إلّا بإذنه وعن أمره. وهلك لأشهر من
استبداد الوزير شعيب بن ميمون. ثم هلك يحيى بن ميمون على ما نذكره إن
شاء الله تعالى
.
(7/429)
(الخبر عن انتزاء
أبي الفضل بن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان اليه ومهلكه)
لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلّب عليه، سوّلت
لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد، لمكان
استبداده عليه، وأغراه بذلك البطانة. وتوجس لها عامر فتمارض بداره.
واستأذنه في الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرّضه هنالك أقاربه وحرمه،
وارتحل بجملته. ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه وأغراه حشمه بالراحة
من عبد المؤمن. ولليال من منصرف عامر ثمل أبو الفضل ذات ليلة، وبعث عن
قائد الجند من النصارى، فأمر بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله من قصبة
مراكش فجاء برأسه إليه. وطار الخبر إلى عامر فارتاع وحمد الله إذ خلص
من غائلته. وبعث ببيعته الى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل
ورغّبه في ملك مراكش. ووعده بالمظاهرة فأجمع السلطان أمره على النهوض
إلى مراكش. ونادى في الناس بالعطاء، وقضى أسباب حركته وارتحل من فاس
سنة تسع وستين وسبعمائة واستبدّ أبو الفضل من بعد مهلك عبد المؤمن
واستوزر طلحة النوري [1] وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني،
وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم بن عطية الخلطي. ثم أشخص طلحة النوري
بسعاية الكناني، فقتله واعتمد منازلة عامر بعساكره. ولما فصل لذلك من
مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه، فانفضّ معسكره ولحق
بتادلّا ليعتصم بها في معقل بني جابر. وعاج السلطان بعساكره عن مراكش
إليها، فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله، ففلّ عسكره وداخله بعض بني جابر في
الإخلال بمصافه يوم الحرب على مال يعطيه لهم، ففعلوا، وانهزمت عساكر
أبي الفضل وجموعه، وتقبّض على أشياعه. وسيق مبارك بن إبراهيم الى
السلطان فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره.
وفرّ الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه. ثم لحق بعامر بن محمد ولحق أبو
الفضل بقبائل صناكة من ورائهم. وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر
وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه. فأسلموه وبعث السلطان إليهم وزيره
يحيى بن ميمون، فجاء به أسيرا
__________
[1] وفي نسخة أخرى: السنوري.
(7/430)
وأحضره السلطان فوبّخه وقرّعه واعتقله
بفسطاط في جواره، ثم غطّ من الليل.
وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين وسبعمائة سنين من إمارته على
مراكش، وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك فأبى عليه وجاهر
بالخلاف إلى أن كان من شأنهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن نكبة الوزير يحيى بن ميمون بن
مصمود ومقتله)
كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم وربى في دولة السلطان أبي
الحسن، وكان عمّه علال عدوّا له بعداوة أبيه. ولما انتزى السلطان أبو
عنان على ملك أبيه، استخلص يحيى هذا سائر أيامه، وهلك عمر يوم مهلكه
كما ذكرناه. واستعمل يحيى هذا ببجاية، فلم يزل بها إلى أن تقبّض عليه
الموحدون، لما استخلصوا بجاية من يده. وسار إلى تونس واعتقل بها مدّة.
ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر، فاختصّ به. ولما عقد له السلطان عبد
العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم صعب العداوة مرهف
الحدّ، وكان عمّه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال نكبه عن إذنه
[1] وأقامه متصرّفا بين يديه، فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه
وحذّره من شأنه، ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل
عبد الحق، وأنه داخل في ذلك قوّاد الجند من النصارى. وأصاب الوزير وجع
قعد به عن مجلس السلطان، فاختلف الناس إلى زيارته وعكف ببابه قوّاد
النصارى، فاستريب بأمرهم وتيقّن الأمر بعكوفهم، فأرسل السلطان من حشمه
من تقبّض عليه وأودعه السجن.
ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح، وقتل المتّهمون من
القرابة وقوّاد الجند، واستلحموا جميعا وصاروا مثلا في الآخرين، والأمر
للَّه.
(الخبر عن حركة السلطان الى عامر بن محمد ومنازلته بجبله ثم الظفر به)
لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل عقد على مراكش لعليّ بن محمد بن
أجّانا من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: مكّنه من اذنه.
(7/431)
صنائع دولتهم. وأوعز إليه بالتضييق على
عامر والأخذ بمخنقه وإلجائه إلى الطاعة.
وانقلب إلى فاس، واعتزم على الحركة إلى تلمسان. وبينما هو في الاستنفار
لذلك إذ جاءه الخبر بأنّ علي بن أجّانا نهض إلى عامر وحاصره أياما. وأن
عامرا زحف إليه.
ففضّ معسكره وتقبّض على ابن أجّانا والكثير من العسكر، فاعتقلهم، فقام
السلطان في ركائبه وقعد، وأجمع أمره على النهوض إليه بكافة بني مرين
وأهل المغرب، فبعث في الحشود وبثّ العطاء، وعسكر بظاهر البلد حتى
استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن الغازي بن يحيى بن الكاس،
لمكان فيه من مخايل الرئاسة والكفاية، وارتفع محله. وارتحل سنة سبعين
وسبعمائة فاحتلّ بمراكش، ثم خرج إلى منازلة الجبل ونازلة [1] ، وكان
عامر بن محمد قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق من ولد أبي ثابت بن
يعقوب اسمه تاشفين، ولحق به علي بن عمر ويعلان من شيوخ بني ورتاجن كبير
بني مرين، وصاحب الشورى فيهم لعهده، فاشتدّ أزره به. وتوافي به كثير من
الجند النازعين عن السلطان رهبة من بأسه أو سخطة لحاله، أو رغبة فيما
عند عامر فرتبهم [2] . وأمسك الله يده عن العطاء، فلم تنس [3] بقطرة.
وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره. ورتّب المقاعد للمقاتلة وغاداه
للقتال وراوحه. وتغلّب على حصونه شيئا فشيئا إلى أن تعلّق بأعلى جبل
تامسكروط، وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور، ويئس أصحاب عامر وأشياعه
من عطائه. وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا، فدس إلى السلطان يطلب
الأمان، وتوثّق لنفسه ثم نزع إليه. وداخله فارس بن عبد العزيز أخي عامر
في القيام بدعوة السلطان والخلاف على عمّه، لما كان يوسق به من إرهاف
الحدّ وتفضيل ابنه أبي بكر عليه فبلغ خبره إلى السلطان واقتضى له وثيقة
من الأمان والعهد بعث به إليه فثار بعمّه. واستدعى القبائل من الجبل
فأجابوه واستحث السلطان للزحف إليهم، فزحفت العساكر والجنود واستولت
على معتصم الجبل. ولما استيقن عامر أن قد أحيط به أوعز إلى ابنه أن
يلحق بالسلطان مموّها بالنزوع، فألقى بنفسه إليه وبذل له
__________
[1] وفي نسخة ثانية: ثم خرج إلى منازلته.
[2] وفي نسخة ثانية: قريبهم.
[3] وفي نسخة ثانية: لم يسل.
(7/432)
الأمان وألحقه بجملته. وانتبذ عامر عن
الناس وذهب لوجهه ليخلص إلى السوس فردّه الثلج. وقد كانت السماء أرسلت
به منذ أيام بردا وثلجا حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض. وسدّ المسالك
فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبة.
وعاين الهلكة العاجلة فرجع مخفيا أثره إلى غار أوى إليه مع أدلّاء بذل
لهم المال يسلكون به ظهر الجبل إلى الصحراء بالسوس. وأقاموا ينتظرون
إمساك الثلج. وأقام وأغرى السلطان بالبحث عنه فدلّهم عليه بعض البربر
عثروا عليه فسيق إلى السلطان وأحضره بين يديه ووبّخه فاعتذر ونجع
بالطاعة. ورغب في الإقالة واعترف بالذنب، فحمل إلى مضرب بني له بإزاء
فسطاط السلطان، واعتقل هنالك. وتقبّض يومئذ على محمد الكناني فاعتقل
وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره، فانتهب من الأموال والسلاح
والذخيرة والزرع والأقوات والخرق ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد
منهم. واستولى السلطان على الجبل ومعاقلة في رمضان من سنة إحدى وسبعين
وسبعمائة لحول من يوم حصاره. وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن
محمد ابن علي وارتحل إلى فاس واحتل بها آخر رمضان ودخلها في يوم مشهود
برز فيه الناس. وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين وقد أفرغ عليهما
الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة فكان ذلك عبرة لمن رآه ولما قضى منسك
الفطر أحضر عامر فقرعه بذنوبه وأوتي بكتابه بخطه يخاطب فيه أبا حمو
ويستنجده على السلطان فشهد عليه وأمر به السلطان فامتحن ولم يزل يجلد
حتى انتنّ لحمه، وضرب بالعصيّ حتى ورمت أعضاؤه، وهلك بين يدي الوزعة،
وأحضر الكناني ففعل به مثله. وجنّب تاشفين سلطانه إلى مصرعه فقتل قعصا
بالرماح وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد الاعتقال، فألحق بهم ولكل
أجل كتاب وصفا الجوّ للسلطان من المنازعين.
وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء)
قد تقدّم لنا ذكر تغلّب الطاغية ابن الهنشة على الجزيرة سنة ثلاث
وأربعين وسبعمائة وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة
وهلك بالطاعون وهو محاصر له عند ما استفحل أمره واشتدّت شوكته. وكفى
الله شأنه وولّى أمر الجلالقة بعده ابنه ابن خلدون م 28 ج 7
(7/433)
بطرة، وعدا على سائر إخوته. وفرّ أخوه
القمط ابن حظية أبيه المسمّاة بلغتهم ألريق (بهمزة) إلى قمط برشلونة
فأجاره وأنزله خير نزل. ولحق به من الزعماء المريكس [1] ابن خالته
وغيره من اقماطهم [2] وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبي من
إخفار جواره. وحدثت بينهما بذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيرا
من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه، وحاصر بلنسية قاعدة
شرق الأندلس مرارا أرجف عليها بعساكره، وملأ البحر إليها بأساطيله إلى
أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيها ملكته، فانتقضوا عليه ودعوا
القمط أخاه فزحف إلى قرطبة. وثار على بطرة أهل إشبيلية وتيقّن صاغية
النصارى إليه، ففرّ عن ممالكه ولحق بملك الافرنج وراء جليقية وفي الجوف
عنها وهو صاحب انكلطرة، واسمه ألفنس غالس.
ووفد عليه صريخا سنة سبع وستين وسبعمائة فجمع قومه وخرج في صريخه إلى
أن استولى على ممالكه. ورجع ملك الأفرنج فعاد النصارى إلى شأنهم مع
بطرة. وغلب القمط على سائر الممالك فتحيّز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد
المسلمين. ونادى صريخا بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة. ودخل بعساكر
المسلمين فأثخن في أرض النصرانية، وخرّب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان
وغيرهما من أمهات أمصارهم. ثم رجع إلى غرناطة، ولم تزل الفتنة قائمة
بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلب عليه القمط وقتله.
وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة. وتشوّف
المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة
المسلمين. وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي
الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد، فراسل صاحب الأندلس أن يزحف إليه
بعساكره على أنّ عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل على أن يكون
مثوبة جهاده خالصة له، فأجاب إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال. وأوعز إلى
أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت من مرسى الجزيرة لحصارها وزحف ابن الأحمر
بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل،
واستعدّ الآلات للحصار، فنازلها أياما قلائل. ثم أيقن النصارى بالهلك
لبعدهم عن الصريخ ويأسهم عن مدد ملوكهم، وألقوا باليد وسألوا النزول
على حكم السلم فأجابهم السلطان إليه، ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها
شعائر الإسلام
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المركش.
[2] وفي نسخة ثانية: اقماصهم.
(7/434)
ومراسمه، ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته.
وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وكان ذلك سنة سبعين وسبعمائة
وولّى ابن الأحمر عليها من قبله. ولم تزل لنظره إلى أن تمحّض النظر عن
هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها، فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة
وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس. والبقاء للَّه وحده.
(الخبر عن حركة السلطان الى تلمسان واستيلائه عليها وعلى سائر بلادها
وفرار أبي حمو عنها)
كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة وتافيلالت
وملويّة وصا [1] . وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين
بطاعة بني مرين وفي وطنهم. وكانوا مغلوبين للدولة تحت قهر من سلطانها.
ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمّو، وكان الاحلاف
بالمغرب، عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد. ولما استقالت
الدولة من عثارها تحيّزوا إلى بني عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم.
واستقرّوا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل بدرعة إلى أبي
حمّو ووزارته له. وفسد ما بين سلطان المغرب وأبي حمّو من جرّاء ذلك.
ونهض أبو حمّو سنة ست وستين وسبعمائة إلى المغرب، وعاث في نواحي دبدو
ثغر المغرب فنشأت [2] لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن
زكراز [3] فكان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام. ولما استبدّ
السلطان عبد العزيز وهلك صاحبهم عبد الله بن مسلم، وتردّدت الرسل بين
أبي حمّو وبين السلطان عبد العزيز، كان فيما اشترط عليه التجافي عن
قبول عرب المعقل عرب وطنه، لما فيه من الاستكثار بهم عليه.
وأبي عليهم أبو حمّو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم.
وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهمّ بالنهوض إليه سنة سبعين
وسبعمائة وأقصر لما أخذ بحجزته من خلاف عامر. وصاحب الثغر محمد بن
زكراز أثناء ذلك يحرّضه على الحركة إلى أبي حمّو ويرغّبه في ملك
تلمسان. ولما قضى السلطان حركة مراكش
__________
[1] هي قلعة (زا) وال (ز) تلفظ (صاد) عند البربر، لذلك كتبها ابن خلدون
بالصاد.
[2] وفي نسخة ثانية: نشبت.
[3] وفي نسخة ثانية: زكدان.
(7/435)
وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس، ولقي [1]
بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم،
صريخا على أبي حمّو لما نال منهم. وتقبّض على أخيهم محمد ورؤساء بني
مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب. ووفد عليه رسل
أهل الجزائر ببيعتهم يستحثّون السلطان لاستنقاذهم من لهواته. وأمر
السلطان بذلك وليه ونزمار ومحمد بن زكراز صاحب دبدو فزعموا له بالغناء
في ذلك واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشدين إلى مراكش
للاحتشاد، وتوافي الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين
وسبعمائة وأفاض العطاء وأزاح العلل، ولما قضى منسك الأضحى اعترض
العساكر ورحل إلى تلمسان، واحتل بتازى. وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمّو،
فجمع من إليه من زناتة الشرق وبني عامر من عرب المعقل وزغبة. وتوافت
جموعه بساحة تلمسان واضطرب هنالك معسكره واعترض جنوده واعتزم على الزحف
للقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل. وتحيّز من كان معه من عرب المعقل
الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليّهم ونزمار.
واجتمعوا إليه وسرّح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق
الصحراء. وبلغ خبر تحيّزهم وإقبالهم إلى أبي حمّو فأجفل هو وجنوده
وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء. ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على
منداس، وخرجوا إلى بلاد الديالم. ثم لحقوا بوطن رياح فنزلوا على أولاد
سبّاع بن علي بن يحيى.
وارتحل السلطان عبد العزيز من تازي وقدّم بين يديه وزيره أبا بكر بن
غازي، فدخل تلمسان وملكها. ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم
عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فدخلها في يوم مشهود واستولى
عليها وعقد لوزيره أبي بكر ابن غازي على العساكر من بني مرين والجنود
والعرب من المعقل وسويد، وسرّحه في اتباعه وجعل شوراه إلى وليّه ونزمار
وفوّض إليه في ذلك. فارتحلوا من تلمسان آخر المحرّم وكنت وافدا على أبي
حمّو، فلما أجفل عن تلمسان ودّعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى
الأندلس. ووشى بعض المفسدين إلى السلطان بأني احتملت مالا للأندلس،
فبعث جريدة من معسكره للقبض عليّ، ووافوني بوادي الزيتون قبل
__________
[1] وفي نسخة ثانية: وافاه.
(7/436)
مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني، وتبين
كذب الواشي فأطلقني وخلع عليّ وحملني. ولما ارتحل الوزير في اتباع أبي
حمّو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فيهم بدعوته وطاعته،
وصرفهم عن طاعة أبي حمّو وصريخه، فنهضت لذلك، ولحقت بالوزير بالبطحاء،
وارتحلت معه إلى وادي ورك من بلاد العطاف، فودّعته وذهبت لوجهي وجمعت
رياح على طاعة السلطان ونكبت بهم عن طاعة أبي حمّو فنكبوا عنها. وخرج
أبو زيان من محل نزوله بحصين، فلحق بأولاد محمد ابن علي بن سبّاع من
الزواودة. وارتحل أبو حمّو من المسيلة فنزل بالدوسن وتلوّم بها.
وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلّاءهم في النهوض إليه.
ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر، والوزير في
التعبية، وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح مخيفة [1] به.
فأجهضوه عن ماله ومعسكره، فانتهب بأسره. واكتسحت أموال العرب الذين
معه، ونجا بدمائه إلى مصاب.
وتلاحق به ولده وقومه متفرّقين على كل مفازة، وتلوّم الوزير بالدوسن
أياما. ووافاه بذلك لحاق بني مرين [2] وانقلب إلى المغرب. ومرّ على
قصور بني عامر بالصحراء فاستباحها، وشرّدهم عنها إلى قاصية القفر
ومفازة العطش. ولحق بتلمسان في ربيع الثاني.
ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو دينار بن علي بن أحمد،
فبرّ السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أخيه [3] ، وخلع عليه وحمله
وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم. وبعث السلطان عمّاله على
الأمصار، وعقد لصنائعه على النواحي، وجهّز الكتائب مع وزيره عمر بن
مسعود بن منديل بن حمامة، لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن
منديل، كان ربّي في حجر الدولة ونشأ في جوّ نعمتها وسخط حاله لديهم.
فنزع إلى وطن سلفه من مغراوة. ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه
على الموت دونه. وسرّح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم، فنزل عليهم
وقاتلهم وامتنعوا في رأس شاهقهم، فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف
وأحجرهم بمعتصمهم. وتوافت لديه الأمداد من تلمسان، فجهّزها
__________
[1] وفي نسخة ثانية: محدقة به.
[2] وفي نسخة ثانية: ووافاه هنالك اتحاف ابن مزني.
[3] وفي نسخة ثانية: عند أبيه.
(7/437)
كتائب وبوأهم المقاعد للحصار، وأقام هنالك
واستولى السلطان على سائر الوطن من الأمصار والأعمال، وعقد عليها
واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه.
والله تعالى أعلم.
(الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان الى تيطرا واجلاب العرب
بأبي حمو على تلمسان الى أن غلبهم السلطان جميعا على الأمر واستوسق له
الملك)
لما خلص أبو حمّو من وقعة الدوسن هو وأحياء بني عامر أشياعه، لحقوا
بالصحراء وأبعدوا فيها عن قصورهم قبلة جبل راشد. وجمع الوزير ونزمار بن
عريف بأحياء العرب كافة من زغبة والمعقل. وكان السلطان لما احتل
بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم على ما أقطعهم أبو حمّو إيّاه من
الوطن على الزبون والاعتزاز عليه، فاستنكف من ذلك لعظم سلطانه واستبداد
ملكه، فسخطوا أحوالهم ورجوا أن يكون لأبي حمّو ظهور ينالون به من ذلك
ما أمّلوه. فلمّا انهزم وقلّت عساكره، وظهر السلطان ظهورا لا كفاء له
فيئسوا، أجمع رحّو بن منصور أمير الخراج من عبيد الله إحدى بطون المعقل
الخروج على السلطان، ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمّو وأحياء
بني عامر وكاثروهم وقادوهم إلى العيث في الأوطان. فأجلبوا على ممالك
السلطان ونازلوا وجدة في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وصمدت
نحوهم العساكر من تلمسان، فأجفلوا وعاجوا إلى البطحاء فاكتسحوا
أوطانها.
ونهض إليهم الوزير في العساكر ففرّوا أمامه، واتبع آثارهم إلى أن
أصحروا. واستنسر خلال ذلك حمزة بن علي بن راشد، فبيّت معسكر الوزير
بمكانه من حصار شلف، ففضّ جموعه ولحق مفلولا بالبطحاء وبلغ الخبر إلى
حصين وكانوا راهبين من السلطان، لما اشتهر عنهم من الأجلاب على الدول
والقيام بأمر الخوارج، فجأجئوا بأبي زيان الثائر كان عندهم من مكانه
بأحياء أولاد يحيى بن عليّ بن سبّاع من الزواودة، فلحق بهم وأجلبوا على
ضواحي المدية ونازلوا عسكر السلطان بها.
واضطرم المغرب الأوسط نازلا، واتصل ذلك به مدة. ولمّا كان سنة ثلاث
وسبعين
(7/438)
وسبعمائة استمال السلطان رحّو بن منصور عن
أبي حمّو وبذل له مالا وأقطعه ما أحبّ من الضواحي، وفعل ذلك بسائرهم
وملأ صدورهم ترغيبا. واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد
وإخراج الثوّار من النواحي. واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر
المغراوي، فسرّح من دولته من تقبّض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيّدا.
واعتقله بفاس وجهّز عساكره واعترض جنوده، وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي
على حرب الثوّار والخوارج، فنهض من تلمسان في رجب سنة ثلاث وسبعين
وسبعمائة واعتمد حمزة على ابن راشد في معتصمه بجبل بني بو سعيد، وألح
عليه بالقتال فعضتهم الحرب بنابها، وداخلهم الرعب، وأوفدوا مشيختهم على
الوزير بالطاعة. ونبذ العهد إلى حمزة فعقد لهم ما ابتغوه. ولحق حمزة
بأبي زيان بمكانه من حصين. ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف.
وبيّته بعض الحامية فثبتوا في مراكزهم وانفضّ جمعه، وتقبّض عليه وسيق
إلى الوزير فاعتقله وبعث إلى السلطان في شأنه، فأمر بقتله، فاحتزّ رأسه
ورءوس أشياعه وبعث بهم الى السلطان وعلق أشلاءهم بسور مليانة. ثم زحف
إلى حصين فأحجرهم بمعقلهم بتيطرا، واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة. فأحاط
بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وعاودوهم الحرب، وخاطبني السلطان بمكاني
من الزاب، وأوعز إليّ بنفير رياح كافّة إلى معسكر الوزير فاستنزلهم [1]
بأحيائهم وناجعتهم، ونازلنا الجبل من ناحية الصحراء مما يلي ضواحي
رياح، فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب، وانفضّوا من المعقل وانذعروا في
الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين وسبعمائة ولحق أبو زيّان بواركلي،
واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه، واقتضى رهن حصين على الطاعة
وقرّر عليهم الوضائع والمغارم، فأعطوها عن يد. وكان أبو حمّو في خلال
ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز الفرصة في انتباذ العسكر عن السلطان.
وكان وليّه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة، لما اتهم
أبو حمّو به من ولاية رديفه عبد الله بن عسكر بن معروف دونه، فأسخطه
ذلك، وداخل السلطان عبد العزيز في الانحراف إليه عن أبي حمّو على مال
حمله إليه، فنزع عنه. وجهّز له السلطان عسكر الحرب أبي حمّو في ذي
القعدة من سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فاستنفرتهم.
(7/439)
بني عامر وأولاد يغمور من المعقل، وعقد
عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي وتعرّضوا للقائهم، ففضّ
جمعهم ومنحوا أكتافهم وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما فيها
واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده، فاستاقوهم إلى السلطان
وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره. وتقبّض على مولاه عطيّة بن موسى صاحب
شلف، فامتنّ عليه وألحقه بجملته. ونجا ابو حمّو وألقى بنفسه إلى عبد
الله بن صغير مستميتا، فامتنّ عليه وبعث معه الأدلّاء إلى تيكورارين من
بلاد القبلة، فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرا بليال. واستوت قدم
السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط، ودفع الثوّار والخوارج
عنه. واستمال كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين راهبين. ووفد عليه
للوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حيّ من
أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم، وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في
الرهن على الطاعة والاستحثاث لتشريد أبي حمّو من تيكورارين، وأوسع
حفايتهم وبرّهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى
تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان
بتلمسان نازعا اليه عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس)
أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الّذي
فيه ساحتها المسمّى بالمرج على وادي سنجيل، ويقال شنبيل المنحرف في ذلك
البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلف معروفون في وزارتها.
وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على
مخازن الطعام، ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدّب على مشيختها
واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية
وبرز في الطب وانتحل الأدب. وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه
ونثره مع انتقاء الجيّد منه. وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري
فيهما. وامتدح السلطان أبا الحجّاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة
بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه، فرقّاه السلطان إلى خدمته وأثبته في
(7/440)
ديوان الكتّاب ببابه مرءوسا بأبي الحسن بن
الحباب [1] شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية. وكاتب
السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه، عند ما قتل وزيره
محمد بن الحكيم المستبدّ عليه كما مرّ في أخبارهم. فاستبدّ ابن الحباب
برياسة الكتّاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين
وسبعمائة، فولّى السلطان أبو الحجّاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة
الكتاب ببابه مثنّاة بالوزارة. ولقبه بها فاستقلّ بذلك. وصدرت عنه
غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة. ثم داخله السلطان
في تولية العمّال على يديه بالمشارطات، فجمع له بها أموالا. وبلغ به
المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله. وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان
ملك بني مرين بالعدوة مغريا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلّى في أغراض
سفارته.
ثم هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض
الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه وفاض لوقته،
وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء. وبويع ابنه
محمد بالأمر لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة
عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم. واستبدّ بالدولة، وأفراد ابن الخطيب
بوزارته كما كان لأبيه، واتخذ لكتابته غيره، وجعل ابن الخطيب رديفا له
في أمره وتشاركا في الاستبداد معا، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم
طريقة. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان
مستمدّين له على عدوّهم الطاغية على عادتهم مع سلفه. فلمّا قدم على
السلطان ومثل بين يديه، تقدّم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس
وفقهائها استأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدّمه بين يدي نجواه، فأذن
له، وأنشد وهو قائم:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر
ودافعت عنك كفّ قدرته ... ما ليس يستطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفّك المطر
والناس طرّا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا
__________
[1] وفي نسخة ثانية: الجياب.
(7/441)
وجملة الأمر أنّه وطن ... في غير علياك ما
له وطر
ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا
وقد أهمّتهم نفوسهم ... فوجّهوني إليك وانتظروا.
فاهتزّ السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس. وقال له قبل أن يجلس:
ما ترجع إليهم إلّا بجميع عطائهم [1] . ثم أثقل كاهلهم بالإحسان،
وردّهم بجميع ما طلبوه.
وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم يسمع
بسفير قضى سفارته قبل أن يسلّم على السلطان إلّا هذا. ومكثت دولتهم هذه
بالأندلس خمس سنين. ثم نازلهم [2] محمد الرئيس ابن عمّ السلطان يشاركه
في جدّه الرئيس أبي سعيد. وتحيّن خروج السلطان إلى منتزهه خارج
الحمراء. وتسوّر دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوانا في بيته،
فقتله. وذهب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج، لما كان صهره على
شقيقته. وكان معتقلا بالحمراء، فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدّا
عليه. وأحسّ السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب باديا إلى
وادي آش وضبطها. وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على
ملك آبائه بالمغرب. وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس.
واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيّق عليه في
محبسه. وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودّة استحكمت أيام مقامه
بالأندلس كما مرّ. وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم، فزيّن له
استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس،
ويكفّ به عادية القرابة المرشّحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب،
فقبل ذلك منه. وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه. وبعث
من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في
ابن الخطيب. وحل معتقله. فأطلق، وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش،
وسار في ركاب السلطان. وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتزّ لقدوم ابن
الأحمر، وركب في المواكب لتلقّيه، وأجلسه إزاء كرسيّه، وأنشد ابن
الخطيب قصيدته كما مرّ يستصرخ السلطان لنصره، فوعده وقد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: طلباتهم.
[2] وفي نسخة ثانية: ثم ثار بهم.
(7/442)
كان يوما مشهودا وقد مرّ ذكره. ثم أكرم
مثواه وأرغد نزله، ووفّر أرزاق القادمين في ركابه وانتصر به. وأرغد عيش
ابن الخطيب في الجراية والأقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التحوّل
إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها، فأذن له وكتب إلى العمّال
باتحافه، فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظّ وعند ما مرّ بسلا في قفوله
من سفره، دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد
قصيدته على رويّ الراء الموصولة يريثه ويستثير به استرجاع ضياعه
بغرناطة مطلعها:
إن بان منزله وشطّت داره ... قامت مقام عيانه أخباره
قسّم زمانك عبرة أو غيرة [1] ... هذا ثراه وهذه آثاره
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة، فشفعوه.
واستقرّ هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان
محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة كما مرّ في
أخباره. وبعث عن مخلّفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ
عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره. فسرّ
السلطان بمقدمه وردّه إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله.
وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية في
ركاب أبيه عند ما أحسّ بالشرّ من الرئيس صاحب غرناطة. وأجاز يحيى من
هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى
اغترابه هنالك، وتغلب في مذاهب خدمته. وانحرفوا عن الطاغية بعد ما
يئسوا من الفتح على يديه، فتحوّلوا عنه إلى ثغور بلاده. وخاطبوا عمر بن
عبد الله في أن يمكّنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس،
يرتقبون منها الفتح. وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك، وكانت بيني وبين
عمر بن عبد الله ذمّة مرعيّة ومخالصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من
عمر بن عبد الله. وحملته على أن يردّ عليه مدينة رندة إذ هي من تراث
سلفه، فقبل إشارتي في ذلك. وتسوّرها السلطان المخلوع، ونزل بها وعثمان
بن يحيى في جملته. وهو مقدّم في بطانته.
ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركابا للفتح. وملكها السلطان واستولى بعدها
على دار
__________
[1] وفي نسخة ثانية: غيرة أو عبرة.
(7/443)
ملكها بغرناطة، وعثمان بن يحيى مقدّم القوم
في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه.
فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده السلطان إلى مكانه من
الدولة من علوّ يده وقبول إشارته، فأدركته الغيرة من عثمان، ونكر على
السلطان الاستكفاء به، والتخوّف من هؤلاء الأعياص على ملكه، فحذره
السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع
وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم غرّبهم بعد ذلك، وخلا لابن الخطيب
الجوّ وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بينه
بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد وانصرفت إليه
الوجوه وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة. وغصّت به بطانة
السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه [1] وقد صمّ السلطان عن
قبولها. ونمي الخبر بذلك الى ابن الخطيب، فشمّر عن ساعده في التقويض
عنهم. واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة
يومئذ في التقبّض على ابن عمّه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان
أبي علي. كانوا قد نصّبوه شيخا على الغزاة في الأندلس لما أجاز من
العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل
ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني
مرين، فاضطرّ إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي
ونزلوا على السلطان على المخلوع أعوام سبع وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم،
وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة، فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان
السلطان عبد العزيز قد استبدّ بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عبد الله،
فغصّ بما فعله السلطان المخلوع من ذلك. وتوقّع انتقاض أمره منهم. ووقف
على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسرّ بها في بني مرين، فجزع لذلك. وداخله
ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي واراحة نفسه من شغبهم،
على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك وكتب له
العهد بخطه، على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين.
بني مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماسي
فتقبّض عليهما. واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما
بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية. وربّما خيّل أنّ السلطان مال
إلى قبولها وأنّهم قد
__________
[1] وفي نسخة ثانية: فتفننوا في السعايات فيه.
(7/444)
أحفظوه عليه، فأجمع التحوّل عن الأندلس إلى
المغرب. واستأذن السلطان في تفقّد الثغور الغربيّة. وسار إليها في لمّة
من فرسانه، ومعه ابنه عليّ الّذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنه. فلما
حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة، مال إليه وسرّح إذنه بين يديه،
فخرج قائد الخيل لتلقّيه. وقد كان السلطان عبد العزيز قد أوعز إليه
بذلك، وجهّز إليه الأسطول من حينه، فأجاز إلى سبتة وتلقّاه بها بأنواع
التكرمة وامتثال الأوامر [1] . ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة
ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان، فاهتزّت له الدولة. وأركب
السلطان خاصّته لتلقّيه، وأحلّه بمجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته
بمكان الشرف [2] والعزّة. وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين
سفيرا إلى الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل الحالات من
الأمن والتكرمة. ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع
عثراته، وأبدى ما كان كامنا في نفسه من سقطات دالته وإحصاء عصابته [3]
. وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها
إليه. ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن، فاسترعاها [4] وسجّل عليه
بالزندقة. وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه. وبعث القاضي أبو الحسن إلى
السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله
فيه، فصمّ لذلك وأنف لذمّته أن تخفر ولجواره أن يردى [5] وقال لهم: هلا
انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه؟ وأما أنا فلا يخلص إليه
بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفرّ الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن
جاء من فرسان الأندلس في جملته. فلمّا هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع
وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان، سار هو في
ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس واستكثر من
شراء الضياع وتأنّق في بناء المساكن واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم
بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى. واتصلت حاله على ذلك
إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: المراسيم.
[2] وفي نسخة ثانية: النبوّة.
[3] وفي نسخة ثانية: مغائبه.
[4] وفي نسخة ثانية: فاسترداها.
[5] وفي نسخة ثانية: أن يرد.
(7/445)
الخبر عن مهلك السلطان عبد العزيز وبيعة
ابنه السعيد واستبداد أبي بكر بن غازي عليه ورجوع بني مرين إلى المغرب
كان السلطان منذ أوّل نشأته قد أزمنت به الحمى بما أصابه من مرض
النحول، ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم على احتماله مع الأبناء إلى
رندة. ولما شبّ أفاق من مرضه وصلح بدنه. ثم عاوده وجعه في مثواه
بتلمسان وتزايد نحوله. ولما كمل الفتح واستفحل سلطانه واشتدّ به الوجع
وصابر المرض وكتمه عن الناس خشية الإرجاف، واضطرب معسكره خارج تلمسان
للحاق بالمغرب، ولما كان ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع
وسبعين وسبعمائة قضى متودّعا بين أهله وولده ودسّ الخدم بالخبر إلى
الوزير، فخرج على الناس وقد احتمل محمد السعيد ابن السلطان على كنفه
فعزّى الناس عن خليفتهم لسبع سنين من خلافته، وألقى ابنه بين أيديهم
فازدحموا عليه باكين متفجّعين، يعطونه الصفقة ويقبّلون يديه للبيعة،
وأخرجوه للمعسكر. ثم أخرج الوزير شلو السلطان على أعواده وأنزله
بفساطيطه، وأيقظ بالليل بحراسة المعسكر. وأذن للناس بالرحيل، فخرجوا
أفواجا إلى المحلّة.
ثم ارتحلوا لثلاث، وأغذّوا السير إلى المغرب واحتلوا بتازى ثم أغذّوا
السير إلى فاس، واحتلّ ابن السلطان بدار ملكه وجلس للبيعة العامّة
بقصره. وتوافت وفود الأمصار ببيعتهم على العادة. واستبدّ عليه الوزير
أبو بكر بن غازي، وحجبه بقصره وحجره عن التصرّف في شيء من سلطانه، ولم
يكن في سنّ التصرّف، واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفضل، واشتغل بأمر
المغرب إبراما ونقضا إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى |